كتاب الإيمان
 كتاب الإيمان
باب بيان الإِيمان والإِسلام والإِحسان ووجوب الإِيمان بإِثبات قدَر الله سبحانه وتعالى. وبَيان الدليل على التّبَرّي ممن لا يؤمن بالقدر، وإغلاظ القول في حقه
قَالَ أَبُو الْحُسَيْنِ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجّاجِ الْقُشَيْرِيّ رَحِمَهُ الله : بِعَوْنِ الله نَبْتَدِئُ، وَإِيّاهُ نَسْتَكْفِي، وَمَا تَوْفِيقُنَا إِلاّ بِالله جَلّ جَلاَلُهُ. أهم ما يذكر في الباب اختلاف العلماء في الإيمان والإسلام وعمومهما وخصوصهما، وأن الإيمان يزيد وينقص أم لا؟ وأن الأعمال من الإيمان أم لا؟ وقد أكثر العلماء رحمهم الله تعالى من المتقدمين والمتأخرين القول في كل ما ذكرناه، وأنا أقتصر على نقل أطراف من متفرقات كلامهم يحصل منها مقصود ما ذكرته مع زيادات كثيرة، قال الإمام أبو سليمان أحمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي البستي الفقيه الأديب الشافعي المحقق رحمه الله في كتابه معالم السنن: ما أكثر ما يغلط الناس في هذه المسألة، فأما الزهري فقال: الإسلام الكلمة، والإيمان العمل، واحتج بالاَية يعني قوله سبحانه وتعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} وذهب غيره إلى أن الإسلام والإيمان شيء واحد، واحتج بقوله تعالى: {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين}.
قال الخطابي: وقد تكلم في هذا الباب رجلان من كبراء أهل العلم، وصار كل واحد منهما إلى قول من هذين، ورد الاَخر منهما على المتقدم، وصنف عليه كتابا يبلغ عدد أوراقه المئين. قال الخطابي: والصحيح من ذلك أن يقيد الكلام في هذا ولا يطلق، وذلك أن المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال ولا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، فكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمنا، وإذا حملت الأمر على هذا استقام لك تأويل الاَيات واعتدل القول فيها، ولم يختلف شيء منها، وأصل الإيمان التصديق، وأصل الإسلام الاستسلام والانقياد، فقد يكون المرء مستسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن، وقد يكون صادقا في الباطن غير منقاد في الظاهر. وقال الخطابي أيضا في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" في هذا الحديث بيان أن الإيمان الشرعي اسم لمعنى ذي شعب وأجزاء له أدنى وأعلى، والاسم يتعلق ببعضها كما يتعلق بكلها، والحقيقة تقتضي جميع شعبه، وتستوفي جملة أجزائه، كالصلاة الشرعية لها شعب وأجزاء، والاسم يتعلق ببعضها، والحقيقة تقتضي جميع أجزائها وتستوفيها، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الحياء شعبة من الإيمان". وفيه إثبات التفاضل في الإيمان، وتباين المؤمنين في درجاته، هذا آخر كلام الخطابي.
وقال الإمام أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشافعي رحمه الله في حديث سؤال جبريل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان والإسلام وجوابه قال: جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك، لأن الأعمال ليست من الإيمان، والتصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "ذاك جبريل أتاكم يعلمكم دينكم". والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} و{رضيت لكم الإسلام دينا} {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه} فأخبر سبحانه وتعالى أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولا يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل، هذا كلام البغوي.
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن محمد بن الفضل التميمي الأصبهاني الشافعي رحمه الله في كتابه التحرير في شرح صحيح مسلم: الإيمان في اللغة هو التصديق، فإن عنى به ذلك فلا يزيد ولا ينقص، لأن التصديق ليس شيئا يتجزأ حتى يتصور كماله مرة ونقصه أخرى، والإيمان في لسان الشرع هو التصديق بالقلب والعمل بالأركان، وإذا فسر بهذا تطرق إليه الزيادة والنقص وهو مذهب أهل السنة، قال: فالخلاف في هذا على التحقيق إنما هو أن المصدق بقلبه إذا لم يجمع إلى تصديقه العمل بمواجب الإيمان هل يسمى مؤمنا مطلقا أم لا؟ والمختار عندنا أنه لا يسمى به، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" لأنه لم يعمل بموجب الإيمان فيستحق هذا الإطلاق، هذا آخر كلام صاحب التحرير.
وقال الإمام أبو الحسن علي بن خلف بن بطال المالكي المغربي في شرح صحيح البخاري مذهب جماعة أهل السنة من سلف الأمة وخلفها: أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والحجة على زيادته ونقصانه ما أورده البخاري من الاَيات يعني قوله عز وجل: {ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم}. وقوله تعالى: {وزدناهم هدى}. وقوله تعالى: {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى}. وقوله تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى}. وقوله تعالى: {ويزداد الذين آمنوا إيمانا}. وقوله تعالى: {أيكم زادته هذه إيمانا فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا} وقوله تعالى: {فاخشوهم فزادهم إيمانا}. وقوله تعالى: {وما زادهم إلا إيمانا وتسليما}. قال ابن بطال: فإيمان من لم تحصل له الزيادة ناقص، قال: فإن قيل: الإيمان في اللغة التصديق، فالجواب: أن التصديق يكمل بالطاعات كلها، فما ازداد المؤمن من أعمال البر كان إيمانه أكمل، وبهذه الجملة يزيد الإيمان، وبنقصانها ينقص، فمتى نقصت أعمال البر نقص كمال الإيمان، ومتى زادت زاد الإيمان كمالاً، هذا توسط القول في الإيمان. وأما التصديق بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا ينقص، ولذلك توقف مالك رحمه الله في بعض الروايات عن القول بالنقصان، إذ لا يجوز نقصان التصديق، لأنه إذا نقص صار شكا وخرج عن اسم الإيمان. وقال بعضهم: إنما توقف مالك عن القول بنقصان الإيمان خشية أن يتأول عليه موافقة الخوارج الذين يكفرون أهل المعاصي من المؤمنين بالذنوب، وقد قال مالك بنقصان الإيمان مثل قول جماعة أهل السنة. قال عبد الرزاق: سمعت من أدركت من شيوخنا وأصحابنا سفيان الثوري ومالك بن أنس وعبيد الله بن عمر والأوزاعي ومعمر بن راشد وابن جريح وسفيان بن عيينة يقولون: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، وهذا قول ابن مسعود وحذيفة والنخعي والحسن البصري وعطاء وطاوس ومجاهد وعبد الله بن المبارك، فالمعنى الذي يستحق به العبد المدح والولاية من المؤمنين هو إتيانه بهذه الأمور الثلاثة: التصديق بالقلب، والإقرار باللسان، والعمل بالجوارح، وذلك أنه لا خلاف بين الجميع أنه لو أقر وعمل على غير علم منه ومعرفة بربه لا يستحب اسم مؤمن، ولو عرفه وعمل وجحد بلسانه وكذب ما عرف من التوحيد لا يستحق اسم مؤمن، وكذلك إذا أقر بالله تعالى وبرسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ولم يعمل بالفرائض لا يسمى مؤمنا بالإطلاق، وإن كان في كلام العرب يسمى مؤمنا بالتصديق، فذلك غير مستحق في كلام الله تعالى لقوله عز وجل: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقا}. فأخبرنا سبحانه وتعالى أن المؤمن من كانت هذه صفته. وقال ابن بطال في باب من قال: الإيمان هو العمل، فإن قيل: قد قدمتم أن الإيمان هو التصديق، قيل: التصديق هو أول منازل الإيمان، ويوجب للمصدق الدخول فيه، ولا يوجب له استكمال منازله، ولا يسمى مؤمنا مطلقا، هذا مذهب جماعة أهل السنة أن الإيمان قول وعمل. قال أبو عبيد: وهو قول مالك والثوري والأوزاعي ومن بعدهم من أرباب العلم والسنة الذين كانوا مصابيح الهدى وأئمة الدين من أهل الحجاز والعراق والشام وغيرهم. قال ابن بطال: وهذا المعنى أراد البخاري رحمه الله إثباته في كتاب الإيمان، وعليه بوب أبوابه كلها فقال: باب أمور الإيمان، وباب الصلاة من الإيمان، وباب الزكاة من الإيمان، وباب الجهاد من الإيمان، وسائر أبوابه. وإنما أراد الرد على المرجئة في قولهم: إن الإيمان قول بلا عمل، وتبيين غلطهم وسوء اعتقادهم ومخالفتهم للكتاب والسنة ومذاهب الأئمة. ثم قال ابن بطال في باب آخر: قال المهلب: الإسلام على الحقيقة هو الإيمان الذي هو عقد القلب المصدق لإقرار اللسان الذي لا ينفع عند الله تعالى غيره. وقالت الكرامية وبعض المرجئة: الإيمان هو الإقرار باللسان دون عقد القلب، ومن أقوى ما يرد به عليهم إجماع الأمة على إكفار المنافقين وإن كانوا قد أظهروا الشهادتين، قال الله تعالى: {ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله، إلى قوله تعالى: وتزهق أنفسهم وهم كافرون} هذا آخر كلام ابن بطال.
وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، والإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاَخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال: هذا بيان لأصل الإيمان وهو التصديق الباطن، وبيان لأصل الإسلام وهو الاستسلام والانقياد الظاهر، وحكم الإسلام في الظاهر ثبت بالشهادتين، وإنما أضاف إليهما الصلاة والزكاة والحج والصوم لكونها أظهر شعائر الأسلام وأعظمها، وبقيامه بها يتم استسلامه، وتركه لها يشعر بانحلال قيد انقياده أو اختلاله، ثم إن اسم الإيمان يتناول ما فسر به الإسلام في هذا الحديث وسائر الطاعات، لكونها ثمرات للتصديق الباطن الذي هو أصل الإيمان، ومقويات ومتممات وحافظات له، ولهذا فسر صلى الله عليه وسلم الإيمان في حديث وفد عبد القيس بالشهادتين والصلاة والزكاة وصوم رمضان وإعطاء الخمس من المغنم، ولهذا لا يقع اسم المؤمن المطلق على من ارتكب كبيرة أو بدل فريضة، لأن اسم الشيء مطلقا يقع على الكامل منه، ولا يستعمل في الناقص ظاهرا إلا بقيد، ولذلك جاز إطلاق نفيه عنه في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن" واسم الإسلام يتناول أيضا ما هو أصل الإيمان وهو التصديق الباطن، ويتناول أصل الطاعات، فإن ذلك كله استسلام. قال: فخرج مما ذكرناه وحققنا أن الإيمان والإسلام يجتمعان ويفترقان، وأن كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا. قال: وهذا تحقيق وافر بالتوفيق بين متفرقات نصوص الكتاب والسنة الواردة في الإيمان والإسلام التي طالما غلط فيها الخائضون، وما حققناه من ذلك موافق لجماهير العلماء من أهل الحديث وغيرهم، هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح، فإذا تقرر ما ذكرناه من مذاهب السلف وأئمة الخلف فهي متظاهرة متطابقة على كون الإيمان يزيد وينقص، وهذا مذهب السلف والمحدثين وجماعة من المتكلمين، وأنكر أكثر المتكلمين زيادته ونقصانه وقالوا: متى قبل الزيادة كان شكا وكفرا، قال المحققون من أصحابنا المتكلمين: نفس التصديق لا يزيد ولا ينقص، والإيمان الشرعي يزيد وينقص بزيادة ثمراته وهي الأعمال ونقصانها، قالوا: وفي هذا توفيق بين ظواهر النصوص التي جاءت بالزيادة وأقاويل السلف، وبين أصل وضعه في اللغة وما عليه المتكلمون، وهذا الذي قاله هؤلاء وإن كان ظاهرا حسنا فالأظهر والله أعلم أن نفس التصديق يزيد بكثرة النظر وتظاهر الأدلة، ولهذا يكون إيمان الصديقين أقوى من إيمان غيرهم، بحيث لا تعتريهم الشبه، ولا يتزلزل إيمانهم بعارض، بل لا تزال قلوبهم منشرحة وإن اختلفت عليهم الأحوال، وأما غيرهم من المؤلفة ومن قاربهم ونحوهم فليسوا كذلك، فهذا مما لا يمكن إنكاره، ولا يتشكك عاقل في أن نفس تصديق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لا يساويه تصديق آحاد الناس، ولهذا قال البخاري في صحيحه: قال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول إنه على إيمان جبريل وميكائيل والله أعلم.
وأما إطلاق اسم الإيمان على الأعمال فمتفق عليه عند أهل الحق، ودلائله في الكتاب والسنة أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تشهر، قال الله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} أجمعوا على أن المراد صلاتكم. وأما الأحاديث فستمر بك في هذا الكتاب منها جمل مستكثرات والله أعلم. واتفق أهل السنة من المحدثين والفقهاء والمتكلمين على أن المؤمن الذي يحكم بأنه من أهل القبلة ولا يخلد في النار لا يكون إلا من اعتقد بقلبه دين الإسلام اعتقادا جازما خاليا من الشكوك ونطق بالشهادتين، فإن اقتصر على إحداهما لم يكن من أهل القبلة أصلاً إلا إذا عجز عن النطق لخلل في لسانه أو لعدم التمكن منه لمعاجلة المنية أو لغير ذلك فإنه يكون مؤمنا، أما إذا أتى بالشهادتين فلا يشترط معهما أن يقول: وأنا بريء من كل دين خالف الإسلام إلا إذا كان من الكفار الذين يعتقدون اختصاص رساله نبينا صلى الله عليه وسلم إلى العرب فإنه لا يحكم بإسلامه إلا بأن يتبرأ، ومن أصحابنا أصحاب الشافعي رحمه الله من شرط أن يتبرأ مطلقا وليس بشيء، أما إذا اقتصر على قوله: لا إله إلا الله ولم يقل محمد رسول الله فالمشهور من مذهبنا ومذاهب العلماء أنه لا يكون مسلما، ومن أصحابنا من قال: يكون مسلما ويطالب بالشهادة الأخرى فإن أبى جعل مرتدا، ويحتج لهذا القول بقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم" وهذا محمول عند الجماهير على قول الشهادتين واستغنى بذكر إحداهما عن الأخرى لارتباطهما وشهرتهما والله أعلم. أما إذا أقر بوجوب الصلاة أو الصوم أو غيرهما من أركان الإسلام وهو على خلاف ملته التي كان عليها فهل يجعل بذلك مسلما؟ فيه وجهان لأصحابنا: فمن جعله مسلما قال كل ما يكفر المسلم بإنكاره يصير الكافر بالإقرار به مسلما، أما إذا أقر بالشهادتين بالعجمية وهو يحسن العربية فهل يجعل بذلك مسلما؟ فيه وجهان لأصحابنا الصحيح منهما أنه يصير مسلما لوجود الإقرار، وهذا الوجه هو الحق، ولا يظهر للاَقرار، وهذا الوجه هو الحق، ولا يظهر للاَخر وجه، وقد بينت ذلك مستقصى في شرح المهذب والله أعلم. واختلف العلماء من السلف وغيرهم في إطلاق الإنسان قوله: أنا مؤمن، فقالت طائفة: لا يقول أنا مؤمن مقتصرا عليه بل يقول أنا مؤمن إن شاء الله. وحكى هذا المذهب بعض أصحابنا عن أكثر أصحابنا المتكلمين، وذهب آخرون إلى جواز الإطلاق وأنه لا يقول إن شاء الله وهذا هو المختار، وقول أهل التحقيق وذهب الأوزاعي وغيره إلى جواز الأمرين والكل صحيح باعتبارات مختلفة، فمن أطلق نظر إلى الحال، وأحكام الإيمان جارية عليه في الحال، ومن قال إن شاء الله فقالوا: فيه: هو إما للتبرك وإما لاعتبار العاقبة، وأما قدر الله تعالى فلا يدري أيثبت على الإيمان أم يصرف عنه؟ والقول بالتخيير حسن صحيح، نظرا إلى مأخذ القولين الأولين ورفعا لحقيقة الخلاف. وأما الكافر ففيه خلاف غريب لأصحابنا، منهم من قال: يقال هو كافر ولا يقول إن شاء الله، ومنهم من قال: هو في التقييد كالمسلم على ما تقدم، فيقال على قول التقييد هو كافر إن شاء الله نظرا إلى الخاتمة وأنها مجهولة، وهذا القول اختاره بعض المحققين والله أعلم.
*3* لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب
*واعلم أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا يكفر أهل الأهواء والبدع، وأن من جحد ما يعلم من دين الإسلام ضرورة حكم بردته وكفره، إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ونحوه ممن يخفى عليه فيعرف ذلك، فإن استمر حكم بكفره، وكذا حكم من استحل الزنا أو الخمر أو القتل أو غير ذلك من المحرمات التي يعلم تحريمها ضرورة، فهذه جمل من المسائل المتعلقة بالإيمان قدمتها في صدر الكتاب تمهيدا لكونها مما يكثر الاحتياج إليه، ولكثرة تكررها وتردادها في الأحاديث، فقدمتها لأحيل عليها إذا مررت بما يخرج عليها، والله أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة، وبه التوفيق والعصمة. قال الإمام أبو الحسين مسلم بن الحجاج رضي الله عنه:
حدّثني أَبُو خَيْثَمةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ. عَنْ كَهْمَسٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ يَعْمَرَ ح وَحَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ. وَهَذَا حَدِيثُهُ: حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا كَهْمَسٌ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: كَانَ أَوّلَ مَنْ قَالَ بِالْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيّ. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِمْيَرِيّ حَاجّيْنَ أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلْنَاهُ عَمّا يَقُولُ هَؤُلاَءِ فِي الْقَدَرِ. فَوُفّقَ لَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ دَاخِلاً الْمَسْجِدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي. أَحَدُنَا عَنْ يَمِينِهِ وَالاَخَرُ عَنْ شِمَالِهِ. فَظَنَنْتُ أَنّ صَاحِبِي سيَكِلُ الْكَلاَمَ إِليّ. فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرّحْمَنِ! إِنّهُ قَد ظَهَرَ قِبَلَنَا نَاسٌ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ وَيَتَقَفّرُونَ الْعِلْمَ. وَذَكَرَ مِنْ شَأْنِهِمْ ، وَأَنّهُمْ يَزْعَمُونَ أَنْ لاَ قَدَرَ. وأنّ الأَمْرَ أُنُفٌ. قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنّهُمْ بُرَآءُ مِنّي، وَالّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ! لَوْ أَنّ لأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبا فَأَنْفَقَهُ، مَا قَبِلَ الله مِنْهُ حَتّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ. ثُمّ قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشّعَرِ، لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السّفَرِ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنّا أَحَدٌ، حَتّى جَلَسَ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمّدُ! أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَمِ؟. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "الإِسْلاَمُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّ مُحَمّدا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَتُقِيمَ الصّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجّ الْبَيْتَ، إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً" قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ فَعَجِبْنَا لَهُ، يَسْأَلُهُ وَيُصَدّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ!. قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِالله، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الاَخِرِ، وَتُؤْمنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرّهِ" قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ؟. قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنّكَ تَرَاهُ. فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنّهُ يَرَاكَ". قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السّاعَةِ؟. قَالَ: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السّائِلِ" قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ: "أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبّتَهَا. وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ، الْعَالَةَ، رِعاءَ الشّاءِ، يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ". قَالَ ثُمّ انْطَلَقَ. فَلَبِثْتُ مَلِيّا. ثُمّ قَالَ لِي: "يَا عُمَرُ! أَتَدْرِي مَنِ السّائِلُ؟" قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنّهُ جِبْرِيلُ. أَتَاكُمْ يُعَلّمُكُمْ دِينَكُمْ".
حدّثني مُحمّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الغُبَرِيّ، وَ أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيّ، وَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ. قَالُوا: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ مَطَرٍ الْوَرّاقِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ يَعْمَرَ قَالَ: لَمّا تَكلّمَ مَعْبَدٌ بِمَا تَكَلّمَ بِهِ فِي شَأْنِ الْقَدَرِ، أَنْكَرْنَا ذَلِكَ. قَالَ فَحَجَجْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عبْدِ الرّحْمَنِ الْحِمْيَرِي حِجّةً وَسَاقُوا الْحَدِيثَ، بِمَعْنَى حَدِيثِ كَهْمَسٍ وَإِسْنَادِهِ. وَفِيهِ بَعْضُ زِيَادةٍ وَنُقْصَانُ أَحْرُفٍ.
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ الْقَطّانُ: حَدّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِياثٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ يَعْمَرَ، وَ حُميْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالاَ: لَقِينَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ. فَذَكَرْنَا الْقَدَرَ وَمَا يَقُولُونَ فِيهِ. فَاقْتَصّ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ حَدِيثِهمْ. عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ زِيَادَةٍ، وَقَدْ نَقَصَ مِنْهُ شَيْئا. وحدّثني حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ: حَدّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحمّدٍ: حَدّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ يَعْمَرَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَن عُمَرَ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثهمْ. وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَ زُهيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعا عَنِ ابْنِ عُلَيّةَ، قَال زُهَيْرٌ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي حَيّانَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْما بَارِزا لِلنّاسِ. فَأَتَاهُ رَجُلٌ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ الاَخِرِ" قَالَ يَا رَسُولَ اللّهِ! مَا الإِسْلاَمُ؟ قَالَ: "الإِسْلاَمُ أَنْ تَعْبُدَ الله لاَ تُشْرِكَ بِهِ شَيْئا، وَتُقِيمَ الصّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدّيَ الزّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَعْبُدَ الله كَأَنّكَ تَرَاهُ. فَإِنّكَ إِنْ لاَ تَرَاهُ فَإِنّهُ يَرَاكَ". قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! مَتَى السّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السّائِلِ. وَلَكِنْ سَأُحَدّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبّهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا. وَإِذَا كَانَتِ الْعُرَاةُ الْحُفَاةُ رُؤسَ النّاسِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا. وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَانِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا، فِي خَمْسٍ لاَ يَعْلَمُهُنّ إِلاّ الله" ثُمّ تَلاَ صلى الله عليه وسلم: {إِنّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ. إِنّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان آية: ). قَالَ ثُمّ أَدْبَرَ الرّجُلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "رُدّوا عَلَيّ الرّجُلَ" فَأَخَذُوا لِيَرُدّوهُ فَلَمْ يَرَوْا شَيْئا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذَا جِبْرِيلُ. جَاءَ لِيُعَلّمَ النّاسَ دِينَهُمْ".
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمْيرٍ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ بِشْرٍ: حَدّثَنَا أَبُو حَيّانَ التّيْمِيّ بِهَذا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنّ فِي رِوَايَتِهِ: إِذَا ولَدَتِ الأَمَةُ بَعْلَهَا" يَعْني السّرَارِيّ. حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ عُمَارَةَ (وَهُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ)، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَلُونِي" فَهَابُوهُ أَنْ يَسْأَلُوهُ. فَجَاءَ رَجُلٌ، فَجَلَسَ عِنْدَ رُكْبَتَيْهِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! مَا الإِسْلاَمُ؟ قَالَ: "لاَ تُشْرِكُ بِاللّهِ شَيْئا، وَتُقِيمُ الصّلاَةَ. وَتُؤْتِي الزّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ". قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! مَا الإِيمَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تُؤْمِنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكِتَابِهِ وَلِقَائِهِ وَرُسُلِهِ وَتُؤْمِنَ بِالْبَعْثِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلّهِ" قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا الإِحْسَانُ؟ قَالَ: "أَنْ تَخْشَى الله كَأَنّكَ تَرَاهُ. فَإِنّكَ إِنْ لاَ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنّهُ يَرَاكَ". قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! مَتَى تَقُومُ السّاعَةُ؟ قَالَ: "مَا الْمَسْؤُلُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السّائِلِ. وَسَأُحَدّثُكَ عَنْ أَشْرَاطِهَا: إِذَا رَأَيْتَ الْمَرْأَةَ تَلِدُ رَبّهَا، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا. وَإِذَا رَأَيْتَ الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الصّمّ الْبُكْمَ مُلُوكَ النّاسِ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا. وَإِذَا رَأَيْتَ رِعَاءَ الْبَهْمِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ، فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا. فِي خَمْسٍ مِنَ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهُنّ إِلاّ الله" ثُمّ قَرَأَ {إِنّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السّاعَةِ وَيُنَزّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيّ أَرْضٍ تَمُوتُ. إِنّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (لقمان آية: ). قَالَ: ثُمّ قَامَ الرّجُلُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "رُدّوهُ عَلَيّ" فَالْتُمِسَ، فَلَمْ يَجِدُوهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "هَذَا جِبْرِيلُ أَرَادَ أَنْ تَعَلّمُوا. إِذَ لَمْ تَسْأَلُوا".
حدثني أبو خيثمة زهير بن حرب، ثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر ح وثنا وعبيد الله بن معاذ العنبري وهذا حديثه: ثنا أبي ثنا كهمس عن ابن بريدة عن يحيى بن يعمر قال: كان أول من قال في القدر بالبصرة معبد الجهني إلى آخر الحديث) اعلم أن مسلما رحمه الله سلك في هذا الكتاب طريقة في الإتقان والاحتياط والتدقيق والتحقيق، مع الاختصار البليغ والإيجاز التام في نهاية من الحسن، مصرحة بغزارة علومه ودقة نظره وحذقه، وذلك يظهر في الإسناد تارة، وفي المتن تارة، وفيهما تارة، فينبغي للناظر في كتابه أن يتنبه لما ذكرته، فإنه يجد عجائب من النفائس والدقائق تقر بآحاد أفرادها عينه، وينشرح لها صدره، وتنشطه للاشتغال بهذا العلم. واعلم أنه لا يعرف أحد شارك مسلما في هذه النفائس التي يشير إليها من دقائق علم الإسناد. وكتاب البخاري وإن كان أصح وأجل وأكثر فوائد في الأحكام والمعاني، فكتاب مسلم يمتاز بزوائد من صنعة الإسناد، وسترى مما أنبه عليه من ذلك ما ينشرح له صدرك، ويزداد به الكتاب ومصنفه في قلبك جلالة إن شاء الله تعالى، فإذا تقرر ما قلته ففي هذه الأحرف التي ذكرها من الإسناد أنواع مما ذكرته، فمن ذلك أنه قال أولاً: حدثني أبو خيثمة، ثم قال في الطريق الاَخر: وحدثنا عبيد الله بن معاذ، ففرق بين حدثني وحدثنا، وهذا تنبيه على القاعدة المعروفة عند أهل الصنعة، وهي أنه يقول فيما سمعه وحده من لفظ الشيخ حدثني، وفيما سمعه مغ غيره من لفظ الشيخ حدثنا، وفيما قرأه وحده على الشيخ أخبرني، وفيما قرئ بحضرته في جماعة على الشيخ أخبرنا، وهذا اصطلاح معروف عندهم، وهو مستحب عندهم، ولو تركه وأبدل حرفا من ذلك بآخر صح السماع ولكن ترك الأولى والله أعلم. ومن ذلك أنه قال في الطريق الأول: حدثنا وكيع عن كهمس عن عبد الله بن بريدة عن يحيى بن يعمر. ثم في الطريق الثاني أعاد الرواية عن كهمس عن ابن بريدة عن يحيى، فقد يقال: هذا تطويل لا يليق بإتقان مسلم واختصاره، فكان ينبغي أن يقف بالطريق الأول على وكيع، ويجتمع معاذ ووكيع في الرواية عن كهمس عن ابن بريدة، وهذا الاعتراض فاسد لا يصدر إلا من شديد الجهالة بهذا الفن، فإن مسلما رحمه الله يسلك الاختصار، لكن بحيث لا يحصل خلل ولا يفوت به مقصود، وهذا الموضع يحصل في الاختصار فيه خلل، ويفوت به مقصود، وذلك لأن وكيعا قال عن كهمس، ومعاذ قال حدثنا كهمس، وقد علم بما قدمناه في باب المعنعن أن العلماء اختلفوا في الاحتجاج بالمعنعن ولم يختلفوا في المتصل بحدثنا، فأتى مسلم بالروايتين كما سمعتا، ليعرف المتفق عليه من المختلف فيه، وليكون راويا باللفظ الذي سمعه، ولهذا نظائر في مسلم ستراها مع التنبيه عليها إن شاء الله تعالى. وإن كان مثل هذا ظاهرا لمن له أدنى اعتناء بهذا الفن، إلا أني عليه لغيرهم ولبعضهم ممن قد يغفل ولكلهم من جهة أخرى، وهو أنه يسقط عنهم النظر وتحرير عبارة عن المقصود، وهنا مقصود آخر، وهو أن في رواية وكيع قال: عن عبد الله بن بريدة، وفي رواية معاذ قال: عن ابن بريدة، فلو أتى بأحد اللفظين حصل خلل، فإنه إن قال: ابن بريدة لم ندر ما اسمه؟ وهل هو عبد الله هذا أو أخوه سليمان بن بريدة؟ وإن قال: عبد الله بن بريدة كان كاذبا على معاذ فإنه ليس في روايته عبد الله والله أعلم. وأما قوله في الرواية الأولى عن يحيى بن يعمر فلا يظهر لذكره أولاً فائدة، وعادة مسلم وغيره في مثل هذا أن لا يذكروا يحيى بن يعمر، لأن الطريقين اجتمعتا في ابن بريدة، ولفظهما عنه بصيغة واحدة، إلا أني رأيت في بعض النسخ في الطريق الأولى عن يحيى فحسب وليس فيها ابن يعمر، فإن صح هذا فهو مزيل للإنكار الذي ذكرناه فإنه يكون فيه فائدة كما قررناه في ابن بريدة والله أعلم. ومن ذلك قوله: وحدثنا عبيد الله بن معاذ وهذا حديثه فهذه عادة لمسلم رحمه الله قد أكثر منها، وقد استعملها غيره قليلاً، وهي مصرحة بما ذكرته من تحقيقه وورعه واحتياطه ومقصوده أن الراويين اتفقا في المعنى واختلفا في بعض الألفاظ، وهذا لفظ فلان والاَخر بمعناه والله أعلم.
وأما قوله: (ح) بعد يحيي ابن يعمر في الرواية الأولى فهي حاء التحويل من إسناد إلى إسناد، فيقول القارئ إذا نتهى إليها ح قال: وحدثنا فلان هذا هو المختار، وقد قدمت في الفصول السابقة بيانها والخلاف فيها والله أعلم، فهذا ما حضرني في الحال في التنبيه على دقائق هذا الإسناد وهو تنبيه على ما سواه، وأرجو أن يتفطن به لما عداه، ولا ينبغي للناظر في هذا الشرح أن يسأم من شيء من ذلك يجده مبسوطا واضحا، فإني إنما أقصد بذلك إن شاء الله الكريم الإيضاح والتيسير والنصيحة لمطالعة وإعانته وإغنائه من مراجعة غيره في بيانه، وهذا مقصود الشروح فمن استطال شيئا من هذا وشبهه فهو بعيد من الإتقان مباعد للفلاح في هذا الشأن، فليعز نفسه لسوء حاله، وليرجع عما ارتكبه من قبيح فعاله، ولا ينبغي لطالب التحقيق والتنقيح والإتقان والتدقيق أن يلتفت إلى كراهة أو سآمة ذوي البطالة، وأصحاب الغباوة والمهانة والملالة، بل يفرح بما يجده من العلم مبسوطا، وما يصادفه من القواعد والمشكلات واضحا مضبوطا، ويحمد الله الكريم على تيسيره، ويدعو لجامعه الساعي في تنقيحه وإيضاحه وتقريره، وفقنا الله الكريم لمعالي الأمور، وجنبنا بفضله جميع أنواع الشرور، وجمع بيننا وبين أحبابنا في دار الحبور والسرور، والله أعلم.
وأما ضبط أسماء المذكورين في هذا الإسناد فخيثمة بفتح المعجمة وإسكان المثناة تحت وبعدها مثلثة. وأما كهمس فبفتح الكاف وإسكان الهاء وفتح الميم وبالسين المهملة، وهو كهمس بن الحسن أبو الحسن التميمي البصري. وأما يحيى بن يعمر فبفتح الميم ويقال بضمها وهو غير مصروف لوزن الفعل كنية يحيى بن يعمر أبو سليمان، ويقال أبو سعيد، ويقال أبو عدي البصري ثم المروزي قاضيها من بني عوف بن بكر بن أسد، قال الحاكم أبو عبد الله في تاريخ نيسابور: يحيى بن يعمر فقيه أديب نحوي مبرز أخذ النحو عن أبي الأسود، نفاه الحجاج إلى خراسان فقبله قتيبة بن مسلم وولاه قضاء خراسان. وأما معبد الجهني فقال أبو سعيد عبد الكريم بن محمد بن منصور السمعاني التميمي المروزي في كتابه الأنساب: الجهني بضم الجيم نسبة إلى جهينة قبيلة من قضاعة، واسمه زيد بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن قضاعة، نزلت الكوفة، وبها محلة تنسب إليهم، وبقيتهم نزلت البصرة، قال: وممن نزل جهينة فنسب إليهم معبد بن خالد الجهني كان يجالس الحسن البصري، وهو أول من تكلم في البصرة بالقدر، فسلك أهل البصرة بعده مسلكه لما رأوا عمرو بن عبيد ينتحله، قتله الحجاج بن يوسف صبرا، وقيل إنه معبد بن عبد الله بن عويمر، هذا آخر كلام السمعاني. وأما البصرة فبفتح الباء وضمها وكسرها ثلاث لغات حكاها الأزهري والمشهور الفتح، ويقال لها البصيرة بالتصغير، قال صاحب المطالع: ويقال لها تدمر، ويقال لها المؤتفكة لأنها ائتفكت بأهلها في أول الدهر، والنسب إليها بصرى بفتح الباء وكسرها وجهان مشهوران، قال السمعاني: يقال البصرة قبة الإسلام وخزانة العرب بناها عتبة بن غزوان في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه بناها سنة سبع عشرة من الهجرة، وسكنها الناس سنة ثماني عشرة، ولم يعبد الصنم قط على أرضها، هكذا كان يقول لي أبو الفضل عبد الوهاب بن أحمد بن معاوية الواعظ بالبصرة، قال أصحابنا: والبصرة داخلة في أرض سواد العراق وليس لها حكمه والله أعلم. وأما قوله: أول من قال في القدر فمعناه أول من قال بنفي القدر فابتدع وخالف الصواب الذي عليه أهل الحق، ويقال: القدر والقدر بفتح الدال وإسكانها لغتان مشهورتان، وحكاهما ابن قتيبة عن الكسائي وقالهما غيره.
واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر، ومعناه أن الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم، وعلم سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده سبحانه وتعالى وعلى صفات مخصوصة، فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى، وأنكرت القدرية هذا وزعمت أنه سبحانه وتعالى لم يقدرها ولم يتقدم علمه سبحانه وتعالى بها، وأنها مستأنفة العلم، أي إنما يعلمها سبحانه بعد وقوعها، وكذبوا على الله سبحانه وتعالى وجل عن أقوالهم الباطلة علوا كبيرا، وسميت هذه الفرقة قدرية لإنكارهم القدر. قال أصحاب المقالات من المتكلمين: وقد انقرضت القدرية القائلون بهذا القول الشنيع الباطل، ولم يبق أحد من أهل القبلة عليه، وصارت القدرية في الأزمان المتأخرة تعتقد إثبات القدر، ولكن يقولون: الخير من الله والشر من غيره تعالى الله عن قولهم. وقد حكى أبو محمد بن قتيبة في كتابه غريب الحديث، وأبو المعالي إمام الحرمين في كتابه الإرشاد في أصول الدين أن بعض القدرية قال: لسنا بقدرية بل أنتم القدرية لاعتقادكم إثبات القدر، قال ابن قتيبة والإمام: هذا تمويه من هؤلاء الجهلة ومباهتة وتواقح، فإن أهل الحق يفوضون أمورهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويضيفون القدر والأفعال إلى الله سبحانه وتعالى، وهؤلاء الجهلة يضيفونه إلى أنفسهم، ومدعي الشيء لنفسه ومضيفه إليها أولى بأن ينسب إليه ممن يعتقده لغيره وينفيه عن نفسه. قال الإمام: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القدرية مجوس هذه الأمة" شبههم بهم لتقسيهم الخير والشر في حكم الإرادة كما قسمت المجوس، فصرفت الخير إلى يزدان، والشر إلى أهرمن، ولا خفاء باختصاص هذا الحديث بالقدرية، هذا كلام الإمام وابن قتيبة. وحديث: "القدرية مجوس هذه الأمة". رواه أبو حازم عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أخرجه أبو داود في سننه، والحاكم أبو عبد الله في المستدرك على الصحيحين وقال: صحيح على شرط الشيخين إن صح سماع أبي حازم من ابن عمر. قال الخطابي: إنما جعلهم صلى الله عليه وسلم مجوسا لمضاهاة مذهبهم مذهب المجوس في قولهم بالأصلين النور والظلمة، يزعمون أن الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، فصاروا ثنوية، وكذلك القدرية يضيفون الخير إلى الله تعالى والشر إلى غيره، والله سبحانه وتعالى خالق الخير والشر جميعا، لا يكون شيء منهما إلا بمشيئته، فهما مضافان إليه سبحانه وتعالى خلقا وإيجادا، وإلى الفاعلين لهما من عباده فعلاً واكتسابا والله أعلم.
قال الخطابي: وقد يحسب كثير من الناس أن معنى القضاء والقدر إجبار الله سبحانه وتعالى العبد وقهره على ما قدره وقضاه، وليس الأمر كما يتوهمونه، وإنما معناه الإخبار عن تقدم علم الله سبحانه وتعالى بما يكون من اكتساب العبد وصدورها عن تقدير منه وخلق لها خيرها وشرها، قال: والقدر اسم لما صدر مقدرا عن فعل القادر، يقال: قدرت الشيء وقدرته بالتخفيف والتثقيل بمعنى واحد، والقضاء في هذا معناه الخلق كقوله تعالى: {فقضاهن سبع سموات في يومين} أي خلقهن، قلت: وقد تظاهرت الأدلة القطعيات من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأهل الحل والعقد من السلف والخلف على إثبات قدر الله سبحانه وتعالى، وقد أكثر العلماء من التصنيف فيه، ومن أحسن المصنفات فيه وأكثرها فوائد كتاب الحافظ الفقيه أبي بكر البيهقي رضي الله عنه، وقد قرر أئمتنا من المتكلمين ذلك أحسن تقرير بدلائلهم القطعية السمعية والعقلية والله أعلم.
قوله: (فوفق لنا عبد الله بن عمر) هو بضم الواو وكسر الفاء المشددة، قال صاحب التحرير: معناه جعل وفقا لنا، وهو من الموافقة التي هي كالالتحام، يقال: أتانا لتيفاق الهلال وميفاقه أي حين أهل لا قبله ولا بعده، وهي لفظة تدل على صدق الاجتماع والالتئام، وفي مسند أبي يعلى الموصلي: فوافق لنا بزيادة ألف والموافقة المصادفة. قوله: (فاكتنفته أنا وصاحبي) يعني صرنا في ناحيتيه، ثم فسره فقال: أحدنا عن يمينه، والاَخر عن شماله، وكنفا الطائر جناحاه، وفي هذا تنبيه على أدب الجماعة في مشيهم مع فاضلهم وهو أنهم يكتنفونه ويحفون به. قوله: (فظننت أن صاحبي سيكل الكلام إلي) معناه يسكت ويفوضه إلي لإقدامي وجرأتي وبسط لساني، فقد جاء عنه في رواية: لأني كنت أبسط لسانا. قوله: (ظهر قبلنا ناس يقرؤون القرآن ويتقفرون العلم) هو بتقديم القاف على الفاء، ومعناه يطلبونه ويتتبعونه، هذا هو المشهور، وقيل معناه يجمعونه ورواه بعض شيوخ المغاربة من طريق ابن ماهان يتفقرون بتقديم الفاء وهو صحيح أيضا، معناه يبحثون عن غامضة ويستخرجون خفيه. وروي في غير مسلم يتقفون بتقديم القاف وحذف الراء وهو صحيح أيضا ومعناه أيضا يتتبعون. قال القاضي عياض: ورأيت بعضهم قال فيه: يتقعرون بالعين وفسره بأنهم يطلبون قعره أي غامضه وخفيه، ومنه تقعر في كلامه إذا جاء بالغريب منه، وفي رواية أبي يعلى الموصلي يتفقهون بزيادة الهاء وهو ظاهر. قوله: (وذكر من شأنهم) هذا الكلام من كلام بعض الرواة الذين دون يحيى بن يعمر، والظاهر أنه من ابن بريدة الراوي عن يحيى بن يعمر، يعني وذكر ابن يعمر من حال هؤلاء ووصفهم بالفضيلة في العلم والاجتهاد في تحصيله والاعتناء به. قوله: (يزعمون أن لا قدر وأن الأمر أنف) هو بضم الهمزة والنون أي مستأنف، لم يسبق به قدر ولا علم من الله تعالى، وإنما يعلمه بعد وقوعه، كما قدمنا حكياته عن مذهبهم الباطل، وهذا القول قول غلاتهم وليس قول جميع القدرية، وكذب قائله وضل وافترى، عافانا الله وسائر المسلمين. قوله: (قال يعني ابن عمر رضي الله عنهما فإذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وأنهم برآء مني، والذي يحلف به عبد الله بن عمر: لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر) هذا الذي قاله ابن عمر رضي الله عنهما ظاهر في تكفيره القدرية. قال القاضي عياض رحمه الله: هذا في القدرية الأول الذين نفوا تقدم علم الله تعالى بالكائنات، قال: والقائل بهذا كافر بلا خلاف، وهؤلاء الذين ينكرون القدر هم الفلاسفة في الحقيقة، قال غيره: ويجوز أنه لم يرد بهذا الكلام التكفير المخرج من الملة فيكون من قبيل كفران النعم، إلا أن قوله: ما قبله الله منه ظاهر في التفكير، فإن إحباط الأعمال إنما يكون بالكفر، إلا أنه يجوز أن يقال في المسلم: لا يقبل عمله لمعصيته وإن كان صحيحا، كما أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة غير محوجة إلى القضاء عند جماهير العلماء بل بإجماع السلف وهي غيره مقبولة، فلا ثواب فيها على المختار عند أصحابنا والله أعلم. وقوله: فأنفقه يعني في سبيل الله تعالى أي طاعته كما جاء في رواية أخرى، قال نفطويه: سمي الذهب ذهبا لأنه يذهب ولا يبقى. قوله: (لا يرى عليه أثر السفر) ضبطناه بالياء المثناة من تحت المضمومة، وكذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين وغيره، وضبطه الحافظ أبو حازم العدوي هنا نرى بالنون المفتوحة، وكذا هو في مسند أبي يعلى الموصلي وكلاهما صحيح. قوله: (ووضع كفيه على فخذيه) معناه أن الرجل الداخل وضع كفيه على فخذي نفسه وجلس على هيئة المتعلم والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، والإيمان أن تؤمن بالله إلى آخره) هذا قد تقدم بيانه وإيضاحه بما يغني عن إعادته. قوله: (فعجبنا له يسأله ويصدقه) سبب تعجبهم أن هذا خلاف عادة السائل الجاهل، إنما هذا كلام خبير بالمسؤول عنه، ولم يكن في ذلك الوقت من يعلم هذا غير النبي صلى الله عليه وسلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئا مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به، فقال صلى الله عليه وسلم: "اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان".
فإن التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد بإطلاع الله سبحانه وتعالى عليه، فلا يقدم العبد على تقصير في هذا الحال للإطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد، فينبغي أن يعمل بمقتضاه، فمقصود الكلام الحث على الإخلاص في العبادة، ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم، فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته؟ قال القاضي عياض رحمه الله: وهذا الحديث قد اشتمل على شرح جميع وظائف العبادات الظاهرة والباطنة من عقول الإيمان وأعمال الجوارح وإخلاص السرائر والتحفظ من آفات الأعمال، حتى أن علوم الشريعة كلها راجعة إليه ومتشعبة منه، قال: وعلى هذا الحديث وأقسامه الثلاثة ألفنا كتابنا الذي سميناه بالمقاصد الحسان فيما يلزم الإنسان، إذ لا يشذ شيء من الواجبات والسنن والرغائب والمحظورات والمكروهات عن أقسامه الثلاثة والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ما المسؤول عنها بأعلم من السائل) فيه أنه ينبغي للعالم والمفتي وغيرهما إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم، وأن ذلك لا ينقصه، بل يستدل به على ورعه وتقواه ووفور علمه، وقد بسطت هذا بدلائله وشواهده وما يتعلق به في مقدمة شرح المهذب المشتملة على أنواع من الخير، لا بد لطالب العلم من معرفة مثلها وإدامة النظر فيه والله أعلم. قوله: (فأخبرني عن أماراتها) هو بفتح الهمزة، والأمارة والأمار بإثبات الهاء وحذفها هي العلامة. قوله صلى الله عليه وسلم: (أن تلد الأمة ربتها) وفي الرواية الأخرى: ربها على التذكير، وفي الأخرى: بعلها، وقال: يعني السراري، ومعنى ربها وربتها سيدها ومالكها وسيدتها ومالكتها، قال الأكثرون من العلماء: هو إخبار عن كثرة السراري وأولادهن، فإن ولدها من سيدها بمنزلة سيدها، لأن مال الإنسان صائر إلى ولده، وقد يتصرف فيه في الحال تصرف المالكين، إما بتصريح أبيه له بالإذن، وإما بما يعلمه بقرينة الحال أو عرف الاستعمال، وقيل معناه: أن الإماء يلدن الملوك، فتكون أمه من جملة رعيته وهو سيدها وسيد غيرها من رعيته، وهذا قول إبراهيم الحربي، وقيل معناه: أنه تفسد أحوال الناس فيكثر بيع أمهات الأولاد في آخر الزمان فيكثر تردادها في أيدي المشترين حتى يشتريها ابنها ولا يدري، ويحتمل على هذا القول أن لا يختص هذا بأمهات الأولاد فإنه متصور في غيرهن، فإن الأمة تلد ولدا حرا من غير سيدها بشبهة، أو ولدا رقيقا بنكاح أو زنا، ثم تباع الأمة في الصورتين بيعا صحيحا، وتدور في الأيدي حتى يشتريها ولدها، وهذا أكثر وأعم من تقدير في أمهات الأولاد. وقيل في معناه غير ما ذكرناه، ولكنها أقوال ضعيفة جدا أو فاسدة فتركتها، وأما بعلها فالصحيح في معناه أن البعل هو المالك أو السيد فيكون بمعنى ربها على ما ذكرناه. قال أهل اللغة: بعل الشيء ربه ومالكه. وقال ابن عباس رضي الله عنهما والمفسرون في قوله سبحانه وتعالى: {أتدعون بعلاً} أي ربا. وقيل: المراد بالبعل في الحديث الزوج، ومعناه نحو ما تقدم أنه يكثر بيع السراري حتى يتزوج الإنسان أمه وهو لا يدري، وهذا أيضا معنى صحيح، إلا أن الأول أظهر لأنه إذا أمكن حمل الروايتين في القضية الواحدة على معنى واحد كان أولى والله أعلم. واعلم أن هذا الحديث ليس فيه دليل على إباحة بيع أمهات الأولاد ولا منع بيعهن، وقد استدل إمامان من كبار العلماء به على ذلك، فاستدل أحدهما على الإباحة والاَخر على المنع وذلك عجب منهما وقد أنكر عليهما، فإنه ليس كل ما أخبر صلى الله عليه وسلم بكونه من علامات الساعة يكون محرما أو مذموما، فإن تطاول الرعاء في البنيان وفشو المال وكون خمسين امرأة لهن قيم واحد ليس بحرام بلا شك، وإنما هذه علامات والعلامة لا يشترط فيها شيء من ذلك، بل تكون بالخير والشر، والمباح والمحرم، والواجب وغيره والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان) أما العالة فهم الفقراء، والعائل الفقير، والعيلة الفقر، وعال الرجل يعيل عيلة أي افتقر، والرعاء بكسر الراء وبالمد ويقال فيهم رعاة بضم الراء وزيادة الهاء بلا مد، ومعناه أن أهل البادية وأشباههم من أهل الحاجة والفاقة تبسط لهم الدنيا حتى يتباهون في البنيان والله أعلم. قوله: (فلبث مليا) هكذا ضبطناه لبث آخره ثاء مثلثة من غير تاء، وفي كثير من الأصول المحققة لبثت بزيادة تاء المتكلم وكلاهما صحيح.
وأما مليا بتشديد الياء فمعناه وقتا طويلاً، وفي رواية أبي داود والترمذي أنه قال ذلك بعد ثلاث، وفي شرح السنة للبغوي بعد ثالثة، وظاهر هذا أنه بعد ثلاث ليال، وفي ظاهر هذا مخالفة لقوله في حديث أبي هريرة بعد هذا: "ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ردوا علي الرجل، فأخذوا ليردوه فلم يروا شيئا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل" فيحتمل الجمع بينهما أن عمر رضي الله عنه لم يحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم لهم في الحال، بل كان قد قام من المجلس فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الحاضرين في الحال، وأخبر عمر رضي الله عنه بعد ثلاث إذ لم يكن حاضرا وقت إخبار الباقين والله أعلم. قوله: (صلى الله عليه وسلم: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) فيه أن الإيمان والإسلام والإحسان تسمى كلها دينا، واعلم أن هذا الحديث يجمع أنواعا من العلوم والمعارف والاَداب واللطائف، بل هو أصل الإسلام كما حكيناه عن القاضي عياض، وقد تقدم في ضمن الكلام فيه جمل من فوائده، ومما لم نذكر من فوائده أن فيه أنه ينبغي لمن حضر مجلس العالم إذا علم بأهل المجلس حاجة إلى مسألة لا يسألون عنها أن يسأل هو عنها ليحصل الجواب للجميع، وفيه أنه ينبغي للعالم أن يرفع بالسائل ويدنيه منه ليتمكن من سؤاله غير هائب ولا منقبض، وأنه ينبغي للسائل أن يرفق في سؤاله والله أعلم.
قوله: (حدثني محمد بن عبيد الغبري وأبو كامكل الجحدري وأحمد بن عبدة) أما الغبري فبضم الغين المعجمة وفتح الموحدة، وقد تقدم بيانه واضحا في أول مقدمة الكتاب. والجحدري اسمه الفضيل بن حسين وهو بفتح الجيم وبعدها حاء ساكنة، وتقدم أيضا بيانه في المقدمة. وعبدة بإسكان الباء وقد تقدم في الفصول بيان عبدة وعبيدة، وفي هذا الإسناد مطر الوراق هو مطر بن طمهان أبو رجاء الخرساني سكن البصرة كان يكتب المصاحف فقيل له الوراق. قوله: (فحججنا حجة) هي بكسر الحاء وفتحها لغتان، فالكسر هو المسموع من العرب، والفتح هو القياس كالضربة وشبهها، كذا قاله أهل اللغة.
قوله: (عثمان بن غياث) هو بالغين المعجمة. وحجاج بن الشاعر هو حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي أبو محمد البغدادي، وقد تقدم في أوائل الكتاب بيانه واتفاقه مع الحجاج بن يوسف الوالي الظالم المعروف وافتراقه. وفي الإسناد يونس وقد تقدم فيه ست لغات: ضم النون وكسرها وفتحها مع الهمز فيهن وتركه. وفي الإسناد الاَخر أبو بكر بن أبي شيبة،
وإسماعيل بن عليه وهو إسماعيل بن إبراهيم في الطريق الأخرى، وقد تقدم بيانه وبيان حال أبي بكر بن أبي شيبة، وحال أخيه عثمان، وأبيهما محمد، وجدهما أبي شيبة إبراهيم، وأخيهما القاسم، وأن اسم أبي بكر عبد الله، والله أعلم. وفي هذا الإسناد أبو حيان عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي، فأبو حيان بالمثناة تحت واسمه يحيى بن سعيد بن حيان التيمي تيم الرباب الكوفي. وأما أبو زرعة فاسمه هرم، وقيل: عمرو بن عمرو، وقيل: عبيد الله، وقيل: عبد الرحمن. قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بارزا) أي ظاهرا، ومنه قول الله تعالى: {وترى الأرض بارزة} {وبرزوا لله جميعا} {وبرزت الجحيم} {ولما برزوا الجالوت}. قوله صلى الله عليه وسلم: (أن تؤمن بالله ولقائه وتؤمن بالبعث الاَخر) هو بكسر الخاء، واختلف في المراد بالجمع بين الإيمان بلقاء الله تعالى والبعث، فقيل: اللقاء يحصل بالانتقال إلى دار الجزاء والبعث بعده عند قيام الساعة، وقيل: اللقاء ما يكون بعد البعث عند الحساب، ثم ليس المراد باللقاء رؤية الله تعالى، فإن أحدا لا يقطع لنفسه برؤية الله تعالى، لأن الرؤية مختصة بالمؤمنين، ولا يدري الإنسان بماذا يختم له. وأما وصف البعث بالاَخر فقيل: هو مبالغة في البيان والإيضاح وذلك لشدة الاهتمام به، وقيل: سببه أن خروج الإنسان إلى الدنيا بعث من الأرحام، وخروجه من القبر للحشر بعث من الأرض، فقيد البعث بالاَخر ليتميز والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام أن تعبد الله لا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة إلى آخره) أما العبادة فهي الطاعة مع خضوع، فيحتمل أن يكون المراد بالعبادة هنا معرفة الله تعالى والإقرار بوحدانيته، فعلى هذا يكون عطف الصلاة والصوم والزكاة عليها لإدخالها في الإسلام فإنها لم تكن دخلت في العبادة، وعلى هذا إنما اقتصر على هذه الثلاث لكونها من أركان الإسلام وأظهر شعائره والباقي ملحق بها، ويحتمل أن يكون المراد بالعبادة الطاعة مطلقا فيدخل جميع وظائف الإسلام فيها، فعلى هذا يكون عطف الصلاة وغيرها من باب ذكر الخاص بعد العام تنبيها على شرفه ومزيته، كقوله تعالى: {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} ونظائره. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشرك به" فإنما ذكره بعد العبادة، لأن الكفار كانوا يعبدونه سبحانه وتعالى في الصورة، ويعبدون معه أوثانا يزعمون أنها شركاء فنفى هذا، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (وتقيم الصلاة المكتوبة وتؤدي الزكاة المفروضة وتصوم رمضان) أما تقييد الصلاة بالمكتوبة فلقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا} وقد جاء في أحاديث وصفها بالمكتوبة كقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" وأفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل وخمس صلوات كتبهن الله. وأما تقييد الزكاة بالمفروضة وهي المقدرة فقيل احتراز من الزكاة المعجلة قبل الحول فإنها زكاة وليست مفرضة، وقيل: إنما فرق بين الصلاة والزكاة في التقييد لكراهة تكرير اللفظ الواحد، ويحتمل أن يكون تقييد الزكاة بالمفروضة للاحتراز عن صدقة التطوع فإنها زكاة لغوية. وأما معنى إقامة الصلاة فقيل فيه قولان: أحدهما أنه إدامتها والمحافظة عليها. والثاني إتمامها على وجهها. قال أبو علي الفارسي: والأول أشبه. قلت: وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "اعتدلوا في الصفوف فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة" معناه والله أعلم من إقامتها المأمور بها في قوله تعالى: {وأقيموا الصلاة} وهذا يرجح القول الثاني والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وتصوم رمضان" ففيه حجة لمذهب الجماهير وهو المختار، الصواب أنه لا كراهة في قول رمضان من غير تقييد بالشهر خلافا لمن كرهه، وستأتي المسألة في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى موضحة بدلائلها وشواهدها والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (سأحدثك عن أشراطها) هي بفتح الهمزة واحدها شرط بفتح الشين والراء، والأشراط العلامات، وقيل مقدماتها، وقيل صغار أمورها قبل تمامها، وكله متقارب. قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا تطاول رعاء البهم) هو بفتح الباء وإسكان الهاء وهي الصغار من أولاد الغنم الضأن والمعز جميعا، وقيل: أولاد الضأن خاصة، واقتصر عليه الجوهري في صحاحه، والواحدة بهمة. قال الجوهري: وهي تقع على المذكر والمؤنث، والسخال أولاد المعزى، قال: فإذا جمعت بينهما قلت بهام وبهم أيضا، وقيل: إن البهم يختص بأولاد المعز، وإليه أشار القاضي عياض بقوله: وقد يختص بالمعز، وأصله كل ما استبهم عن الكلام ومنه البهيمة، ووقع في رواية البخاري رعاء الإبل البهم بضم الباء. وقال القاضي عياض رحمه الله ورواه بعضهم بفتحها، ولا وجه له مع ذكر الإبل، قال: ورويناه برفع الميم وجرها، فمن رفع جعله صفة للرعاء أي أنهم سود، وقيل: لا شيء لهم، وقال الخطابي: هو جمع بهيم وهو المجهول الذي لا يعرف ومنه أبهم الأمر، ومن جر الميم جعله صفة للإبل أي السود لرداءتها والله أعلم.
قوله: (يعني السراري) هو بتشديد الياء ويجوز تخفيفها، لغتان معروفتان الواحدة سرية بالتشديد لا غير، قال ابن السكيت في إصلاح المنطق: كل ما كان واحده مشددا من هذا النوع جاز في جمعه التشديد والتخفيف، والسرية الجارية المتخذة للوطء مأخوذة من السر وهو النكاح، قال الأزهري: السرية فعلية من السر وهو النكاح، قال: وكان أبو الهيثم يقول: السر السرور فقيل لها سرية لأنها سرور مالكها، قال الأزهري: وهذا القول أحسن والأول أكثر.
قوله: (عن عمارة وهو ابن القعقاع) فعمارة بالضم، والقعقاع بفتح القاف الأولى. وقوله: وهو ابن قد قدمنا بيان فائدته في الفصول وفي المقدمة، وأنه لم يقع في الرواية نسبه، فأراد بيانه بحيث لا يزيد في الرواية على ما سمع والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (سلوني) هذا ليس بمخالف للنهي عن سؤاله، فإن هذا المأمور به هو فيما يحتاج إليه وهو موافق لقول الله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر} قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا رأيت الحفاة العراة الصم البكم ملوك الأرض فذاك من أشراطها) المراد بهم الجهلة السفلة الرعاع، كما قال سبحانه وتعالى: {صم بكم عمي} أي لما لم ينتفعوا بجوارحهم هذه فكأنهم عدموها، هذا هو الصحيح في معنى الحديث والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أراد أن تعلموا إذا لم تسألوا) ضبطناه على وجهين: أحدهما تعلموا بفتح التاء والعين وتشديد اللام أي تتعلموا، والثاني تعلموا بإسكان العين وهما صحيحان والله أعلم.
*2* باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَمِيلِ بْنِ طَرِيفِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الثّقَفِيّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ (فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ)، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ سَمِعَ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللّهِ يَقُولُ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ، ثَائِرُ الرّأْسِ، نَسْمَعُ دَوِيّ صَوْتِهِ وَلاَ نَفْقَةُ مَا يَقُولُ. حَتّى دَنَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنِ الإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللّيْلَةِ" فَقَالَ: هَلْ عَلَيّ غَيْرُهن؟ قَالَ: "لاَ. إِلاّ أَنْ تَطّوّعَ. وَصِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ" فَقَالَ: هَلْ عَلَيّ غَيْرُهُ؟ فَقَالَ: "لاَ. إِلاّ أَنْ تَطّوّعَ" وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الزّكَاةَ. فَقَالَ: هَلْ عَلَيّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: "لاَ. إِلاّ أَنْ تَطّوّعَ. قَالَ: فَأَدْبَرَ الرّجُلُ وَهُو يَقُولُ: وَالله لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْلَحَ إِنْ صَدَقَ".
حدّثني يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، جَميعا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِي سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْن عُبَيْد اللّهِ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ. نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "أَفْلَحَ، وَأَبِيِه، إِنْ صَدَقَ" أَوْ "دَخَلَ الْجَنّةَ، وَأَبِيِهِ، إِنْ صَدَقَ".
فيه قتيبة بن سعيد الثقفي، اختلف فيه فقيل: قتيبة اسمه، وقيل: بل هو لقب واسمه علي، قاله أبو عبد الله بن منده، وقيل: اسمه يحيى قاله ابن عدي. وأما قوله: الثقفي فهو مولاهم، قيل: إن جده جميلاً كان مولى للحجاج بن يوسف الثقفي، وفيه أبو سهيل عن أبيه اسم أبي سهيل نافع بن مالك بن أبي عامر الأصبحي، ونافع عم مالك بن أنس الإمام وهو تابعي سمع أنس بن مالك. قوله: (رجل من أهل نجد ثائر الرأس) هو برفع ثائر صفة لرجل، وقيل: يجوز نصبه على الحال، ومعنى ثائر الرأس: قائم شعره منتفشه. وقوله: (نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول) روي نسمع ونفقه بالنون المفتوحة فيهما، وروي بالياء المثناة من تحت المضمومة فيهما، والأول هو الأشهر الأكثر الأعرف. وأما دوي صوته فهو بعده في الهواء، ومعناه شدة صوت لا يفهم، وهو بفتح الدال وكسر الواو تشديد الياء هذا هو المشهور، وحكى صاحب المطالع فيه ضم الدال أيضا. قوله: (هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع) المشهور فيه تطوع بتشديد الطاء على إدغام إحدى التاءين في الطاء، وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: هو محتمل للتشديد والتخفيف على الحذف، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا أن تطوع" استثناء منقطع ومعناه: لكن يستحب لك أن تطوع، وجعله بعض العلماء استثناء متصلاً، واستدلوا به على أن ممن شرع في صلاة نفل أو صوم نفل وجب عليه إتمامه، ومذهبنا أنه يستحب الإتمام ولا يجب والله أعلم. قوله: (فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق) قيل: هذا الفلاج راجع إلى قوله: لا أنقص خاصة، والأظهر أنه عائد إلى المجموع بمعنى أنه إذا لم يزد ولم ينقص كان مفلحا لأنه أتى بما عليه، ومن أتى بما عليه فهو مفلح، وليس في هذا أنه إذا أتى بزائد لا يكون مفلحا لأن هذا مما يعرف بالضرورة، فإنه إذا أفلح بالواجب فلأن يفلح بالواجب والمندوب أولى، فإن قيل: كيف؟ قال: لا أزيد على هذا، وليس في هذا الحديث جميع الواجبات، ولا المنهيات الشرعية، ولا السنن المندوبات، فالجواب أنه جاء في رواية البخاري في آخر هذا الحديث زيادة توضح المقصود، قال: "فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرائع الإسلام فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد ولا أنقص مما فرض الله تعالى علي شيئا" فعلى عموم قوله بشرائع الإسلام، وقوله مما فرض الله علي يزول الإشكال في الفرائض. وأما النوافل فقيل: يحتمل أن هذا كان قبل شرعها، وقيل: يحتمل أنه أراد لا أزيد في الفرض بتغيير صفته كأنه يقول: لا أصلي الظهر خمسا وهذا تأويل ضعيف، ويحتمل أنه أراد لا يصلي النافلة مع أنه لا يخل بشيء من الفرائض وهذا مفلح بلا شك، وإن كانت مواظبته على ترك السنن مذمومة وترد بها الشهادة إلا أنه ليس بعاص بل هو مفلح ناج والله أعلم. واعلم أنه لم يأت في هذا الحديث ذكر الحج، ولا جاء ذكره في حديث جبريل من رواية أبي هريرة، وكذا غير هذا من هذه الأحاديث لم يذكر في بعضها الصوم، ولم يذكر في بعضها الزكاة، وذكر في بعضها صلة الرحم، وفي بعضها أداء الخمس، ولم يقع في بعضها ذكر الإيمان، فتفاوتت هذه الأحاديث في عدد خصال الإيمان زيادة ونقصا وإثباتا وحذفا. وقد أجاب القاضي عياض وغيره رحمهم الله عنها بجواب لخصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى وهذبه فقال: ليس هذا باختلاف صادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بل هو من تفاوت الرواة في الحفظ والضبط، فمنهم من قصر فاقتصر على ما حفظه فأداه ولم يتعرض لما زاده غيره بنفي ولا إثبات، وإن كان اقتصاره على ذلك يشعر بأنه الكل فقد بان بما أتى به غيره من الثقات أن ذلك ليس بالكل، وأن اقتصاره عليه كان لقصور حفظه عن تمامه، ألا ترى حديث النعمان بن قوقل الاَتي قريبا اختلفت الروايات في خصاله بالزيادة والنقصان؟ مع أن راوي الجميع راو واحد وهو جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في قضية واحدة، ثم إن ذلك لا يمنع من إيراد الجميع في الصحيح لما عرف في مسألة زيادة الثقة من أنا نقبلها، هذا آخر كلام الشيخ وهو تقرير حسن والله أعلم.
النهي عن الحلف بغير الله
قوله صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق) هذا مما جرت عادتهم أن يسألوا عن الجواب عنه مع قوله صلى الله عليه وسلم: "من كان حالفا فليحلف بالله" وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" وجوابه أن قوله صلى الله عليه وسلم: "أفلح وأبيه" ليس هو حلفا إنما هو كلمة جرت عادة العرب أن تدخلها في كلامها غير قاصدة بها حقيقة الحلف، والنهي إنما ورد فيمن قصد حقيقة الحلف لما فيه من إعظام المحلوف به ومضاهاته به الله سبحانه وتعالى، فهذا هو الجواب المرضي، وقيل: يحتمل أن يكون هذا قبل النهي عن الحلف بغير الله تعالى والله أعلم. وفي هذا الحديث أن الصلاة التي هي ركن من أركان الإسلام التي أطلقت في باقي الأحاديث هي الصلوات الخمس، وأنها في كل يوم وليلة على كل مكلف بها، وقولنا بها احتراز من الحائض والنفساء فإنها مكلفة بأحكام الشرع إلا الصلاة وما ألحق بها مما هو مقرر في كتب الفقه، وفيه أن وجوب صلاة الليل منسوخ في حق الأمة وهذا مجمع عليه، واختلف قول الشافعي رحمه الله في نسخه في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم والأصح نسخه، وفيه أن صلاة الوتر ليست بواجبة، وأن صلاة العيد أيضا ليست بواجبة، وهذا مذهب الجماهير. وذهب أبو حنيفة رحمه الله وطائفة إلى وجوب الوتر، وذهب أبو سعيد الإصطخري من أصحاب الشافعي إلى أن صلاة العيد فرض كفاية، وفيه أنه لا يجب صوم عاشوراء ولا غيره سوى رمضان وهذا مجمع عليه. واختلف العلماء هل كان صوم عاشوراء واجبا قبل إيجاب رمضان أم كان الأمر به ندبا؟ وهما وجهان لأصحاب الشافعي أظهرهما لم يكن واجبا. والثاني كان واجبا، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، وفيه أنه ليس في المال حق سوى الزكاة على من ملك نصابا، وفيه غير ذلك والله أعلم.
*2* باب السؤال عن أركان الإسلام
* حدّثني عَمْرُو بْنُ مُحمّدُ بْنِ بُكَيْرٍ النّاقِدِ: حَدّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ أَبُو النّضْرِ. حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: نُهِينَا أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ. فَكَانَ يُعْجِبُنَا أَنْ يَجِيءَ الرّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةَ، الْعَاقِلُ، فَيَسْأَلَهُ وَنَحْنُ نَسْمَعُ. فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةَ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ! أَتَانَا رَسُولُكَ فَزَعَمَ لَنَا أَنّكَ تَزْعُمُ أَنّ الله أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: "صَدَقَ". قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ السّمَاءَ؟ قَالَ: "الله" قَالَ: فَمَنْ خَلَقَ الأَرض؟ قَال: "الله" قَالَ: فَمَنْ نَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ، وَجَعَلَ فِيهَا مَا جَعَلَ؟ قَالَ: "الله". قَالَ: فَبِالّذِي خَلَقَ السّمَاءَ وَخَلَقَ الأَرْضَ وَنَصَبَ هَذِهِ الْجِبَالَ، آلله أَرْسَلَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنّ عَلَيْنَا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِنَا وَلَيْلَتِنَا، قَالَ: "صَدَقَ". قَالَ: فَبِالّذِي أَرْسَلَكَ. آلله أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنّ عَلَيْنَا زَكَاةً فِي أَمْوَالِنَا. قَالَ "صَدَقَ" قَالَ: فَبِالّذِي أَرْسَلَكَ. آللّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ "نَعَمْ" قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنّ عَلَيْنَا صَوْمَ شَهْرِ رَمَضَانَ فِي سَنَتِنَا. قَالَ: "صَدَقَ". قَالَ: فَبِالّذِي أَرْسَلَكَ، الله أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ: وَزَعَمَ رَسُولُكَ أَنّ عَلَيْنَا حَجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً. قَالَ: "صَدَقَ". قَال، ثُمّ وَلّى. قَالَ: وَالّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ! لاَ أَزِيدُ عَلَيْهِنّ وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُنّ. فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "لَئِنْ صَدَقَ لَيَدْخُلَنّ الْجَنّةَ".
حدّثني عَبْدُ اللّهِ بْنُ هَاشِمٍ الْعَبْدِيّ: حَدّثَنَا بَهْزٌ: حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيِرَةِ عَنْ ثَابِتٍ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: كُنّا نُهَينَا فِي الْقُرْآنِ أَنْ نَسْأَلَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ شَيْءٍ. وَسَاقَ الْحدِيثَ بِمثلِهِ.
فيه حديث أنس رضي الله عنه قال: "نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله تعالى أرسلك، قال: صدق" إلى آخر الحديث. قوله: (نهينا أن نسأل) يعني سؤال فصل ضرورة إليه كما قدمنا بيانه قريبا في الحديث الاَخر: "سلوني" أي عما تحتاجون إليه. وقوله: (الرجل من أهل البادية) يعني من لم يكن بلغه النهي عن السؤال. وقوله: (العاقل) لكونه أعرف بكيفية السؤال وآدابه والمهم منه وحسن المراجعة، فإن هذه أسباب عظم الانتفاع بالجواب، ولأن أهل البادية هم الأعراب ويغلب فيهم الجهل والجفاء، ولهذا جاء في الحديث: "من بدا جفا" والبادية والبدو بمعنى وهو ما عدا الحاضرة والعمران، والنسبة إليها بدوي، والبداوة الإقامة بالبادية وهي بكسر الباء عند جمهور أهل اللغة، وقال أبو زيد: هي فتح الباء، قال ثعلب: لا أعرف البداوة بالفتح إلا عن أبي زيد. قوله: (فقال يا محمد) قال العلماء: لعل هذا كان قبل النهي عن مخاطبته صلى الله عليه وسلم باسمه قبل نزول قوله الله عز وجل: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا} على أحد التفسيرين، أي لا تقولوا: يا محمد، بل يا رسول الله، يا نبي الله، ويحتمل أن يكون بعد نزول الاَية، ولم تبلغ الاَية هذا القائل. وقوله: (زعم رسولك أنك تزعم أن الله تعالى أرسلك، قال: صدق) فقوله: زعم وتزعم مع تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه دليل على أن زعم ليس مخصوصا بالكذب والقول المشكوك فيه، بل يكون أيضا في القول المحقق والصدق الذي لا شك فيه، وقد جاء من هذا كثير في الأحاديث، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: زعم جبريل كذا، وقد أكثر سيبويه وهو إمام العربية في كتابه الذي هو إمام كتب العربية من قوله: زعم الخليل، زعم أبو الخطاب، يريد بذلك القول المحقق، وقد نقل ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم، ونقله أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين والله أعلم. ثم اعلم أن هذا الرجل الذي جاء من أهل البادية اسمه ضمام بن ثعلبة بكسر الضاد المعجمة، كذا جاء مسمى في رواية البخاري وغيره. قوله: (قال: فمن خلق السماء؟ قال: الله، قال: فمن خلق الأرض؟ قال: الله، قال: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله، قال: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال: نعم، قال: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال: صدق، قال: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم) هذه جملة تدل على أنواع من العلم، قال صاحب التحرير: هذا من حسن سؤال هذا الرجل وملاحة سياقته وترتيبه، فإنه سأل أولاً عن صانع المخلوقات من هو؟ ثم أقسم عليه به أن يصدقه في كونه رسولاً للصانع، ثم لما وقف على رسالته وعلمها أقسم عليه بحق مرسله، وهذا ترتيب يفتقر إلى عقل رصين، ثم إن هذه الأيمان جرت للتأكيد وتقرير الأمر لا لافتقاره إليها كما أقسم الله تعالى على أشياء كثيرة، هذا كلام صاحب التحرير قال القاضي عياض: والظاهر أن هذا الرجل لم يأت إلا بعد إسلامه، وإنما جاء مستثبتا ومشافها للنبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. وفي هذا الحديث جمل من العلم غير ما تقدم. منها: أن الصلوات الخمس متكررة في كل يوم وليلة وهو معنى قوله: في يومنا وليلتنا. وأن صوم شهر رمضان يجب في كل سنة، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: وفيه دلالة لصحة ما ذهب إليه أئمة العلماء من أن العوام المقلدين مؤمنون، وأنه يكتفي منهم بمجرد اعتقاد الحق جزما من غير شك وتزلزل، خلافا لمن أنكر ذلك من المعتزلة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم قرر ضماما على ما اعتمد عليه في تعرف رسالته وصدقه ومجرد إخباره إياه بذلك، ولم ينكر عليه ذلك، ولا قال: يجب عليك معرفة ذلك بالنظر في معجزاتي والاستدلال بالأدلة القطعية، هذا كلام الشيخ، وفي هذا الحديث العمل بخبر الواحد وفيه غير ذلك والله أعلم.
*2* باب بيان الإِيمان الذي يدخل به الجنة وأن من تمسك بما أمر به دخل الجنة
*حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ. حَدّثَنَا مُوسىَ بْنُ طَلْحَةَ قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو أَيّوبَ، أَنّ أَعْرَابِيا عَرَضَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ أَوْ بِزِمَامِهَا، ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَوْ يَا مُحَمّدُ أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرّبُنِي مِنَ الْجَنّةِ وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنَ النّارِ. قَالَ فَكَفّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، ثُمّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمّ قَالَ: "لَقَدْ وُفّقَ أَوْ لَقَدْ هُدِيَ" قَالَ: "كَيْفَ قُلْتَ؟" قَالَ فَأَعَادَ. فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "تَعْبُدُ الله لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئا، وَتُقِيمُ الصّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزّكَاةَ، وَتَصِلُ الرّحِمَ، دَعِ النّاقَةَ".
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ، وَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ قَالاَ: حَدّثَنَا بَهْزٌ. حَدّثَنَا شُعْبَةٌ. حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، وَ أَبُوهُ عُثْمَانُ أَنّهُمَا سَمِعَا مُوسىَ بْنَ طَلْحَةَ يُحَدّثُ عَنْ أَبِي أَيّوبَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّمِيمِيّ. أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ مُوسىَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي أَيّوبَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ أَعْمَلُهُ يُدْنِينِي مِنَ الْجَنّةِ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النّارِ. قَالَ "تَعْبُدُ اللّهِ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئا، وَتُقِيمُ الصّلاَةَ، وَتُؤْتِي الزّكَاةَ، وَتَصِلُ ذَا رَحِمَكَ" فَلَمّا أَدْبَرَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنْ تَمَسّكَ بِمَا أُمِرَ بِهِ دَخَلَ الْجَنّةَ". وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ "إِنْ تَمَسّكَ بِهِ".
وحدّثني أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ: حَدّثَنَا عَفّانَ: حَدّثَنَا وُهَيْبٌ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ أَعْرَابِيا جَاءَ إِلَى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم دُلّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الْجنّةَ. قَالَ "تَعْبُدُ اللّهَ لاَ تُشْرِكُ بِهِ شَيْئا، وَتُقِيمُ الصّلاَةَ الْمَكْتُوبَةَ. وَتُؤَدّي الزّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ. وَتَصُومُ رَمَضَانَ" قَالَ: وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ أَزِيدُ عَلَى هَذَا شَيْئا أَبدا، وَلاَ أَنْقُصُ مِنْهُ. فَلَمّا وَلّى، قَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم "مَنْ سَرّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجنّةِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. وَاللّفْظُ لاَِبِي كُرَيْبٍ. قَالا: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِالأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم النّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ! اللّهِ أَرَأَيْتَ إِذَا صَلّيْتُ الْمَكْتُوبَةَ، وَحَرّمْتُ الْحَرَامَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلاَلَ، أَأَدْخُلُ الْجَنّةَ؟ فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ".
وحدّثني حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ وَ الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيّاءَ، قَالاَ: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُوسىَ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، وَ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ النّعْمَانُ بْنُ قَوْقَلٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ! بِمِثْلِهِ. وَزَادَا فِيهِ: وَلَمْ أَزِدْ عَلَىَ ذَلِكَ شَيْئا.
وحدّثني سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ: حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ: حَدّثَنَا مَعْقِلٌ (وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللّهِ) عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَرَأَيْتَ إِذَا صَلّيْتُ الصّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ، وَصُمْتُ رَمَضَانَ، وَأَحْلَلْتُ الْحَلاَلَ وَحَرّمْتُ الْحَرَامَ، وَلَمْ أَزِدْ عَلَى ذَلِكَ شَيْئا، أَأَدْخُلُ الْجَنّةَ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: وَالله لاَ أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ شَيْئا.
فيه حديث أبي أيوب وأبي هريرة وجابر رضي الله عنهم. أما حديثا أبي أيوب وأبي هريرة فرواهما أيضا البخاري. وأما حديث جابر فانفرد به مسلم. أما ألفاظ الباب فأبو أيوب اسمه خالد بن زيد الأنصاري، وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر على الأصح من نحو ثلاثين قولاً، وقد تقدم بيانه بزيادات في مقدمة الكتاب. قول مسلم رحمه الله تعالى: (حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، ثنا أبي، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا موسى بن طلحة، حدثني أبو أيوب. وفي الطريق الاَخر: حدثني محمد بن حاتم وعبد الرحمن بن بشر قالا: ثنا بهز قال: ثنا شعبة قال: ثنا محمد بن عثمان بن عبد الله بن موهب وأبوه عثمان أنهما سمعا موسى بن طلحة) هكذا هو في جميع الأصول في الطريق الأول عمرو بن عثمان، وفي الثاني محمد بن عثمان، واتفقوا على أن الثاني وهم وغلط من شعبة وأن صوابه عمرو بن عثمان كما في الطريق الأول، قال الكلاباذي وجماعات لا يحصون من أهل هذا الشأن: هذا وهم من شعبة فإنه كان يسميه محمدا وإنما هو عمرو، وكذا وقع علي الوهم من رواية شعبة في كتاب الزكاة من البخاري والله أعلم. وموهب بفتح الميم والهاء وإسكان الواو بينهما. قوله: (أن أعرابيا) هو بفتح الهمزة وهو البدوي أي الذي يسكن البادية، وقد تقدم قريبا بيانها. وقوله: (فأخذ بخطام ناقته أو بزمامها) هما بكسر الخاء والزاي، قال الهروي في الغريبين، قال الأزهري: الخطام هو الذي يخطم به البعير، وهو أن يؤخذ حبل من ليف أو شعر أو كتان، فيجعل في أحد طرفيه حلقة يسلك فيها الطرف الاَخر حتى يصير كالحلقة ثم يقلد البعير ثم يثني على مخطمه فإذا ضفر من الأدم فهو جرير، فأما الذي يجعل في الأنف دقيقا فهو الزمام، هذا كلام الهروي عن الأزهري. وقال صاحب المطالع: الزمام للإبل ما تشد به رؤوسها من حبل وسير ونحوه لتقاد به والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (لقد وفق هذا) قال أصحابنا المتكلمون: التوفيق خلق قدرة الطاعة، والخذلان خلق قدرة المعصية. قوله صلى الله عليه وسلم: (تعبد الله لا تشرك به شيئا) قد تقدم بيان حكمة الجمع بين هذين اللفظين، وتقدم بيان المراد بإقامة الصلاة وسبب تسميتها مكتوبة، وتسمية الزكاة مفروضة، وبيان قوله: لا أزيد ولا أنقص، وبيان اسم أبي زرعة الراوي عن أبي هريرة وأنه هرم، وقيل عمرو، وقيل عبد الرحمن، وقيل عبيد الله. قوله صلى الله عليه وسلم: (وتصل الرحم) أي تحسن إلى أقاربك ذوي رحمك بما تيسر على حسب حالك وحالهم من إنفاق أو سلام أو زيادة أو طاعتهم أو غير ذلك، وفي الرواية الأخرى: وتصل ذا رحمك، وقد تقدم بيان جواز إضافة ذي إلى المفردات في آخر المقدمة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (دع الناقة) إنما قاله لأنه كان ممسكا بخطامها أو زمامها ليتمكن من سؤاله بلا مشقة، فلما حصل جوابه قال دعها.
قوله: (حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق) قد تقدم بيان اسميهما في مقدمة الكتاب، فأبو الأحوص سلام بالتشديد ابن سليم، وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبعي. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن تمسك بما أمر به دخل الجنة) كذا هو في معظم الأصول المحققة، وكذا ضبطناه أمر بضم الهمزة وكسر الميم، وبه بباء موحدة مكسورة مبني لما لم يسم فاعله، وضبطه الحافظ أبو عامر العبدري أمرته بفتح الهمزة وبالتاء المثناة من فوق التي هي ضمير المتكلم وكلاهما صحيح والله أعلم: وأما ذكره صلى الله عليه وسلم صلة الرحم في هذا الحديث وذكر الأوعية في حديث وفد عبد القيس وغير ذلك في غيرهما فقال القاضي عياض وغيره رحمهم الله: ذلك بحسب ما يخص السائل ويعنيه والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا) فالظاهر منه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه يوفي بما التزم، وأنه يدوم على ذلك ويدخل الجنة.
وأما قول مسلم في حديث جابر: (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن سفيان عن جابر) فهذا إسناد كلهم كوفيون إلا جابرا وأبا سفيان، فإن جابرا مدني، وأبا سفيان واسطي، ويقال مكي، وقد تقدم أن اسم أبي بكر بن أبي شيبة عبد الله بن محمد بن إبراهيم، وإبراهيم هو أبو شيبة، وأما أبو كريب فاسمه محمد بن العلاء الهمداني بإسكان الميم وبالدال المهملة، وأبو معاوية محمد بن خازم بالخاء المعجمة، والأعمش سليمان بن مهران أبو محمد، وأبو سفيان طلحة بن نافع القرشي مولاهم، وقد تقدم أن في سين سفيان ثلاث لغات: الضم والكسر والفتح، وقول الأعمش عن أبي سفيان، مع أن الأعمش مدلس، والمدلس إذا قال عن لا يحتج به إلا أن يثبت سماعه من جهة أخرى، وقد قدمنا في الفصول وفي شرح المقدمة أن ما كان في الصحيحين عن المدلسين بعن فمحمول على ثبوت سماعهم من جهة أخرى والله أعلم. قوله: (أتى النعمان بن قوقل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إذا صليت المكتوبة وحرمت الحرام وأحللت الحلال أأدخل الجنة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم) أما قوقل فبقافين مفتوحتين بينهما واو ساكنة وآخره لام. وأما قوله: وحرمت الحرام فقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: الظاهر أنه أراد به أمرين: أن يعتقده حراما وأن لا يفعله، بخلاف تحليل الحلال فإنه يكفي فيه مجرد اعتقاده حلالاً. قوله: (عن الأعمش عن أبي صالح) تقدم في أوائل مقدمة الكتاب أن اسم أبي صالح ذكوان.
قول الحسن بن أعين ثنا معقل وهو ابن عبيد الله عن أبي الزبير) أما أعين فهو بفتح الهمزة وبالعين المهملة وآخره نون وهو الحسن بن محمد بن أعين القرشي مولاهم أبو علي الحراني، والأعين من في عينيه سعة. وأما معقل فبفتح الميم وإسكان العين المهملة وكسر القاف، وأما أبو الزبير فهو محمد بن مسلم بن تدرس بمثناة فوق مفتوحة ثم دال مهملة ساكنة ثم راء مضمومة ثم سين مهملة. وقوله: وهو ابن عبيد الله قد تقدم مرات بيان فائدته وهو أنه لم يقع في الرواية لفظة ابن عبيد الله فأراد إيضاحه بحيث لا يزيد في الرواية.
*2* باب بيان أركان الإِسلام ودعائمه العظام
*حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ الْهَمَدَانِيّ: حَدّثَنَا أَبُو خَالِدٍ (يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ حَيّانَ الأَحْمَرَ) عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسَةٍ. عَلَى أَنْ يُوَحّدَ اللهُ، وَإِقَامِ الصّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزّكَاةِ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ، وَالْحَجّ" فَقَالَ رَجُلٌ: الْحَجّ، وَصِيَامِ رَمَضَانَ؟ قَالَ لاَ. صِيَامِ رَمَضَانَ وَالْحَجّ. هكَذَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدّثنا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيّ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ زَكَرِيّاءَ. حَدّثَنَا سَعْدُ بْنُ طَارِقٍ قَالَ: حَدّثَنِي سَعْدُ بْنُ عُبَيْدَة السّلَمِيّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ. عَلَى أَنْ يُعْبَدَ اللّهُ وَيُكْفَرَ بِمَا دُونَهُ. وَإِقامِ الصّلاَةِ. وَإِيتَاءِ الزّكَاةِ. وَحَجّ الْبيْتِ. وَصَوْمِ رَمَضَانَ".
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا عَاصِمٌ (وَهُوَ ابْنُ مُحمّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ)، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ: عَبْدُ اللّهِ: قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "بُنِيَ الإِسْلاَمُ عَلَى خَمْسٍ. شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله، وَأَنّ مُحَمّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. وَإِقَامِ الصّلاَةِ. وَإِيتَاءِ الزّكاةِ. وَحَجّ الْبَيْتِ. وَصَوْمِ رَمَضَانَ".
وحدّثني ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا حَنْظَلَةُ قَالَ: سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ يُحَدّثُ طَاوُسا، أَنّ رَجُلاً قَالَ لِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ: أَلاَ تَغْزُو؟ فَقَالَ: إِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّ الإِسْلاَمَ بُنِيَ عَلَى خَمْسٍ. شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله. وَإِقَامِ الصّلاَةِ. وَإِيتَاءِ الزّكَاةِ. وَصِيَامِ رَمَضَانَ. وَحَجّ الْبَيْتِ".
قال مسلم رحمه الله (حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير الهمداني، ثنا أبو خالد يعني سليمان بن حيان الأحمر عن أبي مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: بني الإسلام على خمسة: على أن يوحد الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، والحج، فقال رجل: الحج وصيام رمضان؟ فقال: لا صيام رمضان والحج، هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الرواية الثانية: بني الإسلام على خمس: على أن يعبد الله ويكفر بما دونه، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان. وفي الرواية الثالثة: بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان. وفي الرواية الرابعة: أن رجلاً قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ألا تغزو؟ فقال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الإسلام بني على خمسة: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وحج البيت) أما الإسناد الأول المذكور هنا فكله كوفيون إلا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فإنه مكي مدني وأما الهمداني فبإسكان الميم وبالدال المهملة، وضبط هذا للاحتياط وإكمال الإيضاح وإلا فهو مشهور معروف، وأيضا فقد قدمت في آخر الفصول أن جميع ما في الصحيحين فهو همداني بالإسكان والمهملة. وأما حيان فبالمثناة، وتقدم أيضا في الفصول بيان ضبط هذه الصورة. وأما أبو مالك الأشجعي فهو سعد بن طارق المسمى في الرواية الثانية وأبوه صحابي. وأما ضبط ألفاظ المتن فوقع في الأصول: بني الإسلام على خمسة في الطريق الأول، والرابع بالهاء فيها، وفي الثاني والثالث خمس بلا هاء، وفي بعض الأصول المعتمدة في الرابع بلا هاء وكلاهما صحيح، والمراد برواية الهاء خمسة أركان أو أشياء أو نحو ذلك، وبرواية حذف الهاء خمس خصال أو دعائم أو قواعد أو نحو ذلك والله أعلم. وأما تقديم الحج وتأخيره ففي الرواية الأولى والرابعة تقديم الصيام، وفي الثانية والثالثة تقديم الحج، ثم اختلف العلماء في إنكار ابن عمر على الرجل الذي قدم الحج مع أن ابن عمر رواه كذلك كما وقع في الطريقين المذكورين، والأظهر والله أعلم أنه يحتمل أن ابن عمر سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بتقديم الحج ومرة بتقديم الصوم، فرواه أيضا على الوجهين في وقتين، فلما رد عليه الرجل وقدم الحج قال ابن عمر: لا ترد على ما لا علم لك به، ولا تعترض بما لا تعرفه، ولا تقدح فيما لا تتحققه، بل هو بتقديم الصوم هكذا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في هذا نفي لسماعه على الوجه الاَخر، ويحتمل أن ابن عمر كان سمعه مرتين بالوجهين كما ذكرنا، ثم لما رد عليه الرجل نسي الوجه الذي رده فأنكره، فهذان الاحتمالان هما المختاران في هذا. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: محافظة ابن عمر رضي الله عنهما على ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ونهيه عن عكسه تصلح حجة لكون الواو تقتضي الترتيب، وهو مذهب كثير من الفقهاء الشافعيين وشذوذ من النحويين، ومن قال: لا تقتضي الترتيب وهو المختار وقول الجمهور فله أن يقول: لم يكن ذلك لكونها تقتضي الترتيب، بل لأن فرض صوم رمضان نزل في السنة الثانية من الهجرة، ونزلت فريضة الحج سنة ست، وقيل: سنة تسع بالتاء المثناة فوق، ومن حق الأول أن يقدم في الذكر على الثاني، فمحافظة ابن عمر رضي الله عنهما لهذا. وأما رواية تقديم الحج فكأنه وقع ممن كان يرى الرواية بالمعنى، ويرى أن تأخير الأول أو الأهم في الذكر شائع في اللسان، فتصرف فيه بالتقديم والتأخير لذلك مع كونه لم يسمع نهي ابن عمر رضي الله عنهما عن ذلك فافهم ذلك فإنه من المشكل الذي لم أرهم بينوه. هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو بن الصلاح، وهذا الذي قاله ضعيف من وجهين: أحدهما: أن الروايتين قد ثبتتا في الصحيح وهما صحيحتان في المعنى لا تنافي بينهما كما قدمنا إيضاحه، فلا يجوز إبطال إحداهما. الثاني: أن فتح باب احتمال التقديم والتأخير في مثل هذا قدح في الرواة والروايات، فإنه لو فتح ذلك لم يبق لنا وثيق بشيء من الروايات إلا القليل، ولا يخفى بطلان هذا وما يترتب عليه من المفاسد وتعلق من يتعلق به ممن في قلبه مرض والله أعلم. ثم اعلم أنه وقع في رواية أبي عوانة الاسفرايني في كتابه المخرج على صحيح مسلم وشرطه عكس ما وقع في مسلم من قول الرجل لابن عمر: قدم الحج، فوقع فيه أن ابن عمر رضي الله عنهما قال للرجل: اجعل صيام رمضان آخرهن كما سمعت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله: لا يقاوم هذه الرواية ما رواه مسلم، قلت: وهذا محتمل أيضا صحته، ويكون قد جرت القضية مرتين لرجلين والله أعلم.
وأما اقتصاره في الرواية الرابعة على إحدى الشهادتين فهو إما تقصير من الراوي في حذف الشهادة الأخرى التي أثبتها غيره من الحفاظ، وإما أن يكون وقعت الرواية من أصلها هكذا، ويكون من الحذف للاكتفاء بأحد القرينتين ودلالته على الاَخر المحذوف والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "على أن يوحد الله" هو بضم الياء المثناة من تحت وفتح الحاء مبني لما لم يسم فاعله. أما اسم الرجل الذي رد عليه ابن عمر رضي الله عنهما تقديم الحج فهو يزيد بن بشر السكسكي، ذكره الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي في كتابه الأسماء المبهمة. وأما قوله: ألا تغزو فهو بالتاء المثناة من فوق للخطاب، ويجوز أن يكتب تغزوا بالألف وبحذفها، فالأول قول الكتاب المتقدمين، والثاني قول بعض المتأخرين وهو الأصح، حكاهما ابن قتيبة في أدب الكاتب. وأما جواب ابن عمر له بحديث: "بني الإسلام على خمس" فالظاهر أن معناه ليس الغزو بلازم على الأعيان، فإن الإسلام بني على خمس ليس الغزو منها والله أعلم. ثم إن هذا الحديث أصل عظيم في معرفة الدين وعليه اعتماده وقد جمع أركانه والله أعلم.
*2* باب الأمر بالإِيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين، والدعاء إليه، والسؤال عنه، وحفظه، وتَبليغه من لم يبلغه
*حدّثنا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبّاسٍ. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَاللّفْظُ لَهُ. أَخْبَرَنَا عَبّادُ بْنُ عَبّادٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: قَدِمَ وَفْدُ عَبْدِ الْقَيْسِ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّا، هَذا الْحَيّ مِنْ رَبِيعَةَ، وَقَدْ حَالَتْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفّارُ مُضَرَ. فَلاَ نَخْلُصُ إِلَيكَ إِلاّ فِي شَهْرِ الْحَرَامِ. فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَعْمَلُ بِهِ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ مَنْ وَرَاءَنَا. قَالَ: "آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ. وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعِ. الإِيمَانِ بِاللّهِ (ثُمّ فَسّرَهَا لَهُمْ فَقَالَ) شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّ مُحَمّدا رَسُولُ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ. وَإِيتَاءِ الزّكَاةِ. وَأَنْ تُؤدّوا خُمُسَ مَا غَنِمْتُمْ. وَأَنْهَاكُمْ عَنِ الدّبّاءِ. والْحَنْتَمِ. وَالنّقِيرِ. وَالْمُقَيّرِ" زَادَ خَلَفٌ فِي رِوَايَتِهِ "شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله" وَعَقَدَ وَاحِدَةً.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحمّدُ بْنُ الْمُثّنَى، وَ مُحمّدُ بْنُ بَشّارٍ. وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شْعْبَةَ، وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ قَالَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ يَدَيِ ابْنِ عَبّاسٍ، وَبَيْنَ النّاسِ. فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ تَسْأَلُهُ عَنْ نَبِيذِ الْجَرّ، فَقَالَ: إِنّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ أَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ الْوَفْدُ؟ أَوْ مَنِ الْقَوْمُ؟" قَالُوا: رَبِيعَةُ. قَالَ: "مَرْحَبا بِالْقَوْمِ. أَوْ بِالْوَفْدِ. غَيْرَ خَزَايَا وَلاَ النَدَامَى". قَالَ: فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنّا نَأْتِيكَ مِنْ شُقّةٍ بَعِيدَةٍ، وَإِنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ هَذَا الْحَيّ مِنْ كُفّارِ مُضَرَ، وإنّا لا نَسْتَطيع أن نأتيك إلا في شهر الحرام. فَمُرْنَا بِأَمْرٍ فَصْلٍ نُخْبِرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، نَدْخُلُ بِهِ الْجَنّةَ. قَالَ: فَأَمَرَهُمْ بِأَرْبَعٍ، وَنَهَاهُمْ عَنْ أَرْبَعٍ. قَالَ: أمرهم بالإيمان بِالله وَحْدَهُ. وَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِالله؟ قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّ مُحَمّدا رَسُولُ اللّهِ، وَإِقَامُ الصّلاَةِ، وَإِيتَاءُ الزّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُؤَدّوا خُمُسا من المغنم" وَنَهَاهُمْ عَنْ الدّبّاءِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفّتِ. قَالَ شُعْبَةُ: وَرُبّمَا قَالَ: النّقِيرِ. قَالَ شُعْبَةُ: وَرُبّمَا قَالَ: الْمُقَيّرِ. وَقَالَ "احْفَظُوهُ وَأَخْبِرُوا بِهِ مِنْ وَرَائِكُمْ". وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ فِي رِوَايَتِهِ "مَنْ وَرَاءَكُمْ" وَلَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ الْمُقَيّر.
وحدّثني عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ: حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنَا نَصْر بْنُ عَلِيَ الْجَهْضَمِيّ. قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي. قَالاَ جَمِيعا: حَدّثَنَا قُرّة بْنُ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي جَمْرَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ، عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ نَحْو حَدِيثِ شُعْبَةَ. وَقَالَ أَنْهَاكُمْ عَمّا يُنْبَذُ فِي الدّبّاءِ وَالنّقيرِ وَالْحَنْتَمِ وَالْمُزَفّتِ" وَزَادَ ابْنُ مُعَاذٍ فِي حَدِيثِهِ عَنْ أَبْيهِ قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِلأَشَجّ، أشَجّ عَبْدِ الْقَيْسِ : "إِنّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبّهُمَا الله: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ: حَدّثَنَا ابْنُ عُلَيّةَ: حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدّثَنَا مَنْ لَقِيَ الْوَفْدَ الّذِينَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ. قَالَ سَعِيدٌ: وَذَكَرَ قَتَادَةَ أَبَا نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ في حَدِيثِهِ هَذَا أَنّ أُناسا مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ قَدِمُوا عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا نَبِيّ اللّهِ! إِنّا حَيّ مِنْ رَبِيعَةَ. وَبَيْنَنَا وَبَيْنَكَ كُفّارُ مُضَرَ. وَلاَ نَقْدِرُ عَلَيْكَ إِلاّ فِي أَشْهُرِ الْحُرْمِ. فَمُرْنَا بِأَمْرٍ نَأْمُرُ بِهِ مَنْ وَرَاءَنَا، وَنَدْخُلُ بِهِ الْجَنّةَ، إِذَا نَحْنُ أَخَذْنَا بِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "آمُرُكُمْ بِأَرْبَعٍ. وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَربَعٍ. اعْبُدُوا اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا. وَأَقِيمُوا الصّلاَةَ. وَآتُوا الزّكاةَ. وَصُومُوا رَمَضَانَ. وَأَعْطُوا الْخُمُسَ مِنَ الْغَنَائِمِ. وَأَنْهَاكُمْ عَنْ أَرْبَعٍ. عَنِ الدّبّاءِ. وَالْحَنْتَم. وَالمُزَفّتِ وَالنّقِيرِ". قَالُوا: يَا نَبِيّ اللّهِ مَا عِلْمُكَ بِالنّقِيرِ؟ قَالَ "بَلَى. جِذعٌ تَنْقُرُونَهُ. فَتَقْذِفُونَ فِيهِ مِنَ الْقُطَيْعَاءِ" (قَالَ سَعِيدٌ: أَوْ قَالَ "مِنَ التّمْرِ) ثُمّ تَصُبّونَ فِيهِ مِنَ الْمَاءِ. حَتّى إِذَا سَكَنَ غَلَيَانُهُ شَرِبْتُمُوهُ. حَتّى أَنّ أَحَدَكُمْ (أَوْ إِنّ أَحَدَهُمْ) لَيَضْرِبُ ابْنَ عَمّهِ بِالسّيْفِ". قَالَ وَفِي الْقَومِ رَجُلٌ أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ كَذَلِكَ. قَالَ وَكُنْتُ أَخْبَأُهَا حَيَاءً مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: فَفِيمَ نَشْرَبُ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ "فِي أَسْقِيةِ الأَدَمِ، الّتِي يُلاَثُ عَلَى أَفْوَاهِهَا" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنّ أَرْضَنَا كَثِيرَةُ الْجِرْذَانِ. وَلاَ تَبْقَى بِهَا أَسْقِيَةُ الأَدَمِ. فَقَالَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ. وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ. وَإِنْ أَكَلَتْهَا الْجِرْذَانُ" قَالَ: وَقَالَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لأَشَجّ عَبْدِ الْقَيْسِ "إِنّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبّهُمَا اللّهُ: الْحِلْمُ وَالأَنَاةُ".
حدّثني مُحمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ. عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدّثَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ لَقِيَ ذَاكَ الْوَفْدَ. وَذَكَرَ أَبَا نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِيّ(أَنّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمّا قَدِمُوا عَلَى رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيّةَ. غَيْرَ أَنّ فِيهِ "وَتَذِيفُونَ فِيهِ مِنَ الْقُطَيْعَاءِ أَوِ التّمْرِ وَالْمَاءِ" وَلَمْ يَقُلْ (قَالَ سَعْيدٌ أَوْ قَالَ مِنَ التّمْرِ".
حدّثني مُحمّدُ بْنُ بَكّارٍ الْبَصْرِيّ: حَدّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ. ح وَحَدّثَنِي مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَاللّفْظُ لَهُ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو قَزَعْةَ أَنّ أَبَا نَضْرَةَ أَخْبَرَهُ، وَحَسَنا أَخْبَرَهُمَا أَنّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدَرِيّ أَخْبَرَهُ أَنّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمّا أَتَوا نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا نَبِيّ اللّهِ! جَعَلَنَا اللّهُ فِدَاءَكَ. مَاذَا يَصْلُحُ لَنَا مِنَ الأَشْرِبَةِ؟ فَقَالَ "لاَ تَشْرَبُوا فِي النّقِيرِ" قَالُوا: يَا نَبِيّ اللّهِ! جَعَلَنَا اللّهُ فِدَاءَكَ. أَوَ تَدْرِي مَا النّقِيرُ؟ قَالَ "نَعْمْ. الْجِذْعُ يُنْقَرُ وَسَطُهُ. وَلاَ فِي الدّبّاء، وَلاَ فِي الْحَنْتَمَةِ، وَعَلَيْكُم بِالْمُوكَى".
