كتاب بدء الوحي
 قال البخاري رحمه الله تعالى ورضي الله عنه بسم الله الرحمن الرحيم كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا في رواية أبي ذر والأصيلي بغير باب وثبت في رواية غيرهما فحكى عياض ومن تبعه فيه التنوين وتركه وقال الكرماني يجوز فيه الإسكان على سبيل التعداد للأبواب فلا يكون له اعراب وقد اعترض على المصنف لكونه لم يفتتح الكتاب بخطبة تنبىء عن مقصوده مفتتحة بالحمد والشهادة امتثالا لقوله صلى الله عليه وسلم كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع وقوله كل خطبة ليس فيها شهادة فهي كاليد الجذماء أخرجهما أبو داود وغيره من حديث أبي هريرة والجواب عن الأول أن الخطبة لا يتحتم فيها سياق واحد يمتنع العدول عنه بل الغرض منها الافتتاح بما يدل على المقصود وقد صدر الكتاب بترجمة بدء الوحي وبالحديث الدال على مقصوده المشتمل على أن العمل دائر مع النية فكأنه يقول قصدت جمع وحي السنة المتلقى عن خير البرية على وجه سيظهر حسن عملي فيه من قصدي وإنما لكل امرئ ما نوى فاكتفى بالتلويح عن التصريح وقد سلك هذه الطريقة في معظم تراجم هذا الكتاب على ما سيظهر بالاستقراء والجواب عن الثاني أن الحديثين ليسا على شرطه بل في كل منهما مقال سلمنا صلاحيتهما للحجة لكن ليس فيهما أن ذلك يتعين بالنطق والكتابة معا فلعله حمد وتشهد نطقا عند وضع الكتاب ولم يكتب ذلك اقتصارا على البسملة لأن القدر الذي يجمع الأمور الثلاثة ذكر الله وقد حصل بها ويؤيده أن أول شيء نزل من القرآن أقرأ باسم ربك فطريق التأسي به الافتتاح بالبسملة والاقتصار عليها لا سيما وحكاية ذلك من جملة ما تضمنه هذا الباب الأول بل هو المقصود بالذات من أحاديثه ويؤيده أيضا وقوع كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وكتبه في القضايا مفتتحة بالتسميه دون حمدلة وغيرها كما سيأتي في حديث أبي سفيان في قصة هرقل في هذا الباب وكما سيأتي في حديث البراء في قصة سهيل بن عمرو في صلح الحديبية وغير ذلك من الأحاديث وهذا يشعر بأن لفظ الحمد والشهادة إنما يحتاج إليه في الخطب دون الرسائل والوثائق فكأن المصنف لما لم يفتتح كتابه بخطبة أجراه مجرى الرسائل إلى أهل العلم لينتفعوا بما فيه تعلما وتعليما وقد أجاب من شرح هذا الكتاب بأجوبة أخر فيها نظر منها أنه تعارض عنده الابتداء بالتسمية والحمدلة فلو ابتدأ بالحمدلة لخالف العادة أو بالتسمية لم يعد مبتدئا بالحمدلة فاكتفى بالتسمية وتعقب بأنه لو جمع بينهما لكان مبتدئا بالحمدلة بالنسبة إلى ما بعد التسمية وهذه هي النكتة في حذف العاطف فيكون أولى لموافقته الكتاب العزيز فإن الصحابة افتتحوا كتابة الإمام الكبير بالتسميه والحمدلة وتلوها وتبعهم جميع من كتب المصحف بعدهم في جميع الأمصار من يقول بأن البسملة آية من أول الفاتحه ومن لا يقول ذلك ومنها أنه راعى قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله فلم يقدم على كلام الله ورسوله شيئا واكتفى بها عن كلام نفسه وتعقب بأنه كان يمكنه أن يأتي بلفظ الحمد من كلام الله تعالى وأيضا فقد قدم الترجمة وهي من كلامه على الآية وكذا ساق السند قبل لفظ الحديث والجواب عن ذلك بأن الترجمة والسند وإن كانا متقدمين لفظا لكنهما متأخران تقديرا فيه نظر وأبعد من ذلك كله قول من ادعى أنه ابتدأ بخطبة فيها حمد وشهادة فحذفها بعض من حمل عنه الكتاب وكأن قائل هذا ما رأى تصانيف الأئمة من شيوخ البخاري وشيوخ شيوخه وأهل عصره كمالك في الموطأ وعبد الرزاق في المصنف وأحمد في المسند وأبي داود في السنن إلى ما لا يحصى ممن لم يقدم في ابتداء تصنيفه خطبة ولم يزد على التسمية وهم الأكثر والقليل منهم من افتتح كتابه بخطبة أفيقال في كل من هؤلاء أن الرواة عنه حذفوا ذلك كلا بل يحمل ذلك من صنيعهم على أنهم حمدوا لفظا ويؤيده ما رواه الخطيب في الجامع عن أحمد أنه كان يتلفظ بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إذا كتب الحديث ولايكتبها والحامل له على ذلك اسراع أو غيره أو يحمل على أنهم رأوا ذلك مختصا بالخطب دون الكتب كما تقدم ولهذا من افتتح كتابه منهم بخطبة حمد وتشهد كما صنع مسلم والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب وقد استقر عمل الأئمة المصنفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة وكذا معظم كتب الرسائل واختلف القدماء فيما إذا كان الكتاب كله شعرا فجاء عن الشعبي منع ذلك وعن الزهري قال مضت السنة أن لا يكتب في الشعر بسم الله الرحمن الرحيم وعن سعيد بن جبير جواز ذلك وتابعه على ذلك الجمهور وقال الخطيب هو المختار قوله بدء الوحي قال عياض روى بالهمز مع سكون الدال من الابتداء وبغير همز مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور قلت ولم أره مضبوطا في شيء من الروايات التي اتصلت لنا الا أنه وقع في بعضها كيف كان ابتداء الوحي فهذا يرجح الأول وهو الذي سمعناه من أفواه المشايخ وقد استعمل المصنف هذه العبارة كثيرا كبدء الحيض وبدء الأذان وبدء الخلق والوحي لغة الاعلام في خفاء والوحي أيضا الكتابة والمكتوب والبعث والالهام والأمر والايماء والإشارة والتصويت شيئا بعد شيء وقيل أصله التفهيم وكل ما دللت به من كلام أو كتابة أو إشارة فهو وحي وشرعا الاعلام بالشرع وقد يطلق الوحي ويراد به اسم المفعول منه أي الموحي وهو كلام الله المنزل على النبي صعلم وقد اعترض محمد بن إسماعيل التيمي على هذه الترجمة فقال لو قال كيف كان الوحي لكان أحسن لأنه تعرض فيه لبيان كيفية الوحي لا لبيان كيفية بدء الوحي فقط وتعقب بأن المراد من بدء الوحي حاله مع كل ما يتعلق بشأنه أي تعلق كان والله أعلم قوله وقول الله هو بالرفع على حذف الباب عطفا على الجملة لأنها في محل رفع وكذا على تنوين باب وبالجر عطفا على كيف وأثبات باب بغير تنوين والتقدير باب معنى قول الله كذا أو الاحتجاج بقول الله كذا ولايصح تقدير كيفية قول الله لأن كلام الله لايكيف قاله عياض ويجوز رفع وقول الله على القطع وغيره قوله إنا أوحينا إليك الآية قيل قدم ذكر نوح فيها لأنه أول نبي أرسل أو أول نبي عوقب قومه فلا يرد كون آدم أول الأنبياء مطلقا كما سيأتي بسط القول في ذلك في الكلام على حديث الشفاعة ومناسبة الآية للترجمة واضح من جهة أن صفة الوحي إلى نبينا صلى الله عليه وسلم توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين ومن جهة أن أول أحوال النبيين في الوحي بالرؤيا كما رواه أبو نعيم في الدلائل بإسناد حسن عن علقمة بن قيس صاحب بن مسعود قال إن أول ما يؤتى به الأنبياء في المنام حتى تهدا قلوبهم ثم ينزل الوحي بعد في اليقظه

[ 1 ] قوله حدثنا الحميدي هو أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى منسوب إلى حميد بن أسامة بطن من بني أسد بن عبد العزى بن قصي رهط خديجة زوج النبي صلى الله عليه وسلم يجتمع معها في أسد ويجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في قصي وهو إمام كبير مصنف رافق الشافعي في الطلب عن بن عيينة وطبقته وأخذ عنه الفقه ورحل معه إلى مصر ورجع بعد وفاته إلى مكة إلى أن مات بها سنة تسع عشرة ومائتين فكأن البخاري امتثل قوله صلى الله عليه وسلم قدموا قريشا فافتتح كتابه بالرواية عن الحميدي لكونه أفقه قرشي أخذ عنه وله مناسبة أخرى لأنه مكي كشيخه فناسب أن يذكر في أول ترجمة بدء الوحي لأن ابتداءه كان بمكة ومن ثم ثنى بالرواية عن مالك لأنه شيخ أهل المدينة وهي تالية لمكة في نزول الوحي وفي جميع الفضل ومالك وابن عيينة قرينان قال الشافعي لولاهما لذهب العلم من الحجاز قوله حدثنا سفيان هو بن عيينة بن أبي عمران الهلالي أبو محمد المكي أصله ومولده الكوفة وقد شارك مالكا في كثير من شيوخه وعاش بعده عشرين سنة وكان يذكر أنه سمع من سبعين من التابعين قوله عن يحيى بن سعيد حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري اسم جده قيس بن عمرو وهو صحابي ويحيى من صغار التابعين وشيخه محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي من أوساط التابعين وشيخ محمد علقمة بن وقاص الليثي من كبارهم ففي الإسناد ثلاثة من التابعين في نسق وفي المعرفة لابن منده ما ظاهره أن علقمة صحابي فلو ثبت لكان فيه تابعيان وصحابيان يكون قد اجتمع في هذا الإسناد أكثر الصيغ التي يستعملها المحدثون وهي التحديث والاخبار والسماع والعنعنة والله أعلم وقد اعترض على المصنف في إدخاله حديث الأعمال هذا في ترجمة بدء الوحي وأنه لا تعلق له به أصلا بحيث أن الخطابي في شرحه والإسماعيلي في مستخرجه أخرجاه قبل الترجمة لاعتقادهما أنه إنما أورده للتبرك به فقط واستصوب أبو القاسم بن منده صنيع الإسماعيلي في ذلك وقال بن رشيد لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه في هذا التأليف وقد تكلفت مناسبته للترجمة فقال كل بحسب ما ظهر له انتهى وقد قيل إنه أراد أن يقيمه مقام الخطبة للكتاب لأن في سياقه أن عمر قاله على المنبر بمحضر الصحابة فإذا صلح أن يكون في خطبة المنبر صلح أن يكون في خطبة الكتاب وحكى الملهب أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب به حين قدم المدينة مهاجرا فناسب إيراده في بدء الوحي لأن الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها لأن بالهجرة افتتح الإذن في قتال المشركين ويعقبه النصر والظفر والفتح انتهى وهذا وجه حسن إلا أنني لم أر ما ذكره من كونه صلى الله عليه وسلم خطب به أول ما هاجر منقولا وقد وقع في باب ترك الحيل بلفظ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يا أيها الناس إنما الأعمال بالنية الحديث ففي هذا إيماء إلى أنه كان في حال الخطبة أما كونه كان في ابتداء قدومه إلى المدينة فلم أر ما يدل عليه ولعل قائله استند إلى ما روى في قصة مهاجر أم قيس قال بن دقيق العيد نقلوا أن رجلا هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس فلهذا خص في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوي به انتهى وهذا لو صح لم يستلزم البداءة بذكره أول الهجرة النبويه وقصة مهاجر أم قيس رواها سعيد بن منصور قال أخبرنا أبو معاوية عن الآعمش عن شقيق عن عبد الله هو بن مسعود قال من هاجر يبتغي شيئا فإنما له ذلك هاجر رجل ليتزوج امرأة يقال لها أم قيس فكان يقال له مهاجر أم قبس ورواه الطبراني من طريق أخرى عن الأعمش بلفظ كان فينا رجل خطب امرأة يقال لها أم قيس فأبت أن تتزوجه حتى يهاجر فهاجر فتزوجها فكنا نسميه مهاجر أم قيس وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك ولم أر في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك وأيضا فلو أراد البخاري إقامته مقام الخطبة فقط إذ الابتداء به تيمنا وترغيبا في الإخلاص لكان سياقه قبل الترجمة كما قال الإسماعيلي وغيره ونقل بن بطال عن أبي عبد الله بن النجار قال التبويب يتعلق بالآية والحديث معا لأن الله تعالى أوحى إلى الأنبياء ثم إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن الأعمال بالنيات لقوله تعالى وما أمروا الا ليعبدوا الله مخلصين له الدين وقال أبو العالية في قوله تعالى شرع لكم من الدين ماوصى به نوحا قال وصاهم بالإخلاص في عبادته وعن أبي عبد الملك البوني قال مناسبة الحديث للترجمة أن بدء الوحي كان بالنية لأن الله تعالى فطر محمدا على التوحيد وبغض إليه الأوثان ووهب له أول أسباب النبوة وهي الرؤيا الصالحة فلما رأى ذلك أخلص إلى الله في ذلك فكان يتعبد بغار حراء فقبل الله عمله وأتم له النعمة وقال الملهب ما محصله قصد البخاري الأخبار عن حال النبي صلى الله عليه وسلم في حال منشئه أن الله بغض إليه الأوثان وحبب إليه خلال الخير ولزوم الوحدة فرارا من قرناء السوء فلما لزم ذلك أعطاه الله على قدر نيته ووهب له النبوة كما يقال الفواتح عنوان الخواتم ولخصه بنحو من هذا القاضي أبو بكر بن العربي وقال بن المنير في أول التراجم كان مقدمة النبوة في حق النبي صلى الله عليه وسلم الهجرة إلى الله تعالى بالخلوة في غار حراء فناسب الافتتاح بحديث الهجرة ومن المناسبات البديعة الوجيزة ما تقدمت الإشارة إليه أن الكتاب لما كان موضوعا لجمع وحي السنة صدره ببدء الوحي ولما كان الوحي لبيان الأعمال الشرعية صدره بحديث الأعمال ومع هذه المناسبات لا يليق الجزم بأنه لا تعلق له بالترجمة أصلا والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وقد تواتر النقل عن الأئمة في تعظيم قدر هذا الحديث قال أبو عبد الله ليس في أخبار النبي صلى الله عليه وسلم شيء أجمع وأغنى وأكثر فائده من هذا الحديث واتفق عبد الرحمن بن مهدي والشافعي فيما نقله البويطي عنه وأحمد بن حنبل وعلي بن المديني وأبو داود والترمذي والدارقطني وحمزة الكناني على أنه ثلث الإسلام ومنهم من قال ربعه واختلفوا في تعيين الباقي وقال بن مهدي أيضا يدخل في ثلاثين بابا من العلم وقال الشافعي يدخل في سبعين بابا ويحتمل أن يريد بهذا العدد المبالغة وقال عبد الرحمن بن مهدي أيضا ينبغي أن يجعل هذا الحديث رأس كل باب ووجه البيهقي كونه ثلث العلم بأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه فالنية أحد اقسامها الثلاثة وارجحها لأنها قد تكون عبادة مستقلة وغيرها يحتاج إليها ومن ثم ورد نية المؤمن خير من عمله فإذا نظرت إليها كانت خير الامرين وكلام الإمام أحمد يدل على أنه أراد بكونه ثلث العلم أنه أحد القواعد الثلاث التي ترد إليها جميع الأحكام عنده وهي هذا و من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد والحلال بين الحرام بين الحديث ثم أن هذا الحديث متفق على صحته أخرجه الأئمة المشهورون الا الموطأ ووهم من زعم أنه في الموطأ مغترا بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك وقال أبو جعفر الطبري قد يكون هذا الحديث على طريقة بعض الناس مردودا لكونه فردا لأنه لا يروي عن عمر الا من رواية علقمة ولا عن علقمة الا من رواية محمد بن إبراهيم ولا عن محمد بن إبراهيم إلا من رواية يحيى بن سعيد وهو كما قال فأنه إنما اشتهر عن يحيى بن سعيد وتفرد به من فوقه وبذلك جزم الترمذي والنسائي والبزار وابن السكن وحمزة بن محمد الكناني وأطلق الخطابي نفى الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يعرف الا بهذا الإسناد وهو كما قال لكن بقيدين أحدهما الصحة لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدار قطني وأبو القاسم بن منده وغيرهما ثانيهما السياق لأنه ورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم يبعثون على نياتهم وحديث بن عباس ولكن جهاد ونية وحديث أبي موسى من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله متفق عليهما وحديث بن مسعود رب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته أخرجه أحمد وحديث عبادة من غزا وهو لا ينوي الا عقالا فله ما نوى أخرجه النسائي إلى غير ذلك مما يتعسر حصره وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أن حديث عمر متواتر الا أن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل نعم قد تواتر عن يحيى بن سعيد فحكى محمد بن علي بن سعيد النقاش الحافظ أنه رواه عن يحيى مائتان وخمسون نفسا وسرد أسماؤهم أبو القاسم بن منده فجاوز الثلثمائة وروى أبو موسى المديني عن بعض مشايخه مذاكرة عن الحافظ أبي