سُئلَ :‏ هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اللّه تبارك وتعالى أحيا له أبويه ...

الإمام أحمد بن عبد الحليم بن تيمية

السؤال: سُئلَ :‏ هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن اللّه تبارك وتعالى أحيا له أبويه حتى أسلما على يديه، ثم ماتا بعد ذلك ‏؟‏
الإجابة: لم يصح ذلك عن أحد من أهل الحديث، بل أهل المعرفة متفقون على أن ذلك كذب مختلق، وإن كان قد روى في ذلك أبو بكريعني الخطيب في كتابه [‏السابق واللاحق‏]‏، وذكره أبو القاسم السهيلي في [‏شرح السيرة] ‏بإسناد فيه مجاهيل، وذكره أبو عبد اللّه القرطبي في‏ [‏التذكرة]‏، وأمثال هذه المواضع، فلا نزاع بين أهل المعرفة أنه من أظهر الموضوعات كذبًا، كما نص عليه أهل العلم، وليس ذلك في الكتب المعتمدة في الحديث، لا في الصحيح ولا في السنن ولا في المسانيد ونحو ذلك من كتب الحديث المعروفة، ولا ذكره أهل كتب المغازي والتفسير، وإن كانوا قد يروون الضعيف مع الصحيح؛ لأن ظهور كذب ذلك لا يخفى على متدين، فإن مثل هذا لو وقع لكان مما تتوافر الهمم والدواعي على نقله، فإنه من أعظم الأمور خرقًا للعادة من وجهين‏:‏
من جهة إحياء الموتى، ومن جهة الإيمان بعد الموت، فكان نقل مثل هذا أولى من نقل غيره، فلما لم يروه أحد من الثقات علم أنه كذب‏.‏
والخطيب البغدادي هو في كتاب‏ [السابق واللاحق]‏ مقصوده أن يذكر من تقدم ومن تأخر من المحدثين عن شخص واحد، سواء كان الذي يروونه صدقًا أو كذبًا، وابن شاهين يروي الغَثَّ والسَّمِين، والسهيلي إنما ذكر ذلك بإسناد فيه مجاهيل‏.‏
ثم هذا خلاف الكتاب، والسنة الصحيحة والإجماع‏.‏ قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏‏إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ‏}‏‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17-18‏]‏‏.‏ فبين اللّه تعالى‏:‏ أنه لا توبة لمن مات كافرًا، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏‏فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏‏ ‏[‏غافر‏:‏ 85‏]‏‏.‏
فأخبر أن سنته في عباده أنه لا ينفع الإيمان بعد رؤية البأس؛ فكيف بعد الموت‏؟‏ ونحو ذلك من النصوص‏.‏
وفي صحيح مسلم‏:‏ " أن رجلًا قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ أين أبي‏؟‏ قال‏:‏ ‏ إن أباك في النار. فلما أدبر دعاه فقال‏:‏ ‏إن أبي وأباك في النار‏"‏‏.
‏‏ وفي صحيح مسلم أيضًا أنه قال‏:‏ ‏‏"‏استأذنت ربي أن أزور قبر أمي، فأذن لي، واستأذنته في أن أستغفر لها فلم يأذن لي، فزوروا القبور، فإنها تُذكِّر الآخرة‏".
‏‏ وفي الحديث الذي في المسند وغيره قال‏:‏ ‏‏"‏إن أمي مع أمك في النار‏"‏‏، فإن قيل‏:‏ هذا في عام الفتح والإحياء كان بعد ذلك في حجة الوداع؛ ولهذا ذكر ذلك من ذكره، وبهذا اعتذر صاحب التذكرة، وهذا باطل لوجوه‏:‏
الأول‏:‏ أن الخبر عما كان ويكون لا يدخله نسخ، كقوله في أبي لهب‏:‏ ‏{‏‏سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ‏}‏‏ ‏[‏المسد‏:‏ 3‏]‏، وكقوله في الوليد‏:‏ ‏{‏‏سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا‏}‏‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 17‏]‏‏.‏
وكذلك في‏:‏ ‏‏"‏إن أبي وأباك في النار‏"‏‏ و ‏"إن أمي وأمك في النار‏"،، وهذا ليس خبرًا عن نار يخرج منها صاحبها كأهل الكبائر؛ لأنه لو كان كذلك لجاز الاستغفار لهما، ولو كان قد سبق في علم اللّه إيمانهما لم ينهه عن ذلك، فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمنا فإن اللّه يغفر له، فلا يكون الاستغفار له ممتنعًا‏.
‏‏ الثاني‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم زار قبر أمه؛ لأنها كانت بطريقه بالحَجُون عند مكة عام الفتح، وأما أبوه فلم يكن هناك، ولم يزره؛ إذ كان مدفونًا بالشام في غير طريقه، فكيف يقال‏:‏ أحيى له ‏؟‏
الثالث‏:‏ أنهما لو كانا مؤمنين إيمانًا ينفع، كانا أحق بالشهرة والذكر من عميه‏:‏ حمزة والعباس، وهذا أبعد مما يقوله الجهال من الرافضة ونحوهم من أن أبا طالب آمن، ويحتجون بما في السيرة من الحديث الضعيف، وفيه أنه تكلم بكلام خفي وقت الموت‏.‏
ولو أن العباس ذكر أنه آمن لما كان قال للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ "عمك الشيخ الضال كان ينفعك فهل نفعته بشىء‏؟‏ فقال‏:‏ ‏‏وجدته في غمرة من نار فشفعت فيه حتى صار في ضحضاح من نار، في رجليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار‏"‏‏‏.‏
هذا باطل مخالف لما في الصحيح وغيره، فإنه كان آخر شىء قاله‏:‏ هو على ملة عبد المطلب، وأن العباس لم يشهد موته، مع أن ذلك لو صح لكان أبو طالب أحق بالشهرة من حمزة والعباس، فلما كان من العلم المتواتر المستفيض بين الأمة خلفًا عن سلف أنه لم يذكر أبو طالب ولا أبواه في جملة من يذكر من أهله المؤمنين، كحمزة، والعباس، وعلي، وفاطمة، والحسن والحسين رضي اللّه عنهم كان هذا من أبين الأدلة على أن ذلك كذب‏.‏
الرابع‏:‏ أن اللّه تعالى قال‏:‏‏{‏‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ‏}‏‏ الآية ‏[‏الممتحنة‏:‏4‏]‏، وقال تعالى‏:‏‏{‏‏وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ‏}‏‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏‏.‏
فأمر بالتأسى بإبراهيم والذين معه، إلا في وعد إبراهيم لأبيه بالاستغفار، وأخبر أنه لما تبين له أنه عدو للّه تبرأ منه‏.‏ واللّه أعلم ‏.‏


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد الرابع (العقيدة)