هذا الباب فيه حديث ابن عباس وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنهم. فأما حديث ابن عباس ففي البخاري أيضا. وأما حديث أبي سعيد ففي مسلم خاصة. قوله في الرواية الأولى: (حدثنا حماد بن زيد عن أبي جمرة قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنهما). وقوله في الرواية الثانية: (أخبرناعباد بن عباد عن أبي جمرة عن ابن عباس رضي الله عنهما) قد يتوهم من لا يعاني هذا الفن أن هذا تطويل لا حاجة إليه، وأنه خلاف عادته وعادة الحفاظ، فإن عادتهم في مثل هذا أن يقولوا عن حماد وعباد عن أبي جمرة عن ابن عباس، وهذا التوهم يدل على شدة غباوة صاحبه وعدم مؤانسته بشيء من هذا الفن، فإن ذلك إنما يفعلونه فيما استوى فيه لفظ الرواة، وهنا اختلف لفظهم، ففي رواية حماد عن أبي جمرة سمعت ابن عباس، وفي رواية عباد عن أبي جمرة عن ابن عباس، وهذا التنبيه الذي ذكرته ينبغي أن يتفطن لمثله، وقد نبهت على مثله بأبسط من هذه العبارة في الحديث الأول من كتاب الإيمان، ونبهت عليه أيضا في الفصول، وسأنبه على مواضع منه أيضا مفرقة في مواضع من الكتاب إن شاء الله تعالى، والمقصود أن تعرف هذه الدقيقة ويتيقظ الطالب بما جاء منها فيعرفه، وإن لم أنص عليه اتكالاً على فهمه بما تكرر التنبيه به، وليستدل أيضا بذلك على عظم إتقان مسلم رحمه الله وجلالته وورعه ودقة نظره وحذقه والله أعلم. وأما أبو جمرة وهو بالجيم والراء واسمه نصر بن عمران بن عصام، وقيل: ابن عاصم الضبعي بضم الضاد المعجمة البصري، قال صاحب المطالع: ليس في الصحيحين والموطأ أبو جمرة ولا جمرة بالجيم إلا هو، قلت: وقد ذكر الحاكم أبو أحمد الحافظ الكبير شيخ الحاكم أبي عبد الله في كتابه الأسماء والكنى: أبا جمرة نصر بن عمران هذا في الأفراد، فليس عنده في المحدثين من يكنى أبا جمرة بالجيم سواه، ويروى عن ابن عباس حديثا واحدا ذكر فيه معاوية بن أبي سفيان وإرسال النبيّ صلى الله عليه وسلم إليه ابن عباس وتأخره واعتذاره رواه مسلم في الصحيح. وحكى الشيخ أبو عمرو بن الصلاح في كتابه علوم الحديث والقطعة التي شرحها في أول مسلم عن بعض الحفاظ أنه قال: شعبة بن الحجاج روى عن سبعة رجال يروون كلهم عن ابن عباس كلهم يقال له أبو حمزة بالحاء والزاي إلا أبا جمرة نصر بن عمران فبالجيم والراء، قال: والفرق بينهم يدرك بأن شعبة إذا أطلق وقال: عن أبي جمرة عن ابن عباس فهو بالجيم وهو نصر بن عمران، وإذا روى عن غيره ممن هو بالحاء والزاي فهو يذكر اسمه أو نسبه والله أعلم. قوله: (قدم وفد عبد القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال صاحب التحرير: الوفد الجماعة المختارة من القوم ليتقدموهم في لقي العظماء والمصير إليهم في المهمات واحدهم وافد، قال: ووفد عبد القيس هؤلاء تقدموا قبائل عبد القيس للمهاجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أربعة عشر راكبا: الأشج العصري رئيسهم، ومزيدة بن مالك المحاربي، وعبيدة بن همام المحاربي، وصحار بن العباس المري، وعمرو بن مرحوم العصري، والحارث بن شعيب العصري، والحارث بن جندب من بني عايش، ولم نعثر بعد طول التتبع على أكثر من أسماء هؤلاء، قال: وكان سبب وفودهم أن منقذ ابن حيان أحد بني غنم بن وديعة كان متجره إلى يثرب في الجاهلية فشخص إلى يثرب بملاحف وتمر من هجر بعد هجرة النبيّ صلى الله عليه وسلم، فبينا منقذ بن حيان قاعد إذ مر به النبيّ صلى الله عليه وسلم فنهض منقذ إليه فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: أمنقذ بن حيان؟ كيف جميع هيئتك وقومك؟ ثم سأله عن أشرافهم رجل رجل يسميهم بأسمائهم، فأسلم منقذ وتعلم سورة الفاتحة، واقرأ باسم ربك، ثم رحل قبل هجر، فكتب النبيّ صلى الله عليه وسلم معه إلى جماعة عبد القيس كتابا فذهب به وكتمه أياما، ثم اطلعت عليه امرأته وهي بنت المنذر بن عائذ بالذال المعجمة ابن الحارث، والمنذر هو الأشج سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم به الأثر كان في وجهه، وكان منقذ رضي الله عنه يصلي ويقرأ، فنكرت امرأته ذلك فذكرته لأبيها المنذر فقالت: أنكرت بعلي منذ قدم من يثرب أنه يغسل أطرافه ويستقبل الجهة تعني القبلة، فيحني ظهره مرة ويضع جبينه مرة، ذلك ديدنه منذ قدم، فتلاقيا فتجاريا ذلك فوقع الإسلام في قلبه، ثم ثار الأشج إلى قومه عصر ومحارب بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه عليهم فوقع الإسلام في قلوبهم، وأجمعوا على السير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار الوفد فلما دنوا من المدينة قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لجلسائه: أتاكم وفد عبد القيس خير أهل المشرق وفيهم الأشج العصري غير ناكثين ولا مبدلين ولا مرتابين، إذ لم يسلم قوم حتى وتروا.
قال: وقولهم: (إنا هذا الحي من ربيعة) لأنه عبد القيس بن أفصى يعني بفتح الهمزة وبالفاء والصاد المهملة المفتوحة ابن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار، وكانوا ينزلون البحرين الخط وأعنابها وسرة القطيف والسفار والظهران إلى الرمل إلى الأجرع ما بين هجر إلى قصر وبينونة ثم الجوف والعيون والأحساء إلى حد أطراف الدهنا وسائر بلادنا، هذا ما ذكره صاحب التحرير. قوله: إنا هذا الحي، فالحي منصوب على التخصيص، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: الذي نختاره نصب الحي على التخصيص ويكون الخبر في قولهم من ربيعة، ومعناه: إنا هذا الحي حي من ربيعة، وقد جاء بعد هذا في الرواية الأخرى إنا حي من ربيعة. وأما معنى الحي فقال صاحب المطالع: الحي اسم لمنزل القبيلة، ثم سميت القبيلة به لأن بعضهم يحيا ببعض. قولهم: (وقد حالت بيننا وبينك كفار مضر) سببه أن كفار مضر كانوا بينهم وبين المدينة فلا يمكنهم الوصول إلى المدينة إلا عليهم. قولهم: (ولا نخلص إليك إلا في شهر الحرام) معنى نخلص نصل، ومعنى كلامهم: إنا لا نقدر على الوصول إليك خوفا من أعدائنا الكفار إلا في الشهر الحرام، فإنهم لا يتعرضون لنا كما كانت عادة العرب من تعظيم الأشهر الحرم وامتناعهم من القتال فيها، وقولهم شهر الحرام كذا هو في الأصول كلها بإضافة شهر إلى الحرام. وفي الرواية الأخرى أشهر الحرم والقول فيه كالقول في نظائره من قولهم مسجد الجامع وصلاة الأولى، ومنه قول الله تعالى بجانب الغربي: "والدار الاَخرة" فعلى مذهب النحويين الكوفيين هو من إضافة الموصوف إلى صفته وهو جائز عندهم، وعلى مذهب البصريين لا تجوز هذه الإضافة، ولكن هذا كله عندهم على حذف في الكلام للعلم به، فتقديره شهر الوقت الحرام، وأشهر الأوقات الحرم، ومسجد المكان الجامع، ودار الحياة الاَخرة، وجانب المكان الغربي، ونحو ذلك والله أعلم. ثم أن قولهم: شهر الحرام المراد به جنس الأشهر الحرم وهي أربعة أشهر حرم كما نص عليه القرآن العزيز، وتدل عليه الرواية الأخرى بعد هذه إلا في أشهر الحرم، والأشهر الحرم هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، هذه الأربعة هي الأشهر الحرم بإجماع العلماء من أصحاب الفنون، ولكن اختلفوا في الأدب المستحسن في كيفية عدها على قولين، حكاهما الإمام أبو جعفر النحاس في كتابه صناعة الكتاب قال: ذهب الكوفيون إلى أنه يقال: المحرم ورجب ذو القعدة وذو الحجة، قال: والكتاب يميلون إلى هذا القول ليأتوا بهن من سنة واحدة، قال: وأهل المدينة يقولون: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، وقوم ينكرون هذا ويقولون: جاؤوا بهن من سنتين، قال أبو جعفر: وهذا غلط بين وجهل باللغة لأنه قد علم المراد، وأن المقصود ذكرها، وأنها في كل سنة، فكيف يتوهم أنها من سنتين؟ قال: والأولى والاختيار ما قاله أهل المدينة، لأن الأخبار قد تظاهرت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قالوا من رواية ابن عمر وأبي هريرة وأبي بكرة رضي الله عنهم، قال: وهذا أيضا قول أكثر أهل التأويل، قال النحاس: وأدخلت الألف واللام في المحرم دون غيره من الشهور، قال: وجاء من الشهور ثلاثة مضافات: شهر رمضان وشهرا ربيع، يعني والباقي غير مضافات، وسمي الشهر شهرا لشهرته وظهوره والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله ثم فسرها لهم فقال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا خمس ما غنمتم. وفي رواية: شهادة أن لا إله إلا الله وعقد واحدة) وفي الطريق الأخرى قال: وأمرهم بأربع ونهاهم عن أربع، قال: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: وهل تدرون ما الإيمان بالله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تؤدوا خمسا من المغنم. وفي الرواية الأخرى قال: آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا الخمس من الغنائم. هذه ألفاظه هنا، وقد ذكر البخاري هذا الحديث في مواضع كثيرة من صحيحه وقال فيه في بعضها: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذكره في باب إجازة خبر الواحد، وذكره في باب بعد باب نسبة اليمن إلى إسماعيل صلى الله عليه وسلم في آخر ذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقال فيه: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع، الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان بزيادة واو. وكذلك قال فيه في أول كتاب الزكاة: الإيمان بالله، وشهادة أن لا إله إلا الله بزيادة واو أيضا ولم يذكر فيها الصيام. وذكر في باب حديث وفد عبد القيس: الإيمان بالله شهادة أن لا إله إلا الله، فهذه ألفاظ هذه القطعة في الصحيحين، وهذه الألفاظ مما يعد من المشكل، وليست مشكلة عند أصحاب التحقيق، والإشكال في كونه صلى الله عليه وسلم قال: آمركم بأربع، والمذكور في أكثر الروايات خمس.
واختلف العلماء في الجواب عن هذا على أقوال أظهرها: ما قاله الإمام ابن بطال رحمه الله تعالى في شرح صحيح البخاري قال: أمرهم بالأربع التي وعدهم بها ثم زادهم خامسة يعني أداء الخمس، لأنهم كانوا مجاورين لكفار مضر، فكانوا أهل جهاد وغنائم. وذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح نحو هذا فقال: قوله أمرهم بالإيمان بالله أعاده لذكر الأربع ووصفه لها بأنها إيمان، ثم فسرها بالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم، فهذا موافق لحديث: "بني الإسلام على خمس" ولتفسير الإسلام بخمس في حديث جبريل صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن ما يسمى إسلاما يسمى إيمانا، وأن الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان، وقد قيل: إنما لم يذكر الحج في هذا الحديث لكونه لم يكن نزل فرضه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وأن تؤدوا خمسا من المغنم" فليس عطفا على قوله: شهادة أن لا إله إلا الله، فإنه يلزم منه أن يكون الأربع خمسا، وإنما هو عطف على قوله بأربع فيكون مضافا إلى الأربع لا واحدا منها، وإن كان واحدا من مطلق شعب الإيمان. قال: وأما عدم ذكر الصوم في الرواية الأولى فهو إغفال من الراوي، وليس من الاختلاف الصادر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل من اختلاف الرواة الصادر من تفاوتهم في الضبط والحفظ على ما تقدم بيانه، فافهم ذلك وتدبره تجده إن شاء الله تعالى مما هدانا الله سبحانه وتعالى لحله من العقد، هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو، وقيل في معناه غير ما قالاه مما ليس بظاهر فتركناه والله أعلم. وأما قول الشيخ: أن ترك الصوم في بعض الروايات إغفال من الراوي، وكذا قاله القاضي عياض وغيره وهو ظاهر لا شك فيه، قال القاضي عياض رحمه الله: وكانت وفاة عبد القيس عام الفتح قبل خروج النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة، ونزلت فريضة الحج سنة تسع بعدها على الأشهر والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وأن تؤدوا خمس ما غنمتم" ففيه إيجاب الخمس من الغنائم وإن لم يكن الإمام في السرية الغازية، وفي هذا تفصيل وفروع سننبه عليها في بابها إن وصلناه إن شاء الله تعالى، ويقال خمس بضم الميم وإسكانها، وكذلك الثلث والربع والسدس والسبع والثمن والتسع والعشر بضم ثانيها ويسكن والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمقير" وفي رواية: المزفت بدل المقير، فنضبطه ثم نتكلم على معناه إن شاء الله تعالى. فالدباء بضم الدال وبالمد وهو القرع اليابس أي الوعاء منه. وأما الحنتم فبحاء مهملة مفتوحة ثم نون ساكنة ثم تاء مثناة من فوق مفتوحة ثم ميم الواحدة حنتمة. وأما النقير فبالنون المفتوحة والقاف. وأما المقير فبفتح القاف والياء، فأما الدباء فقد ذكرناه. وأما الحنتم فاختلف فيها فأصح الأقوال وأقواها أنها جرار خضر، وهذا التفسير ثابت في كتاب الأشربة من صحيح مسلم عن أبي هريرة، وهو قول عبد الله بن مغفل الصحابي النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبه قال الأكثرون أو كثيرون من أهل اللغة، وغريب الحديث والمحدثين والفقهاء. والثاني أنها الجرار كلها قاله عبد الله بن عمر وسعيد بن جبير وأبو سلمة. والثالث أنها جرار يؤتى بها من مصر مقيرات الأجواف، وروي ذلك عن أنس بن مالك النبيّ صلى الله عليه وسلم ونحوه عن ابن أبي ليلى وزاد: أنها حمر. والرابع عن عائشة رضي الله عنها جرار حمر أعناقها في جنوبها يجلب فيها الخمر من مصر. والخامس عن ابن أبي ليلى أيضا أفواهها في جنوبها يجلب فيها الخمر من الطائف، وكان ناس ينتبذون فيها يضاهون به الخمر. والسادس عن عطاء جرار كانت تعمل من طين وشعر ودم. وأما النقير فقد جاء في تفسيره في الرواية الأخيرة أنه جذع ينقر وسطه. وأما المقير فهو المزفت وهو المطلي بالقار وهو الزفت، وقيل الزفت نوع من القار والصحيح الأول، فقد صح عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: المزفت هو المقير. وأما معنى النهي عن هذه الأربع فهو أنه نهى عن الانتباذ فيها، وهو أن يجعل في الماء حبات من تمر أو زبيب أو نحوهما ليحلو ويشرب، وإنما خصت هذه بالنهي لأنه يسرع إليه الإسكار فيها فيصير حراما نجسا وتبطل ماليته، فنهى عنه لما فيه من إتلاف المال، ولأنه ربما شربه بعد إسكاره من لم يطلع عليه، ولم ينه عن الانتباذ في أسقية الأدم بل أذن فيها لأنها لرقتها لا يخفى فيها المسكر، بل إذا صار مسكرا شقها غالبا، ثم إن هذا النهي كان في أول الأمر، ثم نسخ بحديث بريدة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "كنت نهيتكم عن الانتباذ إلا في الأسقية فانتبذوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرا" رواه مسلم في الصحيح، هذا الذي ذكرناه من كونه منسوخا هو مذهبنا ومذهب جماهير العلماء. قال الخطابي: القول بالنسخ هو أصح الأقاويل. قال: وقال قوم التحريم باق، وكرهوا الانتباذ في هذه الأوعية، ذهب إليه مالك وأحمد وإسحاق، وهو مروي عن ابن عمر وعباس رضي الله عنهم والله أعلم.
قوله: (قال أبو بكر: حدثنا غندر عن شعبة، وقال الاَخران: ثنا محمد بن جعفر قال: ثنا شعبة) هذا من احتياط مسلم رضي الله عنه، فإن غندرا هو محمد بن جعفر، ولكن أبو بكر ذكره بلقبه والاَخران باسمه ونسبه، وقال أبو بكر عنه عن شعبة. وقال الاَخران عنه: حدثنا شعبة فحصلت مخالفة بينهما وبينه من وجهين، فلهذا نبه عليه مسلم رحمه الله تعالى. وقد تقدم في المقدمة أن دال غندر مفتوحة على المشهور، وأن الجوهري حكى ضمها أيضا، وتقدم بيان سبب تلقيبه بغندر. قوله: (كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس) كذا هو في الأصول، وتقديره بين يدي ابن عباس بينه وبين الناس، فحذف لفظة بينه لدلالة الكلام عليها، ويجوز أن يكون المراد بين ابن عباس وبين الناس كما جاء في البخاري وغيره بحذف يدي، فتكون يدي عبارة عن الجملة كما قال الله تعالى: {يوم ينظر المرء ما قدمت يداه} أي قدم، والله أعلم. وأما معنى الترجمة فهو التعبير عن لغة بلغة، ثم قيل: إنه كان يتكلم بالفارسية، فكان يترجم لابن عباس عمن يتكلم بها، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: وعندي أنه كان يبلغ كلام ابن عباس إلى من خفي عليه من الناس، إما لزحام منع من سماعه فأسمعهم، وإما لاختصار منع من فهمه فأفهمهم أو نحو ذلك، قال: وإطلاقه لفظ الناس يشعر بهذا، قال: وليست الترجمة مخصوصة بتفسير لغة بلغة أخرى، فقد أطلقوا على قولهم باب كذا اسم الترجمة لكونه يعبر عما يذكره بعده، هذا كلام الشيخ، والظاهر أن معناه أنه يفهمهم عنه ويفهمه عنهم والله أعلم. قوله: (فأتته امرأة تسأله عن نبيذ الجر) أما الجر فبفتح الجيم وهو اسم جمع الواحدة جرة، ويجمع أيضا على جرار، وهو هذا الفخار المعروف، وفي هذا دليل على جواز استفتاء المرأة الرجال الأجانب وسماعها صوتهم وسماعهم صوتها للحاجة. وفي قوله: إن وفد عبد القيس الخ، دليل على أن مذهب ابن عباس رضي الله عنه أن النهي عن الانتباذ في هذه الأوعية ليس بمنسوخ بل حكمه باق، وقد قدمنا بيان الخلاف فيه. قوله صلى الله عليه وسلم: (مرحبا بالقوم) منصوب على المصدر استعملته العرب وأكثرت منه، تريد به البر وحسن اللقاء، ومعناه صادقت رحبا وسعة. قوله صلى الله عليه وسلم: (غير خزايا ولا الندامى) هكذا هو في الأصول الندامى بالألف واللام، وخزايا بحذفهما، وروي في غير هذا الموضع بالألف واللام فيهما، وروي بإسقاطهما فيهما، والرواية فيه غير بنصب الراء على الحال، وأشار صاحب التحرير إلى أنه يروى أيضا بكسر الراء على الصفة للقوم والمعروف الأول، ويدل عليه ما جاء في رواية البخاري: "مرحبا بالقوم الذين جاؤوا وغير خزايا ولا ندامى" والله أعلم. أما الخزايا فجمع خزيان كحيران وحيارى، وسكران وسكارى، والخزيان المستحي وقيل: الذليل المهان. وأما الندامى فقيل إنه جمع ندمان بمعنى نادم وهي لغة في نادم، حكاها القزاز صاحب جامع اللغة والجوهري في صحاحه، وعلى هذا هو على بابه، وقيل: هو جمع نادم اتباعا للخزايا، وكان الأصل نادمين فأتبع لخزايا تحسينا للكلام، وهذا الاتباع كثير في كلام العرب وهو من فصيحه، ومنه قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ارجعن مأزورات غير مأجورات" أتبع مأزورات لمأجورات، ولو أفرد ولم يضم إليه مأجورات لقال: موزورات، كذا قاله الفراء وجماعات قالوا: ومنه قول العرب: إني لاَتية بالغدايا والعشايا، جمعوا الغداة على غدايا اتباعا لعشايا، ولو أفردت لم يجز إلا غدوات، وأما معناه فالمقصود أنه لم يكن منكم تأخر عن الإسلام ولا عناد، ولا أصابكم إسار ولا سبأ، ولا ما أشبه ذلك مما تستحيون بسببه أو تذلون أو تهانون أو تندمون والله أعلم. قوله: (فقالوا يا رسول الله إنا نأتيك من شقة بعيدة) الشقة بضم الشين وكسرها لغتان مشهورتان وأفصحهما الضم وهي التي جاء بها القرآن العزيز. قال الإمام أبو إسحاق الثعلبي: وقرأ عبيد بن عمير بكسر الشين وهي لغة قيس، والشقة السفر البعيد، كذا قاله ابن السكيت وابن قتيبة وقطرب وغيرهم، قيل: سميت شقة لأنها تشق على الإنسان، وقيل: هي المسافة، وقيل: الغاية التي يخرج الإنسان إليها، فعلى القول الأول يكون قولهم بعيدة مبالغة في بعدها والله أعلم. قولهم: (فمرنا بأمر فصل) هو بتنوين أمر، قال الخطابي وغيره: هو البين الواضح الذي ينفصل به المراد ولا يشكل. قوله صلى الله عليه وسلم: (وأخبروا به من ورائكم، وقال أبو بكر في روايته: من وراءكم) هكذا ضبطناه وكذا هو في الأصول الأول بكسر الميم، والثاني بفتحها، وهما يرجعان إلى معنى واحد. قوله: (وحدثنا نصر بن علي الجهضمي) هو بفتح الجيم والضاد المعجمة وإسكان الهاء بينهما، وقد تقدم بيانه في شرح المقدمة. قوله: (قالا جميعا) فلفظة جميعا منصوبة على الحال ومعناه: اتفقا واجتمعا على التحديث بما يذكره، إما مجتمعين في وقت واحد، وإما في وقتين، ومن اعتقد أنه لا بد أن يكون ذلك في وقت واحد فقد غلط غلطا بينا.
قوله: (وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج أشج عبد القيس: إن فيك لخصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) أما الأشج فإسمه المنذر بن عائذ بالذال المعجمة العصري بفتح العين والصاد المهملتين، هذا هو الصحيح المشهور الذي قاله ابن عبد البر والأكثرون أو الكثيرون. وقال ابن الكلبي: اسمه المنذر بن الحارث بن زياد بن عصر بن عوف، وقيل: اسمه المنذر بن عامر، وقيل: المنذر بن عبيد، وقيل: اسمه عائذ بن المنذر، وقيل: عبد الله بن عوف. وأما الحلم فهو العقل. وأما الأناة. فهي التثبت وترك العجلة وهي مقصورة، وسبب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم له ما جاء في حديث الوفد: "أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وأقام الأشج عند رحالهم فجمعها وعقل ناقته ولبس أحسن ثيابه ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقربه النبيّ صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: تبايعون على أنفسكم وقومكم؟ فقال القوم: نعم، فقال الأشج: يا رسول الله إنك لم تزاول الرجل عن شيء أشد عليه من دينه نبايعك على أنفسنا ونرسل من يدعوهم، فمن اتبعنا كان منا، ومن أبى قاتلناه، قال: صدقت إن فيك خصلتين" الحديث. قال القاضي عياض: فالأناة تربصه حتى نظر في مصالحه ولم يعجل. والحلم هذا القول الذي قاله الدال على صحة عقله وجودة نظره للعواقب، قلت: ولا يخالف هذا ما جاء في مسند أبي يعلى وغيره أنه لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأشج: "إن فيك خصلتين" الحديث، قال: "يا رسول الله كانا في أم حدثا؟ قال: بل قديم، قال: قلت: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما".
قوله: (حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: حدثنا من لقي الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد القيس، قال سعيد: وذكر قتادة أبا نضرة عن أبي سعيد الخدري) معنى هذا الكلام أن قتادة حدث بهذا الحديث عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري كما جاء مبينا في الرواية التي بعد هذا من رواية ابن أبي عدي، وأما أبو عروبة بفتح العين فاسمه مهران، وهكذا يقوله أهل الحديث وغيرهم عروبة بغير ألف ولام، وقال ابن قتيبة في كتابه أدب الكاتب في باب ما تغير من أسماء الناس: هو ابن أبي العروبة بالألف واللام، يعني أن قولهم عروبة لحن. وذكره ابن قتيبة في كتابه المعارف كما ذكره غيره فقال: سعيد بن أبي عروبة يكنى أبا النضر لا عقب له، يقال أنه لم يمس امرأة قط، واختلط في آخر عمره، وهذا الذي قاله من اختلاطه كذا قاله غيره واختلاطه مشهور، قال يحيى بن معين: وخلط سعيد بن أبي عروبة بعد هزيمة إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن حسن سنة ثنتين وأربعين يعني ومائة، ومن سمع منه بعد ذلك فليس بشيء، ويزيد بن هارون صحيح السماع منه بواسط، وأثبت الناس سماعا منه عبدة بن سليمان، قلت: وقد مات سعيد بن أبي عروبة سنة ست وخمسين ومائة، وقيل: سنة سبع وخمسين، وقد تقرر من القاعدة التي قدمناها أن من علمنا أنه روى عن المختلط في حال سلامته قبلنا روايته واحتججنا بها، ومن روى في حال الاختلاط أو شككنا فيه لم نحتج بروايته، وقد قدمنا أيضا أن من كان من المختلطين محتجا به في الصحيحين فهو محمول على أنه ثبت أخذ ذلك عنه قبل الاختلاط والله أعلم. وأما أبو نضرة بفتح النون وإسكان الضاد المعجمة فاسمه المنذر بن مالك بن قطعة بكسر القاف وإسكان الطاء العوقي بفتح العين والواو وبالقاف، هذا هو المشهور الذي قاله الجمهور. وحكى صاحب المطالع أن بعضهم سكن الواو من العوقي، والعوقة بطن من عبد القيس وهو بصري والله أعلم. وأما أبو سعيد الخدري فاسمه سعد بن مالك بن سنان منسوب إلى بني خدرة، وكان أبوه مالك رضي الله عنه صحابيا أيضا قتل يوم أحد شهيدا. قوله صلى الله عليه وسلم: (فتقذفون فيه من القطيعاء) أما تقذفون فهو بتاء مثناة فوق مفتوحة ثم قاف ساكنة ثم ذال معجمة مكسورة ثم فاء ثم واو ثم نون، كذا وقع في الأصول كلها في هذا الموضع الأول، ومعناه تلقون فيه وترمون. وأما قوله في الرواية الأخرى وهي رواية محمد بن المثنى وابن بشار عن ابن أبي عدي: وتذيفون به من القطيعاء فليست فيها قاف، وروي بالذال المعجمة وبالمهملة وهما لغتان فصيحتان وكلاهما بفتح التاء، وهو من ذاف يذيف بالمعجمة، كباع يبيع، وداف يدوف بالمهملة، كقال يقول، وإهمال الدال أشهر في اللغة، وضبطه بعض رواة مسلم بضم التاء على رواية المهملة، وعلى رواية المعجمة أيضا جعله من أذاف، والمعروف فتحها من ذاف وأذاف، ومعناه على الأوجه كلها خلط والله أعلم. وأما القطيعاء فبضم القاف وفتح الطاء وبالمد وهو نوع من التمر صغار يقال له الشهريز بالشين المعجمة والمهملة، وبضمهما وبكسرهما. قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى إن أحدكم أو إن أحدهم ليضرب ابن عمه بالسيف) معناه إذا شرب هذا الشراب سكر فلم يبق له عقل وهاج به الشر فيضرب ابن عمه الذي هو عنده من أحب أحبابه، وهذه مفسدة عظيمة ونبه بها على ما سواها من المفاسد. وقوله: أحدكم أو أحدهم شك من الراوي والله أعلم. قوله: (وفي القوم رجل أصابته جراحة) واسم هذا الرجل جهم وكانت الجراحة في ساقه. قوله صلى الله عليه وسلم: (في أسقية الأدم التي يلاث على أفواهها) أما الأدم فبفتح الهمزة والدال جمع أديم وهو الجلد الذي تنم دباغه. وأما يلاث على أفواهها فبضم المثناة من تحت وتخفيف اللام وآخره ثاء مثلثة، كذا ضبطناه وكذا هو في أكثر الأصول، وفي أصل الحافظ: أبي عامر العبدري ثلاث بالمثناة فوق وكلاهما صحيح، فمعنى الأول: يلف الخيط على أفواهها ويربط به. ومعنى الثاني: تلف الأسقية على أفواهها، كما يقال: ضربته على رأسه. قوله: (إن أرضنا كثيرة الجرذان) كذا ضبطناه كثيرة بالهاء في آخره، ووقع في كثير من الأصول كثير بغير هاء، قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: صح في أصولنا كثير من غير تاء التأنيث، والتقدير فيه على هذا أرضنا مكان كثير الجرذان، ومن نظائره قول الله عز وجل: {إن رحمة الله قريب من المحسنين}. وأما الجرذان فبكسر الجيم وإسكان الراء وبالذال المعجمة جمع جرذ بضم الجيم وفتح الراء كنغر ونغران، وصرد وصردان، والجرذ نوع من الفار، كذا قاله الجوهري وغيره. وقال الزبيدي في مختصر العين: هو الذكر من الفار، وأطلق جماعة من شراح الحديث أنه الفار. قوله صلى الله عليه وسلم: (وإن أكلتها الجرذان وإن أكلتها الجرذان وإن أكلتها الجرذان) هكذا هو في الأصول مكرر ثلاث مرات.
قوله: (قالا ثنا ابن أبي عدي) هو محمد بن إبراهيم، وإبراهيم هو أبو عدي.
(يتبع...)
*(تابع... 1): حدّثنا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ... ...
قوله: (حدثنا أبو عاصم عن ابن جريج) أما أبو عاصم فالضحاك بن مخلد النبيل. وأما ابن جريج فهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. قوله: (حدثني محمد بن رافع، ثنا عبد الرزاق، أنا ابن جريج قال: أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة أخبره وحسنا أخبرهما أن أبا سعيد الخدري أخبره) هذا الإسناد معدود في المشكلات، وقد اضطربت فيه أقوال الأئمة، وأخطأ فيه جماعات من كبار الحفاظ، والصواب فيه ما حققه وحرره وبسطه وأوضحه الإمام الحافظ أبو موسى الأصبهاني في الجزء الذي جمعه فيه وما أحسنه وأجوده، وقد لخصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله فقال: هذا الإسناد أحد المعضلات، ولإعضاله وقع فيه تعبيرات من جماعة واهمة، فمن ذلك رواية أبي نعيم الأصبهاني في مستخرجه على كتاب مسلم بإسناده: أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة وحسنا أخبرهما أن أبا سعيد الخدري أخبره، وهذا يلزم منه أن يكون أبو قزعة هو الذي أخبر أبا نضرة وحسنا عن أبي سعيد، ويكون أبو قزعة هو الذي سمع من أبي سعيد وذلك منتف بلا شك، ومن ذلك أن أبا علي الغساني صاحب تقييد المهمل رد رواية مسلم هذه، وقلده في ذلك صاحب المعلم، ومن شأنه تقليده فيما يذكره من علم الأسانيد، وصوبهما في ذلك القاضي عياض فقال أبو علي: الصواب في الإسناد عن ابن جريج قال: أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة وحسنا أخبراه أن أبا سعيد أخبره، وذكر أنه إنما قال أخبره ولم يقل أخبرهما لأنه رد الضمير إلى أبي نضرة وحده وأسقط الحسن لموضع الإرسال، فإنه لم يسمع من أبي سعيد ولم يلقه، وذكر أنه بهذا اللفظ الذي ذكره مسلم خرجه أبو علي بن السكن في مصنفه بإسناده قال: وأظن أن هذا من إصلاح ابن السكن، وذكر الغساني أيضا أنه رواه كذلك أبو بكر البزار في مسنده الكبير بإسناده، وحكى عنه وعن عبد الغني بن سعيد الحافظ أنهما ذكرا أن حسنا هذا هو الحسن البصري، وليس الأمر في ذلك على ما ذكروه، بل ما أورده مسلم في هذا الإسناد هو الصواب، وكما أورده أحمد بن حنبل عن روح بن عبادة عن ابن جريج، وقد انتصر له الحافظ أبو موسى الأصبهاني رحمه الله، وألف في ذلك كتابا لطيفا تبجح فيه بإجادته وإصابته مع وهم غير واحد فيه، فذكر أن حسنا هذا هو الحسن بن مسلم بن يناق الذي روى عنه ابن جريج غير هذا الحديث، وأن معنى هذا الكلام أن أبا نضرة أخبره بهذا الحديث أبا قزعة وحسن بن مسلم كليهما، ثم أكد ذلك بأن أعاد فقال: أخبرهما أن أبا سعيد أخبره يعني أخبر أبو سعيد أبا نضرة، وهذا كما تقول: أن زيدا جاءني وعمرا جاءني فقالا كذا وكذا، وهذا من فصيح الكلام، واحتج على أن حسنا فيه هو الحسن بن مسلم بن يناق بن سلمة بن شبيب وهو ثقة، رواه عن عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني أبو قزعة أن أبا نضرة أخبره، وحسن بن مسلم بن يناق أخبرهما أن أبا سعيد أخبره الحديث. ورواه أبو الشيخ الحافظ في كتابه المخرج على صحيح مسلم، وقد أسقط أبو مسعود الدمشقي وغيره ذكر حسن من الإسناد لأنه مع إشكاله لا مدخل له في الرواية، وذكر الحافظ أبو موسى ما حكاه أبو علي الغساني وبين بطلانه وبطلان رواية من غير الضمير في قوله أخبرهما وغير ذلك من التغييرات، ولقد أجاد وأحسن رضي الله عنه، هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو رحمه الله، وفي هذا القدر الذي ذكره أبلغ كفاية، وإن كان الحافظ أبو موسى قد أطنب في بسطه وإيضاحه بأسانيده واستشهاداته، ولا ضرورة إلى زيادة على هذا القدر والله أعلم. وأما أبو قزعة المذكور فاسمه سويد بن حجير بحاء مهملة مضمومة ثم جيم مفتوحة وآخره راء وهو باهلي بصري، انفرد مسلم بالرواية له دون البخاري، وقزعة بفتح القاف وبفتح الزاي وإسكانها، ولم يذكر أبو علي الغساني في تقييد المهمل سوى الفتح، وحكى القاضي عياض فيه الفتح والإسكان، ووجد بخط ابن الأنباري بالإسكان، وذكر ابن مكي في كتابه فيما يلحن فيه أن الإسكان هو الصواب والله أعلم. قولهم: (جعلنا الله فداك) هو بالكسر الفاء وبالمد ومعناه يقيك المكاره. قوله صلى الله عليه وسلم: (وعليكم بالموكى) هو بضم الميم وإسكان الواو مقصور غير مهموز ومعناه: انبذوا في السقاء الدقيق الذي يوكى أي يربط فوه بالوكاء وهو الخيط الذي يربط به والله أعلم. هذا ما يتعلق بألفاظ هذا الحديث. وأما أحكامه ومعانيه فقد اندرج جمل منها فيما ذكرته، وأنا أشير إليها ملخصة مختصرة مرتبة. ففي هذا الحديث وفادة الرؤساء والأشراف إلى الأئمة عند الأمور المهمة، وفيه تقديم الاعتذار بين يدي المسألة، وفيه بيان مهمات الإسلام وأركانه ما سوى الحج، وقد قدمنا أنه لم يكن فرض، وفيه استعانة العالم في تفهيم الحاضرين، والفهم عنهم ببعض أصحابه كما فعله ابن عباس رضي الله عنهما، وقد يستدل به على أنه يكفي في الترجمة في الفتوى والخبر قول واحد، وفيه استحباب قول الرجل لزواره والقادمين عليه: مرحبا ونحوه، والثناء عليهم إيناسا وبسطا، وفيه جواز الثناء على الإنسان فيه وجهه إذا لم يخف عليه فتنة بإعجاب ونحوه، وأما استحبابه فيختلف بحسب الأحوال والأشخاص.
وأما النهي عن المدح في الوجه فهو في حق من يخاف عليه الفتنة بما ذكرناه، وقد مدح النبيّ صلى الله عليه وسلم في مواضع كثيرة في الوجه فقال صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: "لست منهم" وقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر لا تبك إن أمن الناس علي في صحبته وماله أبو بكر". "ولو كنت متخذا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً". وقال له: "وأرجو أن تكون منهم أي من الذين يدعون من أبواب الجنة". وقال صلى الله عليه وسلم: "ائذن له وبشره بالجنة. وقال صلى الله عليه وسلم: "اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان" وقال صلى الله عليه وسلم: "دخلت الجنة ورأيت قصرا فقلت لمن هذا؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فأردت أن أدخله فذكرت غيرتك، فقال عمر رضي الله عنه: بأبي أنت وأمي يا رسول الله أعليك أغار؟" وقال له: "ما لقيك الشيطان سالكا فجا إلا سلك فجا غير فجك". وقال صلى الله عليه وسلم: "افتح لعثمان وبشره بالجنة" وقال لعلي رضي الله عنه: "أنت مني وأنا منك" وفي الحديث الاَخر: "أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟" وقال صلى الله عليه وسلم لبلال: "سمعت دق نعليك في الجنة". وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن سلام: "أنت على الإسلام حتى تموت". وقال للأنصاري: "ضحك الله عز وجل أو عجب من فعالكما". وقال للأنصار: "أنتم من أحب الناس إلي". ونظائر هذا كثيرة من مدحه صلى الله عليه وسلم في الوجه. وأما مدح الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والأئمة الذين يقتدى بهم رضي الله عنهم أجمعين فأكثر من أن يحصر والله أعلم. وفي حديث الباب من الفوائد أنه لا عتب على طالب العلم والمستفتى إذا قال للعالم: أوضح لي الجواب، ونحو هذه العبارة وفيه: أنه لا بأس بقول رمضان من غير ذكر الشهر، وفيه جواز مراجعة العالم على سبيل الاسترشاد والاعتذار ليتلطلف له في جواب لا يشق عليه، وفيه تأكيد الكلام وتفخيمه ليعظم وقعه في النفس، وفيه جواز قول الإنسان لمسلم: جعلني الله فداك، فهذه أطراف مما يتعلق بهذا الحديث، وهي وإن كانت طويلة فهي مختصرة بالنسبة إلى طالبي التحقيق والله أعلم. وله الحمد والمنة وبه التوفيق والعصمة.
*2* باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيُبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ، وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعا عَنْ وَكِيعٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ زَكَرِيّاءَ بْنِ إِسْحَقَ. قَالَ: حَدّثَنِي يَحْيَىَ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ صَيْفِيَ عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جبَلٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: ربّمَا قَالَ وَكِيعٌ : عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ مُعَاذا قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "إِنّكَ تَأْتِي قَوْما مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله. وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ. فَأَعْلِمْهُمْ أَنّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنّ الله افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ، فَإِيّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ. وَاتّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللّهِ حِجَابٌ".
حدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا بِشْرُ بْنُ السّرِيّ. حَدّثَنَا زَكَرِيّاءُ بْنُ إِسْحَقَ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. حَدّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ. عَن زَكَرِيّاءَ بْنِ إِسْحَقَ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ صَيْفِيّ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ مُعَاذا إِلَى الْيَمنِ. فَقَالَ: "إِنّكَ سَتَأْتِي قَوْما" بِمثْلِ حَدِيثِ وَكِيعٍ.
حدّثنا أُمَيّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيّ: حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: حَدّثَنَا رَوْحٌ (وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ)، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيّةَ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ صَيْفِيَ، عَنْ أَبِي مَعْبَدٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَمّا بَعَثَ مُعَاذا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: "إِنّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ. فَلْيَكُنْ أَوّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ الله عَزّ وَجَلّ. فَإِذَا عَرَفُوا الله، فَأَخْبِرْهُمْ أَنّ الله فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ. فَإِذَا فَعَلُوا، فَأَخْبِرْهُمْ أَنّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدّ عَلَىَ فُقَرَائِهِمْ. فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا، فَخُذْ مِنْهُمْ، وَتَوَقّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ".
فيه بعث معاذ إلى اليمن، وهو متفق عليه في الصحيحين. قوله: (عن أبي معبد عن ابن عباس عن معاذ قال أبو بكر، وربما قال وكيع عن ابن عباس أن معاذا قال) هذا الذي فعله مسلم رحمه الله نهاية التحقيق والاحتياط والتدقيق، فإن الرواية الأولى قال فيها عن معاذ، والثانية أن معاذا، وبين أن وعن فرق، فإن الجماهير قالوا: أن كعن فيحمل على الاتصال، وقال جماعة: لا تلتحق أن بعن، بل تحمل أن على الانقطاع ويكون مرسلاً، ولكنه هنا يكون مرسل صحابي له حكم المتصل على المشهور من مذاهب العلماء، وفيه قول الأستاذ أبي إسحاق الاسفرايني الذي قدمناه في الفصول أنه لا يحتج به، فاحتاط مسلم رحمه الله وبين اللفظين والله أعلم. وأما أبو معبد فاسمه نافذ بالنون والفاء والذال المعجمة وهو مولى ابن عباس، قال عمرو بن دينار: كان من أصدق موالي ابن عباس رضي الله عنهما. قوله صلى الله عليه وسلم: (إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله تعالى افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن أطاعوا لذلك فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب) أما الكرائم فجمع كريمة، قال صاحب المطالع: وهي جامعة الكمال الممكن في حقها من غزارة لبن وجمال صورة، أو كثرة لحم أو صوف وهكذا الرواية، فإياك وكرائم بالواو في قوله وكرائم، قال ابن قتيبة: ولا يجوز إياك كرائم أموالهم بحذفها، ومعنى ليس بينها وبين الله حجاب أي أنها مسموعة لا ترد، وفي هذا الحديث قبول خبر الواحد ووجوب العمل به، وفيه أن الوتر ليس بواجب، لأن بعث معاذ إلى اليمن كان قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بقليل بعد الأمر بالوتر والعمل به، وفيه أن السنة أن الكفار يدعون إلى التوحيد قبل القتال، وفيه أنه لا يحكم بإسلامه إلا بالنطق بالشهادتين، وهذا مذهب أهل السنة كما قدمنا بيانه في أول كتاب الإيمان، وفيه أن الصلوات الخمس تجب في كل يوم وليلة، وفيه بيان عظم تحريم الظلم، وأن الإمام ينبغي أن يعظ ولاته، ويأمرهم بتقوى الله تعالى، ويبالغ في نهيهم عن الظلم، ويعرفهم قبح عاقبته، وفيه أنه يحرم على الساعي أخذ كرائم المال في أداء الزكاة بل يأخذ الوسط، ويحرم على رب المال إخراج شر المال، وفيه أن الزكاة لا تدفع إلى كافر، ولا تدفع أيضا إلى غني من نصيب الفقراء، واستدل به الخطابي وسائر أصحابنا على أن الزكاة لا يجوز نقلها عن بلد المال لقوله صلى الله عليه وسلم: "فترد في فقرائهم" وهذا الاستدلال ليس بظاهر، لأن الضمير في فقرائهم محتمل لفقراء المسلمين، ولفقراء أهل تلك البلدة والناحية، وهذا الاحتمال أظهر، واستدل به بعضهم على أن الكفار ليسوا بمخاطبين بفروع الشريعة من الصلاة والصوم والزكاة وتحريم الزنا ونحوها لكونه صلى الله عليه وسلم قال: "فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن عليهم" فدل على أنهم لم يطيعوا لا يجب عليهم، وهذا الاستدلال ضعيف، فإن المراد أعلمهم أنهم مطالبون بالصلوات وغيرها في الدنيا، والمطالبة في الدنيا لا تكون إلا بعد الإسلام، وليس يلزم من ذلك أن لا يكونوا مخاطبين بها يزاد في عذابهم بسببها في الاَخرة، ولأنه صلى الله عليه وسلم رتب ذلك في الدعاء إلى الإسلام وبدأ بالأهم فالأهم، ألا تراه بدأ صلى الله عليه وسلم بالصلاة قبل الزكاة؟ ولم يقل أحد أنه يصير مكلفا بالصلاة دون الزكاة والله اعلم. ثم أعلم أن المختار أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة المأمور به والمنهى عنه، هذا قول المحققين والأكثرين، وقيل: ليسوا مخاطبين بها، وقيل: مخاطبون بالمنهى دون المأمور والله أعلم. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: هذا الذي وقع في حديث معاذ من ذكر بعض دعائم الإسلام دون بعض هو من تقصير الراوي كما بيناه فيما سبق من نظائره والله أعلم.
قوله: (في الرواية الثانية: حدثنا ابن أبي عمر) هو محمد بن يحيى بن أبي عمر العدني أبو عبد الله، سكن مكة، وفيها عبد بن حميد هو الإمام المعروف صاحب المسند يكنى أبا محمد قيل اسمه عبد الحميد، وفيها أبو عاصم هو النبيل الضحاك بن مخلد. قوله: (عن ابن عباس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث معاذا) هذا اللفظ يقتضي أن الحديث من مسند ابن عباس، وكذلك الرواية التي بعده. وأما الأولى فمن مسند معاذ، ووجه الجمع بينهما أن يكون ابن عباس سمع الحديث من معاذ، فرواه تارة عنه متصلاً وتارة أرسله فلم يذكر معاذا، وكلاهما صحيح كما قدمناه أن مرسل الصحابي إذا لم يعرف المحذوف يكون حجة، فكيف وقد عرفناه في هذا الحديث أنه معاذ؟ ويحتمل أن ابن عباس سمعه من معاذ وحصر القضية، فتارة رواها بلا واسطة لحضوره إياها، وتارة رواها عن معاذ، إما لنسيانه الحضور، وإما لمعنى آخر، والله أعلم.
قوله: (حدثنا أمية بن بسطام العيشي) أما بسطام فكسر الباء الموحدة هذا هو المشهور. وحكي صاحب المطالع أيضا فتحها، واختلف في صرفه، فمنهم من صرفه، ومنهم من لم يصرفه. قال الشيخ أبو عمرو ابن الصلاح رحمه الله: بسطام عجمي لا ينصرف، قال ابن دريد: ليس من كلام العرب، قال: ووجدته في كتاب ابن الجواليقي في المعرب مصروفا وهو بعيد، هذا كلام الشيخ أبي عمرو. وقال الجوهري في الصحاح: بسطام ليس من أسماء العرب، وإنما سمى قيس بن مسعود ابنه بسطاما باسم ملك من ملوك فارس كما سموا قابوس فعربوه بكسر الباء والله أعلم. وأما العيشي فبالشين المعجمة وهو منسوب إلى بني عايش بن مالك بن تيم الله بن ثعلبة، وكان أصله العايشي ولكنهم خففوه، قال الحاكم أبو عبد الله الخطيب أبو بكر البغدادي: العيشيون بالشين المعجمة بصريون، والعبسيون بالياء الموحدة والسين المهملة كوفيون، والعنسيون بالنون والسين المهملة شاميون، وهذا الذي قالاه هو الغالب والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله، فإذا عرفوا الله فأخبرهم إلى آخره) قال القاضي عياض رحمه الله: هذا يدل على أنهم ليسوا بعارفين الله تعالى، وهو مذهب حذاق المتكلمين في اليهود والنصارى أنهم غير عارفين الله تعالى، وإن كانوا يعبدونه ويظهرون معرفته لدلالة السمع عندهم على هذا، وإن كان العقل لا يمنع أن يعرف الله تعالى من كذب رسولاً. قال القاضي عياض رحمه الله: ما عرف الله تعالى من كذب رسولاً. قال القاضي عياض رحمه الله: ما عرف الله تعالى من شبهه وجسمه من اليهود، أو أجاز عليه البداء، أو أضاف إليه الولد منهم، أو أضاف إليه الصاحبة والولد، وأجاز الحلول عليه والانتقال والامتزاج من النصارى، أو وصفه مما لا يليق به، أو أضاف إليه الشريك والمعاند في خلقه من المجوس والثنوية، فمعبودهم الذي عبدوه ليس هو الله وإن سموه به، إذ ليس موصوفا بصفات الإله الواجبة له، فإذن ما عرفوا الله سبحانه، فتحقق هذه النكتة واعتمد عليها، وقد رأيت معناها لمتقدمي أشياخنا، وبها قطع الكلام أبو عمران الفارسي بين عامة أهل القيروان عند تنازعهم في هذه المسألة، هذا آخر كلام القاضي رحمه الله تعالى. قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخيرة: (فأخبرهم أن الله فرض عليهم زكاة تؤخذ من أموالهم) قد يستدل بلفظة من أموالهم، على أنه إذا امتنع من الزكاة أخذت من ماله بغير اختياره، وهذا الحكم لا خلاف فيه، ولكن هل تبرأ ذمته ويجزيه ذلك في الباطن؟ فيه وجهان لأصحابنا والله أعلم.
*2* باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله.
*ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، ويؤمنوا بجميع ما جاء به النبيصلى الله عليه وسلم، وأن من فعل ذلك عصم نفسه وماله إلا بحقها، ووكلت سريرته إلى الله تعالى. وقتال من منع الزكاة أو غيرها من حقوق الإسلام، واهتمام الإمام بشعائر الإسلام
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ الزّهْرِيّ. قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَاسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهُ، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ لأَبِي بَكْرٍ: كَيْفَ تُقَاتِلُ النّاسَ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النّاسَ حَتّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله. فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله فَقَدْ عَصَمَ مِنّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاّ بِحَقّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى الله؟" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَالله لأُقَاتِلَنّ مَنْ فَرّقَ بَيْنَ الصّلاَةِ وَالزّكَاةِ، فَإِنّ الزّكَاةَ حَقّ الْمَالِ، وَالله لَوْ مَنَعُونِي عِقَالاً كَانُوا يُؤَدّونَهُ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ: فَوَالله مَا هُوَ إِلاّ أَنْ رَأَيْتُ الله عَزّ وَجَلّ قَدْ شَرَحَ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍ لِلْقِتَالِ. فَعَرفتُ أَنّهُ الْحَقّ.
وحدّثنا أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ وَ أَحْمَدُ بْنُ عِيسىَ قَالَ: أَحْمَدُ: حَدّثَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النّاسِ حَتّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ. فَمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ، عَصَمَ مِنّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاّ بِحَقّهِ. وَحِسَابُهُ عَلَى اللّهِ".
حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ (يَعْنِي الدّرَاوَرْدِيّ)، عَنْ الْعَلاَءِ. ح وَحَدّثَنَا أُمَيّةُ بْنُ بِسْطَامَ، وَاللّفْظُ لَهُ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ. حَدّثَنَا رَوْحٌ عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ ابْنِ يَعْقُوبَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النّاسَ حَتّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله. وَيُؤْمِنُوا بِي وَبِمَا جِئْتُ بِهِ. فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاّ بِحَقّهَا. وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ:. حَدّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالاَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النّاسَ" بِمثْلِ حَدِيثِ ابْنِ الْمُسَيّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ح وَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنِي مُحمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ (يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيَ) قَالاَ جَمِيعا: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النّاسَ حَتّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله. فَإِذَا قَالُوا: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله عَصَمُوا مِنّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاّ بِحَقّهَا. وَحِسَابُهُمْ عَلَى الله". ثُمّ قَرَأَ: {إِنّمَا أَنْتَ مُذَكّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}. (الغاشية الاَيتان: ).
حدّثنا أَبُو غَسّانَ الْمِسْمَعِيّ، الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْمِلكِ بْنُ الصّبّاحِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحمّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنُ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النّاسَ حَتّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله، وَأَنّ مُحَمّدا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَيُقِيمُوا الصّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزّكَاةَ. فَإِذَا فَعَلُوا عَصَمُوا مِنّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلاّ بِحَقّهَا. وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللّهِ"..
وحدّثنا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالاَ: حَدّثَنَا مَرْوَانُ (يَعْنِيَانِ الْفَزَارِيّ). عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ، وَكَفَرَ بِمَا يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللّهِ، حَرُمَ مَالُهُ وَدَمُهُ. وَحِسَابُهُ عَلَى اللّهِ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ. ح وَحَدّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَرُونَ. كِلاَهُمَا عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ سَمِعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "مَنْ وَحّدَ اللّهَ" ثُمّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ.
أما أسماء الرواة ففيه عقيل عن الزهري هو بضم العين وتقدم في الفصول بيانه، وفيه يونس وقد تقدم بيانه، وأن فيه ستة أوجه: ضم النون وكسرها وفتحها مع الهمز وتركه، وفيه سعيد بن المسيب وقد قدمنا أن المسيب بفتح الياء على المشهور وقيل بكسرها، وفيه أحمد بن عبدة بإسكان الباء، وفيه أمية بن بسطام تقدم بيانه في الباب قبله، وفيه حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، وعن أبي صالح عن أبي هريرة. فقوله: وعن أبي صالح يعني رواه الأعمش أيضا عن أبي صالح. وقد تقدم أن اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر على الأصح من نحو ثلاثين قولاً، وأن اسم أبي صالح ذكوان السمان، وأن اسم أبي سفيان طلحة بن نافع، وأن اسم الأعمش سليمان بن مهران. وأما غياث فبالغين المعجمة وآخره مثلثة. وفيه أبو الزبير وقد تقدم في كتاب الإيمان أن اسمه محمد بن مسلم بن تدرس بفتح المثناة فوق. وفيه أبو غسان المسمعي مالك بن عبد الواحد هو بكسر الميم الأولى وفتح الثانية وإسكان المهملة بينهما، منسوب إلى مسمع بن ربيعة، وتقدم بيان صرف غسان وعدمه وأنه يجوز الوجهان فيه. وفيه واقد بن محمد وهو بالقاف، وقد قدمنا في الفصول أنه ليس في الصحيحين وافد بالفاء بل كله بالقاف. وفيه أبو خالد الأحمر وأبو مالك عن أبيه، فأبو مالك اسمه سعد بن طارق وطارق صحابي، وقد تقدم ذكرهما في باب أركان الإسلام، وتقدم فيه أيضا أن أبا خالد اسمه سليمان بن حيان بالمثناة. وفيه عبد العزيز الدراوردي وهو بفتح الدال المهملة وبعدها راء ثم ألف ثم واو مفتوحة ثم راء أخرى ساكنة ثم دال أخرى ثم ياء النسب، واختلف في وجه نسبته، فالأصح الذي قاله المحققون أنه نسبة إلى درابجرد بفتح الدال الأولى وبعدها راء ثم ألف ثم باء موحدة مفتوحة ثم جيم مكسورة ثم راء ساكنة ثم دال، فهذا قول جماعات من أهل العربية واللغة منهم الأصمعي وأبو حاتم السجستاني، وقاله من المحدثين أبو عبد الله البخاري الإمام، وأبو حاتم بن حبان البستي، وأبو نصر الكلاباذي وغيرهم قالوا: وهو من شواذ النسب، قال أبو حاتم: وأصله درابي أو جردي ودرابي أجود، قالوا: ودرابجرد مدينة بفارس، قال البخاري والكلاباذي: كان جد عبد العزيز هذا منها، وقال البستي: كان أبوه منها، وقال ابن قتيبة وجماعة من أهل الحديث: هو منسوب إلى دراورد، ثم قيل: دراورد هي درابجرد، وقيل: بل هي قرية بخراسان. وقال السمعاني في كتاب الأنساب قيل: إنه من أندرابه يعني بفتح الهمزة وبعدها نون ساكنة ثم دال مهملة مفتوحة ثم راء ثم ألف ثم باء موحدة ثم هاء، وهي مدينة من عمل بلخ، وهذا الذي قاله السمعاني لائق بقول من يقول فيه الاندراوردي. وأما فقهه ومعانيه فقوله: (لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر رضي الله عنه بعده وكفر من كفر من العرب) قال الخطابي رحمه الله في شرح هذا الكلام كلاما حسنا لا بد من ذكره لما فيه من الفوائد، قال رحمه الله: مما يجب تقديمه في هذا أن يعلم أن أهل الردة كانوا صنفين: صنف ارتدوا عن الدين ونابذوا الملة وعادوا إلى الكفر وهم الذين عناهم أبو هريرة بقوله: وكفر من كفر من العرب، وهذه الفرقة طائفتان: إحداهما أصحاب مسيلمة من بني حنيفة وغيرهم الذين صدقوه على دعواه في النبوة، وأصحاب الأسود العنسي ومن كان من مستجيبيه من أهل اليمن وغيرهم، وهذه الفرقة بأسرها منكرة لنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم مدعية النبوة لغيره، فقاتلهم أبو بكر رضي الله عنه حتى قتل الله مسيلمة باليمامة، والعنسي بصنعاء، وانفضت جموعهم، وهلك أكثرهم. والطائفة الأخرى ارتدوا عن الدين وأنكروا الشرائع وتركوا الصلاة والزكاة وغيرها من أمور الدين، وعادوا إلى ما كانوا عليه في الجاهلية، فلم يكن يسجد لله تعالى في بسيط الأرض إلا في ثلاثة مساجد: مسجد مكة، ومسجد المدينة، ومسجد عبد القيس في البحرين في قرية يقال لها جواثا. ففي ذلك يقول الأعور الشني يفتخر بذلك:
والمسجد الثالث الشرقي كان لنا والمنبران وفصل القول في الخطب
أيام لا منبر للناس نعرفهإلا بطيبة والمحجوب ذي الحجب
وكان هؤلاء المتمسكون بدينهم من الأزد محصورين بجواثا إلى أن فتح الله سبحانه على المسلمين اليمامة، فقال بعضهم وهو رجل من بني أبي بكر بن كلاب يستنجد أبا بكر الصديق رضي الله عنه:
ألا أبلغ أبا بكر رسولا وفتيان المدينة أجمعينا
فهل لكم إلى قوم كرام قعود في جواثا محصرينا
كأن دماءهم في كل فجدماء البدن تغشى الناظرينا
توكلنا على الرحمن أناوجدنا النصر للمتوكلينا والصنف الاَخر هم الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة، فأقروا بالصلاة وأنكروا فرض الزكاة ووجوب أدائها إلى الإمام، وهؤلاء على الحقيقة أهل بغي، وإنما لم يدعوا بهذا الاسم في ذلك الزمان خصوصا لدخولهم في غمار أهل الردة، فأضيف الاسم في الجملة إلى الردة إذ كانت أعظم الأمرين وأهمهما. وأرخ قتال أهل البغي في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ كانوا منفردين في زمانه لم يختلطوا بأهل الشرك، وقد كان في ضمن هؤلاء المانعين للزكاة من كان يسمح بالزكاة ولا يمنعها، إلا أن رؤساءهم صدوهم عن ذلك الرأي وقبضوا على أيديهم في ذلك كبني يربوع، فإنهم قد جمعوا صدقاتهم وأرادوا أن يبعثوا بها إلى أبي بكر رضي الله عنه فمنعهم مالك بن نويرة من ذلك وفرقها فيهم، وفي أمر هؤلاء عرض الخلاف ووقعت الشبهة لعمر رضي الله عنه، فراجع أبا بكر رضي الله عنه وناظره واحتج عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إلَه إلا الله، فمن قال لا إلَه إلا الله فقد عصم نفسه وماله" وكان هذا من عمر رضي الله عنه تعلقا بظاهر الكلام قبل أن ينظر في آخره ويتأمل شرائطه، فقال له أبو بكر رضي الله عنه: إن الزكاة حق المال، يريد أن القضية قد تضمنت عصمة دم ومال معلقة بإيفاء شرائطها، والحكم المعلق بشرطين لا يحصل بأحدهما والاَخر معدوم، ثم قايسه بالصلاة ورد الزكاة إليها، وكان في ذلك من قوله دليل على أن قتال الممتنع من الصلاة كان إجماعا من الصحابة، وكذلك رد المختلف فيه إلى المتفق عليه، فاجتمع في هذه القضية الاحتجاج من عمر رضي الله عنه بالعموم، ومن أبي بكر رضي الله عنه بالقياس، ودل ذلك على أن العموم يخص بالقياس، وأن جميع ما تضمنه الخطاب الوارد في الحكم الواحد من شرط واستثناء مراعى فيه ومعتبر صحته به، فلما استقر عند عمر صحة رأي أبي بكر رضي الله عنهما وبان له صوابه تابعه على قتال القوم وهو معنى قوله: فلما رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال عرفت أنه الحق، يشير إلى انشراح صدره بالحجة التي أدلى بها، والبرهان الذي أقامه نصا ودلالة، وقد زعم زاعمون من الرافضة أن أبا بكر رضي الله عنه أول من سبى المسلمون، وأن القوم كانوا متأولين في منع الصدقة، وكانوا يزعمون أن الخطاب في قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم} خطاب خاص في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره، وأنه مقيد بشرائط لا توجد فيمن سواه، وذلك أنه ليس لأحد من التطهير والتزكية والصلاة على المتصدق ما للنبي صلى الله عليه وسلم، ومثل هذه الشبهة إذا وجد كان مما يعذر فيه أمثالهم ويرفع به السيف عنهم، وزعموا أن قتالهم كان عسفا. قال الخطابي رحمه الله: وهؤلاء الذين زعموا ما ذكرناه قوم لا خلاق لهم في الدين، وإنما رأس مالهم البهت والتكذيب والوقيعة في السلف، وقد بينا أن أهل الردة كانوا أصنافا، منهم من ارتد عن الملة ودعا إلى نبوة مسيلمة وغيره، ومنهم من ترك الصلاة والزكاة وأنكر الشرائع كلها، وهؤلاء هم الذين سماهم الصحابة كفارا، ولذلك رأى أبو بكر رضي الله عنه سبي ذراريهم، وساعده على ذلك أكثر الصحابة، واستولد علي بن أبي طالب رضي الله عنه جارية من سبي بني حنيفة فولدت له محمد الذي يدعى ابن الحنفية، ثم لم ينقض عصر الصحابة حتى أجمعوا على أن المرتد لا يسبى، فأما مانعوا الزكاة منهم المقيمون على أصل الدين فإنهم أهل بغي ولم يسموا على الانفراد منهم كفارا، وإن كانت الردة قد أضيفت إليهم لمشاركتهم المرتدين في منع بعض ما منعوه من حقوق الدين، وذلك أن الردة اسم لغوي، وكل من انصرف عن أمر كان مقبلاً عليه فقد ارتد عنه، وقد وجد من هؤلاء القوم الانصراف عن الطاعة ومنع الحق، وانقطع عنهم اسم الثناء والمدح بالدين، وعلق بهم الاسم القبيح لمشاركتهم القوم الذين كان ارتدادهم حقا. وأما قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} وما ادعوه من كون الخطاب خاصا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن خطاب كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه: خطاب عام كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة} الاَية. وكقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} وخطاب خاص للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشركه فيه غيره، وهو ما أبين به عن غيره بسمة التخصيص وقطع التشريك كقوله تعالى: {ومن الليل فتهجد به نافلة لك} وكقوله تعالى: {خالصة لك من دون المؤمنين} وخطاب مواجهة للنبي صلى الله عليه وسلم وهو وجميع أمته في المراد به سواء كقوله تعالى: {أقم الصلاة لدلوك الشمس} وكقوله تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} وكقوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} ونحو ذلك من خطاب المواجهة، فكل ذلك غير مختص برسول الله صلى الله عليه وسلم بل تشاركه فيه الأمة.
فكذا قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} فعلى القائم بعده صلى الله عليه وسلم بأمر الأمة أن يحتذي حذوه في أخذها منهم، وإنما الفائدة في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب أنه هو الداعي إلى الله تعالى والمبين عنه معنى ما أراد، فقدم اسمه في الخطاب ليكون سلوك الأمر في شرائع الدين على حسب ما ينهجه ويبينه لهم، وعلى هذا المعنى قوله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} فافتتح بالخطاب بالنبوة باسمه خصوصا، ثم خاطبه وسائر أمته بالحكم عموما، وربما كان الخطاب له مواجهة والمراد غيره كقوله تعالى: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسئل الذين يقرؤن الكتاب من قبلك، إلى قوله: فلا تكونن من الممترين} ولا يجوز أن يكون صلى الله عليه وسلم قد شك قط في شيء مما أنزل إليه، فأما التطهير والتزكية والدعاء من الإمام لصاحب الصدقة فإن الفاعل فيها قد ينال ذلك كله بطاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فيها، وكل ثواب موعود على عمل بركان في زمنه صلى الله عليه وسلم فإنه باق غير منقطع، ويستحب للإمام وعامل الصدقة أن يدعو للمصدق بالنماء والبركة في ماله، ويرجى أن يستجيب الله ذلك ولا يخيب مسألته، فإن قيل: كيف تأولت أمر الطائفة التي منعت الزكاة على الوجه الذي ذهبت إليه وجعلتهم أهل بغي؟ وهل إذا أنكرت طائفة من المسلمين في زماننا فرض الزكاة وامتنعوا من أدائها يكون حكمهم حكم أهل البغي؟ قلنا: لا، فإن من أنكر فرض الزكاة في هذه الأزمان كان كافرا بإجماع المسلمين، والفرق بين هؤلاء وأولئك أنهم إنما عذروا لأسباب وأمور لا يحدث مثلها في هذا الزمان: منها قرب العهد بزمان الشريعة الذي كان يقع فيه تبديل الأحكام بالنسخ. ومنها: أن القوم كانوا جهالاً بأمور الدين، وكان عهدهم بالإسلام قريبا فدخلتهم الشبهة فعذروا، فأما اليوم وقد شاع دين الإسلام واستفاض في المسلمين علم وجوب الزكاة حتى عرفها الخاص والعام، واشترك فيه العالم والجاهل، فلا يعذر أحد بتأويل يتأوله في إنكارها، وكذلك الأمر في كل من أنكر شيئا مما أجمعت الأمة عليه من أمور الدين إذا كان علمه منتشرا، كالصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، والاغتسال من الجنابة، وتحريم الزنا والخمر، ونكاح ذوات المحارم، ونحوها من الأحكام، إلا أن يكون رجلاً حديث عهد بالإسلام ولا يعرف حدوده، فإنه إذا أنكر شيئا منها جهلاً به لم يكفر، وكان سبيله سبيل أولئك القوم في بقاء اسم الدين عليه، فأما ما كان الإجماع فيه معلوما من طريق علم الخاصة كتحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها، وأن القاتل عمدا لا يرث، وأن للجدة السدس، وما أشبه ذلك من الأحكام، فإن من أنكرها لا يكفر بل يعذر فيها لعدم استفاضة علمها في العامة. قال الخطابي رحمه الله: وإنما عرضت الشبهة لمن تأوله على الوجه الذي حكيناه عنه لكثرة ما دخله من الحذف في رواية أبي هريرة، وذلك لأن القصد به لم يكن سياق الحديث على وجهه وذكر القصة في كيفية الردة منهم، وإنما قصد به حكاية ما جرى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وما تنازعاه في استباحة قتالهم، ويشبه أن يكون أبو هريرة إنما لم يعن بذكر جميع القصة اعتمادا على معرفة المخاطبين بها إذ كانوا قد علموا كيفية القصة، ويبين لك أن حديث أبي هريرة مختصر أن عبد الله بن عمر وأنسا رضي الله عنهم روياه بزيادة لم يذكرها أبو هريرة. ففي حديث ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلَه إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" وفي رواية أنس رضي الله عنه: "أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلَه إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يستقبلوا قبلتنا، وأن يأكلوا ذبيحتنا، وأن يصلوا صلاتنا، فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" والله أعلم. هذا آخر كلام الخطابي رحمه الله. قلت: وقد ثبت في الطريق الثالث المذكور في الكتاب من رواية أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلَه إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماؤهم وأموالهم إلا بحقها". وفي استدلال أبي بكر واعتراض عمر رضي الله عنهما دليل على أنهما لم يحفظا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رواه ابن عمر وأنس وأبو هريرة، وكأن هؤلاء الثلاثة سمعوا هذه الزيادات التي في رواياتهم في مجلس آخر، فإن عمر رضي الله عنه لو سمع ذلك لما خالف ولما كان احتج بالحديث، فإنه بهذه الزيادة حجة عليه، ولو سمع أبو بكر رضي الله عنه هذه الزيادة لاحتج بها ولما احتج بالقياس والعموم والله أعلم.
قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلَه إلا الله، فمن قال لا إلَه إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله) قال الخطابي رحمه الله: معلوم أن المراد بهذا أهل الأوثان دون أهل الكتاب لأنهم يقولون: لا إلَه إلا الله ثم يقاتلون ولا يرفع عنهم السيف، قال: ومعنى "وحسابه على الله" أي فيما يستسرون به ويخفونه دون ما يخلون به في الظاهر من الأحكام الواجبة، قال: ففيه أن من أظهر الإسلام وأسر الكفر قبل إسلامه في الظاهر وهذا قول أكثر العلماء. وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل. ويحكى ذلك أيضا عن أحمد بن حنبل رضي الله عنهما، هذا كلام الخطابي. وذكر القاضي عياض معنى هذا وزاد عليه وأوضحه فقال: اختصاص عصمة المال والنفس بمن قال: لا إلَه إلا الله تعبير عن الإجابة إلى الإيمان، وأن المراد بهذا مشركوا العرب وأهل الأوثان ومن لا يوحد، وهم كانوا أول من دعي إلى الإسلام وقوتل عليه، فأما غيرهم ممن يقر بالتوحيد فلا يكتفي في عصمته بقوله: لا إلَه إلا الله، إذ كان يقولها في كفره وهي من اعتقاده، فلذلك جاء في الحديث الاَخر: "وأني رسول الله ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة" هذا كلام القاضي. قلت: ولا بد مع هذا من الإيمان بجميع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الرواية الأخرى لأبي هريرة هي مذكورة في الكتاب: "حتى يشهدوا أن لا إلَه إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به" والله أعلم. قلت: اختلف أصحابنا في قبول توبة الزنديق وهو الذي ينكر الشرع جملة، فذكروا فيه خمسة أوجه: لأصحابنا أصحها، والأصوب منها قبولها مطلقا للأحاديث الصحيحة المطلقة. والثاني: لا تقبل ويتحتم قتله، لكنه إن صدق في توبته نفعه ذلك في الدار الاَخرة وكان من أهل الجنة. والثالث: إن تاب مرة واحدة قبلت توبته، فإن تكرر ذلك منه لم تقبل. والرابع: إن أسلم ابتداء من غير طلب قبل منه، وإن كان تحت السيف فلا. والخامس: إن كان داعيا إلى الضلال لم يقبل منه وإلا قبل منه، والله أعلم. قوله رضي الله عنه: (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة) ضبطنا بوجهين: فرق وفرق بتشديد الراء وتخفيفها ومعناه: من أطاع في الصلاة وجحد الزكاة أو منعها، وفيه جواز الحلف وإن كان في غير مجلس الحاكم، وأنه ليس مكروها إذا كان لحاجة من تفخيم أمر ونحوه. قوله: (والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه) هكذا في مسلم عقالاً، وكذا في بعض روايات البخاري، وفي بعضها: عناقا بفتح العين وبالنون وهي الأنثى من ولد المعز، وكلاهما صحيح، وهو محمول على أنه كرر الكلام مرتين، فقال في مرة: عقالاً، وفي الأخرى: عناقا، فروي عنه اللفظان. فأما رواية العناق فهي محمول على ما إذا كانت الغنم صغارا كلها بأن ماتت أماتها في بعض الحول، فإذا حال حول الأمات زكى السخال الصغار بحول الأمات، سواء بقي من الأمات شيء أم لا، هذا هو الصحيح المشهور. وقال أبو القاسم الأنماطي من أصحابنا: لا يزكى الأولاد بحول الأمات إلا أن يبقى من الأمات نصاب. وقال بعض أصحابنا: إلا أن يبقى من الأمهات شيء. ويتصور ذلك فيما إذا مات معظم الكبار وحدثت صغار فحال حول الكبار على بقيتها وعلى الصغار والله أعلم. وأما رواية عقالاً فقد اختلف العلماء قديما وحديثا فيها، فذهب جماعة منهم إلى أن المراد بالعقال زكاة عام وهو معروف في اللغة بذلك، وهذا قول النسائي والنضر بن شميل وأبي عبيدة والمبرد وغيرهم من أهل اللغة، وهو قول جماعة من الفقهاء، واحتج هؤلاء على أن العقال يطلق على زكاة العام بقول عمرو بن العداء:
سعى عقالاً فلم يترك لنا سيدافكيف لو قد سعى عمرو عقالين
أراد مدة عقال فنصبه على الظرف، وعمرو هذا الساعي هو عمرو بن عتبة بن أبي سفيان ولاه عمه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما صدقات كلب، فقال فيه قائلهم ذلك، قالوا: ولأن العقال الذي هو الحبل الذي يعقل به البعير لا يجب دفعه في الزكاة فلا يجوز القتال عليه فلا يصح حمل الحديث عليه. وذهب كثيرون من المحققين إلى أن المراد بالعقال الحبل الذي يعقل به البعير، وهذا القول يحكى عن مالك وابن أبي ذئب وغيرهما، وهو اختيار صاحب التحرير وجماعة من حذاق المتأخرين، قال صاحب التحرير: قول من قال المراد صدقة عام تعسف وذهاب عن طريقة العرب، لأن الكلام خرج مخرج التضييق والتشديد والمبالغة، فتقتضي قلة ما علق به القتال وحقارته، وإذا حمل على صدقة العام لم يحصل هذا المعنى، قال: ولست أشبه هذا إلا بتعسف من قال في قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" أن المراد بالبيضة بيضة الحديد التي يغطى بها الرأس في الحرب، وبالحبل الواحد من حبال السفينة، وكل واحد من هذين يبلغ دنانير كثيرة، قال بعض المحققين: إن هذا القول لا يجوز عند من يعرف اللغة ومخارج كلام العرب، لأن هذا ليس موضع تكثير لما يسرقه، فيصرف إليه بيضة تساوي دنانير، وحبل لا يقدر السارق على حمله، وليس من عادة العرب والعجم أن يقولوا: قبح الله فلانا عرض نفسه للضرب في عقد جوهر، وتعرض لعقوبة الغلول في جراب مسك، وإنما العادة في مثل هذا أن يقال: لعنه الله تعرض لقطع اليد في حبل رث، أو في كبة شعر، وكل ما كان من هذا أحقر كان أبلغ، فالصحيح هنا أنه أراد به العقال الذي يعقل به البعير ولم يرد عينه وإنما أراد قدر قيمته، والدليل على هذا أن المراد به المبالغة، ولهذا قال في الرواية الأخرى: عناقا، وفي بعضها: "لو منعوني جديا أذوط" والأذوط صغير الفك والذقن، هذا آخر كلام صاحب التحرير، وهذا الذي اختاره هو الصحيح الذي لا ينبغي غيره، وعلى هذا اختلفوا في المراد بمنعوني عقالاً فقيل: قدر قيمته وهو ظاهر متصور في زكاة الذهب والفضة والمعشرات والمعدن والزكاة وزكاة الفطر، وفي المواشي أيضا في بعض أحوالها، كما إذا وجب عليه سن فلم يكن عنده ونزل إلى سن دونها، واختار أن يرد عشرين درهما فمنع من العشرين قيمة عقال، وكما إذا كانت غنمه سخالاً وفيها سخلة فمنعها وهي تساوي عقالاً، ونظائر ما ذكرته كثيرة معروفة في كتب الفقه، وإنما ذكرت هذه الصورة تنبيها بها على غيرها، وعلى أنه متصور ليس بصعب، فإني رأيت كثيرين ممن لم يعان الفقه يستصعب تصوره، حتى حمله بعضهم وربما وافقه بعض المتقدمين، على أن ذلك للمبالغة وليس متصورا، وهذا غلط قبيح وجهل صريح. وحكى الخطابي عن بعض العلماء أن معناه: منعوني زكاة لعقال إذا كان من عروض التجارة، وهذا تأويل صحيح أيضا. ويجوز أن يراد: منعوني عقالاً أي منعوني الحبل نفسه، على مذهب من يجوز القيمة ويتصور على مذهب الشافعي رحمه الله على أحد أقواله، فإن للشافعي في الواجب في عروض التجارة ثلاثة أقوال: أحدها: يتعين أن يأخذ منها عرضا حبلاً أو غيره كما يأخذ من الماشية من جنسها. والثاني: أنه لا يأخذ إلا دراهم أو دنانير ربع عشر قيمته كالذهب والفضة. والثالث: يتخير بين العرض والنقد والله أعلم. وحكى الخطابي عن بعض أهل العلم أن العقال يؤخذ مع الفريضة لأن على صاحبها تسليمها، وإنما يقع قبضها التام برباطها. قال الخطابي قال ابن عائشة: كان من عادة المصدق إذا أخذ الصدقة أن يعمد إلى قرن وهو بفتح القاف والراء وهو حبل فيقرن به بين بعيرين أي يشده في أعناقهم لئلا تشرد الإبل. وقال أبو عبيد: وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن مسلمة على الصدقة فكان يأخذ مع كل فريضتين عقالهما وقرانهما. وكان عمر رضي الله عنه أيضا يأخذ مع كل فريضة عقالاً والله أعلم. قوله: (فما هو إلا أن رأيت الله تعالى قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق) معنى رأيت علمت وأيقنت، ومعنى شرح فتح ووسع ولين، ومعناه: علمت بأنه جازم بالقتال لما ألقى الله سبحانه وتعالى في قلبه من الطمأنينة لذلك واستصوابه ذلك. ومعنى قوله: عرفت أنه الحق أي بما أظهر من الدليل وأقامه من الحجة، فعرفت بذلك أن ما ذهب إليه هو الحق لا أن عمر قلد أبا بكر رضي الله عنهما، فإن المجتهد لا يقلد المجتهد، وقد زعمت الرافضة أن عمر رضي الله عنه إنما وافق أبا بكر تقليدا، وبنوه على مذهبهم الفاسد في وجوب عصمة الأئمة، وهذه جهالة ظاهرة منهم والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: (أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إلَه إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به) فيه بيان ما اختصر في الروايات الأخر من الاقتصار على قول: لا إلَه إلا الله، وقد تقدم بيان هذا، وفيه دلالة ظاهرة لمذهب المحققين والجماهير من السلف والخلف أن الإنسان إذا اعتقد دين الإسلام اعتقادا جازما لا تردد فيه كفاه ذلك وهو مؤمن من الموحدين، ولا يجب عليه تعلم أدلة المتكلمين ومعرفة الله تعالى بها، خلافا لمن أوجب ذلك وجعله شرطا في كونه من أهل القبلة، وزعم أنه لا يكون له حكم المسلمين إلا به، وهذا المذهب هو قول كثير من المعتزلة وبعض أصحابنا المتكلمين، وهو خطأ ظاهر، فإن المراد التصديق الجازم وقد حصل، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اكتفى بالتصديق بما جاء به صلى الله عليه وسلم ولم يشترط المعرفة بالدليل، فقد تظاهرت بهذا أحاديث في الصحيحين يحصل بمجموعها التواتر بأصلها والعلم القطعي، وقد تقدم ذكر هذه القاعدة في أول الإيمان والله أعلم.
قوله: (ثم قرأ: {إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر}) قال المفسرون معناه: إنما أنت واعظ، ولم يكن صلى الله عليه وسلم أمر إذ ذاك إلا بالتذكير، ثم أمر بعد بالقتال، والمسيطر المسلط، وقيل: الجبار، وقيل: الرب، والله أعلم. واعلم أن هذا الحديث بطرقه مشتمل على أنواع من العلوم وجمل من القواعد، وأنا أشير إلى أطراف منها مختصرة، ففيه أدل دليل على شجاعة أبي بكر رضي الله عنه وتقدمه في الشجاعة والعلم على غيره، فإنه ثبت للقتال في هذا الموطن العظيم الذي هو أكبر نعمة أنعم الله تعالى بها على المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستنبط رضي الله عنه من العلم بدقيق نظره ورصانة فكره ما لم يشاركه في الابتداء به غيره، فلهذا وغيره مما أكرمه الله تعالى به أجمع أهل الحق على أنه أفضل أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد صنف العلماء رضي الله عنهم في معرفة رجحانه أشياء كثيرة مشهورة في الأصول وغيرها، ومن أحسنها كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم للإمام أبي المظفر منصور بن محمد السمعاني الشافعي، وفيه جواز مراجعة الأئمة والأكابر ومناظرتهم لإظهار الحق، وفيه أن الإيمان شرطه الإقرار بالشهادتين مع اعتقادهما واعتقاد جميع ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جمع ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: "أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إلَه إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به". وفيه وجوب الجهاد، وفيه صيانة مال من أتى بكلمة التوحيد ونفسه ولو كان عند السيف، وفيه أن الأحكام تجري على الظاهر، والله تعالى يتولى السراء، وفيه جواز القياس والعمل به، وفيه وجوب قتال مانعي الزكاة أو الصلاة أو غيرهما من واجبات الإسلام، قليلاً كان أو كثيرا، لقوله رضي الله عنه: "لو منعوني عقالاً أو عناقا" وفيه جواز التمسك بالعموم لقوله: فإن الزكاة حق المال، وفيه وجوب قتال أهل البغي، وفيه وجوب الزكاة في السخال تبعا لأمهاتها، وفيه اجتهاد الأئمة في النوازل وردها إلى الأصول، ومناظرة أهل العلم فيها، ورجوع من ظهر له الحق إلى قول صاحبه، وفيه ترك تخطئة المجتهدين المختلفين في الفروع بعضهم بعضا، وفيه أن الإجماع لا ينعقد إذا خالف من أهل الحل والعقد واحد، وهذا هو الصحيح المشهور، وخالف فيه بعض أصحاب الأصول، وفيه قبول توبة الزنديق، وقد قدمت الخلاف فيه واضحا، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة والفضل والمنة، وبه التوفيق والعصمة.
*2* باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت، ما لم يشرع في النزع
*وهو الغرغرة ونسخ جواز الاستغفار للمشركين. والدليل على أن من مات على الشرك فهو في أصحاب الجحيم. ولا ينقذه من ذلك شيء من الوسائل
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ التّجِيبِيّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ: أَخْبَرَني سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ. جَاءَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ، وَعَبْدَ اللّهِ ابْنَ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَمّ! قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله. كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ الله" فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللّهِ ابْنُ أَبِي أُمَيّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ! أَتَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ؟ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيُعِيدُ لَهُ تِلْكَ الْمَقَالةَ، حَتّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلّمَهُمْ: هُوَ عَلَى مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ. وَأَبىَ أَنْ يَقُولَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَما وَالله! لأَسْتَغْفِرَنّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ" فَأَنْزَلَ الله عَزّ وَجَلّ: {مَا كَانَ لِلنّبِيّ وَالّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيّنَ لَهُمْ أَنّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} (التوبة الاَية: 3). وَأَنْزَلَ الله تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ}. (القصَصَ آية: ).
وحدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. ح وَحَدّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيّ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ. كِلاَهُما عَنِ الزّهْرِيّ بِهَذَا الإِسْنِادِ مِثْلَهُ. غَيْرَ أَنّ حَدِيثَ صَالِحٍ انْتَهَى عِنْدَ قوله: فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيهِ. ولَمْ يَذْكُرِ الاَيَتَيْنِ. وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: وَيَعُودَانِ فِي تِلَكَ المَقَالةِ. وَفِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ مَكَانَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ. فَلَمْ يَزَالاَ بِهِ.
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبّادٍ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ. قَالاَ: حَدّثَنَا مَرْوَانَ عَنْ يَزِيدَ (وَهُوَ ابْنُ كَيْسَانَ) عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمّهِ، عِنْدَ الْمَوتِ "قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القِيَامَةِ" فَأَبىَ. فَأَنْزَلَ اللّهُ: {إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} الاَية. (القصص آية: ).
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا يَزِيِدُ بْنُ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ الأَشّجَعِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِعَمّهِ "قُلْ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ، أَشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ: لَوْلاَ أَنْ تُعَيّرِنِي قُرَيْشٌ. يَقُولُونَ: إِنّمَا حَمَلَهُ، عَلَى ذَلِكَ، الْجَزَعُ، لأَقْرَرْتُ بِها عَيْنَكَ. فَأَنْزَل اللّه: {إِنّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنّ الله يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}. (القصَصَ آية: ).
فيه حديث وفاة أبي طالب، وهو حديث اتفق البخاري ومسلم على إخراجه في صحيحهيما من رواية سعيد بن المسيب عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يروه عن المسيب إلا ابنه سعيد، كذا قاله الحفاظ. وفي هذا رد على الحاكم أبي عبد الله بن البيع الحافظ رحمه الله في قوله: لم يخرج البخاري ولا مسلم رحمهما الله عن أحد ممن لم يرو عنه إلا راو واحد، ولعله أراد من غير الصحابة والله أعلم. أما أسماء رواة الباب ففيه حرملة التجيبي وقد تقدم بيانه في المقدمة، وأن الأشهر فيه ضم التاء ويقال بفتحها واختاره بعضهم، وتقدمت اللغات الست في يونس فيها، وتقدم فيها الخلاف في فتح الياء من المسيب والد سعيد هذا خاصة وكسرها وأن الأشهر الفتح، واسم أبي طالب عبد مناف، واسم أبي جهل عمرو بن هشام. وفيه صالح عن الزهري عن ابن المسيب هو صالح بن كيسان وكان أكبر سنا من الزهري، وابتدأ بالتعلم من الزهري، ولصالح تسعون سنة مات بعد الأربعين ومائة، واجتمع في الإسناد طرفتان: إحداهما: رواية الأكابر عن الأصاغر، والأخرى ثلاثة تابعين بعضهم عن بعض. وفيه أبو حازم عن سهل عن أبي هريرة، وقد تقدم أن أبا حازم الراوي عن أبي هريرة اسمه سلمان مولى عزة، وأما أبو حازم عن سهل بن سعد فاسمه سلمة بن دينار. وأما قوله: (لما حضرت أبا طالب الوفاة) فالمراد قربت وفاته وحضرت دلائلها، وذلك قبل المعاينة والنزع، ولو كان في حال المعاينة والنزع لما نفعه الإيمان، ولقول الله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الاَن} ويدل على أنه قبل المعاينة محاورته للنبي صلى الله عليه وسلم ومع كفار قريش قال القاضي عياض رحمه الله: وقد رأيت بعض المتكلمين على هذا الحديث جعل الحضور هنا على حقيقة الاحتضار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم رجا بقوله ذلك حينئذ أن تناله الرحمة ببركته صلى الله عليه وسلم. قال القاضي رحمه الله: وليس هذا بصحيح لما قدمناه. وأما قوله: (فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة) فهكذا وقع في جميع الأصول ويعيد له يعني أبا طالب، وكذا نقله القاضي رحمه الله عن جميع الأصول والشيوخ، قال: وفي نسخة ويعيدان له على التثنية لأبي جهل وابن أبي أمية، قال القاضي: وهذا أشبه، وقوله: يعرضها بفتح الياء وكسر الراء. وأما قوله: (قال أبو طالب آخر ما كلمهم به هو على ملة عبد المطلب) فهذا من أحسن الاَداب والتصرفات. وهو أن من حكى قول غيره القبيح أتى به بضمير الغيبة لقبح صورة لفظة الواقع. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أم والله لأستغفرن لك) فهكذا ضبطناه أم من غير ألف بعد الميم، وفي كثير من الأصول أو أكثرها أما والله بألف بعد الميم وكلاهما صحيح. قال الإمام أبو السعادات هبة الله بن علي بن محمد العلوي الحسني المعروف بابن الشجري في كتابه الأمالي: ما المزيدة للتوكيد، ركبوها مع همزة الاستفهام واستعملوا مجموعهما على وجهين: قوله: أحدهما: أن يراد به معنى حقا في قولهم: أما والله لأفعلن، والاَخر أن يكون افتتاحا للكلام بمنزلة ألا، كقولك: أما أن زيدا منطلق، وأكثر ما تحذف ألفها إذا وقع بعدها القسم، ليدلوا على شدة اتصال الثاني بالأول، لأن الكلمة إذا بقيت على حرف واحد لم تقم بنفسها، فعلم بحذف ألف ما افتقارها إلى الاتصال بالهمزة، والله تعالى أعلم. وفيه جواز الحلف من غير استحلاف، وكان الحلف هنا لتوكيد العزم على الاستغفار وتطييبا لنفس أبي طالب، وكانت وفاة أبي طالب بمكة قبل الهجرة بقليل، قال ابن فارس: مات أبو طالب ولرسول الله صلى الله عليه وسلم تسع وأربعون سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوما، وتوفيت خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام. وأما قول الله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} فقال المفسرون وأهل المعاني معناه: ما ينبغي لهم، قالوا: وهو نهي، والواو في قوله تعالى: {ولو كانوا أولي قربى} واو الحال، والله أعلم. وأما قوله (عز وجل: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}) فقد أجمع المفسرون على أنها نزلت في أبي طالب، وكذا نقل إجماعهم على هذا الزجاج وغيره وهي عامة، فإنه لا يهدي ولا يضل إلا الله تعالى، قال الفراء وغيره: قوله تعالى: {من أحببت} يكون على وجهين: أحدهما: معناه من أحببته لقرابته. والثاني: من أحببت أن يهتدي. قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل وغيرهم: {وهو أعلم بالمهتدين} أي بمن قدر له الهدى والله أعلم.
أما قوله: (يقولون إنما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك) فهكذا هو في جميع الأصول، وجميع روايات المحدثين في مسلم وغيره الجزع بالجيم والزاي، وكذا نقله القاضي عياض وغيره عن جميع روايات المحدثين وأصحاب الأخبار أي التواريخ والسير، وذهب جماعات من أهل اللغة إلى أنه الخرع بالخاء المعجمة والراء المفتوحتين أيضا، وممن نص عليه كذلك الهروي في الغريبين، ونقله الخطابي عن ثعلب مختارا له، وقاله أيضا شمر، ومن المتأخرين أبو القاسم الزمخشري، قال القاضي عياض رحمه الله: ونبهنا غير واحد من شيوخنا على أنه الصواب، قالوا: والخرع هو الضعف والخور، قال الأزهري: وقيل الخرع الدهش، قال شمر: كل رخو ضعيف خريع وخرع، قال: والخرع الدهش، قال: ومنه قول أبي طالب والله أعلم. وأما قوله: لأقررت بها عينك، فأحسن ما يقال فيه ما قاله أبو العباس ثعلب قال: معنى أقر الله عينه أي بلغه الله أمنيته حتى ترضى نفسه وتقر عينه فلا تستشرف لشيء. وقال الأصمعي معناه: أبرد الله دمعته لأن دمعة الفرح باردة، وقيل معناه: أراه الله ما يسره والله أعلم.
*2* باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعا
*هذا الباب فيه أحاديث كثيرة، وتنتهي إلى حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه: ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا. واعلم أن مذهب أهل السنة وما عليه أهل الحق من السلف والخلف أن من مات موحدا دخل الجنة قطعا على كل حال، فإن كان سالما من المعاصي كالصغير والمجنون والذي اتصل جنونه بالبلوغ والتائب توبة صحيحة من الشرك أو غيره من المعاصي إذا لم يحدث معصية بعد توبته، والموفق الذي لم يبتل بمعصية أصلاً، فكل هذا الصنف يدخلون الجنة ولا يدخلون النار أصلاً، لكنهم يردونها على الخلاف المعروف في الورود، والصحيح أن المراد به المرور على الصراط وهو منصوب على ظهر جهنم أعاذنا الله منها ومن سائر المكروه. وأما من كانت له معصية كبيرة ومات من غير توبة فهو في مشيئة الله تعالى، فإن شاء عفا عنه وأدخله الجنة أولاً وجعله كالقسم الأول، وإن شاء عذبه القدر الذي يريده سبحانه وتعالى ثم يدخله الجنة، فلا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ولو عمل من المعاصي ما عمل، كما أنه لا يدخل الجنة أحد مات على الكفر ولو عمل من أعمال البر ما عمل، هذا مختصر جامع لمذهب أهل الحق في هذه المسألة. وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع من يعتد به من الأمة على هذه القاعدة، وتواترت بذلك نصوص تحصل العلم القطعي، فإذا تقررت هذه القاعدة حمل عليها جميع ما ورد من أحاديث الباب وغيره، فإذا ورد حديث في ظاهره مخالفة وجب تأويله عليها ليجمع بين نصوص الشرع، وسنذكر من تأويل بعضها ما يعرف به تأويل الباقي إن شاء الله تعالى، والله أعلم. وأما شرح أحاديث الباب فنتكلم عليها مرتبة لفظا ومعنى، إسنادا ومتنا.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، كِلاَهُمَا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: أَبُو بَكْرٍ: حَدّثَنَا ابْنُ عُلَيّةَ عَنْ خَالِدٍ. قَالَ: حَدّثَنِي الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ عُثْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنّهُ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله دَخَلَ الْجَنّةَ".
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدّمِيّ. حَدّثَنَا بِشَرُ بْنُ الْمُفَضّلِ. حَدّثَنَا خَالِدٌ الْحذّاءُ، عَنِ الْوَلِيدِ أَبِي بِشْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ مِثْلَهُ سَوَاءً.
حدّثنا أَبُو بَكْرٍ بْنُ النّضْرِ ابْنِ أَبِي النّضْرِ. قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو النّضْرِ هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ. حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ الأَشْجَعِيّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرّفٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنّا مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي مَسِيرٍ. قَالَ فَنَفِدَتْ أَزْوَادُ الْقَوْمِ. قَالَ حَتّى هَمّ بِنَحْرِ بَعْضِ حَمَائِلِهِمْ. قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللّهِ لَوْ جَمَعْتَ مَا بَقِيَ مِنْ أَزْوَادِ الْقَوْمِ، فَدَعَوْتَ الله عَلَيْهَا. قَالَ فَفَعَلَ. قَالَ فَجَاءَ ذُو الْبُرّ بِبُرّهِ. وَذُو التّمْرِ بِتَمْرِهِ. قَالَ (وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَذُو النّوَاةِ بِنَوَاهُ) قُلْتُ: وَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ بِالنّوَى؟ قَالَ: كانُوا يَمُصّونَهُ وَيَشْرَبُونَ عَلَيْهِ الْمَاءَ. قَالَ فَدعا عَلَيْهَا. حَتّى مَلأَ الْقَوْمُ أَزْوِدَتَهُمْ. قَالَ فَقال عِنْدَ ذَلِكَ: "أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله، وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ. لاَ يَلْقَى الله بِهِمَا عَبْدٌ، غَيْرَ شَاكٍ فِيهِمَا، إِلاّ دَخَلَ الْجَنّةَ".
حدّثنا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ وَ أَبُو كُرَيبٍ مُحمّدُ بْنُ الْعَلاءِ، جَمِيعا عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَوْ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (شَكّ الأَعْمَشُ) قَالَ: لَمّا كَانَ غَزْوَةُ تَبُوكَ، أَصَابَ النّاسَ مَجَاعَةٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ! لَوْ أَذِنْتَ لَنَا فَنَحَرْنَا نَوَاضِحَنَا، فَأَكَلْنَا وَادّهَنّا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "افْعَلُوا" قَالَ فَجَاءَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنْ فَعَلْتَ قَلّ الظّهْرُ. وَلَكِنِ ادْعُهُمْ بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ. ثُمّ ادْعُ الله لَهُمْ عَلَيْهَا بِالْبَرَكَةِ. لَعَلّ الله أَنْ يَجْعَلَ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ" قَالَ فَدَعَا بِنِطَعٍ فَبَسَطَهُ. ثُمّ دَعَا بِفَضْلِ أَزْوَادِهِمْ. قَالَ فَجَعَلَ الرّجُلُ يَجِيءُ بِكَفّ ذُرَةٍ. قَالَ وَيَجِيءُ الاَخَرُ بِكَفّ تَمْرٍ. قَالَ وَيَجِيءُ الاَخَرُ بِكِسْرَةٍ. حَتّى اجْتَمَعَ عَلَى النّطَعِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ يَسِيرٌ. قَالَ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ بِالْبَرَكَةِ. ثُمّ قَالَ: "خُذُوا فِي أَوْعِيَتِكُمْ" قَالَ: فَأَخَذُوا فِي أَوْعِيَتِهِمْ. حَتّى مَا تَرَكوا فِي الْعَسْكَرِ وِعَاءً إِلاّ مَلأُوهُ، قَالَ: فَأَكَلُوا حَتّى شَبِعُوا، وَفَضلَتْ فَضْلَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله، وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ، لاَ يَلْقَى الله بِهِمَا عَبْدٌ، غَيْرَ شَاكٍ، فَيُحْجَبَ عَنِ الْجَنّةِ".
حدّثنا دَاوُدُ بْنُ رُشَيْدٍ: حَدّثَنَا الْوَلِيدُ (يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ) عَنِ ابْنِ جَابِرٍ. قَالَ: حَدّثَنِي عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ. قَالَ: حَدّثَنِي جُنَادَةُ ابْنُ أَبِي أُمَيّةَ. حَدّثَنَا عُبَادَةُ بْنُ الصّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ: أَشْهَدُ أَنّ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَنّ مُحَمّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنّ عِيسَىَ عَبْدُ اللّهِ وَابْنُ أَمَتِهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنّ الْجَنّةَ حَقّ، وَأَنّ النّارَ حَقّ، أَدْخَلَهُ الله مِنْ أَيّ أَبْوَابِ الْجَنّةِ الثّمَانِيَةِ شَاءَ".
وحدّثني أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدّوْرَقِيّ: حَدّثَنَا مُبَشّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنِ الأَوْزَاعِيّ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ هَانِئ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمِثْلِهِ غٍيْرَ أَنّه قَالَ "أَدْخَلَهُ الله الْجَنّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ عَمَلٍ" وَلَمْ يَذْكُرْ "مِنْ أَيّ أَبْوَابِ الْجَنّةِ الثّمَانِيَةِ شَاءَ".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ مُحمّدٍ بْنِ يَحْيَىَ بْنُ حَبّانَ، عَنِ ابْنِ مْحْيْرِيزٍ، عَنِ الصّنَابِحِيّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ أَنّهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَوْتِ، فَبَكَيْتُ. فَقَالَ: مَهْلاً. لِمَ تَبْكِي؟ فَوَالله لَئِنِ اسْتُشْهِدْتُ لأَشْهَدَنّ لَكَ. وَلَئِنْ شُفّعْتُ لأَشْفَعَنّ لَكَ. وَلَئِنْ اسْتَطَعْتُ لأَنْفَعَنّكَ. ثُمّ قَالَ: وَالله مَا مِنْ حَدِيثٍ سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَكُمْ فِيهِ خَيْرٌ إِلاّ حَدّثْتُكُمُوهُ. إِلاّ حَدِيثا وَاحِدا. وَسَوْفَ أُحَدّثُكُمُوهُ الْيَوْمَ، وَقَدْ أُحِيطَ بِنَفْسِي. سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله، وَأَنّ مُحَمّدا رَسُولُ اللّهِ. حَرّمَ الله عَلَيْهِ النّارَ".
حدّثنا هَدّاب بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيّ: حَدّثَنَا هَمّامٌ: حَدّثَنَا قَتَادَةُ: حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ليس بيني وبينه إِلا مؤخرة الرّحْلِ. فقال: "يا معاذ بن جبل" قلت: لبيك رسول اللّهِ وَسَعْدَيْكَ ثُمّ سَارَ سَاعَةً. ثُمّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ" قُلْتُ: لَبّيْكَ رَسُولَ اللّهِ وَسَعْدَيْكَ. ثُمّ سَارَ سَاعَةً. ثُمّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ!" قُلْتُ: لَبّيْكَ رَسُولَ اللّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: "هل تَدْرِي مَا حَقّ الله عَلَى الْعِبَادِ؟" قَالَ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنّ حَقّ الله عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا" ثُمّ سَارَ سَاعَةً. ثُمّ قَالَ: "يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ!" قُلْتُ: لَبّيْكَ رَسولَ اللّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ: "هَلْ تَدْرِي مَا حَقّ الْعِبَادِ عَلَى الله إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ" قَالَ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "أَنْ لاَ يُعَذّبَهُمْ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ سَلاّمُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ. قَالَ: فَقَالَ: يَا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ وما حقّ العبادِ عَلَى الله؟ قَالَ قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنّ حَقّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوا اللّهِ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا. وَحَقّ الْعِبَادِ عَلَى اللّهِ عَزّ وَجَلّ أَنْ لاَ يُعَذّبَ مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا" قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَفَلاَ أُبَشّرُ النّاسَ؟ قَالَ: "لاَ تُبَشّرْهُمْ. فَيَتّكِلُوا".
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ. قَالَ ابْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ وَ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ، أَنّهُمَا سَمِعَا الأَسْوَدَ بْنَ هِلاَلٍ يُحَدّثُ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يا مُعَاذُ! أَتَدْرِي مَا حَقّ اللّهِ عَلَى الْعِبَادِ؟" قَالَ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ "أَن يُعْبَدَ اللّهُ وَلاَ يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ" قَالَ: "أَتَدْرِي مَا حَقّهُمْ عَلَيْهِ إِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ؟" فَقَالَ: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعَلَمْ. قَالَ "أَنْ لاَ يُعَذّبَهُمْ".
حدّثنا الْقَاسِمْ بْنُ زَكَرِيّاءَ. حَدّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلاَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاذَا يَقُولُ: دَعَانِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَجَبْتُهُ. فَقَالَ: "هَلْ تَدْرِي مَا حَقّ اللّهِ عَلَى النّاسِ" نَحْوَ حَدِيثِهِمْ.