إسماعيل الأنصاري الهروي قال كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى قلت وأنا استبعد صحة هذا فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذ طلبت الحديث إلى وقتي هذا فما قدرت على تكميل المائه وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم كما سيأتي مثال لذلك في الكلام على حديث بن عمر في غسل الجمعة إن شاء الله تعالى قوله على المنبر بكسر الميم واللام للعهد أي منبر المسجد النبوي ووقع في رواية حماد بن زيد عن يحيى في ترك الحيل سمعت عمر يخطب قوله إنما الأعمال بالنيات كذا أورد هنا وهو من مقابلة الجمع بالجمع أي كل عمل بنيته وقال الخوبي كأنه أشار بذلك إلى أن النية تتنوع كما تتنوع الأعمال كمن قصد بعمله وجه الله أو تحصيل موعوده أو اتقاء لوعيده ووقع في معظم الروايات بإفراد النية ووجهه أن محل النية القلب وهو متحد فناسب افرادها بخلاف الأعمال فأنها متعلقة بالظواهر وهي متعددة فناسب جمعها ولأن النية ترجع إلى الإخلاص وهو واحد للواحد الذي لا شريك له ووقع في صحيح بن حبان بلفظ الأعمال بالنيات بحذف إنما وجمع الأعمال والنيات وهي ما وقع في كتاب الشهاب للقضاعي ووصله في مسنده كذلك وأنكره أبو موسى المديني كما نقله النووي وأقره وهو متعقب برواية بن حبان بل وقع في رواية مالك عن يحيى عند البخاري في كتاب الإيمان بلفظ الأعمال بالنية وكذا في العتق من رواية الثوري وفي الهجرة من رواية حماد بن زيد ووقع عنده في النكاح بلفظ العمل بالنية بإفراد كل منهما والنية بكسر النون وتشديد التحتانية على المشهور وفي بعض اللغات بتخفيفها قال الكرماني قوله إنما الأعمال بالنيات هذا التركيب يفيد الحصر عند المحققين واختلف في وجه افادته فقيل لأن الأعمال جمع محلى بالألف واللام مفيد للاستغراق وهو مستلزم للقصر لأن معناه كل عمل بنية فلا عمل الا بنية وقيل لأن إنما للحصر وهل إفادتها له بالمنطوق أو بالمفهوم أو تفيد الحصر بالوضع أو العرف أو تفيده بالحقيقة أو بالمجاز ومقتضى كلام الإمام وأتباعه أنها تفيده بالمنطوق وضعا حقيقيا بل نقله شيخنا شيخ الإسلام عن جميع أهل الأصول من المذاهب الأربعة الا اليسير كالآمدي وعلى العكس من ذلك أهل العربيه واحتج بعضهم بأنها لو كانت للحصر لما حسن إنما قام زيد في جواب هل قام عمرو أجيب بأنه يصح أنه يقع في مثل هذا الجواب ما قام إلا زيد وهي للحصر اتفاقا وقيل لو كانت للحصر لاستوى إنما قام زيد مع ما قام إلا زيد ولا تردد في أن الثاني أقوى من الأول وأجيب بأنه لا يلزم من هذه القوة نفى الحصر فقد يكون أحد اللفظين أقوى من الآخر مع اشتراكهما في أصل الوضع كسوف والسين وقد وقع استعمال إنما موضع استعمال النفي والاستثناء كقوله تعالى إنما تجزون ما كنتم تعملون وكقوله وما تجزون إلا ما كنتم تعملون وقوله انما على رسولنا البلاغ المبين وقوله ما على الرسول الا البلاغ ومن شواهده قول الأعشى ولست بالأكثر منهم حصى وإنما العزة للكاثر يعني ما ثبتت العزة إلا لمن كان أكثر حصى واختلفوا هل هي بسيطه أو مركبة فرجحوا الأول وقد يرجح الثاني ويجاب عما أورد عليه من قولهم إن للإثبات وما للنفي فيستلزم اجتماع المتضادين على صدد واحد بأن يقال مثلا أصلهما كان للاثبات والنفي لكنهما بعد التركيب لم يبقيا على أصلهما بل أفادا شيئا آخر أشار إلى ذلك الكرماني قال وأما قول من قال إفادة هذا السياق للحصر من جهة أن فيه تأكيدا بعد تأكيد وهو المستفاد من إنما ومن الجمع فمتعقب بأنه من باب إيهام العكس لأن قائله لما رأى أن الحصر فيه تأكيد على تأكيد ظن أن كل ما وقع كذلك يفيد الحصر وقال بن دقيق العيد استدل على إفادة إنما للحصر بأن بن عباس استدل على أن الربا لا يكون الا في النسيئة بحديث إنما الربا في النسيئة وعارضه جماعة من الصحابة في الحكم ولم يخالفوه في فهمه فكان كالاتفاق منهم على أنها تفيد الحصر وتعقب باحتمال أن يكونوا تركوا المعارضة بذلك تنزلا وأما من قال يحتمل أن يكون اعتمادهم على قوله لا ربا إلا في النسيئة لورود ذلك في بعض طرق الحديث المذكور فلا يفيد ذلك في رد إفادة الحصر بل يقويه ويشعر بأن مفاد الصيغتين عندهم واحد وإلا لما استعملوا هذه موضع هذه وأوضح من هذا حديث إنما الماء من الماء فإن الصحابة الذين ذهبوا إليه لم يعارضهم الجمهور في فهم الحصر منه وإنما عارضهم في الحكم من أدلة أخرى كحديث إذا التقي الختانان وقال بن عطيه إنما لفظ لا يفارقه المبالغه والتأكيد حيث وقع ويصلح مع ذلك للحصر إن دخل في قصة ساعدت عليه فجعل وروده للحصر مجازا يحتاج إلى قرينه وكلام غيره على العكس من ذلك وأن أصل ورودها للحصر لكن قد يكون في شيء مخصوص كقوله تعالى إنما الله إله واحد فأنه سيق باعتبار منكري الوحدانية وإلا فلله سبحانه صفات أخرى كالعلم والقدره وكقوله تعالى إنما أنت منذر فأنه سيق باعتبار منكري الرسالة وإلا فله صلى الله عليه وسلم صفات أخرى كالبشارة إلى غير ذلك من الأمثله وهي فيما يقال السبب في قول من منع إفادتها للحصر مطلقا تكميل الأعمال تقتضي عاملين والتقدير الأعمال الصادرة من المكلفين وعلى هذا هل تخرج أعمال الكفار الظاهر الإخراج لأن المراد بالأعمال أعمال العبادة وهي لا تصح من الكافر وإن كان مخاطبا بها معاقبا على تركها ولا يرد العتق والصدقه لأنهما بدليل آخر قوله بالنيات الباء للمصاحبه ويحتمل أن تكون للسببية بمعنى أنها مقومة للعمل فكأنها سبب في ايجاده وعلى الأول فهي من نفس العمل فيشترط أن لا تتخلف عن أوله قال النووي النية القصد وهي عزيمة القلب وتعقبه الكرماني بأن عزيمة القلب قدر زائد على أصل القصد واختلف الفقهاء هل هي ركن أو شرط والمرجح أن ايجادها ذكرا في أول العمل ركن واستصحابها حكما بمعنى أن لا يأتي بمناف شرعا شرط ولا بد من محذوف يتعلق به الجار والمجرور فقيل تعتبر وقيل تكمل وقيل تصح وقبل تحصل وقيل تستقر قال الطبي كلام الشارع محمول على بيان الشرع لأن المخاطبين بذلك هم أهل اللسان فكأنهم خوطبوا بما ليس لهم به علم إلا من قبل الشارع فيتعين الحمل على ما يفيد الحكم الشرعي وقال البيضاوي النية عبارة عن انبعاث القلب نحو ما يراه موافقا لغرض من جلب نفع أو دفع ضر حالا أو مآلا والشرع خصصه بالارادة المتوجهة نحو الفعل لابتغاء رضاء الله وامتثال حكمه والنية في الحديث محمولة على المعنى اللغوي ليحسن تطبيقه على ما بعده وتقسيمه أحوال المهاجر فأنه تفصيل لما أجمل والحديث متروك الظاهر لأن الذوات غير منتفية إذ التقدير لا عمل الا بالنية فليس المراد نفى ذات العمل لأنه قد يوجد بغير نية بل المراد نفى احكامها كالصحة والكمال لكن الحمل على نفى الصحة أولى لأنه أشبه بنفي الشيء نفسه ولأن اللفظ دل على نفي الذات بالتصريح وعلى نفي الصفات بالتبع فلما منع الدليل نفى الذات بقيت دلالته على نفي الصفات مستمرة وقال شيخنا شيخ الإسلام الأحسن تقدير ما يقتضي أن الأعمال تتبع النية لقوله في الحديث فمن كانت هجرته إلى آخره وعلى هذا يقدر المحذوف كونا مطلقا من أسم فاعل أو فعل ثم لفظ العمل بتناول فعل الجوارح حتى اللسان فتدخل الأقوال قال بن دقيق العيد وأخرج بعضهم الأقوال وهو بعيد ولا تردد عندي في أن الحديث يتناولها وأما التروك فهي وأن كانت فعل كف لكن لايطلق عليها لفظ العمل وقد تعقب على من يسمى القول عملا لكونه عمل اللسان بأن من حلف لا يعمل عملا فقال قولا لا يحنث وأجيب بأن مرجع اليمين إلى العرف والقول لا يسمى عملا في العرف ولهذا يعطف عليه والتحقيق أن القول لا يدخل في العمل حقيقة ويدخل مجازا وكذا الفعل لقوله تعالى ولو شاء ربك ما فعلوه بعد قوله زخرف القول وأما عمل القلب كالنية فلا يتناولها الحديث لئلا يلزم التسلسل والمعرفة وفي تناولها نظر قال بعضهم هو محال لأن النية قصد المنوى وإنما يقصد المرء ما يعرف فيلزم أن يكون عارفا قبل المعرفة وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين البلقيني بما حاصله إن كان المراد بالمعرفة مطلق الشعور فمسلم وإن كان المراد النظر في الدليل فلا لأن كل ذي عقل يشعر مثلا بأن له من يدبره فإذا أخذ في النظر في الدليل عليه ليتحققه لم تكن النية حينئذ محالا وقال بن دقيق العيد الذين اشترطوا النية قدروا صحة الأعمال والذين لم يشترطوها قدروا كمال الأعمال ورجح الأول بأن الصحة أكثر لزوما للحقيقه من الكمال فالحمل عليها أولى وفي هذا الكلام إيهام أن بعض العلماء لا يرى باشتراط النية وليس الخلاف بينهم في ذلك إلا في الرسائل وأما المقاصد فلا اختلاف بينهم في اشتراط النية لها ومن ثم خالف الحنفية في اشتراطها للوضوء وخالف الأوزاعي في اشتراطها في التيمم أيضا نعم بين العلماء اختلاف في اقتران النية بأول العمل كما هو معروف في مبسوطات الفقه تكميل الظاهر أن الألف واللام في النيات معاقبة للضمير والتقدير الأعمال بنياتها وعلى هذا فيدل على اعتبار نية العمل من كونه مثلا صلاة أو غيرها ومن كونها فرضا أو نفلا ظهرا مثلا أو عصرا مقصورة أو غير مقصورة وهل يحتاج في مثل هذا إلى تعيين العدد فيه بحث والراجح الاكتفاء بتعيين العبادة التي لاتنفك عن العدد المعين كالمسافر مثلا ليس له أن يقصر الا بنية القصر لكن لا يحتاج إلى نية ركعتين لأن ذلك هو مقتضى القصر والله أعلم قوله وإنما لكل امرئ ما نوى قال القرطبي فيه تحقيق لاشتراط النية والإخلاص في الأعمال فجنح إلى أنها مؤكدة وقال غيره بل تفيد غير ما أفادته الأولى لأن الأولى نبهت على أن العمل يتبع النية ويصاحبها فيترتب الحكم على ذلك والثانية أفادت أن العامل لا يحصل له الا ما نواه وقال بن دقيق العيد الجملة الثانية تقتضي أن من نوى شيئا يحصل له يعني إذا عمله بشرائطه أو حال دون عمله له ما يعذر شرعا بعدم عمله وكل ما لم ينوه لم يحصل له ومراده بقوله ما لم ينوه أي لا خصوصا ولا عموما أما إذا لم ينو شيئا مخصوصا لكن كانت هناك نية عامة تشمله فهذا مما اختلفت فيه أنظار العلماء ويتخرج عليه من المسائل ما لا يحصى وقد يحصل غير المنوي لمدرك آخر كمن دخل المسجد فصلى الفرض أو الراتبة قبل أن يقعد فأنه يحصل له تحية المسجد نواها أو لم ينوها لأن القصد بالتحية شغل البقعة وقد حصل وهذا بخلاف من اغتسل يوم الجمعة عن الجنابة فأنه لا يحصل له غسل الجمعة على الراجح لأن غسل الجمعة ينظر فيه إلى التعبد لا إلى محض التنظيف فلا بد فيه من القصد إليه بخلاف تحية المسجد والله أعلم وقال النووي أفادت الجملة الثانية اشتراط تعيين المنوي كمن عليه صلاة فائتة لا يكفيه أن ينوي الفائتة فقط حتى يعينها ظهرا مثلا أو عصرا ولا يخفى أن محله ما إذا لم تنحصر الفائتة وقال بن السمعاني في أماليه أفادت أن الأعمال الخارجة عن العبادة لا تفيد الثواب إلا إذا نوى بها فاعلها القربه كالأكل إذا نوى به القوة على الطاعة وقال غيره أفادت أن النيابة لا تدخل في النية فإن ذلك هو الأصل فلا يرد مثل نية الولي عن الصبي ونظائره فإنها على خلاف الأصل وقال بن عبد السلام الجملة الأولى لبيان ما يعتبر من الأعمال والثانية لبيان ما يترتب عليها وأفاد أن النية إنما تشترط في العبادة التي لا تتميز بنفسها وأما ما يتميز بنفسه فأنه ينصرف بصورته إلى ما وضع له كالأذكار والادعية والتلاوة لأنها لا تتردد بين العبادة والعادة ولا يخفى أن ذلك إنما هو بالنظر إلى أصل الوضع أما ما حدث فيه عرف كالتسبيح للتعجب فلا ومع ذلك فلو قصد بالذكر القربة إلى الله تعالى لكان أكثر ثوابا ومن ثم قال الغزالي حركة اللسان بالذكر مع الغفلة عنه تحصل الثواب لأنه خير من حركة اللسان بالغيبة بل هو خير من السكوت مطلقا أي المجرد عن التفكر قال وإنما هو ناقص بالنسبة إلى عمل القلب انتهى ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في بضع أحدكم صدقة ثم قال في الجواب عن قولهم أيأتي أحدنا شهوته ويؤجر أرأيت لو وضعها في حرام وأورد على إطلاق الغزالي أنه يلزم منه أن المرء يثاب على فعل مباح لأنه خير من فعل الحرام وليس ذلك مراده وخص من عموم الحديث ما يقصد حصوله في الجملة فأنه لا يحتاج إلى نية تخصه كتحية المسجد كما تقدم وكمن مات زوجها فلم يبلغها الخبر إلا بعد مدة العدة فإن عدتها تنقضي لأن المقصود حصول براءة الرحم وقد وجدت ومن ثم لم يحتج المتروك إلى نية ونازع الكرماني في إطلاق الشيخ يحيى الدين كون المتروك لا يحتاج إلى نية بأن الترك فعل وهو كف النفس وبأن التروك إذا أريد بها تحصيل الثواب بامتثال أمر الشارع فلا بد فيها من قصد الترك وتعقب بأن قوله الترك فعل مختلف فيه ومن حق المستدل على المانع أن يأتي بأمر متفق عليه وأما استدلاله الثاني فلا يطابق المورد لأن المبحوث فيه هل تلزم النية في التروك بحيث يقع العقاب بتركها والذي أورده هل يحصل الثواب بدونها والتفاوت بين المقامين ظاهر والتحقيق أن الترك المجرد لا ثواب فيه وانما يحصل الثواب بالكف الذي هو فعل النفس فمن لم تخطر المعصية بباله أصلا ليس كمن خطرت فكف نفسه عنها خوفا من الله تعالى فرجع الحال إلى أن الذي يحتاج إلى النية هو العمل بجميع وجوهه لا الترك المجرد والله أعلم تنبيه قال الكرماني إذا قلنا إن تقديم الخبر على المبتدأ يفيد القصر ففي قوله وإنما لكل امرئ ما نوى نوعان من الحصر قصر المسند على المسند إليه إذ المراد إنما لكل امرئ ما نواه والتقديم المذكور قوله فمن كانت هجرته إلى دنيا كذا وقع في جميع الأصول التي اتصلت لنا عن البخاري بحذف أحد وجهي التقسيم وهو قوله فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله الخ قال الخطابي وقع هذا الحديث في روايتنا وجميع نسخ أصحابنا مخروما قد ذهب شطره ولست أدرى كيف وقع هذا الاغفال ومن جهة من عرض من رواته فقد ذكره البخاري من غير طريق الحميدي مستوفى وقد رواه لنا الاثبات من طريق الحميدي تاما ونقل بن التين كلام الخطابي مختصرا وفهم من قوله مخروما أنه قد يريد أن في السند انقطاعا فقال من قبل نفسه لأن البخاري لم يلق الحميدي وهو مما يتعجب من إطلاقه مع قول البخاري حدثنا الحميدي وتكرار ذلك منه في هذا الكتاب وجزم كل من ترجمة بأن الحميدي من شيوخه في الفقه والحديث وقال بن العربي في مشيخته لا عذر للبخاري في اسقاطه لأن الحميدي شيخه فيه قد رواه في مسنده على التمام قال وذكر قوم أنه لعله استملاه من حفظ الحميدي فحدثه هكذا عنه كما سمع أو حدثه به تاما فسقط من حفظ البخاري قال وهو أمر مستبعد جدا عند من اطلع على أحوال القوم وقال الداودي الشارح الاسقاط فيه من البخاري فوجوده في رواية شيخه وشيخ شيخه يدل على ذلك انتهى وقد رويناه من طريق بشر بن موسى وأبي إسماعيل الترمذي وغير واحد عن الحميدي تاما وهو في مصنف قاسم بن أصبغ ومستخرجي أبي نعيم وصحيح أبي عوانة من طريق الحميدي فإن كان الاسقاط من غير البخاري فقد يقال لم أختار الابتداء بهذا السياق الناقص والجواب قد تقدمت الإشارة إليه وأنه أختار الحميدي لكونه أجل مشايخه المكيين إلى آخر ما تقدم في ذلك من المناسبة وإن كان الاسقاط منه فالجواب ما قاله أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الحافظ في أجوبة له على البخاري إن أحسن ما يجاب به هنا أن يقال لعل البخاري قصد أن يجعل لكتابه صدرا يستفتح به على ما ذهب إليه كثير من الناس من استفتاح كتبهم بالخطب المتضمنة لمعاني ما ذهبوا إليه من التأليف فكأنه ابتدأ كتابه بنية رد علمها إلى الله فإن علم منه أنه أراد الدنيا أو عرض إلى شيء من