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيّ: حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ. قَالَ حَدّثَنِي أَبُو كَثيرٍ قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنّا قُعُودا حَوْلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. مَعَنَا أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ، فِي نَفَرٍ. فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِنَا. فَأَبْطَأَ عَلَيْنَا. وَخَشِينَا أَنْ يُقْتَطَعَ دُونَنَا. وَفَزِعْنَا فَقُمْنَا. فَكُنْتُ أَوّلَ مَنْ فَزِعَ. فَخَرَجْتُ أَبْتَغِي رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. حَتّى أَتَيْتُ حَائِطَا لِلأَنْصَارِ لِبَنِي النّجّار. فَدُرْتُ بِهِ هَلْ أَجِدُ لَهُ بَابا. فَلَمْ أَجِدْ.فَإِذَا رَبيعٌ يَدْخُلُ فِي جَوْفِ حَائِطٍ مِنْ بِئرٍ خَارِجَةٍ (وَالرّبِيعُ الْجَدْوَلُ) فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثّعْلَبُ. فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ "أَبُو هُرَيْرَةَ؟" فَقُلْتُ: نَعَمْ. يَا رَسُولَ اللّهِ. قَالَ: "مَا شَأْنُكَ؟" قُلْتُ: كُنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا. فَقُمْتَ فَأَبْطَأْتَ عَلَيْنَا. فَخَشِينَا أَنْ تُقْتطَعَ دُونَنَا. فَفَزِعْنَا. فَكُنْتُ أَوّلَ مَنْ فَزِعَ. فَأَتَيْتَ هَذَا الْحَائِطَ. فَاحْتَفَزْتُ كَمَا يَحْتَفِزُ الثّعْلَبُ. وَهَؤُلاءِ النّاسُ وَرَائِي فَقَالَ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ"(وَأَعْطَانِي نَعْلَيْهِ) قَالَ "اذْهَبْ بِنَعْلَيّ هَاتَينِ. فَمَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاء هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ. مُسْتَيْقِنا بِهَا قَلُبُهُ. فَبَشّرْهُ بِالْجَنّةِ" فَكَانَ أَوّلَ مَنْ لَقِيتُ عُمَرُ. فَقَالَ: مَا هَاتَانِ النّعَلاَنِ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟!فَقُلْتُ: هَاتَيْنِ نَعْلاَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. بَعثَنِي بِهِمَا. مَنْ لَقِيِتُ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ مُسْتَيْقِنا بِهَا قَلْبُهُ، بَشّرْتُهُ بِالْجَنّةِ. فَضَرَبَ عُمَرُ بِيَدِهِ بَيْنَ ثَدْيَيّ. فَخَرَرْتُ لاِسْتِي. فَقَالَ: ارْجِعْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ. فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَجْهَشْتُ بُكَاءً. وَرَكِبَنِي عُمَرُ فَإِذَا هُوَ عَلَى أَثَرِي. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَالَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟" قُلْتُ: لَقِيتُ عُمَرَ فَأَخْبَرْتُهُ بِالّذِي بَعَثْتَنِي بِهِ. فَضَرَبَ بَيْنَ ثَدْيَيّ ضَرْبَةً. خَرَرْتُ لاِسْتِي. قَالَ: ارْجِعْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عُمَرُ! مَا حَمَلك على ما فَعَلْتَ؟" قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي. أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ، مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ مُسْتَيْقِنا بِهَا قَلْبُهُ، بَشّرَهُ بِالْجَنّةِ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: فَلاَ تَفْعَلْ. فَإِنّي أَخْشَىَ أَنْ يَتّكِلَ النّاسُ عَلَيْهَا. فَخَلّهِمْ يَعْمَلُونَ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَخَلّهِمْ".
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ: أَخْبَرَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ: قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ نَبِيّ اللهَ صلى الله عليه وسلم، وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ رَدِيفُهُ عَلَى الرّحْلِ، قَالَ "يَا مُعَاذُ" قَالَ: لَبّيْكَ رَسُولَ اللّهِ وَسَعْدَيْكَ. قالَ: "يا مُعَاذُ"، قال: لبّيْكَ رَسُولَ اللّهِ وسَعْدَيْكَ. قالَ: "يا مُعَاذُ" قال: لَبّيْكَ رَسُولَ اللّهِ وسَعْديْكَ قال: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله، وَأَنّ مُحَمّدا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، إِلاّ حَرّمَهُ الله عَلَى النّارِ" قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَفَلاَ أُخْبِرُ بِهَا النّاسَ فَيَسْتَبْشِرُوا؟ قَالَ: "إِذا يَتّكِلُوا" فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ، تَأَثّما.
حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ: حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ (يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ) قَالَ: حَدّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: حَدّثَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرّبِيعِ، عَنْ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ. فَلَقِيتُ عِتْبَانَ. فَقُلْتُ: حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ. قَالَ: أَصَابَنِي فِي بَصَرِي بَعْضُ الشّيْءِ. فَبَعَثْتُ إِلى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّي أُحِبّ أَنْ تَأْتِيَنِي فَتُصَلّيَ فِي مَنْزِلِي فَأَتّخِذَهُ مُصَلّى. قَالَ: فَأَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَمَنْ شَاءَ الله مِنْ أَصْحَابِهِ. فَدَخَلَ وَهُوَ يُصَلّي فِي مَنْزِلِي. وَأَصْحَابُهُ يَتَحَدّثُونَ بَيْنَهُمْ. ثُمّ أَسْنَدُوا عُظْمَ ذَلِكَ وَكُبْرَهُ إِلَى مَالِكِ بْنِ دُخْشُمٍ. قَالُوا: وَدّوا أَنه دَعَا عَلَيْهِ فهلك. وَوَدّوا أَنّهُ أَصَابَهُ شَرّ. فَقَضىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الصّلاَةَ. وَقَالَ: "أَلَيْسَ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ؟" قَالُوا: إِنّهُ يَقُولُ ذَلِكَ. وَمَا هُوَ فِي قَلْبِهِ. قَالَ: "لاَ يَشْهَدُ أَحَدٌ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ فَيَدْخُلَ النّارَ، أَوْ تَطْعَمَهُ". قَالَ أَنَسٌ: فَأَعْجَبَنِي هَذَا الْحَدِيثُ. فَقُلْتُ لاِبْنِي: اكْتُبْهُ. فَكَتَبَهُ.
حدّثني أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيّ: حَدّثَنَا بَهْزٌ: حَدّثَنَا حَمّادٌ: حَدّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَدّثَنِي عِتْبَانُ بْنُ مَالِكٍ، أَنّهُ عَمِيَ. فَأَرْسَلَ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: تَعَالَ فَخُطّ لِي مَسْجِدا. فَجَاءَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَجَاءَ قَوْمُهُ. ونُعِتَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مَالِكُ بْنُ الدّخْشُمِ. ثُمّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ.
فقوله في الإسناد الأول: (عن إسماعيل بن إبراهيم، وفي رواية أبي بكر بن أبي شيبة: حدثنا ابن علية عن خالد قال: حدثني الوليد بن مسلم عن حمران عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يعلم أن لا إلَه إلا الله دخل الجنة). أما إسماعيل بن إبراهيم فهو ابن علية، وهذا من احتياط مسلم رحمه الله، فإن أحد الراويين قال: ابن علية، والاَخر قال: إسماعيل بن إبراهيم فبينهما ولم يقتصر على أحدهما، وعليه أم إسماعيل وكان يكره أن يقال له ابن علية وقد تقدم بيانه. وأما خالد فهو ابن مهران الحذاء كما بينه في الرواية الثانية وهو ممدود، وكنيته أبو المنازل بالميم المضمومة والنون والزاي واللام، قال أهل العلم: لم يكن خالد حذاء قط، ولكنه كان يجلس إليهم فقيل له الحذاء لذلك هذا هو المشهور. وقال فهد بن حيان بالفاء: إنما كان قول: احذوا على هذا النحو فلقب بالحذاء، وخالد يعد في التابعين. وأما الوليد بن مسلم بن شهاب العنبري البصري أبو بشر فروى عن جماعة من التابعين، وربما اشتبه على بعض من لم يعرف الأسماء بالوليد بن مسلم الأموي مولاهم الدمشقي أبي العباس صاحب الأوزاعي، ولا يشتبه ذلك على العلماء به، فإنهما مفترقان في النسب إلى القبيلة والبلدة والكنية كما ذكرنا، وفي الطبقة فإن الأول أقدم طبقة وهو في طبقة كبار شيوخ الثاني، ويفترقان أيضا في الشهرة والعلم والجلالة، فإن الثاني متميز بذلك كله، قال العلماء: انتهى علم الشام إليه وإلى إسماعيل بن عياش، وكان أجل من ابن عياش رحمهم الله أجمعين والله أعلم. وأما حمران فبضم الحاء المهملة وإسكان الميم، وهو حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان رضي الله عنه، كنية حمران أبو يزيد كان من سبي عين التمر. وأما معنى الحديث وما أشبه فقد جمع فيه القاضي عياض رحمه الله كلاما حسنا جمع فيه نفائس، فأنا أنقل كلامه مختصرا ثم أضم بعده إليه ما حضرني من زيادة. قال القاضي عياض رحمه الله: اختلف الناس فيمن عصى الله تعالى من أهل الشهادتين فقالت المرجئة: لا تضره المعصية مع الإيمان، وقالت الخوارج: تضره ويكفر بها، وقالت المعتزلة: يخلد في النار إذا كانت معصيته كبيرة، ولا يوصف بأنه مؤمن ولا كافر، ولكن يوصف بأنه فاسق، وقالت الأشعرية: بل هو مؤمن وإن لم يغفر له وعذب فلا بد من إخراجه من النار وإدخاله الجنة. قال: وهذا الحديث حجة على الخوارج والمعتزلة، وأما المرجئة فإن احتجت بظاهره قلنا محمله على أنه غفر له أو أخرج من النار بالشف اعة ثم أدخل الجنة، فيكون معنى قوله صلى الله عليه وسلم: دخل الجنة أي دخلها بعد مجازاته بالعذاب، وهذا لا بد من تأويله لما جاء في ظواهر كثيرة من عذاب بعض العصاة، فلا بد من تأويل هذا لئلا تتناقض نصوص الشريعة. وفي قوله صلى الله عليه وسلم وهو يعلم إشارة إلى الرد على من قال من غلاة المرجئة أن مظهر الشهادتين يدخل الجنة وإن لم يعتقد ذلك بقلبه، وقد قيد ذلك في حديث آخر بقوله صلى الله عليه وسلم غير شاك فيهما، وهذا يؤكد ما قلناه، قال القاضي: وقد يحتج به أيضا من يرى أن مجرد معرفة القلب نافعة دون النطق بالشهادتين لاقتصاره على العلم، ومذهب أهل السنة أن المعرفة مرتبطة بالشهادتين، لا تنفع إحداهما ولا تنجي من النار دون الأخرى إلا لمن لم يقدر على الشهادتين لاَفة بلسانه أو لم تمهله المدة ليقولها بل اخترمته المنية، ولا حجة لمخالف الجماعة بهذا اللفظ، إذ قد ورد مفسرا في الحديث الاَخر: "من قال لا إلَه إلا الله ومن شهد أن لا إلَه إلا الله وأني رسول الله" وقد جاء هذا الحديث وأمثاله كثيرة في ألفاظها اختلاف، ولمعانيها عند أهل التحقيق ائتلاف، فجاء هذا اللفظ في هذا الحديث. وفي رواية معاذ عنه صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه لا إلَه إلا الله دخل الجنة". وفي رواية عنه صلى الله عليه وسلم: "من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة". وعنه صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد يشهد أن لا إلَه إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار". ونحوه في حديث عبادة بن الصامت وعتبان بن مالك. وزاد في حديث عبادة: على ما كان من عمل. وفي حديث أبي هريرة: "لا يلقى الله تعالى بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة وإن زنى وإن سرق". وفي حديث أنس: "حرم الله على النار من قال لا إلَه إلا الله يبتغي بذلك وجه الله تعالى". وهذه الأحاديث كلها سردها مسلم رحمه الله في كتابه. فحكى عن جماعة من السلف رحمهم الله منهم ابن المسيب أن هذا كان قبل نزول الفرائض والأمر والنهي. وقال بعضهم: هي مجملة تحتاج إلى شرح ومعناه: من قال الكلمة وأدى حقها وفريضتها، وهذا قول الحسن البصري.
وقيل: إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك، وهذا قول البخاري، وهذه التأويلات إنما هي إذا حملت الأحاديث على ظاهرها، وأما إذا نزلت منازلها فلا يشكل تأويلها على ما بينه المحققون، فنقرر أولاً أن مذهب أهل السنة بأجمعهم من السلف الصالح وأهل الحديث والفقهاء والمتكلمين على مذهبهم من الأشعريين أن أهل الذنوب في مشيئة الله تعالى، وأن كل من مات على الإيمان وتشهد مخلصا من قلبه بالشهادتين فإنه يدخل الجنة، فإن كان تائبا أو سليما من المعاصي دخل الجنة برحمة ربه وحرم على النار بالجملة، فإن حملنا اللفظين الواردين على هذا فيمن هذه صفته كان بينا، وهذا معنى تأويلي الحسن والبخاري، وإن كان هذا من المخلطين بتضييع ما أوجب الله تعالى عليه أو بفعل ما حرم عليه فهو في المشيئة، لا يقطع في أمره بتحريمه على النار، ولا باستحقاقه الجنة لأول وهلة، بل يقطع بأنه لا بد من دخوله الجنة آخرا، وحاله قبل ذلك في خطر المشيئة، إن شاء الله تعالى عذبه بذنبه، وإن شاء عفا عنه بفضله، ويمكن أن تستقل الأحاديث بنفسها ويجمع بينها، فيكون المراد باستحقاق الجنة ما قدمناه من إجماع أهل السنة أنه لا بد من دخولها لكل موحد إما معجلاً معافى، وإما مؤخرا بعد عقابه، والمراد بتحريم النار تحريم الخلود، خلافا للخوارج والمعتزلة في المسألتين، ويجوز في حديث: "من كان آخر كلامه لا إلَه إلا الله دخل الجنة" أن يكون خصوصا لمن كان هذا آخر نطقه وخاتمة لفظه وإن كان قبل مخلطا، فيكون سببا لرحمة الله تعالى إياه ونجاته رأسا من النار وتحريمه عليها، بخلاف من لم يكن ذلك آخر كلامه من الموحدين المخلطين، وكذلك ما ورد في حديث عبادة من مثل هذا، ودخوله من أي أبواب الجنة شاء، يكون خصوصا لمن قال ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه، فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته، ويوجب له المغفرة والرحمة ودخول الجنة لأول وهلة إن شاء الله تعالى، والله أعلم. هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله وهو في نهاية الحسن. وأما ما حكاه عن ابن المسيب وغيره فضعيف باطل، وذلك لأن راوي أحد هذه الأحاديث أبو هريرة رضي الله عنه وهو متأخر الإسلام أسلم عام خيبر سنة سبع بالاتفاق، وكانت أحكام الشريعة مستقرة، وأكثر هذه الواجبات كانت فروضها مستقرة، وكانت الصلاة والصيام والزكاة وغيرها من الأحكام قد تقرر فرضها، وكذا الحج على قول من قال: فرض سنة خمس أو ست، وهما أرجح من قول من قال سنة تسع والله أعلم. وذكر الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى تأويلاً آخر في الظواهر الواردة بدخول الجنة بمجرد الشهادة فقال: يجوز أن يكون ذلك اقتصارا من بعض الرواة نشأ من تقصيره في الحفظ والضبط، لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بدلالة مجيئه تاما في رواية غيره، وقد تقدم نحو هذا التأويل. قال: ويجوز أن يكون اختصارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما خاطب به الكفار عبدة الأوثان الذين كان توحيدهم لله تعالى مصحوبا بسائر ما يتوقف عليه الإسلام ومستلزما له، والكافر إذا كان لا يقر بالوحدانية كالوثني والثنوي فقال: لا إلَه إلا الله وحاله الحال التي حكيناها حكم بإسلامه، ولا نقول والحالة هذه ما قاله بعض أصحابنا من أن من قال: لا إلَه إلا الله يحكم بإسلامه ثم يجبر على قبول سائر الأحكام، فإن حاصله راجع إلى أنه يجبر حينئذٍ على إتمام الإسلام، ويجعل حكمه حكم المرتد إن لم يفعل من غير أن يحكم بإسلامه بذلك في نفس الأمر وفي أحكام الاَخرة، ومن وصفناه مسلم في نفس الأمر وفي أحكام الاَخرة، والله أعلم.
قوله: (حدثنا عبيد الله الأشجعي عن مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث. وفي الرواية الأخرى عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد شك الأعمش قال: لما كان يوم غزوة تبوك الحديث) هذان الإسنادان مما استدركه الدارقطني وعلله. أما الأول فعلله من جهة أن أبا أسامة وغيره خالفوا عبيد الله الأشجعي فرووه عن مالك بن مغول عن طلحة عن أبي صالح مرسلاً. وأما الثاني فعلله لكونه اختلف فيه عن الأعمش فقيل فيه أيضا عنه عن أبي صالح عن جابر، وكان الأعمش يشك فيه. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: هذان الاستدراكان من الدارقطني، مع أكثر استدراكاته على البخاري ومسلم قدح في أسانيدهما غير مخرج لمتون الأحاديث من حيز الصحة، وقد ذكر في الحديث أبو مسعود إبراهيم بن محمد الدمشقي الحافظ، فيما أجاب الدارقطني عن استدراكاته على مسلم رحمه الله أن الأشجعي ثقة مجود، فإذا جود ما قصر فيه غيره حكم له به، ومع ذلك فالحديث له أصل ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية الأعمش له مسندا، وبرواية يزيد بن أبي عبيد وإياس بن سلمة بن الأكوع عن سلمة، قال الشيخ: رواه البخاري عن سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما شك الأعمش فهو غير قادح في متن الحديث فإنه شك في عين الصحابي الراوي له وذلك غير قادح، لأن الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول، هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو رحمه الله: قلت: وهذان الاستدراكان لا يستقيم واحد منهما. أما الأول فلأنا قدمنا في الفصول السابقة أن الحديث الذي رواه بعض الثقات موصولاً وبعضهم مرسلاً، فالصحيح الذي قاله الفقهاء وأصحاب الأصول والمحققون من المحدثين أن الحكم لرواية الوصل، سواء كان راويها أقل عددا من رواية الإرسال أو مساويا لأنها زيادة ثقة، فهذا موجود هنا وهو كما قال الحافظ أبو مسعود الدمشقي: جود وحفظ ما قصر فيه غيره. وأما الثاني فلأنهم قالوا: إذا قال الراوي حدثني فلان أو فلان وهما ثقتان احتج به بلا خلاف، لأن المقصود الرواية عن ثقة مسمى وقد حصل، وهذه قاعدة ذكرها الخطيب البغدادي في الكفاية وذكرها غيره، وهذا في غير الصحابة ففي الصحابة أولى فإنهم كلهم عدول، فلا غرض في تعيين الراوي منهم والله أعلم. وأما ضبط لفظ الإسناد فمغول بكسر الميم وإسكان الغين المعجمة وفتح الواو. وأما مصرف فبضم الميم وفتح الصاد المهملة وكسر الراء، هذا هو المشهور المعروف في كتب المحدثين وأصحاب المؤتلف وأصحاب أسماء الرجال وغيرهم. وحكى الإمام أبو عبد الله القعلي الفقيه الشافعي في كتابه ألفاظ المهذب أنه يروى بكسر الراء وفتحها، وهذا الذي حكاه من رواية الفتح غريب منكر ولا أظنه يصح، وأخاف أن يكون قلد فيه بعض الفقهاء أو بعض النسخ أو نحو ذلك، وهذا كثير يوجد مثله في كتب الفقه وفي الكتب المصنفة في شرح ألفاظها، فيقع فيها تصحيفات ونقول غريبة لا تعرف، وأكثر هذه الغريبة أغاليط، لكون الناقلين لها لم يتحروا فيها والله أعلم. قوله: (حتى هم بنحر بعض حمائلهم) روي بالحاء وبالجيم، وقد نقل جماعة من الشراح الوجهين لكن اختلفوا في الراجح منهما، فممن نقل الوجهين صاحب التحرير والشيخ أبو عمرو بن الصلاح وغيرهما، واختار صاحب التحرير الجيم، وجزم القاضي عياض بالحاء ولم يذكر غيرها. قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: وكلاهما صحيح، فهو بالحاء جمع حمولة بفتح الحاء وهي الإبل التي تحمل، وبالجيم جمع جمالة بكسرها جمع جمل، ونظيره حجر وحجارة، والجمل هو الذكر دون الناقة، وفي هذا الذي هم به النبي صلى الله عليه وسلم بيان لمراعاة المصالح، وتقديم الأهم فالأهم، وارتكاب أخف الضررين لدفع أضرهما، والله أعلم. قوله: (فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم) هذا فيه بيان جواز عرض المفضول على الفاضل ما يراه مصلحة لينظر الفاضل فيه، فإن ظهرت له مصلحة فعله، ويقال بقي بكسر القاف وفتحها والكسر لغة أكثر العرب وبها جاء القرآن الكريم، والفتح لغة طي، وكذا يقولون فيما أشبهه والله أعلم. قوله: (فجاء ذو البر ببره، وذو التمر بتمره، قال: وقال مجاهد: وذو النواة بنواه) هكذا هو في أصولنا وغيرها، الأول النواة بالتاء في آخره، والثاني بحذفها، وكذا نقله القاضي عياض عن الأصول كلها ثم قال: ووجهه ذو النوى بنواه، كما قال: ذو التمر بتمره، قال الشيخ أبو عمرو: وجدته في كتاب أبي نعيم المخرج على صحيح مسلم ذو النوى بنواه، قال: وللواقع في كتاب مسلم وجه صحيح وهو أن يجعل النواة عبارة عن جملة من النوى أفردت عن غيرها، كما أطلق اسم الكلمة على القصيدة، أو تكون النواة من قبيل ما يستعمل في الواحد والجمع، ثم أن القائل قال مجاهد: هو طلحة بن مصرف، قاله الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري والله أعلم. وفي هذا الحديث جواز خلط المسافرين أزوادهم وأكلهم منها مجتمعين، وإن كان بعضهم يأكل أكثر من بعض، وقد نص أصحابنا على أن ذلك سنة والله أعلم.
قوله: (كانوا يمصونها) هو بفتح الميم هذه اللغة الفصيحة المشهورة، ويقال: مصصت الرمانة والتمرة وشبههما بكسر الصاد أمصها بفتح الميم. وحكى الأزهري عن بعض العرب ضم الميم. وحكى أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن ثعلب عن ابن الأعرابي هاتين اللغتين: مصصت بكسر الصاد أمص بفتح الميم، ومصصت بفتح الصاد أمص بضم الميم، مصافيهما، فأنا ماص، وهي ممصوصة، وإذا أمرت منهما قلت: مص الرمانة ومصها ومصها ومصها ومصها، فهذه خمس لغات في الأمر: فتح الميم مع الصاد ومع كسرها، وضم الميم مع فتح الصاد ومع كسرها وضمها، هذا كلام ثعلب. والفصيح المعروف في مصها ونحوه مما يتصل به هاء التأنيث لمؤنث، أنه يتعين فتح ما يلي الهاء ولا يكسر ولا يضم. قوله: (حتى ملأ القوم أزودتهم) هكذا الرواية فيه في جميعها الأصول، وكذا نقله عن الأصول جميع القاضي عياض وغيره. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: الأزودة جمع زاد وهي لا تملأ إنما تملأ بها أوعيتها، قال: ووجهه عندي أن يكون المراد حتى ملأ القوم أوعية أزودتهم، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. قال القاضي عياض: ويحتمل أنه سمى الأوعية أزوادا باسم ما فيها كما في نظائره، والله أعلم. وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة الظاهرة، وما أكثر نظائره التي يزيد مجموعها على شرط التواتر ويحصل العلم القطعي، وقد جمعها العلماء وصنفوا فيها كتبا مشهورة والله أعلم.
قوله: (لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناس مجاعة) هكذا ضبطناه يوم غزوة تبوك، والمراد باليوم هنا الوقت والزمان، لا اليوم الذي هو ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس، وليس في كثير من الأصول أو أكثرها ذكر اليوم هنا. وما الغزوة فيقال فيها أيضا الغزاة. وأما تبوك فهي من أدنى أرض الشام. والمجاعة: بفتح الميم وهو الجوع الشديد.
قوله: (فقالوا يا رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادهنا) النواضح من الإبل التي يستقى عليها، قال أبو عبيد: الذكر منها ناضح، والأنثى ناضحة. قال صاحب التحرير: قوله وادهنا ليس مقصوده ما هو المعروف من الأدهان، وإنما معناه اتخذنا دهنا من شح ومها. وقولهم: لو أذنت لنا هذا من أحسن آداب خطاب الكبار والسؤال منهم، فيقال: لو فعلت كذا أو أمرت بكذا، لو أذنت في كذا وأشرت بكذا، ومعناه لكان خيرا، أو لكان صوابا ورأيا متينا، أو مصلحة ظاهرة، وما أشبه هذا. فهذا أجمل من قولهم للكبير: افعل كذا بصيغة الأمر، وفيه أنه لا ينبغي لأهل العسكر من الغزاة أن يضيعوا دوابهم التي يستعينون بها في القتال بغير إذن الإمام، ولا يأذن لهم إلا إذا رأى مصلحة أو خاف مفسدة ظاهرة، والله أعلم. قوله: (فجاء عمر فقال: يا رسول الله إن فعلت قل الظهر) فيه جواز الإشارة على الأئمة والرؤساء، وأن للمفضول أن يشير عليهم بخلاف ما رأوه إذا ظهرت مصلحته عنده، وأن يشير عليهم بإبطال ما أمروا بفعله، والمراد بالظهر هنا الدواب، سميت ظهرا لكونها يركب على ظهرها، أو لكونها يستظهر بها ويستعان على السفر. قوله: (ثم ادع الله تعالى لهم عليها بالبركة لعل الله تعالى أن يجعل في ذلك) هكذا وقع في الأصول التي رأينا، وفيه محذوف تقديره: يجعل في ذلك بركة أو خيرا أو نحو ذلك، فحذف المفعول به لأنه فضلة، وأصل البركة كثرة الخير وثبوته، وتبارك الله ثبت الخير عنده، وقيل غير ذلك. قوله: (فدعا بنطع) فيه أربع لغات مشهورة: أشهرها كسر النون مع فتح الطاء، والثانية بفتحهما، والثالثة بفتح النون مع إسكان الطاء، والرابعة بكسر النون مع إسكان الطاء. قوله: (وفضلت فضلة) يقال: فضل وفضل بكسر الضاد وفتحها لغتان مشهورتان.
قوله: (حدثنا داود بن رشيد، حدثنا الوليد يعني ابن مسلم عن ابن جابر قال: حدثني عمير بن هانئ قال: حدثني جنادة بن أبي أمية قال: حدثنا عبادة بن الصامت) أما رشيد فبضم الراء وفتح الشين. وأما الوليد بن مسلم فهو الدمشقي صاحب الأوزاعي، وقد قدمنا في أول هذا الباب بيانه. وقوله: يعني ابن مسلم قد قدمنا مرات فائدته، وأنه لم يقع نسبه في الرواية فأراد إيضاحه من غير زيادة في الرواية. وأما ابن جابر فهو عبد الرحمن بن يزيد جابر الدمشقي الجليل. وأما هانئ فهو بهمز آخره. وأما جنادة بضم الجيم فهو جنادة بن أمية، واسم أبي أمية كبير بالباء الموحدة، وهو دوسي أزدي نزل فيهم شامي، وجنادة وأبوه صحابيان، هذا هو الصحيح الذي قاله الأكثرون. وقد روى له النسائي حديثا في صوم يوم الجمعة: "أنه دخل على النبي صلى الله عليه وسلم في ثمانية أنفس وهم صيام" وله غير ذلك من الحديث الذي فيه التصريح بصحبته. قال أبو سعيد بن يونس في تاريخ مصر: كان من الصحابة وشهد فتح مصر، وكذا قال غيره، ولكن أكثر رواياته عن الصحابة. وقال محمد بن سعد كاتب الواقدي: قال ابن عبد الله العجلي: هو تابعي من كبار التابعين، وكنية جنادة أبو عبد الله كان صاحب غزو رضي الله عنه، والله أعلم. وهذا الإسناد كله شاميون إلا داود بن رشيد فإنه خوارزمي سكن بغداد. قوله صلى الله عليه وسلم: (من قال أشهد أن لا إله إلا الله وحده وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله وابن أمته وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأن الجنة حق، وأن النار حق، أدخله الله من أي أبواب الجنة الثمانية شاء) هذا حديث عظيم الموقع، وهو أجمع أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد، فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج عن جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدها، فاختصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف على ما يباين به جميعهم، وسمى عيسى عليه السلام كلمة لأنه كان بكلمة كن، فحسب من غير أب، بخلاف غيره من بني آدم. قال الهروي: سمي كلمة لأنه كان عن الكلمة فسمي بها، كما يقال للمطر رحمة. قال الهروي: وقوله تعالى: {وروح منه} أي رحمة، قال: وقال ابن عرفة: أي ليس من أب إنما نفخ في أمه الروح. وقال غيره: وروح منه أي مخلوقة من عنده، وعلى هذا يكون إضافتها إليه إضافة تشريف كناقة الله، وبيت الله، وإلا فالعالم له سبحانه وتعالى ومن عنده، والله أعلم.
قوله: (حدثنا إبراهيم الدورقي) هو بفتح الدال، وقد تقدم بيانه في المقدمة، وتقدم أن اسم الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو مع بيان الاختلاف في الأوزاع التي نسب إليها. قوله صلى الله عليه وسلم: (أدخله الله الجنة على ما كان من عمل) هذا محمول على إدخاله الجنة في الجملة، فإن كانت له معاص من الكبائر فهو في المشيئة، فإن عذب ختم له بالجنة، وقد تقدم هذا في كلام القاضي وغيره مبسوطا مع بيان الاختلاف فيه، والله أعلم.
(يتبع...)
*(تابع... 1): هذا الباب فيه أحاديث كثيرة، وتنتهي إلى حديث العباس بن عبد المطلب رضي... ...
قوله: (عن ابن عجلان، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن الصنابحي، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه قال: دخلت عليه وهو في الموت فبكيت فقال: مهلاً) أما ابن عجلان بفتح العين فهو الإمام أبو عبد الله محمد بن عجلان المدني مولى فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة، كان عابدا فقيها، وكان له حلقة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يفتي، وهو تابعي أدرك أنسا وأبا الطفيل، قاله أبو نعيم. روى عن أنس والتابعين. ومن طرف أخباره أنه حملت به أمه أكثر من ثلاث سنين. وقد قال الحاكم أبو أحمد في كتاب الكنى: محمد بن عجلان يعد في التابعين ليس هو بالحافظ عنده ووثقه غيره. وقد ذكره مسلم هنا متابعة، قيل: إنه لم يذكر له في الأصول شيئا، والله أعلم. وأما حبان ففتح الحاء وبالموحدة، ومحمد بن يحيى هذا تابعي سمع أنس بن مالك رضي الله عنه. وأما ابن محيريز فهو عبد الله بن محيريز بن جنادة بن وهب القرشي الجمحي، من أنفسهم المكي أبو عبد الله التابعي الجليل، سمع جماعة من الصحابة منهم عبادة بن الصامت، وأبو محذورة وأبو سعيد الخدري وغيرهم رضي الله عنهم، سكن بيت المقدس. قال الأوزاعي: من كان مقتديا فليقتد بمثل ابن محيريز، فإن الله تعالى لم يكن ليضل أمة فيها مثل ابن محيريز. وقال رجاء بن حيوة بعد موت ابن محيريز: والله إن كنت لأعد بقاء ابن محيريز أمانا ولأهل الأرض. وأما الصنابحي بضم الصاد المهملة فهو أبو عبد الرحمن بن عسيلة بضم العين وفتح السين المهملتين المرادي، والصنابح بطن من مراد، وهو تابعي جليل، رحل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقبض النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق وهو بالجحفة قبل أن يصل بخمس ليال أو ست، فسمع أبا بكر الصديق وخلائق من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، وقد يشتبه على غير المشتغل بالحديث الصنابحي هذا بالصنابح بن الأعسر الصحابي رضي الله عنه، والله أعلم. واعلم أن هذا الإسناد فيه لطيفة مستطرفة من لطائف الإسناد، وهي أنه اجتمع فيه أربعة تابعيون يروي بعضهم عن بعض ابن عجلان وابن حبان وابن محيريز والصنابحي، والله أعلم. وأما قوله: (عن الصنابحي عن عبادة أنه قال: دخلت عليه) فهذا كثير يقع مثله، وفيه صنعة حسنة، وتقديره عن الصنابحي أنه حدث عن عبادة بحديث قال فيه: دخلت عليه. ومثله ما سيأتي قريبا في كتاب الإيمان في حديث: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين. قال مسلم رحمه الله: حدثنا يحيى بن يحيى قال: أنا هشيم عن صالح بن صالح عن الشعبي قال: رأيت رجلاً سأل الشعبي فقال: يا أبا عمرو إن من قبلنا من أهل خراسان ناس يقولون كذا، فقال الشعبي: حدثني أبو بردة عن أبيه. فهذا الحديث من النوع الذي نحن فيه، فتقديره قال هشيم: حدثني صالح عن الشعبي بحديث قال فيه صالح: رأيت رجلاً سأل الشعبي، ونظائر هذا كثيرة سننبه على كثير منها في مواضعها إن شاء الله تعالى، والله أعلم. وقوله: (مهلاً) هو بإسكان الهاء ومعناه أنظرني، قال الجوهري: يقال مهلاً يا رجل بالسكون، وكذلك للإثنين والجمع، والمؤنث وهي موحدة بمعنى أمهل، فإذا قيل لك مهلاً، قلت: لا مهل والله، ولا تقل: لا مهلاً، وتقول: ما مهل والله بمغنية عنك شيئا، والله أعلم. قوله: (ما من حديث لكم فيه خير إلا وقد حدثتكموه) قال القاضي عياض رحمه الله: فيه دليل على أنه كتم ما خشي الضرر فيه والفتنة مما لا يحتمله عقل كل واحد، وذلك فيما ليس تحته عمل، ولا فيه حد من حدود الشريعة، وقال: ومثل هذا عن الصحابة رضي الله عنهم كثير في ترك الحديث بما ليس تحته عمل ولا تدعو إليه ضرورة، أو لا تحمله عقول العامة، أو خشيت مضرته على قائله أو سامعه، لا سيما ما يتعلق بأخبار المنافقين والإمارة وتعيين قوم وصفوا بأوصاف غير مستحسنة، وذم آخرين ولعنهم، والله أعلم. قوله: (وقد أحيط بنفسي) معناه قربت من الموت وأيست من النجاة والحياة، قال صاحب التحرير: أصل الكلمة في الرجل يجتمع عليه أعداؤه فيقصدونه فيأخذون عليه جميع الجوانب بحيث لا يبقى له في الخلاص مطمع فيقال: أحاطوا به أي أطافوا به من جوانبه ومقصوده رب موتى، والله أعلم.
قوله: (هداب بن خالد) هو بفتح الهاء وتشديد الدال المهملة وآخره باء موحدة، ويقال: هدبة بضم الهاء وإسكان الدال، وقد ذكره مسلم رحمه الله في مواضع من الكتاب يقول في بعضها: هدبة، وفي بعضها: هداب، واتفقوا على أن أحدهما اسم والاَخر لقب، ثم اختلفوا في الاسم منهما، فقال أبو علي الغساني وأبو محمد عبد الله بن الحسن الطبسي وصاحب المطالع والحافظ عبد الغني المقدسي المتأخر: هدبة هو الاسم، وهداب لقب. وقال غيرهم: هداب اسم، وهدبة لقب، واختار الشيخ أبو عمرو هذا وأنكر الأول. وقال أبو الفضل الفلكي الحافظ: أنه كان يغضب إذا قيل له هدبة. وذكره البخاري في تاريخه فقال: هدبة بن خالد ولم يذكره هدابا، فظاهره أنه اختار أن هدبة هو الاسم، والبخاري أعرف من غيره فإنه شيخ البخاري ومسلم رحمهم الله أجمعين، والله أعلم. قوله: (كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، ثم سار ساعة ثم قال: يا معاذ بن جبل، قلت: لبيك يا رسول الله وسعديك، إلى آخر الحديث) أما قوله: ردف فهو بكسر الراء وإسكان الدال، هذه الرواية المشهورة التي ضبطها معظم الرواة. وحكى القاضي عياض رحمه الله أن أبا علي الطبري الفقيه الشافعي أحد رواة الكتاب ضبطه بفتح الراء وكسر الدال، والردف والرديف هو الراكب خلف الراكب، يقال منه ردفته بكسر الدال في الماضي وفتحها في المضارع إذا ركبت خلفه، وأردفته أنا، وأصله من ركوبه على الردف وهو العجز، قال القاضي: ولا وجه لرواية الطبري إلا أن يكون فعل هنا اسم فاعل مثل عجل وزمن إن صحت رواية الطبري، والله تعالى أعلم. قوله: ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل. أراد المبالغة في شدة قربه ليكون أوقع في نفس سامعه لكونه أضبط. وأما مؤخرة الرحل فبضم الميم بعده همزة ساكنة ثم خاء مكسورة هذا هو الصحيح، وفيه لغة أخرى مؤخرة بفتح الهمزة والخاء المشددة، قال القاضي عياض رحمه الله: أنكر ابن قتيبة فتح الخاء، وقال ثابت: مؤخرة الرحل ومقدمته بفتحهما، ويقال: آخرة الرحل بهمزة ممدودة وهذه أفصح وأشهر، وقد جمع الجوهري في صحاحه فيها ست لغات، فقال في قادمتي الرحل ست لغات: مقدم ومقدمة بكسر الدال مخففة، ومقدم ومقدمة بفتح الدال مشددة، وقادم وقادمة. قال: وكذلك هذه اللغات كلها في آخرة الرحل، وهي العود الذي يكون خلف الراكب. ويجوز في يا معاذ بن جبل وجهان لأهل العربية: أشهرهما وأرجحهما فتح معاذ، والثاني ضمه، ولا خلاف في نصب ابن. وقوله: لبيك وسعديك، في معنى لبيك أقوال نشير هنا إلى بعضها، وسيأتي إيضاحها في كتاب الحج إن شاء الله تعالى، والأظهر أن معناها إجابة لك بعد إجابة للتأكيد. وقيل معناه: قربا منك وطاعة لك. وقيل: أنا مقيم على طاعتك. وقيل: محبتي لك. وقيل غير ذلك. ومعنى سعديك أي ساعدت طاعتك مساعدة بعد مساعدة. وأما تكريره صلى الله عليه وسلم نداء معاذ رضي الله عنه فلتأكيد الاهتمام بما يخبره، وليكمل تنبه معاذ فيما يسمعه. وقد ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثا لهذا المعنى، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (هل تدري ما حق الله على العباد؟ وهل تدري ما حق العباد على الله تعالى؟) قال صاحب التحرير: اعلم أن الحق كل موجود متحقق أو ما سيوجد لا محالة، والله سبحانه وتعالى هو الحق الموجود الأزلي الباقي الأبدي، والموت والساعة والجنة والنار حق لأنها واقعة لا محالة، وإذا قيل للكلام: الصدق حق فمعناه: أن الشيء المخبر عنه بذلك الخبر واقع متحقق لا تردد فيه، وكذلك الحق المستحق على العبد غير أن يكون فيه تردد وتحير، فحق الله تعالى على العباد معناه ما يستحقه عليهم متحتما عليهم، وحق العباد على الله تعالى معناه أنه متحقق لا محالة، هذا كلام صاحب التحرير. وقال غيره: إنما قال حقهم على الله تعالى على جهة المقابلة لحقه عليهم، ويجوز أن يكون من نحو قول الرجل لصاحبه: حقك واجب علي، أي متأكد قيامي به. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام" والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا) فقد تقدم في أواخر الباب الأول من كتاب الإيمان بيانه ووجه الجمع بين هذين اللفظين، والله أعلم.
قوله: (كنت ردف رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له عفير) بعين مهملة مضمومة ثم فاء مفتوحة، هذا هو الصواب في الرواية، وفي الأصول المعتمدة، وفي كتب أهل المعرفة بذلك. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: وقول القاضي عياض رحمه الله أنه بغين معجمة متروك، قال الشيخ: وهو الحمار الذي كان له صلى الله عليه وسلم، قيل: إنه مات في حجة الوداع، قال: وهذا الحديث يقتضي أن يكون هذا في مرة أخرى غير المرة المتقدمة في الحديث السابق، فإن مؤخرة الرحل تختص بالإبل ولا تكون على حمار، قلت: ويحتمل أن يكونا قضية واحدة، وأراد بالحديث الأول قدر مؤخرة الرحل، والله أعلم.
قوله: (عن أبي حصين) هو بفتح الحاء وكسر الصاد واسمه عاصم، وقد تقدم بيانه في أول مقدمة الكتاب. قوله صلى الله عليه وسلم في حديث محمد بن مثنى وابن بشار: (أن يعبد الله ولا يشرك به شيء) هكذا ضبطناه يعبد بضم المثناة تحت وشيء بالرفع وهذا ظاهر. وقال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: ووقع في الأصول شيئا بالنصب وهو صحيح على التردد في قوله: يعبد الله ولا يشرك به شيئا، بين وجوه ثلاثة: أحدها يعبد الله بفتح الياء التي هي للمذكر الغائب، أي يعبد العبد الله ولا يشرك به شيئا، قال: وهذا الوجه أوجه الوجوه. والثاني: تعبد بفتح المثناة فوق للمخاطب على التخصيص لمعاذ لكونه المخاطب والتنبيه على غيره. والثالث: يعبد بضم أوله ويكون شيئا كناية عن المصدر لا عن المفعول به، أي لا يشرك به إشراكا، ويكون الجار والمجرور هو القائم مقام الفاعل. قال: وإذا لم تعين الرواية شيئا من هذه الوجوه فحق على من يروي هذا الحديث منا أن ينطق بها كلها واحدا بعد واحد، ليكون آتيا بما هو المقول منها في نفس الأمر جزما والله أعلم. هذا آخر كلام الشيخ. وما ذكرناه أولاً صحيح في الرواية والمعنى، والله أعلم. قوله في آخر روايات حديث أبي ذر رضي الله عنه: (نحو حديثهم) يعني أن القاسم بن زكريا شيخ مسلم في الرواية الرابعة رواه نحو رواية شيوخ مسلم الأربعة المذكورين في الروايات الثلاث المتقدمة وهم: هداب، وأبو بكر ابن أبي شيبة، ومحمد بن مثنى، وابن بشار، والله أعلم. وقوله في رواية القاسم هذه: (حدثنا القاسم، حدثنا حسين عن زائدة) هكذا هو في الأصول كلها حسين بالسين وهو الصواب. وقال القاضي عياض: وقع في بعض الأصول حصين بالصاد وهو غلط، وهو حسين بن علي الجعفي، وقد تكررت روايته عن زائدة في الكتاب، ولا يعرف حصين بالصاد عن زائدة، والله أعلم.
قوله: (حدثني أبو كثير، هو بالمثلثة واسمه يزيد بالزاي ابن عبد الرحمن بن أذينة، ويقال: ابن غفيلة بضم الغين المعجمة وبالفاء، ويقال: ابن عبد الله بن أذينة، قال أبو عوانة الاسفرايني في مسنده: غفيلة أصح من أذينة. قوله: (كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم معنا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما في نفر) قال أهل اللغة: يقال قعدنا حوله وحوليه وحواليه وحواله بفتح الحاء واللام في جميعهما أي على جوانبه، قالوا: ولا يقال حواليه بكسر اللام. وأما قوله: ومعنا أبو بكر وعمر فهو من فصيح الكلام وحسن الأخبار، فإنهم إذا أرادوا الإخبار عن جماعة فاستكثروا أن يذكروا جميعهم بأسمائهم ذكروا أشرافهم أو بعض أشرافهم ثم قالوا: وغيرهم. وأما قوله: معنا بفتح العين هذه اللغة المشهورة، ويجوز تسكينها في لغة حكاها صاحب المحكم والجوهري وغيرهما وهي للمصاحبة، قال صاحب المحكم مع اسم معناه الصحبة، وكذلك مع بإسكان العين، غير أن المحركة تكون اسما وحرفا، والساكنة لا تكون إلا حرفا. قال اللحياني قال الكسائي: ربيعة وغنم يسكنون فيقولون: معكم ومعنا، فإذا جاءت الألف واللام أو ألف الوصل اختلفوا، فبعضهم يفتح العين وبعضهم يكسرها فيقولون: مع القوم ومع ابنك. وبعضهم يقول: مع القوم ومع ابنك. أما من فتح فبناه على قولك كنا معا ونحن معا، فلما جعلها حرفا وأخرجها عن الاسم حذف الألف وترك العين على فتحتها، وهذه لغة عامة العرب. وأما من سكن ثم كسر عند ألف الوصل فأخرجه مخرج الأدوات مثل هل وبل، فقال مع القوم كقولك هل القوم وبل القوم، وهذه الأحرف التي ذكرتها في مع وإن لم يكن هذا موضعها فلا ضرر في التنبيه عليها لكثرة تردادها، والله أعلم. قوله: (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا) وقال بعده: كنت بين أظهرنا، هكذا هو في الموضعين أظهرنا. وقال القاضي عياض رحمه الله: ووقع الثاني في بعض الأصول ظهرينا، وكلاهما صحيح، قال أهل اللغة: يقال نحن بين أظهركم وظهريكم وظهرانيكم بفتح النون أي بينكم. قوله: (وخشينا أن يقتطع دوننا) أي يصاب بمكروه من عدو، إما بأسر، وإما بغيره. قوله: (وفزعنا وقمنا فكنت أول من فزع) قال القاضي عياض رحمه الله: الفزع يكون بمعنى الروع، وبمعنى الهبوب للشيء والاهتمام به، وبمعنى الأغاثة، قال: فتصح هذه المعاني الثلاثة، أي ذعرنا لاحتباس النبيّ صلى الله عليه وسلم عنا، ألا تراه كيف قال: وخشينا أن يقتطع دوننا. ويدل على الوجهين الاَخرين قوله: فكنت أول من فزع. قوله: (حتى أتيت حائطا للأنصار) أي بستانا، وسمي بذلك لأنه حائط لا سقف له. قوله: (فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة والربيع الجدول) أما الربيع فبفتح الراء على لفظ الربيع الفصل المعروف، والجدول بفتح الجيم وهو النهر الصغير، وجمع الربيع أربعاء كنبي وأنبياء. وقوله: بئر خارجة هكذا ضبطناه بالتنوين في بئر وفي خارجة، على أن خارجة صفة لبئر، كذا نقله الشيخ أبو عمرو بن الصلاح عن الأصل الذي هو بخط الحافظ أبي عامر العبدري والأصل المأخوذ عن الجلودي. وذكر الحافظ أبو موسى الأصبهاني وغيره أنه روي على ثلاثة أوجه: أحدها هذا. والثاني: من بئر خارجه بتنوين بئر وبهاء في آخر خارجه مضمومة وهي هاء ضمير الحائط أي البئر في موضع خارج عن الحائط. والثالث: من بئر خارجة بإضافة بئر إلى خارجة آخره تاء التأنيث وهو اسم رجل، والوجه الأول هو المشهور الظاهر، وخالف هذا صاحب التحرير فقال: الصحيح هو الوجه الثالث. قال: والأول تصحيف. قال: والبئر يعنون بها البستان. قال: وكثيرا ما يفعلون هذا فيسمون البساتين بالاَبار التي فيه، يقولون: بئر أريس، وبئر بضاعة، وبئر حاء، وكلها بساتين. هذا كلام صاحب التحرير، وأكثره أو كله لا يوافق عليه، والله أعلم. والبئر مؤنثة مهمزوة يجوز تخفيف همزتها وهي مشتقة من بأرت أي حفرت، وجمعها في القلة أبؤر وأبآر بهمزة بعد الباء فيهما، ومن العرب من يقلب الهمزة في آبآر وينقل فيقول: آبار، وجمعها في الكثرة بئار بكسر الباء بعدها همزة، والله أعلم. قوله: (فاحتفزت كما يحتفز الثعلب) هذا قد روي على وجهين: روي بالزاي وروي بالراء. قال القاضي عياض: رواه عامة شيوخنا بالراء عن العبدري وغيره. قال: وسمعنا عن الأسدي عن أبي الليث الشاشي عن عبد الغافر الفارسي عن الجلودي بالزاي وهو الصواب، ومعناه: تضاممت ليسعني المدخل، وكذا قال الشيخ أبو عمرو أنه بالزاي في الأصل الذي بخط أبي عامر العبدري، وفي الأصل المأخوذ عن الجلودي، وأنها رواية الأكثرين، وأن رواية الزاي أقرب من حيث المعنى، ويدل عليه تشبيهه بفعل الثعلب وهو تضامه في المضايق، وأما صاحب التحرير فأنكر الزاي وخطأ رواتها واختار الراء وليس اختياره بمختار، والله تعالى أعلم. قوله: (فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو هريرة: فقلت نعم) معناه أنت أبو هريرة.
قوله: (فقال: يا أبا هريرة، وأعطاني نعليه وقال: اذهب بنعلي هاتين) في هذا الكلام فائدة لطيفة فإنه أعاد لفظة قال، وإنما أعادها لطول الكلام وحصول الفصل بقوله: يا أبا هريرة وأعطاني نعليه وهذا حسن وهو موجود في كلام العرب، بل جاء أيضا في كلام الله تعالى. قال الله تبارك وتعالى: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على لذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} قال الإمام أبو الحسن الواحدي. قال محمد بن يزيد: قوله تعالى: {فلما جاءهم} تكرير للأول لطول الكلام. قال: ومثله قوله تعالى: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} أعاد أنكم لطول الكلام، والله أعلم. وأما إعطاؤه النعلين فلتكون علامة ظاهرة معلومة عندهم يعرفون بها أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ويكون أوقع في نفوسهم لما يخبرهم به عنه صلى الله عليه وسلم، ولا ينكر كون مثل هذا يفيد تأكيدا وإن كان خبره مقبولاً من غير هذا، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة) معناه أخبرهم أن من كانت هذه صفته فهو من أهل الجنة، وإلا فأبو هريرة لا يعلم استيقان قلوبهم، وفي هذا دلالة ظاهرة لمذهب أهل الحق أنه لا ينفع اعتقاد التوحيد دون النطق، ولا النطق دون الاعتقاد، بل لا بد من الجمع بينهما، وقد تقدم إيضاحه في أول الباب، وذكر القلب هنا للتأكيد ونفي توهم المجاز، وإلا فالاستيقان لا يكون إلا بالقلب. قوله: (فقال ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هاتين نعلا رسول الله صلى اللهعليه وسلم بعثني بهما) هكذا هو في جميع الأصول فقلت هاتين نعلا بنصب هاتين ورفع نعلا وهو صحيح، معناه فقلت يعني هاتين هما نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصب هاتين بإضمار يعني وحذف هما التي هي المبتدأ للعلم به، وأما قوله: بعثني بهما فهكذا ضبطناه بهما على التثنية وهو ظاهر، ووقع في كثير من الأصول أو أكثرها بها من غير ميم وهو صحيح أيضا، ويكون الضمير عائدا إلى العلامة، فإن النعلين كانتا علامة، والله أعلم. قوله: (فضرب عمر رضي الله عنه بين ثديي فخررت لإستي فقال: ارجع يا أبا هريرة) أما قوله ثديي فتثنية ثدي بفتح الثاء وهو مذكر، وقد يؤنث في لغة قليلة، واختلفوا في اختصاصه بالمرأة فمنهم من قال: يكون للرجل والمرأة، ومنهم من قال: هو للمرأة خاصة، فيكون إطلاقه في الرجل مجازا واستعارة، وقد كثر إطلاقه في الأحاديث للرجل، وسأزيده إيضاحا إن شاء الله تعالى في باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. وأما قوله لإستي فهو اسم من أسماء الدبر، والمستحب في مثل هذا الكناية عن قبيح الأسماء واستعمال المجاز والألفاظ التي تحصل الغرض، ولا يكون في صورتها ما يستحيا من التصريح بحقيقة لفظه، وبهذا الأدب جاء القرآن العزيز والسنن كقوله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض} {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن أو جاء أحد منكم من الغائط فاعتزلوا النساء في المحيض} وقد يستعملون صريح الاسم لمصلحة راجحة، وهي إزالة اللبس أو الاشتراك أو نفي المجاز أو نحو ذلك كقوله تعالى: {الزانية والزاني} وكقوله صلى الله عليه وسلم: "أنكحتها" وكقوله صلى الله عليه وسلم: "أدبر الشيطان وله ضراط" وكقول أبي هريرة رضي الله عنه: "الحدث فساء أو ضراط" ونظائر ذلك كثيرة. واستعمال أبي هريرة هنا لفظ الإست من هذا القبيل، والله أعلم. وأما دفع عمر رضي الله عنه له فلم يقصد به سقوطه وإيذاءه، بل قصد رده عما هو عليه، وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره، قال القاضي عياض وغيره من العلماء رحمهم الله: وليس فعل عمر رضي الله عنه ومراجعته النبيّ صلى الله عليه وسلم اعتراضا عليه وردا لأمره، إذ ليس فيما بعث به أبا هريرة غير تطييب قلوب الأمة وبشراهم، فرأى عمر رضي الله عنه أن كتم هذا أصلح لهم وأحرى أن لا يتكلوا، وأنه أعود عليهم بالخير من معجل هذه البشرى، فلما عرضه على النبيّ صلى الله عليه وسلم صوبه فيه، والله تعالى أعلم. وفي هذا الحديث أن الإمام والكبير مطلقا إذا رأى شيئا ورأى بعض أتباعه خلافه أنه ينبغي للتابع أن يعرضه على المتبوع لينظر فيه، فإن ظهر له أن ما قاله التابع هو الصواب رجع إليه، وإلا بين للتابع جواب الشبهة التي عرضت له، والله أعلم. قوله: (فأجهشت بكاء وركبني عمر رضي الله عنه وإذا هو على أثري) أما قوله: أجهشت فهو بالجيم والشين المعجمة والهمزة والهاء مفتوحتان، هكذا وقع في الأصول التي رأيناها، ورأيت في كتاب القاضي عياض رحمه الله فجهشت بحذف الألف وهما صحيحان، قال أهل اللغة: يقال جهشت جهشا وجهوشا، وأجهشت إجهاشا، قال القاضي عياض رحمه الله: وهو أن يفزع الإنسان إلى غيره وهو متغير الوجه متهيء للبكاء ولما يبك بعد، قال الطبري: هو الفزع والاستغاثة، وقال أبو زيد: جهشت للبكاء والحزن والشوق، والله أعلم.
وأما قوله بكاء فهو منصوب على المفعول له، وقد جاء في رواية للبكاء والبكا يمد ويقصر لغتان. وأما قوله: وركبني عمر فمعناه تبعني ومشى خلفي في الحال بلا مهلة. وأما قوله: على أثري ففيه لغتان فصيحتان مشهورتان: بكسر الهمزة وإسكان الثاء وبفتحهما، والله أعلم. قوله: (بأبي أنت وأمي) معناه أنت مفدى أو أفديك بأبي وأمي. واعلم أن حديث أبي هريرة هذا مشتمل على فوائد كثيرة تقدم في أثناء الكلام منه جمل، ففيه جلوس العالم لأصحابه ولغيرهم من المستفتين وغيرهم يعلمهم ويفيدهم ويفتيهم، وفيه ما قدمناه أنه إذا أراد ذكر جماعة كثيرة فاقتصر على ذكر بعضهم ذكر أشرافهم أو بعض أشرافهم ثم قال وغيرهم، وفيه بيان ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من القيام بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإكرامه والشف قة عليه والانزعاج البالغ لما يطرقه صلى الله عليه وسلم، وفيه اهتمام الأتباع بحقوق متبوعهم، والاعتناء بتحصيل مصالحه ودفع المفاسد عنه، وفيه جواز دخول الإنسان ملك غيره بغير إذنه إذا علم أنه يرضى ذلك لمودة بينهما أو غير ذلك، فإن أبا هرية رضي الله عنه دخل الحائط وأقره النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، ولم ينقل أنه أنكر عليه، وهذا غير مختص بدخول الأرض، بل يجوز له الانتفاع بأدواته وأكل طعامه والحمل من طعامه إلى بيته وركوب دابته، ونحو ذلك من التصرف الذي يعلم أنه لا يشق على صاحبه، هذا هو المذهب الصحيح الذي عليه جماهير السلف والخلف من العلماء رحمة الله عليهم، وصرح به أصحابنا. قال أبو عمر بن عبد البر: وأجمعوا على أنه لا يتجاوز الطعام وأشباهه إلى الدراهم والدنانير وأشباههما، وفي ثبوت الإجماع في حق من يقطع بطيب قلب صاحبه بذلك نظر، ولعل هذا يكون في الدراهم الكثيرة التي يشك أو قد يشك في رضاه بها، فإنهم اتفقوا على أنه إذا تشكك لا يجوز التصرف مطلقا فيما تشكك في رضاه به، ثم دليل الجواز في الباب الكتاب والسنة وفعل وقول أعيان الأمة، فالكتاب قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت آبائكم، إلى قوله تعالى: أو صديقكم} والسنة هذا الحديث وأحاديث كثيرة معروفة بنحوه، وأفعال السلف وأقوالهم في هذا أكثر من أن تحصى، والله تعالى أعلم. وفيه إرسال الإمام والمتبوع إلى أتباعه بعلامة يعرفونها ليزدادوا بها طمأنينة، وفيه ما قدمناه من الدلالة لمذهب أهل الحق أن الإيمان المنجي من الخلود في النار لا بد فيه من الاعتقاد والنطق، وفيه جواز إمساك بعض العلوم التي لا حاجة إليها للمصلحة أو خوف المفسدة، وفيه إشارة بعض الأتباع على المتبوع بما يراه مصلحة، وموافقة المتبوع له إذا رآه مصلحة، ورجوعه عما أمر به بسببه، وفيه جواز قول الرجل للاَخر: بأبي أنت وأمي، قال القاضي عياض رحمه الله: وقد كرهه بعض السلف وقال: لا يفدى بمسلم، والأحاديث الصحيحة تدل على جوازه، سواء كان المفدي به مسلما أو كافرا، حيا كان أو ميتا وفيه غير ذلك، والله أعلم.
قول مسلم رحمه الله: (حدثني إسحاق بن منصور، أخبرني معاذ بن هشام، حدثني أبي عن قتادة، حدثنا أنس بن مالك رضي الله عنه) هذا الإسناد كله بصريون إلا إسحاق فإنه نيسابوري، فيكون الإسناد بيني وبين معاذ بن هشام نيسابوريين وباقيه بصريون.
قوله: (فأخبر بها معاذ عند موته تأثما) هو بفتح الهمزة وضم المثلثة المشددة، قال أهل اللغة، تأثم الرجل إذا فعل فعلاً يخرج به من الإثم، وتحرج أزال عنه الحرج، وتحنث أزال عنه الحنث، ومعنى تأثم معاذ أنه كان يحفظ علما يخاف فواته وذهابه بموته، فخشي أن يكون ممن كتم علما، وممن لم يمتثل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ سنته فيكون آثما، فاحتاط وأخبر بهذه السنة مخافة من الإثم، وعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينهه عن الإخبار بها نهي تحريم. قال القاضي عياض رحمه الله: لعل معاذا لم يفهم من النبيّ صلى الله عليه وسلم النهي، لكن كسر عزمه عما عرض له من بشراهم بدليل حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا قلبه فبشره بالجنة" قال: أو يكون معناه بلغه بعد ذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وخاف أن يكتم علما علمه فيأثم أو يكون حمل النهي على إذاعته، وهذا الوجه ظاهر، وقد اختاره الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله فقال: منعه من التبشير العام خوفا من أن يسمع ذلك من لا خبرة له ولا علم فيغتر ويتكل، وأخبر به صلى الله عليه وسلم على الخصوص من أمن عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة، فإنه أخبر به معاذا فسلك معاذ هذا المسلك، فأخبر به من الخاصة من رآه أهلاً لذلك، قال: وأما أمره صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة بالتبشير فهو من تغير الاجتهاد، وقد كان الاجتهاد جائزا له وواقعا منه صلى الله عليه وسلم عند المحققين، وله مزية على سائر المجتهدين بأنه لا يقر على الخطأ في اجتهاده، ومن نفى ذلك وقال: لا يجوز له صلى الله عليه وسلم القول في الأمور الدينية إلا عن وحي فليس يمتنع أن يكون قد نزل عليه صلى الله عليه وسلم عند مخاطبته عمر رضي الله عنه وحي بما أجابه به ناسخ لوحي سبق بما قاله أولاً صلى الله عليه وسلم، هذا كلام الشيخ، وهذه المسألة وهي اجتهاده صلى الله عليه وسلم فيها تفصيل معروف. فأما أمور الدنيا فاتفق العلماء رضي الله عنهم على جواز اجتهاده صلى الله عليه وسلم فيها ووقوعه منه. وأما أحكام الدين فقال أكثر العلماء بجواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم لأنه إذا جاز لغيره فله صلى الله عليه وسلم أولى، وقال جماعة: لا يجوز له لقدرته على اليقين، وقال بعضهم: كان يجوز في الحروب دون غيرها، وتوقف في كل ذلك آخرون، ثم الجمهور الذين جوزوه اختلفوا في وقوعه، فقال الأكثرون منهم: وجد ذلك، وقال آخرون: لم يوجد، وتوقف آخرون، ثم الأكثرون الذين قالوا بالجواز والوقوع اختلفوا هل كان الخطأ جائزا عليه صلى الله عليه وسلم؟ فذهب المحققون إلى أنه لم يكن جائزا عليه صلى الله عليه وسلم، وذهب كثيرون إلى جوازه ولكن لا يقر عليه بخلاف غيره، وليس هذا موضع استقصاء هذا، والله أعلم.
قوله: (حدثنا شيبان بن فروخ) هو بفتح الفاء وضم الراء وبالخاء المعجمة، وهو غير مصروف للعجمة والعلمية، قال صاحب كتاب العين: فروخ اسم ابن لإبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم هو أبو العجم، وكذا نقل صاحب المطالع وغيره أن فروخ ابن لإبراهيم صلى الله عليه وسلم وأنه أبو العجم، وقد نص جماعة من الأئمة على أنه لا ينصرف لما ذكرناه، والله أعلم. قوله: (حدثني ثابت عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: حدثني محمود بن الربيع عن عتبان بن مالك قال: قدمت المدينة فلقيت عتبان فقلت حديث بلغني عنك) هذا اللفظ شبيه بما تقدم في هذا الباب من قوله: عن ابن محيريز عن الصنابحي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه. وقد قدمنا بيانه واضحا. وتقرير هذا الذي نحن فيه: حدثني محمود بن الربيع عن عتبان بحديث قال فيه محمود: قدمت المدينة فلقيت عتبان، وفي هذا الإسناد لطيفتان من لطائفه: إحداهما أنه اجتمع فيه ثلاثة صحابيون بعضهم عن بعض وهم: أنس ومحمود وعتبان. والثانية أنه من رواية الأكابر عن الأصاغر، فإن أنسا أكبر من محمود سنا وعلما ومرتبة رضي الله عنهم أجمعين. وقد قال في الرواية الثانية: عن ثابت عن أنس قال: حدثني عتبان بن مالك، وهذا لا يخالف الأول، فإن أنسا سمعه أولاً من محمود عن عتبان، ثم اجتمع أنس بعتبان فسمعه منه، والله أعلم. وعتبان بكسر العين المهملة وبعدها تاء مثناة من فوق ساكنة ثم باء موحدة، وهذا الذي ذكرناه من كسر العين هو الصحيح المشهور الذي لم يذكر الجمهور سواه. وقال صاحب المطالع: وقد ضبطناه من طريق ابن سهل بالضم أيضا، والله أعلم. قوله: (أصابني في بصري بعض الشيء) وقال في الرواية الأخرى: عمي، يحتمل أنه أراد ببعض الشيء العمى وهو ذهاب البصر جميعه، ويحتمل أنه أراد به ضعف البصر وذهاب معظمه، وسماه عمى في الرواية الأخرى لقربه منه ومشاركته إياه في فوات بعض ما كان حاصلاً في حال السلامة، والله أعلم. قوله: (ثم أسندوا عظم ذلك وكبره إلى مالك بن دخشم) أما عظم فهو بضم العين وإسكان الظاء أي معظمه. وأما كبره فبضم الكاف وكسرها لغتان فصيحتان مشهورتان، وذكرهما في هذا الحديث القاضي عياض وغيره لكنهم رجحوا الضم، وقرئ قول الله سبحانه وتعالى: {والذي تولى كبره} بكسر الكاف وضمها، الكسر قراءة القراء السبعة، والضم في الشواذ، قال الإمام أبو إسحاق الثعلبي المفسر رحمه الله: قراءة العامة بالكسر، وقراءة حميد الأعرج ويعقوب الحضرمي بالضم، قال أبو عمرو بن العلاء: هو خطأ، وقال الكسائي: هما لغتان، والله أعلم. ومعنى قوله: أسندوا عظم ذلك وكبره أنهم تحدثوا وذكروا شأن المنافقين وأفعالهم القبيحة وما يلقون منهم، ونسبوا معظم ذلك إلى مالك. وأما قوله: ابن دخشم فهو بضم الدال المهملة وإسكان الخاء المعجمة وضم الشين المعجمة وبعدها ميم، هكذا ضبطناه في الرواية الأولى، وضبطناه في الثانية بزيادة ياء بعد الخاء على التصغير، وهكذا هو في معظم الأصول. وفي بعضها في الثانية مكبر أيضا، ثم إنه في الأولى بغير ألف ولام، وفي الثانية بالألف واللام، قال القاضي عياض رحمه الله: رويناه دخشم مكبرا، ودخيشم مصغرا، قال: ورويناه في غير مسلم بالنون بدل الميم مكبرا ومصغرا. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: ويقال أيضا ابن الدخشن بكسر الدال والشين، والله أعلم. واعلم أن مالك بن دخشم هذا من الأنصار، ذكر أبو عمر بن عبد البر اختلافا بين العلماء في شهوده العقبة، قال: ولم يختلفوا أنه شهد بدرا وما بعدها من المشاهد، قال: ولا يصح عنه النفاق، فقد ظهر من حسن إسلامه ما يمنع من اتهامه، هذا كلام أبي عمر رحمه الله: قلت: وقد نص النبيّ صلى الله عليه وسلم على إيمانه باطنا وبراءته من النفاق بقوله صلى الله عليه وسلم في رواية البخاري رحمه الله: "ألا تراه قال: لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله تعالى" فهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم له بأنه قالها مصدقا بها معتقدا صدقها، متقربا بها إلى الله تعالى، وشهد له في شهادته لأهل بدر بما هو معروف، فلا ينبغي أن يشك في صدق إيمانه رضي الله عنه. وفي هذه الزيادة رد على غلاة المرجئة القائلين بأنه يكفي في الإيمان النطق من غير اعتقاد، فإنهم تعلقوا بمثل هذا الحديث، وهذه الزيادة تدمغهم، والله أعلم. قوله: (ودوا أنه دعا عليه فهلك، وودوا أنه أصابه شر) هكذا هو في بعض الأصول شر، وفي بعضها بشر بزيادة الباء الجارة، وفي بعضها شيء وكله صحيح، وفي هذا دليل على جواز تمني هلاك أهل النفاق والشقاق ووقوع المكروه بهم. قوله: (فخط لي مسجدا) أي أعلم لي على موضع لأتخذه مسجدا أي موضعا أجعل صلاتي فيه متبركا بآثارك، والله أعلم.
وفي هذا الحديث أنواع من العلم تقدم كثير منها، ففيه التبرك بآثار الصالحين، وفيه زيارة العلماء والفضلاء والكبراء أتباعهم وتبريكم إياهم، وفيه جواز استدعاء المفضول للفاضل لمصلحة تعرض، وفيه جواز الجماعة في صلاة النافلة، وفيه أن السنة في نوافل النهار ركعتان كالليل، وفيه جواز الكلام والتحدث بحضرة المصلين ما لم يشغلهم ويدخل عليهم لبسا في صلاتهم أو نحوه، وفيه جواز إمامة الزائر المزور برضاه، وفيه ذكر من يتهم بريبة أو نحوها للأئمة وغيرهم ليتحرز منه، وفيه جواز كتابة الحديث وغيره من العلوم الشرعية لقول أنس لابنه: اكتبه، بل هي مستحبة. وجاء في الحديث النهي عن كتب الحديث، وجاء الإذن فيه، فقيل: كان النهي لمن خيف اتكاله على الكتاب وتفريطه في الحفظ مع تمكنه منه، والإذن لمن لا يتمكن من الحفظ. وقيل: كان النهي أولاً لما خيف اختلاطه بالقرآن، والإذن بعده لما تأمن من ذلك، وكان بين السلف من الصحابة والتابعين خلاف في جواز كتابة الحديث، ثم أجمعت الأمة على جوازها واستحبابها، والله أعلم. وفيه البدائة بالأهم فالأهم، فإنه صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان هذا بدأ أول قدومه بالصلاة ثم أكل. وفي حديث زيارته لأم سليم بدأ بالأكل ثم صلى، لأنه المهم في حديث عتبان هو الصلاة فإنه دعاه لها. وفي حديث أم سليم دعته للطعام، ففي كل واحد من الحديثين بدأ بما دعي إليه، والله أعلم. وفيه جواز استتباع الإمام والعالم أصحابه لزيارة أو ضيافة أو نحوها، وفيه غير ذلك مما قدمناه وما حذفناه والله أعلم بالصواب، وله الحمد والنعمة والفضل والمنة، وبه التوفيق والعصمة.
*1* كتاب
*2* باب الدليل على أن من رضي بالله ربا وبالإِسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، فهو مؤمن، وإن ارتكب المعاصي الكبائر
*حدّثنا مُحمّدُ بْنُ يَحْيَىَ ابْنِ أَبِي عُمَرَ الْمَكّيّ، وَ بِشْرُ بْنُ الْحَكَم. قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ (وَهُوَ ابْنُ مُحمّدٍ) الدّرَاوَرْدِيّ، عَنْ يَزيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ، مَنْ رَضِيَ بِالله رَبّا، وَبِالإِسْلامَ دِينا، وَبِمُحَمّدٍ رَسُولاً".
قوله صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً) قال صاحب التحرير رحمه الله: معنى رضيت بالشيء قنعت به واكتفيت به ولم أطلب معه غيره، فمعنى الحديث: لم يطلب غير الله تعالى، ولم يسع في غير طريق الإسلام، ولم يسلك إلا ما يوافق شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك في أن من كانت هذه صفته فقد خلصت حلاوة الإيمان إلى قلبه وذاق طعمه. وقال القاضي عياض رحمه الله: معنى الحديث صح إيمانه، واطمأنت به نفسه، وخامر باطنه، لأن رضاه بالمذكورات دليل لثبوت معرفته، ونفاذ بصيرته، ومخالطة بشاشته قلبه، لأن من رضي أمرا سهل عليه، فكذا المؤمن إذا دخل قلبه الإيمان سهل عليه طاعات الله تعالى ولذت له، والله أعلم. وفي الإسناد الدراوردي وقد تقدم بيانه في المقدمة، وفيه يزيد بن عبد الله بن الهاد، هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، هكذا يقوله المحدثون الهاد من غير ياء، والمختار عند أهل العربية فيه وفي نظائره بالياء كالعاصي وابن أبي الموالي، والله أعلم. وهذا الحديث من أفراد مسلم رحمه الله، لم يروه البخاري رحمه الله في صحيحه.
*2* باب بيان عدد شعب الإِيمان وأفضلها وأدناها، وفضيلة الحياء، وكونه من الإِيمان
*حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ وَ عبد بنُ حُمَيْدٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيّ. حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "الاْيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً. وَالْحَيَاءُ شْعْبَةٌ مِنَ الاْيمَانِ".
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ، وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ سَمِعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يَعِظُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، فَقَالَ: "الْحَيَاءُ مِنَ الإِيمَانِ".
حدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ الزّهْرِيّ، بِهَذَا الاْسْنَادِ وَقَالَ: مَرّ بِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ يَعِظُ أَخَاهُ.
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ الْمُثَنّى، وَ مُحمّدُ بْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنّى) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا السّوّارِ يُحَدّثُ، أَنّهُ سَمِعَ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ يُحَدّثُ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "الْحَيَاءُ لاَ يَأْتِي إِلاّ بِخَيْرٍ" فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: أَنّ مِنْهُ وَقَارَا وَمِنْهُ سَكِينَةً. فَقَالَ عِمْرَانُ: أُحَدّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُحَدّثُنِي عَنْ صُحُفِكَ؟.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ إِسْحَقَ (وَهُوَ ابْنُ سُوَيْدٍ) أَنّ أَبَا قَتَادَةَ حَدّثَ، قَالَ: كُنّا عِنْدَ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ فِي رَهْطٍ مِنّا. وَفِينَا بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ. فَحَدّثَنَا عِمْرَانُ يَوْمَئٍذٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلّهُ" قَالَ أَوْ قَالَ: "الْحَيَاءُ كُلّهُ خَيْرٌ" فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: إِنّا لَنَجِدُ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ أَوِ الْحِكْمَةِ أَنّ مِنْهُ سَكِينَةً وَوَقَارا لله، وَمِنْهُ ضَعْفٌ، قَالَ: فَغَضِبَ عِمْرَانُ حَتّى احْمَرّتَا عَيْنَاهُ. وَقَالَ: أَلاَ أُرَانِي أُحَدّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَتُعَارِضُ فِيهِ؟ قَالَ فَأَعَادَ عِمْرَانُ الْحَدِيثَ. قَالَ فَأَعَادَ بُشَيْرٌ. فَغَضِبَ عِمْرَانُ. قَالَ: فَمَا زِلْنَا نَقُولُ فِيهِ: إِنّهُ مِنّا يَا أَبَا نُجَيْدٍ إِنّهُ لاَ بَأْسَ بِهِ.
حدّثنا إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أخبرنا النضر. حدّثنا أبو نعامة العدوي. قال: سمعت حجير بن الربيع العدوي يقول، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم. نحو حديث حمّادُ بْنُ زَيْدٍ.
قوله: (أبو عامر العقدي) هو بفتح العين والقاف، واسمه عبد الملك بن عمرو بن قيس، وقد تقدم بيانه واضحا في أول المقدمة في باب النهي عن الرواية عن الضعفاء. قوله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وسبعون شعبة) هكذا رواه عن أبي عامر العقدي عن سليمان بن بلال عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي رواية زهير عن جرير عن سهيل عن عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة بضع وسبعون أو بضع وستون، كذا وقع في مسلم من رواية سهيل بضع وسبعون أو بضع وستون على الشك. ورواه البخاري في أول الكتاب من رواية العقدي بضع وستون بلا شك. ورواه أبو داود والترمذي وغيرهما من رواية سهيل بضع وسبعون بلا شك. ورواه الترمذي من طريق آخر وقال فيه أربعة وستون بابا. واختلف العلماء في الراجحة من الروايتين، فقال القاضي عياض: الصواب ما وقع في سائر الأحاديث ولسائر الرواة بضع وستون. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله تعالى: هذا الشك الواقع في رواية سهيل هو من سهيل، كذا قاله الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله. وقد روي عن سهيل بضع وسبعون من غير شك. وأما سليمان بن بلال فإنه رواه عن عمرو بن دينار على القطع من غير شك وهي الرواية الصحيحة أخرجاها في الصحيحين، غير أنها فيما عندنا من كتاب مسلم بضع وسبعون، وفيما عندنا من كتاب البخاري بضع وستون، وقد نقلت كل واحدة عن كل واحد من الكتابين، ولا إشكال في أن كل واحدة منهما رواية معروفة في طرق روايات هذا الحديث، واختلفوا في الترجيح قال: والأشبه بالإتقان والاحتياط ترجيح رواية الأقل، قال: ومنهم من رجح رواية الأكثر وإياها اختار أبو عبد الله الحليمي فإن الحكم لمن حفظ الزيادة جازما بها. قال الشيخ: ثم إن الكلام في تعيين هذه الشعب يطول، وقد صنفت في ذلك مصنفات، ومن أغزرها فوائد كتاب المنهاج لأبي عبد الله الحليمي إمام الشافعيين ببخارى وكان من رفعاء أئمة المسلمين، وحذا حذوه الحافظ أبو بكر البيهقي رحمه الله في كتابه الجليل الحفيل كتاب شعب الإيمان، هذا كلام الشيخ. قال القاضي عياض رحمه الله: البضع والبضعة بكسر الباء فيهما وفتحها هذا في العدد، فأما بضعة اللحم فبالفتح لا غير، والبضع في العدد ما بين الثلاث والعشر، وقيل: من ثلاث إلى تسع. وقال الخليل: البضع سبع، وقيل: ما بين اثنين إلى عشرة، وما بين اثني عشر إلى عشرين، ولا يقال في اثني عشر. قلت: وهذا القول هو الأشهر الأظهر. وأما الشعبة فهي القطعة من الشيء، فمعنى الحديث بضع وسبعون خصلة. قال القاضي عياض رحمه الله: وقد تقدم أن تقدم أن أصل الإيمان في اللغة التصديق. وفي الشرع تصديق القلب واللسان. وظواهر الشرع تطلقه على الأعمال كما وقع هنا، أفضلها لا إلَه إلا الله، وآخرها إماطة الأذى عن الطريق، وقد قدمنا أن كمال الإيمان بالأعمال، وتمامه بالطاعات، وأن التزام الطاعات وضم هذه الشعب من جملة التصديق ودلائل عليه، وأنها خلق أهل التصديق، فليست خارجة عن اسم الإيمان الشرعي ولا اللغوي، وقد نبه صلى الله عليه وسلم على أن أفضلها التوحيد المتعين على كل أحد، والذي لا يصح شيء من الشعب إلا بعد صحته، وأدناها ما يتوقع ضرره بالمسلمين من إماطة الأذى عن طريقهم، وبقي بين هذين الطرفين إعداد لو تكلف المجتهد تحصيلها بغلبة الظن وشدة التتبع لأمكنه، وقد فعل ذلك بعض من تقدم، وفي الحكم بأن ذلك مراد النبي صلى الله عليه وسلم صعوبة، ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها، ولا يقدح جهل ذلك في الإيمان، إذ أصول الإيمان وفروعه معلومة محققة، والإيمان بأنها هذا العدد واجب في الجملة، هذا كلام القاضي رحمه الله. وقال الإمام الحافظ أبو حاتم بن حبان بكسر الحاء: تتبعت معنى هذا الحديث مدة وعددت الطاعات فإذا هي تزيد على هذا العدد شيئا كثيرا، فرجعت إلى السنن فعددت كل طاعة عدها رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فرجعت إلى كتاب الله تعالى فقرأته بالتدبر وعددت كل طاعة عدها الله تعالى من الإيمان فإذا هي تنقص عن البضع والسبعين، فضممت الكتاب إلى السنن وأسقطت المعاد فإذا كل شيء عده الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم من الإيمان تسع وسبعون شعبة لا يزيد عليها ولا تنقص، فعلمت أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم أن هذا العدد في الكتاب والسنن. وذكر أبو حاتم رحمه الله جميع ذلك في كتاب وصف الإيمان وشعبه، وذكر أن رواية من روى بضع وستون شعبة أيضا صحيحة، فإن العرب قد تذكر للشيء عددا ولا تريد نفي ما سواه، وله نظائره أوردها في كتابه منها في أحاديث الإيمان والإسلام، والله تعالى أعلم.
قوله: (والحياء شعبة من الإيمان) وفي الرواية الأخرى: الحياء من الإيمان. وفي الأخرى: الحياء لا يأتي إلا بخير. وفي الأخرى: الحياء خير كله، أو قال: كله خير الحياء ممدود وهو الاستحياء. قال الإمام الواحدي رحمه الله تعالى: قال أهل اللغة: الاستحياء من الحياة، واستحيا الرجل من قوة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع الغيب. قال: فالحياء من قوة الحس ولطفه وقوة الحياة. وروينا في رسالة الإمام الأستاذ أبي القاسم القشيري عن السيد الجليل أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه قال: الحياء رؤية الاَلاء أي النعم ورؤية التقصير، فيتولد بينهما حالة تسمى الحياء. وقال القاضي عياض وغيره من الشراح: إنما جعل الحياء من الإيمان وإن كان غريزة، لأنه قد يكون تخلقا واكتسابا كسائر أعمال البر، وقد يكون غريزة، ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية وعلم فهو من الإيمان بهذا، ولكونه باعثا على أفعال البر ومانعا من المعاصي، وأما كون الحياء خيرا كله ولا يأتي إلا بخير، فقد يشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحي أن يواجه بالحق من يجله فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة. وجواب هذا ما أجاب به جماعة من الأئمة منهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله أن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقة بل هو عجز وخور ومهانة، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازا لمشابهته الحياء الحقيقي، وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ونحو هذا، ويدل عليه ما ذكرناه عن الجنيد رضي الله عنه والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) أي تنحيته وإبعاده، والمراد بالأذى كل ما يؤذي من حجر أو مدر أو شوك أو غيره.
قوله: (يعظ أخاه في الحياء) أي ينهاه عنه ويقبح له فعله ويزجره عن كثرته، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: دعه فإن الحياء من الإيمان، أي دعه على فعل الحياء وكف عن نهيه، ووقعت لفظة دعه في البخاري ولم تقع في مسلم.
قول مسلم رحمه الله: (حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أبا السوار يحدث أنه سمع عمران بن الحصين) وقال مسلم في الطريق الثاني: حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، حدثنا حماد بن زيد عن إسحاق وهو ابن سويد أن أبا قتادة حدث قال: كنا عند عمران بن الحصين في رهط فحدثنا إلى آخره. هذان الإسنادان كلهم بصريون، وهذا من النفائس اجتماع الإسنادين في الكتاب متلاصقين جميعهم بصريون، وشعبة وإن كان واسطيا فهو بصري أيضا فكان واسطيا بصريا، فإنه انتقل من واسط إلى البصرة واستوطنها. وأما أبو السوار فهو بفتح السين المهملة وتشديد الواو وآخره راء واسمه حسان بن حريث العدوي. وأما أبو قتادة هذا فاسمه تميم بن نذير بضم النون وفتح الذال المعجمة العدوي، ويقال تميم بن الزبير، ويقال ابن يزيد بالزاي، ذكره الحاكم أبو أحمد. وأما الرهط فهو ما دون العشرة من الرجال خاصة لا يكون فيهم امرأة، وليس له واحد من اللفظ، والجمع أرهط وأرهاط وأراهط وأراهيط.
قوله: (فقال بشير بن كعب: إنا لنجد في بعض الكتب أو الحكمة أن منه سكينة ووقارا لله تعالى ومنه ضعف، فغضب عمران حتى احمرتا عيناه وقال: أنا أحدثك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعارض فيه، إلى قوله: فما زلنا نقول إنه منا يا أبا نجيد إنه لا بأس به) أما بشير فبضم الباء وفتح الشين وقد تقدم بيانه وبيان أمثاله في آخر الفصول، وقد تقدم هو أيضا في أول المقدمة. وأما نجيد فبضم النون وفتح الجيم وآخره دال مهملة، وأبو نجيد هو عمران بن الحصين كني بابنه نجيد. وأما الضعف فبفتح الضاد وضمها لغتان مشهورتان. وقوله: حتى احمرتا عيناه كذا هو في أُلاصول وهو صحيح جار على لغة أكلوني البراغيث. ومثله وأسروا النجوى الذين ظلموا، على أحد المذاهب فيها، ومثله يتعاقبون فيكم ملائكة. وأشباهه كثيرة معروفة. ورويناه في سنن أبي داود: واحمرت عيناه من غير ألف، وهذا ظاهر. وأما إنكار عمران رضي الله عنه فلكونه قال: منه ضعف بعد سماعه قول النبي صلى الله عليه وسلم أنه خير كله، ومعنى تعارض تأتي بكلام في مقابلته وتعترض بما يخالفه. وقولهم: إنه منا لا بأس به، معناه: ليس هو ممن يتهم بنفاق أو زندقة أو بدعة أو غيرها مما يخالف به أهل الاستقامة، والله أعلم.
قول مسلم رحمه الله: (أنبأنا إسحاق بن إبراهيم، أنبأنا النضر، حدثنا أبو نعامة العدوي قال: سمعت حجير بن الربيع العدوي يقول عن عمران بن الحصين) هذا الإسناد أيضا كله بصريون إلا إسحاق فإنه مروزي. فأما النضر فهو ابن شميل الإمام الجليل. وأما أبو نعامة فبفتح النون واسمه عمرو بن عيسى بن سويد وهو من الثقات الذين اختلطوا قبل موتهم، وقد قدمنا في الفصول وبعدها أن ما كان في الصحيحين عن المختلطين فهو محمول على أنه علم أنه أخذ عنهم قبل الاختلاط. وأما حجير فبضم الحاء وبعدها جيم مفتوحة وآخره راء، والله أعلم بالصواب وله الحمد والمنة.
جامع أوصاف الإسلام
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ: ح وَحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعا عَنْ جَرِيرٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، كُلّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الله الثّقَفِيّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ قُلْ لِي فِي الإِسْلاَمِ قَوْلاً، لاَ أَسْأَلُ عَنْهُ أَحدا بَعْدَكَ (وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ غَيْرَكَ) قَالَ: "قُلْ آمَنْتُ بِالله فَاسْتَقِمْ".
قوله: (قلت يا رسول الله. قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه غيرك، قال قل: آمنت بالله ثم استقم) قال القاضي عياض رحمه الله: هذا من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وهو مطابق لقوله تعالى: {إن الذين قالوا ربنا ثم استقاموا} أي وحدوا الله وآمنوا به ثم استقاموا، فلم يحيدوا عن التوحيد والتزموا طاعته سبحانه وتعالى إلى أن توفوا على ذلك، وعلى ما ذكرناه أكثر المفسرين من الصحابة فمن بعدهم، وهو معنى الحديث إن شاء الله تعالى، هذا آخر كلام القاضي رحمه الله. وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: {فاستقم كما أمرت} ما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع القرآن آية كانت أشد ولا أشق عليه من هذه الاَية، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين قالوا: قد أسرع إليك الشيب، فقال: شيبتني هود وأخواتها. قال الأستاذ أبو القاسم القشيري في رسالته: الاستقامة درجة بها كمال الأمور وتمامها، وبوجودها حصول الخيرات ونظامها، ومن لم يكن مستقيما في حالته ضاع سعيه وخاب جهده، قال وقيل: الاستقامة لا يطيقها إلا الأكابر لأنها الخروج عن المعهودات ومفارقة الرسوم والعادات، والقيام بين يدي الله تعالى حقيقة الصدق، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "استقيموا ولن تحصوا". وقال الواسطي: الخصلة التي بها كملت المحاسن وبفقدها قبحت المحاسن، والله أعلم. ولم يرو مسلم رحمه الله في صحيحه لسفيان بن عبد الله الثقفي راوي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا. وروى الترمذي هذا الحديث وزاد فيه: "قلت: يا رسول الله ما أخوف ما أخاف علي؟ فأخذ بلسان نفسه ثم قال: هذا" والله أعلم.
*2* باب بيان تفاضل الإسلام، وأي أموره أفضل
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ: أَخْبَرَنَا اللْيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو أَنّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيّ الإِسْلاَمِ خَيْرٌ؟ قَالَ: "تُطْعِمُ الطّعَامَ. وَتَقْرَأُ السّلاَمَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ".
وحدّثنا أَبُو الطّاهِرِ بْنِ عَمْرِو بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عمرِو بْنِ سَرْحٍ الْمَصْرِيّ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ عَبْدَ الله بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ: إِنّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيّ الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ".
حدّثنا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيّ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: جَمِيعا عَنْ أَبِي عَاصِمٍ: قَالَ عَبْدٌ: أَنْبَأَنَا بُو عَاصِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا الزّبَيْرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرا يَقُولُ: سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "المُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ".
وحدّثني سَعِيدُ بْنُ يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ الاْمَوِيّ: قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي: حَدّثَنَا أَبُو بُرْدَةَ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بُرَدَةَ بْنِ أَبِي مُوْسَىَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسىَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَيّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ".
وحدّثنيهِ إِبْرَاهِيمَ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيّ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدّثَنِي بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بِهَذَا الاْسْنَادِ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيّ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ؟ فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
فيه: (عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) وفي رواية: "أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده". وفي رواية جابر: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده" قال العلماء رحمهم الله: قوله أي الإسلام خير؟ معناه أي خصاله وأموره وأحواله؟ قالوا: وإنما وقع اختلاف الجواب في خير المسلمين لاختلاف حال السائل والحاضرين، فكان في أحد الموضعين الحاجة إلى إفشاء السلام وإطعام الطعام أكثر وأهم، لما حصل من إهمالهما والتساهل في أمورهما ونحو ذلك، وفي الموضع الاَخر إلى الكف عن إيذاء المسلمين.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من سلم المسلمون من لسانه ويده) معناه من لم يؤذ مسلما بقول ولا فعل، وخص اليد بالذكر لأن معظم الأفعال بها، وقد جاء القرآن العزيز بإضافة الاكتساب والأفعال إليها لما ذكرناه، والله تعالى أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من سلم المسلمون من لسانه ويده" قالوا معناه: المسلم الكامل، وليس المراد نفي أصل الإسلام عن من لم يكن بهذه الصفة، بل هذا كما يقال: العلم ما نفع، أو العالم زيد أي الكامل أو المحبوب، وكما يقال: الناس العرب، والمال الإبل، فكله على التفضيل لا للحصر، ويدل على ما ذكرناه من معنى الحديث قوله: أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. ثم إن كمال الإسلام والمسلم متعلق بخصال أخر كثيرة، وإنما خص ما ذكر لما ذكرناه من الحاجة الخاصة، والله أعلم. ومعنى تقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف، أي تسلم على كل من لقيته عرفته أم لم تعرفه، ولا تخص به من تعرفه كما يفعله كثيرون من الناس. ثم إن هذا العموم مخصوص بالمسلمين فلا يسلم ابتداء على كافر، وفي هذه الأحاديث جمل من العلم، ففيها الحث على إطعام الطعام والجود والاعتناء بنفع المسلمين والكف عما يؤذيهم بقول أو فعل، بمباشرة أو سبب، والإمساك عن احتقارهم، وفيها الحث على تألف قلوب المسلمين واجتماع كلمتهم وتوادهم واستجلاب ما يحصل ذلك. قال القاضي رحمه الله: والألفة إحدى فرائض الدين وأركان الشريعة ونظام شمل الإسلام، قال: وفيه بذل السلام لمن عرفت ولمن لم تعرف، وإخلاص العمل فيه لله تعالى لا مصانعة ولا ملقا، وفيه مع ذلك استعمال خلق التواضع وإفشاء شعار هذه الأمة، والله تعالى أعلم. وأما أسماء رجال الباب فقال مسلم رحمه الله في الإسناد الأول: وحدثنا محمد بن رمح بن المهاجر، حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو يعني ابن العاصي قال مسلم رحمه الله: وحدثني أبو الطاهر أحمد بن عمرو المصري، أخبرنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير أنه سمع عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وهذان الإسنادان كلهم مصريون أئمة جلة، وهذا من عزيز الأسانيد في مسلم بل في غيره، فإن اتفاق جميع الرواة في كونهم مصريين في غاية القلة، ويزداد قلة باعتبار الجلالة. فأما عبد الله بن عمرو بن العاصي رضي الله عنهما فجلالته وفقهه وكثرة حديثه وشدة ورعه وزهادته وإكثاره من الصلاة والصيام وسائر العبادات وغير ذلك من أنواع الخير فمعروفة مشهورة لا يمكن استقصاؤها فرضي الله عنه. وأما أبو الخير بالخاء المعجمة واسمه مرثد بالمثلثة ابن عبد الله اليزني. بفتح المثناة تحت والزاي منسوب إلى يزن بطن من حمير، قال أبو سعيد بن يونس: كان أبو الخير مفتي أهل مصر في زمانه، مات سنة سبعين من الهجرة. وأما يزيد بن أبي حبيب فكنيته أبو رجاء وهو تابعي، قال ابن يونس: وكان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليما عاقلاً، وكان أول من أظهر العلم بمصر، والكلام في الحلال والحرام، وقبل ذلك كانوا يتحدثون بالفتن والملاحم والترغيب في الخير. وقال الليث بن سعد: يزيد سيدنا وعالمنا، واسم أبي حبيب سويد. وأما الليث بن سعد رضي الله عنه فإمامته وجلالته وصيانته وبراعته وشهادة أهل عصره بسخائه وسيادته وغير ذلك من جميل حالاته أشهر من أن تذكر وأكثر من أن تحصر، ويكفي في جلالته شهادة الإمامين الجليلين الشافعي وابن بكير رحمهما الله تعالى أن الليث أفقه من مالك رضي الله عنهم أجمعين. فهذان صاحبا مالك رحمه الله، وقد شهدا بما شهدا، وهما بالمنزلة المعروفة من الإتقان والورع، وإجلال مالك ومعرفتها بأحواله، هذا كله مع ما قد علم من جلالة مالك وعظم فقهه رضي الله عنه. قال محمد بن رمح: كان دخل الليث ثمانين ألف دينار ما أوجب الله تعالى عليه زكاة قط. وقال قتيبة: لما قدم الليث أهدى له مالك من طرف المدينة فبعث إليه الليث ألف دينار، وكان الليث مفتي أهل مصر في زمانه. وأما محمد بن رمح فقال ابن يونس: هو ثقة ثبت في الحديث، وكان أعلم الناس بأخبار البلد وفقهه، وكان إذا شهد في كتاب دار علم أهل البلد أنها طيبة الأصل. وذكره النسائي فقال: ما أخطأ في حديث، ولو كتب عن مالك لأثبته في الطبقة الأولى من أصحاب مالك وأثنى عليه غيرهما، والله أعلم. وأما عبد الله بن وهب فعلمه وورعه وزهده وحفظه وإتقانه وكثرة حديثه واعتماد أهل مصر عليه وإخبارهم بأن حديث أهل مصر وما والاها يدور عليه، فكله أمر معروف مشهور في كتب أئمة هذا الفن، وقد بلغنا عن مالك بن أنس رضي الله عنه أنه لم يكتب إلى أحد وعنونه بالفقه إلا إلى ابن وهب رحمه الله. وأما عمرو بن الحارث فهو مفتي أهل مصر في زمنه وقاريهم. قال أبو زرعة رحمه الله: لم يكن له نظير في الحفظ في زمنه. وقال أبو حاتم: كان أحفظ الناس في زمانه. وقال مالك بن أنس: عمرو بن الحارث درة الغواص، وقال: هو مرتفع الشان. وقال ابن وهب: سمعت من ثلاثمائة وسبعين شيخا فما رأيت أحفظ من عمرو بن الحارث رحمه الله، والله أعلم.
قوله في الإسناد الاَخر: (أبو عاصم عن ابن جريج عن أبي الزبير) أما أبو عاصم فهو الضحاك بن مخلد. وأما ابن جريج فهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. وأما أبو الزبير فهو محمد بن مسلم بن تدرس، وقد تقدم بيانهم.
وفي الإسناد الاَخر: أبو بردة عن أبي بردة عن أبي موسى. فأبو بردة الأول اسمه بريد بضم الموحدة وقد سماه في الرواية الأخرى وأبو بردة الثاني اختلف في اسمه فقال الجمهور: اسمه عامر، وقال يحيى بن معين في إحدى الروايتين عنه عامر كما قال الجمهور، وفي الأخرى الحارث. وأما أبو موسى فهو الأشعري واسمه عبد الله بن قيس، وإنما نقص بذكر مثل هذا، وإن كان عند أهل هذا الفن من الواضحات المشهورات التي لا حاجة إلى ذكرها، لكون هذا الكتاب ليس مختصا بالفضلاء، بل هو موضوع لإفادة من لم يتمكن في هذا الفن، والله تعالى أعلم بالصواب.
*2* باب بيان خصال من اتصف بهنّ وجد حلاوة الإِيمان
*حدّثنا إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَ مُحمّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ أَبِي عُمَرَ، وَ مُحمّدُ بْنُ بَشّارٍ، جَمِيعا عَنِ الثّقَفِيّ. قَالَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ، عَنْ أَيّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنّ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ، مَنْ كَانَ الله وَرَسُولُهُ أَحَبّ إِلَيْهِ مِمّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبّهُ إِلاّ لله، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُود فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ الله مِنْهُ، كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النّارِ".
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ الْمُثّنَى و ابْنُ بَشّارٍ قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدّثُ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثٌ مَنْ كُنّ فِيهِ وَجَدَ طَعْمَ الإِيمَانِ. مَنْ كَانَ يُحِبّ الْمَرْءَ لاَ يُحِبّهُ إِلاّ لله. وَمَنْ كَانَ الله وَرَسُولُهُ أَحَبّ إِلَيْهِ مِمّا سِوَاهُمَا. وَمَنْ كَانَ أَنْ يُلْقَى فِي النّارِ أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ أَنْ أَنْقَذَهُ الله مِنْهُ.
حدّثنا إِسْحَقٌ بْنُ مَنْصُورٍ: أَنْبَأَنَا النّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: أَنْبَأَنَا حَمّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنْسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ. غٍيْرَ أَنّهُ قَالَ "مِنْ أَنْ يَرْجِعَ يَهُودِيا أَوْ نَصْرَانِيَا".
قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار) وفي رواية: "من أن يرجع يهوديا أو نصرانيا". هذا حديث عظيم أصل من أصول الإسلام. قال العلماء رحمهم الله: معنى حلاوة الإيمان استلذاذ الطاعات وتحمل المشقات في رضى الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإيثار ذلك على عرض الدنيا، ومحبة العبد ربه سبحانه وتعالى بفعل طاعته وترك مخالفته، وكذلك محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال القاضي رحمه الله: هذا الحديث بمعنى الحديث المتقدم: "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً"، وذلك أنه لا يصح المحبة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم حقيقة، وحب الاَدمي في الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وكراهة الرجوع إلى الكفر إلا لمن قوي بالإيمان يقينه، واطمأنت به نفسه، وانشرح له صدره، وخالط لحمه ودمه، وهذا هو الذي وجد حلاوته. قال: والحب في الله من ثمرات حب الله. قال بعضهم: المحبة مواطأة القلب على ما يرضي الرب سبحانه، فيحب ما أحب، ويكره ما كره. واختلفت عبارات المتكلمين في هذا الباب بما لا يؤول إلى اختلاف إلا في اللفظ، وبالجملة أصل المحبة الميل إلى ما يوافق المحب، ثم الميل قد يكون لما يستلذه الإنسان ويستحسنه، كحسن الصورة والصوت والطعام ونحوها، وقد يستلذه بعقله للمعاني الباطنة، كمحبة الصالحين والعلماء وأهل الفضل مطلقا، وقد يكون لإحسانه إليه ودفعه المضار والمكاره عنه، وهذه المعاني كلها موجودة في النبي صلى الله عليه وسلم، لما جمع من جمال الظاهر والباطن، وكمال خلال الجلال، وأنواع الفضائل، وإحسانه إلى جميع المسلمين بهدايته إياهم إلى الصراط المستقيم، ودوام النعم، والإبعاد من الجحيم. وقد أشار بعضهم إلى أن هذا متصور في حق الله تعالى، فإن الخير كله منه سبحانه وتعالى. قال مالك وغيره: المحبة في الله من واجبات الإسلام، هذا كلام القاضي رحمه الله. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: يعود أو يرجع فمعناه يصير، وقد جاء العود والرجوع بمعنى الصيرورة. وأما أبو قلابة المذكور في الإسناد فهو بكسر القاف وتخفيف اللام وبالباء الموحدة واسمه عبد الله بن زيد. وأما قول مسلم: حدثنا ابن مثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس رضي الله عنه، فهذا إسناد كله بصريون، وقد قدمنا أن شعبة واسطي بصري، والله تعالى أعلم بالصواب.
*2* باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والوالد والناس أجمعين. وإطلاق عدم الإيمان على من لم يحبه هذه المحبة
*وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيّةَ. ح وَحَدّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَبْدِ الْوَارِثِ، كِلاَهُمَا عَنْ عَبْدِ الْعَزِيرِ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ وفي حَدِيثِ عَبْدِ الوَارِثِ الرّجُلُ حَتّى أَكُونَ أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ".
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ قُتَادَةَ يُحَدّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لاَ يُوءْمِنُ أَحَدَكُمْ حَتّى أَكُونَ أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين) وفي الرواية الأخرى: "من ولده ووالده والناس أجمعين". قال الإمام أبو سليمان الخطابي: لم يرد به حب الطبع بل أراد به حب الاختيار، لأن حب الإنسان نفسه طبع ولا سبيل إلى قلبه، قال: فمعناه لا تصدق في حبي حتى تفنى في طاعتي نفسك، وتؤثر رضاي على هواك وإن كان فيه هلاكك. هذا كلام الخطابي. وقال ابن بطال والقاضي عياض وغيرهما رحمة الله عليهم: المحبة ثلاثة أقسام: محبة إجلال وإعظام كمحبة الوالد، ومحبة شف قة ورحمة كمحبة الولد، ومحبة مشاكلة واستحسان كمحبة سائر الناس، فجمع صلى الله عليه وسلم أصناف المحبة في محبته. قال ابن بطال رحمه الله: ومعنى الحديث أن من استكمل الإيمان علم أن حق النبي صلى الله عليه وسلم آكد عليه من حق أبيه وابنه والناس أجمعين، لأن به صلى الله عليه وسلم استنقذنا من النار وهدينا من الضلال. قال القاضي عياض رحمه الله: ومن محبته صلى الله عليه وسلم نصرة سنته والذب عن شريعته وتمني حضور حياته، فيبذل ماله ونفسه دونه. قال: وإذا تبين ما ذكرناه تبين أن حقيقة الإيمان لا يتم إلا بذلك، ولا يصح الإيمان إلا بتحقيق إعلاء قدر النبي صلى الله عليه وسلم ومنزلته على كل والد وولد ومحسن ومفضل، ومن لم يعتقد هذا واعتقد سواه فليس بمؤمن، هذا كلام القاضي رحمه الله، والله أعلم. وأما إسناد هذا الحديث فقال مسلم رحمه الله: (وحدثنا شيبان بن أبي شيبة، حدثنا عبد الوارث عن عبد العزيز عن أنس.