معانيها فسيجزيه بنيته ونكب عن أحد وجهي التقسيم مجانبة للتزكية التي لا يناسب ذكرها في ذلك المقام انتهى ملخصا وحاصله أن الجملة المحذوفة تشعر بالقربة المحضة والجملة المبقاة تحتمل التردد بين أن يكون ما قصده يحصل القربة أولا فلما كان المصنف كالمخبر عن حال نفسه في تصنيفه هذا بعبارة هذا الحديث حذف الجملة المشعرة بالقربة المحضة فرارا من التزكية وبقي الجملة المترددة المحتملة تفويضا للأمر إلى ربه المطلع على سريرته المجازى له بمقتضى نيته ولما كانت عادة المصنفين أن يضمنوا الخطب اصطلاحهم في مذاهبهم واختياراتهم وكان من رأي المصنف جواز اختصار الحديث والرواية بالمعنى والتدقيق في الاستنباط وإيثار الاغمض على الاجلى وترجيح الإسناد الوارد بالصيغ المصرحة بالسماع على غيره استعمل جميع ذلك في هذا الموضع بعبارة هذا الحديث متنا واسنادا وقد وقع في رواية حماد بن زيد في باب الهجرة تأخر قوله فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله عن قوله فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها فيحتمل أن تكون رواية الحميدي وقعت عند البخاري كذلك فتكون الجملة المحذوفة هي الأخيرة كما جرت به عادة من يقتصر على بعض الحديث وعلى تقدير أن لا يكون ذلك فهو مصير من البخاري إلى جواز الاختصار في الحديث ولو من اثنائه وهذا هو الراجح والله أعلم وقال الكرماني في غير هذا الموضع إن كان الحديث عند البخاري تاما لم خرمه في صدر الكتاب مع أن الخرم مختلف في جوازه قلت لا جزم بالخرم لأن المقامات مختلفة فلعله في مقام بيان أن الإيمان بالنية واعتقاد القلب سمع الحديث تاما وفي مقام أن الشروع في الأعمال إنما يصح بالنية سمع ذلك القدر الذي روى ثم الخرم يحتمل أن يكون من بعض شيوخ البخاري لا منه ثم أن كان منه فخرمه ثم لأن المقصود يتم بذلك المقدار فإن قلت فكان المناسب أن يذكر عند الخرم الشق الذي يتعلق بمقصوده وهو أن النية ينبغي أن تكون لله ورسوله قلت لعله نظر إلى ما هو الغالب الكثير بين الناس انتهى وهو كلام من لم يطلع على شيء من أقوال من قدمت ذكره من الأئمة على هذا الحديث ولا سيما كلام بن العربي وقال في موضع آخر إن إيراد الحديث تاما تارة وغير تام تارة إنما هو من اختلاف الرواة فكل منهم قد روى ما سمعه فلا خرم من أحد ولكن البخاري يذكرها في المواضع التي يناسب كلا منها بحسب الباب الذي يضعه ترجمة له انتهى وكأنه لم يطلع على حديث أخرجه البخاري بسند واحد من ابتدائه إلى انتهائه فساقه في موضع تاما وفي موضع مقتصرا على بعضه وهو كثير جدا في الجامع الصحيح فلا يرتاب من يكون الحديث صناعته أن ذلك من تصرفه لأنه عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجهين بل إن كان له أكثر من سند على شرطه ذكره في الموضع الثاني بالسند الثاني وهكذا ما بعده وما لم يكن على شرطه يعلقه في الموضع الآخر تارة بالجزم إن كان صحيحا وتارة بغيره إن كان فيه شيء وما ليس له إلا سند واحد يتصرف في متنه بالاقتصار على بعضه بحسب ما يتفق ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سندا ومتنا في موضعين أو أكثر الا نادرا فقد عنى بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعا قوله هجرته الهجرة الترك والهجرة إلى الشيء الانتقال إليه عن غيره وفي الشرع ترك ما نهى الله عنه وقد وقعت في الإسلام على وجهين الأول الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن كما في هجرتي الحبشه وابتداء الهجرة من مكة إلى المدينة الثاني الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان وذلك بعد أن استقر النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهاجر إليه من أمكنه ذلك من المسلمين وكانت الهجرة إذ ذاك تختص بالانتقال إلى المدينة إلى أن فتحت مكة فانقطع الاختصاص وبقي عموم الانتقال من دار الكفر لمن قدر عليه باقيا فإن قيل الأصل تغاير الشرط والجزاء فلا يقال مثلا من أطاع أطاع وإنما يقال مثلا من أطاع نجا وقد وقعا في هذا الحديث متحدين فالجواب أن التغاير يقع تارة باللفظ وهو الأكثر وتارة بالمعنى ويفهم ذلك من السياق ومن أمثلته قوله تعالى ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا وهو مؤول على إرادة المعهود المستقر في النفس كقولهم أنت أنت أي الصديق الخالص وقولهم هم هم أي الذين لا يقدر قدرهم وقول الشاعر أنا أبو النجم وشعري شعري أو هو مؤول على إقامة السبب مقام المسبب لاشتهار السبب وقال بن مالس قد يقصد بالخبر المفرد بيان الشهرة وعدم التغير فيتحد بالمبتدأ لفظا كقول الشاعر خليلي خليلي دون ريب وربما ألان أمرؤ قولا فظن خليلا وقد يفعل مثل هذا بجواب الشرط كقولك من قصدني فقد قصدني أي فقد قصد من عرف بانجاح قاصده وقال غيره إذا اتحد لفظ المبتدأ والخبر والشرط والجزاء علم منهما المبالغة إما في التعظيم وإما في التحقير قوله إلى دنيا بضم الدال وحكى بن قتيبة كسرها وهي فعلى من الدنو أي القرب سميت بذلك لسبقها للأخرى وقيل سميت دنيا لدنوها إلى الزوال واختلف في حقيقتها فقيل ما على الأرض من الهواء والجو وقيل كل المخلوقات من الجواهر والاعراض والأول أولى لكن يزاد فيه مما قبل قيام الساعة ويطلق على كل جزء منها مجازا ثم إن لفظها مقصور غير منون وحكى تنوينها وعزاه بن دحية إلى رواية أبي الهيثم الكشميهني وضعفها وحكى عن بن مغور أن أبا ذر الهروي في آخر أمره كان يحذف كثيرا من رواية أبي الهيثم حيث ينفرد لأنه لم يكن من أهل العلم قلت وهذا ليس على إطلاقه فإن في رواية أبي الهيثم مواضع كثيرة أصوب من رواية غيره كما سيأتي مبينا في مواضعه وقال التيمي في شرحه قوله دنيا هو تأنيث الأدنى ليس بمصروف لاجتماع الوصفية ولزوم حرف التأنيب وتعقب بأن لزوم التأنيث للألف المقصورة كاف في عدم الصرف وأما الوصفيه فقال بن مالك استعمال دنيا منكرا فيه إشكال لأنها أفعل التفضيل فكان من حقها أن تستعمل باللام كالكبرى والحسنى قال إلا أنها خلعت عنها الوصفية وأجريت مجرى ما لم يكن وصفا قط ومثله قول الشاعر إن دعوت إلى جلى ومكرمة يوما سراة كرام الناس فادعينا وقال الكرماني قوله إلى يتعلق بالهجرة إن كان لفظ كانت تامة أو هو خبر لكانت إن كانت ناقصة ثم أورد ما محصله أن لفظ كان إن كان للآمر الماضي فلا يعلم ما الحكم بعد صدور هذا القول في ذلك وأجاب بأنه يجوز أن يراد بلفظ كان الوجود من غير تقييد بزمان أو يقاس المستقبل على الماضي أو من جهة أن حكم المكلفين سواء قوله يصيبها أي يحصلها لأن تحصيلها كاصابة الغرض بالسهم بجامع حصول المقصود قوله أو امرأة قيل التنصيص عليها من الخاص بعد العام للاهتمام به وتعقبه النووي بأن لفظ دنيا نكرة وهي لا تعم في الاثبات فلا يلزم دخول المرأة فيها وتعقب بكونها في سياق الشرط فتعم ونكتة الاهتمام الزيادة في التحذير لأن الافتتان بها أشد وقد تقدم النقل عمن حكى أن سبب هذا الحديث قصة مهاجر أم قيس ولم تقف على تسميته ونقل بن دحية أن اسمها قيلة بقاف مفتوحه ثم تحتانية ساكنه وحكى بن بطال عن بن سراج أن السبب في تخصيص المرأة بالذكر أن العرب كانوا لا يزوجون المولى العربية ويراعون الكفاءة في النسب فلما جاء الإسلام سوى بين المسلمين في مناكحتهم فهاجر كثير من الناس إلى المدينة ليتزوج بها من كان لا يصل إليها قبل ذلك انتهى ويحتاج إلى نقل ثابت أن هذا المهاجر كان مولى وكانت المرأة عربيه وليس ما نفاه عن العرب على إطلاقه بل قد زوج خلق كثير منهم جماعة من مواليهم وحلفائهم قبل الإسلام وإطلاقه أن الإسلام أبطل الكفاءة في مقام المنع قوله فهجرته إلى ما هاجر اليه يحتمل أن يكون ذكره بالضمير ليتناول ما ذكر من المرأة وغيرها وإنما ابرز الضمير في الجملة التي قبلها وهي المحذوفة لقصد الالتذاذ بذكر الله ورسوله وعظم شأنهما بخلاف الدنيا والمرأة فإن السياق يشعر بالحث على الإعراض عنهما وقال الكرماني يحتمل أن يكون قوله إلى ما هاجر إليه متعلقا بالهجرة فيكون الخبر محذوفا والتقدير قبيحة أو غير صحيحة مثلا ويحتمل أن يكون خبر فهجرته والجملة خبر المبتدأ الذي هو من كانت انتهى وهذا الثاني هو الراجح لأن الأول يقتضى أن تلك الهجرة مذمومة مطلقا وليس كذلك إلا أن حمل على تقدير شيء يقتضى التردد أو القصور عن الهجرة الخالصه كمن نوى بهجرته مفارقة دار الكفر وتزوج المرأة معا فلا تكون قبيحة ولا غير صحيحة بل هي ناقصة بالنسبة إلى من كانت هجرته خالصة وإنما أشعر السياق بذم من فعل ذلك بالنسبة إلى من طلب المرأة بصورة الهجرة الخالصه فأما من طلبها مضمومة إلى الهجرة فإنه يثاب على قصد الهجرة لكن دون ثواب من أخلص وكذا من طلب التزويج فقط لا على صورة الهجرة إلى الله لأنه من الأمر المباح الذي قد يثاب فاعله إذا قصد به القربة كالاعفاف ومن أمثلة ذلك ما وقع في قصة إسلام أبي طلحة فيما رواه النسائي عن أنس قال تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام أسلمت أم سليم قبل أبي طلحة فخطبها فقالت إني قد أسلمت فإن أسلمت تزوجتك فأسلم فتزوجته وهو محمول على أنه رغب في الإسلام ودخله من وجهة وضم إلى ذلك إرادة التزويج المباح فصار كمن نوى بصومه العبادة والحمية أو بطوافه العبادة وملازمة الغريم واختار الغزالي فيما يتعلق بالثواب أنه إن كان القصد الدنيوي هو الأغلب لم يكن فيه أجر أو الديني أجر بقدره وإن تساويا فتردد القصد بين الشيئين فلا أجر وأما إذا نوى العبادة وخالطها شيء مما يغاير الإخلاص فقد نقل أبو جعفر بن جرير الطبري عن جمهور السلف أن الاعتبار بالابتداء فإن كان ابتداؤه لله خالصا لم يضره ما عرض له بعد ذلك من إعجاب وغيره والله أعلم واستدل بهذا الحديث على أنه لا يجوز الإقدام على العمل قبل معرفة الحكم لأن فيه أن العمل يكون منتفيا إذا خلا عن النية ولا يصح نية فعل الشيء إلا بعد معرفة حكمه وعلى أن الغافل لا تكليف عليه لأن القصد يستلزم العلم بالمقصود والغافل غير قاصد وعلى أن من صام تطوعا بنية قبل الزوال أن لا يحسب له إلا من وقت النية وهو مقتضى الحديث لكن تمسك من قال بانعطافها بدليل آخر ونظيره حديث من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدركها أي أدرك فضيلة الجماعة أو الوقت وذلك بالانعطاف الذي اقتضاه فضل الله تعالى وعلى أن الواحد الثقة إذا كان في مجلس جماعة ثم ذكر عن ذلك المجلس شيئا لا يمكن غفلتهم عنه ولم يذكره غيره أن ذلك لا يقدح في صدقه خلافا لمن أعل بذلك لأن علقمة ذكر أن عمر خطب به على المنبر ثم لم يصح من جهة أحد عنه غير علقمة واستدل بمفهومه على أن ما ليس بعمل لاتشترط النية فيه ومن أمثلة ذلك جمع التقديم فإن الراجح من حيث النظر أنه لا يشترط له نية بخلاف ما رجحه كثير من الشافعية وخالفهم شيخنا شيخ الإسلام وقال الجمع ليس بعمل وإنما العمل الصلاة ويقوى ذلك أنه عليه الصلاة والسلام جمع في غزوة تبوك ولم يذكر ذلك للمأمومين الذين معه ولو كان شرطا لأعلمهم به واستدل به على أن العمل إذا كان مضافا إلى سبب ويجمع متعدده جنس أن نية الجنس تكفى كمن أعتق عن كفارة ولم يعين كونها عن ظهار أو غيره لأن معنى الحديث أن الأعمال بنياتها والعمل هنا القيام بالذي يخرج عن الكفارة اللازمة وهو غير محوج إلى تعيين سبب وعلى هذا لو كانت عليه كفارة وشك في سببها أجزأه إخراجها بغير تعيين وفيه زيادة ا
[ 2 ] الحديث الثاني من أحاديث بدء الوحي قوله حدثنا عبد الله بن يوسف هو التنيسي كان نزل تنيس من عمل مصر وأصله دمشق وهو من أتقن الناس في الموطأ كذا وصفه يحيى بن معين قوله أم المؤمنين هو مأخوذ من قوله أم المؤمنين هو مأخوذ من قوله تعالى وأزواجه أمهاتهم أي في الاحترام وتحريم نكاحهن لا في غير ذلك مما اختلف فيه على الراجح وإنما قيل للواحدة منهن أم المؤمنين للتغليب وإلا فلا مانع من أن يقال لها أم المؤمنات علىالراجح قوله ان الحارث بن هشام هو المخزومي أخو أبي جهل شقيقه أسلم يوم الفتح وكان من فضلاء الصحابة واستشهد في فتوح الشام قوله سأل هكذا رواه أكثر الرواة عن هشام بن عروة فيحتمل أن تكون عائشة حضرت ذلك وعلى هذا اعتمد أصحاب الأطراف فأخرجوه في مسند عائشة ويحتمل أن يكون الحارث أخبرها بذلك بعد فيكون من مرسل الصحابة وهو محكوم بوصله عند الجمهور وقد جاء ما يؤيد الثاني ففي مسند أحمد ومعجم البغوي وغيرهما من طريق عامر بن صالح الزبيري عن هشام عن أبيه عن عائشة عن الحارث بن هشام قال سألت وعامر فيه ضعف لكن وجدت له متابعا عند بن منده والمشهور الأول قوله كيف يأتيك الوحي يحتمل أن يكون المسئول عنه صفة الوحي نفسه ويحتمل أن يكون صفة حامله أو ما هو أعم من ذلك وعلى كل تقدير فاسناد الإتيان إلى الوحي مجاز لأن الإتيان حقيقة من وصف حامله واعترض الإسماعيلي فقال هذا الحديث لا يصلح لهذه الترجمة وإنما المناسب لكيف بدء الوحي الحديث الذي بعده وأما هذا فهو لكيفية إتيان الوحي لا لبدء الوحي أه قال الكرماني لعل المراد منه السؤال عن كيفية ابتداء الوحي أو عن كيفية ظهور الوحي فيوافق ترجمة الباب قلت سياقه يشعر بخلاف ذلك لاتيانه بصيغة المستقبل دون الماضي لكن يمكن أن يقال أن المناسبه تظهر من الجواب لأن فيه إشارة إلى انحصار صفة الوحي أو صفة حامله في الامرين فيشمل حالة الابتداء وأيضا فلا أثر للتقديم والتأخير هنا ولو لم تظهر المناسبة فضلا عن أنا قدمنا أنه أراد البداءة بالتحديث عن إمامي الحجاز فبدأ بمكة ثم ثنى بالمدينة وأيضا فلا يلزم أن تتعلق جميع أحاديث الباب ببدء الوحي بل يكفي أن يتعلق بذلك وبما يتعلق به وبما يتعلق بالآية أيضا وذلك أن أحاديث الباب تتعلق بلفظ الترجمة وبما اشتملت عليه ولما كان في الآية أن الوحي إليه نظير الوحي إلى الأنبياء قبله ناسب تقديم ما يتعلق بها وهو صفة الوحي وصفة حامله إشارة إلى أن الوحي إلى الأنبياء لا تباين فيه فحسن إيراد هذا الحديث عقب حديث الأعمال الذي تقدم التقدير بأن تعلقه بالآية الكريمة أقوى تعلق والله سبحانه وتعالى أعلم قوله أحيانا جمع حين يطلق على كثير الوقت وقليله والمراد به هنا مجرد الوقت فكأنه قال أوقاتا يأتيني وانتصب على الظرفيه وعامله يأتيني مؤخر عنه وللمصنف من وجه آخر عن هشام في بدء الخلق قال كل ذلك يأتي الملك أي كل ذلك حالتان فذكرهما وروى بن سعد من طريق أبي سلمة الماجشون أنه بلغه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول كان الوحي يأتيني على نحوين يأتيني به جبريل فيلقيه علي كما يلقى الرجل على الرجل فذاك ينفلت مني ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي فذاك الذي لا ينفلت مني وهذا مرسل مع ثقة رجاله فإن صح فهو محمول على ما كان قبل نزول قوله تعالى لا تحرك به لسانك كما سيأتي فإن الملك قد تمثل رجلا في صور كثيرة ولم ينفلت منه ما أتاه به كما في قصة مجيئه في صورة دحية وفي صورة أعرابي وغير ذلك وكلها في الصحيح وأورد على ما اقتضاه الحديث وهو أن الوحي منحصر في الحالتين حالات أخرى إما من صفة الوحي كمجيئه كدوي النحل والنفث في الروع والالهام والرؤيا الصالحة والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة وإما من صفة حامل الوحي كمجيئه في صورته التي خلق عليها له ستمائة جناح ورؤيته على كرسي بين السماء والأرض وقد سد الأفق والجواب منع الحصر في الحالتين المقدم ذكرهما وحملهما على الغالب أو حمل ما يغايرهما على أنه وقع بعد السؤال أو لم يتعرض لصفتي الملك المذكورتين لندورهما