قال مسلم: (وحدثنا محمد بن مثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس) وهذان الإسنادان رواتهما بصريون كلهم، وشيبان بن أبي شيبة هذا هو شيبان بن فروخ الذي روى عنه مسلم في مواضع كثيرة، والله أعلم بالصواب.
*2* باب الدليل على أن من خصال الإِيمان أن يحب لأخيه المسلم ما يحب لنفسه من الخير
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ. قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضيَ اللّهِ عَنْهُ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتّى يُحِبّ لأَخِيهِ (أَوْ قَالَ لِجَارِهِ) مَا يُحِبّ لِنَفْسِهِ".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ حُسَيْنٍ الْمُعَلّمِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ ، عنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتّى يُحِبّ لِجَارِهِ (أَوْ قَالَ لأَخِيهِ) مَا يُحِبّ لِنَفْسِهِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه أو قال لجاره ما يحب لنفسه) هكذا هو في مسلم لأخيه أو لجاره على الشك، وكذا هو في مسند عبد بن حميد على الشك وهو في البخاري وغيره لأخيه من غير شك. قال العلماء رحمهم الله: معناه لا يؤمن الإيمان التام، وإلا فأصل الإيمان يحصل لمن لم يكن بهذه الصفة، والمراد يحب لأخيه من الطاعات والأشياء المباحات، ويدل عليه ما جاء في رواية النسائي في هذا الحديث: "حتى يحب لأخيه من الخير ما يحب لنفسه" قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: وهذا قد يعد من الصعب الممتنع وليس كذلك، إذ معناه لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه في الإسلام مثل ما يحب لنفسه، والقيام بذلك يحصل بأن يحب له حصول مثل ذلك من جهة لا يزاحمه فيها، بحيث لا تنقص النعمة على أخيه شيئا من النعمة عليه، وذلك سهل على القلب السليم، وإنما يعسر على القلب الدغل عافانا الله وإخواننا أجمعين، والله أعلم. وأما إسناده فقال مسلم رحمه الله: حدثنا محمد بن مثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس، وهؤلاء كلهم بصريون، والله أعلم.
*2* باب بيان تحريم إيذاء الجار
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ و قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ، جَمِيعا عَنْ إِسْمَاعِيلُ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيّوبَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلَ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلاَءُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ مَنْ لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه) البوائق جمع بائقة وهي الغائلة والداهية والفتك، وفي معنى: لا يدخل الجنة، جوابان يجريان في كل ما أشبه هذا أحدهما: أنه محمول على من يستحل الإيذاء مع علمه بتحريمه فهذا كافر لا يدخلها أصلاً. والثاني: معناه جزاؤه أن لا يدخلها وقت دخول الفائزين إذا فتحت أبوابها لهم بل يؤخر، ثم قد يجازى وقد يعفى عنه فيدخلها أو لا، وإنما تأولنا هذين التأويلين لأنا قدمنا أن مذهب أهل الحق أن من مات على التوحيد مصرا على الكبائر فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه فأدخله الجنة أولاً، وإن شاء عاقبه ثم أدخله الجنة. والله أعلم.
*2* باب الحثّ على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت إلا عن الخير، وكون ذلك كله من الإِيمان
*حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ. عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرا أَوْ لِيَصْمُتْ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ. وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرا أَوْ لِيَسْكُتْ".
وحدّثنا إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا عِيسَىَ بْنُ يُونُسَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثِلِ حَدِيثِ أَبِي حَصِينٍ، غيْرَ أَنّهُ قَالَ "فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ".
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، جَمِيعا عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو أَنّهُ سَمِعَ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ يُخْبِرُ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيّ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرا أَوْ لِيَسْكُتْ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الاَخر فليقل خيرا أو ليصمت. ومن كان يؤمن بالله واليوم الاَخر فليكرم جاره. ومن كان يؤمن بالله واليوم الاَخر فليكرم ضيفه) وفي الرواية الأخرى: "فلا يؤذي جاره" قال أهل اللغة: يقال صمت يصمت بضم الميم صمتا وصموتا وصماتا أي سكت، قال الجوهري: ويقال أصمت بمعنى صمت، والتصميت السكوت، والتصميت أيضا التسكيت. قال القاضي عياض رحمه الله: معنى الحديث أن من التزم شرائع الإسلام لزمه إكرام جاره وضيفه وبرهما، وكل ذلك تعريف بحق الجار وحث على حفظه، وقد أوصى الله تعالى بالإحسان إليه في كتابه العزيز. وقال صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل عليه السلام يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه" والضيافة من آداب الإسلام وخلق النبيين والصالحين، وقد أوجبها الليث ليلة واحدة، واحتج بالحديث: "ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم" وبحديث عقبة: "إن نزلت بقوم فأمروا لكم بحق الضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم" وعامة الفقهاء على أنها من مكارم الأخلاق، وحجتهم قوله صلى الله عليه وسلم: "جائزته يوم وليلة"والجائزة العطية والمنحة والصلة، وذلك لا يكون إلا مع الاختيار وقوله صلى الله عليه وسلم: "فليكرم وليحسن" يدل على هذا أيضا، إذ ليس يستعمل مثله في الواجب، مع أنه مضموم إلى الإكرام للجار والإحسان إليه وذلك غير واجب. وتأولوا الأحاديث أنها كانت في أول الإسلام إذ كانت المواساة واجبة، واختلفوا هل الضيافة على الحاضر والبادي أم على البادي خاصة؟ فذهب الشافعي رضي الله عنه ومحمد بن الحكم إلى أنها عليهما. وقال مالك وسحنون: إنما ذلك على أهل البوادي، لأن المسافر يجد في الحضر المنازل في الفنادق ومواضع النزول وما يشتري من المأكل في الأسواق. وقد جاء في حديث الضيافة على أهل الوبر وليست على أهل المدر، لكن هذا الحديث عند أهل المعرفة موضوع، وقد تتعين الضيافة لمن اجتاز محتاجا وخيف عليه، وعلى أهل الذمة إذا اشترطت عليهم، هذا كلام القاضي. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فليقل خيرا أو ليصمت" فمعناه أنه إذا أراد أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرا محققا يثاب عليه واجبا أو مندوبا فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام، سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح مستوى الطرفين، فعلى هذا يكون الكلام المباح مأمورا بتركه مندوبا إلى الإمساك عنه مخافة من انجراره إلى المحرم أو المكروه، وهذا يقع في العادة كثيرا أو غالبا. وقد قال الله تعالى: {ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد} واختلف السلف والعلماء في أنه هل يكتب جميع ما يلفظ به العبد وإن كان مباحا لا ثواب فيه ولا عقاب لعموم الاَية؟ أم لا يكتب إلا ما فيه جزاء من ثواب أو عقاب؟ وإلى الثاني ذهب ابن عباس رضي الله عنهما وغيره من العلماء، وعلى هذا تكون الاَية مخصوصة، أي ما يلفظ من قول يترتب عليه جزاء، وقد ندب الشرع إلى الإمساك عن كثير من المباحات لئلا ينجر صاحبها إلى المحرمات أو المكروهات. وقد أخذ الإمام الشافعي رضي الله عنه معنى الحديث فقال: إذا أراد أن يتكلم فليفكر، فإن ظهر له أنه لا ضرر عليه تكلم، وإن ظهر له فيه ضرر أو شك فيه أمسك. وقد قال الإمام الجليل أبو محمد عبد الله بن أبي زيد إمام المالكية بالمغرب في زمنه: جماع آداب الخير يتفرع من أربعة أحاديث: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الاَخر فليقل خيرا أو ليصمت" وقوله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه" وقوله صلى الله عليه وسلم للذي اختصر له الوصية: "لا تغضب" وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" والله أعلم. وروينا عن الأستاذ أبي القاسم القشيري رحمه الله قال: الصمت بسلامة وهو الأصل، والسكوت في وقته صفة الرجال، كما أن النطق في موضعه من أشرف الخصال. قال: وسمعت أبا علي الدقاق يقول: من سكت عن الحق فهو شيطان أخرس. قال: فأما إيثار أصحاب المجاهدة السكوت، فلما علموا ما في الكلام من الاَفات، ثم ما فيه من حظ النفس وإظهار صفات المدح والميل إلى أن يتميز من بين أشكاله بحسن النطق، وغير هذا من الاَفات، وذلك نعت أرباب الرياضة، وهو أحد أركانهم في حكم المنازلة وتهذيب الخلق. وروينا عن الفضيل بن عياض رحمه الله قال: من عد كلامه من عمله قل كلامه فيما لا يعنيه. وعن ذي النون رحمه الله: أصون الناس لنفسه أمسكهم للسانه، والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فلا يؤذي جاره) فكذا وقع في الأصول يؤذي بالياء في آخره. وروينا في غير مسلم فلا يؤذ بحذفها وهما صحيحان، فحذفها للنهي وإثباتها على أنه خبر يراد به النهي فيكون أبلغ. ومنه قوله تعالى: {لا تضار والدة بولدها} على قراءة من رفع. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبيع أحدكم على بيع أخيه" ونظائره كثيره، والله أعلم. وأما أسانيد الباب فقال مسلم رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو الأحوص عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة، وهذا الإسناد كله كوفيون مكيون إلا أبا هريرة فإنه مدني. وقد تقدم بيان أسمائهم كلهم في مواضع. وحصين بفتح الحاء.
وقوله في الإسناد الاَخر: عن أبي شريح الخزاعي، قد قدمنا في آخر شرح مقدمة الكتاب الاختلاف في اسمه، وأنه قيل اسمه خويلد بن عمرو، وقيل عبد الرحمن، وقيل عمرو بن خويلد، وقيل هانئ بن عمرو، وقيل كعب، وأنه يقال الخزاعي والعدوي والكعبي، والله أعلم.
*2* باب بيان كون النهي عن المنكر من الإِيمان، وأن الإِيمان يزيد وينقص، وأن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر واجبان
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ كِلاَهُمَا عَنْ قَيْس بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ. وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: أَوّلُ مَنْ بَدَأَ بِالْخُطْبَةِ، يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ الصّلاَةِ: مَرْوانُ. فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ. فَقَالَ: الصّلاَةُ قَبْلَ الْخُطْبَةِ؟. فَقَالَ: قَدْ تُرِكَ مَا هُنَالِكَ. فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَمّا هَذَا فَقَدْ قضى مَا عَلَيْهِ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرا فَلْيُغَيّرْهُ بِيَدِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ. فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ. وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإِيمَانِ".
حدّثنا أَبُو كُرْيْبٍ مُحمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ عَنِ إِسْمَاعِيلَ ابْنِ رَجَاءٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِيّ. وَعَنْ قَيْسٍ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ فِي قِصّةِ مَرْوَانَ، وَحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ وَسُفْيَانَ.
حدّثني عَمْرُو النّاقِدُ، وَ أَبُو بَكْرٍ بْنُ النّضرِ، وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَاللّفْظُ لِعَبْدٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي، عَنْ صَالِحٍ بْنِ كَيْسَانَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ نَبِيَ بَعَثَهُ الله فِي أُمّةٍ قَبْلِي، إِلاّ كَانَ لَهُ مِنْ أُمّتِهِ حَوَارِيّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ. ثُمّ إِنّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمِ خُلُوفٌ، يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ، وَيَفْعَلُونَ مَا لاَ يُؤْمَرُونَ. فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنَ الإِيمَانِ حَبّةُ خَرْدَلٍ".
قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَحَدّثْتُ عَبْدِ اللّهِ بْنَ عُمَرَ فَأَنْكَرَهُ عَلَيّ. فَقَدِمَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَنَزَلَ بِقَنَاةَ. فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَيْهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ يَعُودُهُ. فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ. فَلَمّا جَلَسْنَا سَأَلْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَحَدّثَنِيهِ كَمَا حَدّثْتُهُ ابْنَ عُمَرَ.
وحدّثنيهِ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ بْنِ مُحَمّدُ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدُ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْحَارِثُ بْنِ الْفُضَيْلِ الْخَطْمِيّ. عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرحمَنِ بْنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، مولى النبيّ صلى الله عليه وسلم، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "مَا كَانَ مِنْ نَبِيَ إِلاّ وَقَدْ كَانَ لَهُ حَوَارِيّونَ يَهْتَدُونَ بِهَدْيِهِ وَيَسْتَنّونَ بِسُنّتِهِ" مِثْلَ حَدِيثِ صَالِحٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ قدُومَ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَاجْتِمَاعَ ابْنِ عُمَرَ مَعَهُ.
قوله: (أول من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان) قال القاضي عياض رحمه الله: اختلف في هذا فوقع هنا ما تراه، وقيل: أول من بدأ بالخطبة قبل الصلاة عثمان رضي الله عنه. وقيل: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى الناس يذهبون عند تمام الصلاة ولا ينتظرون الخطبة. وقيل: بل ليدرك الصلاة من تأخر وبعد منزله. وقيل: أول من فعله معاوية. وقيل: فعله ابن الزبير رضي الله عنه. والذي ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم تقديم الصلاة، وعليه جماعة فقهاء الأنصار، وقد عده بعضهم إجماعا، يعني والله أعلم بعد الخلاف، أو لم يلتفت إلى خلاف بني أمية بعد إجماع الخلفاء والصدر الأول. وفي قوله: بعد هذا، أما هذا، فقد قضى ما عليه بمحضر من ذلك الجمع العظيم دليل على استقرار السنة عندهم، على خلاف ما فعله مروان وبينه أيضا احتجاجه بقوله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكرا فليغيره" ولا يسمى منكرا لو اعتقده، ومن حضر أو سبق به عمل أو مضت به سنة. وفي هذا دليل على أنه لم يعمل به خليفة قبل مروان، وأن ما حكي عن عمر وعثمان ومعاوية لا يصح، والله أعلم. قوله: (فقام إليه رجل فقال: الصلاة قبل الخطبة، فقال: قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده" الحديث) قد يقال: كيف تأخر أبو سعيد رضي الله عنه عن إنكار هذا المنكر حتى سبقه إليه هذا الرجل؟ وجوابه أنه يحتمل أن أبا سعيد لم يكن حاضرا أول ما شرع مروان في أسباب تقديم الخطبة فأنكر عليه الرجل ثم دخل أبو سعيد وهما في الكلام. ويحتمل أن أبا سعيد كان حاضرا من الأول، ولكنه خاف على نفسه أو غيره حصول فتنة بسبب إنكاره فسقط عنه الإنكار، ولم يخف ذلك الرجل شيئا لاعتضاده بظهور عشيرته أو غير ذلك، أو أنه خاف وخاطر بنفسه، وذلك جائز في مثل هذا بل مستحب، ويحتمل أن أبا سعيد هم بالإنكار فبدره الرجل فعضده أبو سعيد والله أعلم. ثم إنه جاء في الحديث الاَخر الذي اتفق البخاري ومسلم رضي الله عنهما على إخراجه في باب صلاة العيد: أن أبا سعيد هو الذي جذب بيد مروان حين رآه يصعد المنبر وكانا جاءا معا، فرد عليه مروان بمثل ما رد هنا على الرجل، فيحتمل أنهما قضيتان: إحداهما لأبي سعيد، والأخرى للرجل بحضرة أبي سعيد، والله أعلم. وأما قوله: فقد قضى ما عليه ففيه تصريح بالإنكار أيضا من أبي سعيد. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فليغيره" فهو أمر إيحاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة وإجماع الأمة، وهو أيضا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة ولا يعتد بخلافهم، كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: لا يكترث بخلافهم في هذا، فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء، ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافا للمعتزلة. وأما قول الله عز وجل: {عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم} فليس مخالفا لما ذكرناه، لأن المذهب الصحيح عند المحققين في معنى الاَية: أنكم إذا فعلتم ما كلفتم به فلا يضركم تقصير غيركم، مثل قوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وإذا كان كذلك فمما كلف به الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا فعله ولم يمتثل المخاطب فلا عتب بعد ذلك على الفاعل لكونه أدى ما عليه، فإنما عليه الأمر والنهي لا القبول، والله أعلم. ثم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، إذا قام به بعض الناس سقط الحرج عن الباقين، وإذا تركه الجميع أثم كل من تمكن منه بلا عذر ولا خوف، ثم إنه قد يتعين كما إذا كان في موضع لا يعلم به إلا هو، أو لا يتمكن من إزالته إلا هو، وكمن يرى زوجته أو ولده أو غلامه على منكر أو تقصير في المعروف. قال العلماء رضي الله عنهم: ولا يسقط عن المكلف الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكونه لا يفيد في ظنه، بل يجب عليه فعله، فإن الذكرى تنفع المؤمنين. وقد قدمنا أن الذي عليه الأمر والنهي لا القبول، وكما قال الله عز وجل: {ما على الرسول إلا البلاغ} ومثل العلماء هذا بمن يرى إنسانا في الحمام أو غيره مكشوف بعض العورة ونحو ذلك، والله أعلم. قال العلماء: ولا يشترط في الاَمر والناهي أن يكون كامل الحال، ممتثلاً ما يأمر به، مجتنبا ما ينهى عنه، بل عليه الأمر وإن كان مخلاً بما يأمر به، والنهي وإن كان متلبسا بما ينهى عنه، فإنه يجب عليه شيئان: أن يأمر نفسه وينهاها، ويأمر غيره وينهاه. فإذا أخل بأحدهما كيف يباح له الإخلال بالاَخر؟ قال العلماء: ولا يختص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأصحاب الولايات، بل ذلك جائز لاَحاد المسلمين. قال إمام الحرمين: والدليل عليه إجماع المسلمين، فإن غير الولاة في الصدر الأول والعصر الذي يليه كانوا يأمرون الولاة بالمعروف وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير ولاية، والله أعلم.
ثم أنه إنما يأمر وينهى من كان عالما بما يأمر به وينهى عنه، وذلك يختلف باختلاف الشيء، فإن كان من الواجبات الظاهرة والمحرمات المشهورة كالصلاة والصيام والزنا والخمر ونحوها فكل المسلمين علماء بها، وإن كان من دقائق الأفعال والأقوال ومما يتعلق بالاجتهاد لم يكن للعوام مدخل فيه ولا لهم إنكاره بل ذلك للعلماء، ثم العلماء إنما ينكرون ما أجمع عليه، أما المختلف فيه فلا إنكار فيه، لأن على أحد المذهبين كل مجتهد مصيب، وهذا هو المختار عند كثيرين من المحققين أو أكثرهم، وعلى المذهب الاَخر المصيب واحد، والمخطئ غير متعين لنا، والإثم مرفوع عنه، لكن إن ندبه على جهة النصيحة إلى الخروج من الخلاف فهو حسن محبوب مندوب إلى فعله برفق، فإن العلماء متفقون على الحث على الخروج من الخلاف إذا لم يلزم منه إخلال بسنة أو وقوع في خلاف آخر. وذكر أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي البصري الشافعي في كتابه الأحكام السلطانية خلافا بين العلماء في أن من قلده السلطان الحسبة هل له أن يحمل الناس على مذهبه فيما اختلف فيه الفقهاء إذا كان المحتسب من أهل الاجتهاد أم لا يغير ما كان على مذهب غيره؟ والأصح أنه لا يغير لما ذكرناه، ولم يزل الخلاف في الفروع بين الصحابة والتابعين فمن بعدهم رضي الله عنهم أجمعين، ولا ينكر محتسب ولا غيره على غيره، وكذلك قالوا: ليس للمفتي ولا للقاضي أن يعترض على من خالفه إذا لم يخالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليا، والله أعلم. واعلم أن هذا الباب أعني باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد ضيع أكثره من أزمان متطاولة، ولم يبق منه في هذه الأزمان إلا رسوم قليلة جدا، وهو باب عظيم به قوام الأمر وملاكه، وإذا كثر الخبث عم العقاب الصالح والطالح، وإذا لم يأخذوا على يد الظالم أو شك أو يعمهم الله تعالى بعقابه فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم، فينبغي لطالب الاَخرة والساعي في تحصيل رضا الله عز وجل أن يعتني بهذا الباب فإن نفعه عظيم، لاسيما وقد ذهب معظمه ويخلص نيته، ولا يهابن من ينكر عليه لارتفاع مرتبته، فإن الله تعالى قال: {ولينصرن الله من ينصره} وقال تعالى: {ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم} وقال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} وقال تعالى: {أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون} {ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمون الكاذبين} واعلم أن الأجر على قدر النصب، ولا يتاركه أيضا لصداقته ومودته ومداهنته وطلب الوجاهة عنده ودوام المنزلة لديه، فإن صداقته ومودته توجب له حرمة وحقا، ومن حقه أن ينصحه ويهديه إلى مصالح آخرته وينقذه من مضارها، وصديق الإنسان ومحبه هو من سعى في عمارة آخرته، وإن أدى ذلك إلى نقص في دنياه، وعدوه من يسعى في ذهاب أو نقص آخرته، وإن حصل بسبب ذلك صورة نفع في دنياه، وإنما كان إبليس عدوا لنا لهذا، وكانت الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أولياء للمؤمنين لسعيهم في مصالح آخرتهم وهدايتهم إليها، ونسأل الله الكريم توفيقنا وأحبابنا وسائر المسلمين لمرضاته، وأن يعمنا بجوده ورحمته، والله أعلم. وينبغي للاَمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب، فقد قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. ومما يتساهل أكثر الناس فيه من هذا الباب ما إذا رأى إنسانا يبيع متاعا معيبا أو نحوه، فإنهم لا ينكرون ذلك، ولا يعرفون المشتري بعيبه، وهذا خطأ ظاهر، وقد نص العلماء على أنه يجب على من علم ذلك أن ينكر على البائع وأن يعلم المشتري به، والله أعلم. وأما صفة النهي ومراتبه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح: "فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه" فقوله صلى الله عليه وسلم: "فبقلبه" معناه فليكرهه بقلبه، وليس ذلك بإزالة وتغيير منه للمنكر، ولكنه هو الذي في وسعه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وذلك أضعف الإيمان) معناه والله أعلم أقله ثمرة.
قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث أصل في صفة التغيير، فحق المغير أن يغيره بكل وجه أمكنه زواله به قولاً كان أو فعلاً، فيكسر آلات الباطل ويريق المسكر بنفسه، أو يأمر من يفعله وينزع الغصوب ويردها إلى أصحابها بنفسه أو بأمره إذا أمكنه، ويرفق في التغيير جهده بالجاهل، وبذي العزة الظالم المخوف شره، إذ ذلك أدعى إلى قبول قوله، كما يستحب أن يكون متولي ذلك من أهل الصلاح والفضل لهذا المعنى، ويغلظ على المتمادي في غيه والمسرف في بطالته إذا أمن أن يؤثر إغلاظه منكرا أشد ما غيره، لكون جانبه محميا عن سطوة الظالم، فإن غلب على ظنه أن تغييره بيده يسبب منكرا أشد منه من قتله أو قتل غيره بسبب كف يده واقتصر على القول باللسان والوعظ والتخويف، فإن خاف أن يسبب قوله مثل ذلك غير بقلبه وكان في سعة، وهذا هو المراد بالحديث إن شاء الله تعالى، وإن وجد من يستعين به على ذلك استعان ما لم يؤد ذلك إلى إظهار سلاح وحرب، وليرفع ذلك إلى من له الأمر إن كان المنكر من غيره، أو يقتصر على تغييره بقلبه، هذا هو فقه المسألة وصواب العمل فيها عند العلماء والمحققين، خلافا لمن رأى الإنكار بالتصريح بكل حال وإن قتل ونيل منه كل أذى، هذا آخر كلام القاضي رحمه الله. قال إمام الحرمين رحمه الله: ويسوغ لاَحاد الرعية أن يصد مرتكب الكبيرة إن لم يندفع عنها بقوله ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح، فإن انتهى الأمر إلى ذلك ربط الأمر بالسلطان. قال: وإذا جار وإلى الوقت وظهر ظلمه وغشمه ولم ينزجر حين زجر عن سوء صنيعه بالقول فلأهل الحل والعقد التواطؤ على خلعه ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب. هذا كلام إمام الحرمين، وهذا الذي ذكره من خلعه غريب، ومع هذا فهو محمول على ما إذا لم يخف منه إثارة مفسدة أعظم منه. قال: وليس للاَمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر على منكر غيره جهده، هذا كلام إمام الحرمين. وقال أقضى القضاة الماوردي: ليس للمحتسب أن يبحث عما لم يظهر من المحرمات، فإن غلب على الظن استسرار قوم بها لأمارة وآثار ظهرت فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون ذلك في انتهاك حرمة يفوت استدراكها مثل أن يخبره من يثق بصدقه أن رجلاً خلا برجل ليقتله، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذا الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث حذرا من فوات ما لا يستدرك، وكذا لو عرف ذلك غير المحتسب من المتطوعة جاز لهم الإقدام على الكشف والإنكار. الضرب الثاني: ما قصر عن هذه الرتبة فلا يجوز التجسس عليه ولا كشف الأستار عنه، فإن سمع أصوات الملاهي المنكرة من دار أنكرها خارج الدار لم يهجم عليها بالدخول لأن المنكر ظاهر، وليس عليه أن يكشف عن الباطن. وقد ذكر الماوردي في آخر الأحكام السلطانية بابا حسنا في الحسبة مشتملاً على جمل من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد أشرنا هنا إلى مقاصدها، وبسطت الكلام في هذا الباب لعظم فائدته وكثرة الحاجة إليه وكونه من أعظم قواعد الإسلام، والله أعلم.
قوله: (وحدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد) فقوله: وعن قيس معطوف على إسماعيل معناه: رواه الأعمش عن إسماعيل عن قيس، والله أعلم.
قوله: (عن صالح بن كيسان عن الحارث عن جعفر بن عبد الله بن الحكم عن عبد الرحمن بن المسور عن أبي رافع عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل. قال أبو رافع: فحدثت عبد الله بن عمر رضي الله عنهما فأنكره علي، فقدم ابن مسعود رضي الله عنه فنزل بقناة فاستتبعني إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يعوده فانطلقت معه فلما جلسنا سألت ابن مسعود عن هذا الحديث فحدثنيه كما حدثته ابن عمر، قال صالح: وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع) أما الحارث فهو ابن فضيل الأنصاري الخطمي أبو عبد الله المدني، روى عن عبد الرحمن بن أبي قراد الصحابي، قال يحيى بن معين: هو ثقة. وأما أبو رافع فهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأصح أن اسمه أسلم، وقيل: إبراهيم، وقيل: هرمز، وقيل: ثابت، وقيل: يزيد وهو غريب، حكاه ابن الجوزي في كتابه جامع المسانيد، وفي هذا الإسناد طريفة وهو أنه اجتمع فيه أربعة تابعيون يروى بعضهم عن بعض: صالح والحارث وجعفر وعبد الرحمن، وقد تقدم نظير هذا. وقد جمعت فيه بحمد الله تعالى جزءا مشتملاً على أحاديث رباعيات منها أربعة صحابيون بعضهم عن بعض، وأربعة تابعيون بعضهم عن بعض. وأما قوله: قال صالح وقد تحدث بنحو ذلك عن أبي رافع فهو بضم التاء والحاء، قال القاضي عياض رحمه الله: معنى هذا أن صالح بن كيسان قال: إن هذا الحديث روي عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير ذكر ابن مسعود فيه. وقد ذكره البخاري كذلك في تاريخه مختصرا عن أبي رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقد قال أبو علي الجياني عن أحمد بن حنبل رحمه الله قال: هذا الحديث غير محفوظ، قال: وهذا الكلام لا يشبه كلام ابن مسعود، وابن مسعود يقول: اصبروا حتى تلقوني، هذا كلام القاضي رحمه الله. وقال الشيخ أبو عمرو: هذا الحديث قد أنكره أحمد بن حنبل رحمه الله. وقد روى عن الحارث هذا جماعة من الثقات ولم نجد له ذكرا في كتب الضعفاء. وفي كتاب ابن أبي حاتم عن يحيى بن معين أنه ثقة، ثم أن الحارث لم ينفرد به بل توبع عليه على ما أشعر به كلام صالح بن كيسان المذكور. وذكر الإمام الدارقطني رحمه الله في كتاب العلل أن هذا الحديث قد روي من وجوه أخر، منها عن أبي واقد الليثي عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قوله: اصبروا حتى تلقوني فذلك حيث يلزم من ذلك سفك الدماء أو إثارة الفتن أو نحو ذلك. وما ورد في هذا الحديث من الحث على جهاد المبطلين باليد واللسان فذلك حيث لا يلزم منه إثارة فتنة، على أن هذا الحديث مسوق فيمن سبق من الأمم وليس في لفظه ذكر لهذه الأمة، هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو وهو ظاهر كما قال، وقدح الإمام أحمد رحمه الله في هذا بهذا عجب، والله أعلم. وأما الحواريون المذكورون فاختلف فيهم، فقال الأزهري وغيره: هم خلصان الأنبياء وأصفياؤهم، والخلصان الذين نقوا من كل عيب، وقال غيرهم: أنصارهم، وقيل: المجاهدون، وقيل: الذين يصلحون للخلافة بعدهم. قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف" الضمير في إنها هو الذي يسميه النحويون ضمير القصة والشأن، ومعنى تخلف تحدث وهو بضم اللام. وأما الخلوف فبضم الخاء وهو جمع خلف بإسكان اللام وهو الخالف بشر. وأما بفتح اللام فهو الخالف بخير، هذا هو الأشهر. وقال جماعة وجماعات من أهل اللغة منهم أبو زيد: يقال كل واحد منهما بالفتح والإسكان، ومنهم من جوز الفتح في الشر، ولم يجوز الإسكان في الخير، والله أعلم. قوله: فنزل بقناة هكذا هو في بعض الأصول المحققة بقناة بالقاف المفتوحة وآخره تاء التأنيث وهو غير مصروف للعلمية والتأنيث، وهكذا ذكره أبو عبد الله الحميدي في الجمع بين الصحيحين ووقع في أكثر الأصول، ولمعظم رواة كتاب مسلم بفنائه بالفاء المكسورة وبالمد وآخره هاء الضمير قبلها همزة، والفناء ما بين أيدي المنازل والدور، وكذا رواه أبو عوانة الأسفرايني. قال القاضي عياض رحمه الله في رواية السمرقندي بقناة وهو الصواب، وقناة واد من أودية المدينة عليه مال من أموالها، قال: ورواية الجمهور بفنائه وهو خطأ وتصحيف.
قوله صلى الله عليه وسلم: (يهتدون بهديه) هو بفتح الهاء وإسكان الدال أي بطريقته وسمته. قول مسلم رحمه الله: (ولم يذكر قدوم ابن مسعود واجتماع ابن عمر معه) هذا مما أنكره الحريري في كتابه درة الغواص فقال: لا يقال اجتمع فلان مع فلان، وإنما يقال اجتمع فلان وفلان، وقد خالفه الجوهري فقال في صحاحه: جامعه على كذا أي اجتمع معه.
*2* باب تفاضل أهل الإِيمان فيه، ورجحان أهل اليمن فيه
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرْيْبٍ. حَدّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ. كُلّهُمْ عَنْ إِسُمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ، وَاللّفْظُ لَهُ. حَدّثَنَا مُعْتَمِرٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: سَمِعْتُ قَيْسا يَرْوِي عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ. قَالَ: أَشَارَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ إِلى الْيَمَنِ، فَقَالَ: "أَلاَ إِنّ الاْيْمَانَ هَهُنَا. وَإِنّ الْقَسْوَةَ وَغِلَظَ الْقُلُوبِ فِي الْفَدّادِينَ عِنْدَ أُصُولِ أَذْنَابِ الإِبِلِ. حَيْثُ يَطْلُعُ قَرْنَا الشّيْطَانِ. فِي رَبِيعَةَ وَمُضَرَ".
حدّثنا أَبُو الرّبِيعِ الزّهْرَانِيّ أَنْبَأَنَا حَمّادٌ: حَدّثَنَا أَيّوبُ: حَدّثَنَا مُحمّدٌ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ. هُمْ أَرَقّ أَفْئِدَةً. الإِيمَانُ يَمَانٍ. وَالْفِقْهُ يَمَانٍ. وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا ابْنُ أَبي عَدِيَ. ح وَحَدّثَنِي عَمْرٌو النّاقِدُ: حَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقُ، كِلاَهُمَا عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ.
وحدّثني عْمرُو النّاقِدُ وَ حَسَنٌ الْحُلْوَانِيّ، قَالاَ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) حَدّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ الأَعْرَجِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ. هُمْ أَضْعفُ قُلُوبا وَأَرَقّ أَفْئِدَةً. الْفِقْهُ يَمَانٍ. وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "رَأْسُ الْكُفْرِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ. وَالْفَخْرُ وَالخُيَلاَءُ فِي أَهْلِ الْخَيْلِ وَالاْبِلِ، الْفَدّادِينَ، أَهْلِ الْوَبَرِ. وَالسّكِيِنةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ.
وحدّثني يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، قَالَ ابْنُ أَيّوبَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ. قَالَ: أَخْبَرَنِي اْلْعَلاَءُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "الإِيمَانُ يَمَانٍ. وَالْكُفْرُ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالسّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ. وَالْفَخْرُ وَالْرّيَاءُ فِي الْفَدّادِينَ أَهْلِ الْخَيْلِ والْوَبَرِ".
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحمَنِ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: الْفَخْرُ وَالخُيَلاَءُ فِي الْفَدّادِينَ، أَهْلِ الْوَبَرِ. وَالسّكِيِنَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ.
وحدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ. أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزّهْرِيّ، بِذَا الاْسْنَادِ مِثْلَهُ. وَزَادَ "الإِيمَانُ يَمَانٍ، وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ".
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزّهْرِيّ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "جَاءَ أَهْلُ الْيَمَنِ. هُمْ أَرَقّ أَفْئِدَةً وَأَضْعفُ قُلُوبا. الإِيمَانُ يَمَانٍ وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ. السّكِينَةُ فِي أَهْلِ الْغَنَمِ. وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاَءُ فِي الْفَدّادِينَ أَهْلِ الْوَبَرِ. قِبَلَ مَطْلِعِ الشّمْسِ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "أَتَاكُمْ أَهْلُ الْيَمَنِ. هُمْ أَلْيَنُ قُلُوبا، وَأَرَقّ أَفْئِدَةً: الإِيمَانُ يَمَانٍ. وَالْحِكْمَةُ يَمَانِيَةٌ. رأْسُ الْكُفْرِ، قِبَلَ الْمَشْرِقِ".
وحدّثنا قُتَيْبَةِ بْنُ سَعِيدٍ وَ زُهْيرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الاْسْنَادِ وَلَمْ يَذْكُرْ: "رَأْسُ الْكُفْرِ قِبَلَ الْمَشْرِقِ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ. ح وَحَدّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ: حَدّثَنَا مُحمّدُ (يَعْنِي ابْنَجَعْفَرٍ) قَالاَ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الاْسْنَادِ مِثْلَ حَدِيثِ جَرِيرٍ. وَزَادَ "وَالْفَخْرُ وَالْخُيَلاَءُ فِي أَصْحَابِ الاْبِلِ. وَالسّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فِي أَصْحَابِ الشّاء".
وحدّثنا إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا عَبْدِ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ الْمَخْزُومِيّ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "غِلَظُ الْقُلُوبِ، وَالْجَفَاءُ فِي الْمَشْرِقِ. وَالإيْمَانُ فِي أَهْلِ الْحِجَازِ".
في هذا الباب (أشار النبي صلى الله عليه وسلم بيده نحو اليمن فقال: "ألا إن الإيمان ههنا، وأن القسوة وغلظ القلوب في الفدادين عند أصول أذناب الإبل حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر").
وفي رواية: "جاء أهل اليمن هم أرق أفئدة الإيمان يمان، والفقه يمان، والحكمة يمانية" وفي رواية: "أتاكم أهل اليمن هم أضعف قلوبا وأرق أفئدة، الفقه يمان، والحكمة يمانية". وفي رواية: "رأس الكفر نحو المشرق والفخر والخيلاء في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر والسكينة في أهل الغنم". وفي رواية: "الإيمان يمان، والكفر قبل المشرق، والسكينة في أهل الغنم، والفخر والرياء في الفدادين أهل الخيل والوبر". وفي رواية: "أتاكم أهل اليمن هم ألين قلوبا وأرق أفئدة، الإيمان يمان، والحكمة يمانية، ورأس الكفر قبل المشرق".
وفي رواية: "غلظ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز) قد اختلف في مواضع من هذا الحديث، وقد جمعها القاضي عياض رحمه الله، ونقحها مختصرة بعده الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله، وأنا أحكي ما ذكره. قال: أما ما ذكر من نسبة الإيمان إلى أهل اليمن فقد صرفوه عن ظاهره من حيث إن مبدأ الإيمان من مكة ثم من المدينة حرسهما الله تعالى، فحكى أبو عبيد إمام الغرب ثم من بعده في ذلك أقوالاً، أحدها: أنه أراد بذلك مكة فإنه يقال: إن مكة من تهامة وتهامة من أرض اليمن. والثاني: أن المراد مكة المدينة فإنه يروى في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام وهو بتبوك ومكة والمدينة حينئذٍ بينه وبين اليمن فأشار إلى ناحية اليمن وهو يريد مكة والمدينة فقال: "الإيمان يمان" ونسبهما إلى اليمن لكونهما حينئذٍ من ناحية اليمن كما قالوا الركن اليماني وهو بمكة لكونه إلى ناحية اليمن. والثالث: ما ذهب إليه كثير من الناس وهو أحسنها عند أبي عبيد أن المراد بذلك الأنصار لأنهم يمانون في الأصل فنسب الإيمان إليهم لكونهم أنصاره. قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: ولو جمع أبو عبيد ومن سلك سبيله طرق الحديث بألفاظه كما جمعها مسلم وغيره وتأملوها لصاروا إلى غير ما ذكروه ولما تركوا الظاهر، ولقضوا بأن المراد اليمن وأهل اليمن على ما هو المفهوم من إطلاق ذلك، إذ من ألفاظه: أتاكم أهل اليمن والأنصار من جملة المخاطبين بذلك فهم إذن غيرهم. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "جاء أهل اليمن" وإنما جاء حينئذٍ غير الأنصار، ثم أنه صلى الله عليه وسلم وصفهم بما يقضي بكمال إيمانهم ورتب عليه الإيمان، فكان ذلك إشارة للإيمان إلى من أتاه من أهل اليمن لا إلى مكة والمدينة، ولا مانع من إجراء الكلام على ظاهره وحمله على أهل اليمن حقيقة، لأن من اتصف بشيء وقوى قيامه به وتأكد اطلاعه منه ينسب ذلك الشيء إليه إشعارا بتميزه به وكمال حاله فيه، وهكذا كان حال أهل اليمن حينئذٍ في الإيمان، وحال الوافدين منه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أعقاب موته كأويس القرني وأبي مسلم الخولاني رضي الله عنهما وشبههما ممن سلم قلبه وقوى إيمانه، فكانت نسبة الإيمان إليهم لذلك إشعارا بكمال إيمانهم من غير أن يكون في ذلك نفي له عن غيرهم، فلا منافاة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: "الإيمان في أهل الحجاز" ثم المراد بذلك الموجودون منهم حينئذٍ لا كل أهل اليمن في كل زمان فإن اللفظ لا يقتضيه، هذا هو الحق في ذلك، ونشكر الله تعالى على هدايتنا له، والله أعلم. قال: وأما ما ذكر من الفقه والحكمة فالفقه هنا عبارة عن الفهم في الدين، واصطلح بعد ذلك الفقهاء وأصحاب الأصول على تخصيص الفقه بإدراك الأحكام الشرعية العملية بالاستدلال على أعيانها. وأما الحكمة ففيها أقوال كثيرة مضطربة قد اقتصر كل من قائليها على بعض صفات الحكمة، وقد صفا لنا منها أن الحكمة عبارة عن العلم المتصف بالأحكام المشتمل على المعرفة بالله تبارك وتعالى المصحوب بنفاذ البصيرة، وتهذيب النفس، وتحقيق الحق والعمل به، والصد عن اتباع الهوى والباطل، والحكيم من له ذلك. وقال أبو بكر بن دريد: كل كلمة وعظتك وزجرتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة وحكم، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر حكمة" وفي بعض الروايات حكما، والله أعلم. قال الشيخ: وقوله صلى الله عليه وسلم: "يمان ويمانية" هو بتخفيف الياء عند جماهير أهل العربية، لأن الألف المزيدة فيه عوض من ياء النسب المشددة فلا يجمع بينهما. وقال ابن السيد في كتابه الاقتضاب: حكى المبرد وغيره أن التشديد لغة، قال الشيخ: وهذا غريب، قلت: وقد حكى الجوهري وصاحب المطالع وغيرهما من العلماء عن سيبويه أنه حكى عن بعض العرب أنهم يقولون اليماني بالياء المشددة، وأنشد لأمية بن خلف:
يمانيا يظل يشب كيراوينفخ دائما لهب الشواظ
والله أعلم. قال الشيخ: وقوله صلى الله عليه وسلم: "ألين قلوبا وأرق أفئدة" المشهور أن الفؤاد هو القلب، فعلى هذا يكون كرر لفظ القلب بلفظين وهو أولى من تكريره بلفظ واحد، وقيل: الفؤاد غير القلب وهو عين القلب، وقيل: باطن القلب، وقيل: غشاء القلب. وأما وصفها باللين والرقة والضعف فمعناه أنها ذات خشية واستكانة سريعة الاستجابة والتأثر بقوارع التذكير، سالمة من الغلظ والشدة والقسوة التي وصف بها قلوب الاَخرين. قال: وقوله صلى الله عليه وسلم في الفدادين فزعم أبو عمرو الشيباني أنه بتخفيف الدال وهو جمع فداد بتشديد الدال، وهو عبارة عن البقر التي يحرث عليها، حكاه عنه أبو عبيد وأنكره عليه، وعلى هذا المراد بذلك أصحابها فحذف المضاف، والصواب في الفدادين بتشديد الدال جمع فداد بدالين أولاهما مشددة، وهذا قول أهل الحديث والأصمعي وجمهور أهل اللغة وهو من الفديد وهو الصوت الشديد، فهم الذين تعلو أصواتهم في إبلهم وخيلهم وحروثهم ونحو ذلك. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: هم المكثرون من الإبل الذين يملك أحدهم المائتين منها إلى الألف. وقوله: إن القسوة في الفدادين عند أصول أذناب الإبل معناه الذين لهم جلبة وصياح عند سوقهم لها. وقوله صلى الله عليه وسلم: "حيث يطلع قرنا الشيطان في ربيعة ومضر". قوله ربيعة ومضر بدل من الفدادين. وأما قرنا الشيطان فجانبا رأسه، وقيل: هما جمعاه اللذان يغريهما بإضلال الناس، وقيل: شيعتاه من الكفار، والمراد بذلك اختصاص المشرق بمزيد من تسلط الشيطان ومن الكفر، كما قال في الحديث الاَخر: "رأس الكفر نحو المشرق" وكان ذلك في عهده صلى الله عليه وسلم حين قال ذلك، ويكون حين يخرج الدجال من المشرق، وهو فيما بين ذلك منشأ الفتن العظيمة ومثار الكفرة الترك الغاشمة العاتية الشديدة البأس. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الفخر والخيلاء" فالفخر هو الافتخار وعد المآثر القديمة تعظيما، والخيلاء الكبر واحتقار الناس. وأما قوله في أهل الخيل والإبل الفدادين أهل الوبر، فالوبر وإن كان من الإبل دون الخيل فلا يمتنع أن يكون قد وصفهم بكونهم جامعين بين الخيل والإبل والوبر. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "والسكينة في أهل الغنم" فالسكينة الطمأنينة والسكون على خلاف ما ذكره من صفة الفدادين، هذا آخر ما ذكره الشيخ أبو عمرو رحمه الله وفيه كفاية فلا نطول بزيادة عليه، والله أعلم. وأما أسانيد الباب فقال مسلم رحمه الله: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو أسامة قال: وحدثنا ابن نمير، حدثنا أبي قال: وحدثنا أبو كريب، حدثنا ابن إدريس، كلهم عن إسماعيل بن أبي خالد، قال: وحدثنا يحيى بن حبيب، حدثنا معتمر عن إسماعيل قال: سمعت قيسا يروي عن أبي مسعود. هؤلاء الرجال كلهم كوفيون إلا يحيى بن حبيب ومعتمرا فإنهما بصريان، وقد تقدم أن اسم ابن أبي شيبة عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أبي شيبة، وأن أبا أسامة حماد بن أسامة وابن نمير محمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب محمد بن العلاء وابن إدريس عبد الله وأبو خالد هرمز وقيل سعد وقيل كثير، وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنهم، وفي الإسناد الاَخر الدارمي، وقد تقدم في مقدمة الكتاب أنه منسوب إلى جد للقبيلة اسمه دارم، وفيه أبو اليمان واسمه الحكم بن نافع، وبعده أبو معاوية محمد بن خازم بالخاء المعجمة والأعمش سليمان بن مهران وأبو صالح ذكوان وابن جريج عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وأبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس، وكل هذا وإن كان ظاهرا وقد تقدم، فإنما أقصد بتكريره وذكره الإيضاح لمن لا يكون من أهل هذا الشأن، فربما وقف على هذا الباب وأراد معرفة اسم بعض هؤلاء، ليتوصل به إلى مطالعة ترجمته ومعرفة حاله، أو غير ذلك من الأغراض، فسهلت عليه الطريق بعبارة مختصرة، والله أعلم بالصواب.
*2* باب بيان أنه لا يدخل الجنة إِلا المؤمنون وأن محبة المؤمنين من الإِيمان وأن إفشاء السلام سبب لحصولها
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَ وَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّى تُؤْمِنُوا. وَلاَ تُؤْمِنُوا حَتّى تَحَابّوا. أَوَلاَ أَدُلّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ "أَفْشُوا السّلاَمَ بَينَكُمْ".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: أَنْبَأَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الاْسُنَادِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! "لاَ تَدْخُلُونَ الْجَنّةَ حَتّى تُؤْمِنُوا" بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٍ.
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم. وفي الرواية الأخرى: والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا) هكذا هو في جميع الأصول والروايات ولا تؤمنوا بحذف النون من آخره وهي لغة معروفة صحيحة. وأما معنى الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تؤمنوا حتى تحابوا" معناه لا يكمل إيمانكم ولا يصلح حالكم في الإيمان إلا بالتحاب. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا" فهو على ظاهره وإطلاقه فلا يدخل الجنة إلا من مات مؤمنا وإن لم يكن كامل الإيمان، فهذا هو الظاهر من الحديث. وقال الشيخ أبو عمرو رحمه الله معنى الحديث: لا يكمل إيمانكم إلا بالتحاب، ولا تدخلون الجنة عند دخول أهلها إذا لم تكونوا كذلك، وهذا الذي قاله محتمل، والله أعلم. وأما قوله: "أفشوا السلام بينكم" فهو بقطع الهمزة المفتوحة، وفيه الحث العظيم على إفشاء السلام وبذله للمسلمين كلهم من عرفت ومن لم تعرف كما تقدم في الحديث الاَخر، والسلام أول أسباب التألف ومفتاح استجلاب المودة، وفي إفشائه تمكن ألفة المسلمين بعضهم لبعض، وإظهار شعارهم المميز لهم من غيرهم من أهل الملل، مع ما فيه من رياضة النفس ولزوم التواضع وإعظام حرمات المسلمين، وقد ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: "ثلاث من جمعهن فقد جمع الإيمان: الإنصاف من نفسك، وبذل السلام للعالم، والإنفاق من الاقتار". وروى غير البخاري هذا الكلام مرفوعا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبذل السلام للعالم، والسلام على من عرفت ومن لم تعرف، وإفشاء السلام كلها بمعنى واحد، وفيها لطيفة أخرى وهي أنها تتضمن رفع التقاطع والتهاجر والشح ناء وفساد ذات البين التي هي الحالقة، وأن سلامه لله لا يتبع فيه هواه ولا يخص أصحابه وأحبابه به، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
*2* باب بيان أن الدين النصيحة
*حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبّادٍ الْمَكّيّ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ. قَالَ: قُلْتُ لِ سُهَيْلٍ: إِنّ عَمْرا حَدّثَنَا عَنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِيكَ. قَالَ: وَرَجَوْتُ أَنْ يُسْقِطَ عَنّي رَجلاً. قَالَ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ مِنَ الّذِي سَمعَهُ مِنْهُ أَبِي. كَانَ صَدِيقَا لَهُ بِالشّامِ. ثُم حَدّثَنَا سُفْيَان، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ تَمِيمٍ الدّارِيّ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الدّينُ النّصِيحَةُ" قُلْنَا: لِمَنْ؟ قَالَ: "لله وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامّتِهِمْ".
حدّثني مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ: حَدّثَنَا ابْنُ مَهْدِيَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُهَيْلٍ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللّيْثِيّ، عَنْ تَمِيمٍ الدّارِيّ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.
وحدّثني أُمَيّةُ بْنُ بِسْطَامَ: حَدّثَنَا يَزِيدُ (يَعْنِي ابْنُ زُرَيْعِ). حَدّثَنَا رَوْحٌ وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ حَدّثَنَا سُهَيْلٌ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ سَمِعَهُ وَهُوَ يُحَدّثُ أَبَا صَالِحٍ، عَنْ تَمِيمٍ الدّارِيّ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدّثَنَا عَبْدِ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ وَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزّكَاةِ وَعَلَىَ النّصْحِ لِكُلّ مُسْلِمٍ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا سُفْيَان عَنْ زِيَادِ بْنِ عِلاَقَةَ سَمِعَ جَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ: بَايَعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلى النّصْحِ لِكُلّ مُسْلِمٍ.
حدّثنا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ وَ يَعْقُوبُ الدّوْرَقِيّ، قَالاَ: حَدّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ سَيّارٍ، عَنِ الشّعْبِيّ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: بَايَعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَى السّمْعِ وَالطّاعَةِ. فَلَقّنَنِي "فِيمَا اسْتَطعْتَ" وَالنّصْحِ لِكُلّ مُسْلِمٍ. قَالَ: يَعْقُوبُ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ: حَدّثَنَا سَيّارٌ.
فيه (عن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الدين النصيحة، قلنا: لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) هذا حديث عظيم الشأن وعليه مدار الإسلام كما سنذكره من شرحه، وأما ما قاله جماعات من العلماء أنه أحد أرباع الإسلام أي أحد الأحاديث الأربعة التي تجمع أمور الإسلام فليس كما قالوه، بل المدار على هذا وحده، وهذا الحديث من أفراد مسلم، وليس لتميم الداري في صحيح البخاري عن النبيّ صلى الله عليه وسلم شيء ولا له في مسلم عنه غير هذا الحديث، وقد تقدم في آخر مقدمة الكتاب بيان الاختلاف في نسبة تميم وأنه داري أو ديري. وأما شرح هذا الحديث فقال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله: النصيحة كلمة جامعة معناها حيازة الحظ للمنصوح له، قال: ويقال هو من وجيز الأسماء ومختصر الكلام، وليس في كلام العرب كلمة مفردة يستوفى بها العبارة عن معنى هذه الكلمة، كما قالوا في الفلاح ليس في كلام العرب كلمة أجمع لخير الدنيا والاَخرة منه، قال وقيل: النصيحة مأخوذة من نصح الرجل ثوبه إذا خاطه، فشبهوا فعل الناصح فيما يتحراه من صلاح المنصوح له بما يسده من خلل الثوب، قال وقيل: إنها مأخوذة من نصحت العسل إذا صفيته من الشمع، شبهوا تخليص القول من الغش بتخليص العسل من الخلط، قال: ومعنى الحديث عماد الدين وقوامه النصيحة، كقوله: الحج عرفة أي عماده ومعظمه عرفة. وأما تفسير النصيحة وأنواعها فقد ذكر الخطابي وغيره من العلماء فيها كلاما نفيسا أنا أضم بعضه إلى بعض مختصرا، قالوا: أما النصيحة لله تعالى فمعناها منصرف إلى الإيمان به، ونفي الشريك عنه، وترك الإلحاد في صفاته، ووصفه بصفات الكمال والجلال كلها، وتنزيهه سبحانه وتعالى من جميع النقائص، والقيام بطاعته، واجتناب معصيته، والحب فيه والبغض فيه، وموالاة من أطاعه، ومعاداة من عصاه، وجهاد من كفر به، والاعتراف بنعمته وشكره عليها، والإخلاص في جميع الأمور، والدعاء إلى جميع الأوصاف المذكورة والحث عليها، والتلطف في جميع الناس أو من أمكن منهم عليها. قال الخطاب رحمه الله: وحقيقة هذه الإضافة راجعة إلى العبد في نصحه نفسه، فالله تعالى غني عن نصح الناصح. وأما النصيحة لكتابه سبحانه وتعالى فالإيمان بأنه كلام الله تعالى وتنزيله لا يشبهه شيء من كلام الخلق، ولا يقدر على مثله أحد من الخلق، ثم تعظيمه وتلاوته حق وتلاوته وتحسينها والخشوع عندها وإقامة حروفه في التلاوة والذب عنه لتأويل المحرفين وتعرض الطاعنين والتصديق بما فيه، والوقوف مع أحكامه، وتفهم علومه وأمثاله، والاعتبار بمواعظه، والتفكر في عجائبه، والعمل بمحكمه، والتسليم لمتشابهه، والبحث عن عمومه وخصوصه وناسخه ومنسوخة، ونشر علومه والدعاء إليه وإلى ما ذكرنا من نصيحته. وأما النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتصديقه على الرسالة، والإيمان بجميع ما جاء به، وطاعته في أمره ونهيه، ونصرته حيا وميتا، ومعاداة من عاداه وموالاة من والاه، وإعظام حقه وتوقيره، وإحياء طريقته وسنته، وبث دعوته ونشر شريعته ونفي التهمة عنها واستثارة علومها، والتفقه في معانيها والدعاء إليها، والتلطف في تعلمها وتعليمها وإعظامها وإجلالها، والتأدب عند قراءتها، والإمساك عن الكلام فيها بغير علم، وإجلال أهلها لانتسابهم إليها، والتخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، ومحبة أهل بيته وأصحابه، ومجانية من ابتدع في سنته أو تعرض لأحد من أصحابه ونحو ذلك. وأما النصيحة لأئمة المسلمين فمعاونتهم على الحق وطاعتهم فيه وأمرهم به، وتنبيهم وتذكيرهم برفق ولطف، وإعلامهم بما غفلوا عنه ولم يبلغهم من حقوق المسلمين، وترك الخروج عليهم، وتألف قلوب الناس لطاعتهم. قال الخطابي رحمه الله: ومن النصيحة لهم الصلاة خلفهم، والجهاد معهم، وأداء الصدقات إليهم، وترك الخروج بالسيف عليهم إذا ظهر منهم حيف أو سوء عشرة، وأن لا يغروا بالثناء الكاذب عليهم، وأن يدعى لهم بالصلاح، وهذا كله على أن المراد بأئمة المسلمين الخلفاء وغيرهم ممن يقوم بأمور المسلمين من أصحاب الولايات وهذا هو المشهور. وحكاه أيضا الخطابي ثم قال: وقد يتأول ذلك على الأئمة الذين هم علماء الدين، وأن من نصيحتهم قبول ما رووه، وتقليدهم في الأحكام، وإحسان الظن بهم. وأما نصيحة عامة المسلمين وهم من عدا ولاة الأمر فإرشادهم لمصالحهم في آخرتهم ودنياهم وكف الأذى عنهم، فيعلمهم ما يجهلونه من دينهم، ويعينهم عليه بالقول والفعل، وستر عوراتهم، وسد خلاتهم، ودفع المضار عنهم وجلب المنافع لهم، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر برفق وإخلاص، والشف قة عليهم، وتوقير كبيرهم ورحمة صغيرهم، وتخولهم بالموعظة الحسنة، وترك غشهم وحسدهم، وأن يحب لهم ما يحب لنفسه من الخير ويكره لهم ما يكره لنفسه من المكروه، والذب عن أموالهم وأعراضهم، وغير ذلك من أحوالهم بالقول والفعل، وحثهم على التخلق بجميع ما ذكرناه من أنواع النصيحة، وتنشيط هممهم إلى الطاعات، وقد كان في السلف رضي الله عنه من تبلغ به النصيحة إلى الإضرار بدنياه، والله أعلم.
هذا آخر ما تلخص في تفسير النصيحة. قال ابن بطال رحمه الله في هذا الحديث: إن النصيحة تسمى دينا وإسلاما، وأن الدين يقع على العمل كما يقع على القول. قال: والنصيحة فرض يجزي فيه من قام به ويسقط عن الباقين. قال: والنصيحة لازمة على قدر الطاقة إذا علم الناصح أنه يقبل نصحه ويطاع أمره وأمن على نفسه المكروه، فإن خشي على نفسه أذى فهو في سعة، والله أعلم.
وأما حديث جرير رضي الله عنه (قال: بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم. وفي الرواية الأخرى: على السمع والطاعة فلقنني فيما استطعت) وإنما اقتصر على الصلاة والزكاة لكونهما قرينتين، وهما أهم أركان الإسلام بعد الشهادتين وأظهرها، ولم يذكر الصوم وغيره لدخولها في السمع والطاعة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما استطعت" موافق لقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} والرواية استطعت بفتح التاء وتلقينه من كمال شف قته صلى الله عليه وسلم، إذ قد يعجز في بعض الأحوال، فلو لم يقيده بما استطاع لأخل بما التزم في بعض الأحوال، والله أعلم. ومما يتعلق بحديث جرير منقبة ومكرمة لجرير رضي الله عنه رواها الحافظ أبو القاسم الطبراني بإسناده اختصارها: أن جريرا أمر مولاه أن يشتري له فرسا فاشترى له فرسا بثلثمائة درهم وجاء به وبصاحبه لينقده الثمن، فقال جرير لصاحب الفرس: فرسك خير من ثلثمائة درهم أتبيعه بأربعمائة درهم؟ قال: ذلك إليك يا أبا عبد الله، فقال: فرسك خير من ذلك أتبيعه بخمسمائة درهم؟ ثم لم يزل يزيده مائة فمائة وصاحبه يرضى وجرير يقول: فرسك خير إلى أن بلغ ثمانمائة درهم فاشتراه بها، فقيل له في ذلك فقال: إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، والله أعلم. وأما ما يتعلق بأسانيد الباب ففيه أمية بن بسطام، وقد قدمنا في المقدمة الخلاف في أنه هل يصرف أو لا يصرف؟ وفي أن الباء مكسورة على المشهور، وأن صاحب المطالع حكى أيضا فتحها، وفيه زياد بن علاقة بكسر العين وبالقاف، وفيه سريج بن يونس بالسين المهملة وبالجيم، وفيه الدورقي بفتح الدال، وقد تقدم في المقدمة بيان هذه النسبة، والله أعلم. وأما قول مسلم: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن نمير وأبو أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير، فهذا إسناد كله كوفيون. وأما قوله: حدثنا سريج ويعقوب قالا: حدثنا هشيم عن سيار عن الشعبي عن جرير. ثم قال مسلم في آخره: قال يعقوب في روايته حدثنا سيار ففيه تنبيه على لطيفة وهي أن هشيما مدلس، وقد قال عن سيار والمدلس إذا قال عن لا يحتج به إلا إن ثبت سماعه من جهة أخرى، فروى مسلم رحمه الله حديثه هذا عن شيخين وهما سريج ويعقوب. فأما سريج فقال: حدثنا هشيم عن سيار. وأما يعقوب فقال: حدثنا هشيم قال: حدثنا سيار، فبين مسلم رحمه الله اختلاف عبارة الراويين في نقلهما عبارته، وحصل منهما اتصال حديثه، ولم يقتصر مسلم رحمه الله على إحدى الروايتين، وهذا من عظيم إتقانه ودقيق نظره وحسن احتياطه رضي الله عنه، وسيار بتقديم السين على الياء، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
*2* باب بيان نقصان الإِيمان بالمعاصي ونفيه عن المتلبس بالمعصية، على إرادة نفي كماله
*حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عِمْرَانَ التّجِيِبِيّ: أَنْبَأَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرّحمَنِ وَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ يَقُولاَنِ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَزْنِي الزّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلاَ يَسْرِقُ السّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ".
قَالَ ابْنُ شِهَاب: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدّثهُمْ هَؤُلاَءِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ثُمّ يَقُولُ: وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ معهن: "وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ، يَرْفَعُ النّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ، حِينَ يَنْتَهِبُهَا، وَهُوَ مُؤْمِنٌ".
وحدّثني عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي عَنْ جَدّي، قَالَ: حَدّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ. قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو بَكْرِ ابْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ قَالَ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لاَ يَزْنِي الزّانِي" واَقْتَصّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ. يَذْكُرُ مَعَ ذِكْرَ النّهُبَةِ. وَلَمْ يَذْكُرْ ذَاتَ شَرَفٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدّثَنِي سَعِيدٍ بْنُ الْمُسَيِبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ هَذَا. إلاّ النّهْبَةَ.
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرّازِيّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عِيسَىَ بْنُ يُونُسَ. حَدّثَنَا الأَوْزَاعِيّ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ ابْنِ الْمُسَيّبِ وَ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِ حَدِيثِ عقَيْلٍ ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَذَكَرَ "النّهبَةَ". وَلَمْ يَقُلْ: "ذَاتَ شَرَفٍ".
وحدّثني حَسَنُ بْنُ عَلِيَ الْحُلْوَانِيّ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُطّلِبِ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ، عَنِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، مَوْلَى مَيْمُونَةَ، وَ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم
وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيرِ (يَعْنِي الدّرَاوَرْدِيّ) عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كُلّ هَؤُلاَءِ بِمِثْلِ حَدِيثِ الزّهْرِيّ. غَيْرَ أَنّ الْعَلاَءَ وَصَفْوَانَ بْنَ سَلِيْمٍ لَيْسَ فِي حَدِيِثِهِما "يَرْفَعُ النّاسُ إِلَيْهِ فِيهَا أَبْصَارَهُمْ" وَفِي حَدِيثِ هَمّامٍ "يَرْفَعُ إِلَيْهِ الْمُؤْمِنُونَ أَعْيْنَهُمْ فِيهَا وَهُوَ حِينَ يَنْتَهِبُهَا مُؤْمِنٌ" وَزَادَ: "وَلاَ يَغُلّ أَحَدُكُمْ حِينَ يَغُلّ وَهُوَ مُؤْمِنٌ. فَإِيّاكُمْ إِيّاكُمْ".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عُدِيّ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَزْنِي الزّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلاَ يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ. وَالتّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ".
حدّثني مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، رَفَعَهُ، قَالَ "لاَ يَزْنِي الزّانِي" ثُمّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
في الباب قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، الحديث) وفي رواية: "ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن" وفي رواية: "والتوبة معروضة بعد". هذا الحديث مما اختلف العلماء في معناه، فالقول الصحيح الذي قاله المحققون أن معناه لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، ويراد نفي كماله ومختاره، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الاَخرة. وإنما تأولناه على ما ذكرناه لحديث أبي ذر وغيره: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق" وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور "أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا" إلى آخره. ثم قال لهم صلى الله عليه وسلم: "فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارته، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا وإن شاء عذبه"، فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح مع قول الله عز وجل: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أو لا، وإن شاء عذبهم ثم أدخلهم الجنة. وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه، ثم إن هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة مستعمل فيها كثير، وإذا ورد حديثان مختلفان ظاهرا وجب الجمع بينهما وقد وردا هنا فيجب الجمع وقد جمعنا، وتأول بعض العلماء هذا الحديث على من فعل ذلك مستحلاً له مع علمه بورود الشرع بتحريمه. وقال الحسن وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري معناه: ينزع منه اسم المدح الذي يسمى به أولياء الله المؤمنين ويستحق اسم الذم فيقال: سارق وزان وفاجر وفاسق: وحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه ينزع منه نور الإيمان وفيه حديث مرفوع. وقال المهلب: ينزع منه بصيرته في طاعة الله تعالى. وذهب الزهري إلى أن هذا الحديث وما أشبهه يؤمن بها ويمر على ما جاءت ولا يخاض في معناها وإنا لا نعلم معناها، وقال: أمروها كما أمرها من قبلكم. وقيل في معنى الحديث غير ما ذكرته مما ليس بظاهر بل بعضها غلط فتركتها، وهذه الأقوال التي ذكرتها في تأويله كلها محتملة، والصحيح في معنى الحديث ما قدمناه أولاً والله أعلم. وأما قول ابن وهب: أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: سمعت أبا سلمة وسعيد بن المسيب يقولان قال أبو هريرة: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" إلى آخره. (قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن أن أبا بكر كان يحدثهم هؤلاء عنأبي هريرة ثم يقول: وكان أبو هريرة يلحق معهن ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن) فظاهر هذا الكلام أن قوله: ولا ينتهب إلى آخره ليس من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام أبي هريرة رضي الله عنه موقوف عليه، ولكن جاء في رواية أخرى ما يدل على أنه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم. وقد جمع الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في ذلك كلاما حسنا فقال: روى أبو نعيم في مخرجه على كتاب مسلم رحمه الله من حديث همام بن منبه هذا الحديث وفيه: "والذي نفسي بيده لا ينتهب أحدكم" وهذا مصرح برفعه إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: ولم يستغن عن ذكر هذا بأن البخاري رواه من حديث الليث بإسناده هذا الذي ذكره مسلم عنه معطوفا فيه ذكر النهبة على ما بعد قوله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نسقا من غير فصل بقوله: وكان أبو هريرة يلحق معهن ذلك، وذلك مراد مسلم رحمه الله بقوله: واقتص الحديث يذكر مع ذكر النهبة ولم يذكر ذات شرف، وإنما لم يكتف بهذا في الاستدلال على كون النهبة من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلم، لأنه قد يعد ذلك من قبل المدرج في الحديث من كلام بعض رواته استدلالاً بقول من فصل فقال: وكان أبو هريرة يلحق معهن. وما رواه أبو نعيم يرتفع عن أن يتطرق إليه هذا الاحتمال، وظهر بذلك أن قول أبي بكر بن عبد الرحمن: وكان أبو هريرة يلحق معهن معناه يلحقها رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا من عند نفسه، وكأن أبا بكر خصها بذلك لكونه بلغه أن غيره لا يرويها، ودليل ذلك ما تراه من رواية مسلم رحمه الله الحديث من رواية يونس وعقيل عن ابن شهاب عن أبي سلمة وابن المسيب عن أبي هريرة من غير ذكر النهبة. ثم إن في رواية عقيل أن ابن شهاب روى ذكر النهبة عن أبي بكر بن عبد الرحمن نفسه، وفي رواية يونس عن عبد الملك بن أبي بكر عنه، فكأنه سمع ذلك من ابنه عنه ثم سمعه منه نفسه.
وأما قول مسلم رحمه الله: (واقتص الحديث يذكر مع ذكر النهبة) فكذا وقع يذكر من غير هاء الضمير، فإما أن يقال حذفها مع إرادتها، وإما أن يقرأ يذكر بضم أوله وفتح الكاف على ما لم يسم فاعله على أنه حال أي اقتص الحديث مذكورا مع ذكر النهبة، هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو رحمه الله، والله أعلم. وأما قوله: (ذات شرف) فهو في الرواية المعروفة والأصول المشهورة المتداولة بالشين المعجمة المفتوحة، وكذا نقله القاضي عياض رحمه الله عن جميع الرواة لمسلم، ومعناه ذات قدر عظيم، وقيل ذات استشراف الناس لها ناظرين إليها رافعين أبصارهم. قال القاضي عياض وغيره رحمهم الله: ورواه إبراهيم الحربي بالسين المهملة. قال الشيخ أبو عمرو: وكذا قيده بعضهم في كتاب مسلم وقال: معناه أيضا ذات قدر عظيم، والله أعلم. والنهبة بضم النون وهي ما ينهبه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يغل) فهو بفتح الياء وضم الغين وتشديد اللام ورفعها وهو من الغلول وهو الخيانة. وأما قوله: (فإياكم إياكم) فهكذا هو في الروايات إياكم إياكم مرتين، ومعناه احذروا احذروا، يقال: إياك وفلانا أي احذره، ويقال: إياك أي احذر من غير ذكر فلان كما وقع هنا.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (والتوبة معروضة بعد) فظاهر، وقد أجمع العلماء رضي الله عنهم على قبول التوبة ما لم يغرغر كما جاء في الحديث، وللتوبة ثلاثة أركان: أن يقلع عن المعصية، ويندم على فعلها، ويعزم أن لا يعود إليها، فإن تاب من ذنب ثم عاد إليه لم تبطل توبته، وإن تاب من ذنب وهو متلبس بآخر صحت توبته، هذا مذهب أهل الحق، وخالفت المعتزلة في المسألتين، والله أعلم. قال القاضي عياض رحمه الله: أشار بعض العلماء إلى أن ما في هذا الحديث تنبيه على جميع أنواع المعاصي والتحذير منها، فنبه بالزنا على جميع الشهوات، وبالسرقة على الرغبة في الدنيا والحرص على الحرام، وبالخمر على جميع ما يصد عن الله تعالى، ويوجب الغفلة عن حقوقه، وبالانتهاب الموصوف عن الاستخفاف بعباد الله تعالى وترك توقيرهم والحياء منهم، وجمع الدنيا من غير وجهها، والله أعلم. وأما ما يتعلق بالإسناد ففيه حرملة التجيبي، وقد قدمنا مرات أنه بضم التاء وفتحها، وفيه عقيل عن ابن شهاب وتقدم أنه بضم العين، وفيه الدراوردي بفتح الدال والواو، وقد تقدم بيانه في باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
*2* باب بيان خصال المنافق
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَبْدِ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا الأَعْمَشُ. ح وَحَدّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُرّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقا خَالِصا. وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَلّةٌ مِنْهُنّ كَانَتْ فِيهِ خَلّةٌ مِنْ نِفَاقٍ. حَتّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدّثَ كَذَبَ. وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ. وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ" غَيْرَ أَنّ فِي حَدِيثِ سُفْيَانَ "وَإِنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النّفَاقِ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ، وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَاللّفْظُ لِيَحْيَىَ . قَالاَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُهَيْلٍ نَافِعُ بْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ: إِذَا حَدّثَ كَذَبَ. وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ: أَخْبَرَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلاَءُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، مَوْلَى الْحُرَقَةِ ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مِنْ عَلاَمَاتِ الْمُنَافِقِ ثَلاَثةٌ: إِذَا حَدّثَ كَذَبَ. وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ. وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ".
حدّثنا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الَعمّيّ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ مُحمّدُ بْنِ قَيْسٍ أَبُو زُكَيْرٍ. قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلاَءَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ يُحَدّثُ بِهَذَا الاْسْنَادِ، وَقَالَ: "آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ. وَإِنْ صَامَ وَصَلّى وَزَعَمَ أَنّهُ مُسْلِمٌ".
وحدّثني أَبُو نَصْرٍ التّمّارُ وَ عَبْدُ الأَعْلَىَ بْنُ حَمّادٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ دَاوُدَ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ يَحْيَىَ بْنُ مُحمّدٍ، عَنْ الْعَلاَءِ. ذَكَرَ فِيهِ "وَإِنّ صَامَ وَصَلّى وَزَعمَ أَنّهُ مُسْلِمٌ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر).
وفي رواية: (آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان) هذا الحديث مما عده جماعة من العلماء مشكلاً من حيث أن هذه الخصال توجد في المسلم المصدق الذي ليس فيه شك، وقد أجمع العلماء على أن من كان مصدقا بقلبه ولسانه وفعل هذه الخصال لا يحكم عليه بكفر ولا هو منافق يخلد في النار، فإن إخوة يوسف صلى الله عليه وسلم جمعوا هذه الخصال، وكذا وجد لبعض السلف والعلماء بعض هذا أو كله، وهذا الحديث ليس فيه بحمد الله تعالى إشكال، ولكن اختلف العلماء في معناه، فالذي قاله المحققون والأكثرون وهو الصحيح المختار أن معناه: أن هذه الخصال خصال نفاق، وصاحبها شبيه بالمنافقين في هذه الخصال ومتخلق بأخلاقهم، فإن النفاق هو إظهار ما يبطن خلافه، وهذا المعنى موجود في صاحب هذه الخصال، ويكون نفاقه في حق من حدثه ووعده وائتمنه وخاصمه وعاهده من الناس، لا أنه منافق في الإسلام فيظهره وهو يبطن الكفر، ولم يرد النبيّ صلى الله عليه وسلم بهذا أنه منافق نفاق الكفار المخلدين في الدرك الأسفل من النار. وقوله صلى الله عليه وسلم: "كان منافقا خالصا" معناه شديد الشبه بالمنافقين بسبب هذه الخصال، قال بعض العلماء: وهذا فيمن كانت هذه الخصال غالبة عليه، فأما من يندر ذلك منه فليس داخلاً فيه، فهذا هو المختار في معنى الحديث. وقد نقل الإمام أبو عيسى الترمذي رضي الله عنه معناه عن العلماء مطلقا فقال: إنما معنى هذا عند أهل العلم نفاق العمل. وقال جماعة من العلماء: المراد به المنافقون الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثوا بإيمانهم وكذبوا واؤتمنوا على دينهم، فخانوا ووعدوا في أمر الدين ونصره فأخلفوا وفجروا في خصوماتهم، وهذا قول سعيد بن حبير وعطاء بن أبي رباح، ورجع إليه الحسن البصري رحمه الله بعد أن كان على خلافه. وهو مروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وروياه أيضا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم. قال القاضي عياض رحمه الله: وإليه مال كثير من أئمتنا. وحكى الخطابي رحمه الله قولاً آخر أن معناه التحذير للمسلم أن يعتاد هذه الخصال التي يخاف عليه أن تفضي به إلى حقيقة النفاق. وحكى الخطابي رحمه الله أيضا عن بعضهم أن الحديث ورد في رجل بعينه منافق، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لا يواجههم بصريح القول فيقول: فلان منافق، وإنما كان يشير إشارة كقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام يفعلون كذا؟" والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى: "أربع من كن فيه كان منافقا". وفي الرواية الأخرى: "آية المنافق ثلاث" فلا منافاة بينهما، فإن الشيء الواحد قد تكون له علامات كل واحد منهن تحصل بها صفته، ثم قد تكون تلك العلامة شيئا واحدا وقد تكون أشياء، والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا عاهد غدر" هو داخل في قوله: "وإذا اؤتمن خان". وقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن خاصم فجر" أي مال عن الحق وقال الباطل والكذب. قال أهل اللغة: وأصل الفجور الميل عن القصد. وقوله صلى الله عليه وسلم: "آية المنافق" أي علامته ودلالته. وقوله صلى الله عليه وسلم: "خلة وخصلة" هو بفتح الخاء فيهما وإحداهما بمعنى الأخرى. وأما أسانيده ففيها العلاء بن عبد الرحمن مولى الحرقة بضم الحاء المهملة وفتح الراء وبالقاف. وهو بطن من جهينة، وفيه عقبة بن مكرم العمي. أما مكرم فبضم الميم وإسكان الكاف وفتح الراء، وأما العمي فبفتح العين وتشديد الميم المكسورة منسوب إلى بني العم بطن من تميم، وفيه يحيى بن محمد بن قيس أبو زكير بضم الزاي وفتح الكاف وإسكان الياء وبعدها راء قال أبو الفضل الفلكي الحافظ: أبو زكير لقب كنيته أبو محمد، وفيه أبو نصر التمار هو بالصاد المهملة واسمه عبد الملك بن عبد العزيز بن الحرث وهو ابن أخي بشر بن الحرث الحافي الزاهد رضي الله عنهما، قال محمد بن سعد: هو من أبناء خراسان من أهل نسا نزل بغداد وتجربها في التمر وغيره وكان فاضلاً خيرا ورعا، والله أعلم بالصواب.
*2* باب بيان حال إيمان من قال لأخيه المسلم: يا كافر
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ بِشْرٍ، وَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إِذَا كَفّرَ الرّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهَمَا".
وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّمِيمِيّ: وَ يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ، وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَ عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ، جَمِيعا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِيْنَارٍ أَنّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "أَيّمَا امْرئٍ قَالَ لأَخِيهِ: يَا كَافِرُ. فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا. إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ. وَإِلاّ رَجَعَتْ عَلَيْهِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا كفر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما. وفي الرواية الأخرى: أيما رجل قال لأخيه كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه).
*2* باب بيان حال إيمان من رغب عن أبيه وهو يعلم
*وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا حُسَيْنٌ الْمُعَلّمُ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ يَعْمَرَ أَنّ أَبَا الأَسْوَدِ حَدّثَهُ عَنْ أَبِي ذَرَ، أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَيّمَا رَجُلٍ ادّعَى لِغَيْرِ أَبِيهِ وَهُوَ يَعْلَمُهُ، إِلاّ كَفَرَ. وَمَن ادّعَى مَا لَيْسَ لَهُ فَلَيْسَ مِنّا. وَلْيَتَبَوّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النّارِ. وَمَنْ دَعَا رَجُلاً بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوّ الله، وَلَيْسَ كَذَلِكَ. إِلاّ حَارَ عَلَيْهِ".
حدّثني هَرُونِ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو، عَنْ جَعْفَرِ ابْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَرْغَبُوا عَنْ آبَائِكُمْ. فَمَنْ رَغِبَ عَنْ أَبِيهِ فَهُوَ كُفْرٌ".
حدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ: حَدّثَنَا هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ: أَخْبَرَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ: لَمّا ادّعِيَ زِيَادٌ. لَقِيتُ أَبَا بْكَرَةَ فَقُلْتُ لَهُ: مَا هَذَا الّذِي صَنَعْتُم؟ إِنّي سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ يَقُولُ: سَمِعَ أُذُنَايَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ "مَنْ ادّعَى أَبَا فِي الاْسِلاَمِ غَيْرَ أَبِيهِ، يَعْلَمُ أَنّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالّجَنّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ" فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ زَكَرِيّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ وَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَعْدٍ وَأَبِي بَكْرَةَ كِلاَهُمَا يَقُولُ: سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ. وَوَعَاهُ قَلْبِي. مُحَمّدا صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ ادّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنّهُ غَيْرُ أَبِيهِ، فَالْجَنّةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ".
وفي الرواية الأخرى: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه وهو يعلمه إلا كفر، ومن ادعى ما ليس له فليس منا وليتبوأ مقعده من النار، ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه) هذا الحديث مما عده بعض العلماء من المشكلات من حيث أن ظاهره غير مراد، وذلك أن مذهب أهل الحق أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا، وكذا قوله لأخيه كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام، وإذا عرف ما ذكرناه فقيل في تأويل الحديث أوجه، أحدهما: أنه محمول على المستحل لذلك وهذا يكفر، فعلى هذا معنى باء بها أي بكلمة الكفر، وكذا حار عليه وهو معنى رجعت عليه أي رجع عليه الكفر، فباء وحار ورجع بمعنى واحد. والوجه الثاني: معناه رجعت عليه نقيصته لأخيه ومعصية تكفيره. والثالث: أنه محمول على الخوارج المكفرين للمؤمنين، وهذا الوجه نقله القاضي عياض رحمه الله عن الإمام مالك بن أنس وهو ضعيف، لأن المذهب الصحيح المختار الذي قاله الأكثرون والمحققون أن الخوارج لا يكفرون كسائر أهل البدع. والوجه الرابع: معناه أن ذلك يؤول به إلى الكفر، وذلك أن المعاصي كما قالوا بريد الكفر، ويخاف على المكثر منها أن يكون عاقبة شؤمها المصير إلى الكفر، ويؤيد هذا الوجه ما جاء في رواية لأبي عوانة الاسفرايني في كتابه المخرج على صحيح مسلم، فإن كان كما قال وإلا فقد باء بالكفر. وفي رواية: إذا قال لأخيه يا كافر وجب الكفر على أحدهما. والوجه الخامس: معناه فقد رجع عليه تكفيره، فليس الراجع حقيقة الكفر، بل التكفير لكونه جعل أخاه المؤمن كافرا فكأنه كفر نفسه، إما لأنه كفر من هو مثله، وإما لأنه كفر من لا يكفره إلا كافر يعتقد بطلان دين الإسلام والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فيمن ادعى لغير أبيه وهو يعلم أنه غير أبيه كفر" فقيل فيه تأويلان: أحدهما: أنه في حق المستحل. والثاني: أنه كفر النعمة والإحسان وحق الله تعالى وحق أبيه، وليس المراد الكفر الذي يخرجه من ملة الإسلام وهذا كما قال صلى الله عليه وسلم يكفرن، ثم فسره بكفرانهن الإحسان وكفران العشير، ومعنى ادعى لغير أبيه أي انتسب إليه واتخذه أبا. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وهو يعلم" تقييد لا بد منه، فإن الإثم إنما يكون في حق العالم بالشيء. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن ادعى ما ليس له فليس منا" فقال العلماء معناه: ليس على هدينا وجميل طريقتنا، كما يقول الرجل لابنه: لست مني. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فليتبوأ مقعده من النار" قد قدمنا في أول المقدمة بيانه، وأن معناه فلينزل منزله منها، أو فليتخذ منزلاً بها، وأنه دعاء أو خبر بلفظ الأمر وهو أظهر القولين ومعناه هذا جزاؤه، فقد يجازى وقد يعفي عنه وقد يوفق للتوبة فيسقط عنه ذلك. وفي هذا الحديث تحريم دعوى ما ليس له في كل شيء، سواء تعلق به حق لغيره أم لا، وفيه أنه لا يحل له أن يأخذ ما حكم له به الحاكم إذا كان لا يستحقه، والله تعالى أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن دعا رجلاً بالكفر أو قال عدو الله وليس كذلك إلا حار عليه" فهذا الاستثناء قيل إنه واقع على المعنى، وتقريره ما يدعوه أحد إلا حار عليه، ويحتمل أن يكون معطوفا على الأول وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس من رجل" فيكون الاستثناء جاريا على اللفظ، وضبطنا "عدو الله" على وجهين: الرفع والنصب، والنصب أرجح على النداء أي يا عدو الله. والرفع على أنه خبر مبتدأ أي هو عدو الله، كما تقدم في الرواية الأخرى قال لأخيه كافر، فإنا ضبطناه كافر بالرفع والتنوين على أنه خبر مبتدأ محذوف والله أعلم. وأما أسانيد الباب ففيه ابن بريدة عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود عن أبي ذر. فأما ابن بريدة فهو عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي، وليس هو سليمان بن بريدة أخاه، وهو وأخوه سليمان ثقتان سيدان تابعيان جليلان ولدا في بطن واحد في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأما يعمر فبفتح الياء وفتح الميم وضمها، وقد تقدم ذكر ابن بريدة ويحيى بن يعمر في أول إسناد في كتاب الإيمان. وأما أبو الأسود فهو الدؤلي واسمه ظالم بن عمرو وهذا هو المشهور، وقيل: اسمه عمرو بن ظالم، وقيل: عثمان بن عمرو، وقيل: عمرو بن سفيان، وقال الواقدي، اسمه عويمر بن ظويلم وهو بصري قاضيها، وكان من عقلاء الرجال، وهو الذي وضع النحو، تابعي جليل، وقد اجتمع في هذا الإسناد ثلاثة تابعيون جلة بعضهم عن بعض: ابن بريدة، ويحيى، وأبو الأسود. وأما أبو ذر رضي الله عنه فالمشهور في اسمه جندب بن جنادة، وقيل: اسمه برير بضم الباء الموحدة وبالراء المكررة، واسم أمه رملة بنت الوقيعة، كان رابع أربعة في الإسلام، وقيل خامس خمسة، ومناقبه مشهورة رضي الله عنه، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترغبوا عن آبائكم فمن رغب عن أبيه فهو كفر).
وفي الرواية الأخرى: (من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه يعلم أنه غير أبيه فالجنة عليه حرام) أما الرواية الأولى فقد تقدم شرحها في الباب الذي قبل هذا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فالجنة عليه حرام" ففيه التأويلان اللذان قدمناهما في نظائره، أحدهما: أنه محمول على من فعله مستحلاً له. والثاني: أن جزاءه أنها محرمة عليه أولاً عند دخول الفائزين وأهل السلامة، ثم إنه قد يجازى فيمنعها عند دخولهم ثم يدخلها بعد ذلك، وقد لا يجازى بل يعفو الله سبحانه وتعالى عنه، ومعنى حرام ممنوعة، ويقال: رغب عن أبيه أي ترك الانتساب إليه وجحده، يقال: رغبت عن الشيء تركته وكرهته، ورغبت فيه اخترته وطلبته. وأما قول أبي عثمان: لما ادعي زياد لقيت أبا بكرة فقلت له: ما هذا الذي صنعتم؟ إني سمعت سعد بن أبي وقاص يقول: سمع أذناي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: "من ادعى أبا في الإسلام غير أبيه فالجنة عليه حرام" فقال أبو بكرة: أنا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمعنى هذا الكلام الإنكار على أبي بكرة، وذلك أن زيادا هذا المذكور هو المعروف بزياد بن أبي سفيان، ويقال فيه زياد بن أبيه، ويقال زياد بن أمه، وهو أخو أبي بكرة لأمه، وكان يعرف بزياد بن عبيد الثقفي، ثم ادعاه معاوية بن أبي سفيان وألحقه بأبيه أبي سفيان، وصار من جملة أصحابه بعد أن كان من أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فلهذا قال أبو عثمان لأبي بكرة: ما هذا الذي صنعتم؟ وكان أبو بكرة رضي الله عنه ممن أنكر ذلك وهجر بسببه زيادا، وحلف أن لا يكلمه أبدا، ولعل أبا عثمان لم يبلغه إنكار أبي بكرة حين قال له في الكلام، أو يكون مراده بقوله: ما هذا الذي صنعتم؟ أي ما هذا الذي جرى من أخيك؟ ما أقبحه وأعظم عقوبته، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم حرم على فاعله الجنة. وقوله: "ادعى" ضبطناه بضم الدال وكسر العين مبني لما لم يسم فاعله، أي ادعاه معاوية، ووجد بخط الحافظ أبي عامر العبدري ادعى بفتح الدال والعين، على أن زيادا هو الفاعل، وهذا له وجه من حيث أن معاوية ادعاه وصدقه زياد، فصار زياد مدعيا أنه ابن أبي سفيان، والله أعلم. وأما قول سعد: سمع أذناي فهكذا ضبطناه سمع بكسر الميم وفتح العين، وأذناي بالتثنية، وكذا نقل الشيخ أبو عمرو كونه أذناي بالألف على التثنية عن رواية أبي الفتح السمرقندي عن عبد الغافر قال: وهو فيما يعتمد من أصل أبي القاسم العساكري وغيره أذني بغير ألف. وحكى القاضي عياض أن بعضهم ضبطه بإسكان الميم وفتح والعين على المصدر، وأذني بلفظ الإفراد، قال: وضبطناه من طريق الجياني بضم العين مع إسكان الميم وهو الوجه. قال سيبويه: العرب تقول: سمع أذني زيدا يقول كذا. وحكى عن القاضي الحافظ أبي علي بن سكرة أنه ضبطه بكسر الميم كما ذكرناه أولاً وأنكره القاضي وليس إنكاره بشيء، بل الأوجه المذكورة كلها صحيحة ظاهرة، ويؤيد كسر الميم قوله في الرواية الأخرى: سمعته أذناي ووعاه قلبي، والله أعلم. وأما قوله في الرواية الأخرى: سمعته أذناي ووعاه قلبي محمدا صلى الله عليه وسلم، فنصب محمدا على البدل من الضمير في سمعته أذناي، ومعنى وعاه حفظه، والله أعلم. وأما ما يتعلق بالإسناد ففيه هارون الإيلي بالمثناة، وعراك بكسر العين المهملة وتخفيف الراء وبالكاف. وفيه أبو عثمان وهو النهدي بفتح النون واسمه عبد الرحمن بن مل بفتح الميم وكسرها وضمها مع تشديد اللام، ويقال ملء بالكسر مع إسكان اللام وبعدها همزة، وقد تقدم بيانه في شرح آخر المقدمة. وأما أبو بكرة فاسمه نفيع بن الحرث بن كلدة بفتح الكاف واللام، وأمه وأم أخيه زياد سمية أمة الحرث بن كلدة، وقيل له أبو بكرة لأنه تدلى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حصن الطائف ببكرة، مات بالبصرة سنة إحدى وقيل اثنتين وخمسين رضي الله عنه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
*2* باب بيان قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر"
*حدّثنا مُحمّدُ بْنُ بَكّارِ بْنِ الرّيّانِ، وَ عَوْنُ بْنُ سَلاّمٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ طَلْحَةَ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ كُلّهُمْ عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ. وَقِتَالُهُ كُفْرٌ" قَالَ زُبَيْدٌ: فَقُلْتُ لأَبِي وَائِلٍ: أَنْتَ سِمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ الله يَرْوِيهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ.
وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ قَوْلُ زُبَيْدٍ لاَِبِي وَائِلٍ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ ابْنُ الْمُثَنّى، عَنْ مُحمّد بْن جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا عَفّانُ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ، كِلاَهُمَا عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.
السب في اللغة الشتم والتكلم في عرض الإنسان بما يعيبه. والفسق في اللغة الخروج، والمراد به في الشرع الخروج عن الطاعة. وأما معنى الحديث فسب المسلم بغير حق حرام بإجماع الأمة وفاعله فاسق كما أخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم. وأما قتاله بغير حق فلا يكفر به عند أهل الحق كفرا يخرج به من الملة كما قدمناه في مواضع كثيرة إلا إذا استحله، فإذا تقرر هذا فقيل في تأويل الحديث أقوال. أحدها: أنه في المستحل. والثاني: أن المراد كفر الإحسان والنعمة وأخوة الإسلام لا كفر الجحود. والثالث: أنه يؤول إلى الكفر بشؤمه. والرابع: أنه كفعل الكفار والله أعلم. ثم إن الظاهر من قتاله المقاتلة المعروفة. قال القاضي: ويجوز أن يكون المراد المشارة والمدافعة، والله أعلم. وأما ما يتعلق بالإسناد ففيه محمد بن بكار بن الريان بالراء المفتوحة وتشديد المثناة تحت، وفيه زبيد بضم الزاي وبالموحدة ثم المثناة وهو زبيد بن الحرث اليامي ويقال الأيامي وليس في الصحيحين غيره، وفي الموطأ زيد بن الصلت بتكرير المثناة وبضم الزاي وكسرها، وقد تقدم بيانه في آخر الفصول، وفيه أبو وائل شقيق بن سلمة. وأما قول مسلم في أول الإسناد: (حدثنا محمد بن بكار وعون قالا: حدثنا محمد بن طلحة ح وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا سفيان وحدثنا محمد بن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة كلهم عن زبيد) فهكذا ضبطناه، وكذا وقع في أصلنا وبعض الأصول، ووقع في الأصول التي اعتمدها الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله بطريقي محمد بن طلحة وشعبة، ولم يقع فيها طريق محمد بن المثنى عن ابن مهدي عن سفيان، وأنكر الشيخ قوله كلهم مع أنهما اثنان محمد بن طلحة وشعبة، وإنكاره صحيح على ما في أصوله. وأما على ما عندنا فلا إنكار فإن سفيان ثالثهما، والله أعلم.
*2* باب بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوابعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض"
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى، وَ ابْنُ بَشّارٍ، جَمِيعا، عَنْ مُحمّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ. ح وَحَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ. وَاللّفْظُ لَهُ. حَدّثَنَا أَبِي حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ علِيّ بْنِ مُدْرِك، سَمِعَ أَبَا زُرْعَةَ يُحَدّثُ عَنْ جَدّهِ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ لِي النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ: "اسْتَنْصِتِ النّاسَ" ثُمّ قَالَ: "لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّارا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ".
وحدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحمّدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.
وحدّثني أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلاّدٍ الْبَاهِليّ، قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّد بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ وَاقِدِ بْنِ مُحمّدُ بْنِ زَيْدٍ أَنّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يُحَدّثُ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ: "وَيْحَكَمْ (أَوْ قَالَ: وَيْلَكُمْ) لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّارا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ".
... حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهَبٍ. قَالَ: حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحمّد أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ وَاقِدٍ.
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض) قيل في معناه سبعة أقوال. أحدها: أن ذلك كفر في حق المستحل بغير حق والثاني: المراد كفر النعمة وحق الإسلام. والثالث: أنه يقرب من الكفر ويؤدي إليه. والرابع: أنه فعل كفعل الكفار. والخامس: المراد حقيقة الكفر ومعناه لا تكفروا بل دوموا مسلمين. والسادس: حكاه الخطابي وغيره أن المراد بالكفار المتكفرون بالسلاح، يقال: تكفر الرجل بسلاحه إذا لبسه. قال الأزهري في كتابه تهذيب اللغة: يقال للابس السلاح كافر. والسابع: قاله الخطابي معناه لا يكفر بعضكم بعضا فتستحلوا قتال بعضكم بعضا. وأظهر الأقوال الرابع وهو اختيار القاضي عياض رحمه الله. ثم إن الرواية يضرب برفع الباء هكذا هو الصواب، وكذا رواه المتقدمون والمتأخرون، وبه يصح المقصود هنا. ونقل القاضي عياض رحمه الله أن بعض العلماء ضبطه بإسكان الباء، قال القاضي: وهو إحالة للمعنى والصواب الضم. قلت: وكذا قال أبو البقاء العكبري أنه يجوز جزم الباء على تقدير شرط مضمر أي إن ترجعوا يضرب، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ترجعوا بعدي كفارا" فقال القاضي: قال الصبري معناه بعد فراقي من موقفي هذا، وكان هذا يوم النحر بمنى في حجة الوداع، أو يكون بعدي أي خلافي، أي لا تخلفوني في أنفسكم بغير الذي أمرتكم به، أو يكون تحقق صلى الله عليه وسلم أن هذا لا يكون في حياته فنهاهم عنه بعد مماته. وقوله صلى الله عليه وسلم: (استنصت الناس) معناه مرهم بالإنصات ليسمعوا هذه الأمور المهمة والقواعد التي سأقررها لكم وأحملكموها. وقوله في حجة الوداع سميت بذلك لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ودع الناس فيها، وعلمهم في خطبته فيها أمر دينهم، وأوصاهم بتبليغ الشرع فيها إلى من غاب عنها، فقال صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ الشاهد منكم الغائب" والمعروف في الرواية حجة الوداع بفتح الحاء. وقال الهروي وغيره من أهل اللغة: المسموع من العرب في واحدة الحجج حجة بكسر الحاء، قالوا: والقياس فتحها لكونها اسما للمرة الواحدة، وليست عبارة عن الهيئة حتى تكسر، قالوا: فيجوز الكسر بالسماع والفتح بالقياس.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (ويحكم أو قال ويلكم) قال القاضي: هما كلمتان استعملتهما العرب بمعنى التعجب والتوجع، قال سيبويه: ويل كلمة لمن وقع في هلكة، وويح ترحم. وحكي عنه: ويح زجر لمن أشرف على الهلكة. قال غيره: ولا يراد بهما الدعاء بإيقاع الهكلة ولكن الترحم والتعجب. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ويح كلمة رحمة. وقال الهروي: ويح لمن وقع في هلكة لا يستحقها فيترحم عليه ويرى له، وويل للذي يستحقها ولا يترحم عليه، والله أعلم. وأما أسانيد الباب ففيه علي بن مدرك بضم الميم وإسكان الدال وكسر الراء، وفيه أبو زرعة بن عمرو بن جرير، وفي اسمه خلاف مشهور قد قدمناه في أول الكتاب وهو كتاب الإيمان، قيل: اسمه هرم، وقيل: عمرو، وقيل: عبد الرحمن، وقيل: عبيد. وفيه واقد بن محمد بالقاف، وقد قدمنا أنه ليس في الصحيحين وافد بالفاء، والله أعلم بالصواب.
*2* باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة
*وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ (وَاللّفْظُ لَهُ) حَدّثَنَا أَبِي وَ مُحمّدُ بْنُ عُبَيْدٍ كُلّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "اثْنَتَانِ فِي النّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطّعْنُ فِي النّسَبِ وَالنّيَاحَةُ عَلَى الْمَيّتِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر: الطعن في النسب، والنياحة على الميت) وفيه أقوال أصحها أن معناه هما من أعمال الكفار وأخلاق الجاهلية. والثاني: أنه يؤدي إلى الكفر. والثالث: أنه كفر النعمة والإحسان. والرابع: أن ذلك في المستحل. وفي هذا الحديث تغليظ تحريم الطعن في النسب والنياحة، وقد جاء في كل واحد منهما نصوص معروفة، والله أعلم.
*2* باب تسمية العبد الاَبق كافرا
*حدّثنا عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ السّعْدِيّ. حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (يَعْنِي ابْنَ عُلَيّةَ) عَنْ مَنْصُورِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنِ الشّعَبِيّ، عَنْ جَرِيرٍ أَنّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: "أَيّمَا عَبْدٍ أَبَقَ مَنْ مَوَالِيهِ فَقَدْ كَفَرَ: حَتّى يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ".
قَالَ مَنْصُورٌ: قَدْ وَاللّهِ رُوِيَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وَلَكِنّي أَكْرَهُ أَنْ يُرْوَى عَنّي هَهُنَا بِالْبَصْرَةِ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا حَفَصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشّعْبِيّ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيّمَا عَبْدٍ أَبَقَ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذّمّةُ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنِ الشّعْبِيّ قَالَ: كَانَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يُحَدّثُ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم. وفي الرواية الأخرى: فقد برئت منه الذمة. وفي الأخرى: إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة) أما تسميته كافرا ففيه الأوجه التي في الباب قبله.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فقد برئت منه الذمة) فمعناه لا ذمة له. قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: الذمة هنا يجوز أن تكون هي الذمة المفسرة بالذمام وهي الحرمة، ويجوز أن يكون من قبيل ما جاء في قوله له: ذمة الله تعالى وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ضمانه وأمانته ورعايته، ومن ذلك أن الاَبق كان مصونا عن عقوبة السيد له وحبسه فزال ذلك بإباقه، والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أبق العبد لم تقبل له صلاة) فقد أوله الإمام المازري وتابعه القاضي عياض رحمهما الله على أن ذلك محمول على المستحل للاباق فيكفر ولا تقبل له صلاة لا غيرها، ونبه بالصلاة على غيرها، وأنكر الشيخ أبو عمرو هذا وقال: بل ذلك جار في غير المستحل، ولا يلزم من عدم القبول عدم الصحة، فصلاة الاَبق صحيحة غير مقبولة فعدم قبولها لهذا الحديث وذلك لاقترانها بمعصية، وأما صحتها فلوجود شروطها وأركانها المستلزمة صحتها ولا تناقض في ذلك، ويظهر أثر عدم القبول في سقوط الثواب، وأثر الصحة في سقوط القضاء، وفي أنه لا يعاقب عقوبة تارك الصلاة، هذا آخر كلام الشيخ أبو عمرو رحمه الله، وهو ظاهر لا شك في حسنه. وقد قال جماهير أصحابنا: إن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة لا ثواب فيها، ورأيت في فتاوى أبي نصر بن الصباغ من أصحابنا التي نقلها عنه ابن أخيه القاضي أبو منصور قال: المحفوظ من كلام أصحابنا بالعراق أن الصلاة في الدار المغصوبة صحيحة يسقط بها الفرض ولا ثواب فيها. قال أبو منصور: ورأيت أصحابنا بخراسان اختلفوا فمنهم من قال: لا تصح الصلاة. قال: وذكر شيخنا في الكامل أنه ينبغي أن تصح ويحصل الثواب على الفعل، فيكون مثابا على فعله عاصيا بالمقام في المغصوب، فإذا لم نمنع من صحتها لم نمنع من حصول الثواب. قال أبو منصور: وهذا هو القياس على طريق من صححها والله أعلم. ويقال: أبق العبد وأبق بفتح الباء وكسرها لغتان مشهورتان الفتح أفصح وبه جاء القرآن: {إذ أبق إلى الفلك المشح ون}. وأما قوله عن منصور بن عبد الرحمن عن الشعبي عن جرير أنه سمعه يقول: "أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم" قال منصور: قد والله روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولكني أكره أن يروى عني ههنا بالبصرة. فمعناه أن منصورا روى هذا الحديث عن الشعبي عن جرير موقوفا عليه، ثم قال منصور بعد روايته إياه موقوفا: والله إنه مرفوع إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاعلموه أيها الخواص الحاضرون فإني أكره أن أصرح برفعه في لفظ روايتي فيشيع عني في البصرة التي هي مملوءة من المعتزلة والخوارج الذين يقولون بتخليد أهل المعاصي في النار، والخوارج يزيدون على التخليد فيحكمون بكفره، ولهم شبهة في التعلق بظاهر هذا الحديث، وقد قدمنا تأويله وبطلان مذاهبهم بالدلائل القاطعة الواضحة التي ذكرناها في مواضع من هذا الكتاب، والله أعلم. وأما منصور بن عبد الرحمن هذا فهو الأشل الغداني البصري، وثقه أحمد بن حنبل ويحيى بن حنبل ويحيى بن معين وضعفه أبو حاتم الرازي، وفي الرواة خمسة يقال لكل واحد منهم منصور بن عبد الرحمن هذا أحدهم، والله أعلم.