فقد ثبت عن عائشة أنه لم يره كذلك إلا مرتين أو لم يأته في تلك الحالة بوحي أو أتاه به فكان على مثل صلصلة الجرس فأنه بين بها صفة الوحي لاصفة حامله وأما فنون الوحي فدوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس لأن سماع الدوى بالنسبة إلى الحاضرين كما في حديث عمر يسمع عنده كدوي النحل والصلصلة بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشبهه عمر بدوى النحل بالنسبة إلى السامعين وشبهه هو صلى الله عليه وسلم بصلصلة الجرس بالنسبة إلى مقامه وأما النفث في الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين فإذا أتاه الملك في مثل صلصلة الجرس نفث حينئذ في روعه وأما الالهام فلم يقع السؤال عنه لأن السؤال وقع عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل وكذا التكليم ليلة الإسراء وأما الرؤيا الصالحة فقال بن بطال لا ترد لأن السؤال وقع عما ينفرد به عن الناس لأن الرؤيا قد يشركه فيها غيره اه والرؤيا الصادقه وأن كانت جزءا من النبوة فهي باعتبار صدقها لا غير وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك ويحتمل أن يكون السؤال وقع عما في اليقظة أو لكون حال المنام لا يخفى على السائل فاقتصر على ما يخفى عليه أو كان ظهور ذلك له صلى الله عليه وسلم في المنام أيضا على الوجهين المذكورين لاغير قاله الكرماني وفيه نظر وقد ذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه على ستة وأربعين نوعا فذكرها وغالبا من صفات حامل الوحي ومجموعها يدخل فيما ذكر وحديث أن روح القدس نفث في روعي أخرجه بن أبي الدنيا في القناعة وصححه الحاكم من طريق بن مسعود قوله مثل صلصلة الجرس في رواية مسلم في مثل صلصلة الجرس والصلصلة بمهملتين مفتوحتين بينهما لام ساكنة في الأصل صوت وقوع الحديد بعضه على بعض ثم أطلق على كل صوت له طنين وقيل هو صوت متدارك لايدرك في أول وهلة والجرس الجلجل الذي يعلق في رءوس الدواب واشتقاقه من الجرس بإسكان الراء وهو الحس وقال الكرماني الجرس ناقوس صغير أو سطل في داخله قطعة نحاس يعلق منكوسا على البعير فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحصلت الصلصلة اه وهو تطويل للتعريف بما لا طائل تحته وقوله قطعة نحاس معترض لا يختص به وكذا البعير وكذا قوله منكوسا لأن تعليقه على تلك الصورة هو وضعه المستقيم له فإن قيل المحمود لا يشبه بالمذموم إذ حقيقة التشبيه الحاق ناقص بكامل والمشبه الوحي وهو محمود والمشبه به صوت الجرس وهو مذموم لصحة النهي عنه والتنفير من مرافقة ما هو معلق فيه والاعلام بأنه لا تصحبهم الملائكة كما أخرجه مسلم وأبو داود وغيرهما فكيف يشبه ما فعله الملك بأمر تنفر من الملائكة والجواب أنه لا يلزم في التشبيه تساوي المشبه بالمشبه به في الصفات كلها بل ولا في أخص وصف له بل يكفي اشتراكهما في صفة ما فالمقصود هنا بيان الجنس فذكر ما ألف السامعون سماعه تقريبا لأفهامهم والحاصل أن الصوت له جهتان جهة قوة وجهة طنين فمن حيث القوة وقع التشبيه به ومن حيث الطرب وقع التنفير عنه وعلل بكونه مزمار الشيطان ويحتمل أن يكون النهي عنه وقع بعد السؤال المذكور وفيه نظر قيل والصلصلة المذكورة صوت الملك بالوحي قال الخطابي يريد أنه صوت متدارك يسمعه ولا يتبينه أو ما يسمعه حتى يفهمه بعد وقيل بل هو صوت حفيف أجنحة الملك والحكمة في تقدمه أن يقرع سمعه الوحي فلا يبقى فيه مكان لغيره ولما كان الجرس لا تحصل صلصلته الا متداركة وقع التشبيه به دون غيره من الآلات وسيأتي كلام بن بطال في هذا المقام في الكلام على حديث بن عباس إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها الحديث عند تفسير قوله حتى إذا فزع عن قلوبهم في تفسير سورة سبأ إن شاء الله تعالى قوله وهو أشده على يفهم منه أن الوحي كله شديد ولكن هذه الصفة أشدها وهو واضح لأن الفهم من كلام مثل الصلصلة أشكل من الفهم من كلام الرجل بالتخاطب المعهود والحكمة فيه أن العادة جرت بالمناسبه بين القائل والسامع وهي هنا إما بانصاف السامع بوصف القائل بغلبة الروحانية وهو النوع الأول وإما بانصاف القائل بوصف السامع وهو البشرية وهو النوع الثاني والأول أشد بلا شك وقال شيخنا شيخ الإسلام البلقيني سبب ذلك أن الكلام العظيم له مقدمات تؤذن بتعظيمه للاهتمام به كما سيأتي في حديث بن عباس كان يعالج من التنزيل شدة قال وقال بعضهم وإنما كان شديدا عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع أه وقيل إنه إنما كان ينزل هكذا إذا نزلت آية وعيد أو تهديد وهذا فيه نظر والظاهر أه لا يختص بالقرآن كما سيأتي بيانه في حديث يعلى بن أمية في قصة لابس الجبة المتضمخ بالطيب في الحج فإن فيه أنه رآه صلى الله عليه وسلم حال نزول الوحي عليه وإنه ليغط وفائدة هذه الشدة ما يترتب على المشقة من زيادة الزلفى والدرجات قوله فيفصم بفتح أوله وسكون الفاء وكسر المهملة أي يقلع ويتجلى ما يغشاني ويروى بضم أوله من الرباعي وفي رواية لأبي ذر بضم أوله وفتح الصاد على البناء للمجهول وأصل الفصم القطع ومنه قوله تعالى لا انفصام لها وقيل الفصم بالفاء القطع بلا إبانة وبالقاف القطع بإبانة فذكر بالفصم إشارة إلى أن الملك فارقه ليعود والجامع بينهما بقاء العلقة قوله وقد وعيت عنه ما قال إي القول الذي جاء به وفيه إسناد الوحي إلى قول الملك ولا معارضة بينه وبين قوله تعالى حكاية عمن قال من الكفار إن هذا الا قول البشر لأنهم كانوا ينكرون الوحي وينكرون مجيء الملك به قوله يتمثل لي الملك رجلا التمثل مشتق من المثل أي يتصور واللام في الملك للعهد وهو جبريل وقد وقع التصريح به في رواية بن سعد المقدم ذكرها وفيه دليل على أن الملك يتشكل بشكل البشر قال المتكلمون الملائكة اجسام علويه لطيفة تتشكل أي شكل أرادوا وزعم بعض الفلاسفة أنها جواهر روحانية ورجلا منصوب بالمصدرية أي يتمثل مثل رجل أو بالتمييز أو بالحال والتقدير هيئة رجل قال إمام الحرمين تمثل جبريل معناه أن الله أفنى الزائد من خلقه أو أزاله عنه ثم يعيده إليه بعد وجزم بن عبد السلام بالازالة دون الفناء وقرر ذلك بأنه لا يلزم أن يكون انتقالها موجبا لموته بل يجوز أن يبقى الجسد حيا لأن موت الجسد بمفارقة الروح ليس بواجب عقلا بل بعادة أجراها الله تعالى في بعض خلقه ونظيره انتقال أرواح الشهداء إلى اجواف طيور خضر تسرح في الجنة وقال شيخنا شيخ الإسلام ما ذكره إمام الحرمين لاينحصر الحال فيه بل يجوز أن يكون الاتي هو جبريل بشكله الاصلي إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل وإذا ترك ذلك عاد إلى هيئته ومثال ذلك القطن إذا جمع بعد أن كان منتفشا فأنه بالنفش يحصل له صورة كبيرة وذاته لم تتغير وهذا على سبيل التقريب والحق أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه والظاهر أيضا أن القدر الزائد لايزول ولا يفنى بل يخفى على الرائي فقط والله أعلم قوله فيكلمني كذا للأكثر ووقع في رواية البيهقي من طريق القعنبي عن مالك فيعلمني بالعين بدل الكاف والظاهر أنه تصحيف فقد وقع في الموطأ رواية القعنبي بالكاف وكذا للدارقطني في حديث مالك من طريق القعنبي وغيره قوله فأعي ما يقول زاد أبو عوانة في صحيحه وهو أهونه على وقد وقع التغاير في الحالتين حيث قال في الأول وقد وعيت بلفظ الماضي وهنا فأعي بلفظ الاستقبال لأن الوعي حصل في الأول قبل الفصم وفي الثاني حصل حال المكالمة أو أنه كان في الأول قد تلبس بالصفات الملكية فإذا عاد إلى حالته الجبلية كان حافظا لما قيل له فعبر عن بالماضي بخلاف الثاني فأنه على حاله المعهوده قوله قالت عائشة هو بالإسناد الذي قبله وأن كان بغير حرف العطف كما يستعمل المصنف وغيره كثيرا وحيث يريد التعليق يأتي بحرف العطف وقد أخرجه الدار قطني في حديث مالك من طريق عتيق بن يعقوب عن مالك مفصولا عن الحديث الأول وكذا فصلهما مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام ونكتة هذا الاقتطاع هنا اختلاف التحمل لأنها في الأول أخبرت عن مسألة الحارث وفي الثاني أخبرت عما شاهدت تأييدا للخبر الأول قوله ليتفصد بالفاء وتشديد المهملة مأخوذ من الفصد وهو قطع العرق لإسالة الدم شبه جبينه بالعرق المفصود مبالغة في كثرة العرق وفي قولها في اليوم الشديد البرد دلالة على كثرة معاناة التعب والكرب عند نزول الوحي لما فيه من مخالفة العاده وهو كثرة العرق في شدة البرد فإنه يشعر بوجود أمر طارىء زائد على الطباع البشرية وقوله عرقا بالنصب على التمييز زاد بن أبي الزناد عن هشام بهذا الإسناد عند البيهقي في الدلائل وإن كان ليوحى إليه وهو على ناقته فيضرب حزامها من ثقل ما يوحى إليه تنبيه حكى العسكري في التصحيف عن بعض شيوخه أنه قرأ ليتقصد بالقاف ثم قال العسكري إن ثبت فهو من قولهم تقصد الشيء إذا تكسر وتقطع ولا يخفى بعده انتهى وقد وقع في هذا التصحيف أبو الفضل بن طاهر فرده عليه المؤتمن الساجي بالفاء قال فأصر على القاف وذكر الذهبي في ترجمة بن طاهر عن بن ناصر أنه رد على بن طاهر لما قرأها بالقاف قال فكابرني قلت ولعل بن طاهر وجهها بما أشار إليه العسكري والله أعلم وفي حديث الباب من الفوائد غير ما تقدم أن السؤال عن الكيفية لطلب الطمأنينة لا يقدح في اليقين وجواز السؤال عن أحوال الأنبياء من الوحي وغيره وأن المسئول عنه إذا كان ذا أقسام يذكر المجيب في أول جوابه ما يقتضى التفصيل والله أعلم

[ 3 ] الحديث الثالث قوله حدثنا يحيى بن بكير هو يحيى بن عبد الله بن بكير نسبه إلى جده لشهرته بذلك وهو من كبار حفاظ المصريين وأثبت الناس في الليث بن سعد الفهمي فقيه المصريين وعقيل بالضم على التصغير وهو من أثبت الرواة عن بن شهاب وهو أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب بن عبد الله بن الحارث بن زهرة الفقيه نسب إلى جد جده لشهرته الزهري نسب إلى جده الأعلى زهرة بن كلاب وهو من رهط آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم اتفقوا على إتقانه وإمامته قوله من الوحي يحتمل أن تكون من تبعيضية أي من أقسام الوحي ويحتمل أن تكون بيانية ورجحه القزاز والرؤيا الصالحة وقع في رواية معمر ويونس عند المصنف في التفسير الصادقه وهي التي ليس فيها ضغث وبدىء بذلك ليكون تمهيدا وتوطئة لليقظة ثم مهد له في اليقظة أيضا رؤية الضوء وسماع الصوت وسلام الحجر قوله في النوم لزيادة الإيضاح أو ليخرج رؤيا العين في اليقظة لجواز إطلاقها مجازا قوله مثل فلق الصبح بنصب مثل على الحال أي مشبهة ضياء الصبح أو على أنه صفة لمحذوف أي جاءت مجيئا مثل فلق الصبح والمراد بفلق الصبح ضياؤه وخص بالتشبيه لظهوره الواضح الذي لا شك فيه قوله حبب لم يسم فاعله لعدم تحقق الباعث على ذلك وأن كان كل من عند الله أو لينبه على أنه لم يكن من باعث البشر أو يكون ذلك من وحي الإلهام والخلاء بالمد الخلوة والسر فيه أن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له وحراء بالمد وكسر أوله كذا في الرواية وهو صحيح وفي رواية الأصيلي بالفتح والقصر وقد حكى أيضا وحكى فيه غير ذلك جوازا لا رواية هو جبل معروف بمكة والغار نقب في الجبل وجمعه غيران قوله فيتحنث هي بمعنى يتحنف أي يتبع الحنيفية وهي دين إبراهيم والفاء تبدل ثاء في كثير من كلامهم وقد وقع في رواية بن هشام في السيرة يتحنف بالفاء أو التحنث إلقاء الحنث وهو الإثم كما قيل يتأثم ويتحرج ونحوهما قوله وهو التعبد هذا مدرج في الخبر وهو من تفسير الزهري كما جزم به الطيبي ولم يذكر دليله نعم في رواية المؤلف من طريق يونس عنه في التفسير ما يدل على الادراج قوله الليالي ذوات العدد يتعلق بقوله يتحنث وإبهام العدد لاختلافه كذا قيل وهو بالنسبة إلى المدد التي يتخللها مجيئه إلى أهله وإلا فأصل الخلوة قد عرفت مدتها وهي شهر وذلك الشهر كان رمضان رواه بن إسحاق والليالي منصوبة على الظرف وذوات منصوبة أيضا وعلامة النصب فيه كسر التاء وينزع بكسر الزاي أي يرجع وزنا ومعنى ورواه المؤلف بلفظه في التفسير قوله لمثلها أي الليالي والتزود استصحاب الزاد ويتزود معطوف على يتحنث وخديجة هي أم المؤمنين بنت خويلد بن أسد بن عبد العزي تأتي اخبارها في مناقبها قوله حتى جاءه الحق أي الأمر الحق وفي التفسير حتى فجئه الحق بكسر الجيم أي بغته وإن ثبت من مرسل عبيد بن عمير أنه أوحى إليه بذلك في المنام أو لا قبل اليقظة أمكن أن يكون مجيء الملك في اليقظة عقب ما تقدم في المنام وسمي حقا لأنه وحي من الله تعالى وقد وقع في رواية أبي الأسود عن عروة عن عائشة قالت إن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول شأنه يرى في المنام وكان أول ما رأى جبريل بأجياد صرخ جبريل يا محمد فنظر يمينا وشمالا فلم ير شيئا فرفع بصره فإذا هو على أفق السماء فقال يا محمد جبريل جبريل فهرب فدخل في الناس فلم ير شيئا ثم خرج عنهم فناداه فهرب ثم استعلن له جبريل من قبل حراء فذكر قصة اقرائه اقرأ باسم ربك ورأى حينئذ جبريل له جناحان من ياقوت يختطفان البصر وهذا من رواية بن لهيعة عن أبي الأسود وابن لهيعة ضعيف وقد ثبت في صحيح مسلم من وجه آخر عن عائشة مرفوعا لم أره يعني جبريل على صورته التي خلق عليها الا مرتين وبين أحمد في حديث بن مسعود أن الأولى كانت عند سؤاله إياه أن يريه صورته التي خلق عليها والثانية عند المعراج وللترمذي من طريق مسروق عن عائشة لم ير محمد جبريل في صورته إلا مرتين مرة عند سدرة المنتهى ومرة في أجياد وهذا يقوي رواية بن لهيعة وتكون هذه المرة غير المرتين المذكورتين وإنما لم يضمها إليهما لاحتمال أن لا يكون رآه فيها على تمام صورته والعلم عند الله ووقع في السيرة التي جمعها سليمان التيمي فرواها محمد بن عبد الأعلى عن ولده معتمر بن سليمان عن أبيه أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم في حراء وأقرأه أقرأ باسم ربك ثم انصرف فبقي مترددا فأتاه من أمامه في صورته فرأى أمرا عظيما قوله فجاءه هذه الفاء تسمى التفسيرية وليست التعقيبية لأن مجيء الملك ليس بعد مجيء الوحي حتى تعقب به بل هو نفسه ولا يلزم من هذا التقرير أن يكون من باب تفسير الشيء بنفسه بل التفسير عين المفسر به من جهة الإجمال وغيره من جهة التفصيل قوله ما أنا بقارىء ثلاثا ما نافية إذ لو كانت استفهامية لم يصلح دخول الباء وأن حكى عن الأخفش جوازه فهو شاذ والباء زائدة لتأكيد النفي أي ما أحسن القراءة فلما قال ذلك ثلاثا قيل له أقرأ بأسم ربك أي لا تقرؤه بقوتك ولا بمعرفتك لكن يحول ربك وإعانته فهو يعلمك كما خلقك وكما نزع عنك علق الدم وغمز الشيطان في الصغر وعلم أمتك حتى صارت تكتب بالقلم بعد أن كانت أمية ذكره السهيلي وقال غيره أن هذا التركيب وهو قوله ما أنا بقارئ يفيد الاختصاص ورده الطيبي بأنه إنما يفيد التقوية والتأكيد والتقدير لست بقارئ البتة فإن قيل لم كرر ذلك ثلاثا أجاب أبو شامة بأن يحمل قوله أو لا ما أنا بقارئ على الامتناع وثانيا على الأخبار بالنفي المحض وثالثا على الاستفهام ويؤيده أن في رواية أبي الأسود في مغازيه عن عروة أنه قال كيف أقرأ وفي رواية عبيد بن عمير عن بن إسحاق ماذا اقرأ وفي مرسل الزهري في دلائل البيهقي كيف أقرأ وكل ذلك يؤيد أنها استفهامية والله أعلم قوله فغطنى بغين معجمة وطاء مهملة وفي رواية الطبري بتاء مثناة من فوق كأنه أراد ضمنى وعصرني والغط حبس النفس ومنه غطة في الماء أو أراد عمني ومنه الخنق ولأبي داود الطيالسي