*2* باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ صَالِحٍ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتَبَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيّ قَالَ: صَلّى بِنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الصّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي إِثْرِ السّمَاءِ كَانَتْ مِنَ اللّيْلِ. فَلَمّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النّاسِ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ؟" قَالُوا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ. فَأَمّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ الله وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ. وَأَمّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ".
حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ، وَ عَمْرُو بْنُ سَوّادٍ الْعَامِريّ، وَ مُحمّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيّ قَالَ الْمُرَادِيّ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ وَقَالَ الاَخَرَانِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ: حَدّثَنِي عُبَيْدُ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنُ عُتْبَةَ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَمْ تَرَوْا إِلَى مَا قَالَ رَبّكُمْ؟ قَالَ: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلاّ أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِهَا كَافِرِينَ. يَقُولُونَ: الْكَوَاكِبُ وَبِالْكَوَاكِبِ".
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ ح وَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ سَوّادٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَى أَبِي هُرَيْرَةَ حَدّثَهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا أَنْزَلَ الله مِنَ السّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إِلاّ أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنَ النّاسِ بِهَا كَافِرِينَ. يُنْزِلُ الله الْغَيْثَ. فَيَقُولُونَ: الْكَوْكَبُ كَذَا وَكَذَا"، وَفِي حَدِيثِ الْمُرَادِيّ: "بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا".
وحدّثني عَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيّ. حَدّثَنَا النّضْرُ بْنُ مُحمّد. حَدّثَنَا عِكْرَمَةُ (وَهُوَ ابْنُ عَمّارٍ) حَدّثَنَا أَبُو زْمَيْلٍ قَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ عَبّاسٍ قَالَ: مُطِرَ النّاسُ عَلَى عَهْدِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أَصْبَحَ مِنَ النّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ. قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ الله. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا" قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النّجُومِ}، حَتّى بَلَغَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنّكُمْ تُكَذّبُونَ} (الواقعة آية: ).
قوله: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليل فلما انصرف قال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب. وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) أما الحديبية ففيها لغتان: تخفيف الياء وتشديدها، والتخفيف هو الصحيح المشهور المختار، وهو قول الشافعي وأهل اللغة وبعض المحدثين. والتشديد قول الكسائي وابن وهب وجماهير المحدثين، واختلافهم في الجعرانة كذلك في تشديد الراء وتخفيفها والمختار فيها أيضا التخفيف. وقوله على إثر سماء هو بكسر الهمزة وإسكان الثاء وبفتحها جميعا لغتان مشهورتان والسماء المطر. وأما معنى الحديث: فاختلف العلماء في كفر من قال: مطرنا بنوء كذا على قولين، أحدهما: هو كفر بالله سبحانه وتعالى، سالب لأصل الإيمان، مخرج من ملة الإسلام، قالوا: وهذا فيمن قال ذلك معتقدا أن الكوكب فاعل مدبر منشئ للمطر، كما كان بعض أهل الجاهلية يزعم، ومن اعتقد هذا فلا شك في كفره، وهذا القول هو الذي ذهب إليه جماهير العلماء والشافعي منهم وهو ظاهر الحديث قالوا: وعلى هذا لو قال مطرنا بنوء كذا معتقدا أنه من الله تعالى وبرحمته، وأن النوء ميقات له وعلامة اعتبارا بالعادة، فكأنه قال: مطرنا في وقت كذا فهذا لا يكفر، واختلفوا في كراهته والأظهر كراهته، لكنها كراهة تنزيه لا إثم فيها، وسبب الكراهة أنها كلمة مترددة بين الكفر وغيره فيساء الظن بصاحبها، ولأنها شعار الجاهلية ومن سلك مسلكهم. والقول الثاني في أصل تأويل الحديث أن المراد كفر نعمة الله تعالى لاقتصاره على إضافة الغيث إلى الكوكب، وهذا فيمن لا يعتقد تدبير الكوكب، ويؤيد هذا التأويل الرواية الأخيرة في الباب: "أصبح من الناس شاكر وكافر".
وفي الرواية الأخرى "ما أنعمت على عبادي من نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين". وفي الرواية الأخرى: "ما أنزل الله تعالى من السماء من بركة إلا أصبح فريق من الناس بها كافرين". فقوله بها يدل على أنه كفر بالنعمة، والله أعلم. وأما النوء ففيه كلام طويل قد لخصه الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله فقال: النوء في أصله ليس هو نفس الكوكب فإنه مصدر ناء النجم ينوء نوءا أي سقط وغاب، وقيل: أي نهض وطلع. وبيان ذلك أن ثمانية وعشرين نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلها، وهي المعروفة بمنازل القمر الثمانية والعشرين، يسقط في كل ثلاثة عشرة ليلة منها نجم في المغرب مع طلوع الفجر، ويطلع آخر يقابله في المشرق من ساعته، وكان أهل الجاهلية إذا كان عند ذلك مطر ينسبونه إلى الساقط الغارب منهما، وقال الأصمعي: إلى الطالع منهما. قال أبو عبيد: ولم أسمع أحدا ينسب النوء للسقوط إلا في هذا الموضع، ثم إن النجم نفسه قد يسمى نوءا تسمية للفاعل بالمصدر. قال أبو إسحاق الزجاج في بعض أماليه: الساقطة في الغرب هي الأنواء، والطالعة في المشرق هي البوارح، والله أعلم.
وأما قوله في رواية ابن عباس رضي الله عنهما: (مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر، قالوا: هذه رحمة الله، وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، قال: فنزلت هذه الاَية: {فلا أقسم بمواقع النجوم} حتى بلغ: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}) فقال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: ليس مراده أن جميع هذا نزل في قولهم في الأنواء، فإن الأمر في ذلك وتفسيره يأبى ذلك، وإنما النازل في ذلك قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} والباقي نزل في غير ذلك ولكن اجتمعا في وقت النزول، فذكر الجميع من أجل ذلك. قال الشيخ أبو عمرو رحمه الله: ومما يدل على هذا أن في بعض الروايات عن ابن عباس رضي الله عنهما في ذلك الاقتصار على هذا القدر اليسير فحسب، هذا آخر كلام الشيخ رحمه الله. وأما التفسير الاَية فقيل: {تجعلون رزقكم} أي شكركم، كذا قاله ابن عباس والأكثرون، وقيل: تجعلون شكر رزقكم، قاله الأزهري وأبو علي الفارسي. وقال الحسن: أي تجعلون حظكم. وأما مواقع النجوم فقال الأكثرون: المراد نجوم السماء ومواقعها مغاربها، وقيل: مطالعها، وقيل: انكدارها، وقيل: انتثارها يوم القيامة، وقيل: النجوم نجوم القرآن وهي أوقات نزوله. وقال مجاهد: مواقع النجوم محكم القرآن، والله أعلم. وأما ما يتعلق بالأسانيد ففيه عمرو بن سواد بتشديد الواو آخره دال، وفيه أبو يونس مولى أبي هريرة واسمه سليم بن جبير بضم أولهما، وفيه عباس بن عبد العظيم العنبري هو بالسين بالمهملة والعنبري بالعين المهملة والنون بعدها موحدة، قال القاضي: وضبطه العذري الغبري بالغين المعجمة وهو تصحيف بلا شك، وفيه أبو زميل بضم الزاي وفتح الميم واسمه سماك بن الوليد الحنفي اليمامي، قال ابن عبد البر: أجمعوا عل أنه ثقة، والله أعلم. وأما قول مسلم رحمه الله: حدثني محمد بن سلمة المرادي، حدثنا عبد الله بن وهب عن عمرو بن الحارث قال مسلم رحمه الله: وحدثني مرو بن سواد، أخبرنا عبد الله بن وهب، أخبرنا عمرو بن الحارث أن أبا يونس مولى أبي هريرة حدثه عن أبي هريرة، فهذا الإسناد كله بصريون إلا أبا هريرة فمدني، وإنما أتى مسلم بعبد الله بن وهب وعمرو بن الحارث أولاً ثم أعادهما، ولم يقتصر على قوله: حدثنا محمد وعمرو بن سواد لاختلاف لفظ الروايات كما ترى، وقد نبهنا على مثل هذا التدقيق والاحتياط لمسلم رحمه الله في مواضع، والله أعلم بالصواب.
*2* باب الدليل على أن حب الأنصار وعليّ رضي الله عنهم من الإِيمان وعلاماته. وبغضهم من علامات النفاق
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيَ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "آيَةُ الْمُنَافِقِ: بُغْضُ الأَنْصَارِ. وَآيَةُ الْمُؤْمِنِ: حُبّ الأَنْصَارِ".
...) حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ. حَدّثَنَا خَالِدٌ (يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ) حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْن عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "حُبّ الأَنْصَارِ آيَةُ الإِيمَانِ. وَبُغْضُهُمْ آيَةُ النّفَاقِ".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدّثَنِي مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ ح وَحَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ (وَاللّفْظُ لَهُ) حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يُحَدّثُ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ، فِي الأَنْصَارِ: "لاَ يُحِبّهُمْ إِلاّ مُؤْمِنٌ وَلاَ يُبْغِضُهُمْ إِلاّ مُنَافِقٌ. مَنْ أَحَبّهُمْ أَحَبّهُ الله. وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ أَبْغَضَهُ الله".
قَالَ شُعْبَةُ: قُلْتُ لِعَدِيَ. سَمِعْتَهُ مِنَ الْبَرَاءِ؟ قَالَ: إِيّايَ حَدّثَ.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (يَعْنِي ابْنَ عَبْد الرّحْمَنِ الْقَارِيّ) عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يُبْغِضُ الأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ".
وحدّثنا عُثْمَانُ بْنُ مُحَمّدُ بْن أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يُبْغِضُ الأَنْصَارَ رَجُلٌ يُؤْمِنُ بِالله وَالْيَوْمِ الاَخِرِ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، وَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ (وَاللْفْظُ لَهُ) أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَدِيّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرَ قَالَ: قَالَ عَلِيّ: وَالّذِي فَلَقَ الْحَبّةَ وَبَرَأَ النّسَمَةَ إِنّهُ لَعَهْدُ النبي الأمي صلى الله عليه وسلم إِلَيّ: "أَنْ لاَ يُحِبّنِي إِلاّ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يُبْغِضَنِي إِلاّ مُنَافِقٌ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (آية المنافق بغض الأنصار، وآية المؤمن حب الأنصار في الرواية الأخرى: حب الأنصار آية الإيمان، وبغضهم آية النفاق.
وفي الأخرى: (لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق، من أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله).
وفي الأخرى: (لا يبغض الأنصار رجل يؤمن بالله واليوم الاَخر).
وفي حديث علي رضي الله عنه: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إنه لعهد النبي صلى الله عليه وسلم إلي أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق) قد تقدم أن الاَية هي العلامة، ومعنى هذه الأحاديث: أن من عرف مرتبة الأنصار، وما كان منهم في نصرة دين الإسلام والسعي في إظهاره وإيواء المسلمين وقيامهم في مهمات دين الإسلام حق القيام، وحبهم النبي صلى الله عليه وسلم وحبه إياهم، وبذلهم أموالهم وأنفسهم بين يديه، وقتالهم ومعاداتهم سائر الناس إيثارا للإسلام. وعرف من علي بن أبي طالب رضي الله عنه قربه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحب النبي صلى الله عليه وسلم له، وما كان منه في نصرة الإسلام وسوابقه فيه، ثم أحب الأنصار وعليا، لهذا كان ذلك من دلائل صحة إيمانه وصدقه في إسلامه لسروره بظهور الإسلام والقيام بما يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم. ومن أبغضهم كان بضد ذلك. واستدل به على نفاقه وفساد سريرته، والله أعلم. وأما قوله: فلق الحبة فمعناه شقها بالنبات. وقوله: وبرأ النسمة هو بالهمزة أي خلق النسمة وهي بفتح النون والسين وهي الإنسان، وقيل: النفس. وحكى الأزهري أن النسمة هي النفس، وأن كل دابة في جوفها روح فهي نسمة، والله أعلم. وأما ما يتعلق بأسانيد الباب ففيه عبد الله بن عبد الله بن جبر، فعبد مكبر في اسمه واسم أبيه، وجبر بفتح الجيم وإسكان الباء ويقال فيه أيضا جابر. وفيه البراء بن عازب وهو معروف بالمد، هذا هو المشهور عند أهل العلم من المحدثين وأهل اللغة والأخبار وأصحاب الفنون كلها. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: وحفظت فيه عن بعض أهل اللغة القصر والمد. وفيه يعقوب بن عبد الرحمن القاري بتشديد الياء منسوب إلى القارة قبيلة معروفة. وفيه زر بكسر الزاي وتشديد الراء وهو زر بن حبيش وهو من المعمرين أدرك الجاهلية ومات سنة اثنتين وثمانين وهو ابن مائة وعشرين سنة، وقيل: ابن مائة واثنتين وعشرين سنة، وقيل: مائة وسبعة وعشرين وهو أسدي كوفي. وأما قول مسلم رحمه الله: حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن شعبة عن عبد الله بن عبد الله بن جبر قال: سمعت أنسا يقول. ثم قال مسلم: حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي، حدثنا خالد يعني ابن الحرث، حدثنا شعبة عن عبد الله بن عبد الله عن أنس فهذان الإسنادان رجالهما كلهم بصريون إلا ابن جبر فإنه أنصاري مدني، وقد قدمنا أن شعبة وإن كان واسطيا فقد استوطن البصرة، والله أعلم.
*2* باب بيان نقصان الإِيمان بنقص الطاعات وبيان إطلاق لفظ الكفر على غير الكفر بالله، ككفر النعمة والحقوق
*حدّثنا مُحمّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ الْمِصْرِيّ: أَخْبَرَنَا اللّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ النّسَاءِ تَصَدّقْنَ وَأَكْثِرْنَ الاستغْفَارَ. فَإِنّي رَأَيْتُكُنّ أَكْثَرَ أَهْلِ النّارِ" فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنّ، جَزْلَةٌ: وَمَا لَنَا يَا رَسُولَ اللّهِ أَكْثَرَ أَهْلِ النّارِ. قَالَ: "تُكْثِرْنَ اللّعْنَ. وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِذِي لُبَ مِنْكُنّ" قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ وَالدّينِ؟ قَالَ: "أَمّا نُقْصَانُ الْعَقْلِ فَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ تَعْدِلُ شَهَادَةَ رَجُلٍ. فَهَذَا نُقْصَانُ الْعَقْلِ، وَتَمْكُثُ اللّيَالِيَ مَا تُصَلّي، وَتُفْطرُ فِي رَمَضَانَ، فَهَذَا نُقْصَانُ الدّينِ".
وحدّثنيهِ أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهَبٍ، عَنْ بَكْرِ بْنِ مُضَرَ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ.
وحدّثني الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ الْحُلْوَانِيّ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْن عَبْدِ اللّه، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَقُتَيْبَةُ وَابْنُ حُجْرٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ) عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو، عَنِ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة منهن جزلة: وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن، قالت: يا رسول الله وما نقصان العقل والدين؟ قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد فهذا نقصان العقل، وتمكث الليالي ما تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين) قال أهل اللغة: المعشر هم الجماعة الذين أمرهم واحد أي مشتركون، وهو اسم يتناولهم كالإنس معشر، والجن معشر، والأنبياء معشر، والنساء معشر، ونحو ذلك، وجمعه معاشر. وقوله صلى الله عليه وسلم: "رأيتكن أكثر أهل النار" وهو بنصب أكثر، إما على أن هذه الرؤية تتعدى إلى مفعولين، وإما على الحال على مذهب ابن السراج وأبي علي الفارسي وغيرهما ممن قال: إن أفعل لا يتعرف بالإضافة، وقيل: هو بدل من الكاف في رأيتكن. وأما قولها: وما لنا أكثر أهل النار؟ فمنصوب إما على الحكاية، وإما على الحال. وقوله: جزلة بفتح الجيم وإسكان الزاي أي ذات عقل ورأي، قال ابن دريد: الجزالة العقل والوقار. وأما العشير فبفتح العين وكسر الشين وهو في الأصل المعاشر مطلقا، والمراد هنا الزوج. وأما اللب فهو العقل والمراد كمال العقل. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فهذا نقصان العقل" أي علامة نقصانه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وتمكث الليالي ما تصلي" أي تمكث ليالي وأياما لا تصلي بسبب الحيض، وتفطر أياما من رمضان بسبب الحيض، والله أعلم. وأما أحكام الحديث ففيه جمل من العلوم منها: الحث على الصدقة وأفعال البر والإكثار من الاستغفار وسائر الطاعات، وفيه: أن الحسنات يذهبن السيئات كما قال الله عز وجل، وفيه أن كفران العشير والإحسان من الكبائر، فإن التوعد بالنار من علامة كون المعصية كبيرة، كما سنوضحه قريبا إن شاء الله تعالى، وفيه أن اللعن أيضا من المعاصي الشديدة القبح وليس فيه أنه كبيرة، فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "تكثرن اللعن" والصغيرة إذا أكثرت صارت كبيرة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لعن المؤمن كقتله" واتفق العلماء على تحريم اللعن، فإنه في اللغة الإبعاد والطرد، وفي الشرع الإبعاد من رحمة الله تعالى، فلا يجوز أن يبعد من رحمة الله تعالى من لا يعرف حاله وخاتمة أمره معرفة قطعية، فلهذا قالوا: لا يجوز لعن أحد بعينه مسلما كان أو كافرا أو دابة إلا من علمنا بنص شرعي أنه مات على الكفر أو يموت عليه كأبي جهل وإبليس، وأما اللعن بالوصف فليس بحرام، كلعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة وآكل الربا وموكله والمصورين والظالمين والفاسقين والكافرين، ولعن من غير منار الأرض، ومن تولى غير مواليه، ومن انتسب إلى غير أبيه، ومن أحدث في الإسلام حدثا أو آوى محدثا، وغير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية بإطلاق على الأوصاف لا على الأعيان، والله أعلم. وفيه إطلاق الكفر على غير الكفر بالله تعالى، ككفر العشير والإحسان والنعمة والحق، ويؤخذ من ذلك صحة تأويل الكفر في الأحاديث المتقدمة على ما تأولناها، وفيه بيان زيادة الإيمان ونقصانه، وفيه وعظ الإمام وأصحاب الولايات وكبراء الناس رعاياهم وتحذيرهم المخالفات وتحريضهم على الطاعات، وفيه مراجعة المتعلم العالم والتابع المتبوع فيما قاله إذا لم يظهر له معناه، كمراجعة هذه الجزلة رضي الله عنها، وفيه جواز إطلاق رمضان من غير إضافة إلى الشهر وإن كان الاختيار إضافته، والله أعلم. قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله: قوله صلى الله عليه وسلم: "أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل" تنبيه منه صلى الله عليه وسلم على ما وراءه، وهو ما نبه الله تعالى عليه في كتابه بقوله تعالى: {أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى} أي أنهن قليلات الضبط. قال: وقد اختلف الناس في العقل ما هو: فقيل: هو العلم، وقيل: بعض العلوم الضرورية، وقيل: قوة يميز بها بين حقائق المعلومات هذا كلامه. قلت: والاختلاف في حقيقة العقل وأقسامه كثير معروف لا حاجة هنا إلى الإطالة به، واختلفوا في محله فقال أصحابنا المتكلمون: هو في القلب، وقال بعض العلماء: هو في الرأس، والله أعلم.
وأما وصفه صلى الله عليه وسلم النساء بنقصان الدين لتركهن الصلاة والصوم في زمن الحيض فقد يستشكل معناه وليس بمشكل بل هو ظاهر، فإن الدين والإيمان والإسلام مشتركة في معنى واحد كما قدمناه في مواضع، وقد قدمنا أيضا في مواضع أن الطاعات تسمى إيمانا ودينا، وإذا ثبت هذا علمنا أن من كثرت عبادته زاد إيمانه ودينه، ومن نقصت عبادته نقص دينه، ثم نقص الدين قد يكون على وجه يأثم به، كمن ترك الصلاة أو الصوم أو غيرهما من العبادات الواجبة عليه بلا عذر، وقد يكون على وجه يأثم به، كمن ترك الصلاة أو الصوم أو غيرهما من العبادات الواجبة عليه بلا عذر، وقد يكون على وجه لا إثم فيه، كمن ترك الجمعة أو الغزو أو غير ذلك مما لا يجب عليه لعذر، وقد يكون على وجه هو مكلف به، كترك الحائض الصلاة والصوم، فإن قيل: فإن كانت معذورة فهل تثاب على الصلاة في زمن الحيض وإن كانت لا تقضيها كما يثاب المريض والمسافر ويكتب له في مرضه وسفره مثل نوافل الصلوات التي كان يفعلها في صحته وحضره؟ فالجواب أن ظاهر هذا الحديث أنها لا تثاب، والفرق أن المريض والمسافر كان يفعلها بنية الدوام عليها مع أهليته لها، والحائض ليست كذلك بل نيتها ترك الصلاة في زمن الحيض، بل يحرم عليها نية الصلاة في زمن الحيض، فنظيرها مسافر أو مريض كان يصلي النافلة في وقت ويترك في وقت غير ناو الدوام عليها، فهذا لا يكتب له في سفره ومرضه في الزمن الذي لم يكن يتنفل فيه، والله أعلم. وأما ما يتعلق بأسانيد الباب ففيه ابن الهاد واسمه يزيد بن عبد الله بن أسامة، وأسامة هو الهاد لأنه كان يوقد نارا ليهتدي إليها الأضياف ومن سلك الطريق، وهكذا يقوله المحدثون الهاد وهو صحيح على لغة، والمختار في العربية الهادي بالياء، وقد قدمنا ذكر هذا في مقدمة الكتاب وغيرها، والله أعلم.
وفيه أبو بكر بن إسحاق واسمه محمد. وفيه ابن أبي مريم وهو سعيد بن الحكم بن محمد بن أبي مريم الجمحي أبو محمد المصري الفقيه الجليل. وفيه عمرو بن أبي عمرو عن المقبري، وقد اختلف في المراد بالمقبري هنا هل هو أبو سعيد المقبري أو ابنه سعيد؟ فإن كل واحد منهما يقال له المقبري، وإن كان المقبري في الأصل هو أبو سعيد، فقال الحافظ أبو علي الغساني الجياني عن أبي مسعود الدمشقي: هو أبو سعيد، قال أبو علي: وهذا إنما هو في رواية إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو. قال الدارقطني: خالفه سليمان بن بلال فرواه عن عمرو عن سعيد المقبري، قال الدارقطني: وقول سليمان بن بلال أصح. قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: رواه أبو نعيم الأصفهاني في كتابه المخرج على صحيح مسلم من وجوه مرضية عن إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري هكذا مبينا، لكن رويناه في مسند أبي عوانة المخرج على صحيح مسلم من طريق إسماعيل بن جعفر عن أبي سعيد، ومن طريق سليمان بن بلال عن سعيد كما سبق عن الدارقطني، فالاعتماد عليه إذا، هذا كلام الشيخ. ويقال المقبري بضم الباء وفتحها وجهان مشهوران فيه وهي نسبة إلى المقبرة، وفيها ثلاث لغات: ضم الباء وفتحها وكسرها والثالثة غريبة. قال إبراهيم الحربي وغيره: كان أبو سعيد ينزل المقابر فقيل له المقبري، وقيل: كان منزله عند المقابر، وقيل: إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جعله على حفر القبور فقيل له المقبري، وجعل نعيما على إجمار المسجد فقيل له نعيم المجمر، واسم أبي سعيد كيسان الليثي المدني، والله أعلم.
*2* باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرْيْبٍ قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشّيْطَانُ يَبْكِي. يَقُولُ: يَا وَيْلَهُ. (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ يَا وَيْلِي). أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنّةُ. وَأُمِرْتُ بِالسّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِيَ النّارُ".
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، حَدّثَنَا الأَعْمَشُ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: "فَعَصَيْتُ فَلِيَ النّارُ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّمِيميّ وَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كِلاَهُمَا عَنْ جَرِيرٍ. قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرا يَقُولُ: سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّ بَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ الشّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصّلاَةِ".
حدّثنا أَبُو غَسّانَ الْمِسْمَعِيّ: حَدّثَنَا الضّحّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ، أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بَيْنَ الرّجُلِ وَبَيْنَ الشّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصّلاَةِ".
في الباب حديثان أحدهما: (إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويله. وفي رواية: يا ويلي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار).
والحديث الثاني: (إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة) مقصود مسلم رحمه الله بذكر هذين الحديثين هنا أن من الأفعال ما تركه يوجب الكفر إما حقيقة وإما تسمية. فأما كفر إبليس بسبب السجود فمأخوذ من قول الله تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لاَدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} قال الجمهور: معناه وكان في علم الله تعالى من الكافرين، وقال بعضهم: وصار من الكافرين كقوله تعالى: {وحال بينهما الموج فكان من المغرقين}. وأما تارك الصلاة فإن كان منكرا لوجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين خارج من ملة الإسلام إلا أن يكون قريب عهد بالإسلام ولم يخالط المسلمين مدة يبلغه فيها وجوب الصلاة عليه، وإن كان تركه تكاسلاً مع اعتقاده وجوبها كما هو حال كثير من الناس، فقد اختلف العلماء فيه، فذهب مالك والشافعي رحمهما الله والجماهير من السلف والخلف إلى أنه لا يكفر بل يفسق ويستتاب، فإن تاب وإلا قتلناه حدا كالزاني المحصن ولكنه يقتل بالسيف. وذهب جماعة من السلف إلى أنه يكفر، وهو مروي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وهو إحدى الروايتين عن أحمد بن حنبل رحمه الله، وبه قال عبد الله بن المبارك وإسحاق بن راهويه، وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي رضوان الله عليه. وذهب أبو حنيفة وجماعة من أهل الكوفة والمزني صاحب الشافعي رحمهما الله أنه لا يكفر ولا يقتل بل يعزر ويحبس حتى يصلي. احتج من قال بكفره بظاهر الحديث الثاني المذكور وبالقياس على كلمة التوحيد، واحتج من قال لا يقتل بحديث. "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" وليس فيه الصلاة. واحتج الجمهور على أنه لا يكفر بقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وبقوله صلى الله عليه وسلم: "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة. من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة. ولا يلقى الله تعال عبد بهما غير شاك فيحجب عن الجنة". حرم الله على النار من قال: لا إله إلا الله وغير ذلك، واحتجوا على قتله بقوله تعالى: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم". وتأولوا قوله صلى الله عليه وسلم: "بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة" على معنى أنه يستحق بترك الصلاة عقوبة الكافر وهي القتل، أو أنه محمول على المستحل، أو على أنه قد يؤول به إلى الكفر، أو أن فعله فعل الكفار، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا قرأ ابن آدم السجدة" فمعناه آية السجدة. وقوله: "يا ويله" هو من آداب الكلام، وهو أنه إذا عرض في الحكاية عن الغير ما فيه سوء واقتضت الحكاية رجوع الضمير إلى المتكلم صرف الحاكي الضمير عن نفسه تصاونا عن صورة إضافة السوء إلى نفسه. وقوله في الرواية الأخرى: "يا ويلي" يجوز فيه فتح اللام وكسرها. وقوله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة" هكذا هو في جميع الأصول من صحيح مسلم الشرك والكفر بالواو. وفي مخرج أبي عوانة الإسفرايني وأبي نعيم الأصبهاني أو الكفر بأو، ولكل واحد منهما وجه ومعنى بينه وبين الشرك ترك الصلاة أن الذي يمنع مِنْ كفره كونه لم يترك الصلاة، فإذا تركها لم يبق بينه وبين الشرك حائل بل دخل فيه، ثم إن الشرك والكفر قد يطلقان بمعنى واحد وهو الكفر بالله تعالى، وقد يفرق بينهما فيخص الشرك بعبدة الأوثان وغيرها من المخلوقات مع اعترافهم بالله تعالى ككفار قريش فيكون الكفر أعم من الشرك، والله أعلم. وقد احتج أصحاب أبي حنيفة رحمه الله وإياهم بقوله. "أمر ابن آدم بالسجود" على أن سجود التلاوة واجب، ومذهب مالك والشافعي والكبيرين أنه سنة، وأجابوا عن هذا بأجوبة، أحدها: أن تسمية هذا أمرا إنما هو من كلام إبليس فلا حجة فيها، فإن قالوا: حكاها النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكرها، قلنا: قد حكى غيرها من أقوال الكفار ولم يبطلها حال الحكاية وهي باطلة. والوجه الثاني: أن المراد أمر ندب لا إيجاب. الثالث: المراد المشاركة في السجود لا في الوجوب، والله أعلم. وأما ما يتعلق بأسانيده ففيه أبو غسان وقد تقدم أنه يصرف ولا يصرف واسمه مالك بن عبد الواحد. وفيه أبو سفيان عن جابر وقد تقدم أن اسمه طلحة بن نافع. وفيه أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس تقدم أيضا، والله أعلم.
*2* باب بيان كون الإِيمان بالله تعالى أفضل الأعمال
*وحدّثنا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ: حَدّثَنَا إِبْرَاهِيمَ بْنُ سَعْدٍ. ح وَحَدّثَنِي مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ (يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ) عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيّ الأَعمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "إِيمَانٌ بِالله" قَالَ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله" قَالَ: ثُمّ مَاذَا؟ قَالَ: "حَجّ مَبْرُورٌ". وَفِي رِوَايَةِ مُحمّد بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: "إيمَانٌ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ".
وحدّثنيهِ مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ.
حدّثني أَبُو الرّبِيعِ الزّهْرَانِيّ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زيْدٍ. حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ. ح وَحَدّثَنَا خَلَفُ بْنُ هِشَامٍ (وَاللّفْظُ لَهُ): حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ اللّيْثِيّ، عَنْ أَبِي ذَرَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ!، أَيّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الإِيمَانُ بِالله وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ" قَالَ قُلْتُ: أَيّ الرّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا، وَأَعْلاَهَا ثَمَنا" قَالَ قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَفْعَلْ؟ قَالَ: "تُعِينُ صَانِعا أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ" قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ ضَعُفْتُ عَنْ بَعْضِ الْعَمَلِ؟ قَالَ: "تَكُفّ شَرّكَ عَنِ النّاسِ، فَإِنّهَا صَدَقَةٌ مِنْكَ عَلَى نَفْسِكَ".
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ عبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. (قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ حَبِيب مَوْلَى عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِي مُرَاوِحٍ، عَنْ أَبِي ذَرَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ "فَتُعِينُ الصّانِعَ أَوْ تَصْنَعُ لأَخْرَقَ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهَرٍ، عَنِ الشّيْبَانِيّ، عَنِ الْوَلِيدِ ابْنِ الْعَيْزَارِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِيَاسٍ أَبِي عَمْرٍو الشّيْبَانِيّ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَيّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "الصّلاَةُ لِوَقْتِهَا" قَالَ قُلْتُ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ: "بِرّ الْوَالِدَيْنِ" قَالَ قُلْتُ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ الله" فَمَا تَرَكْتُ أَسْتَزِيدُهُ إِلاّ إِرْعَاءً عَلَيْهِ.
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكّيّ. حَدّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيّ. حَدّثَنَا أَبُو يَعْفُورٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشّيْبَانِيّ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ قُلْتُ: يَا نَبِيّ اللّهِ أَيّ الأَعْمَالِ أَقْرَبُ إِلَى الْجَنّةِ؟ قَالَ: "الصّلاَةُ عَلَى مَوَاقِيتِهَا" قُلْتُ: وَمَاذَا يَا نَبِيّ اللّهِ؟ قَالَ: "بِرّ الْوَالِدَيْنِ" قُلْتُ: وَمَاذَا يَا نَبِيّ اللّهِ؟ قَالَ: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ".
وحدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَريّ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا عَمْرٍو الشّيْبَانِيّ قَالَ: حَدّثَنِي صَاحِبُ هَذِهِ الدّارِ (وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللّهِ) قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيّ الأَعْمَالِ أَحَبّ إِلَى اللّهِ؟ قَالَ: "الصّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا" قُلْتُ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ "ثُمّ بِرّ الْوَالِدَيْنِ" قُلْتُ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ "ثُمّ الّجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ" قَالَ: حَدّثَنِي بِهِنّ، وَلَو اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي.
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ بَشّارٍ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الاْسْنَادِ مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَأَشَارَ إِلَى دَارِ عَبْدِ اللّهِ، وَمَا سَمّاهُ لَنَا.
حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدُ اللّهِ، عَنِ أَبِي عَمْرٍو الشّيْبَانِيّ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "أَفْضَلُ الأَعْمَالِ (أَوْ الْعَمَلِ) الصّلاَةُ لِوَقْتِهَا، وَبِرّ الْوَالِدَيْنِ".
أما أحاديث الباب (فعن أبي هريرة وأبي ذر وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: الإيمان بالله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور. وفي رواية: إيمان بالله ورسوله).
وفي رواية: (الإيمان بالله والجهاد في سبيله، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا، قلت: فإن لم أفعل، قال: تعين صانعا أو تصنع لأخرق، قلت: أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل، قال: تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك). وفي رواية الزهري: (تعين الصانع أو تصنع لأخرق).
وفي رواية: (أي العمل أفضل؟ قال: الصلاة لوقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله، فما تركت أستزيده إلا إرعاء عليه). وفي رواية: (لو استزدته لزادني)
وفي رواية: (أي الأعمال أقرب إلى الجنة؟ قال: الصلاة على مواقيتها، قلت: وماذا؟ قال: بر الوالدين، قلت: وماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله). وفي رواية: (أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين) هذه ألفاظ المتون. وأما أسماء الرجال ففي الباب أبو هريرة وأبو ذر منصور بن أبي مزاحم وابن شهاب وسعيد بن المسيب وأبو الربيع الزهراني وأبو مراوح والشيباني عن الوليد بن العيزار عن سعد بن إياس أبي عمرو الشيباني وأبو يعفور أما ألفاظ الأحاديث فالحج المبرور قال القاضي عياض رحمه الله: قال شمر هو الذي لا يخالطه شيء من المأثم، ومنه برت يمينه إذا سلم من الحنث، وبربيعه إذا سلم من الخداع، وقيل: المبرور المتقبل. وقال الحربي: بر حجك بضم الباء، وبر الله حجك بفتحها إذا رجع مبرورا مأجورا. وفي الحديث: "بر الحج إطعام الطعام وطيب الكلام" فعلى هذا يكون من البر الذي هو فعل الجميل، ومنه بر الوالدين والمؤمنين. قال: ويجوز أن يكون المبرور الصادق الخالص لله تعالى، هذا كلام القاضي. وقال الجوهري في صحاحه: بر حجه وبر حجه بفتح الباء وضمها وبر الله حجه، وقول من قال: المبرور المتقبل قد يستشكل من حيث إنه لا اطلاع على القبول، وجوابه أنه قد قيل: من علامات القبول أن يزداد بعده خيرا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أنفسها عند أهلها" فمعناه أرفعها وأجودها. قال الأصمعي: مال نفيس أي مرغوب فيه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "تعين صانعا أو تصنع لأخرق" الأخرق هو الذي ليس بصانع، يقال: رجل أخرق وامرأة خرقاء لمن لا صنعة له، فإن كان صانعا حاذقا قيل رجل صنع بفتح النون، وامرأة صناع بفتح الصاد. وأما قوله صانعا، وفي الرواية الأخرى الصانع، فروي بالصاد المهملة فيهما وبالنون من الصنع، وروي بالضاد المعجمة وبهمزة بدل للنون تكتب ياء من الضياع، والصحيح عند العلماء رواية الصاد المهملة والأكثر في الرواية بالمعجمة. قال القاضي عياض رحمه الله: روايتنا في هذا من طريق هشام أولاً بالمعجمة فتعين ضائعا، وكذلك في الرواية الأخرى فتعين الضائع من جميع طرقنا عن مسلم في حديث هشام والزهري إلا من رواية أبي الفتح الشاشي عن عبد الغافر الفارسي، فإن شيخنا أبا بحر حدثنا عنه فيهما بالمهملة وهو صواب الكلام لمقابلته بالأخرق، وإن كان المعنى من جهة معونة الضائع أيضا صحيحا، لكن صحت الرواية عن هشام هنا بالصاد المهملة، وكذلك رويناه في صحيح البخاري. قال ابن المديني: الزهري يقول الصانع بالمهملة، ويرون أن هشاما صحف في قوله ضائعا بالمعجمة. وقال الدارقطني عن معمر: كان الزهري يقول صحف هشام، قال الدارقطني وكذلك رواه أصحاب هشام عنه بالمعجمة وهو تصحيف والصواب ما قاله الزهري، هذا كلام القاضي. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: قوله في رواية هشام تعين صانعا هو بالمهملة والنون في أصل الحافظ أبي عامر العبدري وأبي القاسم بن عساكر، قال: وهذا هو الصحيح في نفس الأمر، ولكنه ليس رواية هشام بن عروة إنما روايته بالمعجمة، وكذا جاء مقيدا من غير هذا الوجه في كتاب مسلم في رواية هشام. وأما الرواية الأخرى عن الزهري فتعين الصانع فهي بالمهملة وهي محفوظة عن الزهري كذلك، وكان ينسب هشاما إلى التصحيف. قال الشيخ: وذكر القاضي عياض أنه بالمعجمة في رواية الزهري لرواة كتاب مسلم إلا رواية أبي الفتح السمرقندي، قال الشيخ: وليس الأمر على ما حكاه في رواية أصولنا لكتاب مسلم فكلها مقيدة في رواية الزهري بالمهملة، والله أعلم. وأما بر الوالدين فهو الإحسان إليهما وفعل الجميل معهما وفعل ما يسرهما، ويدخل فيه الإحسان إلى صديقهما، كما جاء في الصحيح: إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه، وضد البر العقوق، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تفسيره. قال أهل اللغة: يقال بررت والدي بكسر الراء أبره بضمها مع فتح الباء برا، وأنا برّ به بفتح الباء وبار، وجمع البر الأبرار، وجمع البار البررة. قوله: فما تركت أستزيده إلا إرعاء عليه، كذا هو في الأصول تركت أستزيده من غير لفظ أن بينهما وهو صحيح وهي مرادة. وقوله: إرعاء هو بكسر الهمزة وإسكان الراء وبالعين المهملة ممدود ومعناه إبقاء عليه ورفقا به، والله أعلم.
وأما أسماء الرجال فأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر على الصحيح تقدم بيانه، وأبو ذر اختلف في اسمه فالأشهر جندب بضم الدال وفتحها ابن جنادة بضم الجيم، وقيل اسمه برير بضم الباء الموحدة وبراءين مهملتين، وأما منصور بن أبي مزاحم فبالزاي والحاء، وجميع ما في الصحيحين مما هذه صورته فهو مزاحم بالزاي والحاء، ولهم في الأسماء مراجم بالراء والجيم، ومنه العوام بن مراجم، واسم أبي مزاحم والد منصور هذا بشير بفتح الباء، وأما ابن شهاب فتقدم مرات وهو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب، وأما ابن المسيب فتقدم أيضا مرات أنه بفتح الياء على المشهور وقيل بكسرها، وأما أبو الربيع الزهراني فتقدم أيضا أن اسمه سليمان بن داود، وأما أبو مراوح فبضم الميم وبالراء والحاء المهملة والواو مكسورة، قال ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة وليس يوقف له على اسم واسمه كنيته، قال: إلا أن مسلم بن الحجاج ذكره في الطبقات فقال: اسمه سعد وذكره في الكنى ولم يذكر اسمه، ويقال في نسبه الغفاري ويقال الليثي، قال أبو علي الغساني: هو الغفاري ثم الليثي. وأما الشيباني الراوي عن الوليد بن العيزار فهو أبو إسحاق سليمان بن فيروز الكوفي وأما أبو يعفور فبالعين المهملة والفاء والراء واسمه عبد الرحمن بن عبيد بن نسطاس بكسر النون وبالسين المهملة المكررة الثعلبي بالمثلثة العامري البكاي ويقال البكالي ويقال البكاري الكوفي، ونسطاس غير مصروف، وأبو يعفور هذا هو الأصغر، وقد ذكره مسلم أيضا في باب التطبيق في الركوع، ولهم أبو يعفور الأكبر العبدي الكوفي التابعي واسمه واقد، وقيل وقدان، وقد ذكره مسلم أيضا في باب صلاة الوتر وقال: اسمه واقد ولقبه وقدان، ولهم أيضا أبو يعفور ثالث اسمه عبد الكريم بن يعفور الجعفي البصري يروي عنه قتيبة ويحيى بن يحيى وغيرهما، وآباء يعفور هؤلاء الثلاثة ثقات. وأما الوليد بن العيزار فبالعين المهملة المفتوحة وبالزاي قبل الألف والراء بعدها. وأما قوله: أخبرنا معمر عن الزهري عن حبيب مولى عروة بن الزبير عن عروة بن الزبير عن أبي مراوح عن أبي ذر ففيه لطيفة من لطائف الإسناد وهو أنه اجتمع فيه أربعة تابعيون يروي بعضهم عن بعض وهو: الزهري وحبيب وعروة وأبو مراوح، فأما الزهري وعروة وأبو مراوح فتابعيون معروفون، وأما حبيب مولى عروة فقد روى عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، قال محمد بن سعد: مات حبيب مولى عروة هذا قديما في آخر سلطان بني أمية، فروايته عن أسماء مع هذا ظاهرها أنه أدركها وأدرك غيرها من الصحابة فيكون تابعيا، والله أعلم. أما معاني الأحاديث وفقهها فقد يستشكل الجمع بينها مع ما جاء في معناها من حيث إنه جعل في حديث أبي هريرة أن الأفضل الإيمان بالله ثم الجهاد ثم الحج. وفي حديث أبي ذر: الإيمان والجهاد. وفي حديث ابن مسعود: الصلاة ثم بر الوالدين ثم الجهاد. وتقدم في حديث عبدالله بن عمرو: "أي الإسلام خير؟ قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" وفي حديث أبي موسى وعبد الله بن عمرو: "أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسان ويده"وصح في حديث عثمان: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وأمثال هذا في الصحيح كثيرة. واختلف العلماء في الجمع بينها، فذكر الإمام الجليل أبو عبد الله الحليمي الشافعي عن شيخه الإمام العلامة المتقن أبي بكر القفال الشاشي الكبير وهو غير القفال الصغير المروزي المذكور في كتب متأخري أصحابنا الخراسانيين، قال الحليمي: وكان القفال أعلم من لقيته من علماءعصره أنه جمع بينها بوجهين، أحدهما: أن ذلك اختلاف جواب جرى على حسب اختلاف الأحوال والأشخاص فإنه قد يقال: خير الأشياء كذا، ولا يراد به خير جميع الأشياء من جميع الوجوه، وفي جميع الأحوال والأشخاص، بل في حال دون حال أو نحو ذلك، واستشهد في ذلك بأخبار منها عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "حجة لمن لم يحج أفضل من أربعين غزوة، وغزوة لمن حج أفضل من أربعين حجة".
الوجه الثاني: أنه يجوز أن يكون المراد من أفضل الأعمال كذا أو من خيرها أو من خيركم من فعل كذا فحذفت من وهي مرادة كما يقال: فلان أعقل الناس وأفضلهم، ويراد أنه من أعقلهم وأفضلهم، ومن ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خيركم خيركم لأهله" ومعلوم أنه لا يصير بذلك خير الناس مطلقا، ومن ذلك قولهم: أزهد الناس في العالم جيرانه، وقد يوجد في غيرهم من هو أزهد منهم فيه، هذا كلام القفال رحمة الله، وعلى هذا الوجه الثاني يكون الإيمان أفضلها مطلقا، والباقيات متساوية في كونها من أفضل الأعمال والأحوال، ثم يعرف فضل بعضها على بعض بدلائل تدل عليها وتختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فإن قيل: فقد جاء في بعض هذه الروايات أفضلها كذا ثم كذا بحرف ثم وهي موضوعة للترتيب، فالجواب: أن ثم هنا للترتيب في الذكر كما قال تعالى: {وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين آمنوا} ومعلوم أنه ليس المراد هنا الترتيب في الفعل وكما قال تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا، إلى قوله: ثم آتينا موسى الكتاب} وقوله تعالى: {ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لاَدم} ونظائر ذلك كثيرة، وأنشدوا فيه:
قل لمن ساد ثم ساد أبوهثم قد ساد قبل ذلك جده
وذكر القاضي عياض في الجمع بينهما وجهين، أحدهما: نحو الأول من الوجهين اللذين حكيناهما قال: قيل اختلف الجواب لاختلاف الأحوال، فأعلم كل قوم بما بهم حاجة إليه أو بما لم يكملوه بعد من دعائم الإسلام ولا بلغهم علمه. والثاني: أنه قدم الجهاد على الحج لأنه كان أول الإسلام ومحاربة أعدائه والجد في إظهاره، وذكر صاحب التحرير هذا الوجه الثاني ووجها آخر أن ثم لا تقتضي ترتيبا، وهذا قول شاذ عند أهل العربية والأصول، ثم قال صاحب التحرير: والصحيح أنه محمول على الجهاد في وقت الزحف الملجئ والنفير العام، فإنه حينئذ يجب الجهاد على الجميع، وإذا كان هكذا فالجهاد أولى بالتحريض والتقديم من الحج لما في الجهاد من المصلحة العامة للمسلمين مع أنه متعين متضيق في هذا الحال بخلاف الحج، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل: "أي الأعمال أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله" ففيه تصريح بأن العمل يطلق على الإيمان، والمراد به والله أعلم الإيمان الذي يدخل به في ملة الإسلام وهو التصديق بقلبه والنطق بالشهادتين، فالتصديق عمل القلب والنطق عمل اللسان، ولا يدخل في الإيمان ههنا الأعمال بسائر الجوارح كالصوم والصلاة والحج والجهاد وغيرها لكونه جعل قسما للجهاد والحج، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "إيمان بالله ورسوله" ولا يقال هذا في الأعمال، ولا يمنع هذا من تسمية الأعمال المذكورة إيمانا فقد قدمنا دلائله، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرقاب: "أفضلها أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنا" فالمراد به والله أعلم إذا أراد أن يعتق رقبة واحدة، أما إذا كان معه ألف درهم وأمكن أن يشتري بها رقبتين مفضولتين أو رقبة نفيسة مثمنة فالرقبتان أفضل، وهذا بخلاف الأضحية فإن التضحية بشاة سمينة أفضل من التضحية بشاتين دونها في السمن. قال البغوي من أصحابنا رحمه الله في التهذيب بعد أن ذكر هاتين المسألتين كما ذكرت: قال الشافعي رضي الله عنه في الأضحية استكثار القيمة مع استقلال العدد أحب إلي من استكثار العدد مع استقلال القيمة، وفي العتق استكثار العدد مع استقلال القيمة أحب إلي من استكثار القيمة مع استقلال العدد، لأن المقصود من الأضحية اللحم ولحم السمين أوفر وأطيب، والمقصود من العتق تكميل حال الشخص وتخليصه من ذل الرق، فتخليص جماعة أفضل من تخليص واحد، والله أعلم. وفي هذا الحديث الحث على المحافظة على الصلاة في وقتها، ويمكن أن يؤخذ منه استحبابها في أول الوقت لكونه احتياطا لها ومبادرة إلى تحصيلها في وقتها، وفيه حسن المراجعة في السؤال، وفيه صبر المفتي والمعلم على من يفتيه أو يعلمه واحتمال كثرة مسائله وتقريراته، وفيه رفق المتعلم بالمعلم ومراعاة مصالحه والشف قة عليه لقوله: فما تركت أستزيده إلا إرعاء عليه، وفيه جواز استعمال لو لقوله: ولو استزدته لزادني، وفيه جواز إخبار الإنسان عما لم يقع أنه لو كان كذا لوقع لقوله: لو استزدته لزادني، والله أعلم.
*2* باب كون الشرك أقبح الذنوب وبيان أعظمها بعده
*حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ. وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيّ الذنبِ أَعْظَمُ عِنْدَ الله؟ قَالَ: "أَنْ تَجْعَلَ لله نِدّا وَهُوَ خَلَقَكَ" قَالَ قُلْتُ لَهُ: إِنّ ذَلِكَ لَعَظِيمٌ. قَالَ قُلْتُ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ: "ثُمّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ" قَالَ قُلْتُ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ: "ثُمّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكِ".
حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعا عَنْ جَرِيرٍ. قَالَ عُثْمَانُ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْن شُرَحْبِيلَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللّهِ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَيّ الذّنْبِ أَكْبَرُ عِنْدَ الله؟ قَالَ: "أَنْ تَدْعُوَ لله نِدّا وَهُوَ خَلَقَكَ" قَالَ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ: "أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ" قَالَ: ثُمّ أَيّ؟ قَالَ: "أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ" فَأَنْزَلَ الله عَزّ وَجَلّ تَصْدِيقَهَا: {وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ الله إِلاّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلكَ يَلْقَ أَثَاما} (الفرقان، آية: ).
فيه (عثمان بن أبي شيبة عن جرير عن منصور عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله تعالى؟ قال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك، قال: قلت: إن ذلك لعظيم، قال: قلت: ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: قلت: ثمّ أي؟ قال: ثم أن تزاني حليلة جارك. وفي الرواية الأخرى: عثمان بن أبي شيبة أيضا عن جرير عن الأعمش عن أبي وائل عن عمرو بن شرحبيل عن عبد الله فذكره وزاد: فأنزل الله تعالى تصديقها: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما} أما الإسنادان ففيهما لطيفة عجيبة غريبة، وهي أنهما إسنادان متلاصقان رواتهما جميعهم كوفيون، وجرير هو ابن عبد الحميد، ومنصور هو ابن المعتمر، وأبو وائل هو شقيق بن سلمة، وشرحبيل غير منصرف لكونه اسما عجميا علما، والند المثل روى شمر عن الأخفش قال: الند الضد والشبه، وفلان ند فلان ونديده ونديدته أي مثله. وقوله صلى الله عليه وسلم: (مخافة أن يطعم معك) هو بفتح الياء أي يأكل وهو معنى قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} أي فقر. وقوله تعالى: {يلق أثاما} قيل معناه جزاء إثمه، وهو قول الخليل وسيبويه وأبي عمرو الشيباني والفراء والزجاج وأبي علي الفارسي. وقيل: معناه عقوبة قاله يونس وأبو عبيدة. وقيل معناه جزاء قاله ابن عباس والسدي. وقال أكثر المفسرين أو كثيرون منهم: هو واد في جهنم عافانا الله الكريم وأحبابنا منها. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أن تزاني حليلة جارك" هي بالحاء المهملة وهي زوجته سميت بذلك لكونها تحل له، وقيل: لكونها تحل معه، ومعنى تزاني أي تزني بها برضاها، وذلك يتضمن الزنا وإفسادها على زوجها واستمالة قلبها إلى الزاني وذلك أفحش وهو مع امرأة الجار أشد قبحا وأعظم جرما، لأن الجار يتوقع من جاره الذب عنه وعن حريمه، ويأمن بوائقه ويطمئن إليه، وقد أمر بإكرامه والإحسان إليه، فإذا قابل هذا كله بالزنا بامرأته وإفسادها عليه مع تمكنه منها على وجه لا يتمكن غيره منه كان في غاية من القبح. وقوله سبحانه وتعالى: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} معناه أي لا تقتلوا النفس التي هي معصومة في الأصل إلا محقين في قتلها. أما أحكام هذا الحديث ففيه أن أكبر المعاصي الشرك وهذا ظاهر لا خفاء فيه، وأن القتل بغير حق يليه، وكذلك قال أصحابنا: أكبر الكبائر بعد الشرك القتل، وكذا نص عليه الشافعي رضي الله عنه في كتاب الشهادات من مختصر المزني، وأما ما سواهما من الزنا واللواط وعقوق الوالدين والسحر وقذف المحصنات والفرار يوم الزحف وأكل الربا وغير ذلك من الكبائر فلها تفاصيل وأحكام تعرف بها مراتبها، ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المرتبة عليها، وعلى هذا يقال في كل واحدة واحدة منها هي من أكبر الكبائر، وإن جاء في موضع أنها أكبر الكبائر كان المراد من أكبر الكبائر كما تقدم في أفضل الأعمال، والله أعلم.
*2* باب بيان الكبائر وأكبرها
*حدّثني عَمْرُو بْن مُحمّدُ بْنُ بُكَيرِ بْنِ مُحمّدٍ النّاقِدُ. حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيّةَ، عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَلاَ أُنَبّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ (ثَلاَثا): الإِشْرَاكُ بِالله. وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. وَشَهَادَةُ الزّورِ، (أَوْ قَوْلُ الزّورِ)" وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مُتّكِئا فَجَلَسَ. فَمَا زَالَ يُكَرّرُهَا حَتّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ!
وحدّثني يَحْيَىَ بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ. حَدّثَنَا خَالِدٌ (وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ) حَدّثَنَا شُعْبَةُ. أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي الْكَبَائِرِ قَالَ: "الشّرْكُ بِالله. وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ. وَقَتْلُ النّفْسِ. وَقَوْلُ الزّورِ".
وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْحميدِ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ: قَالَ: حَدّثَنِي عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْكَبَائِرَ (أَوْ سُئِلَ عَنِ الْكَبَائِرِ) فَقَالَ: "الشّرْكُ بِالله. وَقَتْلُ النّفْسِ. وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ" وَقَالَ: "أَلاَ أُنَبّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟" قَالَ: "قَوْلُ الزّورِ (أَوْ قَالَ شَهَادَةُ الزّورِ)" قَالَ شُعْبَةُ: ظَنّي أَنهُ شَهَادَةُ الزّورِ.
حدّثني هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: حَدّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اجْتَنِبُوا السّبْعَ الْمُوبِقَاتِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا هُنّ؟ قَالَ: "الشّرْكُ بِالله. وَالسّحْرُ، وَقَتْلُ النّفْسِ الّتِي حَرّمَ الله إِلاّ بِالْحَقّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرّبَا، وَالتّوَلّي يَوْمَ الزّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا اللّيْثُ عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ سَعْدٍ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مِنَ الْكَبَائِرِ شَتْمُ الرّجُلِ وَالِدَيْهِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ وَهَلْ يَشْتِمُ الرّجُلُ وَالِدَيْهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ. يَسُبّ أَبَا الرّجُلِ، فَيَسُبّ أَبَاهُ. وَيَسُبّ أُمّهُ، فَيَسُبّ أُمّهُ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ، جَمِيعا، عَنْ مُحمّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ. ح وَحَدّثَنِي مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ، كِلاَهُمَا، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ.
فيه (أبو بكرة رضي الله عنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور أو قول الزور. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت).
قال مسلم رحمه الله: (وحدثني يحيى بن حبيب الحارثي حذثنا خالد وهو ابن الحارث، حدثنا شعبة، حدثنا عبيد الله بن أبي بكر عن أنس رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الكبائر قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، وقول الزور). قال مسلم رحمه الله: (وحدثني محمد بن الوليد بن عبد الحميد، حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة، حدثني عبيد الله بن أبي بكر قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور أو قال شهادة الزور، قال شعبة: وأكبر ظني أنه شهادة الزور).
وعن أبي الغيث عن أبي هريرة رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: اجتنبوا السبع الموبقات، قيل: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات).
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من الكبائر شتم الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه). أما أبو بكرة فاسمه نفيع بن الحرث وقد تقدم، وأما الإسنادان اللذان ذكرهما فهما بصريون كلهم من أولهما إلى آخرهما، إلا أن شعبة واسطي بصري فلا يقدح هذا في كونهما بصريين وهذا من الطرف المستحسنة، وقد تقدم في الباب الذي قبل هذا نظيرهما في الكوفيين. وقوله: حدثنا خالد وهو ابن الحرث قد قدمنا بيان فائدة قوله وهو ابن الحرث ولم يقل خالد بن الحرث وهو أنه إنما سمع في الرواية خالد ولخالد مشاركون فأراد تمييزه، ولا يجوز له أن يقول: حدثنا خالد بن الحرث لأنه يصير كاذبا على المروي عنه، فإنه لم يقل إلا خالد فعدل إلى لفظة وهو ابن الحرث لتحصل الفائدة بالتمييز والسلامة من الكذب. وقوله: عبيد الله بن أبي بكر هو أبو بكر بن أنس بن مالك فعبيد الله يروي عن جده. وقوله: أكبر ظني هو بالباء الموحدة، وأبو الغيث اسمه سالم. وقوله في أول الباب عن سعيد الجريري هو بضم الجيم منسوب إلى جرير مصغر وهو جرير بن عباد بضم العين وتخفيف الباء بطن من بكر بن وائل، وهو سعيد بن إياس أبو مسعود البصري. وأما الموبقات فهي المهلكات يقال: وبق الرجل بفتح الباء يبق بكسرها، ووبق بضم الواو وكسر الباء يوبق إذا هلك، وأوبق غيره أي أهلكه، وأما الزور فقال الثعلبي المفسر وأبو إسحاق وغيره: أصله تحسين الشيء ووصفه بخلاف صفته، حتى يخيل إلى من سمعه أو رآه أنه بخلاف ما هو به، فهو تمويه الباطل بما يوهم أنه حق. وأما المحصنات الغافلات فبكسر الصاد وفتحها قراءتان في السبع، قرأ الكسائي بالكسر والباقون بالفتح، والمراد بالمحصنات هنا العفائف، وبالغافلات الغافلات عن الفواحش وما قذفن به، وقد ورد الإحصان في الشرع على خمسة أقسام: العفة والإسلام والنكاح والتزويج والحرية، وقد بينت مواطنه وشرائطه وشواهده في كتاب تهذيب الأسماء واللغات، والله أعلم. وأما معاني الأحاديث وفقهها فقد قدمنا في الباب الذي قبل هذا كيفية ترتيب الكبائر، قال العلماء رحمهم الله: ولا انحصار للكبائر في عدد مذكور. وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن الكبائر أسبع هي؟ فقال: هي إلى سبعين، ويروى إلى سبعمائة أقرب. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الكبائر سبع" فالمراد به من الكبائر سبع، فإن هذه الصيغة وإن كانت للعموم فهي مخصوصة بلا شك، وإنما وقع الاقتصار على هذه السبع. وفي الرواية الأخرى ثلاث، وفي الأخرى أربع لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية، ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى، وهذا مصرح بما ذكرته من أن المراد البعض، وقد جاء بعد هذا من الكبائر شتم الرجل والديه، وجاء في النميمة وعدم الاستبراء من البول أنهما من الكبائر، وجاء في غير مسلم من الكبائر اليمين الغموس واستحلال بيت الله الحرام، وقد اختلف العلماء في حد الكبيرة وتمييزها من الصغيرة، فجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما: "كل شيء نهى الله عنه فهو كبيرة" وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني الفقيه الشافعي الإمام في علم الأصول والفقه وغيره، وحكى القاضي عياض رحمه الله هذا المذهب عن المحققين، واحتج القائلون بهذا بأن كل مخالفة فهي بالنسبة إلى جلال الله تعالى كبيرة، وذهب الجماهير من السلف والخلف من جميع الطوائف إلى انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر، وهو مروي أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقد تظاهر على ذلك دلائل من الكتاب والسنة واستعمال سلف الأمة وخلفها، قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه البسيط في المذهب: إنكار الفرق بين الصغيرة والكبيرة لا يليق بالفقه، وقد فهما من مدارك الشرع، وهذا الذي قاله أبو حامد قد قاله غيره بمعناه، ولا شك في كون المخالفة قبيحة جدا بالنسبة إلى جلال الله تعالى، ولكن بعضها أعظم من بعض، وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان أو الحج أو العمرة أو الوضوء أو صوم عرفة أو صوم عاشوراء أو فعل الحسنة، أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، وإلى ما لا يكفره ذلك كما ثبت في الصحيح ما لم يغش كبيرة، فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها صغائر وما لا تكفره كبائر، ولا شك في حسن هذا، ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى، فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها لكونها أقل قبحا ولكونها متيسرة التكفير، والله أعلم. وإذا ثبت انقسام المعاصي إلى صغائر وكبائر فقد اختلفوا في ضبطها اختلافا كثيرا منتشرا جدا، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الكبائر كل ذنب ختمه الله تعالى بنار أو غضب أو لعنة أو عذاب، ونحو هذا عن الحسن البصري. وقال آخرون: هي ما أوعد الله عليه بنار أو حد في الدنيا.
وقال أبو حامد الغزالي في البسيط: والضابط الشامل المعنوي في ضبط الكبيرة أن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم، كالمتهاون بارتكابها والمتجرئ عليه اعتيادا، فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة، وما يحمل على فلتات النفس أو اللسان وفترة مراقبة التقوى، ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية، فهذا لا يمنع العدالة وليس هو بكبيرة. وقال الشيخ الإمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في فتاويه: الكبيرة كل ذنب كبر وعظم عظما يصح معه أن يطلق عليه اسم الكبير، ووصف بكونه عظيما على الإطلاق، قال: هذا حد الكبيرة ثم لها أمارات: منها إيجاب الحد، ومنها الإيعاد عليها بالعذاب بالنار، ونحوها في الكتاب أو السنة، ومنها وصف فاعلها بالفسق نصا، ومنها اللعن كلعن الله سبحانه وتعالى من غير منار الأرض. وقال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله في كتابه القواعد: إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليه، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر فهي من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر أو ربت عليه فهي من الكبائر، فمن شتم الرب سبحانه وتعالى أو رسوله صلى الله عليه وسلم أو استهان بالرسل أو كذب واحدا منهم، أو ضمخ الكعبة بالعذرة، أو ألقى المصحف في القاذورات، فهي من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة، وكذلك لو أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو أمسك مسلما لمن يقتله، فلا شك أن مفسدة ذلك أعظم من مفسدة أكل مال اليتيم مع كونه من الكبائر، وكذلك لو دل الكفار على عورات المسلمين مع علمه أنهم يستأصلون بدلالته ويسبون حرمهم وأطفالهم ويغنمون أموالهم، فإن نسبته إلى هذه المفاسد أعظم من توليه يوم الزحف بغير عذر مع كونه من الكبائر، وكذلك لو كذب على إنسان كذبا يعلم أنه يقتل بسببه، أما إذا كذب عليه كذبا يؤخذ منه بسببه تمرة فليس كذبه من الكبائر، قال: وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر، فإن وقعا في مال خطير فهذا ظاهر، وإن وقعا في مال حقير فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطاما عن هذه المفاسد، كما جعل شرب قطرة من خمر من الكبائر وإن لم تتحقق المفسدة، ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة. قال: والحكم بغير الحق كبيرة، فإن شاهد الزور متسبب والحاكم مباشر، فإذا جعل السبب كبيرة فالمباشرة أولى، قال: وقد ضبط بعض العلماء الكبائر بأنها كل ذنب قرن به وعيد أو حد أو لعن، فعلى هذا كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قرن به الوعيد أو الحد أو اللعن أو أكثر من مفسدته فهو كبيرة، ثم قال: والأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها في دينه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليه، والله أعلم. هذا آخر كلام الشيخ أبي محمد بن عبد السلام رحمه الله. قال الإمام أبو الحسن الواحدي المفسر وغيره: الصحيح أن حد الكبيرة غير معروف، بل ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر، وأنواع بأنها صغائر، وأنواع لم توصف وهي مشتملة على صغائر وكبائر، والحكمة في عدم بيانها أن يكون العبد ممتنعا من جميعها مخافة أن يكون من الكبائر، قالوا: وهذا شبيه بإخفاء ليلة القدر، وساعة يوم الجمعة، وساعة إجابة الدعاء من الليل، واسم الله الأعظم، ونحو ذلك مما أخفي، والله أعلم. قال العلماء رحمهم الله: والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة. وروي عن عمر وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم: "لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار" معناه أن الكبيرة تمحى بالاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار. قال الشيخ أبو محمد بن عبد السلام في حد الإصرار: هو أن تتكرر منه الصغيرة تكرارا يشعر بقلة مبالاته بدينه إشعار ارتكاب الكبيرة بذلك. قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع بحيث يشعر مجموعها بما يشعر به أصغر الكبائر. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: المصر من تلبس من أضداد التوبة باسم العزم على المعاودة أو باستدامة الفعل بحيث يدخل به ذنبه في حيز ما يطلق عليه الوصف بصيرورته كبيرا عظيما، وليس لزمان ذلك وعدده حصر، والله أعلم. هذا مختصر ما يتعلق بضبط الكبيرة. وأما قوله: قال: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا" فمعناه قال هذا الكلام ثلاث مرات، وأما عقوق الوالدين فهو مأخوذ من العق وهو القطع، وذكر الأزهري أنه يقال عق والده يعقه بضم العين عقا وعقوقا إذا قطعه ولم يصل رحمه، وجمع العاق عققة بفتح الحروف كلها، وعقق بضم العين والقاف. وقال صاحب المحكم: رجل عقق وعقق وعق وعاق بمعنى واحد، وهو الذي شق عصا الطاعة لوالده، هذا قول أهل اللغة. وأما حقيقة العقوق المحرم شرعا فقل من ضبطه.
وقد قال الشيخ الإمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله: لم أقف في عقوق الوالدين وفيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمده، فإنه لا يجب طاعتهما في كل ما يأمران به وينهيان عنه باتفاق العلماء، وقد حرم على الولد الجهاد بغير إذنهما لما يشق عليهما من توقع قتله أو قطع عضو من أعضائه ولشدة تفجعهما على ذلك، وقد ألحق بذلك كل سفر يخافان فيه على نفسه أو عضو من أعضائه، هذا كلام الشيخ أبي محمد. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في فتاويه: العقوق المحرم كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه تأذيا ليس بالهين مع كونه ليس من الأفعال الواجبة، قال: وربما قيل طاعة الوالدين واجبة في كل ما ليس بمعصية، ومخالفة أمرهما في ذلك عقوق، وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات، قال: وليس قول من قال من علمائنا يجوز له السفر في طلب العلم وفي التجارة بغير إذنهما مخالفا لما ذكرته، فإن هذا كلام مطلق، وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر قول الزور أو شهادة الزور" فليس على ظاهره المتبادر إلى الإفهام منه وذلك لأن الشرك أكبر منه بلا شك، وكذا القتل فلا بد من تأويله، وفي تأويله ثلاثة أوجه، أحدها: أنه محمول على الكفر، فإن الكافر شاهد بالزور وعامل به. والثاني: أنه محمول على المستحيل فيصير بذلك كافرا. والثالث: أن المراد من أكبر الكبائر كما قدمناه في نظائره، وهذا الثالث هو الظاهر أو الصواب. فأما حمله على الكفر فضعيف، لأن هذا خرج مخرج الزجر عن شهادة الزور في الحقوق. وأما قبح الكفر وكونه أكبر الكبائر فكان معروفا عندهم، ولا يتشكك أحد من أهل القبلة في ذلك، فحمله عليه يخرجه عن الفائدة، ثم الظاهر الذي يقتضيه عموم الحديث وإطلاقه والقواعد أنه لا فرق في كون شهادة الزور بالحقوق كبيرة بين أن تكون بحق عظيم أو حقير، وقد يحتمل على بعد أن يقال فيه الاحتمال الذي قدمته عن الشيخ أبي محمد بن عبد السلام في أكل تمرة من مال اليتيم، والله أعلم. وأما عده صلى الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من الكبائر فدليل صريح لمذهب العلماء كافة في كونه كبيرة، إلا ما حكي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: ليس هو من الكبائر، قال: والاَية الكريمة في ذلك إنما وردت في أهل بدر خاصة، والصواب ما قاله الجماهير أنه عام باق، والله أعلم. وأما قوله: فكان متكئا فجلس فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت، فجلوسه صلى الله عليه وسلم لاهتمامه بهذا الأمر وهو يفيد تأكيد تحريمه وعظم قبحه. وأما قولهم: ليته سكت، فإنما قالوه وتمنوه شف قة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكراهة لما يزعجه ويغضبه. وأما عده صلى الله عليه وسلم السحر من الكبائر فهو دليل لمذهبنا الصحيح المشهور ومذهب الجماهير أن السحر حرام من الكبائر فعله وتعلمه وتعليمه. وقال بعض أصحابنا: أن تعلمه ليس بحرام، بل يجوز ليعرف ويرد على صاحبه ويميز عن الكرامة للأولياء، وهذا القائل يمكنه أن يحمل الحديث على فعل السحر، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من الكبائر شتم الرجل والديه" إلى آخره، ففيه دليل على أن من تسبب في شيء جاز أن ينسب إليه ذلك الشيء، وإنما جعل هذا عقوقا لكونه يحصل منه ما يتأذى به الوالد تأذيا ليس بالهين كما تقدم في حد العقوق، والله أعلم. وفيه قطع الذرائع، فيؤخذ منه النهي عن بيع العصير ممن يتخذ الخمر، والسلاح ممن يقطع الطريق ونحو ذلك، والله أعلم.
*2* باب تحريم الكبر وبيانه
*وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ مُحمّدُ بْنُ بَشّار وَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِينَارٍ، جَمِيعا عَنْ يَحْيَىَ بْنِ حَمّادٍ. قَالَ ابْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنِي يَحْيَىَ بْنُ حَمّادٍ. أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبَان بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ فُضَيْلٍ الْفُقَيْمِيّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النّخَعِيّ، عَنْ عَلْقَمَة، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرّةٍ مِنْ كِبْرٍ" قَالَ رَجُلٌ: إِنّ الرّجُلَ يُحِبّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنا، وَنَعْلُهُ حَسَنَةً. قَالَ: "إِنّ الله جَمِيلٌ يُحِبّ الْجَمَالَ. الْكِبْرُ: بَطَرُ الْحَقّ وَغَمْطُ النّاسِ".
حدّثنا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التّمِيمِيّ وَ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلاَهُمَا عَنْ عَلِيَ بْنِ مُسْهرٍ. قَالَ مِنْجَابٌ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ الله قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَدْخُلُ النّارَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّةِ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ. وَلاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرِيَاءَ".
وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ بَشّارٍ: حَدّثَنَا أَبُو دَاوُدَ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبَانِ بْنِ تَغْلِبَ، عَنْ فُضَيْلٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرّةٍ مِنْ كِبْرٍ".
فيه أبان بن تغلب عن فضيل الفقيمي عن إبرهيم النخعي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق وغمط لناس. قال مسلم رحمه الله: (حدثنا منجاب وسويد بن سعيد عن علي بن مسهر عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان، ولا يدخل الجنة أحد في قلبه مثقال حبة خرد من كبرياء") قد تقدم أن أبانا يجوز صرفه وترك صرفه، وأن الصرف أفصح. وتغلب بالغين المعجمة وكسر اللام. وأما الفقيمي فبضم الفاء وفتح القاف. ومنجاب بكسر الميم وإسكان النون وبالجيم وآخره باء موحدة. ومسهر بضم الميم وكسر الهاء. وفي هذا الإسناد الثاني لطيفتان من لطائف الإسناد، إحداهما: أن فيه ثلاثة تابعيين يروي بعضهم عن بعض وهم: الأعمش، وإبراهيم وعلقمة. والثانية: أنه إسناد كوفي كله، فمنجاب وعبد الله بن مسعود ومن بينهما كوفيون إلا سويد بن سعيد رفيق منجاب فيغني عنه منجاب. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وغمط الناس" هو بفتح الغين المعجمة وإسكان الميم وبالطاء المهملة، هكذا هو في نسخ صحيح مسلم رحمه الله. قال القاضي عياض رحمه الله: لم نرو هذا الحديث عن جميع شيوخنا هنا. وفي البخاري: إلا بالطاء، قال: وبالطاء ذكره أبو داود في مصنفه، وذكره أبو عيسى الترمذي وغيره غمص بالصاد وهما بمعنى واحد ومعناه احتقارهم، يقال في الفعل منه غمطه بفتح الميم يغمطه بكسرها وغمطه بكسر الميم يغمطه بفتحها. وأما: "بطر الحق" فهو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من كبرياء" هي غير مصروفة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله جميل يحب الجمال" اختلفوا في معناه فقيل: إن معناه أن كل أمره سبحانه وتعالى حسن جميل، وله الأسماء الحسنى وصفات الجمال والكمال، وقيل: جميل بمعنى مجمل ككريم وسميع بمعنى مكرم ومسمع. وقال الإمام أبو القاسم القشيري رحمه الله: معناه جليل. وحكى الإمام أبو سليمان الخطابي أنه بمعنى ذي النور والبهجة أي مالكهما، وقيل معناه جميل الأفعال بكم باللطف والنظر إليكم، يكلفكم اليسير من العمل ويعين عليه، ويثيب عليه الجزيل ويشكر عليه، واعلم أن هذا الاسم ورد في هذا الحديث الصحيح ولكنه من أخبار الاَحاد، وورد أيضا في حديث الأسماء الحسنى وفي إسناده مقال، والمختار جواز إطلاقه على الله تعالى، ومن العلماء من منعه، قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين رحمه الله تعالى: ما ورد الشرع بإطلاقه في أسماء الله تعالى وصفاته أطلقناه، وما منع الشرع من إطلاقه منعناه، وما لم يرد فيه إذن ولا منع لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم، فإن الأحكام الشرعية تتلقى من موارد الشرع، ولو قضينا بتحليل أو تحريم لكنا مثبتين حكما بغير الشرع، قال: ثم لا يشترط في جواز الإطلاق ورود ما يقطع به في الشرع، ولكن ما يقتضي للعمل وإن لم يوجب العلم فإنه كاف، إلا أن الأقيسة الشرعية من مقتضيات العمل، ولا يجوز التمسك بهن في تسمية الله تعالى ووصفه، هذا كلام إمام الحرمين، ومحله من الإتقان والتحقيق بالعلم مطلقا، وبهذا الفن خصوصا معروف بالغاية العليا. وأما قوله: لم نقض فيه بتحليل ولا تحريم لأن ذلك لا يكون إلا بالشرع، فهذا مبني على المذهب المختار في حكم الأشياء قبل ورود الشرع، فإن المذهب الصحيح عند المحققين من أصحابنا أنه لا حكم فيها لا بتحليل ولا تحريم ولا إباحة ولا غير ذلك، لأن الحكم عند أهل السنة لا يكون إلا بالشرع، وقال بعض أصحابنا: إنها على الإباحة، وقال بعضهم: على التحريم، وقال بعضهم: على الوقف لا يعلم ما يقال فيها، والمختار الأول والله أعلم. وقد اختلف أهل السنة في تسمية الله تعالى ووصفه من أوصاف الكمال والجلال والمدح بما لم يرد به الشرع ولا منعه، فأجازه طائفة ومنعه آخرون، إلا أن يرد به شرع مقطوع به من نص كتاب الله أو سنة متواترة أو إجماع على إطلاقه، فإن ورد خبر واحد فقد اختلفوا فيه فأجازه طائفة وقالوا الدعاء به والثناء من باب العمل وذلك جائز بخبر الواحد، ومنعه آخرون لكونه راجعا إلى اعتقاد ما يجوز أو يستحيل على الله تعالى، وطريق هذا القطع. قال القاضي: والصواب جوازه لاشتماله على العمل، ولقول الله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر" فقد اختلف في تأويله، فذكر الخطابي فيه وجهين، أحدهما: أن المراد التكبر عن الإيمان، فصاحبه لا يدخل الجنة أصلاً إذا مات عليه.
والثاني: أنه لا يكون في قلبه كبر حال دخوله الجنة كما قال الله تعالى: {ونزعنا ما في صدورهم من غل} وهذان التأويلان فيهما بعد، فإن هذا الحديث ورد في سياق النهي عن الكبر المعروف وهو الارتفاع على الناس واحتقارهم ودفع الحق، فلا ينبغي أن يحمل على هذين التأويلين المخرجين له عن المطلوب، بل الظاهر ما اختاره القاضي عياض وغيره من المحققين أنه لا يدخل الجنة دون مجازاة إن جازاه، وقيل: هذا جزاؤه لو جازاه، وقد يتكرم بأنه لا يجازيه، بل لا بد أن يدخل كل الموحدين الجنة، إما أولاً وإما ثانيا بعد تعذيب بعض أصحاب الكبائر الذين ماتوا مصرين عليها، وقيل: لا يدخلها مع المتقين أول وهلة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل النار أحد في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" فالمراد به دخول الكفار وهو دخول الخلود. وقوله صلى الله عليه وسلم: "مثقال حبة" هو على ما تقدم وتقرر من زيادة الإيمان ونقصه. وأما قوله قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، فهذا الرجل هو مالك بن مرارة الرهاوي، قاله القاضي عياض وأشار إليه أبو عمر بن عبد البر رحمهما الله، وقد جمع أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن بشكوال الحافظ في اسمه أقوالاً من جهات فقال: هو أبو ريحانة واسمه شمعون ذكره ابن الاعرابي. وقال علي بن المديني في الطبقات: اسمه ربيعة بن عامر، وقيل: سواد بالتخفيف ابن عمر وذكره ابن السكن، وقيل: معاذ بن جبل ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب الخمول والتواضع، وقيل: مالك بن مرارة الرهاوي ذكره أبو عبيد في غريب الحديث، وقيل: عبد الله بن عمرو بن العاصي ذكره معمر في جامعه، وقيل: خريم بن فاتك. هذا ما ذكره ابن بشكوال. وقولهم: ابن مرارة الرهاوي هو مرارة بضم الميم وبراء مكررة وآخره هاء، والرهاوي هنا نسبة إلى قبيلة ذكره الحافظ عبد الغني بن سعيد المصري بفتح الراء ولم يذكره ابن ماكولا، وذكر الجوهري في صحاحه أن الرهاوي نسبة إلى رها بضم الراء حي من مذحج، وأما شمعون فبالعين المهملة وبالمعجمة والشين معجمة فيهما، والله أعلم.
*2* باب من مات لا يشرك لله شيئا دخل الجنة ومن مات مشركا دخل النار
*حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ (قَالَ وَكِيعٌ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ "مَنْ مَاتَ يُشْرِكُ باللّهِ شَيْئا دَخَلَ النّارَ" وَقُلْتُ أَنَا: وَمَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللّهِ شَيْئَا دَخَلَ الْجَنّةَ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا الْمُوجِبَتَانِ؟ فَقَالَ: "مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِالله شَيْئا دَخَلَ الجنّةَ. وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِالله شَيْئا دَخَلَ النّارَ".
وحدّثني أَبُو أَيّوبَ الْغَيْلاَنِيّ: سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، وَ حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ، قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو. حَدّثَنَا قُرّةُ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ: حَدّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ لَقِيَ الله لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئا دَخَلَ الْجَنّةَ، وَمَنْ لَقِيَهُ يُشْرِكُ بِهِ دَخَلَ النّارَ".
قَالَ أَبُو أَيّوبَ: قَالَ: أَبُو الزّبَيْرِ: عَنْ جَابِرٍ.
وحدّثني إِسْحَقَ بْنُ مَنْصُورٍ: أَخْبَرَنَا مُعَاذٌ (وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ) قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ نّبِيّ اللّهِ قَالَ، بِمِثْلِهِ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ. قَالَ ابْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ وَاصِلٍ الأَحَدْبِ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا ذَرَ يُحَدّثُ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أَنّهُ قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَبَشّرَنِي أَنّهُ مَنْ مَاتَ مِنْ أُمّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِالله شَيْئا دَخَلَ الْجَنّةَ. قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ".
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، حَدّثَنَا أَبِي، قَالَ: حَدّثَنِي حُسَيْنٌ الْمُعَلّمُ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ أَنّ يَحْيَىَ بْنَ يَعْمَرَ حَدّثَهُ أَنّ أَبَا الأَسْوَدِ الدّيلِيّ حَدّثَهُ أَنّ أَبَا ذَرَ حَدّثَهُ قَالَ: أَتَيْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَائِمٌ. عَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ. ثُمّ أَتَيْتُهُ فَإِذَا هُوَ نَائِمٌ. ثُمّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ. فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ. فَقَالَ: "مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لاَ إِلَهِ إِلاّ الله ثُمّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلاّ دَخَلَ الْجَنّةَ" قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ" قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ"، ثَلاثا، ثُمّ قَالَ فِي الرّابِعَةِ: "عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرَ" قَالَ، فَخَرَجَ أَبُو ذَرَ، وَهُوَ يَقُولُ: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرَ.
قال مسلم: (حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي ووكيع عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه، قال وكيع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن نمير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من مات يشرك بالله شيئا دخل النار، قلت أنا: ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة".
وعن أبي سفيان عن جابر رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله ما الموجبتان؟ فقال: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار). قال مسلم رحمه الله: (وحدثنا أبو أيوب الغيلاني سليمان بن عبيد الله وحجاج بن الشاعر قالا: حدثنا عبد الملك، حدثنا قرة عن أبي الزبير، حدثنا جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من لقي الله تعالى لا يشرك به شيئا دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به دخل النار. قال أبو أيوب، قال أبو الزبير عن جابر).
وعن المعرور بن سويد قال: سمعت أبا ذر يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: أتاني جبريل عليه السلام فبشرني أنه من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق. وعن ابن برية أن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر حدثه قال: أتيت النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فجلست إليه فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق ثلاثا، ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر، فخرج أبو ذر وهو يقول: وإن رغم أنف أبي ذر) أما الإسناد الأول فكله كوفيون محمد بن نمير وعبد الله بن مسعود ومن بينهما. وقوله: قال وكيع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال ابن نمير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا وما أشبهه من الدقائق التي ينبه عليها مسلم رضي الله عنه دلائل قاطعة على شدة تحريه وإتقانه وضبطه وعرفانه وغزارة علمه وحذقه وبراعته في الغوص على المعاني ودقائق علم الإسناد وغير ذلك فرضي الله عنه، والدقيقة في هذا أن ابن نمير قال رواية عن ابن مسعود: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا متصل لا شك فيه، وقال وكيع رواية عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مما اختلف العلماء فيه هل يحمل على الاتصال أم على الانقطاع؟ فالجمهور أنه على الاتصال كسمعت، وذهبت طائفة إلى أنه لا يحمل على الاتصال إلا بدليل عليه، فإذا قيل بهذا المذهب كان مرسل صحابي وفي الاحتجاج به خلاف، فالجماهير قالوا يحتج به وإن لم يحتج بمرسل غيرهم، وذهب الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني الشافعي رحمه الله إلى أنه لا يحتج به، فعلى هذا يكون هذا الحديث قد روي متصلاً ومرسلاً، وفي الاحتجاج بما روي مرسلاً ومتصلاً خلاف معروف، قيل: الحكم للمرسل، وقيل: للأحفظ رواية، وقيل: للأكثر، والصحيح أنه تقدم رواية الوصل فاحتاط مسلم رحمه الله وذكر اللفظين لهذه الفائدة ولئلا يكون راويا بالمعنى، فقد أجمعوا على أن الرواية باللفظ أولى والله أعلم. وأما أبو سفيان الراوي عن جابر فاسمه طلحة بن نافع، وأبو الزبير اسمه محمد بن مسلم بن تدرس تقدم بيانه. وأما قوله: قال أبو أيوب قال أبو الزبير عن جابر فمراده أن أبا أيوب وحجاجا اختلفا في عبارة أبي الزبير عن جابر، فقال أبو أيوب عن جابر، وقال حجاج حدثنا جابر، فأما حدثنا فصريحة في الاتصال، وأما عن فمختلف فيها، فالجمهور على أنها للاتصال كحدثنا، ومن العلماء من قال هي للانقطاع ويجيء فيها ما قدمناه، إلا أن هذا على هذا المذهب يكون مرسل تابعي. وأما قرة فهو ابن خالد. وأما المعرور فهو بفتح الميم وإسكان العين المهملة وبراء مهملة مكررة، ومن طرف أحواله أن الأعمش قال: رأيت المعرور وهو ابن عشرين ومائة سنة أسود الرأس واللحية. وأما أبو ذر فتقدم أن اسمه جندب بن جنادة على المشهور وقيل غيره. وفي الإسناد أحمد بن خراش بالخاء المعجمة تقدم. وأما ابن بريدة فاسمه عبد الله، ولبريدة ابنان سليمان وعبد الله وهما ثقتان ولدا في بطن وتقدم ذكرهما أول كتاب الإيمان، وابن بريدة هذا ويحيى بن يعمر وأبو الأسود ثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض. ويعمر بفتح الميم وضمها تقدم أيضا. وأبو الأسود اسمه ظالم بن عمرو هذا هو المشهور، وقيل اسمه عمرو بن ظالم، وقيل عثمان بن عمرو، وقيل عمرو بن سفيان، وقيل عويمر بن ظويلم، وهو أول من تكلم في النحو وولي قضاء البصرة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وأما الديلي فكذا وقع هنا بكسر الدال وإسكان الياء، وقد اختلف فيه فذكر القاضي عياض أن أكثر أهل السنة يقولون فيه وفي كل من ينسب إلى هذا البطن الذي في كنانة ديلي بكسر الدال وإسكان الياء كما ذكرنا، وأن أهل العربية يقولون فيه الدؤلي بضم الدال وبعدها همزة مفتوحة وبعضهم يكسرها، وأنكرها النحاة، هذا كلام القاضي. وقد ضبط الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله هذا وما يتعلق به ضبطا حسنا وهو معنى ما قاله الإمام أبو علي الغساني، قال الشيخ: هو الديلي، ومنهم من يقول الدؤلي على مثال الجهني وهو نسبة إلى الدئل بدال مضمومة بعدها همزة مكسورة حي من كنانة، وفتحوا الهمزة في النسب، كما قالوا في النسب إلى نمر نمري بفتح الميم، قال: وهذا قد حكاه السيرافي عن أهل البصرة.
قال: ووجدت عن أبي علي القالي وهو بالقاف في كتاب البارع أنه حكى ذلك عن الأصمعي وسيبويه وابن السكيت والأخفش وأبي حاتم وغيرهم، وأنه حكى عن الأصمعي عن عيسى بن عمر أنه كان يقول فيه أبو الأسود الدئلي بضم الدال وكسر الهمزة على الأصل، وحكاه أيضا عن يونس وغيره عن العرب يدعونه في النسب على الأصل وهو شاذ في القياس، وذكر السيرافي عن أهل الكوفة أنهم يقولون أبو الأسود الديلي بكسر الدال وياء ساكنة، وهو محكي عن الكسائي وأبي عبيد القاصم بن سلام، وعن صاحب كتاب العين ومحمد بن حبيب بفتح الباء غير مصروف لأنها أمه، كانوا يقولون في هذا الحي من كنانة الديلي بإسكان الياء وكسر الدال ويجعلونه مثل الديل الذي هو في عبد القيس، وأما الدول بضم الدال وإسكان الواو فحي من بني حنيفة والله أعلم، هذا آخر كلام الشيخ أبي عمرو رحمه الله. وأما قوله: ما الموجبتان فمعناه الخصلة الموجبة للجنة والخصلة الموجبة للنار. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "على رغم أنف أبي ذر" فهو بفتح الراء وضمها وكسرها. وقوله: وإن رغم أنف أبي ذر هو بفتح الغين وكسرها، ذكر هذا كله الجوهري وغيره، وهو مأخوذ من الرغام بفتح الراء وهو التراب، فمعنى أرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام وأذله، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "على رغم أنف أبي ذر" أي على ذلك منه لوقوعه مخالفا لما يريد، وقيل معناه على كراهة منه، وإنما قال له صلى الله عليه وسلم ذلك لاستبعاده العفو عن الزاني السارق المنتهك للحرمة واستعظامه ذلك، وتصور أبي ذر بصورة الكاره الممانع وإن لم يكن ممانعا، وكان ذلك من أبي ذر لشدة نفرته من معصية الله تعالى وأهلها والله أعلم. وأما قوله في رواية ابن مسعود رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "من مات يشرك بالله شيئا دخل النار وقلت أنا ومن مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة" هكذا وقع في أصولنا من صحيح مسلم، وكذا هو في صحيح البخاري، وكذا ذكره القاضي عياض رحمه الله في روايته لصحيح مسلم، ووجد في بعض الأصول المعتمدة من صحيح مسلم عكس هذا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة، قلت أنا: ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار" وهكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن صحيح مسلم رحمه الله، وهكذا رواه أبو عوانة في كتابه المخرج على صحيح مسلم، وقد صح اللفظان من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر المذكور، فأما اقتصار ابن مسعود رضي الله عنه على رفع إحدى اللفظتين وضمه الأخرى إليها من كلام نفسه، فقال القاضي عياض وغيره: سببه أنه لم يسمع من النبيّ صلى الله عليه وسلم إلا إحداهما، وضم إليها الأخرى لما علمه في كتاب الله تعالى ووحيه أو أخذه من مقتضى ما سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي قاله هؤلاء فيه نقص من حيث أن اللفظتين قد صح رفعهما من حديث ابن مسعود كما ذكرناه، فالجيد أن يقال: سمع ابن مسعود اللفظتين من النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه في وقت حفظ إحداهما وتيقنها عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يحفظ الأخرى فرفع المحفوظة وضم الأخرى إليها، وفي وقت آخر حفظ الأخرى ولم يحفظ الأولى مرفوعة، فرفع المحفوظة وضم الأخرى إليها، فهذا جمع ظاهر بين روايتي ابن مسعود، وفيه موافقة لرواية غيره في رفع اللفظتين والله أعلم. وأما حكمه صلى الله عليه وسلم على من مات يشرك بدخول النار ومن مات غير مشرك بدخوله الجنة فقد أجمع عليه المسلمون. فأما دخول المشرك النار فهو على عمومه فيدخلها ويخلد فيها، ولا فرق فيه بين الكتابي اليهودي والنصراني، وبين عبدة الأوثان وسائر الكفرة، ولا فرق عند أهل الحق بين الكافر عنادا وغيره، ولا بين من خالف ملة الإسلام وبين من انتسب إليها ثم حكم بكفره بجحده ما يكفر بجحده وغير ذلك. وأما دخول من مات غير مشرك الجنة فهو مقطوع له به، لكن إن لم يكن صاحب كبيرة مات مصرا عليها دخل الجنة أو لا، وإن كان صاحب كبيرة مات مصرا عليها فهو تحت المشيئة فإن عفي عنه دخل أولاً، وإلا عذب ثم أخرج من النار وخلد في الجنة والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن زنى وإن سرق" فهو حجة لمذهب أهل السنة أن أصحاب الكبائر لا يقطع لهم بالنار، وأنهم إن دخلوها أخرجوا منها وختم لهم بالخلود في الجنة، وقد تقدم هذا كله مبسوطا والله أعلم.
*2* باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إِله إِلا الله
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ رُمْحٍ (وَاللْفْظُ مُتَقَارِبٌ) أَخْبَرَنَا اللّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزيدَ اللّيْثِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَدِيّ بْنِ الْخِيَارِ، عَنِ الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَدِ أَنّهُ أَخْبَرَهُ أَنّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلاً مِنَ الْكُفّارِ. فَقَاتَلَنِي. فَضَرَبَ إِحْدَى يَديّ بِالسّيْفِ فَقَطَعَهَا. ثُمّ لاَذَ مِنّي بِشَجَرَةٍ، فَقَالَ: أَسْلَمْتُ للّه. أَفَأَقْتُلُهُ يَا رَسُولَ اللّهِ بَعْدَ أَنْ قَالَهَا؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقْتُلْهُ" قَالَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي. ثُمّ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ قَطَعَهَا. أَفَأَقْتُلُهُ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقْتُلْهُ. فَإِنْ قَتَلْتَهُ فَإِنّهُ بِمَنْزِلَتِكَ قَبْلَ أَنْ تَقْتُلَهُ. وَإِنّكَ بِمَنْزِلَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ كَلِمَتَهُ الّتِي قَالَ".
حدّثنا إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقَ بْنُ مُوسىَ الأَنْصَارِيّ. حَدّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنِ الأَوْزَاعِيّ. ح وَحَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ رَافِعِ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، جَمِيعا عَنِ الزّهْرِيّ بِهَذَا الاْسْنَادِ. أَمّا الأَوْزَاعِيّ وَابْنُ جُرَيْجٍ فَفِي حَدِيثِهِمَا قَالَ: أَسْلَمْتُ لِلّهِ. كَمَا قَالَ اللّيْثُ فِي حَدِيثِهِ. وَأَمّا مَعْمَرٌ: فَفِي حَدِيثِهِ: فَلَمّا أَهْوَيْتُ لأَقْتُلَهُ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ.
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ: حَدّثَنِي عَنْ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللّيْثِيّ ثُمّ الْجُنْدَعِيّ أن عُبَيْدَ اللّهِ بْنُ عَدِيّ بْنِ الْخِيَارِ أَخْبَرَهُ أَنّ الْمِقْدَادَ بْنَ عَمْرٍو ابْنَ الأَسْوَدِ الْكِنْدِيّ، وَكَانَ حَلِيفا لِبَنِي زُهْرَةَ، وَكَانَ مِمّنْ شَهِدَ بَدْرا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ لَقِيتُ رَجُلاً مِنَ الْكُفّارِ؟ثُمّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللّيْثِ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ، كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَهَذَا حَدِيثُ ا بْن أَبِي شَيْبَةَ. قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سَرِيّةٍ. فَصَبّحْنَا الْحُرُقَاتِ مِنْ جُهَيْنَةَ. فَأَدْرَكْتُ رَجُلاً. فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله. فَطَعَنْتُهُ فَوَقَعَ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ. فَذَكَرْتُهُ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَقَتَلْتَهُ؟" قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّمَا قَالَهَا خَوْفا مِنَ السّلاَحِ. قَالَ: "أَفَلاَ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتّى تَعْلَمَ: أقالها أم لا"، فَمَا زَالَ يُكَرّرُهَا عَلَيّ حَتّى تَمَنّيْتُ أَنّي أَسْلَمْتُ يَوْمَئِذٍ، قَالَ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَنَا وَالله لاَ أَقْتُلُ مُسْلِما حَتّى يَقْتُلَهُ ذُو الْبُطَيْنِ يَعْنِي أُسَامَةَ. قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: أَلَمْ يَقُلِ الله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدّينُ كُلّهُ لله} (الأنفال الاَية: ) فَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ قَاتَلْنَا لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ. وَأَنْتَ وَأَصْحَابُكَ تُرِيدُونَ أَنْ تُقَاتِلُوا حَتّى تَكُونَ فِتْنَةٌ.
حدّثنا يَعْقُوبُ الدّوْرَقِيّ: حَدّثَنَا هُشَيْمٌ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ: حَدّثَنَا أَبُو ظَبِيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يُحَدّثُ، قَالَ: بَعَثَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِلى الْحُرَقَةَ مِنْ جُهَيْنَةَ. فَصَبّحْنَا الْقَوْمَ. فَهَزَمْنَاهُمْ. وَلَحِقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ رَجُلاً مِنْهُم. فَلَمّا غَشينَاهُ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ. فَكَفّ عَنْهُ الأَنْصَارِيّ. وَطَعَنْتُهُ بِرُمْحِي حَتّى قَتَلْتَهُ. قَالَ فَلَمّا قَدِمْنَا. بَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِي "يَا أُسَامَةُ أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَال لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ؟" قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّمَا كَانَ مُتعوّذا. قَالَ، فَقَالَ "أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ؟" قَالَ فَمَا زَالَ يُكْرّرُهَا عَلَيّ حَتّى تَمْنّيْتُ أَنّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنُ بْنِ خِرَاشٍ: حَدّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ: حَدّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يُحَدّثُ أَنّ خَالِدا الأَثْبَجَ، ابْنَ أَخِي صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، حديث بن صفوان بن محرز حَدّثَ أَنّ جُنْدَبَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الْبَجَلِيّ بَعَثَ إِلَى عَسْعَسِ بْنِ سَلاَمَةَ، زَمَنَ فِتْنَةِ ابْنِ الزّبَيْرِ، فَقَالَ: اجْمَعْ لِي نَفَرا مِنْ إخوانك حَتّى أُحَدّثَهُمْ. فَبَعَثَ رَسُولاً إِلَيْهِمْ. فَلَمّا اجْتَمَعُوا جَاءَ جُنْدَبٌ وَعَلَيْهِ بُرْنُسٌ أَصْفَرُ. فقَالَ: تَحَدّثُوا بِمَا كُنْتُم تَحَدّثُونَ بِهِ. حَتّى دَارَ الْحَدِيثُ. فَلَمّا دَارَ الْحَدِيثُ إِلَيْهِ حَسَرَ الْبُرْنُسَ عَنْ رَأَسِهِ. فَقَالَ: إِنّي أَتَيْتُكُمْ وَلاَ أُرِيْدُ أَنْ أخبركم عَنْ نَبِيّكُمْ. إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ بَعْثَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَوْمٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَإِنّهُمُ الْتَقُوْا فَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا شَاءَ أَنْ يَقْصِدَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ لَهُ فَقَتَلَهُ. وَإِنّ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَصَدَ غَفْلَتَهُ. قَالَ: وَكُنّا نْحَدّثُ أَنّهُ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ. فَلَمّا رَفَعَ عَلَيْهِ السّيْفَ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ، فَقَتَلَهُ. فَجَاءَ الْبَشِيرُ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ. حَتّى أَخْبَرَهُ خَبَرَ الرّجُلِ كَيْفَ صَنَعَ. فَدَعَاهُ. فَسَأَلَهُ. فَقَالَ "لِمَ قَتَلْتَهُ؟" قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَوْجَعَ فِي الْمُسْلِمِينَ. وَقَتلَ فُلاَنَا وَفُلاَنا. وَسَمّى لَهُ نَفَرا. وَإِنّي حَمَلْتُ عَلَيْهِ. فَلَمّا رَأَى السّيْفَ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "أَقَتَلْتَهُ؟" قَالَ: نَعَمْ قَالَ "فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟" قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! اسْتَغْفِرْ لِي. قَالَ: "وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟" قَالَ: فَجَعَلَ لاَ يَزِيدُهُ عَلَى أَنْ يَقُولَ: "كَيْفَ تَصْنَعُ بِلاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟".
فيه حديث المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف فقطعها ثم لاذ مني بشجرة فقال: أسلمت لله، أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقتله إلى أن قال: فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال).
وفيه أسامة بن زيد رضي الله عنهما (قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فصبحنا الحرقات من جهينة فأدركت رجلاً فقال لا إله إلا الله فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقال لا إله إلا الله وقتلته؟ قال: قلت: يا رسول الله إنما قالها خوفا من السلاح، قال: أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم قالها أم لا؟ فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ، قال: فقال سعد وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة، قال: قال رجل ألم يقل الله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} قال سعد: قد قاتلنا حتى لا تكون فتنة وأنت وأصحابك تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة). وفي الطريق الاَخر: (فطعنته برمحي حتى قتلته فلما قدمنا بلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أسامة قتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟ قلت: يا رسول الله إنما كان متعوذا، فقال: أقتلته بعدما قال لا إله إلا الله؟ فما زال يكررها علي حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم).
وفي الطريق الأخرى: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا أسامة فسأله لم قتلته؟ إلى أن قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ قال: يا رسول الله استغفر لي، قال: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟ فجعل لا يزيد على أن يقول: فكيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت يوم القيامة؟) أما ألفاظ أسماء الباب ففيه المقداد بن الأسود. وفي الرواية الأخرى: حدثني عطاء أن عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره أن المقداد بن عمرو بن الأسود الكندي وكان حليفا لبني زهرة وكان ممن شهد بدرا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا رسول الله، فالمقداد هذا هو ابن عمرو بن ثعلبة بن مالك بن ربيعة هذا نسبه الحقيقي، وكان الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة قد تبناه في الجاهلية فنسب إليه وصار به أشهر وأعرف. فقوله ثانيا: إن المقداد بن عمرو بن الأسود قد يغلط في ضبطه وقراءته والصواب فيه أن يقرأ عمرو مجرورا منونا وابن الأسود بنصب النون ويكتب بالألف لأنه صلة للمقداد وهو منصوب فينصب، وليس ابن ههنا واقعا بين علمين متناسلين فلهذا قلنا: تتعين كتابته بالألف، ولو قرئ ابن الأسود بجر ابن لفسد المعنى وصار عمرو بن الأسود وذلك غلط صريح، ولهذا الاسم نظائر منها عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم، كذا رواه مسلم رحمه الله آخر الكتاب في حديث الجساسة، وعبد الله ابن أبي ابن سلول، وعبد الله بن مالك ابن بحينة، ومحمد بن علي ابن الحنفية، وإسماعيل بن إبراهيم ابن علية، وإسحاق بن إبراهيم ابن راهويه، ومحمد بن يزيد ابن ماجه، فكل هؤلاء ليس الأب فيهم ابنا لمن بعده، فيتعين أن يكتب ابن بالألف، وأن يعرب بإعراب الابن المذكور أولاً، فأم مكتوم زوجة عمرو، وسلول زوجة أبي، وقيل غير ذلك مما سنذكره في موضعه إن شاء الله تعالى، وبحينة زوجة مالك وأم عبد الله، وكذلك الحنفية زوجة علي رضي الله عنه، وعلية زوجة إبراهيم، وراهويه هو إبراهيم والد إسحاق، وكذلك ماجه هو يزيد فهما لقبان، والله أعلم. ومرادهم في هذا كله تعريف الشخص بوصفيه ليكمل تعريفه، فقد يكون الإنسان عارفا بأحد وصفيه دون الاَخر، فيجمعون بينهما ليتم التعريف لكل أحد، وقدم هنا نسبته إلى عمرو على نسبته إلى الأسود لكون عمرو هو الأصل، وهذا من المستحسنات النفيسة والله أعلم. وكان المقداد رضي الله عنه من أول من أسلم. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أول من أظهر الإسلام بمكة سبعة منهم المقداد وهاجر إلى الحبشة، يكنى أبا الأسود، وقيل أبا عمرو، وقيل أبا معبد والله أعلم. وأما قوله: وكان حليفا لبني زهرة فذلك لمحالفته الأسود بن عبد يغوث الزهري، فقد ذكر ابن عبد البر وغيره أن الأسود حالفه أيضا مع تبنيه إياه. وأما قولهم في نسبه الكندي ففيه إشكال من حيث إن أهل النسب قالوا إنه بهراني صلبية من بهراء بن الحاف بالحاء المهملة وبالفاء ابن قضاعة لا خلاف بينهم في هذا، ومن نقل الإجماع عليه القاضي عياض وغيره رحمهم الله. وجوابه أن أحمد بن صالح الإمام الحافظ المصري كاتب الليث بن سعد رحمه الله تعالى قال: إن والد المقداد حالف كندة فنسب إليها. وروينا عن ابن شماسة عن سفيان عن صهابة بضم الصاد المهملة وتخفيف الهاء وبالباء الموحدة المهري قال: كنت صاحب المقداد ابن الأسود في الجاهلية، وكان رجلاً من بهراء، فأصاب فيهم دما فهرب إلى كندة فحالفهم ثم أصاب فيهم دما فهرب إلى مكة فحالف الأسود بن عبد يغوث، فعلى هذا تصح نسبته إلى بهراء لكونه الأصل، وكذلك إلى قضاعة، وتصح نسبته إلى كندة لحلفه أو لحلف أبيه، وتصح إلى زهرة لحلفه مع الأسود والله أعلم. وأما قولهم: إن المقداد بن عمرو ابن الأسود إلى قوله أنه قال: يا رسول الله فأعاد أنه لطول الكلام ولو لم يذكرها لكان صحيحا بل هو الأصل، ولكن لما طال الكلام جاز أو حسن ذكرها، ونظيره في كلام العرب كثير، وقد جاء مثله في القرآن العزيز والأحاديث الشريفة، ومما جاء في القرآن قوله جل وعز حكاية عن الكفار: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} فأعاد أنكم للطول. ومثله قوله تعالى: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} فأعاد فلما جاءهم، وقد قدمنا نظير هذه المسألة والله أعلم. وأما عدي بن الخيار فبكسر الخاء المعجمة. وأما عطاء بن يزيد الليثي ثم الجندعي فبضم الجيم وإسكان النون وبعدها دال ثم عين مهملتان وتفتح الدال وتضم لغتان، وجندع بطن من ليث فلهذا قال: الليثي ثم الجندعي، فبدأ بالعام وهو ليث ثم الخاص وهو جندع، ولو عكس هذا فقيل الجندعي الليثي لكان خطأ من حيث إنه لا فائدة في قوله الليثي بعد الجندعي، ولأنه أيضا يقتضي أن ليثا بطن من جندع وهو خطأ والله أعلم. وفي هذا الإسناد لطيفة تقدم نظائرها وهو أن فيه ثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض: ابن شهاب، وعطاء، وعبيد الله بن عدي بن الخيار.
وأما قوله: عن أبي ظبيان فهو بفتح الظاء المعجمة وكسرها، فأهل اللغة يفتحونها ويلحنون من يكسرها، وأهل الحديث يكسرونها، وكذلك قيده ابن ماكولا وغيره، واسم أبي ظبيان حصين بن جندب بن عمرو كوفي توفي سنة تسعين. وأما الحرقات فبضم الحاء المهملة وفتح الراء وبالقاف. وأما الدورقي فتقدم مرات. وكذلك أحمد بن خراش بكسر الخاء المعجمة. وأما خالد الأثبج فبفتح الهمزة وبعدها ثاء مثلثة ساكنة ثم باء موحدة مفتوحة ثم جيم، قال أهل اللغة: الأثبج هو عريض الثبج بفتح الثاء والباء، وقيل: ناتئ الثبج، والثبج ما بين الكاهل والظهر. وأما صفوان بن محرز فبإسكان الحاء المهملة وبراء ثم زاي. وأما جندب فبضم الدال وفتحها. وأما عسعس بن سلامة فبعينين وسينين مهملات والعينان مفتوحتان والسين بينهما ساكنة، قال أبو عمر بن عبد البر في الاستيعاب: هو بصري روى عن النبيّ صلى الله عليه وسلم يقولون: إن حديثه مرسل وأنه لم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا قال البخاري في تاريخه حديثه مرسل، وكذا ذكره ابن أبي حاتم وغيره في التابعين. قال البخاري وغيره: كنية عسعس أبو صفرة وهو تميمي بصري وهو من الأسماء المفردة لا يعرف له نظير والله أعلم. وأما لغات الباب وما يشبهها فقوله في أول الباب: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلاً من الكفار، هكذا هو في أكثر الأصول المعتبرة، وفي بعضها: أرأيت لقيت بحذف إن والأول هو الصواب. وقوله: لاذ مني بشجرة أي اعتصم مني وهو معنى قوله قالها متعوذا أي معتصما وهو بكسر الواو. قوله: أما الأوزاعي وابن جريج في حديثهما هكذا هو في أكثر الأصول في حديثهما بفاء واحدة، وفي كثير من الأصول ففي حديثهما بفاءين وهذا هو الأصل والجيد، والأول أيضا جائز، فإن الفاء في جواب أما يلزم إثباتها إلا إذا كان الجواب بالقول فإنه يجوز حذفها إذا حذف القول وهذا من ذاك، فتقدير الكلام: أما الأوزاعي وابن جريج فقالا في حديثهما كذا، ومثل هذا في القرآن العزيز، وكلام العرب كثير، فمنه في القرآن قوله عز وجل: {فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم} أي فيقال لهم: أكفرتم. وقوله عز وجل: {وأما الذين كفروا أفلم تكن آياتي تتلى عليكم} والله أعلم. وقوله: فلما أهويت لأقتله أي ملت يقال هويت وأهويت، وقوله صلى الله عليه وسلم: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا؟" الفاعل في قوله أقالها هو القلب ومعناه أنك إنما كلفت بالعمل بالظاهر وما ينطق به اللسان، وأما القلب فليس لك طريق إلى معرفة ما فيه، فأنكر عليه امتناعه من العمل بما ظهر باللسان وقال: أفلا شققت عن قلبه لتنظر هل قالها القلب واعتقدها؟ وكانت فيه أم لم تكن فيه بل جرت على اللسان فحسب، يعني وأنت لست بقادر على هذا، فاقتصر على اللسان فحسب يعني ولا تطلب غيره. وقوله: حتى تمنيت أني أسلمت يومئذ، معناه لم يكن تقدم إسلامي بل ابتدأت الاَن الإسلام ليمحو عني ما تقدم، وقال هذا الكلام من عظم ما وقع فيه. وقوله فقال سعد: وأنا والله لا أقتل مسلما حتى يقتله ذو البطين يعني أسامة، أما سعد فهو ابن أبي وقاص رضي الله عنه، وأما ذو البطين فهو بضم الباء تصغير بطن قال القاضي عياض رحمه الله: قيل لأسامة ذو البطين لأنه كان له بطن عظيم. وقوله: حسر البرنس عن رأسه فقال: إني أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا. فقوله حسر أي كشف ، والبرنس بضم الباء والنون قال أهل اللغة: هو كل ثوب رأسه ملتصق به دراعة كانت أوجبة أوغيرهما. وأما قوله: أتيتكم ولا أريد أن أخبركم، فكذا وقع في جميع الأصول، وفيه إشكال من حيث إنه قال في أول الحديث: بعث إلى عسعس فقال: اجمع لي نفرا من إخوانك حتى أحدثهم، ثم يقول بعده: أتيتكم ولا أريد أن أخبركم، فيحتمل هذا الكلام وجهين، أحدهما: أن تكون لا زائدة كما في قوله الله تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب} وقوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد}. والثاني: أن يكون على ظاهره أتيتكم ولا أريد أن أخبركم عن نبيكم صلى الله عليه وسلم، بل أعظكم وأحدثكم بكلام من عند نفسي ولكني الاَن أزيدكم على ما كنت نويته فأخبركم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا وذكر الحديث والله أعلم. وقوله: (وكنا نحدث أنه أسامة) هو بضم النون من نحدث وفتح الدال. وقوله: (فلما رجع عليه السيف) كذا في بعض الأصول المعتمدة رجع بالجيم، وفي بعضها رفع بالفاء وكلاهما صحيح، والسيف منصوب على الروايتين فرفع لتعديه ورجع بمعناه، فإن رجع يستعمل لازما ومتعديا والمراد هنا المتعدي، ومنه قول الله عز وجل: {فإن رجعك الله إلى طائفة}. وقوله تعالى: {فلا ترجعوهن إلى الكفار} والله أعلم.
واعلم أن في إسناد بعض روايات هذا الحديث ما أنكره الدارقطني وغيره وهو قول مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم وعبد بن حميد قالا: أنبأ عبد الرزاق، أنبأ معمر ح وحدثنا إسحاق بن موسى، حدثنا الوليد بن مسلم عن الأوزاعي ح وحدثنا محمد بن رافع، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا ابن جريج جميعا عن الزهري بهذا الإسناد، فهكذا وقع هذا الإسناد في رواية الجلودي، قال القاضي عياض: ولم يقع هذا الإسناد عند ابن ماهان يعني رفيق الجلودي، قال القاضي: قال أبو مسعود الدمشقي: هذا ليس بمعروف عن الوليد بهذا الإسناد عن عطاء بن يزيد عن عبيد الله، قال: وفيه خلاف على الوليد وعلى الأوزاعي، وقد بين الدارقطني في كتاب العلل الخلاف فيه وذكر أن الأوزاعي يرويه عن إبراهيم بن مرة، واختلف عنه فرواه أبو إسحاق الفزاري ومحمد بن شعيب ومحمد بن حميد والوليد بن مزيد عن الأوزاعي عن إبراهيم بن مرة عن الزهري عن عبيد الله بن الخيار عن المقداد لم يذكروا فيه عطاء بن يزيد، واختلف عن الوليد بن مسلم فرواه الوليد القرشي عن الوليد عن الأوزاعي، والليث بن سعد عن الزهري عن عبد الله بن الخيار عن المقداد، لم يذكر فيه عطاء وأسقط إبراهيم بن مرة، وخالفه عيسى بن مساور فرواه عن الوليد عن الأوزاعي عن حميد بن عبد الرحمن عن عبيد الله بن الخيار عن المقداد، لم يذكر فيه إبراهيم بن مرة، وجعل مكان عطاء بن يزيد حميد بن عبد الرحمن. ورواه الفريابي عن الأوزاعي عن إبراهيم بن مرة عن الزهري مرسلاً عن المقداد، قال أبو علي الجياني: الصحيح في إسناد هذا الحديث ما ذكره مسلم أولاً من رواية الليث ومعمر ويونس وابن جريج وتابعهم صالح بن كيسان، هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله. قلت: وحاصل هذا الخلاف والاضطراب إنما هو في رواية الوليد بن مسلم عن الأوزاعي، وأما رواية الليث ومعمر ويونس وابن جريج فلا شك في صحتها، وهذه الروايات هي المستقلة بالعمل وعليها الاعتماد. وأما رواية الأوزاعي فذكرها متابعة، وقد تقرر عندهم أن المتابعات يحتمل فيها ما فيه نوع ضعف لكونها الاعتماد عليها، وإنما هي لمجرد الاستئناس، فالحاصل أن هذا الاضطرار الذي في رواية الوليد عن الأوزاعي لا يقدح في صحة أصل هذا الحديث فلا خلاف في صحته، وقد قدمنا أن أكثر استدراكات الدارقطني من هذا النحو ولا يؤثر ذلك في صحة المتون، وقدمنا أيضا في الفصول اعتذار مسلم رحمه الله عن نحو هذا بأنه ليس الاعتماد عليه، والله أعلم. وأما معاني الأحاديث وفقهها: "فقوله صلى الله عليه وسلم في الذي قال: لا إله إلا الله لا تقتله فإن قتلته فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" اختلف في معناه، فأحسن ما قيل فيه وأظهره ما قاله الإمام الشافعي وابن القصار المالكي وغيرهما أن معناه: فإنه معصوم الدم محرم قتله بعد قوله: لا إله إلا الله كما كنت أنت قبل أن تقتله، وأنك بعد قتله غير معصوم الدم ولا محرم القتل كما كان هو قبل قوله لا إله إلا الله. قال ابن القصار: يعني لولا عذرك بالتأويل المسقط للقصاص عنك. قال القاضي: وقيل معناه إنك مثله في مخالفة الحق وارتكاب الإثم، وإن اختلفت أنواع المخالفة والإثم، فيسمى إثمه كفرا وإثمك معصية وفسقا، وأما كونه صلى الله عليه وسلم لم يوجب على أسامة قصاصا ولا دية ولا كفارة فقد يستدل لإسقاط الجميع، ولكن الكفارة واجبة والقصاص ساقط للشبهة فإنه ظنه كافرا، وظن أن إظهاره كلمة التوحيد في هذا الحال لا يجعله مسلما، وفي وجوب الدية قولان للشافعي، وقال بكل واحد منهما بعض من العلماء، ويجاب عن عدم ذكر الكفارة بأنها ليست على الفور، بل هي على التراخي، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز على المذهب الصحيح عند أهل الأصول، وأما الدية على قول من أوجبها فيحتمل أن أسامة كان في ذلك الوقت معسرا بها فأخرت إلى يساره، وأما ما فعله جندب بن عبد الله رضي الله عنه من جمع النفر ووعظهم فيه أنه ينبغي للعالم والرجل العظيم المطاع وذي الشهرة أن يسكن الناس عند الفتن ويعظهم ويوضح لهم الدلائل. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أفلا شققت عن قلبه" فيه دليل للقاعدة المعروفة في الفقه والأصول أن الأحكام يعمل فيها بالظواهر والله يتولى السرائر. وأما قول أسامة في الرواية الأولى: فطعنته فوقع في نفسي من ذلك فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الرواية الأخرى: فلما قدمنا بلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا أسامة أقتلته؟ وفي الرواية الأخرى: فجاء البشير إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره خبر الرجل فدعاه يعني أسامة فسأله، فيحتمل أن يجمع بينها بأن أسامة وقع في نفسه من ذلك شيء بعد قتله ونوى أن يسأل عنه، فجاء البشير فأخبر به قبل مقدم أسامة، وبلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم أيضا بعد قدومهم فسأل أسامة فذكره، وليس في قوله فذكرته ما يدل على أنه قاله ابتداء قبل تقدم علم النبي صلى الله عليه وسلم به، والله أعلم.
*2* باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من حمل علينا السلاح فليس منا"
*حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: قَالاَ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ (وَهُوَ الْقَطّانُ). ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ، كُلّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَاللْفْظُ لَهُ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السّلاَحَ فَلَيْسَ مِنّا".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ قَالاَ: حَدّثَنَا مُصْعَبٌ (وَهُو ابْنُ الْمِقْدَامِ) حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ، عَنْ إِيَاسِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ سَلّ عَلَيْنَا السّيْفَ فَلَيْسَ مِنّا".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ بَرّادٍ الأَشْعَرِيّ وَ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالُوا: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيَدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السّلاَحَ فَلَيْسَ مِنّا".
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (من حمل علينا السلاح فليس منا) رواه ابن عمر وسلمة وأبو موسى.
وفي رواية سلمة: (من سل علينا السيف).
وفي إسناد أبي موسى لطيفة وهي أن إسناده كلهم كوفيون وهم: أبو بكر بن أبي شيبة، وعبد الله بن براد، وأبو كريب قالوا: حدثنا أبو أسامة عن بريد عن أبي بردة عن أبي موسى. فأما براد فبفتح الباء الموحدة وتشديد الراء وآخره دال. وأبو كريب محمد بن العلاء. وأبو أسامة حماد بن أسامة. وبريد بضم الموحدة. وأبو بردة اسمه عامر وقيل الحرث. وأبو موسى عبد الله بن قيس. وأما معنى الحديث فتقدم أول الكتاب، وتقدم عليه قاعدة مذهب أهل السنة والفقهاء وهي أن من حمل السلاح على المسلمين بغير حق ولا تأويل ولم يستحله فهو عاص ولا يكفر فإن استحله كفر. فأما تأويل الحديث فقيل: هو محمول على المستحل بغير تأويل فيكفر ويخرج من الملة. وقيل: معناه ليس على سيرتنا الكاملة وهدينا، وكان سفيان بن عيينة رحمه الله يكره قول من يفسره بليس على هدينا ويقول: بئس هذا القول، يعني بل يمسك عن تأويله ليكون أوقع في النفوس وأبلغ في الزجر، والله أعلم.
*2* باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "من غشّنا فليس منا"
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (وَهُوَ ابْنُ عَبْدُ الرّحْمَنِ الْقَارِيّ). ح وحَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ مُحمّدُ بْنُ حَيّانَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ، كِلاَهُمَا عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَمَلَ عَلَيْنَا السّلاَحَ فَلَيْسَ مِنّا، وَمَنْ غَشّنَا فَلَيْسَ مِنّا".
وحدّثني يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ حُجْرٍ. جَمِيعا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ. قَالَ ابْنُ أَيّوبَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ. قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلاَءُ عَنْ أَبِيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَرّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلاً. فَقَالَ: "مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطّعَامِ؟" قَالَ: أَصَابَتْهُ السّمَاءُ يَا رَسُولَ اللّهِ! قَالَ: "أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النّاسُ، مَنْ غَشّ فَلَيْسَ مِنّي".
فيه يعقوب بن عبد الرحمن القاري هو بتشديد الياء منسوب إلى القارة القبيلة المعروفة. وأبو الأحوص محمد بن حيان بالياء المثناة. وقوله: (حدثنا ابن أبي حازم) هو عبد العزيز بن أبي حازم، واسم أبي حازم هذا سلمة بن دينار.
وقوله: (صبرة من طعام) هي بضم الصاد وإسكان الباء قال الأزهري: الصبرة الكومة المجموعة من الطعام سميت صبرة لإفراغ بعضها على بعض، ومنه قيل للسحاب فوق السحاب صبير. وقوله في الحديث: (أصابته السماء) أي المطر. وقوله صلى الله عليه وسلم: (من غش فليس مني) كذا في الأصول مني وهو صحيح، وقد تقدم بيانه في الباب قبله، والله أعلم.
*2* باب تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَ وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي. جَمِيعا عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُرّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ، أَوْ شَقّ الْجُيُوبَ. أَوْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ".
هَذَا حَدِيثُ يَحْيَىَ. وَأَمّا ابْنُ نُمَيْرٍ وَأَبُو بَكْرٍ فَقَالاَ "وَشَقّ وَدَعَا" بِغَيْرِ أَلِفٍ.
وحدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَ عَلِيّ بْنُ خَشْرَمٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا عِيِسىَ بْنُ يُونُسَ، جَمِيعا عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الاْسْنَادِ. وَقَالاَ: "وَشَقّ وَدَعَا".
حدّثنا الْحَكَمُ بْنُ مُوسىَ الْقَنْطَرِيّ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ حَمْزَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْن يَزِيدَ بْن جَابِرٍ: أَنّ الْقَاسِمِ بْنَ مُخَيمِرَةَ حَدّثَهُ قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسىَ. قَالَ: وَجِعَ أَبُو مُوسىَ وَجَعا فَغُشِيَ عَلَيْهِ. وَرَأْسُهُ فِي حَجْرِ امْرَأَةٍ مِنْ أَهْلِهِ. فَصَاحَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهلِهِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَرُدّ عَلَيْهَا شَيْئا. فَلَمّا أَفَاقَ قَالَ: أَنَا بَرِيءٌ مِمّا بَرِئَ مِنْهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِئَ مِنَ الصّالِقَةِ وَالْحَالِقَةِ وَالشّاقّةِ.
حدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالاَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَخْرَةَ يَذْكُرُ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ يَزيدَ وَأَبِي بُرَدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى، قَالاَ أُغْمِيَ عَلَى أَبِي مُوسىَ وَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ أُمّ عَبْدِ اللّهِ تَصِيحُ بِرَنّةٍ قَالاَ: ثُمّ أَفَاقَ. قَالَ: أَلَمْ تَعْلَمِي (وَكَانَ يُحَدّثُهَا) أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَنَا بَرِيءٌ مِمّنْ حَلَقَ وَسَلَقَ وَخَرَقَ".
حدّثنا عَبْدِ اللّهِ بْنُ مُطِيعٍ: حَدّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ عِيَاضٍ الأَشْعَرِيّ، عَنِ امْرَأَةِ أَبِي مُوسىَ، عَن أَبِي مُوسىَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وَحَدّثَنِيهِ حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ: حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي: حَدّثَنَا دَاوُدُ (يَعْنِي ابْنَ أَبِي هِنْدٍ) حَدّثَنَا عَاصِمٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ، عَنْ أَبِي مُوسىَ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ عَلِيَ الْحُلْوَانِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ. أخبرنا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ رِبْعِيّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ أَبِي مُوسىَ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ. غَيْرَ أَنّ فِي حَدِيثِ عِيَاضٍ الأَشْعَرِيّ قَالَ: "لَيْسَ مِنّا" وَلَمْ يَقُلْ: "بَرِيءٌ".
قوله: (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة) إلى آخره كلهم كوفيون. وقوله: (علي بن خشرم) هو بفتح الخاء وإسكان الشين المعجمتين وفتح الراء.
وقوله: (القنطري) هو بفتح القاف والطاء منسوب إلى قنطرة بردان بفتح الباء والراء جسر ببغداد. وقوله: (القاسم بن مخيمرة) هو بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وكسر الميم الثانية. وقوله: (وجع أبو موسى) هو بفتح الواو وكسر الجيم. وقوله: (في حجر امرأته) هو بفتح الحاء وكسرها لغتان. قوله: (فلما أفاق قال: أنا بريء مما برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم) كذا ضبطناه وكذا هو في الأصول مما وهو صحيح أي من الشيء الذي برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: (الصالقة والحالقة والشاقة) وفي الرواية الأخرى: (أنا برئ من حلق وسلق وخرق) فالصالقة وقعت في الأصول بالصاد، وسلق بالسين وهما صحيحان، وهما لغتان: السلق والصلق، وسلق وصلق، وهي صالقة وسالقة، وهي التي ترفع صوتها عند المصيبة. والحالقة هي التي تحلق شعرها عند المصيبة. والشاقة التي تشق ثوبها عند المصيبة، هذا هو المشهور الظاهر المعروف. وحكى القاضي عياض عن ابن الأعرابي أنه قال: الصلق ضرب الوجه، وأما دعوى الجاهلية فقال القاضي: هي النياحة وندبة الميت والدعاء بالويل وشبهه، والمراد بالجاهلية ما كان في الفترة قبل الإسلام.
وقوله في الإسناد الاَخر: (أبو عميس عن أبي صخرة) هو عميس بضم العين المهملة وفتح الميم وإسكان الياء وبالسين المهملة واسمه عتبة بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وذكره الحاكم في أفراد الكنى يعني أنه لا يشاركه في كنيته أحد. وأما أبو صخرة فبالهاء في آخره، كذا وقع هنا وهو المشهور في كنيته، ويقال فيها أيضا أبو صخر بحذف الهاء واسمه جامع بن شداد. وقوله: (تصيح برنة) هو بفتح الراء وتشديد النون، قال صاحب المطالع: الرنة صوت مع البكاء فيه ترجيع كالقلقلة واللقلقة، يقال: أرنت فهي مرنة ولا يقال رنت. وقال ثابت في الحديث: لعنت الرانة، ولعله من نقلة الحديث، هذا كلام صاحب المطالع. قال أهل اللغة: الرنة والرنين والأرنان بمعنى واحد، ويقال: رنت وأرنت لغتان حكاهما الجوهري، وفيه رد لما قاله ثابت وغيره. قال القاضي عياض رحمه الله: قوله: "أنا بريء ممن حلق" أي من فعلهن، أو ما يستوجبن من العقوبة، أو من عهدة ما لزمني من بيانه، وأصل البراءة الإنفصال، هذا كلام القاضي، ويجوز أن يراد به ظاهره وهو البراءة من فاعل هذه الأمور ولا يقدر فيه حذف.
وأما قوله: (حدثني الحسن بن علي الحلواني، حدثنا عبد الصمد، أنبأنا شعبة) فذكره مرفوعا فقال القاضي عياض: يروونه عن شعبة موقوفا ولم يرفعه عنه غير عبد الصمد، قلت: ولا يضر هذا على المذهب الصحيح المختار، وهو إذا روى الحديث بعض الرواة موقوفا وبعضهم مرفوعا، أو بعضهم متصلاً وبعضهم مرسلاً، فإن الحكم للرفع والوصل، وقيل: للوقف والإرسال، وقيل: يعتبر الأحفظ، وقيل: الأكثر، والصحيح الأول، ومع هذا فمسلم رحمه الله لم يذكر هذا الإسناد معتمدا عليه إنما ذكره متابعة، وقد تكلمنا قريبا على نحو هذا، والله أعلم.
*2* باب بيان غلظ تحريم النميمة
*وحدّثني شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ وَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحمّد بْن أَسْمَاءَ الضّبَعِيّ قَالاَ: حَدّثَنَا مَهْدِيّ (وَهُوَ ابْنُ مَيْمُونٍ)، حَدّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ أَنّهُ بَلَغَهُ أَنّ رَجُلاً يَنِمّ الْحَدِيثَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ نَمّامٌ".
حدّثنا عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ السّعْدِيّ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الأَمِيرِ. فَكُنّا جُلُوسا فِي الْمَسْجِدِ. فَقَالَ الْقَوْمُ: هَذَا مِمّنْ يَنْقُلُ الْحَدِيثَ إِلَى الأَمِيرِ. قَالَ فَجَاءَ حَتّى جَلَسَ إِلَيْنَا. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ قَتّاتٌ".
حَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَ وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ. ح وَحَدّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التّمِيمِيّ. واللّفْظُ لَهُ. أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمّامِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: كُنّا جُلُوسا مَعَ حُذَيْفَةَ فِي الْمَسْجِدِ. فَجَاءَ رَجُلٌ حَتّى جَلَسَ إِلَيْنَا. فَقِيْلَ لِحُذَيْفَةَ: إِنّ هَذَا يَرْفَعُ إِلَى السّلْطَانِ أَشْيَاءَ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ، إِرَادَةَ أَنْ يُسْمِعَهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَدْخُلَ الْجَنّةَ قَتّاتٌ".
في رواية: "لا يدخل الجنة نمام". وفي أخرى: "قتات" وهو مثل الأول. فالقتات هو النمام، وهو بفتح القاف وتشديد التاء المثناة من فوق، قال الجوهري وغيره: يقال نم الحديث ينمه، وينمه بكسر النون وضمها نما، والرجل نمام ونم. وقته يقته بضم القاف قتا، قال العلماء: النميمة نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد بينهم، قال الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في الإحياء: اعلم أن النميمة إنما تطلق في الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه كما تقول: فلان يتكلم فيك بكذا، قال: وليست النميمة مخصوصة بهذا، بل حد النميمة كشف ما يكره كشف ه، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه أو ثالث، وسواء كان الكشف بالكناية أو بالرمز أو بالإيماء، فحقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشف ه، فلو رآه يخفي مالاً لنفسه فذكره فهو نميمة، قال: وكل من حملت إليه نميمة وقيل له: فلان يقول فيك أو يفعل فيك كذا فعليه ستة أمور. الأول: أن لا يصدقه لأن النمام فاسق. الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصحه ويقبح له فعله. الثالث: أن يبغضه في الله تعالى فإنه بغيض عند الله تعالى، ويجب بغض من أبغضه الله تعالى. الرابع: أن لا يظن بأخيه الغائب السوء. الخامس: أن لا يحمله ما حكى له على التجسس والبحث عن ذلك. السادس: أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه فلا يحكي نميمته عنه فيقول: فلان حكى كذا فيصير به نماما ويكون آتيا ما نهى عنه، هذا آخر كلام الغزالي رحمه الله، وكل هذا المذكور في النميمة إذا لم يكن فيها مصلحة شرعية، فإن دعت حاجة إليها فلا منع منها، وذلك كما إذا أخبره بأن إنسانا يريد الفتك به أو بأهله أو بماله، أو أخبر الإمام أو من له ولاية بأن إنسانا يفعل كذا ويسعى بما فيه مفسدة، ويجب على صاحب الولاية الكشف عن ذلك وإزالته، فكل هذا وما أشبهه ليس بحرام، وقد يكون بعضه واجبا وبعضه مستحبا على حسب المواطن، والله أعلم. وفي الإسناد فروخ وهو غير مصروف تقدم مرات، وفيه الضبعي بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة.
وقوله:(حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة إلى آخره) كلهم كوفيون إلا حذيفة بن اليمان فإنه استوطن المداين. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة نمام) ففيه التأويلان المتقدمان في نظائره، أحدهما: يحمل على المستحل بغير تأويل مع العلم بالتحريم. والثاني: لا يدخلها دخول الفائزين، والله أعلم.
*2* باب بيان غلظ تحريم إسبال الإِزار والمن بالعطية وتنفيق السلعة بالحلف. وبيان الثلاثة الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ قَالُوا: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَلِيّ بْنِ مُدْرِكٍ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الُحرّ، عَنْ أَبِي ذَرَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلّمُهُمُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" قَالَ فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَ مِرَارٍ. قَالَ أَبُو ذَرَ: خَابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: "الْمُسْبِلُ إِزَارَهُ وَالْمَنّانُ وَالْمُنَفّقُ سِلْعَتَهُ بالحلف الكاذب".
وحدّثني أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلاّدٍ الْبَاهِلِيّ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ (وَهُوَ الْقَطّانُ) حَدّثَنَا سُفْيَانُ: حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ مُسْهَرٍ، عَنْ خَرَشَةَ بْنِ الْحُرّ، عَنْ أَبِي ذَرَ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْمَنّان الّذِي لاَ يُعْطِي شَيْئَا إِلاّ مَنّة. وَالْمُنَفّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلْفِ الْفَاجِرِ، وَالْمُسبلُ إِزَارَهُ".
وحدّثنيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ. حَدّثَنَا مُحمّدٌ (يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ) عَنْ شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ، بِهَذَا الاْسْنَادِ. وَقَالَ "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكّيِهمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، وَ أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلّمُهُمُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكّيهِمْ (قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ وَمَلِكٌ كَذّابٌ. وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهَذَا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ . قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثٌ لاَ يُكَلّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلاَ يُزَكّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى فَضْلِ مَاءٍ بِالفَلاَةِ يَمْنَعُهُ مِنِ ابْنِ السّبِيلِ. وَرَجُلٌ بَايَعَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ فَحَلَفَ لَهُ بِالله لأَخَذَهَا بِكَذَا وَكَذَا فَصَدّقَهُ، وَهُوَ عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ. وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَاما لاَ يُبَايِعُهُ إِلاّ لِدُنْيَا، فَإِنْ أَعْطَاهُ مِنْهَا وَفَىَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ مِنْهَا لَمْ يَفِ".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ. ح وَحَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيّ. أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ. غٍيْرَ أَنّ فِي حَدِيثِ جَرِيرٍ "وَرَجُلٌ سَاوَمَ رَجُلاً بِسِلْعَةٍ".
وحدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أُراهُ مَرْفُوعَا . قَالَ "ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلّمُهُمُ الله وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ فَاقْتَطَعَهُ" وَبَاقِي حَدِيِثِهِ نَحْوَ حَدِيثِ الأَعْمَشِ.
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم، قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب). وفي رواية: (المنان الذي لا يعطي شيئا إلا منه والمسبل إزاره).
وفي رواية: (شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر).
وفي رواية: (رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل، ورجل بايع رجلاً بسلعة بعد العصر فخلف له بالله لأخذها بكذا وكذا فصدقه وهو على غير ذلك، ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا فإن أعطاه منها وفي وإن لم يعطه منها لم يف) أما ألفاظ أسماء الباب ففيه علي بن مدرك بضم الميم وإسكان الدال المهملة وكسر الراء. وفيه خرشة بخاء معجمة ثم راء مفتوحتين ثم شين معجمة. وفيه أبو زرعة وهو ابن عمرو بن جرير، وتقدم مرات الخلاف في اسمه وأن الأشهر فيه هرم. وفيه أبو حازم عن أبي هريرة هو أبو حازم سلمان الأغر مولى عزة. وفيه أبو صالح وهو ذكوان تقدم. وفيه سعيد بن عمرو الأشعثي هو بالشين المعجمة والعين المهملة والثاء المثلثة منسوب إلى جده الأشعث بن قيس الكندي فإنه سعيد بن عمرو بن سهل بن إسحاق بن محمد بن الأشعث بن قيس الكندي. وفيه عبثر هو بفتح العين وبعدها باء موحدة ساكنة ثم ثاء مثلثة، وأما ألفاظ اللغة ونحوها فقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم" هو على لفظ الاَية الكريمة، قيل: معنى لا يكلمهم أي لا يكلمهم تكليم أهل الخيرات وبإظهار الرضى، بل بكلام أهل السخط والغضب. وقيل: المراد الإعراض عنهم. وقال جمهور المفسرين: لا يكلمهم كلاما ينفعهم ويسرهم. وقيل: لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية، ومعنى لا ينظر إليهم أي يعرض عنهم، ونظره سبحانه وتعالى لعباده رحمته ولطفه بهم، ومعنى لا يزكيهم لا يطهرهم من دنس ذنوبهم. وقال الزجاج وغيره، معناه لا يثني عليهم، ومعنى عذاب أليم مؤلم. قال الواحدي: هو العذاب الذي يخلص إلى قلوبهم وجعه، قال: والعذاب كل ما يعيي الإنسان ويشق عليه. قال واصل: العذاب في كلام العرب من العذب وهو المنع، يقال: عذبته عذبا إذا منعته، وعذب عذوبا أي امتنع، وسمي الماء عذبا لأنه يمنع العطش فسمي العذاب عذابا لأنه يمنع المعاقب من معاودة مثل جرمه ويمنع غيره من مثل فعله، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "المسبل إزاره" فمعناه المرخي له الجار طرفه خيلاء، كما جاء مفسرا في الحديث الاَخر: "لا ينظر الله إلى من يجر ثوبه خيلاء" والخيلاء الكبر، وهذا التقييد بالجر خيلاء يخصص عموم المسبل إزاره، ويدل على أن المراد بالوعيد من جره خيلاء، وقد رخص النبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وقال: لست منهم إذ كان جره لغير الخيلاء. وقال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وغيره وذكر إسبال الإزار وحده لأنه كان عامة لباسهم، وحكم غيره من القميص وغيره حكمه. قلت: وقد جاء ذلك مبينا منصوصا عليه من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية سالم بن عبد الله عن أبيه رضي الله عنهم عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "قال الإسبال في الإزار والقميص والعمامة من جر شيئا خيلاء لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة" رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة بإسناد حسن والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "المنفق سلعته بالحلف الفاجر" فهو بمعنى الرواية الأخرى بالحلف الكاذب، ويقال الحلف بكسر اللام وإسكانها، وممن ذكر الإسكان ابن السكيت في أول إصلاح المنطق. وأما الفلاة بفتح الفاء فهي المفازة والقفر التي لا أنيس بها. وأما تخصيصه صلى الله عليه وسلم في الرواية الأخرى: "الشيخ الزاني، والملك الكذاب، والعائل المستكبر" بالوعيد المذكور، فقال القاضي عياض: سببه أن كل واحد منهم التزم المعصية المذكورة مع بعدها منه وعدم ضرورته إليها وضعف دواعيها عنده، وإن كان لا يعذر أحد بذنب، لكن لما لم يكن إلى هذه المعاصي ضرورة مزعجة ولا دواعي متعادة أشبه إقدامهم عليها المعاندة والاستخفاف بحق الله تعالى وقصد معصيته لا لحاجة غيرها، فإن الشيخ لكمال عقله وتمام معرفته بطول ما مر عليه من الزمان وضعف أسباب الجماع والشهوة للنساء واختلال دواعيه لذلك عنده ما يريحه من دواعي الحلال في هذا ويخلي سره منه فكيف بالزنا الحرام؟ وإنما دواعي ذلك الشباب والحرارة الغريزية وقلة المعرفة وغلبة الشهوة لضعف العقل وصغر السن، وكذلك الإمام لا يخشى من أحد من رعيته ولا يحتاج إلى مداهنته ومصانعته، فإن الإنسان إنما يداهن ويصانع بالكذب، وشبهه من يحذره ويخشى أذاه ومعاتبته، أو يطلب عنده بذلك منزلة أو منفعة وهو غني عن الكذب مطلقا، وكذلك العائل الفقير قد عدم المال، وإنما سبب الفخر والخيلاء والتكبر والارتفاع على القرناء الثروة في الدنيا لكونه ظاهرا فيها وحاجات أهلها إليه، فإذا لم يكن عنده أسبابها فلماذا يستكبر ويحتقر غيره؟ فلم يبق فعله وفعل الشيخ الزاني والإمام الكاذب إلا لضرب من الاستخفاف بحق الله تعالى والله أعلم.
وأما الثلاثة في الرواية الأخيرة فمنهم رجل منع فضل الماء من ابن السبيل المحتاج، ولا شك في غلظ تحريم ما فعل وشدة قبحه، فإذا كان من يمنع فضل الماء الماشية عاصيا فكيف بمن يمنعه الاَدمي المحترم؟ فإن الكلام فيه، فلو كان ابن السبيل غير محترم كالحربي والمرتد لم يجب بذل الماء له، وأما الحالف كاذبا بعد العصر فمستحق هذا الوعيد، وخص ما بعد العصر لشرفه بسبب اجتماع ملائكة الليل والنهار وغير ذلك. وأما مبايع الإمام على الوجه المذكور فمستحق هذا الوعيد لغشه المسلمين وإمامهم وتسببه إلى الفتن بينهم بنكثة بيعته لا سيما إن كان ممن يقتدى به والله أعلم. ووقع في معظم الأصول في الرواية الثانية عن أبي هريرة: ثلاث لا يكلمهم الله بحذف الهاء. وكذا وقع في بعض الأصول في الرواية الثانية عن أبي ذر وهو صحيح على معنى ثلاث أنفس، وجاء الضمير في يكلمهم مذكرا على المعنى، والله سبحانه وتعالى أعلم
*2* باب غلظ تحريم قتل الإِنسان نفسه وإِن من قتل نفسه بشيء عُذّب به في النار وأَنه لا يدخل الجنة إِلا نفس مسلمة
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجّ، قَالاَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَتَوَجّأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدا فِيهَا أَبَدا. وَمَنْ شَرِبَ سَمّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسّاهُ فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدا مُخَلّدا فِيهَا أَبَدا. وَمَنْ تَرَدّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدّى فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدا مُخَلّدا فِيهَا أَبَدا".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ. ح وَحَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشَعثِيّ. حَدّثَنَا عَبْثَرٌ. ح وَحَدّثَنِي يَحْيَىَ بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ: حَدّثَنَا خَالِدٌ (يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ) حَدّثَنَا شُعْبَةُ كُلّهُمْ بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ. وَفِي رِوايَةِ شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ ذَكْوَانَ.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: حَدّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاّمِ بْنِ أَبِي سَلاّمٍ الدّمَشْقِيّ، عَنْ يَحْيَىَ بْن أَبِي كَثِير أَنّ أَبَا قِلاَبَةَ أَخْبَرَهُ أَنّ ثَابِتَ بْنَ الضّحّاكِ أَخْبَرَهُ أَنّهُ بَايَعَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ الشّجَرَةِ. وَأَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بِمِلّةٍ غَيْرِ الإِسْلاَمِ كَاذِبا فَهُوَ كَمَا قَالَ. وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عُذّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَلَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِي مَا لاَ يَمْلِكُهُ".
حدّثني أَبُو غَسّانَ الْمِسمَعِيّ: حَدّثَنَا مُعَاذٌ (وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ) قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي عَنْ يَحْيَىَ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو قِلاَبَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضّحّاكِ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ عَلَى رَجُلٍ نَذْرٌ فِيمَا لاَ يَمْلِكُ. وَلَعْنُ الْمُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ. وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدّنْيَا عُذّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَمَنِ ادّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللّهُ إِلاّ قِلّةً. وَمَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ فَاجِرَةٍ".
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَ إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَ عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصّمَدِ. كُلّهُمْ عَنْ عَبْدِ الصّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَيّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ الضّحّاكِ الأَنْصَارِيّ. ح وَحَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ، عَنِ الثّوْرِيّ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذّاءِ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ ثَابِتِ بْنِالضّحّاكِ قَالَ: قَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ حَلَفَ بِمِلّةٍ سِوَى الإِسْلاَمِ كَاذِبا مُتَعَمّدا فَهُوَ كَمَا قَالَ. وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ عَذّبَهُ الله بِهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ". هَذَا حَدِيثُ سُفْيَانَ. وَأَمّا شُعْبَةُ فَحَدِيثُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ حَلَفَ بِمِلّةٍ سِوَى الإِسْلاَمِ كَاذِبا فَهُوَ كَمَا قَالَ: وَمَنْ ذَبَحَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ ذُبِحَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعا عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ: قَالَ: ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: شَهِدْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حُنَيْنا. فَقَالَ لِرَجُلٍ مِمّنْ يُدْعَى بِالإِسْلاَمِ "هَذَا مِنْ أَهْلِ النّارِ" فَلَمّا حَضَرْنَا الْقِتَالَ قَاتَلَ الرّجُلُ قِتَالاً شَدِيدا فَأَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ. فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! الرّجُلُ الّذِي قُلْتَ لَهُ آنِفا: "إِنّهُ مِنْ أَهْلِ النّارِ" فَإِنّهُ قَاتَلَ الْيَوْمَ قِتَالاً شَدِيدا. وَقَدْ مَاتَ. فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "إِلَى النّارِ" فَكَادَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَرْتَابَ. فَبَيْنَمَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ إِذْ قِيلَ: إِنّهُ لَمْ يَمُتْ. وَلَكِنّ بِهِ جِرَاحا شَدِيدا، فَلَمّا كَانَ مِنَ اللّيْلِ لَمْ يَصْبِرْ عَلَى الْجِرَاحِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَأُخْبِرَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ: "الله أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنّي عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ" ثُمّ أَمَرَ بِلاَلاً فَنَادَى فِي النّاسِ "إِنّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ إِلاّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ. وَإِنّ الله يُؤَيّدُ هَذَا الدّينَ بِالرّجُلِ الْفَاجِرِ".
حدّثنا قَتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْقَارِيّ، حَي مِنَ الْعَرَبِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْتَقَىَ هُوَ وَالْمُشْرِكُونَ فَاقْتَتَلُوا. فَلَمّا مَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عَسْكَرِهِ، وَمَالَ الاَخَرُونَ إِلَى عَسْكَرِهِمْ، وَفِي أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ لاَ يَدَعُ لَهُمْ شَاذّةً إِلاّ اتّبَعَهَا يَضْرِبُهَا بِسَيْفِهِ. فَقَالُوا: مَا أَجْزَأَ مِنّا الْيَوْمَ أَحَدٌ كَمَا أَجْزَأَ فُلاَنٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا إِنّهُ مِنْ أَهْلِ النّارِ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَنَا صَاحِبُهُ أَبَدا. قَالَ فَخَرَجَ مَعَهُ. كُلّمَا وَقَفَ وَقَفَ مَعَهُ. وَإِذَا أَسْرَعَ أَسْرَعَ مَعَهُ. قَالَ فَجُرِحَ الرّجُلُ جُرْحا شَدِيدا. فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ، وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ. ثُمّ تَحَامَلَ عَلَى سَيْفِهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَخَرَجَ الرّجُلُ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنّكَ رَسُولُ اللّهِ. قَالَ: "وَمَا ذَاكَ؟" قَالَ: الرّجُلُ الّذِي ذَكَرْتَ آنِفا أَنّهُ مِنْ أَهْلِ النّارِ. فَأَعْظَمَ النّاسُ ذَلِكَ. فَقُلْتُ: أَنَا لَكُمْ بِهِ. فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ حَتّى جُرِحَ جُرْحا شَدِيدا. فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ. فَوَضَعَ نَصْلَ سَيْفِهِ بِالأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ. ثُمّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، عِنْدَ ذَلِكَ "إِنّ الرّجُلَ لَيَعْمَلُ عمَلَ أَهْلِ الْجَنّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنّاسِ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النّارِ. وَإِنّ الرّجُلَ لَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ النّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ".
حدّثني مُحمّدُ بْنُ رَافِعِ: حَدّثَنَا الزّبَيْريّ (وَهُوَ مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ) حَدّثَنَا شَيْبَانُ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: "إِنّ الرّجُلَ كَانَ فِيْمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِهِ قَرْحَةٌ. فَلَمّا آذَتْهُ انْتَزَعَ سَهْمَا مِنْ كِنَانَتِهِ. فَنَكَأَهَا فَلَمْ يَرْقَإِ الدّمُ حَتّى مَاتَ. قَالَ رَبّكُمْ: قَدْ حَرّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنّةَ". ثُمّ مَدّ يَدَهُ إِلَى الْمَسْجِدِ فَقَالَ: إِي وَالله! لَقَدْ حَدّثَنِي بِهَذَا الْحَدِيثِ جُنْدَبٌ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي هَذَا الْمَسْجِدِ.
وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدّمِيّ. حَدّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٌ. حَدّثَنَا أَبِي قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: حَدّثَنَا جُنْدَبُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْبَجَلِيّ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ. فَمَا نَسِينَا. وَمَا نَخْشَىَ أَنْ يَكُونَ جُنْدَبٌ كَذَبَ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَرَجَ بِرَجُلٍ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خُرَاجٌ" فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا، ومن شرب سما فقتل نفسه فهو يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا. ومن تردى من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا).
وفي الحديث الاَخر: (من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال، ومن قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة، وليس على رجل نذر في شيء لا يملكه). وفي رواية: (من حلف بملة سوى الإسلام كاذبا متعمدا فهو كما قال).
وفي الحديث الاَخر: (ليس على رجل نذر فيما لا يملك، ولعن المؤمن كقتله، ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة، ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله تعالى إلا قلة، ومن حلف على يمين صبر فاجرة) وفي الباب الأحاديث الباقية، وستمر على ألفاظها ومعانيها إن شاء الله تعالى. أما الأسماء وما يتعلق بعلم الإسناد ففيه أشياء كثيرة تقدمت من الكنى والدقائق كقوله: حدثنا خالد يعني ابن الحرث، فقد قدمنا بيان فائدة قوله هو ابن الحرث، وكقوله عن الأعمش عن أبي صالح، والأعمش مدلس، والمدلس إذا قال عن لا يحتج به إلا إذا ثبت السماع من جهة أخرى، وقدمنا أن ما كان في الصحيحين عن المدلس بعن فمحمول على أنه ثبت السماع من جهة أخرى، وقد جاء هنا مبينا في الطريق الاَخر من رواية شعبة. وقوله في أول الباب: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو سعيد الأشج الخ إسناده كله كوفيون إلا أبا هريرة فإنه مدني، واسم الأشج عبد الله بن سعيد بن حصين توفي سنة سبع وخمسين ومائتين قبل مسلم بأربع سنين. وقوله: كلهم بهذا الإسناد مثله. وفي رواية شعبة عن سليمان قال: سمعت ذكوان يعني بقوله هذا الإسناد أن هؤلاء الجماعة المذكورين وهم جرير وعبثر وشعبة رووه عن الأعمش كما رواه وكيع في الطريق الأولى، إلا أن شعبة وزاد هنا فائدة حسنة فقال: عن سليمان وهو الأعمش، قال: سمعت ذكوان وهو أبو صالح فصرح بالسماع. وفي الروايات الباقية يقول عن، والأعمش مدلس لا يحتج بعنعنته إلا إذا صح سماعه الذي عنعنه من جهة أخرى، فبين مسلم أن ذلك قد صح من رواية شعبة، والله تعالى أعلم. وقوله: أبو قلابة هو بكسر القاف واسمه عبد الله بن زيد. وقوله: عن خالد الحذاء قالوا: إنما قيل له الحذاء لأنه كان يجلس في الحذائين ولم يحذ نعلاً قط، هذا هو المشهور، وروينا عن فهد بن حيان بالمثناة قال: لم يحذ خالد قط، وإنما كان يقول: احذوا على هذا النحو فلقب الحذاء، وهو خالد بن مهران أبو المنازل بضم الميم وبالزاي واللام.
وقوله: (عن شعبة عن أيوب عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك الأنصاري) ثم تحول الإسناد فقال: (عن الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن ثابت بن الضحاك) قد يقال: هذا تطويل للكلام على خلاف عادة مسلم وغيره، وكان حقه ومقتضى عادته أن يقتصر أولاً على أبي قلابة ثم يسوق الطريق الاَخر إليه، فأما ذكر ثابت فلا حاجة إليه أولاً، وجوابه أن في الرواية الأولى رواية شعبة عن أيوب نسب ثابت بن الضحاك، فقال الأنصاري: وفي رواية الثوري عن خالد ولم ينسبه، فلم يكن له بد من فعل ما فعل ليصح ذكر نسبه. قوله: يعقوب القاري هو بتشديد الياء تقدم قريبا. وأبو حازم الراوي عن سهل بن ساعد الساعدي اسمه سلمة بن دينار، والراوي عن أبي هريرة اسمه سلمان مولى عزة، والله أعلم. وأما لغات الباب وشبهها فقوله صلى الله عليه وسلم: "فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه" هو بالجيم وهمز آخره، ويجوز تسهيله بقلب الهمزة ألفا ومعناه يطعن. وقوله صلى الله عليه وسلم: "يتردى) ينزل، وأما جهنم فهو اسم لنار الاَخرة عافانا الله منها ومن كل بلاء. قال يونس وأكثر النحويين: هي عجمية لا تنصرف للعجمة والتعريف، وقال آخرون: هي عربية لم تصرف للتأنيث والعلمية وسميت بذلك لبعد قعرها. قال رؤبة: يقال بئر جهنام أي بعيدة القعر، وقيل: هي مشتقة من الجهومة وهي الغلظ، يقال: جهم الوجه أي غليظه، فسميت جهنم لغلظ أمرها، والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "من شرب سما فهو يتحساه) هو بضم السين وفتحها وكسرها ثلاث لغات الفتح أفصحهن الثالثة في المطالع وجمعه سمام، ومعنى يتحساه يشربه في تمهل ويتجرعه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن ادعى دعوى كاذبة) هذه هي اللغة الفصيحة، يقال: دعوى باطل وباطلة، وكاذب وكاذبة، حكاهما صاحب المحكم والتأنيث أفصح. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ليتكثر بها) فضبطناه بالثاء المثلثة بعد الكاف، وكذا هو في معظم الأصول وهو الظاهر، وضبطه بعض الأئمة المعتمدين في نسخته بالباء الموحدة، وله وجه وهو بمعنى الأول أي يصير ماله كبيرا عظيما. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ومن حلف على يمين صبر فاجرة"لم يأت في الحديث هنا الخبر عن هذا الحالف إلا أن يعطفه على قوله قبله، ومن ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله بها إلا قلة، أي وكذلك من حلف على يمين صبر فهو مثله، قال: وقد ورد معنى هذا الحديث تاما مبينا في حديث آخر: "من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله وهو عليه غضبان" ويمين الصبر هي التي ألزم بها الحالف عند حاكم ونحوه، وأصل الصبر الحبس والإمساك.
وقوله في حديث أبي هريرة: (شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا) كذا وقع في الأصول. قال القاضي عياض رحمه الله: صوابه خيبر بالخاء المعجمة. وقوله: (يا رسول الله الرجل الذي قلت له آنفا إنه من أهل النار) أي قلت في شأنه وفي سببه، قال الفراء وابن الشجري وغيرهما من أهل العربية: اللام قد تأتي بمعنى في، ومنه قول الله عز وجل: {ونضع الموازين القسط ليوم القيامة} أي فيه. وقوله آنفا أي قريبا وفيه لغتان: المد وهو أفصح والقصر. وقوله: (فكاد بعض المسلمين أن يرتاب) كذا هو الأصول أن يرتاب، فأثبت أن مع كاد وهو جائز لكنه قليل، وكاد لمقاربة الفعل، ولم يفعل إذا لم يتقدمها نفي، فإن تقدمها كقولك ما كاد يقوم كانت دالة على القيام لكن بعد بطء، كذا نقله الواحدي وغيره عن العرب واللغة. وقوله: (ثم أمر بلالاً فنادى في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) يجوز في أنه وإن كسر الهمزة وفتحها، وقد قرئ في السبع قول الله عز وجل: {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك} بفتح الهمزة وكسرها.
وقوله: (لا يدع لهم شاذة إلا اتبعها) الشاذ والشاذة الخارج والخارجة عن الجماعة. قال القاضي عياض رحمه الله: أنث الكلمة على معنى النسمة أو تشبيه الخارج بشاذة الغنم، ومعناه أنه لا يدع أحدا على طريق المبالغة، قال ابن الأعرابي: يقال فلان لا يدع شاذة ولا فاذة إذا كان شجاعا لا يلقاه أحد إلا قتله، وهذا الرجل الذي كان لا يدع شاذة ولا فاذة اسمه قزمان، قاله الخطيب البغدادي، قال: وكان من المنافقين. وقوله: (ما أجزأ منا اليوم أحد ما أجزأ فلان) مهموز معناه ما أغنى وكفى أحد غناءه وكفايته. قوله: (فقال رجل من القوم أنا صاحبه) كذا في الأصول ومعناه: أنا أصحبه في خفية وألازمه لأنظر السبب الذي به يصير من أهل النار، فإن فعله في الظاهر جميل، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل النار فلا بد له من سبب عجيب. قوله: (ووضع ذباب السيف بين ثدييه) هو بضم الذال وتخفيف الباء الموحدة المكررة وهو طرفه الأسفل، وأما طرفه الأعلى فمقبضه. وقوله: بين ثدييه هو تثنية ثدي بفتح الثاء، وهو يذكر على اللغة الفصيحة التي اقتصر عليها الفراء وثعلب وغيرهما. وحكى ابن فارس والجوهري وغيرهما فيه التذكير والتأنيث، قال ابن فارس: الثدي للمرأة، ويقال لذلك الموضع من الرجل ثندوه وثندؤه بالفتح بلا همزة وبالضم مع الهمزة. وقال الجوهري: والثدي للمرأة وللرجل، فعلى قول ابن فارس يكون في هذا الحديث قد استعار الثدي للرجل، وجمع الثدي أثد وثدي وثدي بضم الثاء وكسرها.
قوله صلى الله عليه وسلم: (خرجت برجل قرحة فآذته فانتزع سهما من كنانته فنكأها فلم يرقأ الدم حتى مات). وفي الرواية الأخرى: (خرج به خراج) القرحة بفتح القاف وإسكان الراء وهي واحدة القروح، وهي حبات تخرج في بدن الإنسان، والكنانة بكسر الكاف وهي جعبة النشاب مفتوحة الجيم، سميت كنانة لأنها تكن السهام أي تسترها، ومعنى نكأها قشرها وخرقها وفتحها وهو مهموز، ومعنى لم يرقأ الدم أي لم ينقطع وهو مهموز، يقال: رقأ الدم، والدمع يرقأ رقوءا، مثل ركع يركع ركوعا إذا سكن وانقطع، والخراج بضم الخاء المعجمة وتخفيف الراء وهو القرحة.
قوله: (فما نسينا وما نخشى أن يكون كذب) هو نوع من تأكيد الكلام وتقويته في النفس، أو الإعلام بتحقيقه ونفي تطرق الخلل إليه، والله أعلم. أما أحكام الحديث ومعانيها ففيها بيان غلظ تحريم قتل نفسه، واليمين الفاجرة التي يقتطع بها مال غيره، والحلف بملة غير الإسلام كقوله: هو يهودي أو نصراني إن كان كذا، أو واللات والعزى، وشبه ذلك، وفيها أنه لا يصح النذر فيما لا يملك، ولا يلزم بهذا النذر شيء، وفيها تغليظ تحريم لعن المسلم هذا لا خلاف فيه. قال الإمام أبو حامد الغزالي وغيره: لا يجوز لعن أحد من المسلمين ولا الدواب، ولا فرق بين الفاسق وغيره، ولا يجوز لعن أعيان الكفار حيا كان أو ميتا إلا من علمنا بالنص أنه مات كافرا كأبي لهب وأبي جهل وشبههما. ويجوز لعن طائفتهم كقولك: لعن الله الكفار، ولعن الله اليهود والنصارى. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن المؤمن كقتله" فالظاهر أن المراد أنهما سواء في أصل التحريم وإن كان القتل أغلظ، وهذا هو الذي اختاره الإمام أبو عبد الله المازري، وقيل غير هذا مما ليس بظاهر. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فهو في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا" فقيل فيه أقوال، أحدها: أنه محمول على من فعل ذلك مستحلاً مع علمه بالتحريم فهذا كافر وهذه عقوبته. والثاني: أن المراد بالخلود طول المدة والإقامة المتطاولة لا حقيقة الدوام، كما يقال: خلد الله ملك السلطان. والثالث: أن هذا جزاؤه ولكن تكرم سبحانه وتعالى فأخبر أنه لا يخلد في النار من مات مسلما. قال القاضي عياض رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه" فيه دليل على أن القصاص من القاتل يكون بما قتل به محددا كان أو غيره، اقتداء بعقاب الله تعالى لقاتل نفسه والاستدلال بهذا لهذا ضعيف. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال" وفي الرواية الأخرى: "كاذبا متعمدا) ففيه بيان لغلظ تحريم هذا الحلف. وقوله صلى الله عليه وسلم كاذبا ليس المراد به التقييد والاحتراز من الحلف بها صادقا، لأنه لا ينفك الحالف بها عن كونه كاذبا، وذلك لأنه لا بد أن يكون معظما لما حلف به، فإن كان معتقدا عظمته بقلبه فهو كاذب في ذلك، وإن كان غير معتقد ذلك بقلبه فهو كاذب في الصورة لكونه عظمه بالحلف به، وإذا علم أنه لا ينفك عن كونه كاذبا حمل التقييد بكاذبا على أنه بيان لصورة الحالف، ويكون التقييد خرج على سبب، فلا يكون له مفهوم، ويكون من باب قول الله تعالى: {ويقتلون الأنبياء بغير حق} وقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} وقوله تعاى: {وربائبكم اللاتي في حجوركم} وقوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} وقوله تعالى: {فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم} وقوله تعالى: {ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا}. ونظائره كثيرة. ثم إن كان الحالف به معظما لما حلف به مجلاً له كان كافرا وإن لم يكن معظما بل كان قلبه مطمئنا بالإيمان فهو كاذب في حلفه بما لا يحلف به، ومعاملته إياه معاملة ما يحلف به، ولا يكون كافرا خارجا عن ملة الإسلام، ويجوز أن يطلق عليه اسم الكفر، ويراد به كفر الإحسان وكفر نعمة الله تعالى، فإنها تقتضي أن لا يحلف هذا الحلف القبيح، وقد قال الإمام أو عبد الرحمن عبد الله بن المبارك رضي الله عنه فيما ورد من مثل هذا مما ظاهره تكفير أصحاب المعاصي: إن ذلك على جهة التغليظ والزجر عنه، وهذا معنى مليح، ولكن ينبغي أن يضم إليه ما ذكرناه من كونه كافر النعم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلا قلة" فقال القاضي عياض: هو عام في كل دعوى يتشبع بها المرء بما لم يعط من مال يختال في التجمل به من غيره، أو نسب ينتمي إليه، أم علم يتحلى به، وليس هو من حملته أو دين يظهره، وليس هو من أهله، فقد أعلم صلى الله عليه وسلم أنه غير مبارك له في دعواه، ولا زاك ما اكتسبه بها، ومثله الحديث الاَخر: "اليمين الفاجرة منفقة للسلعة ممحقة للكسب" وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وأن الرجل ليعمل عمل أهل النار وهو من أهل الجنة" ففيه التحذير من الاغترار بالأعمال، وأنه ينبغي للعبد أن لا يتكل عليها ولا يركن إليها مخافة من انقلاب الحال للقدر السابق، وكذا ينبغي للعاصي أن لا يقنط، ولغيره أن لا يقنطه من رحمة الله تعالى. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة وأنه من أهل النار" وكذا عكسه، أن هذا قد يقع.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلاً ممن كان قبلكم خرجت به قرحة فلما آذته انتزع سهما من كنانته فنكأها فلم يرقأ الدم حتى مات قال ربكم: قد حرمت عليه الجنة" فقال القاضي رحمه الله: فيه يحتمل أنه كان مستحلاً أو يحرمها حين يدخلها السابقون والأبرار أو يطيل حسابه أو يحبس في الأعراف، هذا كلام القاضي قلت: ويحتمل أن شرع أهل ذلك العصر تكفير أصحاب الكبائر، ثم إن هذا محمول على أنه نكأها استعجالاً للموت أو لغير مصلحة، فإنه لو كان على طريق المداواة التي يغلب على الظن نفعها لم يكن حراما، والله أعلم.
*2* باب غلظ تحريم الغلول وأنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون
*حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ. حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ. قَالَ: حَدّثَنِي سِمَاكٌ الْحَنَفِيّ، أَبُو زُمَيْلٍ. قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الله بْنُ عَبّاسٍ. قَالَ: حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا: فُلاَنٌ شَهِيدٌ. فُلاَنٌ شَهِيدٌ. حَتّى مَرّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا: فُلاَنٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَلاّ. إِنّي رَأَيْتُهُ فِي النّارِ. فِي بُرْدَةٍ غَلّهَا. أَوْ عَبَاءَةٍ" ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يا ابْنَ الْخَطّابِ! اذْهَبْ فَنَادِ فِي النّاسِ أَنّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ إِلاّ الْمُؤْمِنُونَ" قَالَ فَخَرَجْتُ فَنَادَيْتُ: "أَلاَ إِنّهُ لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ إِلاّ الْمُؤْمِنُونَ".
حدّثني أَبُو الطّاهِرِ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدّؤْلِيّ، عَنْ سَالِمٍ أَبِي الْغَيْثِ، مَوَلَى ابْنِ مُطيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ح وَحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. وهَذَا حَدِيِثُهُ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ (يَعْنِي ابْنَ مُحمّدٍ) عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلى خَيْبَرَ. فَفَتَحَ الله عَلَيْنَا. فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبا وَلاَ وَرِقا. غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطّعَامَ وَالثّيَابَ. ثُمّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي. وَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَبْدٌ لَهُ، وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ. يُدْعَى رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ بَنِي الضّبيْبِ. فَلَمّا نَزَلْنَا الْوَادِيَ قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَحُلّ رَحْلَهُ فَرُمِيَ بِسَهْمٍ. فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ. فَقُلْنَا: هَنِيئا لَهُ الشّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَلاّ. وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ! إِنّ الشّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارا. أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ. لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ" قَالَ فَفَزِعَ النّاسُ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ".
فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: فلان شهيد فلان شهيد، حتى مروا على رجل فقالوا: فلان شهيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون، قال: فخرجت فناديت ألا إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون) وفيه حديث أبي هريرة من نحو معناه في الإسناد أبو زميل بضم الزاي وتخفيف الميم المفتوحة وتقدم. وقوله: لما كان يوم خيبر هو بالخاء المعجمة وآخره راء، فهكذا وقع في مسلم وهو الصواب، وذكر القاضي عياض رحمه الله أن أكثر رواة الموطأ رووه هكذا وأنه الصواب، قال: ورواه بعضهم حنين بالحاء المهملة والنون والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "كلا" زجر ورد لقولهم في هذا الرجل أنه شهيد محكوم له بالجنة أول وهلة، بل هو في النار بسبب غلوله.
وقوله: (ثور بن زيد الديلي) هو هنا بكسر الدال وإسكان الياء، هكذا هو في أكثر الأصول الموجودة ببلادنا، وفي بعضها الدؤلي بضم الدال وبالهمزة بعدها التي تكتب صورتها واوا. وذكر القاضي عياض رحمه الله أنه ضبطه هنا عن أبي بحر دولي بضم الدال وبواو ساكنة، قال: وضبطناه عن غيره بكسر الدال وإسكان الياء، قال: وكذا ذكره مالك في الموطأ والبخاري في التاريخ وغيرهما. قلت: وقد ذكر أبو علي الغساني أن ثورا هذا من رهط أبي الأسود، فعلى هذا يكون فيه الخلاف الذي قدمناه قريبا في أبي الأسود. وقوله: (عن سالم أبي الغيث مولى ابن مطيع) هذا صحيح، وفيه التصريح بأن أبا الغيث هذا يسمى سالما. وأما قول أبي عمر بن عبد البر في أول كتابه التمهيد لا يوقف على اسمه صحيحا فليس بمعارض لهذا الإثبات الصحيح، واسم ابن مطيع عبد الله بن مطيع بن الأسود القرشي، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة" أما البردة بضم الباء فكساء مخطط وهي الشملة والنمرة، وقال أبو عبيد: هو كساء أسود فيه صور وجمعها برد بفتح الراء. وأما العباءة فمعروفة وهي ممدودة، ويقال فيها أيضا عباية بالياء قاله ابن السكيت وغيره. وقوله صلى الله عليه وسلم في بردة أي من أجلها وبسببها. وأما الغلول فقال أبو عبيد: هو الخيانة في الغنيمة خاصة، وقال غيره: هي الخيانة في كل شيء، ويقال منه غل يغل بضم الغين. وقوله: (رجل من بني الضبيب) هو بضم الضاد المعجمة وبعدها باء موحدة مفتوحة ثم ياء مثناة من تحت ساكنة ثم باء موحدة. قوله: (يحل رحله) هو بالحاء المهملة، وهو مركب الرجل على البعير. وقوله: (فكان فيه حتفه) هو بفتح الحاء المهملة وإسكان المثناة فوق أي موته، وجمعه حتوف، ومات حتف أنفه أي من غير قتل ولا ضرب. قوله: (فجاء رجل بشراك أو شراكين فقال: يا رسول الله أصبت يوم خيبر) كذا هو في الأصول وهو صحيح، وفيه حذف المفعول أي أصبت هذا، والشراك بكسر الشين المعجمة وهو السير المعروف الذي يكون في النعل على ظهر القدم، قال القاضي عياض رحمه الله: قوله النبي صلى الله عليه وسلم (إن الشملة لتلتهب عليه نارا). وقوله صلى الله عليه وسلم: (شراك أو شراكان من نار) تنبيه على المعاقبة عليهما، وقد تكون المعاقبة بهما أنفسهما فيعذب بهما وهما من نار، وقد يكون ذلك على أنهما سبب لعذاب النار، والله أعلم. وأما قوله: (ومع النبي صلى الله عليه وسلم عبد له) فاسمه مدعم بكسر الميم وإسكان الدال وفتح العين المهملتين، كذا جاء مصرحا به في الموطأ في هذا الحديث بعينه، قال القاضي عياض رحمه الله: وقيل إنه غير مدعم، قال: وورد في حديث مثل هذا اسمه كركرة ذكره البخاري، هذا كلام القاضي، وكركرة بفتح الكاف الأولى وكسرها، وأما الثانية فمكسورة فيهما، والله أعلم. وأما أحكام الحديثين فمنها غلظ تحريم الغلول ومنها أنه لا فرق بين قليله وكثيره حتى الشراك. ومنها أن الغلول يمنع من إطلاق اسم الشهادة على من غل إذا قتل، وسيأتي بسط هذا إن شاء الله تعالى. ومنها أنه لا يدخل الجنة أحد ممن مات على الكفر وهذا بإجماع المسلمين. ومنها جواز الحلف بالله تعالى من غير ضرورة لقوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده". ومنها أن من غل شيئا من الغنيمة يجب عليه رده، وأنه إذا رده يقبل منه ولا يحرق متاعه، سواء رده أو لم يرده، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يحرق متاع صاحب الشملة وصاحب الشراك، ولو كان واجبا لفعله ولو فعله لنقل. وأما الحديث: "من غل فأحرقوا متاعه واضربوه" وفي رواية: "واضربوا عنقه" فضعيف بين ابن عبد البر وغيره ضعفه. قال الطحاوي رحمه الله: ولو كان صحيحا لكان منسوخا، ويكون هذا حين كانت العقوبات في الأموال، والله أعلم.
*2* باب الدليل على أن قاتل نفسه لا يكفر
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. جَمِيعا عَنْ سُلَيْمَانَ. قَالَ: أَبُو بَكْرٍ: حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ حَجّاجٍ الصّوّافِ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ : أَنّ الطّفَيْلَ بْنَ عَمْرٍو الدّوْسِيّ أَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! هَلْ لَكَ فِي حِصْنٍ حَصِينٍ وَمَنْعَةٍ؟ (قَالَ حِصْنٌ كَانَ لِدَوْسٍ فِي الْجَاهِلِيّةِ) فَأَبَىَ ذَلِكَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. لِلّذِي ذَخَرَ الله لِلأَنْصَارِ. فَلَمّا هَاجَرَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْمَدِينَةِ. هَاجَرَ إِلَيْهِ الطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. وَهَاجَرَ مَعَهُ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ. فَاجْتَبووا الْمَدِينَةَ. فَمَرِضَ، فَجَزِعَ، فَأَخَذَ مَشَاقِصَ لَهُ، فَقَطَعَ بِهَا بَرَاجِمَهُ، فَشَخَبَتْ يَدَاهُ حَتّى مَاتَ. فَرَآهُ الطّفَيْلُ بْنُ عَمْرٍو فِي مَنَامِهِ. فَرَآهُ وَهَيْئَتُهُ حَسَنَةٌ. وَرَآهُ مُغَطّيا يَدَيْهِ. فَقَالَ لَهُ: مَا صَنَعَ بِكَ رَبّكَ؟ فَقَالَ: غَفَرَ لِي بِجرَتي إِلَى بنيه صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مُغَطّيا يَدَيْكَ؟ قَالَ قِيلَ لِي: لَنْ نُصْلِحَ مِنْكَ مَا أَفْسَدْتَ. فَقَصّهَا الطّفَيْلُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللّهُمّ وَلِيَدَيْهِ فَاغْفِرْ".
فيه حديث جابر رضي الله عنه: (أن الطفيل بن عمرو الدوسي هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وهاجر معه رجل من قومه، فاجتووا المدينة فمرض فجزع فأخذ مشاقص فقطع بها براجمه فشخبت يداه حتى مات، فرآه الطفيل في منامه وهيئته حسنة ورآه مغطيا يديه فقال له: ما صنع بك ربك؟ فقال: غفر لي بهجرتي إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: ما لي أراك مغطيا يديك؟ قال: قيل لي: لن نصلح منك ما أفسدت، فقصها الطفيل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم وليديه فاغفر) قوله: فاجتووا المدينة هو بضم الواو الثانية ضمير جمع، وهو ضمير يعود على الطفيل والرجل المذكور ومن يتعلق بهما، ومعناه كرهوا المقام بها لضجر ونوع من سقم. قال أبو عبيد والجوهري وغيرهما: اجتويت البلد إذا كرهت المقام به. وإن كنت في نعمة، قال الخطابي: وأصله من الجوى وهو داء يصيب الجوف. وقوله: فأخذ مشاقص هي بفتح الميم وبالشين المعجمة وبالقاف والصاد المهملة، وهي جمع مشقص بكسر الميم وفتح القاف، قال الخليل وابن فارس وغيرهما: هو سهم فيه نصل عريض، وقال آخرون: سهم طويل ليس بالعريض. وقال الجوهري: المشقص ما طال وعرض، وهذا هو الظاهر هنا لقوله: قطع بها براجمه، ولا يحصل ذلك إلا بالعريض. وأما البراجم بفتح الباء الموحدة وبالجيم فهي مفاصل الأصابع واحدتها برجمة. وقوله: فشخبت يداه هو بفتح الشين والخاء المعجمتين أي سال دمهما، وقيل: سال بقوة. وقوله: هل لك في حصن حصين ومنعة؟ هي بفتح الميم وبفتح النون وإسكانها لغتان ذكرهما ابن السكيت والجوهري وغيرهما الفتح أفصح وهي العز والامتناع ممن يريده، وقيل: المنعة جمع مانع كظالم وظلمة أي جماعة يمنعونك ممن يقصدك بمكروه. أما أحكام الحديث ففيه حجة لقاعدة عظيمة لأهل السنة أن من قتل نفسه أو ارتكب معصية غيرها ومات من غير توبة فليس بكافر ولا يقطع له بالنار بل هو في حكم المشيئة، وقد تقدم بيان القاعدة وتقريرها، وهذا الحديث شرح للأحاديث التي قبله الموهم ظاهرها تخليد قاتل النفس وغيره من أصحاب الكبائر في النار، وفيه إثبات عقوبة بعض أصحاب المعاصي، فإن هذا عوقب في يديه ففيه رد على المرجئة القائلين بأن المعاصي لا تضر، والله أعلم.
*2* باب في الريح التي تكون قرب القيامة تقبض من في قلبه شيء من الإِيمان
*حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحمّد، وَ أَبُو عَلْقَمَةَ الْفَرْوِيّ. قَالاَ: حَدّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ، عَنْ عُبَيْدُ اللّهِ بْنِ سَلْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الله يَبْعَثُ رِيحا مِنَ الْيَمَنِ، أَلْيَنَ مِنَ الْحَرِيرِ، فَلاَ تَدَعُ أَحَدا فِي قَلْبِهِ (قَالَ أَبُو عَلْقَمَةَ: مِثْقَالُ حَبّةٍ. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: مِثْقَالُ ذَرّةٍ) مِنْ إِيمَانٍ إِلاّ قَبَضتهُ".
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يبعث ريحا من اليمن ألين من الحرير، فلا تدع أحدا في قلبه مثقال حبة من إيمان إلا قبضته) أما إسناده ففيه أحمد بن عبدة بإسكان الباء، وأبو علقمة الفروي بفتح الفاء وإسكان الراء واسمه عبد الله بن محمد بن عبد الله بن أبي فروة المدني مولى آل عثمان بن عفان رضي الله عنه. وأما معنى الحديث فقد جاءت في هذا النوع أحاديث، منها: "لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله". ومنها: "لا تقوم على أحد يقول الله الله". ومنها: "لا تقوم إلا على شرار الخلق" وهذه كلها وما في معناها على ظاهرها. وأما الحديث الاَخر: "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة" فليس مخالفا لهذه الأحاديث، لأن معنى هذا أنهم لا يزالون على الحق حتى تقبضهم هذه الريح اللينة قرب القيامة وعند تظاهر أشراطها، فأطلق في هذا الحديث بقاءهم إلى قيام الساعة على أشراطها ودنوها المتناهي في القرب، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "مثقال حبة"، أو: "مثقال ذرة من إيمان" ففيه بيان للمذهب الصحيح أن الإيمان يزيد وينقص. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ريحا ألين من الحرير" ففيه والله أعلم إشارة إلى الرفق بهم والإكرام لهم والله أعلم. وجاء في هذا الحديث: "يبعث الله تعالى ريحا من اليمن" وفي حديث آخر ذكره مسلم في آخر الكتاب عقب أحاديث الدجال: "ريحا من قبل الشام" ويجاب عن هذا بوجهين، أحدهما: يحتمل أنهما ريحان شامية ويمانية، ويحتمل أن مبدأها من أحد الإقليمين ثم تصل الاَخر وتنتشر عنده، والله أعلم.
*2* باب الحث على المبادرة بالأعمال قبل تظاهر الفتن
*حدّثني يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ حُجْرٍ. جَمِيعا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ. قَالَ ابْنُ أَيّوبَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ. قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَلاَءُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنا كَقِطَعِ اللّيْلِ الْمُظْلِمِ. يُصْبِحُ الرّجُلُ فِيْهَا مُؤْمِنا وَيُمْسِي كَافِرا. أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنا وَيُصْبِحُ كَافِرا. يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدّنْيَا".
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا يبيع دينه بعرض من الدنيا) معنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر، ووصف صلى الله عليه وسلم نوعا من شدائد تلك الفتن وهو أنه يمسي مؤمنا ثم يصبح كافرا أو عكسه، شك الراوي وهذا لعظم الفتن ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب، والله أعلم.
*2* باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسىَ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّهُ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ، {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ} (الحجرات آية: 2) إِلَى آخِرِ الاَيَةِ. جَلَسَ ثَابتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النّارِ. وَاحْتَبَسَ ثَابتُ بْنُ قَيْسٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ: "يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثَابِتٍ؟ أَشْتَكَىَ؟" قَالَ سَعْدٌ: إِنّهُ لَجَارِي. وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى. قَالَ فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتا عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النّارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ".
وحدّثنا قَطَنُ بْنُ نُسَيْرٍ: حَدّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سَلَيْمَانَ: حَدّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ خَطِيبَ الأَنْصَارِ، فَلَمّا نَزَلت هَذِهِ الاَيَةُ. بِنَحْوِ حَدِيثِ حَمّادٍ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِ ذْكْرُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ.
وحدّثنيهِ أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ بْنِ صَخْرٍ الدّارِمِيّ. حَدّثَنَا حَبّانُ: حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيْرةِ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ {لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُم فَوْقَ صَوْتِ النّبِيّ} (الحجرات الاَية: 2) وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فِي الْحَدِيثِ.
وحدّثنا هُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ الأَسَدِيّ: حَدّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَذْكُرُ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ. وَاقْتَصّ الْحَدِيثَ. وَلَمْ يَذْكُرْ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ. وَزَادَ: فَكُنّا نَرَاهُ يَمْشِي بَيْنَ أَظْهُرِنَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ..
فيه قصة ثابت بن قيس بن الشماس رضي الله عنه وخوفه حين نزلت: {لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} الاَية، وكان ثابت رضي الله عنه جهير الصوت، وكان يرفع صوته، وكان خطيب الأنصار ولذلك اشتد حذره أكثر من غيره. وفي هذا الحديث منقبة عظيمة لثابت بن قيس رضي الله عنه وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من أهل الجنة، وفيه أنه ينبغي للعالم وكبير القوم أن يتفقد أصحابه ويسأل عمن غاب منهم.
وقول مسلم رحمه الله: (حدثنا قطن بن نسير قال: حدثنا جعفر بن سليمان، حدثنا ثابت عن أنس) فيه لطيفة وهو أنه إسناد كله بصريون، وقطن بفتح القاف والطاء المهملة وبالنون، ونسير بنون مضمومة ثم سين مهملة مفتوحة ثم مثناة من تحت ساكنة ثم راء، وقد قدمنا أنه ليس في الصحيحين نسير غيره، وقد قدمنا في الفصول المذكورة في مقدمة هذا الشرح إنكار من أنكر على مسلم روايته عنه وجوابه. وفي الإسناد الاَخر حبان هو بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة وهو ابن هلال، وكل هذا الإسناد أيضا بصريون إلا أحمد بن سعيد الدارمي في أوله فإنه نيسابوري.
وقول مسلم: (حدثنا هريم بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر بن سليمان قال: سمعت أبي يذكر عن ثابت عن أنس) هذا الإسناد أيضا كله بصريون حقيقة، وهريم بضم الهاء وفتح الراء وإسكان الياء. وقوله: (فكنا نراه يمشي بين أظهرنا رجلاً من أهل الجنة) هكذا هو في بعض الأصول رجلاً، وفي بعضها رجل وهو الأكثر، وكلاهما صحيح، الأول على البدل من الهاء في نراه، والثاني على الاستئناف.
*2* باب هل يؤاخذ بأعمال الجاهلية؟
*حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَالَ أُنَاسٌ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيّةِ؟ قَالَ: "أَمّا مَنْ أَحْسَنَ مِنْكُمْ فِي الإِسْلاَمِ فَلاَ يُؤَاخَذُ بِهَا. وَمَنْ أَسَاءَ أُخِذَ بِعَمَلِهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَالإِسْلاَمِ".
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي وَوَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَاللّفْظُ لَهُ . حَدّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ الله قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَنُؤَاخَذُ بِمَا عَمِلْنَا فِي الْجَاهِلِيّةِ؟ قَالَ: "مَنْ أَحْسَنَ فِي الإِسْلاَمِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِمَا عَمِلَ فِي الْجَاهِلِيّةِ. وَمَنْ أَسَاءَ فِي الإِسْلاَمِ أُخِذَ بِالأَوّلِ وَالاَخِرِ".
حدّثنا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التّمِيمِيّ. أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ.
قال مسلم: (حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن عبد الله قال: قال أناس: يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ قال: أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها، ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام). قال مسلم: (حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير قال: حدثنا أبي ووكيع قال: وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة واللفظ له قال: حدثنا وكيع عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله رضي الله عنه قال قلنا: يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية؟ فذكره). قال مسلم: (حدثنا منجاب، أخبرنا ابن مسهر عن الأعمش بهذا الإسناد) هذه الأسانيد الثلاثة كلهم كوفيون، وهذا من أطراف النفائس لكونها أسانيد متلاصقة مسلسلة بالكوفيين، وعبد الله هو ابن مسعود، ومنجاب بكسر الميم، وأما معنى الحديث فالصحيح فيه ما قاله جماعة من المحققين أن المراد بالإحسان هنا الدخول في الإسلام بالظاهر والباطن جميعا، وأن يكون مسلما حقيقيا، فهذا يغفر له ما سلف في الكفر بنص القرآن والحديث الصحيح: "الإسلام يهدم ما قبله" وبإجماع المسلمين، والمراد بالإساءة عدم الدخول في الإسلام بقلبه، بل يكون منقادا في الظاهر مظهرا للشهادتين غير معتقد للإسلام بقلبه فهذا منافق باق على كفره بإجماع المسلمين، فيؤاخذ بما عمل في الجاهلية قبل إظهار صورة الإسلام وبما عمل بعد إظهارها لأنه مستمر على كفره، وهذا معروف في استعمال الشرع، يقولون: حسن إسلام فلان إذا دخل فيه حقيقة بإخلاص، وساء إسلامه أو لم يحسن إسلامه إذا لم يكن كذلك، والله أعلم.
*2* باب كون الإِسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى الْعَنَزِيّ وَ أَبُو مَعْنٍ الرّقَاشِيّ وَ إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ. كُلُهّمْ عَنْ أَبِي عَاصِمٍ. وَاللّفْظُ لاِبْنه الْمُثَنّى. حَدّثَنَا الضّحّاكُ (يَعْنِي أَبَا عَاصِمٍ) قَالَ: أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ بْنُ شُرْيْحٍ. قَالَ: حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيب، عَنِ ابْنِ شُمَاسَةَ الْمَهْرِيّ قَالَ: حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ وهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ . فَبَكَىَ طَوِيلاً وَحَوّلَ وَجْهَهُ إِلَى الْجِدَارِ. فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ: يَا أَبَتَاهُ! أَمَا بَشّرَكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ أَمَا بَشّرَكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَذَا؟ قَالَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ فَقَالَ: إِنّ أَفْضَلَ مَا نُعِدّهُ شَهَادَةُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَأَنّ مُحَمّدا رَسُولُ اللّهِ. إِنّي قَدْ كُنْتُ عَلَى أَطْبَاقٍ ثَلاَثٍ. لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَمَا أَحَدٌ أَشَدّ بُغْضا لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنّي. وَلاَ أَحَبّ إِلَيّ أَنْ أَكُونَ قَدِ اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَقَتَلْتُهُ. فَلَوْ مُتّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَكُنْتُ مِنْ أَهْلِ النّارِ. فَلَمّا جَعَلَ الله الإِسْلاَمَ فِي قَلْبِي أَتَيْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: ابْسُطْ يَمِينَكَ فَلأُبَايِعْكَ. فَبَسَطَ يَمِينَهُ. قَالَ فَقَبَضْتُ يَدِي. قَالَ: "مَا لَكَ يَا عَمْرُو؟" قَالَ قُلْتُ: أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَرِطَ. قَالَ: "تَشْتَرِطُ بِمَاذَا؟" قُلْتُ: أَنْ يُغْفَرَ لِي. قَالَ: "أَمَا عَلِمْتَ أَنّ الإِسْلاَمَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ؟ وَأَنّ الْهِجْرَةَ تَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهَا؟ وَأَنّ الْحَجّ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ"؟ وَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبّ إِلَيّ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ أَجَلّ فِي عَيْنِي مِنْهُ. وَمَا كُنْتُ أُطِيقُ أَنْ أَملأَ عَيْنَيّ مِنْهُ إِجْلالاً لَهُ. وَلَوْ سُئِلْتُ أَنْ أَصِفَهُ مَا أَطَقْتُ، لأَنّي لَمْ أَكُنْ أَمْلأُ عَيْنَيّ مِنْهُ. وَلَوْ مُتّ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ لَرَجَوْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنّةِ. ثُمّ وَلِينَا أشياء مَا أَدْرِي مَا حَالِي فِيهَا، فَإِذَا أَنَا مُتّ، فَلاَ تَصْحَبْنِي نَائِحَةٌ وَلاَ نَارٌ فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنّوا عَلَيّ التّرَابَ شَنّا. ثُمّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا حَتّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبّي.
حدّثني مُحمّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ، وَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ دِيْنَارٍ (وَاللْفْظُ لإِبْرَاهِيمَ. قَالاَ: حَدّثَنَا حَجّاجٌ (وَهُوَ ابْنُ مُحمّدٍ) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَعْلَى بْنُ مُسْلِمٍ أَنّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدّثُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أَنّ نَاسا مِنْ أَهْلِ الشّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا. وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا. ثُمّ أَتَوْا مُحَمّدا صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا: إِنّ الّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو لَحَسَنٌ. وَلَوْ تُخْبِرُنَا أَنّ لِمَا عَمِلْنَا كَفّارَةً فَنَزَلَ: {وَالّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النّفْسَ الّتِي حَرّمَ الله إِلاّ بِالْحَقّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاما} (الفرقان آية: ) وَنَزَلَ: {يَا عِبَادِيَ الّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله} (الزمر آية: ).
فيه حديث عمرو بن العاصي رضي الله عنه وقصة وفاته، وفيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما في سبب نزول قول الله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر}. وقوله تعالى: {يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم}. فأما حديث عمرو فنتكلم في إسناده ومتنه ثم نعود إلى حديث ابن عباس رضي الله عنهما. أما إسناده ففيه محمد بن مثنى العنزي بفتح العين والنون، وأبو معن الرقاشي بفتح الراء وتخفيف القاف اسمه زيد بن يزيد، وأبو عاصم هو النبيل واسمه الضحاك بن مخلد، وابن شماسة المهري وشماسة بالشين المعجمة في أوله بفتحها وضمها ذكرهما صاحب المطالع، والميم مخففة وآخره سين مهلمة ثم هاء واسمه عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب أبو عمرو، وقيل أبو عبد الله، والمهري بفتح الميم وإسكان الهاء وبالراء. وأما ألفاظ متنه فقوله: (في سياقة الموت) هو بكسر السين أي حال حضور الموت. وقوله: (أفضل ما نعد) هو بضم النون. وقوله: (كنت على أطباق ثلاث) أي على أحوال، قال الله تعالى: {لتركبن طبقا عن طبق} فلهذا أنث ثلاثا إرادة لمعنى أطباق. قوله صلى الله عليه وسلم: (تشترط بماذا) هكذا ضبطناه بما بإثبات الباء، فيجوز أن تكون زائدة للتوكيد كما في نظائرها، ويجوز أن تكون دخلت على معنى تشترط وهو تحتاط أي تحتاط بماذا. وقوله صلى الله عليه وسلم: (الإسلام يهدم ما كان قبله) أي يسقطه ويمحو أثره. قوله: (وما كنت أطيق أن أملأ عيني) هو بتشديد الياء من عيني على التثنية. قوله: (فإذا دفنتموني فسنوا علي التراب سنا) ضبطناه بالسين المهملة وبالمعجمة، وكذا قال القاضي أنه بالمعجمة والمهملة، قال: وهو الصب، وقيل بالمهملة الصب في سهولة وبالمعجمة التفريق. وقوله: (قدر ما ينحر جزور) هي بفتح الجيم وهي من الإبل. أما أحكامه ففيه عظم موقع الإسلام والهجرة والحج، وأن كل واحد منها يهدم ما كان قبله من المعاصي، وفيه استحباب تنبيه المحتضر على إحسان ظنه بالله سبحانه وتعالى، وذكر آيات الرجاء، وأحاديث العفو عنده، وتبشيره بما أعده الله تعالى للمسلمين، وذكر حسن أعماله عنده ليحسن ظنه بالله تعالى ويموت عليه، وهذا الأدب مستحب بالاتفاق، وموضع الدلالة له من هذا الحديث قول ابن عمرو لأبيه: أما بشرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا، وفيه ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من توقير رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلاله. وفي قوله "فلا تصحبني نائحة ولا نار" امتثال لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وقد كره العلماء ذلك، فأما النياحة فحرام. وأما اتباع الميت بالنار فمكروه للحديث، ثم قيل: سبب الكراهة كونه من شعار الجاهلية. وقال ابن حبيب المالكي: كره تفاؤلاً بالنار. وفي قوله: "فشنوا علي التراب" استحباب صب التراب في القبر وأنه لا يقعد على القبر، بخلاف ما يعمل في بعض البلاد. وقوله: "ثم أقيموا حول قبري قدر ما ينحر جزور ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي". فيه فوائد منها إثبات فتنة القبر وسؤال الملكين وهو مذهب أهل الحق. ومنها استحباب المكث عند القبر بعد الدفن لحظة نحو ما ذكر لما ذكر، وفيه أن الميت يسمع حينئذ من حول القبر، وقد يستدل به لجواز قسمة اللحم المشترك ونحوه من الأشياء الرطبة كالعنب، وفي هذا خلاف لأصحابنا معروف، قالوا: إن قلنا بأحد القولين أن القسمة تمييز حق ليست ببيع جاز، وإن قلنا بيع فوجهان: أصحهما لا يجوز للجهل بتماثله في حال الكمال فيؤدي إلى الربا. والثاني يجوز لتساويهما في الحال، فإذا قلنا: لا يجوز فطريقها أن يجعل اللحم وشبهه قسمين، ثم يبيع أحدهما صاحبه نصيبه من أحد القسمين بدرهم مثلاً، ثم يبيع الاَخر نصيبه من القسم الاَخر لصاحبه بذلك الدرهم الذي له عليه، فيحصل لكل واحد منهما قسم بكماله، ولها طرق غير هذا لا حاجة إلى الإطالة بها هنا، والله أعلم.
وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما فمراد مسلم رحمه الله منه أن القرآن العزيز جاء بما جاءت به السنة من كون الإسلام يهدم ما قبله. وقوله فيه (ولو تخبرنا بأن لما عملنا كفارة فنزل: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} الاَية) فيه محذوف وهو جواب لو، أي لو تخبرنا لأسلمنا، وحذفها كثير في القرآن العزيز وكلام العرب كقوله تعالى: {ولو ترى إذ الظالمون} وأشباهه. وأمّا قوله تعالى: {يلق أثاما} فقيل معناه عقوبة، وقيل: هو واد في جهنم، وقيل: بئر فيها، وقيل: جزاء إثمه.
*2* باب بيان حكم عمل الكافر إِذا أَسلم بعده
*حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابن شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ أَنّ حَكِيمَ بْنَ حِزامٍ أَخْبَرَهُ أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أَرَأَيْتَ أُمُورا كُنْتُ أَتَحَنّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ، هَلْ لِي فِيهَا مِنْ شَيْءٍ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ".
وَالتّحَنّثُ التّعَبّدُ.
وحدّثنا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيّ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (قَالَ الْحُلْوَانِيّ: حَدّثَنَا. وَقَالَ عَبْدٌ: حَدّثَنِي يَعْقُوبُ وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) حَدّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ، أَنّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَخْبَرَهُ، أَنّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أَيْ رَسُولَ اللّهِ أَرَأَيْتَ أُمُورا كُنْتُ أَتَحَنّثُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ. مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ عَتَاقَةٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ. أَفِيهَا أَجْرٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ مِنْ خَيْرٍ".
حدّثنا إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ و عبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزّهْرِيّ، بِهَذَا الاْسْنَادِ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَشْيَاءَ كُنْتُ أَفْعَلُهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ. (قَالَ هِشَامٌ: يَعْنِي أَتَبَرّرُ بِهَا) فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسْلَمْتَ عَلَى مَا أَسْلَفْتَ لَكَ مِنَ الْخَيْرِ" قُلْتُ: فَوَالله! لاَ أَدَعُ شَيْئا صَنَعْتُهُ فِي الْجَاهِلِيّةِ إِلاّ فَعَلْتُ فِي الإِسْلاَمِ مِثْلَهُ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ أَعْتَقَ فِي الْجَاهِلِيّةِ مِائة رَقَبَةٍ. وَحَمَلَ عَلَى مِائَة بَعِيرٍ. ثُمّ أَعْتَقَ فِي الإِسْلاَمِ مِائَةَ رَقَبَةٍ. وَحَمَلَ عَلَى مِائَةِ بَعِيرٍ. ثُمّ أَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ.
فيه حديث حكيم بن حزام رضي لله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيت أمورا كنت أتحنث بها في الجاهلية هل لي فيها من شيء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلمت على ما أسلفت من خير) أما التحنث فهو التعبد كما فسره في الحديث. وفسره في الرواية الأخرى بالتبرر وهو فعل البر وهو الطاعة، قال أهل اللغة: أصل التحنث أن يفعل فعلاً يخرج به من الحنث وهو الإثم، وكذا تأثم وتحرج وتهجد، أي فعل فعلاً يخرج به عن الإثم والحرج والهجود. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أسلمت على ما أسلفت من خير" فاختلف في معناه فقال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله: ظاهره خلاف ما تقتضيه الأصول لأن الكافر لا يصح منه التقرب فلا يثاب على طاعته، ويصح أن يكون مطيعا غير متقرب كنظيره في الإيمان، فإنه مطيع فيه من حيث كان موافقا للأمر والطاعة عندنا موافقة الأمر ولكنه لا يكون متقربا، لأن من شرط المتقرب أن يكون عارفا بالمتقرب إليه، وهو في حين نظره لم يحصل له العلم بالله تعالى بعد، فإذا تقرر هذا علم أن الحديث متأول وهو يحتمل وجوها، أحدها: أن يكون معناه اكتسبت طباعا جميلة، وأنت تنتفع بتلك الطباع في الإسلام، وتكون تلك العادة تمهيدا لك ومعونة على فعل الخير والثاني: معناه اكتسبت بذلك ثناء جميلاً فهو باق عليها في الإسلام. والثالث: أنه لا يبعد أن يزاد في حسناته التي يفعلها في الإسلام ويكثر أجره لما تقدم له من الأفعال الجميلة، وقد قالوا في الكافر إذا كان يفعل الخير فإنه يخفف عنه به، فلا يبعد أن يزاد هذا في الأجور، هذا آخر كلام المازري رحمه الله. قال القاضي عياض رحمه الله: وقيل معناه ببركة ما سبق لك من خير هداك الله تعالى إلى الإسلام، وأن من ظهر منه خير في أول أمره فهو دليل على سعادة آخره وحسن عاقبته، هذا كلام القاضي: وذهب ابن بطال وغيره من المحققين إلى أن الحديث على ظاهره، وأنه إذا أسلم ومات على الإسلام يثاب على ما فعله من الخير في حال الكفر، واستدلوا بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أسلم الكافر فحسن إسلامه كتب الله تعالى له كل حسنة زلفها، ومحا عنه كل سيئة زلفها، وكان عمله بعد الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله سبحانه وتعالى" ذكره الدارقطني في غريب حديث مالك، ورواه عنه من تسع طرق، وثبت فيها كلها أن الكافر إذا حسن إسلامه يكتب له في الإسلام كل حسنة عملها في الشرك. قال ابن بطال رحمه الله تعالى بعد ذكره الحديث: ولله تعالى أن يتفضل على عباده بما يشاء لا اعتراض لأحد عليه، قال: وهو كقوله صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام رضي الله عنه: "أسلمت على ما أسلفت من خير" والله أعلم. وأما قول الفقهاء: لا يصح من الكافر عبادة ولو أسلم لم يعتد بها، فمرادهم أنه لا يعتد له بها في أحكام الدنيا، وليس فيه تعرض لثواب الاَخرة، فإن أقدم قائل على التصريح بأنه إذا أسلم لا يثاب عليها في الاَخرة، رد قوله بهذه السنة الصحيحة، وقد يعتد ببعض أفعال الكفار في أحكام الدنيا، فقد قال الفقهاء: إذا وجب على الكافر كفارة ظهار أو غيرها فكفر في حال كفره أجزأه ذلك، وإذا أسلم لم تجب عليه إعادتها، واختلف أصحاب الشافعي رحمه الله فيما إذا أجنب واغتسل في حال كفره ثم أسلم هل تجب عليه إعادة الغسل أم لا؟ وبالغ بعض أصحابنا فقال: يصح من كل كافر كل طهارة من غسل ووضوء وتيمم، وإذا أسلم صلى بها، والله أعلم. وأما ما يتعلق بلفظ الباب فقوله: (أعتق مائة رقبة وحمل على مائة بعير) معناه تصدق بها، وفيه صالح عن ابن شهاب عن عروة، وهؤلاء ثلاثة تابعيون روى بعضهم عن بعض، وقد قدمنا أمثال ذلك، وفيه حكيم بن حزام الصحابي رضي الله عنه، ومن مناقبه أنه ولد في الكعبة قال بعض العلماء: ولا يعرف أحد شاركه في هذا، قال العلماء: ومن طرف أخباره أنه عاش ستين سنة في الجاهلية وستين في الإسلام، وأسلم عام الفتح، ومات بالمدينة سنة أربع وخمسين، فيكون المراد بالإسلام من حين ظهوره وانتشاره، والله أعلم.
*2* باب صدق الإِيمان وإِخلاصه
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ إِدْرِيسَ وَ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَ وَكِيعٌ. عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ: {الّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} (الأنعام آية: ) شَقّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالُوا: أَيّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنّونَ. إِنّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لإِبْنِهِ: {يَا بُنَيّ لاَ تُشْرِكْ بِالله إِنّ الشّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان آية: ).
حدّثنا إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ عَلِيّ بْنُ خَشْرَمٍ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا عِيْسَىَ (وَهُوَ ابْنُ يُوْنُسَ) ح وَحَدّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التّمِيمِيّ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرْيْبٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، كُلُهّمْ عَنْ الأَعْمَشِ بِهَذَا الاْسْنَادِ قَالَ: أَبُو كُرَيْبٍ: قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: حَدّثَنِيهِ أَوّلاً أَبِي، عَنْ أَبَان بْنِ تَغْلِبَ، عَنِ الأَعْمَشِ، ثُمّ سَمِعْتُهُ مِنْهُ.
فيه قول عبد الله بن مسعود رضي لله عنه: (لما نزلت: {الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: أينا لا يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس هو كما تظنون إنما هو كما قال لقمان لابنه: يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم) هكذا وقع الحديث هنا في صحيح مسلم، ووقع في صحيح البخاري: لما نزلت الاَية قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أينا لم يظلم نفسه؟ فأنزل الله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} فهاتان الروايتان إحداهما تبين الأخرى، فيكون لما شق عليهم أنزل الله تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن الظلم المطلق هناك المراد به هذا المقيد وهو الشرك، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: ليس الظلم على إطلاقه وعمومه كما ظننتم إنما هو الشرك كما قال لقمان لابنه، فالصحابة رضي الله عنهم حملوا الظلم على عمومه، والمتبادر إلى الافهام منه، وهو وضع الشيء في غير موضعه وهو مخالفة الشرع فشق عليهم إلى أن أعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم بالمراد بهذا الظلم. قال الخطابي: إنما شق عليهم لأن ظاهر الظلم الافتيات بحقوق الناس، وما ظلموا به أنفسهم من ارتكاب المعاصي، فظنوا أن المراد معناه الظاهر، وأصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه، ومن جعل العبادة لغير الله تعالى فهو أظلم الظالمين. وفي هذا الحديث جمل من العلم منها: أن المعاصي لا تكون كفرا والله أعلم. وأما ما يتعلق بالإسناد فقول مسلم رحمه الله: (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا عبد الله بن إدريس وأبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله) هذا إسناد رجاله كوفيون كلهم وحفاظ متقنون في نهاية الجلالة، وفيهم ثلاثة أئمة جلة فقهاء تابعيون بعضهم عن بعض: سليمان الأعمش وإبراهيم النخعي، وعلقمة بن قيس، وقل اجتماع مثل هذا الذي اجتمع في هذا الإسناد والله أعلم
وفيه علي بن خشرم بفتح الخاء وإسكان الشين المعجمتين وفتح الراء، وقد تقدم بيانه في المقدمة. وفيه منجاب بكسر الميم وإسكان النون وبالجيم وآخره باء موحدة. وفيه: (قال ابن إدريس: حدثنيه أولاً أبي عن أبان بن تغلب عن الأعمش ثم سمعته منه) هذا تنبيه منه على علو إسناده هنا فإنه نقص عنه رجلان وسمعه من الأعمش وقد تقدم مثل هذا في باب الدين النصيحة، وتقدم الخلاف في صرف أبان في مقدمة الكتاب، وأن المختار عند المحققين صرفه، وتغلب بكسر اللام غير مصروف، وفيه لقمان الحكيم. واختلف العلماء في نبوته قال الإمام أبو إسحاق الثعلبي: اتفق العلماء على أنه كان حكيما ولم يكن نبيا إلا عكرمة فإنه قال: كان نبيا وتفرد بهذا القول. وأما ابن لقمان الذي قال له: لا تشرك بالله فقيل اسمه أنعم ويقال مشكم، والله أعلم
*2* باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إِلا ما يطاق
*حدّثني مُحمّدُ بْنُ مِنْهَالٍ الضّرِيرُ، وَ أُميّةُ بْنُ بِسْطَامَ الْعَيْشِيّ، (وَاللّفْظُ لأُمَيّةَ) قَالاَ حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: حَدّثَنَا رَوْحٌ (وَهُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ) عَنِ الْعَلاَءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: {لله مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذّبُ مَنْ يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (البقرة آية: 4) قَالَ فَاشْتَدّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَوْا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمّ بَرَكُوا عَلَى الرّكَبِ. فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللّهِ! كُلّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ. الصّلاَةُ وَالصّيَامُ وَالْجِهَادُ وَالصّدَقَةُ. وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هذِهِ الاَيَةُ. وَلاَ نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ" قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فَلَمّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ ذَلّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ. فَأَنْزَلَ الله فِي إِثْرِهَا: {آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلّ آمَنَ بِالله وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} (البقرة آية: 8) فَلَمّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا الله تَعَالَى، فَأَنْزَلَ الله عَزّ وَجَلّ: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسا إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (قَالَ: نَعَمْ) {رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (قَالَ: نَعَمْ) {رَبّنَا وَلاَ تُحَمّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} (قَالَ: نَعَمْ) {وَاعْفُ عَنّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (قَالَ: نَعَمْ) (البقرة آية: 6).