في مسنده بسند حسن فأخذ بحلقى قوله حتى بلغ من الجهد روى بالفتح والنصب أي بلغ الغط مني غاية وسعى وروى بالضم والرفع أي بلغ مني الجهد مبلغه وقوله أرسلني أي أطلقني ولم يذكر الجهد هنا في المرة الثالثة وهو ثابت عند المؤلف في التفسير قوله فرجع بها أي بالآيات أو بالقصة قوله فزملوه أي لفوه والروع بالفتح الفزع قوله لقد خشيت على نفسي دل هذا مع قوله يرجف فؤاده على انفعال حصل له من مجيء الملك ومن ثم قال زملوني والخشية المذكورة اختلف العلماء في المراد بها على اثني عشر قولا أولها الجنون وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة جاء مصرحا به في عدة طرق وأبطله أبو بكر بن العربي وحق له أن يبطل لكن حمله الإسماعيلي على أن ذلك حصل له قبل حصول العلم الضرورى له أن الذي جاءه ملك وأنه من عند الله تعالى ثانيها الهاجس وهو باطل أيضا لأنه لا يستقر وهذا استقر وحصلت بينهما المراجعة ثالثها الموت من شدة الرعب رابعها المرض وقد جزم به بن أبي جمرة خامسها دوام المرض سادسها العجز عن حمل اعباء النبوة سابعها العجز عن النظر إلى الملك من الرعب ثامنها عدم الصبر على أذى قومه تاسعها أن يقتلوه عاشرها مفارقة الوطن حادى عشرها تكذيبهم إياه ثاني عشرها تعييرهم إياه وأولى هذه الأقوال بالصواب وأسلمها من الارتياب الثالث واللذان بعده وما عداها فهو معترض والله الموفق قوله فقالت خديجة كلا معناها النفي والأبعاد ويحزنك بفتح أوله والحاء المهملة والزاي المضمومة والنون من الحزن ولغير أبي ذر بضم أوله والخاء المعجمة والزاي المكسورة ثم الياء الساكنة من الخزى ثم استدلت على ما أقسمت عليه من نفى ذلك أبدا بأمر استقرائي وصفته بأصول مكارم الأخلاق لأن الإحسان إما إلى الاقارب أو إلى الاجانب وإما بالبدن أو بالمال وإما على من يستقل بأمره أو من لا يستقل وذلك كله مجموع فيما وصفته به والكل بفتح الكاف هو من لا يستقل بأمره كما قال الله تعالى وهو كل على مولاه وقوله وقولها وتكسب المعدوم في رواية الكشميهني وتكسب بضم أوله وعليها قال الخطابي الصواب المعدم بلا واو أي الفقير لأن المعدوم لا يكسب قلت ولا يمتنع أن يطلق على المعدم المعدوم لكونه كالمعدوم الميت الذي لاتصرف له والكسب هو الاستفادة فكأنها قالت إذا رغب غيرك أن يستفيد مالا موجودا رغبت أنت أن تستفيد رجلا عاجزا فتعاونه وقال قاسم بن ثابت في الدلائل قوله يكسب معناه ما يعدمه غيره ويعجز عنه يصيبه هو ويكسبه قال أعرابي يمدح إنسانا كان أكسبهم لمعدوم واعطاهم لمحروم وأنشد في وصف ذئب كسوب كذا المعدوم من كسب واحد أي مما يكسبه وحده انتهى ولغير الكشميهني وتكسب بفتح أوله قال عياض وهذه الرواية أصح قلت قد وجهنا الأولى وهذه الراجحة ومعناها تعطى الناس ما لا يجدونه عند غيرك فحذف أحد المفعولين ويقال كسبت الرجل مالا وأكسبته بمعنى وقيل معناه تكسب المال المعدوم وتصيب منه مالا يصيب غيرك وكانت العرب تتمادح بكسب المال لا سيما قريش وكان النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة محظوظا في التجارة وإنما يصح هذا المعنى إذا ضم إليه ما يليق به من أنه كان مع إفادته للمال يجود به في الوجوه التي ذكرت في المكرمات وقولها وتعين على نوائب الحق كلمة جامعة لافراد ما تقدم ولما لم يتقدم وفي رواية المصنف في التفسير من طريق يونس عن الزهري من الزيادة وتصديق الحديث وهي من أشرف الخصال وفي رواية هشام بن عروة عن أبيه في هذه القصة وتؤدي الأمانة وفي هذه القصة من الفوائد استحباب تأنيس من نزل به أمر بذكر تيسيره عليه وتهوينه لديه وأن من نزل به أمر استحب له أن يطلع عليه من يثق بنصيحته وصحة رأيه قوله فانطلقت به أي مضت معه فالباء للمصاحبة وورقة بفتح الراء وقوله بن عم خديجة هو بنصب بن ويكتب بالألف وهو بدل من ورقة أو صفة أو بيان ولا يجوز جره فأنه يصير صفة لعبد العزي وليس كذلك ولا كتبه بغير ألف لأنه لم يقع بين علمين قوله تنصر أي صار نصرانيا وكان قد خرج هو وزيد بن عمرو بن نفيل لما كرها عبادة الأوثان إلى الشام وغيرها يسألون عن الدين فأما ورقة فأعجبه دين النصرانية فتنصر وكان لقي من بقي من الرهبان على دين عيسى ولم يبدل ولهذا أخبر بشأن النبي صلى الله عليه وسلم والبشارة به إلى غير ذلك مما أفسده أهل التبديل وأما زيد بن عمرو فسيأتي خبره في المناقب إن شاء الله تعالى قوله فكان يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية وفي رواية يونس ومعمر ويكتب من الإنجيل بالعربية ولمسلم فكان يكتب الكتاب العربي والجميع صحيح لأن ورقة تعلم اللسان العبراني والكتابة العبرانية فكان يكتب الكتاب العبراني كما كان يكتب الكتاب العربي لتمكنه من الكتابين واللسانين ووقع لبعض الشراح هنا خبط فلا يعرج عليه وإنما وصفته بكتابة الإنجيل دون حفظه لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا كتيسر حفظ القرآن الذي خصت به هذه الأمة فلهذا جاء في صفتها أناجيلها صدورها قولها يا بن عم هذا النداء على حقيقته ووقع في مسلم يا عم وهو وهم لأنه وأن كان صحيحا لجواز إرادة التوقير لكن القصة لم تتعدد ومخرجها متحد فلا يحمل على أنها قالت ذلك مرتين فتعين الحمل على الحقيقة وإنما جوزنا ذلك فيما مضى في العبراني والعربي لأنه من كلام الراوي في وصف ورقة واختلفت المخارج فأمكن التعداد وهذا الحكم بطرد في جميع ما أشبهه وقالت في حق النبي صلى الله عليه وسلم أسمع من بن أخيك لأن والده عبد الله بن عبد المطلب وورقة في عدد النسب إلى قصي بن كلاب الذي يجتمعان فيه سواء فكان من هذه الحيثية في درجة إخوته أو قالته على سبيل التوقير لسنه وفيه إرشاد إلى أن صاحب الحاجة يقدم بين يديه من يعرف بقدره ممن يكون أقرب منه إلى المسئول وذلك مستفاد من قول خديجة لورقة أسمع من بن أخيك أرادت بذلك أن يتأهب لسماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أبلغ في التعليم قوله ماذا ترى فيه حذف يدل عليه سياق الكلام وقد صرح به في دلائل النبوة لأبي نعيم بسند حسن إلى عبد الله بن شداد في هذه القصة قال فأتت به ورقة بن عمها فأخبرته بالذي رأى قوله هذا الناموس الذي نزل الله على موسى والكشميهني انزل الله وفي التفسير أنزل على البناء للمفعول وأشار بقوله هذا إلى الملك الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في خبره ونزله منزلة القريب لقرب ذكره والناموس صاحب السر كما جزم به المؤلف في أحاديث الأنبياء وزعم بن ظفر أن الناموس صاحب سر الحيز والجاسوس صاحب سر الشر والأول الصحيح الذي عليه الجمهور وقد سوى بينهما رؤبة بن العجاج أحد فصحاء العرب والمراد بالناموس هنا جبريل عليه السلام وقوله على موسى ولم يقل على عيسى مع كونه نصرانيا لأن كتاب موسى عليه السلام مشتمل على أكثر الأحكام بخلاف عيسى وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو لأن موسى بعث بالنقمة على فرعون ومن معه بخلاف عيسى كذلك وقعت النقمة على يد النبي صلى الله عليه وسلم بفرعون هذه الأمة وهو أبو جهل بن هشام ومن معه ببدر أو قاله تحقيقا للرسالة لأن نزول جبريل على موسى متفق عليه بين أهل الكتاب بخلاف عيسى فإن كثيرا من اليهود ينكرون نبوته وأما ما تمحل له السهيلي من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى في عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الاقانيم فهو محال لا يعرج عليه في حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل في التبديل ولم يأخذ عمن بدل على أنه قد ورد عند الزبير بن بكار من طريق عبد الله بن معاذ الزهري في هذه القصة أن ورقة قال ناموس عيسى والأصح ما تقدم وعبد الله بن معاذ ضعيف نعم في دلائل النبوة لأبي نعيم بإسناد حسن إلى هشام بن عروة عن ابيه في هذه القصة أن خديجة أولا أتت بن عمها ورقة فأخبرته الخبر فقال لئن كنت صدقتني إنه ليأتيه ناموس عيسى الذي لا يعلمه بنو إسرائيل أبناءهم فعلى هذا فكان ورقة يقول تارة ناموس عيسى وتارة ناموس موسى فعند أخبار خديجة له بالقصة قال لها ناموس عيسى بحسب ما هو فيه من النصرانية وعند أخبار النبي صلى الله عليه وسلم له قال له ناموس موسى للمناسبة التي قدمناها وكل صحيح والله سبحانه وتعالى أعلم قوله يا ليتني فيها جذع كذا في رواية الأصيلي وعند الباقين يا ليتني فيها جذعا بالنصب على أنه خبر كان المقدرة قاله الخطابي وهو مذهب الكوفيين في قوله تعالى انتهوا خيرا لكم وقال بن برى التقدير يا ليتني جعلت فيه جذعا وقيل النصب على الحال إذا جعلت فيها خبر ليت والعامل في الحال ما يتعلق به الخبر من معنى الاستقرار قاله السهيلي وضمير فيها يعود على أيام الدعوة والجذع بفتح الجيم والذال المعجمة هو الصغير من البهائم كأنه تمنى أن يكون عند ظهور الدعاء إلى الإسلام شابا ليكون أمكن لنصره وبهذا يتبين سر وصفه بكونه كان كبيرا أعمى قوله إذ يخرجك قال بن مالك فيه استعمال إذ في المستقبل كاذا وهو صحيح وغفل عنه أكثر النحاة وهو كقوله تعالى وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضى الأمر هكذا ذكره بن مالك وأقره عليه غير واحد وتعقبه شيخنا شيخ الإسلام بأن النحاة لم يغفلوه بل منعوا وروده وأولوا ما ظاهره ذلك وقالوا في مثل هذا استعمل الصيغة الدالة على المضى لتحقق وقوعه فأنزلوه منزلته ويقوى ذلك هنا أن في رواية البخاري في التعبير حين يخرجك قومك وعند التحقيق ما ادعاه بن مالك فيه ارتكاب مجاز وما ذكره غيره فيه ارتكاب مجاز ومجازهم أولى لما ينبنى عليه من أن إيقاع المستقبل في صورة المضى تحقيقا لوقوعه أو استحضارا للصورة الآتية في هذه دون تلك مع وجوده في أفصح الكلام وكأنه أراد بمنع الورود ورودا محمولا على حقيقة الحال لا على تأويل الاستقبال وفيه دليل على جواز تمنى المستحيل إذا كان في فعل خير لأن ورقة تمنى أن يعود شابا وهو مستحيل عادة ويظهر لي أن التمنى ليس مقصودا على بابه بل المراد من هذا التنبيه على صحة ما أخبره به والتنويه بقوة تصديقه فيما يجيء به قوله أو مخرجي هم بفتح الواو وتشديد الياء وفتحها جمع مخرج فهم مبتدأ مؤخر ومخرجي خبر مقدم قاله بن مالك واستبعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوه لأنه لم يكن فيه سبب يقتضى الإخراج لما اشتمل عليه من مكارم الأخلاق التي تقدم من خديجة وصفها وقد استدل بن الدغنة بمثل تلك الأوصاف على أن أبا بكر لا يخرج قوله إلا عودي وفي رواية يونس في التفسير إلا أوذي فذكر ورقة أن العلة في ذلك مجيئه له بالانتقال عن مألوفهم ولأنه علم من الكتب أنهم لا يجيبونه إلى ذلك وأنه يلزمه لذلك منابذتهم ومعاندتهم فتنشأ العداوة من ثم وفيه دليل على أن المجيب يقيم الدليل على ما يجيب به إذا اقتضاه قوله إن يدركني يومك إن شرطية والذي بعدها مجزوم زاد في رواية يونس في التفسير حيا ولابن إسحاق أن أدركت ذلك اليوم يعني يوم الإخراج قوله مؤزرا بهمزة أي قويا مأخوذ من الأزر وهو القوة وأنكر القزاز أن يكون في اللغة مؤزر من الازر وقال أبو شامة يحتمل أن يكون من الإزار أشار بذلك إلى تشميره في نصرته قال الأخطل قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم البيت قوله ثم لم ينشب بفتح الشين المعجمة أي لم يلبث وأصل النشوب التعلق أي لم يتعلق بشيء من الأمور حتى مات وهذا بخلاف ما في السيرة لابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب وذلك يقتضى أنه تأخر إلى زمن الدعوة وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام فإن تمسكنا بالترجيح فما في الصحيح أصح وأن لحظنا الجمع أمكن أن يقال الواو في قوله وفتر الوحي ليست للترتيب فلعل الراوي لم يحفظ لورقة ذكرا بعد ذلك في أمر من الأمور فجعل هذه القصة انتهاء أمره بالنسبة إلى علمه لا إلى ما هو الواقع وفتور الوحي عبارة عن تأخره مدة من الزمان وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع وليحصل له التشوف إلى العود فقد روى المؤلف في التعبير من طريق معمر ما يدل على ذلك فائده وقع في تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبي أن مدة فترة الوحي كانت ثلاث سنين وبه جزم بن إسحاق وحكى البيهقي أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة وابتداء وحي اليقظة وقع في رمضان وليس المراد بفترة الوحي المقدره بثلاث سنين وهي ما بين نزول أقرأ ويا أيها المدثر عدم مجيء جبريل إليه بل تأخر نزول القرآن فقط ثم راجعت المنقول عن الشعبي من تاريخ الإمام أحمد ولفظه من طريق داود بن أبي هند عن الشعبي أنزلت عليه النبوة وهو بن أربعين سنة فقرن بنبوته إسرافيل ثلاث سنين فكان يعلمه الكلمة والشيء ولم ينزل عليه القرآن على لسانه فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل فنزل عليه القرآن على لسانه عشرين سنة وأخرجه بن أبي خيثمة من وجه آخر مختصرا عن داود بلفظ بعث لأربعين ووكل به اسرافيل ثلاث سنين ثم وكل به جبريل فعلى هذا فيحسن بهذا المرسل أن ثبت الجمع بين القولين في قدر إقامته بمكة بعد البعثة فقد قيل ثلاث عشرة وقيل عشر وأنكر الواقدي هذه الرواية المرسلة وقال لم يقرن به من الملائكة الا جبريل انتهى ولا يخفى ما فيه فإن المثبت مقدم على النافي إلا أن صحب النافي دليل نفيه فيقدم والله أعلم وأخذ السهيلي هذه الرواية فجمع بها المختلف في مكثه صلى الله عليه وسلم بمكة فإنه قال جاء في بعض الروايات المسندة أن مدة الفتره سنتان ونصف وفي رواية أخرى أن مدة الرؤيا ستة أشهر فمن قال مكث عشر سنين حذف مدة الرؤيا والفترة ومن قال ثلاث عشرة أضافهما وهذا الذي اعتمده السهيلي من الاحتجاج بمرسل الشعبي لا يثبت وقد عارضه ما جاء عن بن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما وسيأتي مزيد لذلك في كتاب التعبير إن شاء الله تعالى