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ، وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. وَاللْفْظُ لاَِبِي بَكْرٍ. (قَالَ: إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ: الاَخَرَانِ حَدّثَنَا) وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ آدَمَ بْنِ سُلَيْمَانَ، مَوْلَىَ خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدّثُ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ هذِهِ الاَيَةُ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} (البقرة آية: 4) قَالَ، دَخَلَ قُلُوبَهُمْ مِنْهَا شَيْءٌ لَمْ يَدْخُلْ قُلُوبَهُمْ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَسَلّمْنَا" قَالَ، فَأَلْقَى الله الإِيمَانَ فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ الله تَعَالَى: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْسا إِلاّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ) {رَبّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} (قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ) {وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا} (قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ) (البقرة آية: 6).
أما أسانيد الباب ولغاته ففيه أمية بن بسطام العيشي، فبسطام بكسر الباء على المشهور، وحكى صاحب المطالع أيضا فتحها، والعيشي بالشين المعجمة، وقد قدمت ضبط هذا كله مع بيان الخلاف في صرف بسطام وفيه قوله: (عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لله ما في السموات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير} قال: فاشتد ذلك) إنما أعاد لفظة قال لطول الكلام، فإن أصل الكلام لما نزلت اشتد فلما طال حسن إعادة لفظة، قال. وقد تقدم مثل هذا في موضعين من هذا الكتاب وذكرت ذلك مبينا، وأنه جاء مثله في القرآن العزيز في قوله تعالى: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون} فأعاد أنكم وقوله: {ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم، إلى قوله: فلما جاءهم} والله أعلم. وفيه قوله تعالى: {لا نفرق بين أحد من رسله} لا نفرق بينهم في الإيمان فنؤمن ببعضهم ونكفر ببعض كما فعله أهل الكتابين بل نؤمن بجميعهم. وأحد في هذا الموضع بمعنى الجمع، ولهذا دخلت فيه بين ومثله قوله تعالى: {فما منكم من أحد عنه حاجزين}. وفيه قوله: (فأنزل الله تعالى في إثرها) هو بفتح الهمزة والثاء وبكسر الهمزة مع إسكان الثاء لغتان.
*2* باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب إذا لم تستقر
*حدّثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَ مُحمّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيّ (وَاللّفْظُ لِسَعِيدٍ) قَالُوا: حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَىَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ اللّهَ تَجَاوَزَ لاِمّتِي مَا حَدّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلّمُوا أَوْ يَعْمَلُوا بِهِ".
حدّثنا عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالاَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهَرٍ، وَ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ. كُلُهّمْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ تَجَاوَزَ لاِمّتِي عَمّا حَدّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَكَلّمْ بِهِ".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ. حَدّثَنَا مِسْعَرٌ وَ هِشَامٌ. ح وَحَدّثَنِي إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ. أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عَلِيَ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ شَيْبَانَ. جَمِيعا عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ.
وفيه محمد بن عبيد الغبري بضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة منسوب إلى بني غبر، وقد قدمنا بيانه في المقدمة وفيه أبو عوانة واسمه الوضاح بن عبد الله. وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها) ضبط العلماء أنفسها بالنصب والرفع وهما ظاهران لا أن النصب أظهر وأشهر، قال القاضي عياض: أنفسها بالنصب ويدل عليه قوله إن أحدنا يحدث نفسه، قال قال الطحاوي: وأهل اللغة يقولون أنفسها بالرفع يريدون بغير اختيارها كما قال الله تعالى: {ونعلم ما توسوس به نفسه} والله أعلم.
*2* باب إِذا همّ العبد بحسنة كتبت وإذا همّ بسيئة لم تكتب
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (وَاللّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ) (قَالَ إِسْحَقَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ. وَقَالَ: الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا) ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "قَالَ الله عَزّ وَجَلّ: إِذَا هَمّ عَبْدِي بِسَيّئَةٍ فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا سَيّئَةً، وَإِذَا هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً. فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا عَشْرا".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ حُجْرٍ قَالُوا: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلاَءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ الله عَزّ وَجَلّ: إِذَا هَمّ عَبْدِي بِحَسَنَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبْتُهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ وَإِذَا هَمّ بِسَيّئَةٍ وَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ أَكْتُبْهَا عَلَيْهِ. فَإِنْ عَمِلَهَا كَتَبْتُهَا سَيّئَةً وَاحِدَةً".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ الله عَزّ وَجَلّ: إِذَا تَحَدّثَ عَبْدِي بِأَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ حَسَنَةً مَا لَمْ يَعْمَلْ. فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا. وَإِذَا تَحَدّثَ بِأَنْ يَعْمَلَ سَيّئَةً فَأَنَا أَغْفِرُهَا لَهُ مَا لَمْ يَعْمَلْهَا. فَإِذَا عَمِلَهَا فَأَنَا أَكْتُبُهَا لَهُ بِمِثْلِهَا".
وَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ: رَبّ! ذَاكَ عَبْدُكَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ سَيّئَةً (وَهُوَ أَبْصَرُ بِهِ) فَقَالَ: ارْقُبُوهُ. فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِمِثْلِهَا. وَإِنْ تَرَكَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً. إِنّمَا تَرَكَهَا مِنْ جَرّايَ".
وَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إِسْلاَمَهُ فَكُلّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ. وَكلّ سَيّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتّى يَلْقَىَ الله".
وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ، عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "مَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً. وَمَنْ هِمّ بِحَسَنَةٍ فَعَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرا إِلَى سَبْعِمائَةِ ضِعْفٍ. وَمَنْ هَمّ بِسَيَئةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا، لَمْ تُكْتَبْ. وَإِنْ عَمِلَهَا، كُتِبَتْ".
حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ: حدّثنا عبْدُ الْوَارِثِ، عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ. حدّثنا أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ، قَالَ: "إِنّ الله كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسّيّئَاتِ. ثُمّ بَيّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً وَإِنْ هَمّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا الله عَزّ وَجَلّ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ. وَإِنْ هَمّ بِسَيّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا الله عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً... وَإِنْ هَمّ بِهَا فَعَمِلَهَا، كَتَبَهَا الله سَيّئَةً وَاحِدَةً".
وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: حَدّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ الْجَعْدِ أَبِي عُثْمَانَ فِي هَذَا الإِسْنَادِ بِمَعْنَى حَدِيثِ عَبْد الْوَارِثِ. وَزَادَ: "وَمَحَاهَا الله. وَلاَ يَهْلِكُ عَلَى الله إِلاّ هَالِكٌ".
وفيه أبو الزناد عن الأعرج. أما أبو الزناد فاسمه عبد الله بن ذكوان كنيته أبو عبد الرحمن. وأما أبو الزناد فلقب غلب عليه وكان يغضب منه. وأما الأعرج فعبد الرحمن بن هرمز، وهذان وإن كانا مشهورين وقد تقدم بيانهما إلا أنه قد تخفى أسماؤهما على بعض الناظرين في الكتاب.
وقوله سبحانه وتعالى: (إنما تركها من جراي) هو بفتح الجيم وتشديد الراء وبالمد والقصر لغتان معناه من أجلي. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب بعشر أمثالها، وكل سيئة يعملها تكتب بمثلها) معنى أحسن إسلامه أسلم إسلاما حقيقيا وليس كإسلام المنافقين، وقد تقدم بيان هذا.
وفيه أبو خالد الأحمر هو سليمان بن حيان بالمثناة تقدم بيانه.
وفيه شيبان بن فروخ بفتح الفاء وبالخاء المعجمة وهو غير مصروف لكونه عجميا علما وقد تقدم بيانه. وفيه أبو رجاء العطاردي اسمه عمران بن تيم، وقيل ابن ملحان، وقيل ابن عبد الله أدرك زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره، وأسلم عام الفتح وعاش مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وثمانيا وعشرين سنة، وقيل: مائة وثلاثين سنة. وأما فقه أحاديث الباب ومعانيها فكثيرة، وأنا أختصر مقاصدها إن شاء الله تعالى. فقوله لما نزلت: {لله ما في السموات وما في الأرض} {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم الله، فاشتد ذلك على الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: لا نطيقها. قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله: يحتمل أن يكون إشفاقهم وقولهم لا نطيقها لكونهم اعتقدوا أنهم يؤاخذون بما لا قدرة لهم على دفعه من الخواطر التي لا تكتسب، فلهذا رأوه من قبل ما لا يطاق، وعندنا أن تكليف ما لا يطاق جائز عقلاً، واختلف هل وقع التعبد به في الشريعة أم لا؟ والله أعلم. وأما قوله: فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} فقال المازري رحمه الله في تسمية هذا نسخا نظر، لأنه إنما يكون نسخا إذا تعذر البناء ولم يمكن رد إحدى الاَيتين إلى الأخرى. وقوله تعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} عموم يصح أن يشتمل على ما يملك من الخواطر دون ما لا يملك، فتكون الاَية الأخرى مخصصة، إلا أن يكون قد فهمت الصحابة بقرينة الحال أنه تقرر تعبدهم بما لا يملك من الخواطر فيكون حينئذ نسخا لأنه رفع ثابت مستقر، هذا كلام المازري. قال القاضي عياض: لا وجه لإبعاد النسخ في هذه القضية، فإن راويها قد روى فيها النسخ ونص عليه لفظا ومعنى بأمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بالإيمان والسمع والطاعة، لما أعلمهم الله تعالى من مؤاخذته إياهم، فلما فعلوا ذلك وألقى الله تعالى الإيمان في قلوبهم وذلت بالاستسلام لذلك ألسنتهم كما نص عليه في هذا الحديث رفع الحرج عنهم ونسخ هذا التكليف، وطريق علم النسخ إنما هو بالخبر عنه أو بالتاريخ وهما مجتمعان في هذه الاَية. قال القاضي: وقول المازري: إنما يكون نسخا إذا تعذر البناء كلام صحيح فيما لم يرد فيه النص بالنسخ، فإن ورد وقفنا عنده، لكن اختلف أصحاب الأصول في قول الصحابي رضي الله عنه نسخ كذا بكذا هل يكون حجة يثبت بها النسخ أم لا يثبت بمجرد قوله؟ وهو قول القاضي أبي بكر والمحققين منهم، لأنه قد يكون قوله هذا عن اجتهاده وتأويله، فلا يكون نسخا حتى ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد اختلف الناس في هذه الاَية، فأكثر المفسرين من الصحابة ومن بعدهم على ما تقدم فيها من النسخ، وأنكره بعض المتأخرين قال: لأنه خبر ولا يدخل النسخ الأخبار، وليس كما قال هذا المتأخر، فإنه وإن كان خبرا فهو خبر عن تكليف ومؤاخذة بما تكن النفوس والتعبد بما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بذلك وأن يقولوا سمعنا وأطعنا، وهذه أقوال وأعمال اللسان والقلب، ثم نسخ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة. وروي عن بعض المفسرين أن معنى النسخ هنا إزالة ما وقع في قلوبهم من الشدة والفرق من هذا الأمر، فأزيل عنهم بالاَية الأخرى واطمأنت نفوسهم، وهذا القائل يرى أنهم لم يلزموا ما لا يطيقون، لكن ما يشق عليهم من التحفظ من خواطر النفس وإخلاص الباطن فأشفقوا أن يكلفوا من ذلك ما لا يطيقون، فأزيل عنهم الإشفاق، وبين أنهم لم يكلفوا إلا وسعهم، وعلى هذا لا حجة فيه لجواز تكليف ما لا يطاق، إذ ليس فيه نص على تكليفه، واحتج بعضهم باستعاذتهم منه بقوله تعالى: {ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به} ولا يستعيذون إلا مما يجوز التكليف به. وأجاب عن ذلك بعضهم بأن معنى ذلك ما لا نطيقه إلا بمشقة، وذهب بعضهم إلى أن الاَية محكمة في إخفاء اليقين والشك للمؤمنين والكافرين، فيغفر للمؤمنين ويعذب الكافرين، هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله. وذكر الإمام الواحدي رحمه الله الاختلاف في نسخ الاَية ثم قال: والمحققون يختارون أن تكون الاَية محكمة غير منسوخة، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به). وفي الحديث الاَخر: (إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوا عليه، فإن عملها فاكتبوها سيئة، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإن عملها فاكتبوها عشرا). وفي الحديث الاَخر: (في الحسنة إلى سبعمائة ضعف).
وفي الاَخر: (في السيئة إنما تركها من جراي) فقال الإمام المازري رحمه الله مذهب القاضي أبي بكر بن الطيب: أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن نفسه عليها أثم في اعتقاده وعزمه، ويحمل ما وقع في هذه الأحاديث وأمثالها على أن ذلك فيمن لم يوطن نفسه على المعصية، وإنما مر ذلك بفكره من غير استقرار، ويسمى هذا هما، ويفرق بين الهم والعزم، هذا مذهب القاضي أبي بكر، وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين وأخذوا بظاهر الحديث، قال القاضي عياض رحمه الله: عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب لكنهم قالوا: إن هذا العزم يكتب سيئة وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها، وقطعه عنها قاطع غير خوف الله تعالى والإنابة، لكن نفس الإصرار والعزم معصية فتكتب معصية، فإذا عملها كتبت معصية ثانية، فإن تركها خشية الله تعالى كتبت حسنة كما في الحديث: "إنما تركها من جراي" فصار تركه لها لخوف الله تعالى ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة، فأما الهم الذي لا يكتب فهي الخواطر التي لا توطن النفس عليها، ولا يصحبها عقد ولا نية وعزم، وذكر بعض المتكلمين خلافا فيما إذا تركها لغير خوف الله تعالى بل لخوف الناس هل تكتب حسنة: قال: لا، لأنه إنما حمله على تركها الحياء، وهذا ضعيف لا وجه له، هذا آخر كلام القاضي، وهو ظاهر حسن لا مزيد عليه. وقد تظاهرت نصوص الشرع بالمؤاخذة بعزم القلب المستقر، ومن ذلك قوله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم} الاَية. وقوله تعالى: {اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم} والاَيات في هذا كثيرة، وقد تظاهرت نصوص الشرع وإجماع العلماء على تحريم الحسد واحتقار المسلمين وإرادة المكروه بهم، وغير ذلك من أعمال القلوب وعزمها، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ولن يهلك على الله إلا هالك) فقال القاضي عياض رحمه الله معناه: من حتم هلاكه وسدت عليه أبواب الهدى مع سعة رحمة الله تعالى وكرمه، وجعله السيئة حسنة إذا لم يعملها وإذا عملها واحدة، والحسنة إذا لم يعملها واحدة وإذا عملها عشرا إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، فمن حرم هذه السعة وفاته هذا الفضل وكثرت سيئاته حتى غلبت مع أنها أفراد حسناته مع أنها متضاعفة فهو الهالك المحروم، والله أعلم. قال الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله: في هذه الأحاديث دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب وعقدها خلافا لمن قال: إنها لا تكتب إلا الأعمال الظاهرة، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة" ففيه تصريح بالمذهب الصحيح المختار عند العلماء أن التضعيف لا يقف على سبعمائة ضعف، وحكى أبو الحسن أقضى القضاة الماوردي عن بعض العلماء أن التضعيف لا يتجاوز سبعمائة ضعف وهو غلط لهذا الحديث، والله أعلم. وفي أحاديث الباب بيان ما أكرم الله تعالى به هذه الأمة زادها الله شرفا وخففه عنهم مما كان على غيرهم من الإصر وهو الثقل والمشاق، وبيان ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من المسارعة إلى الانقياد لأحكام الشرع. قال أبو إسحاق الزجاج: هذا الدعاء الذي في قوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} إلى آخر السورة أخبر الله تعالى به عن النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وجعله في كتابه ليكون دعاء من يأتي بعد النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، فهو من الدعاء الذي ينبغي أن يحفظ ويدعى به كثيرا. قال الزجاج: وقوله تعالى: {فانصرنا على القوم الكافرين} أي أظهرنا عليهم في الحجة والحرب وإظهار الدين، وسيأتي في كتاب الصلاة من هذا الكتاب الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ الاَيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" قيل: كفتاه من قيام تلك الليلة، وقيل: كفتاه المكروه فيها، والله أعلم.
*2* باب بيان الوسوسة في الإِيمان وما يقوله من وجدها
*حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلُوهُ: إِنّا نَجِدُ فِي أَنْفُسِنَا مَا يَتَعَاظَمُ أَحَدُنَا أَنْ يَتَكَلّمَ بِهِ. قَالَ: "وَقَدْ وَجَدْتُمُوهُ؟" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "ذَاكَ صَرِيحُ الإِيمَانِ".
وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ بَشّارٍ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ، عَنْ شُعْبَةَ. ح وَحَدّثَنِي مُحمّدُ بْنُ عَمْرِو ابْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوّادٍ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ، قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو الْجَوّابِ، عَنْ عَمّارِ بْنِ رُزَيْقٍ. كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ.
حدّثنا يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ الصّفّارُ: حَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ عَثّامٍ، عَنْ سُعَيْرِ بْنِ الْخمْسِ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: سُئِلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْوَسْوَسَةِ. قَالَ: "تِلْكَ مَحْضُ الإِيمَانِ".
حدّثنا هَرُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ وَ مُحمّدُ بْنُ عَبّادٍ (وَاللّفْظُ لِهَرُونَ) قَالاَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزَالُ النّاسُ يَتَسَاءَلُونَ حَتّى يُقَالَ: هَذَا، خَلَقَ الله الْخَلْقَ، فَمَنْ خَلَقَ اللّهِ؟ فَمَنْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئا فَلْيَقُلْ: آمَنْتُ بِاللّهِ".
وحدّثنا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنُ: حَدّثَنَا أَبُو النّضْرِ: حَدّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْمُؤَدّبُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهَذَا الاْسْنَادِ. أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَأْتِي الشّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ السّمَاءَ؟ مَنْ خَلَقَ الأَرْضَ؟ فَيَقُولُ: الله" ثُمّ ذَكَرَ بِمِثْلِهِ. وَزَادَ "وَرُسُلِهِ".
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعَا عَنْ يَعْقُوبَ. قَالَ زُهَيْرُ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ، أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَأْتِي الشّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟ حَتّى يَقُولَ لَهُ: مَنْ خَلَقَ رَبّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَعِذْ بِالله وَلِيَنْتَهِ.
حدّثني عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللّيْثِ قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدّي. قَالَ: حَدّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ. قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "يَأْتِي الْعَبْدَ الشّيْطَانُ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا وَكَذَا؟" مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ.
حدّثني عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ عَبْدِ الصّمَدِ قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدّي، عَنْ أَيّوبَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَزَالُ النّاسُ يَسْأَلُونَكُمْ عَنِ الْعِلْمِ، حَتّى يَقُولُوا: هَذَا اللّهُ، خَلَقَنَا. فَمَنْ خَلَقَ اللّهَ؟".
قَالَ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ رَجُلٍ فَقَالَ: صَدَقَ الله وَرَسُولُهُ. قَدْ سَأَلَنِي اثْنَانِ وَهَذَا الثّالِثُ. أَوْ قَالَ: سَأَلَنِي وَاحِدٌ وَهَذَا الثّانِي.
وحدّثنيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَيَعْقُوبُ الدّوْرَقِيّ قَالاَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، وَهُوَ ابْنُ عُلَيّةَ، عَنْ أَيّوبَ، عَنْ مُحمّدٍ قَالَ: قَالَ أَبو هُرَيْرَةَ "لاَ يَزَالُ النّاسُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ عَبْدِ الْوَارِثِ، غَيْرَ أَنّهُ لَمْ يَذْكُرِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي الإِسْنَادِ. وَلَكِنْ قَدْ قَالَ فِي آخِرُ الْحَدِيثِ: صَدَقَ الله وَرَسُولُهُ.
وحدّثني عَبْدُ اللّهِ بْنُ الرّومِيّ: حَدّثَنَا النّضْرُ بْنُ مُحَمّدٍ: حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ، وَهُوَ ابْنُ عَمّارٍ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ. حَدّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَزَالُونَ يَسْأَلُونَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، حَتّى يَقُولُوا: هَذَا اللّهُ. فَمَنْ خَلَقَ اللّهَ؟" قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا فِي الْمَسْجِدِ إِذْ جَاءَنِي نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ. فَقَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! هَذَا اللّهُ. فَمَنْ خَلَقَ اللّهَ؟ قَالَ: فَأَخَذَ حَصىً بِكَفّهِ فَرَمَاهُمْ. ثُمّ قَالَ: قُومُوا قُومُوا. صَدَقَ خَلِيلي.
حدّثني مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ: حَدّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ: حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ الأَصَمّ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِيَسْأَلَنّكُمُ النّاسُ عَنْ كُلّ شَيْءٍ، حَتّى يَقُولُوا: اللّهُ خَلَقَ كُلّ شَيْءٍ. فَمَنْ خَلَقَهُ؟".
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَامِرِ بْنِ زُرَارَةَ الْحَضْرَمِيّ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ مُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ الله عَزّ وَجَلّ: إِنّ أُمّتَكَ لاَ يَزَالُونَ يَقُولُونَ: مَا كَذَا؟ مَا كَذَا؟ حَتّى يَقُولُوا: هَذَا اللّهُ خَلَقَ الْخَلْقَ. فَمَنْ خَلَقَ اللّهَ؟".
حدّثناه إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيَ، عَنْ زَائِدَةَ. كِلاَهُمَا عَنِ الْمُخْتَارِ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ. غَيْرَ أَنّ إِسْحَقَ لَمْ يَذْكُرْ "قَالَ قَالَ اللّهُ إِنّ أُمّتَكَ".
فيه أبو هريرة رضي الله عنه: (قال جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان).
وفي الرواية الأخرى: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة فقال: تلك محض الإيمان).
وفي الحديث الاَخر: (لا يزال الناس يتساءلون حتى يقال هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله فمن وجد من ذلك شيئا فليقل آمنت بالله). وفي الرواية الأخرى: (فليقل آمنت بالله ورسله). وفي الرواية الأخرى: (يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا وكذا، حتى يقول له من خلق ربك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته). أما معاني الأحاديث وفقهها فقوله صلى الله عليه وسلم: "ذلك صريح الإيمان ومحض الإيمان" معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلاً عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالاً محققا، وانتفت عنه الريبة والشكوك. واعلم أن الرواية الثانية وإن لم يكن فيها ذكر الاستعظام فهو مراد وهي مختصرة من الرواية الأولى، ولهذا قدم مسلم رحمه الله الرواية الأولى، وقيل معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء، ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد، فعلى هذا معنى الحديث سبب الوسوسة محض الإيمان، أو الوسوسة علامة محض الإيمان، وهذا القول اختيار القاضي عياض. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن وجد ذلك فليقل آمنت بالله" وفي الرواية الأخرى: "فليستعذ بالله ولينته" فمعناه الإعراض عن هذا الخاطر الباطل والالتجاء إلى الله تعالى في إذهابه. قال الإمام المازري رحمه الله: ظاهر الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يدفعوا الخواطر بالإعراض عنها والرد لها من غير استدلال ولا نظر في إبطالها، قال: والذي يقال في هذا المعنى أن الخواطر على قسمين: فأما التي ليست بمستقرة ولا اجتلبتها شبهة طرأت فهي التي تدفع بالإعراض عنها، وعلى هذا يحمل الحديث، وعلى مثلها ينطلق اسم الوسوسة، فكأنه لما كان أمرا طارئا بغير أصل دفع بغير نظر في دليل، إذ لا أصل له ينظر فيه، وأما الخواطر المستقرة التي أوجبتها الشبهة فإنها لا تدفع إلا بالاستدلال والنظر في إبطالها، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فليستعذ بالله ولينته" فمعناه إذا عرض له هذا الوسواس فليلجأ إلى الله تعالى في دفع شره عنه، وليعرض عن الفكر في ذلك، وليعلم أن هذا الخاطر من وسوسة الشيطان، وهو إنما يسعى بالفساد والإغواء، فليعرض عن الإصغاء إلى وسوسته وليبادر إلى قطعها بالاشتغال بغيرها، والله أعلم. وأما أسانيد الباب ففيه محمد بن عمرو بن جبلة هو محمد بن عمرو بن عباد بن جبلة. وفيه أبو الجواب عن عمار بن رزيق، أما أبو الجواب فبفتح الجيم وتشديد الواو وآخره باء موحدة واسمه الأحوص بن جواب. وأما رزيق فبتقديم الراء على الزاي. وفيه قال مسلم: حدثنا يوسف بن يعقوب الصفار، حدثني علي بن عثام عن سعير بن الخمس عن مغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه، وهذا الإسناد كله كوفيون، وعثام بالثاء المثلثة، وسعير هو بضم السين المهملة وآخره راء، والخمس بكسر الخاء المعجمة وإسكان الميم وبالسين المهملة، وسعير وأبوه لا يعرف لهما نظير، ومغيرة وإبراهيم وعلقمة تابعيون، وقد اعترض على هذا الإسناد. وفيه أبو النضر عن أبي سعيد المؤدب هو أبو النضر هاشم بن القاسم، واسم أبي سعيد المؤدب محمد بن مسلم بن أبي الوضاح، واسم أبي الوضاح المثنى، وكان يؤدب المهدي وغيره من الخلفاء. وفيه ابن أخي ابن شهاب وهو محمد بن عبد الله بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب أبو عبد الله. وفيه يعقوب الدورقي تقدم بيانه في شرح المقدمة.
وفيه عبد الله بن الرومي هو عبد الله بن محمد وقيل ابن عمر بغدادي. وفيه جعفر بن برقان بضم الموحدة وبالقاف تقدم بيانه في المقدمة والله أعلم.
وفي ألفاظ المتن حتى يقولوا الله خلق كل شيء. هكذا هو في بعض الأصول يقولوا بغير نون، وفي بعضها يقولون بالنون وكلاهما صحيح، وإثبات النون مع الناصب لغة قليلة، ذكرها جماعة من محققي النحويين، وجاءت متكررة في الأحاديث الصحيحة كما ستراها في مواضعها إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
*2* باب وعيد من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة بالنار
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ، وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَ عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ. جَمِيعا عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ. قَالَ ابْنُ أَيّوبَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَلاَءُ، وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ مَوْلَى الْحُرَقَةِ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ كَعْبٍ السّلَمِيّ، عَنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنِ اقْتَطَعَ حَقّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ، فَقَدْ أَوْجَبَ الله لَهُ النّارَ، وَحَرّمَ عَلَيْهِ الْجَنّةَ" فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: وَإِنْ كَانَ شَيْئا يَسِيرا، يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: "وَإِنْ قَضِيبا مِنْ أَرَاكٍ".
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. جَمِيعا عَنْ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ مُحمّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنّهُ سَمِعَ أَخَاهُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ كَعْبٍ يُحَدّثُ أَنّ أَبَا أُمَامَةَ الْحَارِثِيّ حَدّثَهُ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ. ح وحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ (وَاللّفْظُ لَهُ) أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ صَبْرٍ يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" قَالَ: فَدَخَلَ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ فَقَالَ: مَا يُحَدّثُكُمْ أَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ؟ قَالُوا: كَذَا وَكَذَا. قَالَ: صَدَقَ أَبُو عَبْدِ الرّحمَنِ. فِيّ نَزَلَتْ. كَانَ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ أَرْضٌ بِالْيَمَنِ. فَخَاصَمْتُهُ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "هَلْ لَكَ بَيّنَةٌ؟" فَقُلْتُ: لاَ. قَالَ: "فَيَمِينُهُ" قُلْتُ: إِذَنْ يَحْلِفَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، عِنْدَ ذَلِكَ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ، يَقْتَطِعُ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" فَنَزَلَتْ: {إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً} (العمران الاَية: ) إِلَى آخِرِ الاَيَةِ.
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ يَسْتَحِقّ بِهَا مَالاً هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ. ثُمّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ الأَعْمَشِ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَجُلٍ خُصُومَةٌ فِي بِئْرٍ. فَاخْتَصَمْنَا إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ".
وحدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِيّ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَامِعِ بْنِ أَبِي رَاشِدٍ، وَ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنِ أَعْيَنَ سَمِعَا شَقِيقَ بْنَ سَلَمَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقّهِ، لَقِيَ الله وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" قَالَ عَبْدُ اللّهِ: ثُمّ قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، مِصْدَاقَهُ مِنْ كِتَابِ الله، {إِنّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنا قَلِيلاً} (العمران الاَية: ) إِلَى آخِرِ الاَيَةِ.
وحدّثني قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَ هَنّادُ بْنُ السّرِيّ، وَ أَبُو عَاصِمٍ الْحَنَفِيّ (وَاللّفْظُ لِقُتَيْبَةَ) قَالُوا: حَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَ مَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ الْحَضَرَمِيّ: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي. فَقَالَ الْكِنْدِيّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقّ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِلْحَضْرَمِيّ: "أَلَكَ بَيّنَةٌ؟" قَالَ: لاَ. قَالَ: "فَلَكَ يَمِينُهُ" قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنّ الرّجُلَ فَاجِرٌ لاَ يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ. وَلَيْسَ يَتَوَرّعُ مِنْ شَيْءٍ. فَقَالَ: "لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلاّ ذَلِكَ" فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمّا أَدْبَرَ: "أَمَا لَئِنْ حَلَفَ عَلَى مَالِهِ لَيَأْكُلَهُ ظُلْما، لَيَلْقَيَنّ الله وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. جَمِيعا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ. قَالَ: زُهَيْرٌ: حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ، حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَلْقَمَة بْنِ وَائِلٍ، عَنْ وَائِلٍ بْنِ حُجْرٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَتَاهُ رَجُلاَنِ يَخْتَصِمَانِ فِي أَرْضٍ.فَقَالَ أَحَدُهُمَا: إِنّ هَذَا انْتَزَى عَلَى أَرْضِي، يَا رَسُولَ اللّهِ، فِي الْجَاهِلِيّةِ. (وَهُوَ امْرُءُ الْقَيْسِ بْنُ عَابِسٍ الْكِنْدِيّ. وَخَصْمُهُ رَبِيعَةُ بْنُ عِبْدَانَ). قَالَ: "بَيّنَتُكَ" قَالَ: لَيْسَ لِي بَيّنَةٌ. قَالَ: "يَمِينُهُ" قَالَ: إِذَنْ يَذْهَبُ بِهَا. قَالَ: "لَيْسَ لَكَ إِلاّ ذَاكَ" قَالَ، فَلَمّا قَامَ لِيَحْلِفَ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنِ اقْتَطَعَ أَرْضا ظَالِما، لَقِيَ اللّهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ" قَالَ إِسْحَقُ فِي رِوَايَتِهِ: رَبِيعَةُ بْنُ عَيْدَانَ.
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله تعالى له النار وحرم عليه الجنة، فقال له رجل: وإن كان شيئا يسيرا يا رسول الله؟ قال: وإن قضيب من أراك).
في الرواية الأخرى: (من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله تعالى وهو عليه غضبان). وفي الرواية الأخرى: (عن الأشعث بن قيس كانت بيني وبين رجل أرض باليمن فخاصمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك بينة؟ فقلت: لا، قال: فيمينه، قلت: إذن يحلف، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك: من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها فاجر لقي الله تعالى وهو عليه غضبان).
وفي الرواية الأخرى: (جاء رجل من حضرموت ورجل من كندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال الحضرمي: يا رسول الله إن هذا غلبني على أرض لي كانت لأبي، فقال الكندي: هي أرضي في يدي أزرعها ليس له فيها حق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا، قال: فلك يمينه، قال: يا رسول الله إن الرجل فاجر لا يبالي على ما حلف عليه وليس يتورع من شيء، فقال: ليس لك منه إلا ذلك، فانطلق ليحلف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدبر: أما لئن حلف على ماله ليأكله ظلما ليلقين الله تعالى وهو عنه معرض) أما أسماء الباب ولغاته ففيه مولى الحرقة بضم الحاء وفتح الراء، وهي بطن من جهينة تقدم بيانه مرات، وفيه معبد بن كعب السلمي بفتح السين واللام منسوب إلى بني سلمة بكسر اللام من الأنصار، وفي النسب بفتح اللام على المشهور عند أهل العربية وغيرهم، وقيل: يجوز كسر اللام في النسب أيضا. وفيه عبد الله بن كعب بن أبي أمامة الحارثي. وفي الرواية الأخرى: سمعت عبد الله بن كعب يحدث أن أبا أمامة الحارثي حدثه. اعلم أن أبا أمامة هذا ليس هو أبا أمامة الباهلي صدى بن عجلان المشهور بل هذا غيره، واسم هذا إياس بن ثعلبة الأنصاري الحارثي من بني الحرث بن الخزرج، وقيل: إنه بلوي وهو حليف بني حارثة، وهو ابن أخت أبي بردة بن نيار، هذا هو المشهور في اسمه. وقال أبو حاتم الرازي: اسمه عبد الله بن ثعلبة، ويقال ثعلبة بن عبد الله، ثم اعلم أن هنا دقيقة لا بد من التنبيه عليها، وهي أن الذين صنفوا في أسماء الصحابة رضي الله عنهم ذكر كثير منهم أن أبا أمامة هذا الحارثي رضي الله عنه توفي عند انصراف النبي صلى الله عليه وسلم من أحد فصلى عليه، ومقتضى هذا التاريخ أن يكون هذا الحديث الذي رواه مسلم منقطعا، فإن عبد الله بن كعب تابعي، فكيف يسمع من توفي عام أحد في السنة الثالثة من الهجرة؟ ولكن هذا النقل في وفاة أبي أمامة ليس بصحيح، فإنه صح عن عبد الله بن كعب أنه قال: حدثني أبو أمامة كما ذكره مسلم في الرواية الثانية، فهذا تصريح بسماع عبد الله بن كعب التابعي منه فبطل ما قيل في وفاته، ولو كان ما قيل في وفاته صحيحا لم يخرج مسلم حديثه، ولقد أحسن الإمام أبو البركات الجزري المعروف بابن الأثير حيث أنكر في كتابه معرفة الصحابة رضي الله عنهم هذا القول في وفاته، والله أعلم. وفيه: "وإن قضيب من أراك" هكذا هو في بعض الأصول أو أكثرها وفي كثير منها، وإن قضيبا على أنه خبر كان المحذوفة، أو أنه مفعول لفعل محذوف تقديره: وإن اقتطع قضيبا. وفيه: "من حلف على يمين صبر" هو بإضافة يمين إلى صبر، ويمين الصبر هي التي يحبس الحالف نفسه عليها، وقد تقدم بيانها في باب غلظ تحريم قتل الإنسان نفسه. وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين صبر هو فيها فاجر" أي متعمد الكذب، وتسمى هذه اليمين الغموس. وفيه قوله: "إذن يحلف" يجوز بنصب الفاء ورفعها، وذكر الإمام أبو الحسن بن خروف في شرح الجمل أن الرواية فيه برفع الفاء. وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه" معناه لك ما يشهد به شاهداك أو يمينه. وفيه: حضرموت بفتح الحاء المهملة وإسكان الضاد المعجمة وفتح الراء والميم.
وفيه قول مسلم: (حدثني زهير بن حرب وإسحاق بن إبراهيم جميعا عن أبي الوليد قال زهير: حدثنا هشام بن عبد الملك) هشام هو أبو الوليد. وفيه قوله: (انتزى على أرضي في الجاهلية) معناه غلب عليها واستولى، والجاهلية ما قبل النبوة لكثرة جهلهم. وفيه: (امرؤ القيس بن عابس وربيعة بن عيدان) أما عابس فبالموحدة والسين المهملة. وأما عيدان فقد ذكر مسلم أن زهيرا وإسحاق اختلفا في ضبطه، وذكر القاضي عياض الأقوال فيه واختلاف الرواة فقال: هو بفتح العين وبياء مثناة من تحت هذا صوابه، وكذا هو في رواية إسحاق. وأما رواية زهير فعبدان بكسر العين وبباء موحدة، قال القاضي: كذا ضبطناه في الحرفين عن شيوخنا، قال: ووقع عند ابن الحذاء عكس ما ضبطناه، فقال في رواية زهير بالفتح والمثناة، وفي رواية إسحاق بالكسر والموحدة، قال الجياني: وكذا هو في الأصل عن الجلودي، قال القاضي: والذي صوبناه أولاً هو قول الدارقطني وعبد الغني بن سعيد وأبي نصر بن ماكولا، وكذا قاله ابن يونس في التاريخ، هذا كلام القاضي وضبط جماعة من الحفاظ منهم الحافظ أبو القاسم بن عساكر الدمشقي عبدان بكسر العين والموحدة وتشديد الدال، والله أعلم. وأما أحكام الباب فقوله صلى الله عليه وسلم: "من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه" إلى آخره، فيه لطيفة وهي أن قوله صلى الله عليه وسلم: "حق امرئ" يدخل فيه من حلف على غير مال كجلد الميتة والسرجين وغير ذلك من النجاسات التي ينتفع بها، وكذا سائر الحقوق التي ليست بمال كحد القذف ونصيب الزوجة في القسم وغير ذلك. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فقد أوجب الله تعالى له النار وحرم عليه الجنة" ففيه الجوابان المتقدمان المتكرران في نظائره، أحدهما: أنه محمول على المستحل لذلك إذا مات على ذلك فإنه يكفر ويخلد في النار. والثاني: معناه فقد استحق النار ويجوز العفو عنه، وقد حرم عليه دخول الجنة أول وهلة مع الفائزين، وأما تقييده صلى الله عليه وسلم بالمسلم فليس يدل على عدم تحريم حق الذمي، بل معناه أن هذا الوعيد الشديد وهو أنه يلقى الله تعالى وهو عليه غضبان لمن اقتطع حق المسلم، وأما الذمي فاقتطاع حقه حرام، لكن ليس يلزم أن تكون فيه هذه العقوبة العظيمة، هذا كله على مذهب من يقول بالمفهوم، وأما من لا يقول به فلا يحتاج إلى تأويل. وقال القاضي عياض رحمه الله: تخصيص المسلم لكونهم المخاطبين وعامة المتعاملين في الشريعة لا أن غير المسلم بخلافه بل حكمه حكمه في ذلك، والله أعلم. ثم أن هذه العقوبة لمن اقتطع حق المسلم ومات قبل التوبة، أما من تاب فندم على فعله ورد الحق إلى صاحبه وتحلل منه وعزم على أن لا يعود فقد سقط عنه الإثم، والله أعلم. وفي هذا الحديث دلالة لمذهب مالك والشافعي وأحمد والجماهير أن حكم الحاكم لا يبيح للإنسان ما لم يكن له، خلافا لأبي حنيفة رحمه الله تعالى وفيه بيان غلظ تحريم حقوق المسلمين، وأنه لا فرق بين قليل الحق وكثيره لقوله صلى الله عليه وسلم: "وان قضيب من أراك". وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين هو فيها فاجر ليقتطع" فالتقييد بكونه فاجرا لا بد منه ومعناه هو آثم، ولا يكون آثما إلا إذا كان متعمدا عالما بأنه غير محق. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لقي الله تعالى وهو عليه غضبان" وفي الرواية الأخرى: "وهو عنه معرض" فقال العلماء: الإعراض والغضب والسخط من الله تعالى هو إرادته إبعاد ذلك المغضوب عليه من رحمته وتعذيبه وإنكار فعله وذمه، والله أعلم. وأما حديث الحضرمي والكندي ففيه أنواع من العلوم، ففيه أن صاحب اليد أولى من أجنبي يدعي عليه. وفيه أن المدعى عليه يلزمه اليمين إذا لم يقر. وفيه أن البينة تقدم على اليد ويقضى لصاحبها بغير يمين. وفيه أن يمين الفاجر المدعى عليه تقبل كيمين العدل وتسقط عنه المطالبة بها. وفيه أن أحد الخصمين إذا قال لصاحبه إنه ظالم أو فاجر أو نحوه في حال الخصومة يحتمل ذلك منه. وفيه أن الوارث إذا ادعى شيئا لمورثه وعلم الحاكم أن مورثه مات ولا وارث له سوى هذا المدعي جاز له الحكم به ولم يكلفه حال الدعوى بينة على ذلك، وموضع الدلالة أنه قال: غلبني على أرض لي كانت لأبي، فقد أقر بأنها كانت لأبيه، فلولا علم النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ورثها وحده لطالبه ببينة على كونه وارثا، ثم ببينة أخرى على كونه محقا في دعواه على خصمه، فإن قال قائل: قوله صلى الله عليه وسلم شاهداك معناه شاهداك على ما تستحق به انتزاعها، وإنما يكون ذلك بأن يشهدا بكونه وارثا وحده وأنه ورث الدار، فالجواب أن هذا خلاف الظاهر، ويجوز أن يكون مرادا، والله أعلم.
*2* باب الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه وإن قتل كان في النار وأن من قُتل دون ماله فهو شهيد
*حدّثني أَبُو كُرَيْبٍ مُحمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ: حَدّثَنَا خَالِدٌ (يَعْنِي ابْنَ مَخْلَدٍ) حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَرَأَيْتَ إِنْ جَاءَ رَجُلٌ يُرِيدُ أَخْذَ مَالِي؟ قَالَ: "فَلاَ تُعْطِهِ مَالَكَ" قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَاتَلَنِي؟ قَالَ: "قَاتِلْهُ" قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلَنِي؟ قَالَ: "فَأَنْتَ شَهِيدٌ" قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلْتُهُ؟ قَالَ: "هُوَ فِي النّارِ".
حدّثني الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ الْحُلْوَانِيّ، وَ إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَ مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ (قَالَ إِسْحَقَ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا) عَبْدُ الرّزَاقِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ، أَنّ ثَابِتَا مَوْلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنّهُ لَمّا كَانَ بَيْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو وَبَيْنَ عَنْبَسَةَ ابْنِ أَبِي سُفْيَانَ مَا كَانَ. تَيَسّرُوا لِلْقِتَالِ. فَرَكِبَ خَالِدُ بْنُ الْعَاصِ إِلَى عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو، فَوَعَظَهُ خَالِدٌ. فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو: أَمَا عَلِمْتَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ".
وحدّثنيهِ مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ بَكْرٍ. ح وَحَدّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النّوْفَلِيّ: حَدّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ. كِلاَهُمَا عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ، بِهَذَا الاْسْنَادِ ، مِثْلَهُ .
فيه: (أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي، قال: فلا تعطه مالك، قال: أرأيت إن قاتلني، قال: قاتله، قال: أرأيت إن قتلني، قال: فأنت شهيد، قال: أرأيت إن قتلته، قال: هو في النار) أما ألفاظ الباب فالشهيد قال النضر بن شميل: سمي بذلك لأنه حي، لأن أرواحهم شهدت دار السلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها إلا يوم القيامة. وقال ابن الأنباري: لأن الله تعالى وملائكته عليهم السلام يشهدون له بالجنة، فمعنى شهيد مشهود له، وقيل سمي شهيدا لأنه يشهد عند خروج روحه ماله من الثواب والكرامة، وقيل: لأن ملائكة الرحمة يشهدونه فيأخذون روحه، وقيل: لأنه شهد له بالإيمان وخاتمة الخير بظاهر حاله، وقيل: لأن عليه شاهدا يشهد بكونه شهيدا وهو دمه فإنه يبعث وجرحه يثعب دما. وحكى الأزهري وغيره قولاً آخر أنه سمي شهيدا لكونه ممن يشهد يوم القيامة على الأمم، وعلى هذا القول لا اختصاص له بهذا السبب، واعلم أن الشهيد ثلاثة أقسام، أحدها: المقتول في حرب الكفار بسبب من أسباب القتال، فهذا له حكم الشهداء في ثواب الاَخرة وفي أحكام الدنيا وهو أنه لا يغسل ولا يصلى عليه. والثاني: شهيد في الثواب دون أحكام الدنيا وهو المبطون والمطعون وصاحب الهدم ومن قتل دون ماله، وغيرهم ممن جاءت الأحاديث الصحيحة بتسميته شهيدا، فهذا يغسل ويصلى عليه وله في الاَخرة ثواب الشهداء، ولا يلزم أن يكون مثل ثواب الأول. والثالث: من غل في الغنيمة وشبهه ممن وردت الاَثار بنفي تسميته شهيدا إذا قتل في حرب الكفار، فهذا له حكم الشهداء في الدنيا فلا يغسل ولا يصلى عليه، وليس له ثوابهم الكامل في الاَخرة، والله أعلم.
وفي الباب في الحديث الثاني: (تيسروا للقتال فركب خالد بن العاصي) معنى تيسروا للقتال تأهبوا وتهيؤوا. وقوله: فركب كذا ضبطناه، وفي بعض الأصول وركب بالواو، وفي بعضها ركب من غير فاء ولا واو، وكله صحيح، وقد تقدم أن الفصيح في العاصي إثبات الياء ويجوز حذفها وهو الذي يستعمله معظم المحدثين أو كلهم. وقوله بعد هذا: (أما علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال) هو بفتح التاء من علمت والله أعلم. وأما أحكام الباب ففيه جواز قتل القاصد لأخذ المال بغير حق، سواء كان المال قليلاً أو كثيرا لعموم الحديث، وهذا قول الجماهير من العلماء. وقال بعض أصحاب مالك: لا يجوز قتله إذا طلب شيئا يسيرا كالثوب والطعام وهذا ليس بشيء، والصواب ما قاله الجماهير. وأما المدافعة عن الحريم فواجبة بلا خلاف، وفي المدافعة عن النفس بالقتل خلاف في مذهبنا ومذهب غيرنا، والمدافعة عن المال جائزة غير واجبة، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا تعطه" فمعناه لا يلزمك أن تعطيه وليس المراد تحريم الإعطاء. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الصائل إذا قتل هو في النار فمعناه أنه يستحق ذلك وقد يجازى وقد يعفى عنه، إلا أن يكون مستحلاً لذلك بغير تأويل فإنه يكفر ولا يعفى عنه، والله أعلم.
*2* باب استحقاق الوالي، الغاش لرعيته، النار
*حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ: حَدّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: عَادَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ زِيَادٍ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ الْمُزَنِيّ فِي مَرَضِهِ الّذِي مَاتَ فِيهِ. قَالَ مَعْقِلٌ: إِنّي مُحَدّثُكَ حَدِيثا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، لَوْ عَلِمْتُ أَنّ لِي حَيَاةً مَا حَدّثْتُكَ. إِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرْعِيهِ اللّهُ رَعِيّةً، يَمُوتُ يَوْمَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشّ لِرَعِيّتِهِ، إِلاّ حَرّمَ الله عَلَيْهِ الْجَنّةُ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا يَزِيِدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: دَخَلَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ زِيَادٍ عَلَى مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ وَهُوَ وَجِعٌ. فَسَأَلَهُ فَقَالَ: إِنّي مُحَدّثُكَ حَدِيثا لَمْ أَكُنْ حَدّثْتُكَهُ. إِنّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لاَ يَسْتَرعِي اللّهُ عَبْدا رَعِيّةً، يَمُوتُ حِينَ يَمُوتُ وَهُوَ غَاشّ لَهَا، إِلاّ حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الْجَنّةَ" قَالَ: أَلاّ كُنْتَ حَدّثْتَنِي هَذَا قَبْلَ الْيَوْمِ؟ قَالَ: مَا حَدّثْتُكَ، أَوْ لَمْ أَكُنْ لاِحَدِثّكَ.
وحدّثني الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيّاءَ: حَدّثَنَا حُسَيْنٌ، يَعْنِي الْجُعْفِيّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ هِشَامٍ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ كُنّا عِنْدَ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ نَعُوُدُهُ. فَجَاءَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ زِيَادٍ. فَقَالَ لَهُ مَعْقَلٌ: إِنّي سَأُحَدّثُكَ حَدِيثا سَمْعْتُهُ مِن رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمّ ذَكَرَ بِمَعْنَىَ حَدِيثِهِمَا.
وحدّثنا أَبُو غَسّانَ الْمِسْمَعِيّ، وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى، وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا) مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي عَنُ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ أَنّ عُبَيْدَ اللّهِ بْنَ زِيَادٍ عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِي مَرَضِهِ. فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنّي مُحَدّثُكَ بِحَدِيثٍ لَوْلا أَنّي فِي الْمَوْتِ لَمْ أُحَدّثْكَ بِهِ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ أَمِيرٍ يَلِي أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمّ لاَ يَجْهَدُ لَهُمْ وَيَنْصَحُ إِلاّ لَمْ يَدْخُلْ مَعَهُمُ الْجَنّةَ".
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة) وفي الرواية الأخرى: (ما من أمير يلي أمر المسلين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة) أما فقه الحديث فقوله صلى الله عليه وسلم: "حرم الله عليه الجنة" فيه التأويلان المتقدمان في نظائره، أحدهما: أنه محمول على المستحل. والثاني: حرم عليه دخولها مع الفائزين السابقين، ومعنى التحريم هنا المنع. قال القاضي عياض رحمه الله: معناه بين في التحذير من غش المسلمين لمن قلده الله تعالى شيئا من أمرهم واسترعاه عليهم ونصبه لمصلحتهم في دينهم أو دنياهم، فإذا خان فيما اؤتمن عليه فلم ينصح فيما قلده، إما بتضييعه تعريفهم ما يلزمهم من دينهم وأخذهم به، وإما بالقيام بما يتعين عليه من حفظ شرائعهم والذب عنها لكل متصد لإدخال داخلة فيها، أو تحريف لمعانيها، أو إهمال حدودهم، أو تضييع حقوقهم، أو ترك حماية حوزتهم ومجاهدة عدوهم، أو ترك سيرة العدل فيهم فقد غشهم، قال القاضي: وقد نبه صلى الله عليه وسلم على أن ذلك من الكبائر الموبقة المبعدة عن الجنة، والله أعلم. وأما قول معقل رضي الله عنه لعبيد الله بن زياد: (لو علمت أن لي حياة ما حدثتك). وفي الرواية الأخرى: (لولا أني في الموت لم أحدثك) فقال القاضي عياض رحمه الله: إنما فعل هذا لأنه علم قبل هذا أنه ممن لا ينفعه الوعظ كما ظهر منه مع غيره، ثم خاف معقل من كتمان الحديث، ورأى تبليغه أو فعله، لأنه خافه لو ذكره في حياته لما يهيج عليه هذا الحديث، ويثبته في قلوب الناس من سوء حاله، هذا كلام القاضي، والاحتمال الثاني هو الظاهر، والأول ضعيف، فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يسقط باحتمال عدم قبوله، والله أعلم. وأما ألفاظ الباب ففيه شيبان عن أبي الأشهب عن الحسن عن معقل بن يسار رضي الله عنه. وهذا الإسناد كله بصريون، وفروخ غير مصروف لكونه عجميا تقدم مرات، وأبو الأشهب اسمه جعفر بن حيان بالمثناة العطاردي السعدي البصري. وفيه عبيد الله بن زياد هو زياد بن أبيه الذي يقال له زياد بن أبي سفيان. وفيه أبو غسان المسمعي وقد تقدم بيانه في المقدمة، وأن غسان يصرف ولا يصرف، والمسمعي بكسر الميم الأولى وفتح الثانية منسوب إلى مسمع بن ربيعة، واسم أبي غسان مالك بن عبد الواحد. وفيه أبو المليح بفتح الميم واسمه عامر وقيل زيد بن أسامة الهذلي البصري، والله أعلم.
*2* باب رفع الأَمانة والإِيمان من بعض القلوب وعرض الفتن على القلوب
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَ وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدٍ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدّثَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثَيْنِ قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الاَخَرَ. حَدّثَنَا "أَنّ الأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرّجَالِ. ثُمّ نَزَلَ الْقُرْآنُ. فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلِمُوا مِنَ السّنّةِ". ثُمّ حَدّثَنَا عَنْ رَفْعِ الأَمَانَةِ قَالَ: "يَنَامُ الرّجُلُ النّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ. فَيَظَلّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمّ يَنَامُ النّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ. فَيَظَلّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ. كَجَمْرٍ دَحْرَجَتْهُ عَلَى رِجْلِكَ) فَنَفِطَ فَتَرَاهُ مُنْتَبِرا وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ (ثُمّ أَخَذَ حَصىً فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ) فَيُصْبِحُ النّاسُ يَتَبَايَعُونَ. لاَ يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدّي الأَمَانَةَ حَتّى يُقَالَ: إِنّ فِي بَنِي فُلاَنٍ رَجُلاً أَمِينا. حَتّى يُقَالَ لِلرّجُلِ: مَا أَجْلَدَهُ مَا أَظْرَفَهُ مَا أَعْقَلَهُ وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ".
وَلَقَدْ أَتَى عَلَيّ زَمَانٌ وَمَا أُبَالِي أَيّكُمْ بَايَعْتُ. لَئِنْ كَانَ مُسْلِما لَيَرُدّنّهُ عَلَيّ دِينُهُ. وَلَئِنْ كَانَ نَصْرَانِيّا أَوْ يَهُودِيّا لَيَرُدّنّهُ عَلَيّ سَاعِيهِ. وَأَمّا الْيَوْمَ فَمَا كُنْتُ لأُبَايِعَ مِنْكُمْ إِلاّ فُلاَنا وَفُلاَنا.
وحدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي، وَ وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدّثَنَا عِيسَىَ بْنُ يُونُسَ. جَمِيعا عَنِ الأَعْمَشِ ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ.
فيه قول حذيفة رضي الله عنه: (حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما وأنا أنتظر الاَخر إلى آخره). وفيه حديث حذيفة الاَخر في عرض الفتن، وأنا أذكر شرح لفظهما ومعناهما على ترتيبهما إن شاء الله تعالى، فأما الحديث الأول فقال مسلم: (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا أبو معاوية ووكيع قال: وحدثنا أبو كريب، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب عن حذيفة رضي الله عنه) هذا الإسناد كله كوفيون، وحذيفة مدايني كوفي. وقوله عن الأعمش عن زيد والأعمش مدلس، وقد قدمنا أن المدلس لا يحتج بروايته إذا قال عن، وجوابه ما قدمناه مرات في الفصول وغيرها أنه ثبت سماع الأعمش هذا الحديث من زيد من جهة أخرى، فلم يضره بعد هذا قوله فيه عن. وأما قول حذيفة رضي الله عنه: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين فمعناه حدثنا حديثين في الأمانة، وإلا فروايات حذيفة كثيرة في الصحيحين وغيرهما، قال صاحب التحرير. وعنى بأحد الحديثين. قوله: حدثنا أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال. وبالثاني قوله: ثم حدثنا عن رفع الأمانة إلى آخره. قوله: (أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال) أما الجذر فهو بفتح الجيم وكسرها لغتان وبالذال المعجمة فيهما وهو الأصل، قال القاضي عياض رحمه الله: مذهب الأصمعي في هذا الحديث فتح الجيم وأبو عمرو يكسرها. وأما الأمانة فالظاهر أن المراد بها التكليف الذي كلف الله تعالى به عباده والعهد الذي أخذه عليهم. قال الإمام أبو الحسن الواحدي رحمه الله في قول الله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال} قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي الفرائض التي افترضها الله تعالى على العباد. وقال الحسن: هو الدين والدين كله أمانة. وقال أبو العالية: الأمانة ما أمروا به وما نهوا عنه. وقال مقاتل: الأمانة الطاعة. قال الواحدي: وهذا قول أكثر المفسرين، قال: فالأمانة في قول جميعهم الطاعة والفرائض التي يتعلق بأدائها الثواب وبتضييعها العقاب والله أعلم. وقال صاحب التحرير: الأمانة في الحديث هي الأمانة المذكورة في قوله تعالى: {إنا عرضنا الأمانة} وهي عين الإيمان، فإذا استمكنت الأمانة من قلب العبد قام حينئذٍ بأداء التكاليف واغتنم ما يرد عليه منها وجد في إقامتها والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فيظل أثرها مثل الوكت) فهو بفتح الواو وإسكان الكاف وبالتاء المثناة من فوق وهو الأثر اليسير، كذا قاله الهروي، وقال غيره: هو سواد يسير، وقيل: هو لون يحدث مخالف للون الذي كان قبله.
وأما (المجل) فبفتح الميم وإسكان الجيم وفتحها لغتان حكاهما صاحب التحرير والمشهور الإسكان، يقال منه مجلت يده بكسر الجيم تمجل بفتحها مجلاً بفتحها أيضا، ومجلت بفتح الجيم تمجل بضمها مجلاً بإسكانها لغتان مشهورتان وأمجلها غيرها، قال أهل اللغة: والغريب المجل هو التنفط الذي يصير في اليد من العلم بفأس أو نحوها ويصير كالقبة فيه ماء قليل. وأما قوله: (كجمر دحرجته على رجل فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء) فالجمر والدحرجة معروفان. ونفط بفتح النون وكسر الفاء ويقال تنفط بمعناه، ومنتبرا مرتفعا، وأصل هذه اللفظة الارتفاع، ومنه المنبر لارتفاعه وارتفاع الخطيب عليه، وقوله نفط ولم يقل نفطت مع أن الرجل مؤنثة، إما أن يكون ذكر نفظ اتباعا للفظ الرجل، وإما أن يكون اتباعا لمعنى الرجل وهو العضو. وأما قوله: (ثم أخذ حصى فدحرجه) فهكذا ضبطناه وهو ظاهر، ووقع في أكثر الأصول: ثم أخذ حصاة فدحرجه بإفراد لفظ الحصاة وهو صحيح أيضا، ويكون معناه دحرج ذلك المأخوذ أو الشيء وهو الحصاة، والله أعلم. قال صاحب التحرير: معنى الحديث: أن الأمانة تزول عن القلوب شيئا فشيئا، فإذا زال أول جزء منها زال نورها وخلفته ظلمة كالوكت وهو اعتراض لون مخالف للون الذي قبله، فإذا زال شيء آخر صار كالمجل وهو أثر محكم لا يكاد يزول إلا بعد مدة، وهذه الظلمة فوق التي قبلها. ثم شبه زوال ذلك النور بعد وقوعه في القلب وخروجه بعد استقراره فيه واعتقاب الظلمة إياه بجمر يدحرجه على رجله حتى يؤثر فيها ثم يزول الجمر ويبقى التنفط. وأخذه الحصاة ودحرجته إياها أراد بها زيادة البيان وإيضاح المذكور، والله أعلم. وأما قول حذيفة رضي الله عنه: (ولقد أتى علي زمان وما أبالي أيكم بايعت، لئن كان مسلما ليردنه علي دينه، ولئن كان نصرانيا أو يهوديا ليردنه على ساعيه، وأما اليوم فما كنت لأبايع إلا فلانا وفلانا) فمعنى المبايعة هنا البيع والشراء المعروفان، ومراده أني كنت أعلم أن الأمانة لم ترتفع، وأن في الناس وفاء بالعهود، فكنت أقدم على مبايعة من اتفق غير باحث عن حاله وثوقا بالناس وأمانتهم، فإنه إن كان مسلما فدينه وأمانته تمنعه من الخيانة وتحمله على أداء الأمانة، وإن كان كافرا فساعيه وهو الوالي عليه كان أيضا يقوم بالأمانة في ولايته فيستخرج حقي منه، وأما اليوم فقد ذهبت الأمانة، فما بقي لي وثوق بمن أبايعه، ولا بالساعي في أدائهما الأمانة، فما أبايع إلا فلانا وفلانا، يعني أفرادا من الناس أعرفهم وأثق بهم. قال صاحب التحرير والقاضي عياض رحمهما الله: وحمل بعض العلماء المبايعة هنا على بيعة الخلافة وغيرها من المعاقدة والتحالف في أمور الدين، قالا: وهذا خطأ من قائله. وفي هذا الحديث مواضع تبطل قوله. منها قوله: ولئن كان نصرانيا أو يهوديا، ومعلوم أن النصراني واليهودي لا يعاقد على شيء من أمور الدين، والله أعلم. وأما الحديث الثاني في عرض الفتن ففي إسناده سليمان بن حيان بالمثناة وربعي بكسر الراء وهو ابن حراش بكسر الحاء المهملة.
*2* باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وإنه يأرز بين المسجدين
*وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبُو خَالِدٍ، يَعْنِي سُلَيْمَانَ بْنَ حَيانَ، عَنْ سَعدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ رَبْعِيّ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنّا عِنْدَ عُمَرَ. فَقَالَ: أَيّكُمْ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْفِتَنَ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: نَحْنُ سَمِعْنَاهُ. فَقَالَ: لَعَلّكُمْ تَعْنُونَ فِتْنَةَ الرّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَجَارِهِ؟ قَالُوا: أَجَلْ. قَالَ: تِلْكَ تُكَفّرُهَا الصّلاَةُ وَالصّيَامُ وَالصّدَقَةُ. وَلَكِنْ أَيّكُمْ سَمِعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْفِتَنَ الّتِي تَمُوجُ مَوْجَ الْبَحْرِ؟ قَالَ حُذَيْفَةُ: فَأَسْكَتَ الْقَوْمُ. فَقُلْتُ: أَنَا. قَالَ: أَنْتَ، لله أَبُوكَ!
قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودا عُودا. فَأَيّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ. وَأَيّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ. حَتّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ، عَلَى أَبْيَضَ مِثْل الصّفَا. فَلاَ تَضُرّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتِ السّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ. وَالاَخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادا كَالْكُوزِ مُجَخّيا لاَ يَعْرِفُ مَعْرُوفا وَلاَ يُنْكِرُ مُنْكَرا. إِلاّ مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ".
قَالَ حُذَيْفَةُ: وَحَدّثْتُهُ، أَنّ بَيْنَكَ وَبَيْنَهَا بَابا مُغْلَقا يُوشِكُ أَنْ يُكْسَرَ. قَالَ عُمَرُ: أَكَسْرا لاَ أَبَا لَكَ! فَلَوْ أَنّهُ فُتِحَ لَعَلّهُ كَانَ يُعَادُ. قُلْتُ: لاَ، بَلْ يُكْسَرُ. وَحَدّثْتُهُ، أَنّ ذَلِكَ الْبَابَ رَجُلٌ يُقْتَلُ أَوْ يَمُوتُ. حَدِيثا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ.
قَالَ أَبُو خَالِدٍ: فَقُلْتُ لِسَعْدٍ: يَا أَبَا مَالِكٍ مَا أَسْوَدُ مُرْبَادّا؟ قَالَ: شِدّةُ الْبَيَاضِ فِي سَوَادٍ. قَالَ، قُلْتُ: فَمَا الْكُوزُ مُجَخّيّا؟ قَالَ: مَنْكُوسا.
وحدّثني ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيّ. حَدّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ، عَنْ رِبْعِيَ قَالَ: لَمّا قَدِمَ حُذَيْفَةُ مِنْ عِنْدِ عُمَرَ، جَلَسَ فَحَدّثَنَا. فَقَالَ: إِنّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْسِ لَمّا جَلَسْتُ إِلَيْهِ سَأَلَ أَصْحَابَهُ: أَيّكُمْ يَحْفَظُ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتَنِ؟ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي خَالِدٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ تَفْسِيرَ أَبِي مَالِكٍ لِقوله: "مُرْبَادّا مُجَخّيا".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى، وَ عَمْرُو بْنُ عَلِيَ، وَ عُقَبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمّيّ. قَالُوا: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ أَبِي عَدِيَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ رِبْعِيّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنّ عُمَرَ قَالَ: مَنْ يُحَدّثُنَا، أَوْ قَالَ: أَيّكُمْ يُحَدّثَنَا (وَفِيهِمْ حُذَيْفَةُ) مَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْفِتْنَةِ؟ قَالَ: حُذَيْفَةُ: أَنَا. وَسَاقَ الْحَدِيثَ كَنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ، عَنْ رِبْعِيَ. وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ حُذَيْفَةُ: حَدّثْتُهُ حَدِيثا لَيْسَ بِالأَغَالِيطِ. وَقَالَ: يَعْنِي أَنّهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (فتنة الرجل في أهله وجاره تكفرها الصلاة والصيام والصدقة) قال أهل اللغة: أصل الفتنة في كلام العرب الابتلاء والامتحان والاختبار. قال القاضي: ثم صارت في عرف الكلام لكل أمر كشفه الاختبار عن سوء. قال أبو زيد: فتن الرجل يفتن فتونا إذا وقع في الفتنة وتحول من حال حسنة إلى سيئة. وفتنة الرجل في أهله وماله وولده ضروب من فرط محبته لهم وشحه عليهم وشغله بهم عن كثير من الخير كما قال تعالى: {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} أو لتفريطه بما يلزم من القيام بحقوقهم وتأديبهم وتعليمهم، فإنه راع لهم ومسؤول عن رعيته، وكذلك فتنة الرجل في جاره من هذا، فهذه كلها فتن تقتضي المحاسبة. ومنها ذنوب يرجى تكفيرها بالحسنات كما قال تعالى: {إن الحسنات يذهبن السيئات}. وقوله: (التي تموج كما يموج البحر) أي تضطرب ويدفع بعضها بعضا، وشبهها بموج البحر لشدة عظمها وكثرة شيوعها. وقوله: (فأسكت القوم) هو بقطع الهمزة المفتوحة، قال جمهور أهل اللغة: سكت وأسكت لغتان بمعنى صمت. وقال الأصمعي: سكت صمت وأسكت أطرق، وإنما سكت القوم لأنهم لم يكونوا يحفظون هذا النوع من الفتنة وإنما حفظوا النوع الأول. وقوله: (لله أبوك) كلمة مدح تعتاد العرب الثناء بها، فإن الإضافة إلى العظيم تشريف ولهذا يقال: بيت الله، وناقة الله. قال صاحب التحرير: فإذا وجد من الود ما يحمل قيل له: لله أبوك حيث أتى بمثلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا) هذان الحرفان مما اختلف في ضبطه على ثلاثة أوجه: أظهرها وأشهرها عودا عودا بضم العين وبالدال المهملة. والثاني: بفتح العين وبالدال المهملة أيضا. والثالث: بفتح العين وبالذال المعجمة، ولم يذكر صاحب التحرير غير الأول. وأما القاضي عياض فذكر هذه الأوجه الثلاثة عن أئمتهم واختار الأول أيضا، قال: واختار شيخنا أبو الحسين بن سراج فتح العين والدال المهملة، قال: ومعنى تعرض أنها تلصق بعرض القلوب أي جانبها كما يلصق الحصير بجنب النائم ويؤثر فيه شدة التصاقها به، قال: ومعنى عودا عودا أي تعاد وتكرر شيئا بعد شيء. قال ابن سراج: ومن رواه بالذال المعجمة فمعناه سؤال الاستعاذة منها، كما يقال: غفرا غفرا وغفرانك أي نسألك أن تعيذنا من ذلك وأن تغفر لنا. وقال الأستاذ أبو عبد الله بن سليمان: معناه تظهر على القلوب أي تظهر لها فتنة بعد أخرى. وقوله: كالحصير أي كما ينسج الحصير عودا عودا، وشظية بعد أخرى. قال القاضي: وعلى هذا يترجح رواية ضم العين، وذلك أن ناسج الحصير عند العرب كلما صنع عودا أخذ آخر ونسجه، فشبه عرض الفتن على القلوب واحدة بعد أخرى بعرض قضبان الحصير على صانعها واحدا بعد واحد. قال القاضي: وهذا معنى الحديث عندي، وهو الذي يدل عليه سياق لفظه وصحة تشبيهه، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء) معنى أشربها دخلت فيه دخولاً تاما وألزمها وحلت منه محل الشراب. ومنه قوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم العجل} أي حب العجل، ومنه قولهم: ثوب مشرب بحمرة أي خالطته الحمرة مخالطة لا انفكاك لها. ومعنى نكت نكتة نقط نقطة وهي بالتاء المثناة في آخره، قال ابن دريد وغيره: كل نقطة في شيء بخلاف لونه فهو نكت، ومعنى أنكرها ردها، والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (حتى تصير على قلبين على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والاَخر أسود مربادا كالكوز مجخيا لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه) قال القاضي عياض رحمه الله: ليس تشبيهه بالصفا بيانا لبياضه، لكن صفة أخرى لشدته على عقد الإيمان وسلامته من الخلل، وأن الفتن لم تلصق به ولم تؤثر فيه كالصفا وهو الحجر الأملس الذي لا يعلق به شيء. وأما قوله: مربادا فكذا هو في روايتنا وأصول بلادنا وهو منصوب على الحال. وذكر القاضي عياض رحمه الله خلافا في ضبطه، وأن منهم من ضبطه كما ذكرناه، ومنهم من رواه مربئد بهمزة مكسورة بعد الباء، قال القاضي: وهذه رواية أكثر شيوخنا وأصله أن لا يهمز، ويكون مربد مثل مسود ومحمر، وكذا ذكره أبو عبيد والهروي وصححه بعض شيوخنا عن أبي مروان بن سراج لأنه من اربد إلا على لغة من قال احمأر بهمزة بعد الميم لالتقاء الساكنين فيقال: اربدأ ومربئد والدال مشددة على القولين وسيأتي تفسيره. وأما قوله: مجخيا فهو بميم مضمومة ثم جيم مفتوحة ثم خاء معجمة مكسورة معناه مائلاً، كذا قاله الهروي وغيره، وفسره الراوي في الكتاب بقوله منكوسا وهو قريب من معنى المائل. قال القاضي عياض: قال لي ابن سراج ليس قوله كالكوز مجخيا تشبيها لما تقدم من سواده، بل هو وصف آخر من أوصافه بأنه قلب ونكس حتى لا يعلق به خير ولا حكمة، ومثله بالكوز المجخي وبينه بقوله: لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا. قال القاضي رحمه الله: شبه القلب الذي لا يعي خيرا بالكوز المنحرف الذي لا يثبت الماء فيه.
وقال صاحب التحرير: معنى الحديث أن الرجل إذا تبع هواه وارتكب المعاصي دخل قلبه بكل معصية يتعاطاها ظلمة، وإذا صار كذلك افتتن وزال عنه نور الإسلام والقلب مثل الكوز، فإذا انكب انصب ما فيه ولم يدخله شيء بعد ذلك. وأما قوله في الكتاب: (قلت لسعد: ما أسود مربادا؟ فقال: شدة البياض في سواد) فقال القاضي عياض رحمه الله: كان بعض شيوخنا يقول إنه تصحيف وهو قول القاضي أبي الوليد الكناني، قال: أرى أن صوابه شبه البياض في سواد، وذلك أن شدة البياض في سواد لا يسمى ربدة، وإنما يقال لها بلق إذا كان في الجسم، وحورا إذا كان في العين، والربدة إنما هي شيء من بياض يسير يخالط السواد كلون أكثر النعام، ومنه قيل للنعامة ربداء، فصوابه شبه البياض لا شدة البياض. قال أبو عبيد عن أبي عمرو وغيره: الربدة لون بين السواد والغبرة. وقال ابن دريد: الربدة لون أكدر. وقال غيره: هي أن يختلط السواد بكدرة. وقال الحربي: لون النعام بعضه أسود وبعضه أبيض، ومنه أريد لونه إذا تغير ودخله سواد وقال نفطويه: المربد الملمع بسواد وبياض، ومنه تربد لونه أي تلون، والله أعلم. قوله: حدثته أن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر، قال عمر رضي الله عنه: أكسرا لا أبا لك؟ فلو أنه فتح لعله كان يعاد. أما قوله: أن بينك وبينها بابا مغلقا فمعناه أن تلك الفتن لا يخرج شيء منها في حياتك. وأما قوله: يوشك فبضم الياء وكسر الشين ومعناه يقرب. وقوله: أكسرا أي أيكسر كسرا، فإن المكسور لا يمكن إعادته بخلاف المفتوح، ولأن الكسر لا يكون غالبا إلا عن إكراه وغلبة وخلاف عادة. وقوله: لا أبالك، قال صاحب التحرير: هذه كلمة تذكرها العرب للحث على الشيء، ومعناها أن الإنسان إذا كان له أب وحز به أمر ووقع في شدة عاونه أبوه ورفع عنه بعض الكل، فلا يحتاج من الجد والاهتمام إلى ما يحتاج إليه حالة الانفراد وعدم الأب المعاون، فإذا قيل: لا أبالك فمعناه جد في هذا الأمر وشمر وتأهب تأهب من ليس له معاون، والله أعلم. قوله: وحدثته أن ذلك الباب رجل يقتل أو يموت حديثا ليس بالأغاليط، أما الرجل الذي يقتل فقد جاء مبينا في الصحيح أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقوله: يقتل أو يموت يحتمل أن يكون حذيفة رضي الله عنه سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم هكذا على الشك، والمراد به الإبهام على حذيفة وغيره، ويحتمل أن يكون حذيفة علم أنه يقتل ولكنه كره أن يخاطب عمر رضي الله عنه بالقتل، فإن عمر رضي الله عنه كان يعلم أنه هو الباب، كما جاء مبينا في الصحيح أن عمر كان يعلم من الباب كما يعلم أن قبل غد الليلة فأتى حذيفة رضي الله عنه بكلام يحصل منه الغرض مع أنه ليس إخبارا لعمر بأنه يقتل. وأما قوله: حديثا ليس بالأغاليط فهي جمع أغلوطة وهي التي يغالط بها، فمعناه حدثته حديثا صدقا محققا ليس هو من صحف الكتابيين ولا من اجتهاد ذي رأي، بل من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والحاصل أن الحائل بين الفتن والإسلام عمر رضي الله عنه وهو الباب، فما دام حيا لا تدخل الفتن، فإذا مات دخلت الفتن وكذا كان، والله أعلم. وأما قوله في الرواية الأخرى عن ربيع قال: لما قدم حذيفة من عند عمر رضي الله عنهما جلس فحدثه فقال: إن أمير المؤمنين أمس لما جلست إليه سأل أصحابه أيكم يحفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن إلى آخره، فالمراد بقوله أمس الزمان الماضي لا أمس يومه، وهو اليوم الذي يلي يوم تحديثه، لأن مراده لما قدم حذيفة الكوفة في انصرافه من المدينة من عند عمر رضي الله عنهما، وفي أمس ثلاث لغات، قال الجوهري: أمس اسم حرك آخره لالتقاء الساكنين، واختلف العرب فيه فأكثرهم يبنيه على الكسر معرفة، ومنهم من يعربه معرفة، وكلهم يعربه إذا دخلت عليه الألف واللام أو صيره نكرة أو أضافه، تقول: مضى الأمس المبارك، ومضى أمسنا، وكل غد صائر أمسا. وقال سيبويه: جاء في الشعر مذ أمس بالفتح، هذا كلام الجوهري. وقال الأزهري قال الفراء: ومن العرب من يخفض الأمس وإن أدخل عليه الألف واللام، والله أعلم.
*2* باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا، وإنه يأرز بين المسجدين
*حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبّادٍ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعا، عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيّ. قَالَ ابْنُ عَبّادٍ: حَدّثَنَا مَرْوَانُ عَنْ يَزِيدَ، يَعْنِي ابْنَ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَدَأَ الإِسْلاَمُ غَرِيبا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبا. فَطُوبىَ لِلْغُرَبَاءِ".
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَ الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الأَعْرَجُ قَالاَ: حَدّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوّارٍ: حَدّثَنَا عَاصِمْ، وَهُوَ ابْنُ مُحَمّدٍ الْعُمَريّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ الإِسْلاَمَ بَدَأَ غَرِيبا وَسَيَعُودُ غَرِيبا كَمَا بَدَأَ. وَهُوَ يَأْرِزُ بَيْنَ الْمَسْجِدَيْنِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيّةُ فِي جُحْرِهَا".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، وَ أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي، حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ الإِيمَانَ لَيَأْرِزُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيّةُ إِلَى جُحْرِهَا".
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود كما بدأ غريبا، فطوبى للغرباء. وهو يأرز بين المسجدين كما تأرز الحية في جحرها).
وفي الرواية الأخرى: (إن الإيمان ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها) أما ألفاظ الباب ففيه أبو حازم عن أبي هريرة، واسم أبي حازم هذا سلمان الأشجعي مولى عزة الأشجعية، وتقدم أن اسم أبي هريرة عبد الرحمن بن صخر على الأصح من نحو ثلاثين قولاً. وقوله صلى الله عليه وسلم: "بدأ الإسلام غريبا" كذا ضبطناه بدأ بالهمزة من الابتداء. و"طوبى" فعلى من الطيب قاله الفراء، قال: وإنما جاءت الواو لضمة الطاء، قال: وفيها لغتان تقول العرب: طوباك وطوبى لك، وأما معنى طوبى فاختلف المفسرون في معنى قوله تعالى: {طوبى لهم وحسن مآب} فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن معناه فرج وقرة عين. وقال عكرمة: نعم مالهم. وقال الضحاك: غبطة لهم. وقال قتادة: حسنى لهم. وعن قتادة أيضا معناه أصابوا خيرا. وقال إبراهيم: خير لهم وكرامة. وقال ابن عجلان: دوام الخير. وقيل: الجنة، وقيل: شجرة في الجنة، وكل هذه الأقوال محتملة في الحديث، والله أعلم. وفي الإسناد شبابة بن سوار، فشبابة بالشين المعجمة المفتوحة وبالباء الموحدة المكررة، وسوار بتشديد الواو، وشبابة لقب واسمه مروان وقد تقدم بيانه. وفيه عاصم بن محمد العمري بضم العين وهو عاصم بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وهو يأرز" بياء مثناة من تحت بعدها همزة ثم راء مكسورة ثم زاي معجمة هذا هو المشهور، وحكاه صاحب المطالع مطالع الأنوار عن أكثر الرواة قال: وقال أبو الحسين بن سراج ليأرز بضم الراء. وحكى القابسي فتح الراء ومعناه ينضم ويجتمع، هذا هو المشهور عند أهل اللغة والغريب. وقيل في معناه غير هذا مما لا يظهر. وقوله صلى الله عليه وسلم: "بين المسجدين" أي مسجدي مكة والمدينة. وفي الإسناد الاَخر خبيب بن عبد الرحمن وهو بضم الخاء المعجمة وتقدم بيانه، والله أعلم. وأما معنى الحديث فقال القاضي عياض رحمه الله في قوله غريبا: روى ابن أبي أويس عن مالك رحمه الله أن معناه في المدينة، وأن الإسلام بدأ بها غريبا وسيعود إليها. قال القاضي: وظاهر الحديث العموم، وأن الإسلام بدأ في آحاد من الناس وقلة ثم انتشر وظهر، ثم سيلحقه النقص والإخلال حتى لا يبقى إلا في آحاد وقلة أيضا كما بدأ وجاء في الحديث تفسير الغرباء وهم النزاع من القبائل. قال الهروي: أراد بذلك المهاجرين الذين هجروا أوطانهم إلى الله تعالى. قال القاضي: وقوله صلى الله عليه وسلم: "وهو يأرز إلى المدينة" معناه أن الإيمان أولاً وآخرا بهذه الصفة، لأنه في أول الإسلام كان كل من خلص إيمانه وصح إسلامه أتى المدينة إما مهاجرا مستوطنا وإما متشوقا إلى رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومتعلما منه ومتقربا ثم بعده، هكذا في زمن الخلفاء كذلك. ولأخذ سيرة العدل منهم، والإقتداء بجمهور الصحابة رضوان الله عليهم فيها، ثم من بعدهم من العلماء الذين كانوا سرج الوقت وأئمة الهدى لأخذ السنن المنتشرة بها عنهم، فكان كل ثابت الإيمان منشرح الصدر به يرحل إليها، ثم بعد ذلك في كل وقت إلى زماننا لزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم والتبرك بمشاهده وآثاره وآثار أصحابه الكرام، فلا يأتيها إلا مؤمن، هذا كلام القاضي، والله أعلم بالصواب.
*2* باب ذهاب الإيمان آخر الزمان
*حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا عَفّانُ: حَدّثَنَا حَمّادٌ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ للّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَقُومُ السّاعةُ حَتّى لاَ يُقَالَ فِي الأَرْضِ: الله، الله".
حدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَقُومُ السّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: الله، الله".
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض الله الله). وفي الرواية الأخرى: (لا تقوم الساعة على أحد يقول الله). أما معنى الحديث فهو أن القيامة إنما تقوم على شرار الخلق. كما جاء في الرواية الأخرى: (وتأتي الريح من قبل اليمن فتقبض أرواح المؤمنين عند قرب الساعة) وقد تقدم قريبا في باب الريح التي تقبض أرواح المؤمنين بيان هذا، والجمع بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق إلى يوم القيامة). أما ألفاظ الباب ففيه عبد بن حميد قيل اسمه عبد الحميد وقد تقدم بيانه. وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "على أحد يقول الله الله" هو برفع اسم الله تعالى، وقد يغلط فيه بعض الناس فلا يرفعه. واعلم أن الروايات كلها متفقة على تكرير اسم الله تعالى في الروايتين، وهكذا هو في جميع الأصول. قال القاضي عياض رحمه الله: وفي رواية ابن أبي جعفر يقول: لا إله إلا الله، والله سبحانه وتعالى أعلم.
*2* باب الاستسرار بالإِيمان للخائف
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ، وَ أَبُو كُرَيْبٍ (وَاللّفْظُ لاَِبِي كُرَيْبٍ) قَالُوا: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "أَحْصُوا لِي كَمْ يَلْفِظُ الإِسْلاَمَ" قَالَ: فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم! أَتَخَافُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ مَا بَيْنَ السّتّمِائَةٍ إِلَى السّبْعِمائَةٍ؟ قَالَ: "إِنّكُمْ لاَ تَدْرُونَ. لَعَلّكُمْ أَنْ تُبْتَلَوْا" قَالَ، فَابْتُلِينَا. حَتّى جَعَلَ الرّجُلُ مِنّا لاَ نُصَلّي إِلاّ سِرّا.
قال مسلم رحمه الله: (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن عبد الله بن نمير وأبو كريب واللفظ لأبي كريب قالوا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن حذيفة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحصوا لي كم يلفظ الإسلام؟ فقلنا: يا رسول الله أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا، قال: فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا) هذا الإسناد كله كوفيون. وأما متنه فقوله صلى الله عليه وسلم: (أحصوا) معناه عدوا، وقد جاء في رواية البخاري: اكتبوا. وقوله صلى الله عليه وسلم: (كم يلفظ الإسلام) هو بفتح الياء المثناة من تحت، والإسلام منصوب مفعول يلفظ بإسقاط حرف الجر أي يلفظ بالإسلام، ومعناه: كم عدد من يتلفظ بكلمة الإسلام؟ وكم هنا استفهامية ومفسرها محذوف وتقديره: كم شخصا يلفظ بالإسلام، وفي بعض الأصول تلفظ بتاء مثناة من فوق وفتح اللام والفاء المشددة، وفي بعض الروايات للبخاري وغيره: اكتبوا من يلفظ بالإسلام فكتبنا وفي رواية النسائي وغيره: أحصوا لي من كان يلفظ بالإسلام. وفي رواية أبي يعلى الموصلي: أحصوا كل من تلفظ بالإسلام. وأما قوله: ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة فكذا وقع في مسلم وهو مشكل من جهة العربية، وله وجه وهو أن يكون مائة في الموضعين منصوبا على التمييز على قول بعض أهل العربية، وقيل: أن مائة في الموضعين مجرورة على أن تكون الألف واللام زائدتين فلا اعتداد بدخولهما. ووقع في رواية غير مسلم ستمائة إلى سبعمائة، وهذا ظاهر لا إشكال فيه من جهة العريبة. ووقع في رواية البخاري: فكتبنا له ألفا وخمسمائة فقلنا: تخاف ونحن ألف وخمسمائة؟ وفي رواية للبخاري أيضا: فوجدناهم خمسمائة، وقد يقال وجه الجمع بين هذه الألفاظ أن يكون قولهم ألف وخمسمائة المراد به النساء والصبيان والرجال، ويكون قولهم: ستمائة إلى سبعمائة الرجال خاصة، ويكون خمسمائة المراد به المقاتلون، ولكن هذا الجواب باطل برواية البخاري في أواخر كتاب السير في باب كتابة الإمام الناس قال فيها: فكتبنا له ألفا وخمسمائة رجل، والجواب الصحيح إن شاء الله تعالى أن يقال: لعلهم أرادوا بقولهم ما بين الستمائة إلى السبعمائة رجال المدينة خاصة، وبقولهم: فكتبنا له ألفا وخمسمائة هم مع المسلمين حولهم. وأما قوله: ابتلينا فجعل الرجل لا يصلي إلا سرا، فلعله كان في بعض الفتن التي جرت بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فكان بعضهم يخفي نفسه ويصلي سرا مخافة من الظهور والمشاركة في الدخول في الفتنة والحروب، والله أعلم.
*2* باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه والنهي عن عن القطع بالإِيمان من غير دليل قاطع
*حدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْما. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَعْطِ فُلاَنا فَإِنّهُ مُؤْمِنٌ. فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِمٌ" أَقُولُهَا ثَلاَثا. وَيُرَدّدُهَا عَلَيّ ثَلاَثا "أَوْ مُسْلِمٌ" ثُمّ قَالَ: "إِنّي لأُعْطِي الرّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبّ إِلَيّ مِنْهُ. مَخَافَةَ أَنْ يَكُبّهُ اللّهُ فِي النّارِ".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنَ شِهَابٍ، عَنْ عَمّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَى رَهْطَا. وَسَعْدٌ جَالِسٌ فِيهِمْ. قَالَ سَعْدٌ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ. وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيّ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَالله إِنّي لأَرَاهُ مُؤْمِنا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِما"، قَالَ، فَسَكَتّ قَلِيلاً. ثُمّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ، فَوَالله إِنّي لأَرَاهُ مُؤْمِنا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِما" قَالَ، فَسَكَتّ قَلِيلاً. ثُمّ غَلَبَنِي مَا عَلِمْتُ مِنْهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ، فَوَالله إِنّي لأَرَاهُ مُؤْمِنا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْ مُسْلِما. إِنّي لأُعْطِي الرّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبّ إِلَيّ مِنْهُ. خَشْيَةَ أَنْ يُكَبّ فِي النّارِ عَلَى وَجْهِهِ".
حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ الْحُلْوَانِيّ، وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالاَ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) حَدّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدّثَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ أَنّهُ قَالَ: أَعْطَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، رَهْطَا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ. بِمْثِلِ حَدِيثِ ابْن أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمّهِ. وَزَادَ: فَقُمْتُ إِلَى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَارَرْتُهُ. فَقُلْتُ: مَا لَكَ عَنْ فُلاَنٍ.
وحدّثنا الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيّ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ: حَدّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحمّدٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُحمّدَ بْنَ سَعْدٍ يُحَدّثُ هَذَا. فَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي. ثُمّ قَالَ: "أَقِتَالاً؟ أَيْ سَعْدُ! إِنّي لأُعْطِي الرّجُلَ".
فيه حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه. أما ألفاظه فقوله: (قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسما) هو بفتح القاف. وقوله صلى الله عليه وسلم: (أو مسلم) هو بإسكان الواو. وقوله صلى الله عليه وسلم: (مخافة أن يكبه الله في النار) يكبه بفتح الياء يقال: أكب الرجل وكبه الله وهذا بناء غريب، فإن العادة أن يكون الفعل اللازم بغير همزة فيعدى بالهمزة وهنا عكسه، والضمير في يكبه يعود على المعطي أي أتألف قلبه بالإعطاء مخافة من كفره إذا لم يعط. وقوله: (أعطى رهطا) أي جماعة وأصله الجماعة دون العشرة. وقوله: (وهو أعجبهم إلي) أي أفضلهم وأصلحهم في اعتقادي. وقوله: (إني لأراه مؤمنا) هو بفتح الهمزة من لأراه أي لأعلمه ولا يجوز ضمها فإنه قال غلبني ما أعلم منه، ولأنه راجع النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات، ولو لم يكن جازما باعتقاده لما كرر المراجعة. وقوله: عن صالح عن ابن شهاب قال: حدثني عامر بن سعد، هؤلاء ثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض، وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر، فإن صالحا أكبر من الزهري. وأما فقهه ومعانيه ففيه الفرق بين الإسلام والإيمان، وفي هذه المسألة خلاف وكلام طويل، وقدتقدم بيان هذه المسألة وإيضاح شرحها في أول كتاب الإيمان، وفيه دلالة لمذهب أهل الحق في قولهم: إن الإقرار باللسان لا ينفع إلا إذا اقترن به الاعتقاد بالقلب، خلافا للكرامية وغلاة المرجئة في قولهم: يكفي الإقرار، وهذا خطأ ظاهر يراه إجماع المسلمين والنصوص في إكفار المنافقين وهذه صفتهم. وفيه الشفاعة إلى ولاة الأمور فيما ليس بمحرم. وفيه مراجعة المسؤول في الأمر الواحد. وفيه تنبيه المفضول الفاضل على ما يراه مصلحة. وفيه أن الفاضل لا يقبل ما يشار عليه به مطلقا بل يتأمله فإن لم تظهر مصلحته لم يعمل به. وفيه الأمر بالتثبت وترك القطع بما لا يعلم القطع فيه. وفيه أن الإمام يصرف المال في مصالح المسلمين الأهم فالأهم. وفيه أنه لا يقطع لأحد بالجنة على التعيين إلا من ثبت فيه نص كالعشرة وأشباههم، وهذا مجمع عليه عند أهل السنة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أو مسلما" فليس فيه إنكار كونه مؤمنا، بل معناه النهي عن القطع بالإيمان، وأن لفظة الإسلام أولى به، فإن الإسلام معلوم بحكم الظاهر، وأما الإيمان فباطن لا يعلمه إلا الله تعالى، وقد زعم صاحب التحرير أن في هذا الحديث إشارة إلى أن الرجل لم يكن مؤمنا وليس كما زعم بل فيه إشارة إلى إيمانه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جواب سعد: (إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه) معناه: أعطي من أخاف عليه لضعف إيمانه أن يكفر، وأدع غيره ممن هو أحب إليه منه لما أعلمه من طمأنينة قلبه وصلابة إيمانه. وأما قول مسلم رحمه الله في أول الباب: (حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر) فقال أبو علي الغساني: قال الحافظ أبو مسعود الدمشقي: هذا الحديث إنما يرويه سفيان بن عيينة عن معمر عن الزهري، قاله الحميدي وسعيد بن عبد الرحمن ومحمد بن الصباح الجرجاني، كلهم عن سفيان عن معمر عن الزهري بإسناده، وهذا هو المحفوظ عن سفيان. وكذلك قال أبو الحسن الدارقطني في كتابه الاستدراكات. قلت: وهذا الذي قاله هؤلاء في هذا الإسناد، قد يقال: لا ينبغي أن يوافقوا عليه لأنه يحتمل أن سفيان سمعه من الزهري مرة وسمعه من معمر عن الزهري مرة فرواه على الوجهين فلا يقدح أحدهما في الاَخر، ولكن انضمت أمور اقتضت ما ذكروه: منها أن سفيان مدلس وقد قال عن. ومنها أن أكثر أصحابه رووه عن معمر، وقد يجاب عن هذا بما قدمناه من أن مسلما رحمه الله لا يروي عن مدلس قال عن إلا أن يثبت أنه سمعه ممن عنعن عنه وكيف كان، فهذا الكلام في الإسناد لا يؤثر في المتن فإنه صحيح على كل تقدير متصل، والله أعلم.
*2* باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة
*وحدّثني حَرَمْلَةُ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، وَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَحْنُ أَحَقّ بِالشّكّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم إِذْ قَالَ: (رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىَ؟ قَالَ: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قَالَ: بَلَىَ. وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي"). قَالَ: "وَيَرْحَمُ اللّهُ لُوطا، لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدّاعِيَ".
وحدّثني بِهِ، إِنْ شَاءَ اللّهِ، عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحمّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضُبَعِيّ: حَدّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزّهْرِيّ، أَنّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ وَ أَبَا عُبَيْدٍ أَخْبَرَاهُ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ عَنِ الزّهْرِي. وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ "وَلَكِنْ لِيَطْمِئِنّ قَلْبِي". قَالَ: ثُمّ قَرَأَ هَذِهِ الاَيَةَ حَتّى جَازَهَا.
حدّثناه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدّثَنِي يَعْقُوبُ يَعْنِي ابْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ: حَدّثَنَا أَبُو أُوَيْسٍ، عَنِ الزّهْرِيّ كَرِوَايَةِ مَالِكٍ بِإِسْنَادِهِ. وَقَالَ: ثُمّ قَرَأَ هَذِهِ الاَيَةَ حَتّى أَنْجَزَهَا.
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (نحن أحق بالشك من إبراهيم صلى الله عليه وسلم إذ قال: {رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} قال: ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد. ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي) اختلف العلماء في معنى نحن أحق بالشك من إبراهيم على أقوال كثيرة، أحسنها وأصحها ما قاله الإمام أبو إبراهيم المزني صاحب الشافعي وجماعات من العلماء، ومعناه أن الشك مستحيل في حق إبراهيم، فإن الشك في إحياء الموتى لو كان متطرقا إلى الأنبياء لكنت أنا أحق به من إبراهيم وقد علمتم أني لم أشك، فاعلموا أن إبراهيم عليه السلام لم يشك، وإنما خص إبراهيم صلى الله عليه وسلم لكون الاَية قد يسبق إلى بعض الأذهان الفاسدة منها احتمال الشك، وإنما رجح إبراهيم على نفسه صلى الله عليه وسلم تواضعا وأدبا، أو قبل أن يعلم صلى الله عليه وسلم أنه خير ولد آدم. قال صاحب التحرير: قال جماعة من العلماء: لما نزل قول الله تعالى: {أو لم تؤمن} قالت طائفة: شك إبراهيم ولم يشك نبينا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بالشك منه فذكر نحو ما قدمته، ثم قال: ويقع لي فيه معنيان: أحدهما أنه خرج مخرج العادة في الخطاب، فإن من أراد المدافعة عن إنسان قال للمتكلم فيه: ما كنت قائلاً لفلان أو فاعلاً معه من مكروه فقله لي وافعله معي، ومقصوده لا تقل ذلك فيه. والثاني: أن معناه أن هذا الذي تظنونه شكا أنا أولى به، فإنه ليس بشك وإنما هو طلب لمزيد اليقين. وقيل: غير هذا من الأقوال، فنقتصر على هذه لكونها أصحها وأوضحها، والله أعلم. وأما سؤال إبراهيم صلى الله عليه وسلم فذكر العلماء في سببه أوجها أظهرها: أنه أراد الطمأنينة بعلم كيفية الإحياء مشاهدة بعد العلم بها استدلالاً، فإن علم الاستدلال قد تتطرق إليه الشكوك في الجملة بخلاف علم المعاينة فإنه ضروري، وهذا مذهب الإمام أبي منصور الأزهري وغيره. والثاني: أراد اختبار منزلته عند ربه في إجابة دعائه، وعلى هذا قالوا معنى قوله تعالى: {أو لم تؤمن} أي تصدق بعظم منزلتك عندي واصطفائك وخلتك. والثالث: سأل زيادة يقين وإن لم يكن الأول شكا، فسأل الترقي من علم اليقين إلى عين اليقين، فإن بين العلمين تفاوتا. قال سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه: سأل كشف غطاء العيان ليزداد بنور اليقين تمكنا. الرابع: أنه لما احتج على المشركين بأن ربه سبحانه وتعالى يحيي ويميت طلب ذلك منه سبحانه وتعالى ليظهر دليله عيانا. وقيل أقوال أخر كثيرة ليست بظاهرة. قال الإمام أبو الحسن الواحدي رحمه الله: اختلفوا في سبب سؤاله، فالأكثرون على أنه رأى جيفة بساحل البحر يتناولها السباع والطير ودواب البحر فتفكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة، وتطلعت نفسه إلى مشاهدة ميت يحييه ربه، ولم يكن شاكا في إحياء الموتى، ولكن أحب رؤية ذلك، كما أن المؤمنين يحبون أن يروا النبي صلى الله عليه وسلم والجنة، ويحبون رؤية الله تعالى، مع الإيمان بكل ذلك وزوال الشكوكعنه. قال العلماء: والهمزة في قوله تعالى: {أو لم تؤمن} همزة إثبات كقول جرير: ألستم خير من ركب المطايا، والله أعلم. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد" فالمراد بالركن الشديد هو الله سبحانه وتعالى، فإنه أشد الأركان وأقواها وأمنعها. ومعنى الحديث والله أعلم: أن لوطا صلى الله عليه وسلم لما خاف على أضيافه ولم يكن له عشيرة تمنعهم من الظالمين ضاق ذرعه واشتد حزنه عليهم فغلب ذلك عليه فقال في ذلك الحال: لو أن لي بكم قوة في الدفع بنفسي أو آوي إلى عشيرة تمنع لمنعتكم، وقصد لوط صلى الله عليه وسلم إظهار العذر عند أضيافه، وأنه لو استطاع دفع المكروه عنهم بطريق ما لفعله، وأنه بذل وسعه في إكرامهم والمدافعة عنهم، ولم يكن ذلك إعراضا منه صلى الله عليه وسلم عن الاعتماد على الله تعالى، وإنما كان لما ذكرناه من تطييب قلوب الأضياف، ويجوز أن يكون نسي الالتجاء إلى الله تعالى في حمايتهم، ويجوز أن يكون التجأ فيما بينه وبين الله تعالى وأظهر للأضياف التألم وضيق الصدر، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ولو لبثت في السجن طول لبث يوسف لأجبت الداعي) فهو ثناء على يوسف عليه الصلاة والسلام وبيان لصبره وتأنيه، والمراد بالداعي رسول الملك الذي أخبر الله سبحانه وتعالى أنه قال: {ائتوني به فلما جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} فلم يخرج يوسف صلى الله عليه وسلم مبادرا إلى الراحة ومفارقة السجن الطويل، بل تثبت وتوقر وراسل الملك في كشف أمره الذي سجن بسببه، ولتظهر براءته عند الملك وغيره، ويلقاه مع اعتقاده براءته مما نسب إليه، ولا خجل من يوسف ولا غيره، فبين نبينا صلى الله عليه وسلم فضيلة يوسف في هذا وقوة نفسه في الخير، وكمال صبره وحسن نظره. وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه ما قاله تواضعا وإيثارا للإبلاغ في بيان كمال فضيلة يوسف صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وأما ما يتعلق بأسانيد الباب ففيه مما تقدم بيانه المسيب والد سعيد وهو بفتح الياء على المشهور الذي قاله الجمهور، ومنهم من يكسرها وهو قول أهل المدينة. وفيه أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف واسمه عبد الله على المشهور، وقيل اسمه إسماعيل، وقيل لا يعرف اسمه. وفيه قول مسلم رحمه الله: وحدثني به إن شاء الله تعالى عبد الله بن أسماء، هذا مما قد ينكره على مسلم من لا علم عنده ولا خبر لديه، لكون مسلم رحمه الله قال: وحدثني به إن شاء الله تعالى، فيقول: كيف يحتج بشيء يشك فيه، وهذا خيال باطل من قائله، فإن مسلما رحمه الله لم يحتج بهذا الإسناد وإنما ذكره متابعة استشهادا. وقد قدمنا أنهم يحتملون في المتابعات والشواهد ما لا يحتملون في الأصول، والله تعالى أعلم. وفيه أبو عبيد عن أبي هريرة، واسم أبي عبيد هذا سعد بن عبيد المدني مولى عبد الرحمن بن أزهر، ويقال مولى عبد الرحمن بن عوف. وفيه أبو أويس واسمه عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني. ومن ألفاظ الباب قوله: قرأ الاَية حتى جازها. وفي الرواية الأخرى: أنجزها، معنى جازها فرغ منها، ومعنى أنجزها أتمها. وفيه يوسف وفيه ست لغات ضم السين وكسرها وفتحها مع الهمز فيهن وتركه، والله أعلم.