[ 4 ] قوله قال بن شهاب وأخبرني أبو سلمة إنما أتى بحرف العطف ليعلم أنه معطوف على ما سبق كأنه قال أخبرنا عروة بكذا وأخبرني أبو سلمة بكذا وأبو سلمة هو بن عبد الرحمن بن عوف وأخطأ من زعم أن هذا معلق وإن كانت صورته صورة التعليق ولو لم يكن في ذلك إلا ثبوت الواو العاطفة فأنها دالة على تقدم شيء عطفته وقد تقدم قوله عن بن شهاب عن عروة فساق الحديث إلى آخره ثم قال قال بن شهاب أي بالسند المذكور وأخبرني أبو سلمة بخبر آخر وهو كذا ودل قوله عن فترة الوحي وقوله الملك الذي جاءني بحراء على تأخر نزول سورة المدثر عن أقرأ ولما خلت رواية يحيى بن أبي كثير الآتية في التفسير عن أبي سلمة عن جابر عن هاتين الجملتين أشكل الأمر فجزم من جزم بأن يا أيها المدثر أول ما نزل ورواية الزهري هذه الصحيحة ترفع هذا الاشكال وسياق بسط القول في ذلك في تفسير سورة أقرأ قوله فرعبت منه بضم الراء وكسر العين وللأصيلي بفتح الراء وضم العين أي فزعت دل على بقية بقيت معه من الفزع الأول ثم زالت بالتدريج قوله فقلت زملوني زملوني وفي رواية الأصيلي وكريمة زملوني مرة واحدة وفي رواية يونس في التفسير فقلت دثروني فنزلت يا أيها المدثر قم فأنذر أي حذر من العذاب من لم يؤمن بك وربك فكبر أي عظم وثيابك فطهر أي من النجاسه وقيل الثياب النفس وتطهيرها اجتناب النقائص والرجز هنا الأوثان كما سيأتي من تفسير الراوي عند المؤلف في التفسير والرجز في اللغة العذاب وسمي الأوثان هنا رجز لأنها سببه قوله فحمى الوحي أي جاء كثيرا وفيه مطابقة لتعبيره عن تأخره بالفتور إذ لم ينته إلى انقطاع كلي فيوصف بالضد وهو البرد قوله وتتابع تأكيد معنوي ويحتمل أن يراد بحمى قوي وتتابع تكاثر وقد وقع في رواية الكشميهني وأبي الوقت وتواتر والتواتر مجيء الشيء يتلو بعضه بعضا من غير تخلل تنبيه خرج المصنف بالإسناد في التاريخ حديث الباب عن عائشة ثم عن جابر بالإسناد المذكور هنا فزاد فيه بعد قوله تتابع قال عروة يعني بالسند المذكور إليه وماتت خديجة قبل أن تفرض الصلاة فقال النبي صلى الله عليه وسلم رأيت لخديجة بيتا من قصب لا صخب فيه ولا نصب قال البخاري يعني قصب اللؤلؤ قلت وسيأتي مزيد لهذا في مناقب خديجة إن شاء الله تعالى قوله تابعه الضمير يعود على يحيى بن بكير ومتابعة عبد الله بن يوسف عن الليث هذه عند المؤلف في قصة موسى وفيه من اللطائف قوله عن الزهري سمعت عروة قوله وأبو صالح هو عبد الله بن صالح كاتب الليث وقد أكثر البخاري عنه من المعلقات وعلق عن الليث جملة كثيرة من أفراد أبي صالح عنه ورواية عبد الله بن صالح عن الليث لهذا االحديث أخرجها يعقوب بن سفيان في تاريخه عنه مقرونا بيحيى بن بكير ووهم من زعم كالدمياطى أنه أبو صالح عبد الغفار بن داود الحراني فإنه لم يذكر من أسنده عن عبد الغفار وقد وجد في مسنده عن كاتب الليث قوله وتابعه هلال بن رداد بدالين مهملتين الأولى مثقلة وحديثه في الزهريات للذهلى قوله وقال يونس يعني بن يزيد الأيلي ومعمر هو بن راشد بوادره يعني أن يونس ومعمرا رويا هذا الحديث عن الزهري فوافقا عقيلا عليه الا إنهما قالا بدل قوله يرجف فؤاده ترجف بوادره والبوادر جمع بادرة وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق تضطرب عند فزع الإنسان فالروايتان مستويتان في أصل المعنى لأن كلا منهما دال على الفزع وقد بينا ما في رواية يونس ومعمر من المخالفة لرواية عقيل غير هذا في أثناء السياق والله الموفق وسيأتي بقية شرح هذا الحديث في تفسير سورة أقرأ باسم ربك إن شاء الله تعالى

[ 5 ] قوله حدثنا موسى بن إسماعيل هو أبو سلمة التبوذكي وكان من حفاظ المصريين قوله حدثنا أبو عوانة هو الوضاح بن عبد الله اليشكري مولاهم البصري كان كتابه في غاية الإتقان وموسى بن أبي عائشة لا يعرف اسم أبيه وقد تابعه على بعضه عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير قوله كان مما يعالج المعالجة محاولة الشيء بمشقة أي كان العلاج ناشئا من تحريك الشفتين أي مبدأ العلاج منه أو ما موصوله وأطلقت على من يعقل مجازا هكذا قرره الكرماني وفيه نظر لأن الشدة حاصلة له قبل التحرك والصواب ما قاله ثابت السرقسطي أن المراد كان كثيرا ما يفعل ذلك وورودهما في هذا كثير ومنه حديث الرؤيا كان مما يقول لأصحابه من رأى منكم رؤيا ومنه قول الشاعر وأنا لمما نضرب الكبش ضربة على وجهه يلقى اللسان من الفم قلت ويؤيده أن رواية المصنف في التفسير من طريق جرير عن موسى بن أبي عائشة ولفظها كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل جبريل بالوحي فكان مما يحرك به لسانه وشفتيه فأتى بهذا اللفظ مجردا عن تقدم العلاج الذي قدره الكرماني فظهر ما قال ثابت ووجه ما قال غيره إن من إذا وقع بعدها ما كانت بمعنى ربما وهي تطلق على القليل والكثير وفي كلام سيبويه مواضع من هذا منها قوله أعلم أهم مما يحذفون كذا والله أعلم ومنه حديث البراء كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم مما نحب أن نكون عن يمينه الحديث ومن حديث سمرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الصبح مما يقول لأصحابه من رأى منكم رؤيا قوله فقال بن عباس فأنا احركهما جملة معترضة بالفاء وفائدة هذا زيادة البيان في الوصف على القول وعبر في الأول بقوله كان يحركهما وفي الثاني برأيت لأن بن عباس لم ير النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الحالة لأن سورة القيامة مكية باتفاق بل الظاهر أن نزول هذه الآيات كان في أول الأمر وإلى هذا جنح البخاري في إيراده هذا الحديث في بدء الوحي ولم يكن بن عباس إذ ذاك ولد لأنه ولد قبل الهجرة بثلاث سنين لكن يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك بعد أو بعض الصحابة أخبره أنه شاهد النبي صلى الله عليه وسلم والأول هو الصواب فقد ثبت ذلك صريحا في مسند أبي داود الطيالسي قال حدثنا أبو عوانة بسنده وأما سعيد بن جبير فرأى ذلك من بن عباس بلا نزاع قوله فحرك شفتيه وقوله فأنزل الله لا تحرك به لسانك لا تنافى بينهما لأن تحريك الشفتين بالكلام المشتمل على الحروف التي لا ينطق بها إلا اللسان يلزم منه تحريك اللسان أو اكتفى بالشفتين وحذف اللسان لوضوحه لأنه الأصل في النطق إذ الأصل حركة الفم وكل من الحركتين ناشىء عن ذلك وقد مضى أن في رواية جرير في التفسير يحرك به لسانه وشفتيه فجمع بينهما وكان النبي صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر إذا لقن القرآن نازع جبريل القراءة ولم يصبر حتى يتمها مسارعة إلى الحفظ لئلا ينفلت منه شيء قاله الحسن وغيره ووقع في رواية للترمذي يحرك به لسانه يريد أن يحفظه وللنسائي يعجل بقراءته ليحفظه ولابن أبي حاتم يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره وفي رواية الطبري عن الشعبي عجل يتكلم به من حبه إياه وكلا الأمرين مراد ولا تنافى بين محبته إياه والشدة التي تلحقه في ذلك فأمر بأن ينصت حتى يقضي إليه وحيه ووعد بأنه آمن من تفلته منه بالنسيان أو غيره ونحوه قوله تعالى ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه أي بالقراءة قوله جمعه لك صدرك كذا في أكثر الروايات وفيه إسناد الجمع إلى الصدر بالمجاز كقوله أنبت الربيع البقل أي أنبت الله في الربيع البقل واللام في لك للتبيين أو للتعليل وفي رواية كريمة والحموي جمعه لك في صدرك وهو توضيح للأول وهذا من تفسير بن عباس وقال في تفسير فاتبع أي فاستمع وأنصت وفي تفسير بيانه أي علينا أن تقرأه ويحتمل أن يراد بالبيان بيان مجملاته وتوضيح مشكلاته فيستدل به على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب كما هو الصحيح في الأصول والكلام في تفسير الآيات المذكورة أخرته إلى كتاب التفسير فهو موضعه والله أعلم

[ 6 ] قوله حدثنا عبدان هو عبد الله بن عثمان المروزي أخبرنا عبد الله هو بن المبارك أخبرنا يونس هو بن يزيد الأبلي قوله أخبرنا يونس ومعمر نحوه أي أن عبد الله بن المبارك حدث به عبدان عن يونس وحده وحدث به بشر بن محمد عن يونس ومعمر معا أما باللفظ فعن يونس وأما بالمعنى فعن معمر قوله عبيد الله هو بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الآتي في الحديث الذي بعده قوله أجود الناس بنصب أجود لأنها خبر كان وقدم بن عباس هذه الجملة على ما بعدها وإن كانت لا تتعلق بالقرآن على سبيل الاحتراس من مفهوم ما بعدها ومعنى أجود الناس أكثر الناس جودا والجود الكرم وهو من الصفات المحمودة وقد أخرج الترمذي من حديث سعد رفعه إن الله جواد يحب الجود الحديث وله في حديث أنس رفعه أنا أجود ولد آدم وأجودهم بعدي رجل علم علما فنشر علمه ورجل جاد بنفسه في سبيل الله وفي سنده مقال وسيأتي في الصحيح من وجه آخر عن أنس كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأجود الناس الحديث قوله وكان أجود ما يكون هو برفع أجود هكذا في أكثر الروايات وأجود أسم كان وخبره محذوف وهو نحو أخطب ما يكون الأمير في يوم الجمعة أو هو مرفوع على أنه مبتدأ مضاف إلى المصدر وهو ما يكون وما مصدرية وخبره في رمضان والتقدير أجود اكوان رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان وإلى هذا جنح البخاري في تبويبه في كتاب الصيام إذ قال باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان وفي رواية الأصيلي أجود بالنصب على أنه خبر كان وتعقب بأنه يلزم منه أن يكون خبرها اسمها وأجيب بجعل اسم كان ضمير النبي صلى الله عليه وسلم وأجود خبرها والتقدير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره قال النووي الرفع أشهر والنصب جائز وذكر أنه سأل بن مالك عنه فخرج الرفع من ثلاثة أوجه والنصب من وجهين وذكر بن الحاجب في اماليه للرفع خمسة أوجه توارد مع بن مالك منها في وجهين وزاد ثلاثة ولم يعرج على النصب قلت ويرجح الرفع وروده بدون كان عند المؤلف في الصوم قوله فيدارسه القرآن قيل الحكمة فيه أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس والغنى سبب الجود والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وهو أعم من الصدقة وأيضا فرمضان موسم الخيرات لأن نعم الله على عباده فيه زائدة على غيره فكان النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر متابعة سنة الله في عباده فبمجموع ما ذكر من الوقت والمنزول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود والعلم عن الله تعالى قوله فلرسول الله صلى الله عليه وسلم الفاء للسببيه واللام للابتداء وزيدت على المبتدأ تأكيدا أو هي جواب قسم مقدر والمرسلة أي المطلقة يعني أنه في الإسراع بالجود أسرع من الريح وعبر بالمرسلة إشارة إلى دوام هبوبها بالرحمة وإلى عموم النفع بجودة كما تعم الريح المرسلة جميع ما تهب عليه ووقع عند أحمد في آخر هذا الحديث لا يسأل شيئا إلا أعطاه وثبتت هذه الزيادة في الصحيح من حديث جابر ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا فقال لا وقال النووي في الحديث فوائد منها الحث على الجود في كل وقت ومنها الزيادة في رمضان وعند الاجتماع بأهل الصلاح وفيه زيارة الصلحاء وأهل الخير وتكرار ذلك إذا كان المزور لايكرهه واستحباب الأكثار من القراءة في رمضان وكونها أفضل من سائر الأذكار إذ لو كان الذكر أفضل أو مساويا لفعلا فإن قيل المقصود تجويد الحفظ قلنا الحفظ كان حاصلا والزيادة فيه تحصل ببعض المجالس وأنه يجوز أن يقال رمضان من غير إضافة وغير ذلك مما يظهر بالتأمل قلت وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان لأن نزوله إلى السماء الدنيا جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت من حديث بن عباس فكان جبريل يتعاهده في كل سنة فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة رضي الله عنها وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في هذا الباب والله أعلم بالصواب

[ 7 ] قوله قال حدثنا أبو اليمان في رواية الأصيلي وكريمة حدثنا الحكم بن نافع وهو هو أخبرنا شعيب ه هو بن أبي حمزة دينار الحمصي وهو من أثبات أصحاب الزهري قوله أن أبا سفيان هو صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف قوله هرقل هو ملك الروم وهرقل اسمه وهو بكسر الهاء وفتح الراء وسكون القاف ولقبه قيصر كما يلقب ملك الفرس كسرى ونحوه قوله في ركب جمع راكب كصحب وصاحب وهم أولو الإبل العشرة فما فوقها والمعنى أرسل إلى أبي سفيان حال كونه في جملة الركب وذاك لأنه كان كبيرهم فلهذا خصه وكان عدد الركب ثلاثين رجلا رواه الحاكم في الإكليل ولابن السكن نحو من عشرين وسمي منهم المغيرة بن شعبة في مصنف بن أبي شيبة بسند مرسل وفيه نظر لأنه كان إذ ذاك مسلما ويحتمل أن يكون رجع حينئذ إلى قيصر ثم قدم المدينة مسلما وقد ذكره أيضا في أثر آخر في كتاب السير لأبي إسحاق الفزاري وكتاب الأموال لأبي عبيد من طريق سعيد بن المسيب كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر الحديث وفيه فلما قرأ قيصر الكتاب قال هذا كتاب لم أسمع بمثله ودعا أبا سفيان بن حرب والمغيرة بن شعبة وكان تاجرين هناك فسأل عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله وكانوا تجارا بضم التاء وتشديد الجيم أو كسرها والتخفيف جمع تاجر قوله في المدة يعني مدة الصلح بالحديبية وسيأتي شرحها في المغازي وكانت في سنة ست وكانت مدتها عشر سنين كما في السيرة وأخرجه أبو داود من حديث بن عمر ولأبي نعيم في مسند عبد الله بن دينار كانت أربع سنين وكذا أخرجه الحاكم في البيوع من المستدرك والأول أشهر لكنهم نقضوا فغزاهم سنة ثمان وفتح مكة وكفار قريش بالنصب مفعول معه قوله فأتوه تقديره أرسل إليهم في طلب إتيان الركب فجاء الرسول يطلب اتيانهم فأتوه كقوله تعالى فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت أي فضرب فانفجرت ووقع عند المؤلف في الجهاد أن الرسول وجدهم ببعض الشام وفي رواية لأبي نعيم في الدلائل تعيين الموضع وهو غزة قال وكانت وجه متجرهم وكذا رواه بن إسحاق في المغازي عن الزهري وزاد في أوله عن أبي سفيان قال كنا قوما تجارا وكانت الحرب قد حصبتنا فلما كانت الهدنة خرجت تاجرا إلى الشام مع رهط من قريش فوالله ما علمت بمكة امرأة ولا رجلا الا وقد حملني بضاعة فذكره وفيه فقال هرقل لصاحب شرطته قلب الشام ظهرا لبطن حتى تأتي برجل من قوم هذا أسأله عن شأنه فوالله إني وأصحابي بغزة إذ هجم علينا فساقنا جميعا قوله بإيلياء بهمزة مكسورة بعدها ياء أخيرة ساكنة ثم لام مكسورة ثم ياء أخيرة ثم ألف مهموزة وحكى البكري فيها القصر ويقال لها أيضا إليا بحذف الياء الأولى وسكون اللام حكاه البكري وحكى النووي مثله لكن بتقديم الياء على اللام واستغربه قيل معناه بيت الله وفي الجهاد عند المؤلف أن هرقل لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكرا لله زاد بن إسحاق عن الزهري أنه كان تبسط له البسط وتوضع عليها الرياحين فيمشى عليها ونحوه لأحمد من حديث بن أخي الزهري عن عمه وكان سبب ذلك ما رواه الطبري وابن عبد الحكم من طرق متعاضدة ملخصها أن كسرى أغزى جيشه بلاد هرقل فخربوا كثيرا من بلاده ثم استبطأ كسرى أميره فأراد قتله وتولية غيره فأطلع أميره على ذلك فباطن هرقل واصطلح معه على كسرى وانهزم عنه بجنود فارس فمشى هرقل إلى بيت المقدس شكرا لله تعالى على ذلك واسم الأمير المذكور شهر براز واسم الغير الذي أراد كسرى تأميره فرحان قوله فدعاهم في مجلسه أي في حال كونه في مجلسه وللمصنف في الجهاد فأدخلنا عليه فإذا هو جالس في مجلس ملكه وعليه التاج قوله وحوله بالنصب لأنه ظرف مكان قوله عظماء جمع عظيم ولابن السكن فأدخلنا عليه وعنده بطارقته والقسيسون والرهبان والروم من ولد عيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام على الصحيح ودخل فيهم طوائف من العرب من تنوخ وبهراء وسليح وغيرهم من غسان كانوا سكانا بالشام فلما أجلاهم المسلمون عنها دخلوا بلاد الروم فاستوطنوها فاختلطت أنسابهم قوله ثم دعاهم ودعا ترجمانه وللمستملى بالترجمان مقتضاه أنه أمر بإحضارهم فلما حضروا استدناهم لأنه ذكر أنه دعاهم ثم دعاهم فينزل على هذا ولم يقع تكرار ذلك الا في هذه الرواية والترجمان بفتح التاء المثناة وضم الجيم ورجحه النووي في شرح مسلم ويجوز ضم التاء اتباعا ويجوز فتح الجيم مع فتح أوله حكاه الجوهري ولم يصرحوا بالرابعة وهي ضم أوله وفتح الجيم وفي رواية الأصيلي وغيره بترجمانه يعني أرسل إليه رسولا أحضره صحبته والترجمان المعبر عن لغة بلغة وهو معرب وقيل عربي قوله فقال أيكم أقرب نسبا أي قال الترجمان على لسان هرقل قوله بهذا الرجل زاد بن السكن الذي خرج بأرض العرب يزعم أنه نبي قوله قلت أنا أقربهم نسبا في رواية بن السكن فقالوا هذا أقربنا به نسبا هو بن عمه أخي أبيه وإنما كان أبو سفيان أقرب لأنه من بني عبد مناف وقد أوضح ذلك المصنف في الجهاد بقوله قال ما قرابتك منه قلت هو بن عمي قال أبو سفيان ولم يكن في الركب من بني عبد مناف غيري اه وعبد مناف الأب الرابع للنبي صلى الله عليه وسلم وكذا لأبي سفيان وأطلق عليه بن عم لأنه نزل كلا منهما منزلة جده فعبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن عم أمية بن عبد شمس بن عبد مناف وعلى هذا ففيما أطلق في رواية بن السكن تجوز وإنما خص هرقل الأقرب لأنه أحرى بالاطلاع على أموره ظاهرا وباطنا أكثر من غيره ولأن الأبعد لا يؤمن أن يقدح في نسبه بخلاف الأقرب وظهر ذلك في سؤاله بعد ذلك كيف نسبه فيكم وقوله بهذا الرجل ضمن أقرب معنى أوصل فعداه بالباء ووقع في رواية مسلم من هذا الرجل وهو على الأصل وقوله الذي يزعم في رواية بن إسحاق عن الزهري يدعى وزعم قال الجوهري بمعنى قال وحكاه أيضا ثعلب وجماعة كما سيأتي في قصة ضمام في كتاب العلم قلت وهو كثير ويأتي موضع الشك غالبا قوله فاجعلوهم عند ظهره أي لئلا يستحيوا أن يواجهوه بالتكذيب إن كذب وقد صرح بذلك الواقدي وقوله إن كذبني بتخفيف الذال أي إن نقل إلى الكذب قوله قال أي أبو سفيان وسقط لفظ قال من رواية كريمة وأبي الوقت فأشكل ظاهره وبإثباتها يزول الإشكال قوله فوالله لولا الحياء من أن يأثروا أي ينقلوا على الكذب لكذبت عليه وللأصيلي عنه أي عن الأخبار بحاله وفيه دليل على أنهم كانوا يستقبحون الكذب إما بالأخذ عن الشرع السابق أو بالعرف وفي قوله يؤثروا دون قوله يكذبوا دليل على أنه كان واثقا منهم بعدم التكذيب أن لو كذب لاشتراكهم معه في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ترك ذلك استحياء وأنفة من أن يتحدثوا بذلك بعد أن يرجعوا فيصير عند سامعي ذلك كذابا وفي رواية بن إسحاق التصريح بذلك ولفظه فوالله لو قد كذبت ما ردوا على ولكني كنت امرءا سيدا أتكرم عن الكذب وعلمت أن أيسر ما في ذلك إن أنا كذبته أن يحفظوا ذلك عنى ثم يتحدثوا به فلم أكذبه وزاد بن إسحاق في روايته قال أبو سفيان فوالله ما رأيت من رجل قط كان أدهى من ذلك الأقلف يعني هرقل قوله كان أول هو بالنصب على الخبر وبه جاءت الرواية ويجوز رفعه على الاسمية قوله كيف نسبه فيكم أي ما حال نسبه فيكم أهو من أشرافكم أم لا فقال هو فينا ذو نسب فالتنوين فيه للتعظيم وأشكل هذا على بعض الشارحين وهذا وجهه قوله فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله وللكشميهني والأصيلي بدل قبله مثله فقوله منكم أي من قومكم يعني قريشا أو العرب ويستفاد منه أن الشفاهى يعم لأنه لم يرد المخاطبين فقط وكذا قوله فهل قاتلتموه وقوله بماذا يأمركم واستعمل قط بغير أداة النفي وهو نادر ومنه قول عمر صلينا أكثر ما كنا قط وآمنه ركعتين ويحتمل أن يقال إن النفي مضمن فيه كأنه قال هل قال هذا القول أحد أو لم يقله أحد قط قوله فهل كان من آبائه ملك ولكريمة والأصيلى وأبي الوقت بزيادة من الجارة ولابن عساكر بفتح من وملك فعل ماض والجارة أرجح لسقوطها من رواية أبي ذر والمعنى في الثلاثة واحد قوله فأشراف الناس اتبعوه فيه إسقاط همزة الاستفهام وهو قليل وقد ثبت للمصنف في التفسير ولفظة أيتبعه أشراف الناس والمراد بالأشراف هنا أهل النخوة والتكبر منهم لا كل شريف حتى لا يرد مثل أبي بكر وعمر وأمثالهما ممن أسلم قبل هذا السؤال ووقع في رواية بن إسحاق تبعه منا الضعفاء والمساكين فأما ذوو الأنساب والشرف فما تبعه منهم أحد وهو محمول على الأكثر الأغلب قوله سخطة بضم أوله وفتحه وأخرج بهذا من ارتد مكرها أولا لسخط لدين الإسلام بل لرغبة في غيره كحظ نفساني كما وقع لعبيد الله بن جحش قوله هل كنتم تتهمونه بالكذب أي على الناس وإنما عدل إلى السؤال عن التهمة عن السؤال عن نفس الكذب تقريرا لهم على صدقه لأن التهمة إذا انتفت انتفى سببها ولهذا عقبه بالسؤال عن الغدر قوله ولم تمكني كلمة ادخل فيها شيئا أي انتقصه به على أن التنقيص هنا أمر نسبي وذلك أن من يقطع بعدم غدره أرفع رتبة ممن يجوز وقوع ذلك منه في الجملة وقد كان معروفا عندهم بالاستقراء من عادته أنه لا يغدر ولما كان الأمر مغيبا لأنه مستقبل أمن أبو سفيان أن ينسب في ذلك إلى الكذب ولهذا أورده بالتردد ومن ثم لم يعرج هرقل على هذا القدر منه وقد صرح بن إسحاق في روايته عن الزهري بذلك بقوله قال فوالله ما ألتفت إليها مني ووقع في رواية أبي الأسود عن عروة مرسلا خرج أبو سفيان إلى الشام فذكر الحديث إلى أن قال فقال أبو سفيان هو ساحر كذاب فقال هرقل أني لا أريد شتمه ولكن كيف نسبه إلى أن قال فهل يغدر إذا عاهد قال لا إلا أن يغدر في هدنته هذه فقال وما يخاف من هذه فقال أن قومي أمدوا حلفاءهم على حلفائه قال إن كنتم بدأتم فأنتم أغدر قوله سجال بكسر أوله أي نوب والسجل الدلو والحرب اسم جنس ولهذا جعل خبره اسم جمع وينال أي يصيب فكأنه شبه المحاربين بالمستقيين يستقى هذا دلوا وهذا دلوا وأشار أبو سفيان بذلك إلى ما وقع بينهم في غزوة بدر وغزوة أحد وقد صرح بذلك أبو سفيان يوم أحد في قوله يوم بيوم بدر والحرب سجال ولم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بل نطق النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في حديث أوس بن حذيفة الثقفي لما كان يحدث وفد ثقيف أخرجه بن ماجة وغيره ووقع في مرسل عروة قال أبو سفيان غلبنا مرة يوم بدر وأنا غائب ثم غزوتهم في بيوتهم ببقر البطون وجدع الآذان وأشار بذلك إلى يوم أحد قوله بماذا يأمركم يدل على أن الرسول من شأنه أن يأمر قومه قوله يقول اعبدوا الله وحده فيه أن للأمر صيغة معروفة لأنه أتى بقوله اعبدوا الله في جواب ما يأمركم وهو من أحسن الأدلة في هذه المسألة لأن أبا سفيان من أهل اللسان وكذلك الراوي عنه بن عباس بل هو من أفصحهم وقد رواه عنه مقرا له قوله ولا تشركوا به شيئا وسقط من رواية المستملى الواو فيكون تأكيدا لقوله وحده قوله واتركوا ما يقول آباؤكم هي كلمة جامعة لترك ما كانوا عليه في الجاهلية وإنما ذكر الآباء تنبيها على عذرهم في مخالفتهم له لأن الآباء قدوة عند الفريقين أي عبدة الأوثان والنصارى قوله ويأمرنا بالصلاة والصدق وللمصنف في رواية الصدقة بدل الصدق ورجحها شيخنا شيخ الإسلام ويقويها رواية المؤلف في التفسير الزكاة واقتران الصلاة بالزكاة معتاد في الشرع ويرجحها أيضا ما تقدم من أنهم كانوا يستقبحون الكذب فذكر ما لم يألفوه أولى قلت وفي الجملة ليس الأمر بذلك ممتنعا كما في أمرهم بوفاء العهد وأداء الأمانة وقد كانا من مألوف عقلائهم وقد ثبتا عند المؤلف في الجهاد من رواية أبي ذر عن شيخه الكشميهني والسرخسي قال بالصلاة والصدق والصدقة وفي قوله يأمرنا بعد قوله يقول اعبدوا الله إشارة إلى أن المغايرة بين الأمرين لما يترتب على مخالفهما إذ مخالف الأول كافر والثاني ممن قبل الأول عاص قوله فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها الظاهر أن أخبار هرقل بذلك بالجزم كان عن العلم المقرر عنده في الكتب السالفة قوله لقلت رجل تأسى بقول كذا للكشميهنى ولغيره يتأسى بتقديم الياء المثناة من تحت وإنما لم يقل هرقل فقلت إلا في هذا وفي قوله هل كان من آبائه من ملك لأن هذين المقامين مقام فكر ونظر بخلاف غيرهما من الأسئلة فأنها مقام نقل قوله فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه هو بمعنى قول أبي سفيان ضعفاؤهم ومثل ذلك يتسامح به لاتحاد المعنى وقول هرقل وهم أتباع الرسل معناه أن أتباع الرسل في الغالب أهل الاستكانة لا أهل الاستكبار الذين اصروا على الشقاق بغيا وحسدا كأبي جهل وأشياعه إلى أن أهلكهم الله تعالى وأنقذ بعد حين من أراد سعادته منهم قوله وكذلك الإيمان أي أمر الإيمان لأنه يظهر نورا ثم لا يزال في زيادة حتى يتم بالأمور المعتبرة فيه من صلاة وزكاة وصيام وغيرها ولهذا نزلت في آخر سني النبي صلى الله عليه وسلم اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ومنه ويأبى الله الا أن يتم نوره وكذا جرى لاتباع النبي صلى الله عليه وسلم لم يزالوا في زيادة حتى كمل بهم ما أراد الله من إظهار دينه وتمام نعمته فله الحمد والمنة قوله حين يخالط بشاشة القلوب كذا روى بالنصب على المفعولية والقلوب مضافا إليه أي يخالط الإيمان انشراح الصدور وروى بشاشة القلوب بالضم والقلوب مفعول أي يخالط بشاشة الإيمان وهو شرحه القلوب التي يدخل فيها زاد المصنف في الإيمان لا يسخطه أحد كما تقدم وزاد بن السكن في روايته في معجم الصحابة يزداد به عجبا وفرحا وفي رواية بن إسحاق وكذلك حلاوة الإيمان لا تدخل قلبا فتخرج منه قوله وكذلك الرسل لا تغدر لأنها لا تطلب حظ الدنيا الذي لا يبالي طالبه بالغدر بخلاف من طلب الآخرة ولم يعرج هرقل على الدسيسة التي دسها أبو سفيان كما تقدم وسقط من هذه الرواية إيراد تقرير السؤال العاشر والذي بعده وجوابه وقد ثبت الجميع في رواية المؤلف التي في الجهاد وسيأتي الكلام عليه ثم إن شاء الله تعالى فائدة قال المازني هذه الأشياء التي سأل عنها هرقل ليست قاطعة على النبوة الا أنه يحتمل أنها كانت عنده علامات على هذا النبي بعينه لأنه قال بعد ذلك قد كنت أعلم أنه خارج ولم أكن أظن أنه منكم وما أورده احتمالا جزم به بن بطال وهو ظاهر قوله فذكرت أنه يأمركم ذكر ذلك بالاقتضاء لأنه ليس في كلام أبي سفيان ذكر الأمر بل صيغته وقوله وينهاكم عن عبادة الأوثان مستفاد من قوله ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم لأن مقولهم الأمر بعبادة الأوثان قوله أخلص بضم اللام أي أصل يقال خلص إلى كذا أي وصل قوله لتجشمت بالجيم والشين المعجمة أي تكلفت الوصول إليه وهذا يدل على أنه كان يتحقق أنه لا يسلم من القتل أن هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم واستفاد ذلك بالتجربة كما في قصة ضغاطر الذي أظهر لهم إسلامه فقتلوه وللطبراني من طريق ضعيف عن عبد الله بن شداد عن دحية في هذه القصة مختصرا فقال قيصر أعرف أنه كذلك ولكن لا أستطيع أن أفعل إن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم وفي مرسل بن إسحاق عن بعض أهل العلم أن هرقل قال ويحك والله إني لأعلم أنه نبي مرسل ولكني أخاف الروم على نفسي ولولا ذلك لاتبعته لكن لو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب الذي أرسل إليه أسلم تسلم وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والأخرى لسلم لو أسلم من كل ما يخافه ولكن التوفيق بيد الله تعالى وقوله لغسلت عن قدميه مبالغة في العبودية له والخدمة زاد عبد الله بن شداد عن أبي سفيان لو علمت أنه هو لمشيت إليه حتى أقبل رأسه وأغسل قديمه وهي تدل على أنه كان بقي عنده بعض شك وزاد فيها ولقد رأيت جبهته تتحادر عرقا من كرب الصحيفة يعني لما قرئ عليه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم وفي اقتصاره على ذكر غسل القدمين إشارة منه إلى أنه لا يطلب منه إذا وصل إليه سالما لا ولاية ولا منصبا وإنما يطلب ما تحصل له به البركة وقوله وليبلغن ملكه ما تحت قدمي أي بيت المقدس وكنى بذلك لأنه موضع استقراره أو أراد الشام كله لأن دار مملكته كانت حمص ومما يقوي أن هرقل آثر ملكه على الإيمان واستمر على الضلال أنه حارب المسلمين في غزوة مؤتة سنة ثمان بعد هذه القصة بدون السنتين ففي مغازي بن إسحاق وبلغ المسلمين لما نزلوا معان من أرض الشام أن هرقل نزل في مائة ألف من المشركين فحكي كيفية الوقعة وكذا روى بن حبان في صحيحه عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إليه أيضا من تبوك يدعوه وأنه قارب الإجابة ولم يجب فدل ظاهر ذلك على استمراره على الكفر لكن يحتمل مع ذلك أنه كان ضمر الإيمان ويفعل هذه المعاصي مراعاة لملكه وخوفا من أن يقتله قومه الا أن في مسند أحمد أنه كتب من تبوك إلى النبي صلى الله عليه وسلم إني مسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم كذب بل هو على نصرانيته وفي كتاب الأموال لأبي عبيد بسند صحيح من مرسل بكر بن عبد الله المزني نحوه ولفظه فقال كذب عدو الله ليس بمسلم فعلى هذا إطلاق صاحب الاستيعاب أنه آمن أي أظهر التصديق لكنه لم يستمر عليه ويعمل بمقتضاه بل شح بملكه وآثر الفانية على الباقية والله الموفق قوله ثم دعا أي من وكل ذلك إليه ولهذا عدى إلى الكتاب بالباء والله أعلم قوله دحية بكسر الدال وحكى فتحها لغتان ويقال أنه الرئيس بلغة أهل اليمن وهو بن خليفة الكلبي صحابي جليل كان أحسن الناس وجها وأسلم قديما وبعثه النبي صلى الله عليه وسلم في آخر سنة ست بعد أن رجع من الحديبية بكتابه إلى هرقل وكان وصوله إلى هرقل في المحرم سنة سبع قاله الواقدي ووقع في تاريخ خليفة أن إرسال الكتاب إلى هرقل كان سنة خمس والأول أثبت بل هذا غلط لتصريح أبي سفيان بأن ذلك كان في مدة الهدنة والهدنة كانت في آخر سنة ست اتفاقا ومات دحية في خلافة معاوية وبصرى بضم أوله والقصر مدينة بين المدينة ودمشق وقيل هي حوران وعظيمها هو الحارث بن أبي شمر الغساني وفي الصحابة لابن السكن أنه أرسل بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل مع عدي بن حاتم وكان عدي إذ ذاك نصرانيا فوصل به هو ودحية معا وكانت وفاة الحارث المذكور عام الفتح قوله من محمد فيه أن السنة أن يبدأ الكتاب بنفسه وهو قول الجمهور بل حكى في النحاس إجماع الصحابة والحق اثبات الخلاف وفيه أن من التي لابتداء الغاية تأتي من غير الزمان والمكان كذا قاله أبو حيان والظاهر أنها هنا أيضا لم تخرج عن ذلك لكن بارتكاب مجاز زاد في حديث دحية وعنده بن أخ له أحمر أزرق سبط الرأس وفيه لما قرأ الكتاب سخر فقال لاتقرأه إنه بدأ بنفسه فقال قيصر لتقرأنه فقرأه وقد ذكر البزار في مسنده عن دحية الكلبي أنه هو ناول الكتاب لقيصر ولفظه بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه إلى قيصر فأعطيته الكتاب قوله عظيم الروم فيه عدول عن ذكره بالملك أو الآمرة لأنه معزول بحكم الإسلام لكنه لم يخله من إكرام لمصلحة التآلف وفي حديث دحية أن بن أخي قيصر أنكر أيضا كونه لم يقل ملك الروم قوله سلام على من أتبع الهدى في رواية المصنف في الاستئذان السلام بالتعريف وقد ذكرت في قصة موسى وهارون مع فرعون وظاهر السياق يدل على أنه من جملة ما أمرا به أن يقولاه فإن قيل كيف يبدأ الكافر بالسلام فالجواب أن المفسرين قالوا ليس المراد من هذا التحية إنما معناه سلم من عذاب الله من أسلم ولهذا جاء بعده أن العذاب على من كذب وتولى وكذا جاء في بقية هذا الكتاب فإن توليت فإن عليك إثم الاريسيين فمحصل الجواب أنه لم يبدأ الكافر بالسلام قصدا وأن كان اللفظ يشعر به لكنه لم يدخل في المراد لأنه ليس ممن أتبع الهدى فلم يسلم عليه قوله أما بعد في قوله أما معنى الشرط وتستعمل لتفصيل ما يذكر بعدها غالبا وقد ترد مستأنفه لا لتفصيل كالتي هنا وللتفصيل والتقرير وقال الكرماني هي هنا للتفصيل وتقديره أما الابتداء فهو اسم الله وأما المكتوب فهو من محمد رسول الله الخ كذا قال ولفظه بعد مبنية على الضم وكان الأصل أن تفتح لو استمرت على الإضافة لكنها قطعت عن الإضافة فبينت على الضم وسيأتي مزيد في الكلام عليها في كتاب الجمعة قوله بدعاية الإسلام بكسر الدال من قولك دعا يدعو دعاية نحو شكا يشكو شكاية ولمسلم بداعية الإسلام أي بالكلمة الداعية إلى الإسلام وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله والباء موضع إلى وقوله أسلم تسلم غاية في البلاغ وفيه نوع من البديع وهو الجناس الاشتقاقي قوله يؤتك جواب ثان للأمر وفي الجهاد للمؤلف أسلم أسلم يؤتك بتكرار أسلم فيحتمل التأكيد ويحتمل أن يكون الأمر الأول للدخول في الإسلام والثاني للدوام عليه كما في قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله الآية وهو موافق لقوله تعالى أولئك يؤتون أجرهم مرتين الآية وإعطاؤه الأجر مرتين لكونه كان مؤمنا بنبيه ثم آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ويحتمل أن يكون تضعيف الأجر له من جهة إسلامه ومن جهة أن إسلامه يكون سببا لدخول أتباعه وسيأتي التصريح بذلك في موضعه من حديث الشعبي من كتاب العلم إن شاء الله تعالى واستنبط منه شيخنا شيخ الإسلام أن كل من دان بدين أهل الكتاب كان في حكمهم في المناكحة والذبائح لأن هرقل هو وقومه ليسوا من بني إسرائيل وهم ممن دخل في النصرانية بعد التبديل وقد قال له ولقومه يا أهل الكتاب فدل على أن لهم حكم أهل الكتاب خلافا لمن خص ذلك الاسرائيلين أو بمن علم أن سلفه ممن دخل في اليهودية أو النصرانية قبل التبديل والله أعلم قوله فإن توليت أي اعرضت عن الإجابة إلى الدخول في الإسلام وحقيق التولى إنما هو بالوجه ثم استعمل مجازا في الأعراض عن الشيء وهي استعارة تبعية قوله الاريسيين هو جمع اريسي وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل وقد تقلب همزته ياء كما جاءت به رواية أبي ذر والأصيلي وغيرهما هنا قال بن سيده الايس الاكار أي الفلاح عند ثعلب وعند كراع الاريس هو الأمير وقال الجوهري هي لغة شامية وأنكر بن فارس أن تكون عربية وقيل في تفسيره غير ذلك لكن هذا هو الصحيح هنا فقد جاء مصرحا به في رواية بن إسحاق عن الزهري بلفظ فإن عليك إثم الأكارين زاد البرقاني في روايته يعني الحراثين ويؤيده أيضا ما في رواية المدائني من طريق مرسلة فإن عليك إثم الفلاحين وكذا عند أبي عبيد في كتاب الأموال من مرسل عبد الله بن شداد وأن لم تدخل في الإسلام فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام قال أبو عبيد المراد بالفلاحين أهل مملكته لأن كل من كان يزرع فهو عندالعرب فلاح سواء كان يلي ذلك بنفسه أو بغيره قال الخطابي أراد إن عليك إثم الضعفاء والاتباع إذا لم يسلموا تقليدا له لأن الاصاغر أتباع الأكابر قلت وفي الكلام حذف دل المعنى عليه وهو فإن عليك مع اثمك إثم الاريسين لأنه إذا كان عليه إثم الأتباع بسبب أنهم تبعوه على استمرار الكفر فلأن يكون عليه إثم نفسه أولى وهذا يعد من مفهوم الموافقة ولا يعارض بقوله تعالى ولا تزر وازرة وزر أخرى لأن وزر الإثم لا يتحمله غيره ولكن الفاعل المتسبب والمتلبس بالسيئات يتحمل من جهتين جهة فعله وجهة تسببه وقد ورد تفسير الاريسيين بمعنى آخر فقال الليث بن سعد عن يونس فيما رواه الطبراني في الكبير من طريقه الاريسيون المشارون يعني أهل المكس والأول أظهر وهذا إن صح أنه المراد فالمعنى المبالغة في الإثم ففي الصحيح في المرأة التي اعترفت بالزنا لقد تابت توبة لو تأبها صاحب مكس لقبلت قوله ويا أهل الكتاب الخ هكذا وقع بإثبات الواو في أوله وذكر القاضي عياض أن الواو ساقطة من رواية الأصيلي وأبي ذر وعلى ثبوتها فهي داخلة على مقدر معطوف على قوله أدعوك فالتقدير أدعوك بدعاية الإسلام وأقول لك ولاتباعك امتثالا لقول الله تعالى يا أهل الكتاب ويحتمل أن تكون من كلام أبي سفيان لأنه لم يحفظ جميع ألفاظ الكتاب فاستحضر منها أول الكتاب فذكره وكذا الآية وكأنه قال فيه كان فيه كذا وكان فيه يا أهل الكتاب فالواو من كلامه لا من نفس الكتاب وقيل إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك قبل نزول الآية فوافق لفظه لفظها لما نزلت والسبب في هذا أن هذه الآية نزلت في قصة وفد نجران وكانت قصتهم سنة الوفود سنة تسع وقصة أبي سفيان كانت قبل ذلك سنة ست وسيأتي ذلك واضحا في المغازي وقيل بل نزلت سابقة في أوائل الهجرة واليه يومئ كلام بن إسحاق وقيل نزلت في اليهود وجوز بعضهم نزولها مرتين وهو بعيد فائده قيل في هذا دليل على جواز قراءة الجنب للآية أو الآيتين وبارسال بعض القرآن إلى أرض العدو وكذا بالسفر به وأغرب بن بطال فادعى أن ذلك نسخ بالنهى عن السفر بالقرآن إلى أرض العدو ويحتاج إلى اثبات التاريخ بذلك ويحتمل أن يقال أن المراد بالقرآن في حديث النهى عن السفر به أي المصحف وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه وأما الجنب فيحتمل أن يقال إذا لم يقصد التلاوة جاز على أن في الاستدلال بذلك من هذه القصه نظرا فأنها واقعة عين لا عموم فيها فيقيد الجواز على ما إذا وقع احتياج إلى ذلك كالابلاغ والانذار كما في هذه القصة وأما الجواز مطلقا حيث لاضرورة فلا يتجه وسيأتي مزيد لذلك في كتاب الطهارة إن شاء الله تعالى وقد اشتملت هذه الجمل القليلة التي تضمنها هذا الكتاب على الأمر بقوله أسلم والترغيب بقوله تسلم ويؤتك والزجر بقوله فإن توليت والترهيب بقوله فإن عليك والدلالة بقوله يا أهل الكتاب وفي ذلك من البلاغة ما لا يخفى وكيف لا وهو كلام من أوتى جوامع الكلم صلى الله عليه وسلم قوله فلما قال ما قال يحتمل أن يشير بذلك إلى الأسئلة والأجوبة ويحتمل أن يشير بذلك إلى القصة التي ذكرها بن الناطور بعد والضمائر كلها تعود على هرقل والصخب اللفظ وهو اختلاط الأصوات في المخاصمة زاد في الجهاد فلا أدرى ما قالوا قوله فقلت لأصحابي زاد في الجهاد حين خلوت بهم قوله أمر هو بفتح الهمزة وكسر الميم أي عظم وسيأتي في تفسير سبحان وابن أبي كبشة أراد به النبي صلى الله عليه وسلم لأن أبا كبشة أحد أجداده وعادة العرب إذا انتقصت نسبت إلى جد غامض قال أبو الحسن النسابة الجرجاني هو جد وهب جد النبي صلى الله عليه وسلم لأمه وهذا فيه نظر لأن وهبا جد النبي صلى الله عليه وسلم اسم أمه عاتكة بنت الأوقص بن مرة بن هلال ولم يقل أحد من أهل النسب أن الأوقص يكنى أبا كبشة وقيل هو جد عبد المطلب لأمه وفيه نظر أيضا لأن أم عبد المطلب سلمى بنت عمرو بن زيد الخزرجي ولم يقل أحد من أهل النسب إن عمرو بن زيد يكنى أبا كبشة ولكن ذكر بن حبيب في المجتبى جماعة من أجداد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أبيه ومن قبل أمه كل واحد منهم يكنى أبا كبشة وقيل هو أبوه من الرضاعة واسمه الحارث بن عبد العزي قاله أبو الفتح الأزدي وابن ماكولا وذكر يونس بن بكير عن بن إسحاق عن أبيه عن رجال من قومه أنه أسلم وكانت له بنت تسمى كبشة يكنى بها وقال بن قتيبة والخطابي والدارقطني هو رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان فعبد الشعرى فنسبوه إليه للاشتراك في مطلق المخالفة وكذا قاله الزبير قال واسمه رجز بن عامر بن غالب قوله أنه يخافه هو بكسر الهمزة استئنافا تعليليا لا بفتحها ولثبوت اللام في ليخافه في رواية أخرى قوله ملك بني الأصفر هم الروم ويقال إن جدهم روم بن عيص تزوج بنت ملك الحبشة فجاء لون ولده بين البياض والسواد فقيل له الأصفر حكاه بن الأنباري وقال بن هشام في التيجان إنما لقب الأصفر لأن جدته سارة زوج إبراهيم حلته بالذهب قوله فما زلت موقنا زاد في حديث عبد الله بن شداد عن أبي سفيان فما زلت مرعوبا من محمد حتى أسلمت أخرجه الطبراني قوله حتى ادخل الله على الإسلام أي فاظهرت ذلك اليقين وليس المراد أن ذلك اليقين ارتفع قوله وكان بن الناطور هو بالطاء المهملة وفي رواية الحموي بالظاء المعجمة وهو بالعربية حارس البستان ووقع في رواية الليث عن يونس بن ناطورا بزيادة ألف في آخره فعلى هذا هو اسم اعجمي تنبيه الواو في قوله وكان عاطفة والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله فذكر الحديث ثم قال الزهري وكان بن الناطور يحدث فذكر هذه القصة فهي موصولة إلى بن الناطور لا معلقة كما زعم بعض من لا عناية له بهذا الشأن وكذلك أغرب بعض المغاربة فزعم أن قصة بن الناطور مروية بالإسناد المذكور عن أبي سفيان عنه لأنه لما رآها لا تصريح فيها بالسماع حملها على ذلك وقد بين أبو نعيم في دلائل النبوة أن الزهري قال لقيته بدمشق في زمن عبد الملك بن مروان وأظنه لم يتحمل عنه ذلك الا بعد أن أسلم وإنما وصفه بكونه كان سقفا لينبه على أنه كان مطلعا على اسرارهم عالما بحقائق أخبارهم وكأن الذي جزم بأنه من رواية الزهري عن عبيد الله اعتمد على ما وقع في سيرة بن إسحاق فإنه قدم قصة بن الناطور هذه على حديث أبي سفيان فعنده عن عبيد الله عن بن عباس أن هرقل أصبح خبيث النفس فذكر نحوه وجزم الحفاظ بما ذكرته أولا وهذا مما ينبغي أن يعد فيما وقع من الادراج أول الخبر والله أعلم قوله صاحب ايلياء أي أميرها هو منصوب على الاختصاص أو الحال أو مرفوع على الصفة وهي رواية أبي ذر والإضافة التي فيه تقوم مقام التعريف وقول من زعم أنها في تقدير الانفصال في مقام المنع وهرقل معطوف على إيلياء وأطلق عليه الصحبة له إما بمعنى التبع وأما بمعنى الصداقة وفيه استعمال صاحب في معنيين مجازي وحقيقي لأنه بالنسبة إلى إيلياء أمير وذاك مجاز وبالنسبة إلى هرقل تابع وذلك حقيقة قال الكرماني وإرادة المعنيين الحقيقي والمجازي من لفظ واحد جائز عند الشافعي وعند غيره محمول على إرادة معنى شامل لهما وهذا يسمى عموم المجاز وقوله سقفا بضم السين والقاف كذا في رواية غير أبي ذر وهو منصوب على أنه خبر كان و يحدث خبر بعد خبر وفي رواية الكشميهني سقف بكسر القاف على ما لم يسم فاعله وفي رواية المستملى والسرخسي مثله لكن بزيادة ألف في أوله والاسقف والسقف لفظ أعجمى ومعناه رئيس دين النصارى وقيل عربي وهو الطويل في انحناء وقيل ذلك للرئيس لأنه يتخاشع وقال بعضهم لا نظير له في وزنه الا الأسرب وهو الرصاص لكن حكى بن سيده ثالثا وهو الاسكف للصانع ولا يرد الأترج لأنه جمع والكلام إنما هو في المفرد وعلى رواية أبي ذر يكون الخبر الجملة التي هي يحدث أن هرقل فالواو في قوله وكان عاطفة والتقدير عن الزهري أخبرني عبيد الله بن عبد الله فذكر حديث أبي سفيان بطوله ثم قال الزهري وكان بن الناطور يحدث وهذا صورة الإرسال قوله حين قدم إيلياء يعني في هذه الأيام وهي عند غلبة جنوده على جنود فارس وإخراجهم وكان ذلك في السنة التي اعتمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عمرة الحديبية وبلغ المسلمين نصرة الروم على فارس ففرحوا وقد ذكر الترمذي وغيره القصة مستوفاة في تفسير قوله تعالى ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله وفي أول الحديث في الجهاد عند المؤلف الإشارة إلى ذلك قوله خبيث النفس أي رديء النفس غير طيبها أي مهموما وقد تستعمل في كسل النفس وفي الصحيح لا يقولن أحدكم خبثت نفسي كأنه كره اللفظ والمراد بالخطاب المسلمون وأما في حق هرقل فغير ممتنع وصرح في رواية بن إسحاق بقولهم له لقد أصبحت مهموما والبطارقة جمع بطريق بكسر أوله وهم خواص دولة الروم قوله جزاء بالمهملة وتشديد الزاي آخره همزة منونة أي كاهنا يقال حزا بالتخفيف يحزو حزوا أي تكهن وقوله ينظر في النجوم إن جعلتها خبرا ثانيا صح لأنه كان ينظر في الامرين وإن جعلتها تفسيرا للأول فالكهانة تارة تستند إلى إلقاء الشياطين وتارة تستفاد من أحكام النجوم وكان كل من الامرين في الجاهلية شائعا ذائعا إلى أن أظهر الله الإسلام فانكسرت شوكتهم وأنكر الشرع الاعتماد عليهم وكان ما اطلع عليه هرقل من ذلك بمقتضى حساب المنجمين أنهم زعموا أن المولد النبوي كان بقران العلويين ببرج العقرب وهما يقترنان في كل عشرين سنة مرة إلى أن تستوفى المثلثة بروجها في ستين سنة فكان ابتداء العشرين الأولى المولد النبوي في القران المذكور وعند تمام العشرين الثانية مجيء جبريل بالوحي وعند تمام الثالثة فتح خبير وعمرة القضية التي جرت فتح مكة وظهور الإسلام وفي تلك الأيام رأى هرقل ما رأى ومن جملة ما ذكروه أيضا أن برج العقرب مائي وهو دليل ملك القوم الذين يختتنون فكان ذلك دليلا على انتقال الملك إلى العرب وأما اليهود فليسوا مرادا هنا لأن هذا لمن ينقل إليه الملك لا لمن انقضى ملكه فإن قيل كيف ساغ للبخاري إيراد هذا الخبر المشعر بتقوية أمر المنجمين والاعتماد على ما تدل عليه احكامهم فالجواب أنه لم يقصد ذلك بل قصد أن يبين أن الإشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم جاءت من كل طريق وعلى لسان كل فريق من كاهن أو منجم محق أو مبطل أنسى أو جنى وهذا من أبدع ما يشير إليه عالم أو يجنح إليه محتج وقد قيل إن الحزاء هو الذي ينظر في الأعضاء وفي خيلان الوجه فيحكم على صاحبها بطريق الفراسة وهذا إن ثبت فلا يلزم منه حصره في ذلك بل اللائق بالسياق في حق هرقل ما تقدم قوله ملك الختان بضم الميم واسكان اللام وللكشميهني بفتح الميم وكسر اللام قوله قد ظهر أي غلب يعني دله نظره في حكم النجوم على أن ملك الختان قد غلب وهو كما قال لأن في تلك الأيام كان ابتداء ظهور النبي صلى الله عليه وسلم إذ صالح كفار مكة بالحديبية وأنزل الله تعالى عليه إنا فتحنا لك فتحا بينا إذ فتح مكة كان سببه نقض قريش العهد الذي كان بينهم بالحديبية ومقدمة الظهور ظهور قوله من هذه الأمة أي من أهل هذا العصر وإطلاق الأمة على أهل العصر كلهم فيه تجوز وهذا بخلاف قوله بعد هذا ملك هذه الأمة قد ظهر فإن مراده به العرب خاصة والحصر في قولهم إلا اليهود هو بمقتضى علمهم لأن اليهود كانوا بإيلياء وهي بيت المقدس كثيرين تحت الذلة مع الروم بخلاف العرب فأنهم وإن كان منهم من هو تحت طاعة ملك الروم كآل غسان لكنهم كانوا ملوكا برأسهم قوله فلا يهمنك بضم أوله من أهم أثار الهم وقوله شأنهم أي أمرهم و مدائن جمع مدينة قال أبو على الفارسي من جعله فعيلة من قولك مدن بالمكان أي أقام به همزة كقبائل ومن جعله مفعلة من قولك دين أي ملك لم يهمز كمعايش انتهى وما ذكره في معايش هو المشهور وقد روى خارجة عن نافع القارئ الهمز في معايش وقال القزاز من همزها توهمها من فعيلة لشبهها بها في اللفظ انتهى قوله فبينما هم على أمرهم أي في هذه المشورة قوله أتى هرقل برجل لم يذكر من أحضره وملك غسان هو صاحب بصري الذي قدمنا ذكره وأشرنا إلى أن بن السكن روى أنه أرسل من عنده عدي بن حاتم فيحتمل أن يكون هو المذكور والله أعلم قوله عن خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر ذلك بن إسحاق في روايته فقال خرج من بين أظهرنا رجل يزعم أنه نبي فقد اتبعه ناس وخالفه ناس فكانت بينهم ملاحم في مواطن فتركتهم وهم على ذلك فبين ما أجمل في حديث الباب لأنه يوهم أن ذلك كان في أوائل ما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم وفي روايته أنه قال جردوه فإذا هو مختتن فقال هذا والله الذي رأيته أعطه ثوبه قوله هم يختتنون في رواية الأصيلي هم مختتنون بالميم والأول أفيد وأشمل قوله هذا ملك هذه الأمة قد ظهر كذا لأكثر الرواة بالضم ثم السكون وللقابسى بالفتح ثم الكسر ولأبي ذر عن الكشميهني وحده يملك فعل مضارع قال القاضي أظنها ضمة الميم اتصلت بها فتصحفت ووجهه السهيلي في أماليه بأنه مبتدأ وخبر أي هذا المذكور يملك هذه الأمة وقيل يجوز أن يكون يملك نعتا أي هذا رجل يملك هذه الأمة وقال شيخنا يجوز أن يكون المحذوف هو الموصول على رأى الكوفيين أي هذا الذي يملك وهو نظير قوله وهذا تحملين طليق على أن الكوفيين يجوزون استعمال اسم الإشارة بمعنى الاسم الموصول فيكون التقدير الذي يملك من غير حذف قلت لكن اتفاق الرواة على حذف الياء في أوله دال على ما قال القاضي فيكون شاذا على أنني رأيت في أصل معتمد وعليه علامة السرخسي بباء موحدة في أوله وتوجي