*2* باب وجوب الإِيمان برسالة نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم إِلى جميع الناس ونسخ الملل بملة
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيَ إِلاّ قَدْ أُعْطِيَ مِنَ الاَيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنّمَا كَانَ الّذِي أُوتِيتُ وَحْيا أَوْحَى الله إِلَيّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
حدّثني يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي عَمْرٌو، أَنّ أَبَا يُونُسَ حَدّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لاَ يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الأُمّةِ يَهُودِيّ وَلاَ نَصْرَانِيّ، ثُمّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ، إِلاّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النّارِ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ صَالِحٍ بْنِ صَالِحِ الْهَمَدَانِيّ، عَنِ الشّعْبِيّ، قَالَ: رَأَيْتُ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ سَأَلَ الشّعْبِيّ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو إِنّ مَنْ قِبَلَنَا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ يَقُولُونَ، فِي الرّجُلِ، إِذَا أَعْتَقَ أَمَتَهُ ثُمّ تَزَوّجَهَا: فَهُوَ كَالرّاكِبِ بَدَنَتَهُ. فَقَالَ الشّعْبِيّ: حَدّثَنِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ أَبِي مُوسَىَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ثَلاَثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرّتَيْنِ: رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الكتاب آمَنَ بِنَبِيّهِ وَأَدْرَكَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَ بِهِ وَاتّبَعَهُ وَصَدّقَهُ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَعَبْدٌ مَمْلُوكٌ أَدّى حَقّ الله تَعَالَى وَحَقّ سَيّدِهِ، فَلَهُ أَجْرَانِ، وَرَجُلٌ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ فَغَذَاهَا فَأَحْسَنَ غِذَاءَهَا. ثُمّ أَدّبَهَا فَأَحْسَنَ أَدَبَهَا. ثُمّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوّجَهَا، فَلَهُ أَجْرَانِ"، ثُمّ قَالَ الشّعْبِيّ لِلْخُرَاسَانِيّ: خُذْ هَذَا الْحَدِيثَ بِغَيْرِ شَيْءٍ. فَقَدْ كَانَ الرّجُلُ يَرْحَلُ فِيمَا دُونَ هَذَا إِلَى الْمَدِينَةِ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ. ح وَحَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، كُلّهُمْ عَنْ صَالِحِ بْنِ صَالِحٍ بِهَذَا الاْسْنَادِ، نَحْوَهُ.
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي من الأنبياء إلا قد أعطي من الاَيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة).
وفي الرواية الأخرى: (والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الاَمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار).
وفيه حديث (ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين). أما ألفاظ الباب فقوله صلى الله عليه وسلم: "ما مثله آمن عليه البشر"آمن بالمد وفتح الميم ومثله مرفوع. وفيه قول مسلم: حدثني يونس قال: حدثنا ابن وهب قال: وأخبرني عمرو أن أبا يونس حدثه. فقوله: وأخبرني عمرو هو بالواو في أول وأخبرني، وهي واو حسنة فيها دقيقة نفيسة وفائدة لطيفة، وذلك أن يونس سمع من ابن وهب أحاديث من جملتها هذا الحديث وليس هو أولها، فقال ابن وهب في روايته الحديث الأول أخبرني عمرو بكذا، ثم قال: وأخبرني عمرو بكذا، وأخبرني عمرو بكذا، إلى آخر تلك الأحاديث. فإذا روى يونس عن ابن وهب غير الحديث الأول فينبغي أن يقول: قال ابن وهب وأخبرني عمرو، فيأتي بالواو لأنه سمعه هكذا، ولو حذفها لجاز، ولكن الأولى الإتيان بها ليكون راويا كما سمع، والله أعلم. وأما أبو يونس فاسمه سليم بن جبير وفيه: (هشين عن صالح بن صالح الهمداني عن الشعبي قال: رأيت رجلاً من أهل خراسان سأل الشعبي فقال: يا أبا عمرو) أما هشيم فبضم الهاء وهو مدلس وقد قال عن صالح، وقد قدمنا أن مثل هذا إذا كان في الصحيح محمول على أن هشيما ثبت سماعه لهذا الحديث من صالح. وأما صالح فهو صالح بن صالح بن مسلم بن حيان ولقب حيان حي، قاله أبو علي الغساني وغيره. وأما الهمداني فبإسكان الميم وبالدال المهملة. وأما الشعبي بفتح الشين فاسمه عامر، وفي هذا الإسناد لطيفة يتكرر مثلها وقد تقدم بيانها، وهو أنه قال عن صالح عن الشبعي قال: رأيت رجلاً سأل الشعبي، وهذا الكلام ليس منتظما في الظاهر، ولكن تقديره حدثنا صالح عن الشعبي قال: رأيت رجلاً سأل الشعبي بحديث، وقصة طويلة قال فيها صالح: رأيت رجلاً سأل الشعبي، والله أعلم. وفيه أبو بردة عن أبي موسى، اسم أبي بردة عامر، وقيل الحرث، واسم أبي موسى عبد الله بن قيس. وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: (فغذاها فأحسن غذاءها) أما الأول فبتخفيف الذال، وأما الثاني فبالمد. أما معاني الحديث فالحديث الأول اختلف فيه على أقوال، أحدها: أن كل نبي أعطى من المعجزات ما كان مثله لمن كان قبله من الأنبياء فآمن به البشر. وأما معجزتي العظيمة الظاهرة فهي القرآن الذي لم يعط أحد مثله فلهذا قال: أنا أكثرهم تابعا. والثاني: معناه أن الذي أوتيته لا يتطرق إليه تخييل بسحر وشبهة بخلاف معجزة غيري، فإنه قد يخيل الساحر بشيء مما يقارب صورتها، كما خيلت السحرة في صورة عصا موسى صلى الله عليه وسلم، والخيال قد يروج على بعض العوام، والفرق بين المعجزة والسحر والتخييل يحتاج إلى فكر ونظر، وقد يخطئ الناظر فيعتقدهما سواء. والثالث: معناه أن معجزات الأنبياء انقرضت بانقراض أعصارهم، ولم يشاهدها إلا من حضرها بحضرتهم، ومعجزة نبينا صلى الله عليه وسلم القرآن المستمر إلى يوم القيامة، مع خرق العادة في أسلوبه وبلاغته وإخباره بالمغيبات، وعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بسورة من مثله مجتمعين أو متفرقين في جميع الأعصار مع اعتنائهم بمعارضته فلم يقدروا وهم أفصح القرون، مع غير ذلك من وجوه إعجازه المعروفة، والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: (فأرجوا أن أكون أكثرهم تابعا) علم من أعلام النبوة، فإنه أخبر عليه السلام بهذا في زمن قلة المسلمين، ثم من الله تعالى وفتح على المسلمين البلاد وبارك فيهم حتى انتهى الأمر واتسع الإسلام في المسلمين إلى هذه الغاية المعروفة، ولله الحمد على هذه النعمة وسائر نعمه التي لا تحصى، والله أعلم. وأما الحديث الثاني ففي نسخ الملل كلها برسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، وفي مفهومه دلالة على أن من لم تبلغه دعوة الإسلام فهو معذور، وهذا جار على ما تقدم في الأصول أنه لا حكم قبل ورود الشرع على الصحيح، والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يسمع بي أحد من هذه الأمة" أي ممن هو موجود في زمني وبعدي إلى يوم القيامة، فكلهم يجب عليه الدخول في طاعته، وإنما ذكر اليهودي والنصراني تنبيها على من سواهما، وذلك لأن اليهود والنصارى لهم كتاب، فإذا كان هذا شأنهم مع أن لهم كتابا فغيرهم ممن لا كتاب له أولى، والله أعلم. وأما الحديث الثالث ففيه فضيلة من آمن من أهل الكتاب بنبينا صلى الله عليه وسلم وأن له أجرين لإيمانه بنبيه قبل النسخ والثاني لإيمانه بنبينا صلى الله عليه وسلم، وفيه فضيلة العبد المملوك القائم بحقوق الله تعالى وحقوق سيده وفضيلة من أعتق مملوكته وتزوجها، وليس هذا من الرجوع في الصدقة في شيء، بل هو إحسان إليها بعد إحسان. وقول الشعبي: (خذ هذا الحديث بغير شيء فقد كان الرجل يرحل فيما دون هذا إلى المدينة) ففيه جواز قول العالم مثل هذا تحريضا للسامع على حفظ ما قاله، وفيه بيان ما كان السلف رحمهم الله عليه من الرحلة إلى البلدان البعيدة في حديث واحد أو مسألة واحدة، والله أعلم.
*2* باب نزول عيسى ابن مريم حاكما بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ رُمْحٍ: أَخْبَرَنَا اللّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيّبِ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُوشِكَنّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم حَكَما مُقْسِطا. فَيَكْسِرُ الصّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضُ الْمَالُ حَتّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ".
وحدّثناه عَبْدُ الأَعْلَىَ بْنُ حَمّادٍ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا: حَدّثَنَا سُفْيَانُ ابْنُ عُيَيْنَةَ. ح وَحَدّثَنِيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدّثَنِي يُونُسُ. ح وَحَدّثَنَا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيّ و عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ. كُلّهُمْ عَنِ الزّهْرِيّ بِهَذَا الاْسْنَادِ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عُيَيْنَةَ "إِمَاما مُقْسِطا وَحَكَما عَدْلاً". وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ: "حَكَما عَادِلاً" وَلَمْ يَذْكُرْ "إِمَاما مُقْسِطا". وَفِي حَدِيثِ صَالِحٍ "حَكَما مُقْسِطا". كَمَا قَالَ اللّيْثُ، وَفِي حَدِيثِهِ، مِنَ الزّيَادَةِ "وَحَتّى تَكُونَ السّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرا مِنَ الدّنْيَا وَمَا فِيهَا".
ثُمّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاّ لَيْؤُمِنَنّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} (النساء آية: 9) الاَيَةَ.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِينَاءِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "وَالله لَيَنْزِلَنّ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَما عَادِلاً، فَلْيَكْسرَنّ الصّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنّ الْجِزْيَةَ، وَلَتُتْرَكَنّ الْقِلاَصُ فَلاَ يُسْعَى عَلَيْهَا. وَلَتَذْهَبَنّ الشّحْنَاءُ وَالتّبَاغُضُ وَالتّحَاسُدُ. وَلَيَدْعُوَنّ (وَلَيُدْعَوُنّ) إِلَى الْمَالِ فَلاَ يَقْبَلُهُ أَحَدٌ".
حدّثني حَرَمْلَةُ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، مَوْلَىَ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيّ، أَنّ أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ، وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ؟".
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَمّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ مَوْلَىَ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيّ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ فِيكُمْ وَأَمّكُمْ؟".
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنِي الْوَلِيْدُ بْنُ مُسْلِمٍ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ نَافِعٍ، مَوْلَىَ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ فَأَمّكُمْ مِنْكُمْ؟" فَقُلْتُ لاِبْنِ أَبِي ذِئْبٍ: إِنّ الأَوْزَاعِيّ حَدّثَنَا عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ "وَإِمَامَكُمْ مِنْكُمْ" قَالَ ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، تَدْرِي مَا أَمّكُمْ مِنْكُمْ؟ قُلْتُ: تُخْبِرُنِي. قَالَ: فَأَمّكُمْ بِكِتَابِ رَبّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَسُنّةِ نَبِيّكُمْ صلى الله عليه وسلم.
حدّثنا الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ وَ هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَ حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ قَالُوا: حَدّثَنَا حَجّاجٌ (وَهُوَ ابْنُ مُحَمّدٍ) عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله يَقُولُ: سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَيَنْزِلُ عِيسَىَ ابْنُ مَرْيَمَ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ أَمِيرُهُمْ: تَعَالَ فَصَلّ لَنَا. فَيَقُولُ: لاَ. إِنّ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ أُمَرَاءُ. تَكْرِمَةَ الله هَذِهِ الأُمّةَ".
فيه الأحاديث المشهورة فنذكر ألفاظها ومعانيها وأحكامها على ترتيبها. فقوله صلى الله عليه وسلم: (ليوشكن أن ينزل فيكم عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم حكما مقسطا فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد) أما ليوشكن فهو بضم الياء وكسر الشين ومعناه ليقربن. وقوله فيكم أي في هذه الأمة، وإن كان خطابا لبعضها ممن لا يدرك نزوله. وقوله صلى الله عليه وسلم: (حكما) أي ينزل حاكما بهذه الشريعة، لا ينزل نبيا برسالة مستقلة وشريعة ناسخة، بل هو حاكم من حكام هذه الأمة والمقسط العادل، يقال: أقسط يقسط إقساطا فهو مقسط إذا عدل، والقسط بكسر القاف العدل، وقسط يقسط قسطا بفتح القاف فهو قاسط إذا جار. وقوله صلى الله عليه وسلم: (فيكسر الصليب) معناه يكسره حقيقة ويبطل ما يزعمه النصارى من تعظيمه، وفيه دليل على تغيير المنكرات وآلات الباطل. وقتل الخنزير من هذا القبيل، وفيه دليل للمختار من مذهبنا ومذهب الجمهور أنا إذا وجدنا الخنزير في دار الكفر أو غيرها وتمكنا من قتله قتلناه، وإبطال القول من شذ من أصحابنا وغيرهم فقال: يترك إذا لم يكن فيه ضراوة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ويضع الجزية) فالصواب في معناه أنه لا يقبلها، ولا يقبل من الكفار إلا الإسلام، ومن بذل منهم الجزية لم يكف عنه بها بل لا يقبل إلا الإسلام أو القتل، هكذا قاله الإمام أبو سليمان الخطابي وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى. وحكى القاضي عياض رحمه الله عن بعض العلماء معنى هذا ثم قال: وقد يكون فيض المال هنا من وضع الجزية وهو ضربها على جميع الكفرة فإنه لا يقاتله أحد فتضع الحرب أوزارها، وانقياد جميع الناس له، إما بالإسلام وإما بإلقاء يد، فيضع عليه الجزية ويضربها. وهذا كلام القاضي وليس بمقبول، والصواب ما قدمناه وهو أنه لا يقبل منه إلا الإسلام، فعلى هذا قد يقال: هذا خلاف حكم الشرع اليوم، فإن الكتابي إذا بذل الجزية وجب قبولها ولم يجز قتله ولا إكراهه على الإسلام. وجوابه: أن هذا الحكم ليس بمستمر إلى يوم القيامة، بل هو مقيد بما قبل عيسى عليه السلام. وقد أخبرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه الأحاديث الصحيحة بنسخه، وليس عيسى عليه السلام هو الناسخ، بل نبينا صلى الله عليه وسلم هو المبين للنسخ، فإن عيسى يحكم بشرعنا، فدل على أن الامتناع من قبول الجزية في ذلك الوقت هو شرع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ويفيض المال) فهو بفتح الياء ومعناه يكثر وتنزل البركات وتكثر الخيرات بسبب العدل، وعدم التظالم، وتقيء الأرض أفلاذ كبدها كما جاء في الحديث الاَخر، وتقل أيضا الرغبات لقصر الاَمال وعلمهم بقرب الساعة، فإن عيسى صلى الله عليه وسلم علم من أعلام الساعة، والله أعلم.
وأما قوله في الرواية الأخرى: (حتى تكون السجدة الواحدة خيرا من الدنيا وما فيها) فمعناه والله أعلم أن الناس تكثر رغبتهم في الصلاة وسائر الطاعات لقصر آمالهم وعلمهم بقرب القيامة وقلة رغبتهم في الدنيا لعدم الحاجة إليها، وهذا هو الظاهر من معنى الحديث. وقال القاضي عياض رحمه الله: معناه أن أجرها خير لمصليها من صدقته بالدنيا وما فيها لفيض المال حينئذ وهوانه وقلة الشح وقلة الحاجة إليه للنفقة في الجهاد، قال: والسجدة هي السجدة بعينها أو تكون عبارة عن الصلاة، والله أعلم. وأما قوله: (ثم يقول أبو هريرة اقرؤوا إن شئتم: {وأن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} ففيه دلالة ظاهرة على أن مذهب أبي هريرة في الاَية أن الضمير في موته يعود على عيسى عليه السلام، ومعناها: وما من أهل الكتاب يكون في زمن عيسى عليه السلام إلا من آمن به وعلم أنه عبد الله وابن أمته، وهذا مذهب جماعة من المفسرين. وذهب كثيرون أو الأكثرون إلى أن الضمير يعود على الكتابي ومعناها: وما من أهل الكتاب أحد يحضره الموت إلا آمن عند الموت قبل خروج روحه بعيسى صلى الله عليه وسلم، أنه عبد الله وابن أمته، ولكن لا ينفعه هذا الإيمان لأنه في حضرة الموت وحالة النزع، وتلك الحالة لا حكم لما يفعل أو يقال فيها، فلا يصح فيها إسلام ولا كفر، ولا وصية، ولا بيع، ولا عتق، ولا غير ذلك من الأقوال لقول الله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الاَن} وهذا المذهب أظهر، فإن الأول يخص الكتابي، وظاهر القرآن عمومه لكل كتابي في زمن عيسى وقبل نزوله، ويؤيد هذا قراءة من قرأ قبل موتهم، وقيل: إن الهاء في به يعود على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، والهاء في موته تعود على الكتابي، والله أعلم. قوله في الإسناد: (عن عطاء بن ميناء) هو بكسر الميم بعدها ياء مثناة من تحت ساكنة ثم نون ثم ألف ممدودة هذا هو المشهور، وقال صاحب المطالع: يمد ويقصر، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (وليتركن القلاص فلا يسعى عليها) فالقلاص بكسر القاف جمع قلوص بفتحها وهي من الإبل كالفتاة من النساء والحدث من الرجال، ومعناه أن يزهد فيها ولا يرغب في اقتنائها لكثرة الأموال وقلة الاَمال وعدم الحاجة والعلم بقرب القيامة، وإنما ذكرت القلاص لكونها أشرف الإبل التي هي أنفس الأموال عند العرب، وهو شبيه بمعنى قول الله عز وجل: {وإذا العشار عطلت} ومعنى لا يسعى عليها لا يعتني بها أي يتساهل أهلها فيها ولا يعتنون بها، هذا هو الظاهر. وقال القاضي عياض وصاحب المطالع رحمهما الله: معنى لا يسعى عليها أي لا تطلب زكاتها إذ لا يوجد من يقبلها، وهذا تأويل باطل من وجوه كثيرة تفهم من هذا الحديث وغيره، بل الصواب ما قدمناه، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ولتذهبن الشحناء) فالمراد به العداوة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (وليدعون إلى المال فلا يقبله أحد) هو بضم العين وفتح الواو وتشديد النون، وإنما لا يقبله أحد لما ذكرنا من كثرة الأموال وقصر الاَمال وعدم الحاجة وقلة الرغبة للعلم بقرب الساعة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة) فقد قدمنا بيانه والجمع بينه وبين حديث: "لا تقوم الساعة على أحد يقول الله الله". وقوله: (تكرمة الله هذه الأمة) هو بنصب تكرمة على المصدر أو على أنه مفعول له، والله أعلم.
*2* باب بيان الزمن الذي لا يقبل فيه الإِيمان
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ، وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَ عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ قَالُوا: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ)، عَنِ الْعَلاَءِ (وَهُوَ ابْنُ عَبْد الرّحْمَنِ)، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا. فَإِذَا طَلَعَتْ مِنْ مَغْرِبِهَا آمَنَ النّاسُ كُلّهُمْ أَجْمَعُونَ، {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يَنْفَعُ نَفْسا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرا} (الأنعام الاَية: 8).
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ وَ أَبُو كُرَيْبٍ قَالُوا: حَدّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ. ح وَحَدّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ، كِلاَهُمَا، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيّ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ ذَكْوَانَ، عَنْ عَبْدْ الرّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ الْعَلاءِ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالاَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا إِسْحَقَ بْنُ يُوسُفَ الأَزْرَقَ، جَمِيعا عَنْ فُضَيْلٍ بْنِ غَزْوَانَ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ (وَاللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنَا ابْنُ فَضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثَلاَثٌ إِذَا خَرَجْنَ، لاَ يَنْفَعُ نَفْسا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرا: طُلُوعُ الشّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَالدّجّالُ، وَدَابّةُ الأَرْضِ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ جَمِيعا عَنِ ابْنِ عُلَيّةَ قَالَ ابْنُ أَيّوبَ: حَدّثَنَا ابْنُ عُلَيّةَ: حَدّثَنَا يُونُسُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ التّيْمِيّ (سَمِعهُ فِيمَا أَعْلَمُ) عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ، يَوْما: "أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشّمْسُ؟" قَالُوا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "إِنّهَا هَذِهِ تَجْرِي حَتّى تَنْتَهِيَ إِلَىَ مُسْتَقَرّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرّ سَاجِدَةً. فَلاَ تَزَالُ كَذَلِكَ حَتّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ. فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلعِهَا، ثُمّ تَجْرِي حَتّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ، فَتَخِرّ سَاجِدَةً. وَلاَ تَزَالُ كَذَلِكَ حَتّى يُقَالَ لَهَا: ارْتَفِعِي، ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَرْجِعُ. فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَطْلِعِهَا. ثُمّ تَجْرِي لاَ يَسْتَنْكِرُ النّاسُ مِنْهَا شَيْئا حَتّى تَنْتَهِيَ إِلَى مُسْتَقَرّهَا ذَاكَ، تَحْتَ الْعَرْشِ. فَيُقَالُ لَهَا: ارْتَفِعِي، أَصْبِحِي طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِكِ. فَتُصْبِحُ طَالِعَةً مِنْ مَغْرِبِهَا". فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَدْرُونَ مَتَى ذَاكُمْ؟ ذَلِكَ حِينَ {لاَ يَنْفَعُ نَفْسا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرا} (الأنعام آية: 8).
وحدّثني عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ الْوَاسِطِيّ. أَخْبَرَنَا خَالِدٌ (يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ اللّهِ) عَنْ يُونُسَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التّيْمِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرّ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: يَوْمَا "أَتَدْرُونَ أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ الشّمْسُ؟" بِمِثْلِ مَعْنَىَ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيّةَ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ (وَاللّفْظُ لاَِبِي كُرَيْبٍ) قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدّثَنَا الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التّيْمِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذرَ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ. فَلَمّا غَابَتِ الشّمْسُ قَالَ: "يَا أَبَا ذَرّ! هَلْ تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ؟" قَالَ، قُلْتُ: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "فَإِنّهَا تَذْهَبُ فَتَسْتَأْذِنُ فِي السّجُودِ. فَيُؤْذَنُ لَهَا. وَكَأَنّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا: ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ، فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا".
قَالَ: ثُمّ قَرَأَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ الله: (وَذَلِكَ مُسْتَقَرّ لَهَا).
حَدّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجّ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا وَقَالَ الأَشَجّ: حَدّثَنَا) وَكِيعٌ: حَدّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التّيْمِيّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَرَ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَوْلِ الله تَعَالَى: {وَالشّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرَ لَهَا}؟ (يَس الاَية: ) قَالَ: "مُسْتَقَرّهَا تَحْتَ الْعَرْشِ".
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم أجمعون، فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا).
وفي الرواية الأخرى: (ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض) قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث على ظاهره عند أهل الحديث والفقه والمتكلمين من أهل السنة خلافا لما تأولته الباطنية.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الاَخر في الشمس: (مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة) فهذا مما اختلف المفسرون فيه، فقال جماعة بظاهر الحديث، قال الواحدي: وعلى هذا القول إذا غربت كل يوم استقرت تحت العرش إلى أن تطلع من مغربها. وقال قتادة ومقاتل: معناه تجري إلى وقت لها وأجل لا تتعداه. قال الواحدي: وعلى هذا مستقرها انتهاء سيرها عند انقضاء الدنيا وهذا اختيار الزجاج. وقال الكلبي: تسير في منازلها حتى تنتهي إلى آخر مستقرها الذي لا تجاوزه ثم ترجع إلى أول منازلها. واختار ابن قتيبة هذا القول، والله أعلم. وأما سجود الشمس فهو بتمييز وإدراك بخلق الله تعالى فيها، وفي الإسناد عبد الحميد بن بيان الواسطي هو بباء موحدة ثم ياء مثناة من تحت، وفي هذا الحديث بقايا تأتي في آخر الكتاب إن شاء الله تعالى حيث ذكره مسلم رحمه الله تعالى، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
*2* باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
*حدّثني أَبُو الطّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ: حَدّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ أَنّ عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ، أَنّهَا قَالَتْ: كَانَ أَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيِ الرّؤْيَا الصّادِقَةَ فِي النّوْمِ. فَكَانَ لاَ يَرَى رُؤْيَا إِلاّ جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصّبْحِ. ثُمّ حُبّبَ إِلَيْهِ الْخَلاَءُ، فَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ يَتَحَنّثُ فِيهِ، (وَهُوَ التّعَبّدُ)اللّيَالِيَ أُولاَتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوّدُ لِذَلِكَ، ثُمّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوّدُ لِمِثْلِهَا حَتّى فَجِئَهُ الْحَقّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: "مَا أَنَا بِقَارِئٍ" قَالَ، فَأَخَذَنِي فَغَطّنِي حَتّى بَلَغَ مِنّي الْجَهْدَ، ثُمّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، قَالَ فَأَخَذَنِي فَغَطّنِي الثّانِيَةَ حَتّى بَلَغَ مِنّي الْجَهْدَ ثُمّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ فَأَخَذَنِي فَغَطّنِي الثّالِثَةَ حَتّى بَلَغَ مِنّي الْجَهْدَ. ثُمّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبّكَ الأَكْرَمُ. الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ. عَلّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} (العلق الاَيات: ) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حَتّى دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ فَقَالَ: "زَمّلُونِي زَمّلُونِي" فَزَمّلُوهُ حَتّى ذَهَبَ عَنْهُ الرّوْعُ. ثُمّ قَالَ لِخَدِيجَةَ: "أَيْ خَدِيجَةُ! مَا لِي" وَأَخْبَرَهَا الْخَبَرَ. قَالَ: "لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي" قَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: كَلاّ. أَبْشِرْ. فَوَاللّهِ لاَ يُخْزِيكَ الله أَبَدا. وَاللّهِ إِنّكَ لَتَصِلُ الرّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ، وَتَحْمِلُ الْكَلّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتّى أَتَتْ بِهِ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى. وَهُوَ ابْنُ عَمّ خَدِيجَةَ، أَخِي أَبِيهَا. وَكَانَ امْرَأً تَنَصّرَ فِي الْجَاهِلِيّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ الْعَرَبِيّ وَيَكْتُبُ مِنَ الإِنْجِيلِ بِالْعَرَبِيّةِ مَا شَاءَ الله أَنْ يَكْتُبَ. وَكَانَ شَيْخا كَبِيرا قَدْ عَمِيَ. فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: أَيْ عَمّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ. قَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَبَرَ مَا رَآهُ. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النّامُوسُ الّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم. يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعا. يَا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَ مُخْرِجِيّ هُمْ؟" قَالَ وَرَقَةُ: نَعَمْ، لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطّ بِمَا جِئْتَ بِهِ إِلاّ عُودِيَ، وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرا مُؤَزّرا".
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: قَالَ الزّهْرِيّ: وَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا قَالَتْ: أَوّل مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْىِ: وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ:: فَوَالله! لاَ يُخْزِنُكَ اللّهُ أَبَدا. وَقَالَ: قَالَتْ خَدِيجَةُ: أَيِ ابْنَ عَمّ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ.
وحدّثني عَبْدُ الْمَلِكَ بْنُ شُعَيْبٍ بْنِ اللّيْثِ قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدّي قَالَ: حَدّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: سَمِعْتُ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ زَوْجُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: فَرَجَعَ إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجِفُ فُوءَادُهُ. وَاقْتَصّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ أَوّلَ حَدِيِثِهِمَا مِنْ قوله: أَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْوَحْيَ: الرّؤْيَا الصّادِقَةُ. وَتَابَعَ يُونُسَ عَلَى قوله: فَوَاللّهِ! لاَ يُخْزِيكَ اللّهُ أَبْدَا. وَذَكَرَ قَولَ خَدِيجَةَ: أَيِ ابْنَ عَمّ! اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: حَدّثَنِي يُونُسُ. قَالَ: قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَني أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّ جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الأَنْصَارِيّ (وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم) كَانَ يُحَدّثُ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يُحَدّثُ عَنْ فَتْرَةِ الْوَحْيِ (قَالَ فِي حَدِيثِهِ): "فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي سَمِعْتُ صَوتا مِنَ السّمَاءِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا الْمَلَكُ الّذِي جَاءَنِي بِحِرَاءٍ جَالِسا عَلَى كُرْسِيَ بَيْنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ" قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَجُئِثْتُ مِنْهُ فَرَقا فَرَجَعْتُ، فَقُلْتُ: زَمّلُونِي زَمّلُونِي. فَدَثّرُونِي. فَأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبّكَ فَكَبّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ. وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ} (المدثر الاَيات: ) وَهِيَ الأَوْثَانُ قَالَ: ثُمّ تَتَابَعَ الْوَحْيُ.
وحدّثني عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللّيْثِ قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي عَنْ جَدّي قَالَ: حَدّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "ثُمّ فَتَرَ الْوَحْيُ عَنّي فَتْرَةً. فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي" ثُمّ ذَكَرَ مِثْلَ حَدِيثِ يُونُسَ غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: "فَجُثِثْتُ مِنْهُ فَرَقا حَتّى هَوَيْتُ إِلَى الأَرْضِ" قَالَ، وَقَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَالرِجْزُ الأَوْثَانُ. قَالَ: ثُمّ حَمِيَ الْوَحْيُ، بَعْدُ، وَتَتَابَعَ.
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ بِهَذَا الاْسْنَادِ نَحْوَ حَدِيثِ يُونُسَ، وقَالَ: فَأَنْزَلَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ} إِلَى قوله: {وَالرّجْزَ فَاهْجُرْ} قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصّلاَةُ. (وَهِيَ الأَوْثَانُ) وَقَالَ: "فَجُثِثْتُ مِنْهُ" كَمَا قَالَ عُقَيْلٌ.
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: حَدّثَنَا الأَوْزَاعِيّ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى يَقُولُ: سَأَلْتُ أَبَا سَلَمَةَ: أَيّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ: {يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ}. فَقُلْتُ: أَوِ اقْرَأْ. فَقَالَ: سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ: أَيّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ؟ قَالَ: يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ. فَقُلْتُ: أَوِ اقْرَأْ؟ قَالَ جَابِرٌ: أُحَدّثُكُمْ مَا حَدّثَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرا. فَلَمّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي. فَنُودِيتُ. فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي وَعَنْ يَمِينِي وَعَنْ شِمَالِي. فَلَمْ أَرَ أَحَدا ثُمّ نُودِيتُ، فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدا. ثُمّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ (يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلاَمُ) فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ. فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ فَقُلْتُ: دَثّرُونِي. فَدَثّرُونِي، فَصَبّوا عَلَيّ مَاءً. فَأَنْزَلَ الله عَزّ وَجَلّ: {يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. وَرَبّكَ فَكَبّرْ. وَثِيَابَكَ فَطَهّرْ} (المدثر الاَيات: ).
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ: أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْنُ الْمَبَارَكِ، عَنْ يَحْيَىَ بْنُ أَبِي كَثِيرٍ بِهَذَا الاْسْنَادِ، وَقَالَ: "فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ".
فيه الأحاديث المشهورة فنذكرها إن شاء الله تعالى على ترتيب ألفاظها ومعانيها. فقوله في الإسناد: (أبو الطاهر بن السرح) هو بالسين والحاء المهملتين والسين مفتوحة. قوله: (أن عائشة رضي الله عنها قالت: كان أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة) هذا الحديث من مراسيل الصحابة رضي الله عنهم، فإن عائشة رضي الله عنها لم تدرك هذه القضية فتكون قد سمعتها من النبيّ صلى الله عليه وسلم أو من الصحابي، وقد قدمنا في الفصول أن مرسل الصحابي حجة عند جميع العلماء إلا ما انفرد به الأستاذ أبو إسحاق الاسفرايني، والله أعلم. وقولها رضي الله عنها: (الرؤيا الصادقة). وفي رواية البخاري رحمه الله: الرؤيا الصالحة وهما بمعنى واحد، وفي من هنا قولان: أحدهما أنها لبيان الجنس، والثاني للتبعيض، ذكرهما القاضي. وقولها: (فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) قال أهل اللغة: فلق الصبح وفرق الصبح بفتح الفاء واللام والراء هو ضياؤه، وإنما يقال هذا في الشيء الواضح البين. قال القاضي رحمه الله وغيره من العلماء: إنما ابتدئ صلى الله عليه وسلم بالرؤيا لئلا يفجأه الملك ويأتيه صريح النبوة بغتة فلا يحتملها قوي البشرية، فبدئ بأول خصال النبوة وتباشير الكرامة من صدق الرؤيا، وما جاء في الحديث الاَخر من رؤية الضوء وسماع الصوت وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة. قولها: (ثم حببت إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه وهو التعبد الليالي أولات العدد قبل أن يرجع إلى أهله ويتزود، ثم يرجع إلى خديجة رضي الله عنها فيتزود لمثلها حتى فجئه الحق) أما الخلاء فممدود وهو الخلوة، وهي شأن الصالحين وعباد الله العارفين. قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: حببت العزلة إليه صلى الله عليه وسلم لأن معها فراغ القلب وهي معينة على التفكير، وبها ينقطع عن مألوفات البشر ويتخشع قلبه، والله أعلم. وأما الغار فهو الكهف والنقب في الجبل وجمعه غيران والمغار، والمغارة بمعنى الغار وتصغير الغار غوير. وأما حراء فبكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء وبالمد وهو مصروف ومذكر هذا هو الصحيح. وقال القاضي: فيه لغتان التذكير والتأنيث والتذكير أكثر، فمن ذكره صرفه، ومن أنثه لم يصرفه، أراد البقعة أو الجهة التي فيها الجبل. قال القاضي: وقال بعضهم فيه حرى بفتح الحاء والقصر وهذا ليس بشيء. قال أبو عمر الزاهد صاحب ثعلب وأبو سليمان الخطابي وغيرهما: أصحاب الحديث والعوام يخطئون في حراء في ثلاثة مواضع: يفتحون الحاء وهي مكسورة، ويكسرون الراء وهي مفتوحة، ويقصرون الألف وهي ممدودة. وحراء جبل بينه وبين مكة نحو ثلاثة أميال عن يسار الذاهب من مكة إلى منى، والله أعلم. وأما التحنث بالحاء المهملة والنون والثاء المثلثة فقد فسره بالتعبد وهو تفسير صحيح، وأصل الحنث الإثم، فمعنى يتحنث يتجنب الحنث، فكأنه بعبادته يمنع نفسه من الحنث، ومثل يتحنث يتحرج ويتأثم أي يتجنب الحرج والإثم. وأما قولها: الليالي أولات العدد فمتعلق بيتحنث لا بالتعبد، ومعناه يتحنث الليالي ولو جعل متعلقا بالتعبد فسد المعنى، فإن التحنث لا يشترط فيه الليالي بل يطلق على القليل والكثير، وهذا التفسير اعترض بين كلام عائشة رضي الله عنها، وأما كلامها فيتحنث فيه الليالي أولات العدد والله أعلم. وقولها: فجئه الحق أي جاءه الوحي بغتة، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متوقعا للوحي، ويقال: فجئه بكسر الجيم وبعدها همزة مفتوحة، ويقال: فجأه بفتح الجيم والهمزة لغتان مشهورتان حكاهما الجوهري وغيره. قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أنا بقارئ) معناه لا أحسن القراءة، فما نافية هذا هو الصواب. وحكى القاضي عياض رحمه الله فيها خلافا بين العلماء، منهم من جعلها نافية، ومنهم من جعلها استفهامية وضعفوه بإدخال الباء في الخبر. قال القاضي: ويصحح قول من قال استفهامية رواية من روى ما أقرأ، ويصح أن تكون ما في هذه الرواية أيضا نافية، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني) أما غطني فبالغين المعجمة والطاء المهملة ومعناه عصرني وضمني، يقال: غطه وغته وضغطه وعصره وخنقه وغمزه كله بمعنى واحد. وأما الجهد فيجوز فتح الجيم وضمها لغتان وهو الغاية والمشقة، ويجوز نصب الدال ورفعها، فعلى النصب بلغ جبريل مني الجهد، وعلى الرفع بلغ الجهد مني مبلغه وغايته، وممن ذكر الوجهين في نصب الدال ورفعها صاحب التحرير وغيره. وأما أرسلني فمعناه أطلقني، قال العلماء: والحكمة في الغط شغله من الالتفات والمبالغة في أمره بإحضار قلبه لما يقوله له، وكرره ثلاثا مبالغة في التنبيه، ففيه أنه ينبغي للمعلم أن يحتاط في تنبيه المتعلم وأمره بإحضار قلبه، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم أرسلني فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق) هذا دليل صريح في أن أول ما نزل من القرآن اقرأ، وهذا هو الصواب الذي عليه الجماهير من السلف والخلف، وقيل: أوله: {يا أيها المدثر} وليس بشيء، وسنذكره بعد هذا في موضعه من هذا الباب إن شاء الله تعالى.
واستدل بهذا الحديث بعض من يقول: أن {بسم الله الرحمن الرحيم} ليست من القرآن في أوائل السور لكونها لم تذكر هنا، وجواب المثبتين لها أنها لم تنزل أولاً بل نزلت البسملة في وقت آخر، كما نزل باقي السورة في وقت آخر. قولها: (ترجف بوادره) بفتح الباء الموحدة، ومعنى ترجف ترعد وتضطرب وأصله شدة الحركة. قال أبو عبيد وسائر أهل اللغة: والغريب وهي اللحمة التي بين المنكب والعنق تضطرب عند فزع الإنسان. قوله صلى الله عليه وسلم: (زملوني زملوني) هكذا هو في الروايات مكرر مرتين، ومعنى زملوني غطوني بالثياب ولفوني بها. وقولها: (فزملوه حتى ذهب عنه الروع) هو بفتح الراء وهو الفزع. قوله صلى الله عليه وسلم: (لقد خشيت على نفسي) قال القاضي رحمه الله: ليس هو بمعنى الشك فيما أتاه من الله تعالى، لكنه ربما خشي أن لا يقوى على مقاومة هذا الأمر، ولا يقدر على حمل أعباء الوحي، فتزهق نفسه أو يكون هذا لأول ما رأى التباشير في النوم واليقظة وسمع الصوت قبل لقاء الملك وتحققه رسالة ربه، فيكون خاف أن يكون من الشيطان الرجيم، فأما منذ جاءه الملك برسالة ربه سبحانه وتعالى فلا يجوز عليه الشك فيه، ولا يخشى من تسلط الشيطان عليه، وعلى هذا الطريق يحمل جميع ما ورد من مثل هذا في حديث البعث، هذا كلام القاضي رحمه الله في شرح صحيح مسلم. وذكر أيضا في كتابه الشفاء هذين الاحتمالين في كلام مبسوط، وهذا الاحتمال الثاني ضعيف لأنه خلاف تصريح الحديث، لأن هذا كان بعد غط الملك وإتيانه باقرأ باسم ربك الذي خلق، والله أعلم. قولها: (قالت له خديجة: كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق). أما قولها كلا فهي هنا كلمة نفي وإبعاد، وهذا أحد معانيها. وقد تأتي كلا بمعنى حقا وبمعنى ألا التي للتنبيه يستفتح بها الكلام، وقد جاءت في القرآن العزيز على أقسام، وقد جمع الإمام أبو بكر بن الأنباري أقسامها ومواضعها في باب من كتابه الوقف والابتداء. وأما قولها: لا يخزيك فهو بضم الياء وبالخاء المعجمة، كذا هو في رواية يونس وعقيل. وقال معمر في روايته: يحزنك بالحاء المهملة والنون، ويجوز فتح الياء في أوله وضمها وكلاهما صحيح، والخزي الفضيحة والهوان. وأما صلة الرحم فهي الإحسان إلى الأقارب على حسب حال الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة بالخدمة، وتارة بالزيادة والسلام، وغير ذلك. وأما الكل فهو بفتح الكاف وأصله الثقل. ومنه قوله تعالى: {وهو كل على مولاه} ويدخل في حمل الكل الإنفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك وهو من الكلال وهو الإعياء. وأما قولها: وتكسب المعدوم فهو بفتح التاء هذا هو الصحيح المشهور، ونقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين قال: ورواه بعضهم بضمها. قال أبو العباس ثعلب وأبو سليمان الخطابي وجماعات من أهل اللغة: يقال كسبت الرجل مالاً وأكسبته مالاً لغتان أفصحهما باتفاقهما كسبته بحذف الألف. وأما معنى تكسب المعدوم فمن رواه بالضم فمعناه تكسب غيرك المال المعدوم أي تعطيه إياه تبرعا فحذف أحد المفعولين، وقيل معناه تعطي الناس ما لا يجدونه عند غيرك من نفائس الفوائد ومكارم الأخلاق. وأما رواية فقيل معناها كمعنى الضم، وقيل معناها تكسب المال المعدوم وتصيب مه ما يعجز غيرك عن تحصيله، وكانت العرب تتمادح بكسب المال المعدوم لا سيما قريش وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم محظوظا في تجارته، وهذا القول حكاه القاضي عن ثابت صاحب الدلائل وهو ضعيف أو غلط، وأي معنى لهذا القول في هذا الموطن إلا أنه يمكن تصحيحه بأن يضم إليه زيادة فيكون معناه: تكسب المال العظيم الذي يعجز عنه غيرك، ثم تجود به في وجوه الخير وأبواب المكارم، كما ذكرت من حمل الكل، وصلة الرحم، وقرى الضيف، والإعانة على نوائب الحق، فهذا هو الصواب في هذا الحرف. وأما صاحب التحرير فجعل المعدوم عبارة عن الرجل المحتاج المعدم العاجز عن الكسب، وسماه معدوما لكونه كالمعدوم الميت، حيث لم يتصرف في المعيشة كتصرف غيره. قال: وذكر الخطابي أن صوابه المعدم بحذف الواو، قال: وليس كما قال الخطابي بل ما رواه الرواة صواب. قال: وقيل معنى تكسب المعدوم أي تسعى في طلب عاجز تنعشه، والكسب هو الاستفادة، وهذا الذي قاله صاحب التحرير، وإن كان له بعض الاتجاه كما حررت لفظه فالصحيح المختار ما قدمته، والله أعلم. وأما قولها: وتقري الضيف فهو بفتح التاء، قال أهل اللغة: يقال قريت الضيف أقريه قرى بكسر القاف مقصور وقراء بفتح القاف والمد، ويقال للطعام الذي يضيفه به قرى بكسر القاف مقصور، ويقال لفاعله قار مثل قضى فهو قاض. وأما قولها: وتعين على نوائب الحق، فالنوائب جمع نائبة وهي الحادثة، وإنما قالت نوائب الحق لأن النائبة قد تكون في الخير وقد تكون في الشر، قال لبيد:
نوائب من خير وشر كلاهمافلا الخير ممدود ولا الشر لازب
قال العلماء رضي الله عنهم: معنى كلام خديجة رضي الله عنها أنك لا يصيبك مكروه لما جعل الله فيك من مكارم الأخلاق وكرم الشمائل، وذكرت ضروبا من ذلك، وفي هذا دلالة على أن مكارم الأخلاق وخصال الخير سبب السلامة من مصارع السوء. وفيه مدح الإنسان في وجهه في بعض الأحوال لمصلحة نظرا، وفيه تأنيس من حصلت له مخافة من أمر وتبشيره وذكر أسباب السلامة له. وفيه أعظم دليل وأبلغ حجة على كمال خديجة رضي الله عنها وجزالة رأيها وقوة نفسها وثبات قلبها وعظم فقهها، والله أعلم. قولها: (وكان امرأ تنصر في الجاهلية) معناه صار نصرانيا، والجاهلية ما قبل رسالته صلى الله عليه وسلم، سموا بذلك لما كانوا عليه من فاحش الجهالة، والله أعلم. قولها: (وكان يكتب الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية ما شاء الله تعالى أن يكتب) هكذا هو في مسلم الكتاب العربي ويكتب بالعربية، ووقع في أول صحيح البخاري يكتب الكتاب العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية وكلاهما صحيح، وحاصلهما أنه تمكن من معرفة دين النصارى، بحيث أنه صار يتصرف في الإنجيل فيكتب أي موضع شاء منه، بالعبرانية إن شاء، وبالعربية إن شاء، والله أعلم. قولها: (فقالت له خديجة رضي الله عنها: أي عم اسمع من ابن أخيك). وفي الرواية الأخرى: (قالت خديجة أي ابن عم) هكذا هو في الأصول في الأول عم وفي الثاني ابن عم، وكلاهما صحيح. أما الثاني فلأنه ابن عمها حقيقة كما ذكره أولاً في الحديث، فإنه ورقة بن نوفل بن أسد، وهي خديجة بنت خويلد بن أسد، وأما الأول فسمته عما مجازا للاحترام، وهذه عادة العرب في آداب خطابهم، يخاطب الصغير الكبير بياعم احتراما له ورفعا لمرتبته، ولا يحصل هذا الغرض بقولها: يا ابن عم، والله أعلم. قوله: (هذا الناموس الذي أنزل على موسى صلى الله عليه وسلم) الناموس بالنون والسين المهملة وهو جبريل صلى الله عليه وسلم، قال أهل اللغة: وغريب الحديث الناموس في اللغة صاحب سر الخير، والجاسوس صاحب سر الشر، ويقال: نمست السر بفتح النون والميم أنمسه بكسر الميم نمسا أي كتمته، ونمست الرجل ونامسته ساررته، واتفقوا على أن جبريل عليه السلام يسمى الناموس، واتفقوا على أنه المراد هنا، قال الهروي: سمي بذلك لأن الله تعالى خصه بالغيب والوحي. وأما قوله: الذي أنزل على موسى صلى الله عليه وسلم فكذا هو في الصحيحين وغيرهما وهو المشهور، ورويناه في غير الصحيح نزل على عيسى صلى الله عليه وسلم وكلاهما صحيح. قوله: (يا ليتني فيها جذعا) الضمير فيها يعود إلى أيام النبوة ومدتها. وقوله: جذعا يعني شابا قويا حتى أبالغ في نصرتك، والأصل في الجذع للدواب وهو هنا استعارة. وأما قوله: جذعا فهكذا هو الرواية المشهورة في الصحيحين وغيرهما بالنصب، قال القاضي: ووقع في رواية ابن ماهان جذع بالرفع، وكذلك هو في رواية الأصيلي في البخاري، وهذه الرواية ظاهرة. وأما النصب فاختلف العلماء في وجهه، فقال الخطابي والمازري وغيرهما. نصب على أنه خبر كان المحذوفة تقديره: ليتني أكون فيها جذعا، وهذا يجيء على مذهب النحويين الكوفيين. وقال القاضي: الظاهر عندي أنه منصوب على الحال وخبر ليت قوله فيها، وهذا الذي اختاره القاضي هو الصحيح الذي اختاره أهل التحقيق والمعرفة من شيوخنا وغيرهم ممن يعتمد عليه، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (أو مخرجي هم) هو بفتح الواو وتشديد الياء هكذا الرواية، ويجوز تخفيف الياء على وجه، والصحيح المشهور تشديدها وهو مثل قوله تعالى: {بمصرخي} وهو جمع مخرج، فالياء الأولى ياء الجمع، والثانية ضمير المتكلم، وفتحت للتخفيف لئلا يجتمع الكسرة والياءان بعد كسرتين. قوله: (وإن يدركني يومك) أي وقت خروجك. قوله: (أنصرك نصرا مؤزرا) هو بفتح الزاي وبهمزة قبلها أي قويا بالغا.
قوله في الرواية الأخرى: (أخبرنا معمر قال: قال الزهري: وأخبرني عروة) هكذا هو في الأصول وأخبرني عروة بالواو وهو الصحيح، والقائل وأخبرني هو الزهري، وفي هذه الواو فائدة لطيفة قدمناها في مواضع، وهي أن معمرا سمع من الزهري أحاديث قال الزهري فيها: أخبرني عروة بكذا، وأخبرني عروة بكذا إلى آخرها، فإذا أراد معمر رواية غير الأول قال: قال الزهري، وأخبرني عروة، فأتى بالواو ليكون راويا كما سمع، وهذا من الاحتياط والتحقيق والمحافظة على الألفاظ والتحري فيها، والله أعلم. قوله في هذه الرواية أعني رواية معمر: (فوالله لا يحزنك الله) هو بالحاء المهملة والنون وقد قدمنا بيانه.
قوله في رواية عقيل وهو بضم العين: (يرجف فؤاده) قد قدمنا في حديث أهل اليمن أرق قلوبا بيان الاختلاف في القلب والفؤاد. وأما علم خديجة رضي الله عنها برجفان فؤاده صلى الله عليه وسلم فالظاهر أنها رأته حقيقة، ويجوز أنها لم تره وعلمته بقرائن وصورة الحال، والله أعلم.
قوله: (أن جابر بن عبد الله الأنصاري وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم) هذا نوع مما يتكرر في الحديث ينبغي التنبيه عليه، وهو أنه قال عن جابر وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما من مشهوري الصحابة أشد شهرة، بل هو أحد الستة الذين هم أكثر الصحابة رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوابه أن بعض الرواة خاطب به من يتوهم أنه يخفى عليه كونه صحابيا فبينه إزالة للوهم واستمرت الرواية به، فإن قيل: فهؤلاء الرواة في هذا الإسناد أئمة جلة فكيف يتوهم خفاء صحبة جابر في حقهم؟ فالجواب أن بيان هذا لبعض كان في حالة صغره قبل تمكنه ومعرفته، ثم رواه عند كماله كما سمعه، وهذا الذي ذكرته في جابر يتكرر مثله في كثيرين من الصحابة وجوابه كله ما ذكرته، والله أعلم. قوله: (يحدث عن فترة الوحي) يعني احتباسه وعدم تتابعه وتواليه في النزول. قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا) هكذا هو في الأصول جالسا منصوب على الحال. قوله صلى الله عليه وسلم: (فجئثت منه) رواه مسلم من رواية يونس وعقيل ومعمر ثم كلهم عن ابن شهاب، وقال في رواية يونس: فجئثت بجيم مضمومة ثم همزة مكسورة ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم تاء الضمير. وقال في رواية عقيل ومعمر: فجثثت بعد الجيم ثاءان مثلثتان، هكذا هو الصواب في ضبط رواية الثلاثة. وذكر القاضي عياض رحمه الله تعالى أنه ضبط على ثلاثة أوجه: منهم من ضبطه بالهمزة في المواضع الثلاثة. ومنهم من ضبطه بالثاء في المواضع الثلاثة. قال القاضي وأكثر الرواة للكتاب: على أنه بالهمز في الموضعين الأولين وهما رواية يونس وعقيل، وبالثاء في الموضع الثالث وهي رواية معمر، وهذه الأقوال التي نقلها القاضي كلها خطأ ظاهر، فإن مسلما رحمه الله قال في رواية عقيل: (ثم ذكر بمثل حديث يونس غير أنه قال فجثثت منه فرقا) ثم قال مسلم في رواية معمر أنها نحو حديث يونس إلا أنه قال: فجثثت منه كما قال عقيل، فهذا تصريح من مسلم بأن رواية معمر وعقيل متفقتان في هذه اللفظة، وأنهما مخالفتان لرواية يونس فيها، فبطل بذلك قول من قال الثلاثة بالثاء أو بالهمزة، وبطل أيضا قول من قال: إن رواية يونس وعقيل متفقة، ورواية معمر مخالفة لرواية عقيل، وهذا ظاهر لا خفاء به ولا شك فيه، والله أعلم. وقد ذكر صاحب المطالع أيضا روايات أخر باطلة مصحفة تركت حكايتها لظهور بطلانها، والله أعلم. وأما معنى هذه اللفظة فالروايتان بمعنى واحد، أعني رواية الهمز ورواية الثاء ومعناها: فزعت ورعبت. وقد جاء في رواية البخاري فرعبت. قال أهل اللغة: جئث الرجل إذا فزع فهو مجؤوث. قال الخليل والكسائي: جئث وجث فهو مجؤوث ومجثوث أي مذعور فزع، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (هويت إلى الأرض) هكذا في الرواية هويت وهو صحيح، يقال: هوى إلى الأرض وأهوى إليها لغتان أي سقط، وقد غلط وجهل من أنكر هوى وزعم أنه لا يقال إلا أهوى، والله أعلم. قوله: (ثم حمي الوحي وتتابع) هما بمعنى فأكد أحدهما بالاَخر، ومعنى حمى كثر نزوله وازداد من قولهم: حميت النار والشمس أي قويت حرارتها.
قوله: (إن أول ما أنزل قوله تعالى: {يا أيها المدثر}) ضعيف بل باطل، والصواب أن أول ما أنزل على الإطلاق {اقرأ باسم ربك} كما صرح به في حديث عائشة رضي الله عنها. وأما: {يا أيها المدثر} فكان نزولها بعد فترة الوحي كما صرح به في رواية الزهري عن أبي سلمة عن جابر، والدلالة صريحة فيه في مواضع: منها قوله وهو يحدث عن فترة الوحي إلى أن قال: فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر} ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: فإذا الملك الذي جاءني بحراء ثم قال: فأنزل الله تعالى: {يا أيها المدثر} ومنها قوله: ثم تتابع الوحي يعني بعد فترته، فالصواب أن أول ما نزل {اقرأ} وأن أول ما نزل بعد فترة الوحي {يا أيها المدثر} وأما قول من قال من المفسرين: أول ما نزل الفاتحة فبطلانه أظهر من أن يذكر، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فاستبطنت الوادي) أي صرت في باطنه. وقوله صلى الله عليه وسلم في جبريل عليه الصلاة والسلام: (فإذا هو على العرش في الهواء) المراد بالعرش الكرسي كما تقدم في الرواية الأخرى على كرسي بين السماء والأرض، قال أهل اللغة: العرش هو السرير، وقيل: سرير الملك. قال الله تعالى: {ولها عرش عظيم} والهواء هنا ممدود يكتب بالألف وهو الجوبين السماء والأرض، كما في الرواية الأخرى: والهواء الخالي، قال الله تعالى: {وأفئدتهم هواء}. قوله صلى الله عليه وسلم: (فأخذتني رجفة شديدة) هكذا هو في الروايات المشهورة رجفة بالراء قال القاضي: ورواه السمرقندي وجفة بالواو وهما صحيحان متقاربان ومعناهما الاضطراب. قال الله تعالى: {قلوب يومئذ واجفة}. وقال تعالى: {يوم ترجف الراجفة} و{يوم ترجف الأرض والجبال} قوله صلى الله عليه وسلم: {فصبوا على ماء} فيه أنه ينبغي أن يصب على الفزع الماء ليسكن فزعه، والله أعلم. وأما تفسير قوله تعالى: {يا أيها المدثر) فقال العلماء: المدثر والمزمل والمتلفف والمشتمل بمعنى واحد، ثم الجمهور على أن معناه المدثر بثيابه. وحكى الماوردي قولاً عن عكرمة أن معناه المدثر بالنبوة وأعبائها. وقوله تعالى: {قم فأنذر} معناه حذر العذاب من لم يؤمن. (وربك فكبر) أي عظمه ونزهه عما لا يليق به. (وثيابك فطهر) قيل معناه طهرها من النجاسة، وقيل: قصرها، وقيل: المراد بالثياب النفس أي طهرها من الذنب وسائر النقائص. (والرجز) بكسر الراء في قراءة الأكثرين، وقرأ حفص بضمها، وفسره في الكتاب بالأوثان، وكذا قاله جماعات من المفسرين، والرجز في اللغة العذاب وسمي الشرك وعبادة الأوثان رجزا لأنه سبب العذاب. وقيل: المراد بالرجز في الاَية الشرك، وقيل: الذنب، وقيل: الظلم، والله أعلم.
*2* باب الإِسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم السماوات وفرض الصلوات
*هذا باب طويل، وأنا أذكر إن شاء الله تعالى مقاصده مختصرة من الألفاظ والمعاني على ترتيبها. وقد لخص القاضي عياض رحمه الله في الإسراء جملاً حسنة نفيسة فقال: اختلف الناس في الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: إنما كان جميع ذلك في المنام، والحق الذي عليه أكثر الناس ومعظم السلف وعامة المتأخرين من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بجسده صلى الله عليه وسلم، والاَثار تدل عليه لمن طالعها وبحث عنها، ولا يعدل عن ظاهرها إلا بدليل، ولا استحالة في حملها عليه فيحتاج إلى تأويل، وقد جاء في رواية شريك في هذا الحديث في الكتاب أوهام أنكرها عليه العلماء، وقد نبه مسلم على ذلك بقوله: فقدم وأخر، وزاد ونقص، منها قوله: وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه، فإن الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر شهرا، وقال الحربي: كان ليلة سبع وعشرين من شهرين ربيع الاَخر قبل الهجرة بسنة، وقال الزهري: كان ذلك بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بخمس سنين. وقال ابن إسحاق: أسري به صلى الله عليه وسلم وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل. وأشبه هذه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق، إذ لم يختلفوا أن خديجة رضي الله عنها صلت معه صلى الله عليه وسلم بعد فرض الصلاة عليه، ولا خلاف أنها توفيت قبل الهجرة بمدة، قيل: بثلاث سنين، وقيل: بخمس. ومنها أن العلماء مجمعون على أن فرض الصلاة كان ليلة الإسراء فكيف يكون هذا قبل أن يوحى إليه؟. وأما قوله في رواية شريك وهو نائم، وفي الرواية الأخرى: بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان. فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم ولا حجة فيه، إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائما في القصة كلها، هذا كلام القاضي رحمه الله، وهذا الذي قاله في رواية شريك، وأن أهل العلم أنكروها قد قاله غيره. وقد ذكر البخاري رحمه الله رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد من صحيحه وأتى بالحديث مطولاً، قال الحافظ عبد الحق رحمه الله في كتابه الجمع بين الصحيحين بعد ذكر هذه الرواية: هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس، وقد زاد فيه زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة. وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس، فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث، قال: والأحاديث التي تقدمت قبل هذا هي المعول عليها، هذا كلام الحافظ عبد الحق رحمه الله.
حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ (وَهُوَ دَابّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ. يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَىَ طَرْفِهِ) قَالَ، فَرَكِبْتُهُ حَتّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. قَالَ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الّتِي يَرْبِطُ بِهِ الأَنْبِيَاءُ. ثُمّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. ثُمّ خَرَجْتُ. فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلاَمُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ، وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ. فَاخْتَرْتُ اللّبَنَ. فَقَالَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ ثُمّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السّمَاءِ. فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا. فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ، فَرَحّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السّمَاءِ الثّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا. فَإِذَا أَنَا بِابْنَي الْخَالَةِ: عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى بْنِ زَكَرِيّاءَ صَلَوَاتُ اللّهِ عَلَيْهِمَا ، فَرَحّبَا، وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمّ عَرَجَ بِي إِلَى السّمَاءِ الثّالِثَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ. فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمّدٌ صلى الله عليه وسلم. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِيُوسُفَ صلى الله عليه وسلم، وَقَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ، فَرَحّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السّمَاءِ الرّابِعَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلاَمُ. قِيلَ: مَنْ هَذَا قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمّدٌ. قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ، فَرَحّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. قَالَ الله عَزّ وَجَلّ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانا عَلِيّا} (مريم آية: ) ثُمّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السّمَاءِ الْخَامِسَةِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ. قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِهَرُونَ صلى الله عليه وسلم، فَرَحّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السّمَاءِ السّادِسَةَ. فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلاَمُ. قِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمّدٌ صلى الله عليه وسلم. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا، فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى صلى الله عليه وسلم، فَرَحّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمّ عَرَجَ إِلَى السّمَاءِ السّابِعَةِ. فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ. فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمّدٌ صلى الله عليه وسلم. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم، مُسْنِدا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ. وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ ملك لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ. ثُمّ ذَهَبَ بِي إِلَى سّدْرَةِ الْمُنْتَهَىَ وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ. وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلاَلِ. قَالَ، فَلَمّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ الله مَا غَشِيَ تَغَيّرَتْ. فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الله يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا. فَأَوْحَى الله إِلَيّ مَا أَوْحَىَ. فَفَرَضَ عَلَيّ خَمْسِينَ صَلاَةً فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: مَا فَرَضَ رَبّكَ عَلَىَ أُمّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلاَةً. قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ. فَاسْأَلْهُ التّخْفِيفَ. فَإِنّ أُمّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ. فَإِنّي قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ. قَالَ، فَرَجَعْتُ إِلَى رَبّي فَقُلْتُ: يَا رَبّ خَفّفْ عَلَى أُمّتِي. فَحَطّ عَنّي خَمْسا. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَىَ فَقُلْتُ: حَطّ عَنّي خَمْسا. قَالَ: إِنّ أُمّتَكَ لاَ يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ التّخْفِيفَ.
قَالَ، فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى عَلَيْهِ السّلاَمُ حَتّى قَالَ: يَا مُحَمّدُ! إِنّهُنّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. لِكُلّ صَلاَةٍ عَشْرٌ. فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاَةً. وَمَنْ هَمّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً. فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرا. وَمَنْ هَمّ بِسَيّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئا. فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيّئَةً وَاحِدَةً. قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتّى انْتَهَيْتُ إِلَى مُوسَىَ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْتُهُ. فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبّكَ فَاسْأَلْهُ التّخْفِيفَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبّي حَتّى اسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ".
حدّثني عَبْدُ اللّهِ بْنُ هَاشِمٍ الْعَبْدِيّ: حَدّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ: حَدّثَنَا سُلَيْمَان بْنُ الْمَغْيرَةِ: حَدّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أُتِيتُ فَانْطَلَقُوا بِي إِلَى زَمْزَمَ، فَشُرِحَ عَنْ صَدْرِي، ثُمّ غُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمّ أُنْزِلْتُ".
حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَاهُ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ. فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقّ عَنْ قَلْبِهِ، فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ، فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً. فَقَالَ: هَذَا حَظّ الشّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمّ غَسَلَهُ فِي طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ. ثُمّ لأَمَهُ. ثُمّ أَعَادَهُ فِي مَكَانِهِ. وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمّهِ (يَعْنِي ظِئْرَهُ) فَقَالُوا: إِنّ مُحَمّدا قَدْ قُتِلَ. فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقَعُ اللّوْنِ. قَالَ أَنَسٌ: وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ.
حدّثنا هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ وَهُوَ ابْنُ بِلاَلٍ قَالَ: حَدّثَنِي شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، يُحَدّثُنَا عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، أَنّهُ جَاءَهُ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَىَ إِلَيْهِ، وَهُوَ نَائِمٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصّتِهِ نَحْوَ حَدِيثِ ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ. وَقَدّمَ فِيهِ شَيْئا وَأَخّرَ. وَزَادَ وَنَقَصَ.
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ التّجِيبِيّ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرَ يُحَدّثُ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكّةَ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم. فَشَقَ صَدْرِي. ثُمّ غَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ. ثُمّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئَا حِكْمَةً وَإِيمَانا. فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي. ثُمّ أَطْبَقَهُ ثُمّ أَخَذَ بِيَدِي عَرَجَ بِي إِلَى السّمَاءِ. فَلَمّا جِئْنَا السّمَاءَ الدّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلاَمُ لِخَازِنِ السّمَاءِ الدّنْيَا: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ. قَالَ: هَلْ مَعَكَ أَحَدٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. مَعِيَ مُحَمّدٌ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَأُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَفَتَحَ قَالَ، فَلَمّا عَلَوْنَا السّمَاءَ الدّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ. وَعَنْ يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ. قَالَ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ. وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَىَ. قَالَ فَقَالَ: مَرْحَبا بِالنّبِيّ الصّالِحِ، وَالاِبْنِ الصّالِحِ. قَالَ قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ صلى الله عليه وسلم. وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ، وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ. فَأَهْلُ الْيَمِينِ أَهْلُ الْجَنّةِ. وَالأَسْوِدَةُ الّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النّارِ. فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ. وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى قَالَ ثُمّ عَرَجَ بِي جِبْرِيلُ حَتّى أَتَىَ السّمَاءَ الثّانِيَةَ. فَقَالَ لِخَازِنِهَا: افْتَحْ. قَالَ: فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ خَازِنُ السّمَاءِ الدّنْيَا. فَفَتَحَ.
فقالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَذَكَرَ أَنّهُ وَجَدَ فِي السّمَاوَاتِ آدَمَ وَإِدْرِيسَ وَعِيسَى وَمُوسَىَ وَإِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ. وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنّهُ ذَكَرَ أَنّهُ قَدْ وَجَدَ آدَمَ عَلَيْهِ السّلاَمُ فِي السّمَاءِ الدّنْيَا. وَإِبْرَاهِيمَ فِي السّمَاءِ السّادِسَةِ. قَالَ: فَلَمّا مَرّ جِبْرِيلُ وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِإِدْرِيسَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ قَالَ: مَرْحَبا بِالنّبِيّ الصّالِحِ وَالأَخِ الصّالِحِ. قَالَ ثُمّ مَرّ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: هَذَا إِدْرِيسُ. قَالَ: ثُمّ مَرَرْتُ بِمُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَقَالَ: مَرْحَبا بِالنّبِيّ الصّالِحِ، وَالأَخِ الصّالِحِ. قَالَ قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَىَ. قَالَ: ثُمّ مَرَرْتُ بِعِيسَىَ. فَقَالَ: مَرْحَبا بِالنّبِيّ الصّالِحِ، وَالأَخِ الصّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا عِيسىَ بْنُ مَرْيَمَ. قَالَ: ثُمّ مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَقَالَ: مَرْحَبا بِالنّبِيّ الصّالِحِ وَالإِبْنِ الصّالِحِ. قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ: أَنّ ابْنَ عَبّاسٍ، وَأَبَا حَبّةَ الأَنْصَارِيّ كَانَا يَقُولاَنِ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "ثُمّ عَرَجَ بِي حَتّى ظَهَرْتُ لِمُسْتَوىً أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ".
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَفَرَضَ الله عَلَى أُمّتِي خَمْسِينَ صَلاَةً. قَالَ: فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ حَتّى أَمُرّ بِمُوسَىَ فَقَالَ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ: مَاذَا فَرَضَ رَبّكَ عَلَى أُمّتِكَ؟ قَالَ قُلْتُ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ صَلاَةً. قَالَ لِي مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ: فَرَاجِعْ رَبّكَ. فَإِنّ أُمّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ. قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبّي فَوَضَعَ عَنِي شَطْرَهَا. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ فَأَخْبَرْتُهُ. قَالَ: رَاجِعْ رَبّكَ. فَإِنّ أُمّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلكَ. قَالَ: فَرَاجَعْتُ رَبّي. فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ. لاَ يُبَدّلُ الْقَوْلُ لَدَيّ. قَالَ فَرَجَعْتُ إِلَىَ مُوسَىَ. فَقَالَ: رَاجِعْ رَبّكَ. فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبّي. قَالَ ثُمّ انْطَلَقَ بِي جِبْرِيلُ حَتّى نَأْتِيَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَىَ. فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ. قَالَ: ثُمّ أُدْخِلْتُ الْجَنّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيّ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ (لَعَلّهُ قَالَ) عَنْ مَالِكٍ بْنِ صَعْصَعَةَ (رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ) قَالَ: قَالَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَا أَنَا عند البيت بَيْنَ النّائِمِ وَالْيَقْظَانِ. إِذْ سَمِعْتُ قَائِلاً يَقُولُ: أَحَدُ الثّلاَثَةِ بَيْنَ الرّجُلَيْنِ. فَأُتِيتُ فَانْطُلِقَ بِي. فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ. فَشُرِحَ صَدْرِي إِلَى كَذَا وكَذَا. (قَالَ قَتَادَةُ: فَقُلْتُ لِلّذِي مَعِي: مَا يَعْنِي؟ قَالَ: إِلَى أَسْفَلِ بَطْنِهِ) فَاسْتُخْرِجَ قَلْبِي، فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمّ أُعِيدَ مَكَانَهُ. ثُمّ حُشِيَ إِيمَانا وَحِكْمَةً. ثُمّ أُتِيتُ بِدَابّةٍ أَبْيَضَ يُقَالُ لَهُ الْبُرَاقُ. فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ. يَقَعُ خَطْوُهُ عِنْدَ أَقْصَى طَرْفِهِ، فَحُمِلْتُ عَلَيْهِ. ثُمّ انْطَلَقْنَا حَتّى أَتَيْنَا السّمَاءَ الدّنْيَا، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم. فَقِيلَ: مَنْ هَذَا؟؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمّدٌ صلى الله عليه وسلم. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ فَفَتَحَ لَنَا. وَقَالَ: مَرْحَبا بِهِ. وَلَنِعْمَ الْمَجِيءُ جَاءَ. قَالَ: فَأَتَيْنَا عَلَى آدَمَ صلى الله عليه وسلم. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصّتِهِ. وَذَكَرَ أَنّهُ لَقِيَ فِي السّمَاءِ الثّانِيَةِ عِيسَىَ وَيَحْيَىَ عَلَيْهِمَا السّلاَمُ. وَفِي الثّالِثَةِ يُوسُفَ. وَفِي الرّابِعَةِ إِدْرِيسَ. وَفِي الْخَامِسَةِ هَرُونَ صل الله عليهم وسلم قَالَ: ثُمّ انْطَلَقْنَا حَتّى انْتَهَيْنَا إِلَى السّمَاءِ السّادِسَةِ. فَأَتَيْتُ عَلَى مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ فَسَلّمْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَرْحَبا بِالأَخِ الصّالِحِ وَالنّبِيّ الصّالِحِ. فَلَمّا جَاوَزْتُهُ بَكَىَ. فَنُودِيَ: مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: رَبّ هَذَا غُلاَمٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي. يَدْخُلُ مِنْ أُمّتِهِ الْجَنّةَ أَكْثَرُ مِمّا يَدْخُلُ مِنْ أُمّتِي. قَالَ: ثُمّ انْطَلَقْنَا حَتّى انْتَهيْنَا إلى السماءِ السابعةِ. فأَتَيتُ على إبراهيم". وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: وَحَدّثَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ "فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَا هَذِهِ الأَنْهَارُ؟ قَالَ: أَمّا النّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الْجَنّةِ. وَأَمّا الظّاهِرَانِ فَالنّيلُ وَالْفُرَاتُ. ثُمّ رُفِعَ لِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ. فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ! مَا هَذَا؟ قَالَ هَذَا الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ. يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ. إِذَا خَرَجُوا مِنْهُ لَمْ يَعُودُوا فِيهِ آخِرُ مَا عَلَيْهِمْ. ثُمّ أُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا خَمْرٌ وَالاَخَرُ لَبَنٌ. فَعُرِضَا عَلَيّ. فَاخْتَرْتُ اللّبَنَ. فَقِيلَ: أَصَبْتَ، أَصَابَ الله بِكَ. أُمّتُكَ عَلَى الْفِطْرَةِ. ثُمّ فُرِضَتْ عَلَيّ كُلّ يَوْمٍ خَمْسُونَ صَلاَةً". ثُمّ ذَكَرَ قِصّتَهَا إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ: حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَزَادَ فِيهِ: "فَأُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانا. فَشُقّ مِنَ النّحْرِ إِلَى مَرَاقّ الْبَطْنِ. فَغُسِلَ بِمَاءِ زَمْزَمَ. ثُمّ مُلِئَ حِكْمَةً وَإِيمَانا".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ قَالَ ابْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ يَقُولُ: حَدّثَنِي ابْنُ عَمّ نَبِيّكُمْ صلى الله عليه وسلم (يَعْنِي ابْنَ عَبّاسٍ) قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُسْرِيَ بِهِ فَقَالَ: "مُوسَىَ آدَمُ طُوَالٌ. كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ". وَقَالَ: "عِيسىَ جَعْدٌ مَرْبُوعٌ" وَذَكَرَ مَالِكا خَازِنَ جَهَنّمَ وَذَكَرَ الدّجّالَ.
وحدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ: حَدّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْد الرّحْمَنِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ. حَدّثَنَا ابْنُ عَمّ نَبِيّكُمْ صلى الله عليه وسلم (ابْنُ عَبّاس) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى مُوسَى بْنِ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السّلاَمُ. رَجُلٌ آدَمَ طُوَالٌ جَعْدٌ. كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. وَرَأَيْتُ عِيسَى بْنَ مَرْيَمَ مَرْبُوعَ الْخَلْقِ. إِلَى الْحُمْرَةِ وَالْبَيَاضِ. سَبِطَ الرّأْسِ". وَأُرِيَ مَالِكا خَازِنَ النّارِ، وَالدّجّالَ. فِي آيَاتٍ أَرَاهُنّ الله إِيّاهُ {فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَةً مِنْ لِقَائِهِ} (السجدة آية: ).
قَالَ: كَانَ قَتَادَةُ يُفَسّرُهَا أَنّ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ لَقِيَ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ.
حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، وَ سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ قَالاَ: حَدّثَنَا هُشَيْمٌ. أَخْبَرَنَا دَاوُدُ بْنُ أَبِي هِنْدٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم مَرّ بِوَادِي الأَزْرَقِ فَقَالَ: "أَيّ وَادٍ هَذَا؟" فَقَالُوا: هَذَا وَادِي الأَزْرَقِ. قَالَ: "كَأَنّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ هَابِطا مِنَ الثّنِيّةِ، وَلَهُ جُؤَارٌ إِلَى الله بِالتّلْبِيَةِ" ثُمّ أَتَىَ عَلَى ثَنِيّةِ هَرْشَىَ فَقَالَ: "أَيّ ثَنِيّةٍ هَذِهِ؟" قَالُوا: ثَنِيّةُ هَرْشَىَ. قَالَ: "كَأَنّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ بْنِ مَتّى عَلَيْهِ السّلاَمُ عَلَى نَاقَةٍ حَمْرَاءَ جَعْدَةٍ عَلَيْهِ جُبّةٌ مِنْ صُوفٍ. خِطَامُ نَاقَتِهِ خُلْبَةٌ. وَهُوَ يُلَبّي".
قَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ فِي حَدِيثِهِ: قَالَ هُشَيْمٌ: يَعْنِي لِيفا.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيّ عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ. فَمَرَرْنَا بِوَادٍ. فَقَالَ: "أَيّ وَادٍ هَذَا؟" فَقَالُوا: وَادِي الأَزْرَقِ. فَقَالَ: "كَأَنّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَىَ صلى الله عليه وسلم (فَذَكَرَ مِنْ لَوْنِهِ وَشَعَرِهِ شَيْئا لَمْ يَحْفَظْهُ دَاوُدُ) وَاضِعا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ. لَهُ جُؤَارٌ إِلَى الله بِالتّلْبِيَةِ. مَارّا بِهَذَا الْوَادِي" قَالَ: "ثُمّ سِرْنَا حَتّى أَتَيْنَا عَلَى ثَنِيّةٍ. فَقَالَ: "أَيّ ثَنِيّةٍ هَذِهِ" قَالُوا: هَرْشَىَ أَوْ لِفَتٌ. فَقَالَ: "كَأَنّي أَنْظُرُ إِلَى يُونُسَ عَلَىَ نَاقَةٍ حَمْرَاءَ. عَلَيْهِ جُبّةُ صُوفٍ. خِطَامُ نَاقَتِهِ لِيفٌ خُلْبَةٌ. مَارّا بِهَذَا الْوَادِي مُلَبّيا".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كُنّا عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ. فَذَكَرُوا الدّجّالَ. فَقَالَ: إِنّهُ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ. قَالَ: فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَاكَ. وَلَكِنّهُ قَالَ: "أَمّا إِبْرَاهِيمُ، فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ. وَأَمّا مُوسَىَ، فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ. كَأَنّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبّي".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ رُمْحٍ: أَخْبَرَنَا اللّيْثُ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُرِضَ عَلَيّ الأَنْبِيَاءُ. فَإِذَا مُوسَىَ ضَرْبٌ مِنَ الرّجَالِ. كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. وَرَأَيْتُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلاَمُ . فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَها عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ. وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ. فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَها صَاحِبُكُمْ (يَعْنِي نَفْسَهُ) وَرَأَيْتُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَها دِحْيَةُ". (وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ رُمْحٍ: "دِحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ").
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ، وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (وَتَقَارَبَا فِي اللّفْظِ. قَالَ: ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا. وَقَالَ: عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا) عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدٌ بْنُ الْمُسَيبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "حِينَ أُسْرِيَ بِي لَقِيتُ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ (فَنَعَتَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم) فَإِذَا رَجُلٌ (حَسِبْتُهُ قَالَ) مُضْطَرِبٌ. رَجِلُ الرّأْسِ. كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. قَالَ، وَلَقِيتُ عِيسَىَ (فَنَعَتَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم) فَإِذَا رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ" (يَعْنِي حَمّاما) قَالَ: وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ. وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ. قَالَ: فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الاَخَرِ خَمْرٌ. فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيّهُمَا شِئْتَ. فَأَخَذْتُ اللّبَنَ فَشَرِبْتُهُ. فَقَالَ: هُدِيتَ الْفِطْرَةَ. أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ. أَمَا إِنّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمّتُكَ".
قول مسلم: (حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه) هذا الإسناد كله بصريون، وفروخ عجمي لا ينصرف تقدم بيانه مرات، والبناني بضم الباء منسوب إلى بنانة قبيلة معرودة. قوله صلى الله عليه وسلم: (أتيت بالبراق) هو بضم الباء الموحدة، قال أهل اللغة: البراق اسم الدابة التي ركبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء. قال الزبيدي في مختصر العين وصاحب التحري: هي دابة كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يركبونها، وهذا الذي قالاه من اشتراك جميع الأنبياء فيها يحتاج إلى نقل صحيح. قال ابن دريد: اشتققا البراق من البرق إن شاء الله تعالى يعني لسرعته، وقيل: سمي بذلك لشدة صفائه وتلألئه وبريقه، وقيل: لكونه أبيض. وقال القاضي: يحتمل أنه سمي بذلك لكونه ذا لونين، يقال: شاة برقاء إذا كان في خلال صوفها الأبيض طاقات سود. قال: ووصف في الحديث بأنه أبيض، وقد يكون من نوع الشاة البرقاء وهي معدودة في البيض، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي تربط به الأنبياء صلوات الله عليهم) أما بيت المقدس ففيه لغتان مشهورتان غاية الشهرة: إحداهما بفتح الميم وإسكان القاف وكسر الدال المخففة والثانية بضم الميم وفتح القاف والدال المشددة. قال الواحدي: أما من شدده فمعناه المطهر، وأما من خففه فقال أبو علي الفارسي لا يخلو إما أن يكون مصدرا أو مكانا، فإن كان مصدرا كان كقوله تعالى: {إليه مرجعكم) ونحوه من المصادر، وإن كان مكانا فمعناه بيت المكان الذي جعل فيه الطهارة، أو بيت مكان الطهارة، وتطهيره إخلاؤه من الأصنام وإبعاده منها. وقال الزجاج: البيت المقدس المطهر، وبيت المقدس أي المكان الذي يطهر فيه من الذنوب، ويقال فيه أيضا إلياء، والله أعلم. وأما الحلقة فبإسكان اللام على اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى الجوهري وغيره فتح اللام أيضا، قال الجوهري: حكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء حلقة بالفتح وجمعها حلق وحلقات. وأما على لغة الإسكان فجمعها حلق وحلق بفتح الحاء وكسرها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الحلقة التي يربط به" فكذا هو في الأصول به بضمير المذكر، أعاده على معنى الحلقة وهو الشيء، قال صاحب التحرير: المراد حلقة بيت مسجد بيت المقدس، والله أعلم. وفي ربط البراق الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وأن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل: اخترت الفطرة) هذا اللفظ وقع مختصرا هنا، والمراد أنه صلى الله عليه وسلم قيل له: اختر أي الإناءين شئت، كما جاء مبينا بعد هذا في هذا الباب من رواية أبي هريرة، فألهم صلى الله عليه وسلم اختيار اللبن. وقوله: (اخترت الفطرة) فسروا الفطرة هنا بالإسلام والاستقامة، ومعناه والله أعلم: اخترت علامة الإسلام والاستقامة، وجعل اللبن علامة لكونه سهلاً طيبا طاهرا سائغا للشاربين سليم العاقبة. وأما الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع من الشر في الحال والمآل، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل عليه السلام فقيل له: من أنت؟ قال: جبريل، ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه) أما قوله: عرج فبفتح العين والراء أي صعد، وقوله جبريل: فيه بيان الأدب فيمن استأذن بدق الباب ونحوه فقيل له: من أنت؟ فينبغي أن يقول زيد مثلاً إذا كان اسمه زيدا، ولا يقول: أنا، فقد جاء الحديث بالنهي عنه ولأنه لا فائدة فيه. وأما قول بواب السماء وقد بعث إليه فمراده وقد بعث إليه للإسراء وصعود السموات، وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة، فإن ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدة فهذا هو الصحيح، والله أعلم في معناه ولم يذكر الخطابي في شرح البخاري وجماعة من العلماء غيره، وإن كان القاضي قد ذكر خلافا أو أشار إلى خلاف في أنه استفهم عن أصل البعثة أو عما ذكرته، قال القاضي: وفي هذا أن للسماء أبوابا حقيقة وحفظة موكلين بها، وفيه إثبات الاستئذان، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا أنا بآدم صلى الله عليه وسلم فرحب بي ودعا لي بخير). ثم قال صلى الله عليه وسلم في السماء الثانية: (فإذا أنا بابني الخالة فرحبا بي ودعوا) وذكر صلى الله عليه وسلم في باقي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم نحوه. فيه استحببا لقاء أهل الفضل بالبشر والترحيب والكلام الحسن والدعاء لهم وإن كانوا أفضل من الداعي. وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه الإعجاب وغيره من أسباب الفتنة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا أنا بابني الخالة" قال الأزهري: قال ابن السكيت يقال: هما ابنا عم، ولا يقال: ابنا خال، ويقال: هما ابنا خالة، ولا يقال: ابنا عمة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا أنا بإبراهيم صلى الله عليه وسلم مسندا ظهره إلى البيت المعمور) قال القاضي رحمه الله: يستدل به على جواز الاستناد إلى القبلة وتحويل الظهر إليها. قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم ذهب بي إلى السدرة المنتهى) هكذا وقع في الأصول السدرة بالألف واللام، وفي الروايات بعد هذا سدرة المنتهى. قال ابن عباس والمفسرون وغيرهم: سميت سدرة النتهى لأن علم الملائكة ينتهي إليها ولم يجاوزها أحد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحكي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها سميت بذلك لكونها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها ن أمر الله تعالى. قوله صلى الله عليه وسلم: (وإذا ثمرها كالقلال) هو بكسر القاف جمع قلة، والقلة جرة عظيمة تسع قربتين أو أكثر. قوله صلى الله عليه وسلم: (فرجعت إلى ربي) معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته منه أولاً فناجيته فيه ثانيا. وقوله صلى الله عليه وسلم: (فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى صلى الله عليه وسلم) معناه بين موضع مناجاة ربي، والله أعلم. قوله عقب هذا الحديث: (قال الشيخ أبو أحمد: حدثنا أبو العباس الماسرجسي، حدثنا شيبان بن فروخ، حدثنا حماد بن سلمة بهذا الحديث) أبو أحمد هذا هو الجلودي راوي الكتاب عن ابن سفيان عن مسلم، وقد علا له هذا الحديث برجل، فإنه رواه أولاً عن ابن سفيان عن مسلم عن شيبان بن فروخ، ثم رواه عن الماسرجسي عن شيبان، واسم الماسرجسي أحمد بن محمد بن الحسين النيسابوري وهو بفتح السين المهملة وإسكان الراء وكسر الجيم، وهو منسوب إلى جده ماسرجس، وهذه الفائدة وهي قوله: قال الشيخ أبو أحمد إلى آخره تقع في بعض الأصول في الحاشية وفي أكثرها في نفس الكتاب وكلاهما له وجه، فمن جعلها في الحاشية فهو الظاهر المختار لكونها ليست من كلام مسلم ولا من كتابه فلا يدخل في نفسه إنما هي فائدة فشأنها أن تكتب في الحاشية. ومن أدخلها في الكتاب فلكون الكتاب منقولاً عن عبد الغافر الفارسي عن شيخه الجلودي، وهذه الزيادة من كلام الشيخ الجلودي، فنقلها عبد الغافر في نفس الكتاب لكونها من جملة المأخوذ عن الجلودي، مع أنه ليس فيه لبس ولا إيهام أنها من أصل مسلم، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فشرح عن صدري ثم غسل بماء زمزم ثم أنزلت) معنى شرح شق كما قال في الرواية التي بعد هذه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ثم أنزلت"هو بإسكان اللام وضم التاء هكذا ضبطناه، وكذا هو جميع الأصول والنسخ، وكذا نقله القاضي عياض رحمه الله عن جميع الروايات، وفي معناه خفاء واختلاف. قال القاضي قال الوقشي: هذا وهم من الواة وصوابه تركت فتصحف. قال القاضي: فسألت عنه ابن سراج فقال: أنزلت في اللغة بمعنى تركت صحيح وليس فيه تصحيف. قال القاضي: وظهر لي أنه صحيح بالمعنى المعروف في أنزلت فهو ضد رفعت لأنه قال: انطلقوا بي إلى زمزم ثم أنزلت، أي ثم صرفت إلى موضعي الذي حملت منه. قال: ولم أزل أبحث عنه حتى وقعت على الجلاء فيه من رواية الحافظ أبي بكر البرقاني، وأنه طرف حديث وتمامه: "ثم أنزلت على طست من ذهب مملوءة حكمة وإيمانا" هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله. ومقتضى رواية البرقاني أن يضبط أنزلت بفتح اللام وإسكان التاء، كذلك ضبطناه في الجمع بين الصحيحين للحميدي. وحكى الحميدي هذه الزيادة المذكورة عن رواية البرقاني وزاد عليها وقال: أخرجها البرقاني بإسناد مسلم، وأشار الحميدي إلى أن رواية مسلم ناقصة وأن تمامها ما زاده البرقاني، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ثم لأمه) أما الطست فبفتح الطاء وإسكان السين المهملتين وهي إناء معروف وهي مؤنثة. قال: وحكى القاضي عياض كسر الطاء لغة والمشهور الفتح كما ذكرنا، ويقال فيها طس بتشديد السين وحذف التاء، وطسة أيضا، وجمعها طساس وطسوس وطسات، وأما لأمه فبفتح اللام وبعدها همزة على وزن ضربه، وفيه لغة أخرى لأمه بالمد على وزن آذنه ومعناه جمعه وضم بعضه إلى بعض، وليس في هذا ما يوهم جواز استعمال إناء الذهب لنا، فإن هذا فعل الملائكة واستعمالهم، وليس بلازم أن يكون حكمهم حكمنا، ولأنه كان أول الأمر قبل تحرم النبي صلى الله عليه وسلم أواني الذهب والفضة. قوله: (يعني ظئره) هي بكسر الظاء المعجمة بعدها همزة ساكنة وهي المرضعة، ويقال أيضا لزوج المرضعة ظئر. قوله: (فاستقبلوه وهو منتقع اللون) هو بالقاف المفتوحة أي متغير اللون، قال أهل اللغة: امتقع لونه فهو ممتقع، وانتقع فهو منتقع، وابتقع بالباء فهو مبتقع فيه ثلاث لغات، والقاف مفتوحة فيهن. قال الجوهري وغيره: والميم أفصحهن. ونقل الجوهري اللغات الثلاث عن الكسائي قال: ومعناه تغير من حزن أو فزع. وقال الهروي في الغريبين في تفسير هذا الحديث يقال: انتقع لونه، وابتقع وامتقع، واستقع، والتمى، وانتسف، وانتشف، بالسين والشين، والتمع، والتمغ، بالعين والغين، وابتسر، والتهم. قوله: (كنت أررى أثر المخيط في صدره) هو بكسر الميم وإسكان الخاء وفتح الياء وهي الإبرة، وفي هذا دليل على جواز نظر الرجل إلى صدر الرجل ولا خلاف في جوازه، وكذا يجوز أن ينظر إلى ما فوق سرته وتحت ركبته إلا أن ينظر بشهوة فإنه يحرم النظر بشهوة إلى كل آدمي إلا الزوج لزوجته ومملوكته، وكذا هما إليه، وإلا أن يكون المنظور إليه أمرد حسن الصورة فإنه يحرم النظر إليه إلى وجهه وسائر بدنه، سواء كان بشهوة أو بغيرها، إلا أن يكون الحاجة البيع والشراء والتطبيب والتعلم ونحوها، والله أعلم.
(يتبع...)
*(تابع... 1): هذا باب طويل، وأنا أذكر إن شاء الله تعالى مقاصده مختصرة من الألفاظ... ...
قوله: (حدثنا هارون الأيلي وحدثني حرملة التجيبي) قد تقدم ضبطهما مرات، فالأيلي بالمثناة، والتجيبي بضم التاء وفتحها، وأوضحنا أصله وضبطه في المقدمة. قوله: (جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا فأفرغها في صدري) قد قدمنا لغات الطست وأنها مؤنثة فجاء ممتلئ على معناها وهو الإناء وأفرغها على لفظها، وقد تقدم بيان الإيمان في أول كتاب الإيمان، وبيان الحكمة في حديث الحكمة يمانية، والضمير في أفرغها يعود على الطست كما ذكرناه، وحكى صاحب التحرير قولاً أنه يعود على الحكمة، وهذا القول وإن كان له وجه فالأظهر ما قدمناه، لأن عوده على الطست يكون تصريحا بإفراغ الإيمان والحكمة، وعلى قوله يكون إفراغ الإيمان مسكوتا عنه، والله أعلم. وأما جعل الإيمان والحكمة في إناء وإفراغهما مع أنهما معنيان وهذه صفة الأجسام فمعناه والله أعلم: أن الطست كان فيها شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما، فسمي إيمانا وحكمة لكونه سببا لهما، وهذا من أحسن المجاز، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا رجل عن يمينه أسودة) فسر الأسودة في الحديث بأنها نسم بنيه، أما الأسودة فجمع سواد كقذال وأقذلة، وسنام وأسنمة، وزمان وأزمنة، وتجمع الأسودة على أساود، وقال أهل اللغة: السواد الشخص، وقيل: السواد الجماعات. وأما النسم فبفتح النون والسين والواحدة نسمة قال الخطابي وغيره: هي نفس الإنسان، والمراد أرواح بني آدم. قال القاضي عياض رحمه الله في هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم وجد آدم ونسم بينه من أهل الجنة والنار، وقد جاء أن أرواح الكفار في سجين، قيل: في الأرض السابعة، وقيل: تحتها، وقيل: في سجن، وأن أرواح المؤمنين منعمة في الجنة، فيحتمل أنها تعرض على آدم أوقاتا، فوافق وقت عرضها مرور النبيّ صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن كونهم في النار والجنة إنما هو في أوقات دون أوقات، بدليل قوله تعالى: {النار يعرضون عليها غدوا وعشيا}. وبقوله صلى الله عليه وسلم في المؤمن عرض منزله من الجنة عليه وقيل له: هذا منزلك حتى يبعثك الله إليه. ويحتمل أن الجنة كانت في جهة يمين آدم عليه السلام، والنار في جهة شماله، وكلاهما حيث شاء الله، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى) فيه شفقة الوالد على ولده وسروره بحسن حاله وحزنه وبكاؤه لسوء حاله. قوله في هذه الرواية: (وجد إبراهيم صلى الله عليه وسلم في السماء السادسة) وتقدم في الرواية الأخرى أنه في السابعة، فإن كان الإسراء مرتين فلا إشكال فيه، ويكون في كل مرة وحده في سماء وإحداهما موضع استقراره ووطنه، والأخرى كان فيها غير مستوطن، وإن كان الإسراء مرة واحدة فلعله وجده في السادسة، ثم ارتقى إبراهيم أيضا إلى السابعة، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم في إدريس صلى الله عليه وسلم: (قال: مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح) قال القاضي عياض رحمه الله: هذا مخالف لما يقوله أهل النسب والتاريخ من أن إدريس أب من آباء النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه جد أعلى لنوح صلى الله عليه وسلم، وأن نوحا هو ابن لامك بن متوشلخ بن خنوخ، وهو عندهم إدريس بن يرد بن مهلاييل بن قينان بن أنوش بن شيث بن آم عليه السلام، ولا خلاف عندهم في عدد هذه الأسماء وسردها على ما ذكرناه، وإنما يختلفون في ضبط بعضها وصورة لفظه، وجاء جواب الاَباء هنا إبراهيم وآدم مرحبا بالابن الصالح، وقال إدريس: مرحبا بالأخ الصالح، كما قال موسى وعيسى وهارون ويوسف ويحيى وليسوا بآباء صلوات الله وسلامه عليهم، وقد قيل عن إدريس أنه إلياس، وأنه ليس بجد لنوح، فإن إلياس من ذرية إبراهيم وإنه من المرسلين، وإن أول المرسلين نوح عليه السلام كما جاء في حديث الشفاعة، هذا كلام القاضي عياض رحمه الله. وليس في هذا لحديث ما يمنع كون إدريس عليه السلام أبا لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن قوله: الأخ الصالح يحتمل أن يكون قاله تلطفا وتأدبا وهو أخ وإن كان ابنا، فالأنبياء إخوة والمؤمنون إخوة، والله أعلم. قوله: (أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري يقولان) أبو حبة بالحاء المهملة والباء الموحدة هكذا ضبطناه هنا، وفي ضبطه واسمه اختلاف، فالأصح الذي عليه الأكثرون حبة بالباء الموحدة كما ذكرنا، وقيل: حية بالياء المثناة تحت، وقيل: حنة بالنون، وهذا قول الواقدي. وروي عن ابن شهاب والزهري. وقد اختلف في اسم أبي حبة فقيل: عامر، وقيل: مالك، وقيل: ثابت، وهو بدري باتفاقهم واستشهد يوم أحد، وقد جمع الإمام أبو الحسن بن الأثير الجزري رحمه الله الأقوال الثلاثة في ضبطه والاختلاف في اسمه في كتابه معرفة الصحابة رضي الله عنهم وبينها بيانا شافيا رحمه الله. قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام) معنى ظهرت علوت، والمستوى بفتح الواو.
قال الخطابي: المراد به المصعد، وقيل: المكان المستوي، وصريف الأقلام بالصاد المهملة تصويتها حال الكتابة، قال الخطابي: هو صوت ما تكتبه الملائكة من أقضية الله تعالى ووحيه وما ينسخونه من اللوح المحفوظ، أو ما شاء الله تعالى من ذلك أن يكتب ويرفع لما أراده من أمره وتدبيره. قال القاضي: في هذا حجة لمذهب أهل السنة في الإيمان بصحة كتابة الوحي والمقادير في كتب الله تعالى من اللوح المحفوظ، وما شاء بالأقلام التي هو تعالى يعلم كيفيتها على ما جاءت به الاَيات من كتاب الله تعالى والأحاديث الصحيحة وأن ما جاء من ذلك على ظاهره، لكن كيفية ذلك وصورته وجنسه مما لا يعلمه إلا الله تعالى أو من أطلعه على شيء من ذلك من ملائكته ورسله؟ وما يتأول هذا ويحيله عن ظاهره إلا ضعيف النظر والإيمان، إذ جاءت به الشريعة المطهرة، ودلائل العقول لا تحيله، والله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، حكمة من الله تعالى وإظهارا لما يشاء من غيبه لمن يشاء من ملائكته وسائر خلقه، وإلا فهو غني عن الكتب والاستذكار سبحانه وتعالى. قال القاضي رحمه الله: وفي علو منزلة نبينا صلى الله عليه وسلم وارتفاعه فوق منازل سائر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وبلوغه حيث بلغ من ملكوت السموات دليل على علو درجته وإبانة فضله. وقد ذكر البزار خبرا في الإسراء عن علي كرم الله وجهه، وذكر مسير جبريل عليه السلام على البراق حتى أتى الحجاب، وذكر كلمة وقال: خرج ملك من وراء الحجاب فقال جبريل: والذي بعثك بالحق إن هذا الملك ما رأيته منذ خلقت وإني أقرب الخلق مكانا. وفي حديث آخر: فارقني جبريل وانقطعت عني الأصوات. هذا آخر كلام القاضي رحمه الله، والله تعالى أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ففرض الله تعالى على أمتي خمسين صلاة، إلى قوله صلى الله عليه وسلم: فراجعت ربي فوضع شطرها وبعده فراجعت ربي فقال: هي خمس وهي خمسون) وهذا المذكور هنا لا يخالف الرواية المتقدمة أنه صلى الله عليه وسلم قال: حط عني خمسا إلى آخره، فالمراد بحط الشطر هنا أنه حط في مرات بمراجعات وهذا هو الظاهر. وقال القاضي عياض رحمه الله: المراد بالشطر هنا الجزء وهو الخمس وليس المراد به النصف، وهذا الذي قاله محتمل ولكن لا ضرورة إليه، فإن هذا الحديث الثاني مختصر لم يذكر فيه كرات المراجعة، والله أعلم. واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ الشيء قبل فعله، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم انطلق بي حتى نأتي سدرة المنتهى) هكذا هو في الأصول حتى نأتي بالنون في أوله، وفي بعض الأصول حتى أتى وكلاهما صحيح. قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ) أما الجنابذ فبالجيم المفتوحة وبعدها نون مفتوحة ثم ألف ثم باء موحدة ثم ذال معجمة وهي القباب واحدتها جنبذة، ووقع في كتاب الأنبياء من صحيح البخاري كذلك، ووقع في أول كتاب الصلاة منه حبائل بالحاء المهملة والباء الموحدة وآخره لام، قال الخطابي وغيره: هو تصحيف، والله أعلم. وأما اللؤلؤ فمعروف وفيه أربعة أوجه بهمزتين وبحذفهما وبإثبات الأولى دون الثانية وعكسه، والله أعلم. وفي هذا الحديث دلالة لمذهب أهل السنة أن الجنة والنار مخلوقتان، وأن الجنة في السماء، والله أعلم.
قوله: (حدثنا محمد بن المثنى، حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه لعله قال عن مالك بن صعصعة) قال أبو علي الغساني: هكذا هو هذا الحديث في رواية ابن ماهان وأبي العباس الرازي عن أبي أحمد الجلودي وعند غيره: عن أبي أحمد عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة بغير شك. قال أبو الحسن الدارقطني: لم يروه عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة غير قتادة، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم في موسى عليه السلام: (فلما جاوزته بكى فنودي ما يبكيك؟ قال: رب هذا غلام بعثته بعدي يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمتي) معنى هذا والله أعلم أن موسى عليه السلام حزن على قومه لقلة المؤمنين منهم مع كثرة عددهم، فكان بكاؤه حزنا عليهم وغبطة لنبينا صلى الله عليه وسلم على كثرة أتباعه، والغبطة في الخير محبوبة، ومعنى الغبطة أنه ود أن يكون من أمته المؤمنين مثل هذه الأمة، لا أنه ود أن يكونوا أتباعا له، وليس لنبينا صلى الله عليه وسلم مثلهم، والمقصود أنه إنما بكى حزنا على قومه، وعلى فوات الفضل العظيم والثواب الجزيل بتخلفهم عن الطاعة، فإن من دعا إلى خير وعمل الناس به كان له مثل أجورهم كما جاءت به الأحاديث الصحيحة، ومثل هذا يبكي عليه ويحزن على فواته، والله أعلم. قوله: (وحدث نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى أربعة أنهار يخرج من أصلها نهران ظاهران ونهران باطنان فقلت: يا جبريل ما هذه الأنهار؟ قال: أما النهران الباطنان فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات) هكذا هو في أصول صحيح مسلم يخرج من أصلها، والمراد من أصل سدرة المنتهى، كما جاء مبينا في صحيح البخاري وغيره. قال مقاتل: الباطنان هما السلسبيل والكوثر. قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الحديث يدل على أن أصل سدرة المنتهى في الأرض لخروج النيل والفرات من أصلها، قلت: هذا الذي قاله ليس بلازم، بل معناه أن الأنهار تخرج من أصلها ثم تسير حيث أراد الله تعالى حتى تخرج من الأرض وتسير فيها، وهذا لا يمنعه عقل ولا شرع وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه، والله أعلم. واعلم أن الفرات بالتاء الممدودة في الخط في حالتي الوصل والوقف، وهذا وإن كان معلوما مشهورا فنبهت عليه لكون كثير من الناس يقولونه بالهاء وهو خطأ، والله أعلم. قوله: (هذا البيت المعمور يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم) قال صاحب مطالع الأنوار: رويناه آخر ما عليهم برفع الراء ونصبها، فالنصب على الظرف والرفع على تقدير ذلك آخر ما عليهم من دخوله، قال: والرفع أوجه، وفي هذا أعظم دليل على كثرة الملائكة صلوات الله وسلامه عليهم، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (أتيت بإناءين أحدهما خمر والاَخر لبن فعرضا علي فاخترت اللبن فقيل: أصبت أصاب الله بك أمتك على الفطرة) قد تقدم في أول الباب الكلام في هذا الفصل، الذي يزاد هنا معنى أصبت أي أصبت الفطرة كما جاء في الرواية المتقدمة، وتقدم بيان الفطرة، ومعنى أصاب الله بك أي أراد بك الفطرة والخير والفضل، وقد جاء أصاب بمعنى أراد، قال الله تعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب} أي حيث أراد، اتفق عليه المفسرون وأهل اللغة، كذا نقل الواحدي اتفاق أهل اللغة عليه. وأما قوله: أمتك على الفطرة فمعناه أنهم أتباع لك وقد أصبت الفطرة فهم يكونون عليه، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فشق من النحر إلى مراق البطن) هو بفتح الميم وتشديد القاف وهو ما سفل من البطن ورق من جلده، قال الجوهري: لا واحد لها. وقال صاحب المطالع: واحدها مرق.
قول مسلم رحمه الله: (حدثني محمد بن مثنى وابن بشار قال ابن مثنى: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة عن قتادة قال: سمعت أبا العالية يقول: حدثني ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم يعني ابن عباس رضي الله عنهما) هذا الإسناد كله بصريون، وشعبة وإن كان واسطيا فقد انتقل إلى البصرة واستوطنها، وابن عباس أيضا سكنها، واسم أبي العالية رفيع بضم الراء وفتح الفاء ابن مهران الرياحي بكسر الراء وبالمثناة من تحت، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (موسى آدم طوال كأنه من رجال شنوءة، وقال عيسى جعد مربوع) أما طوال فبضم الطاء وتخفيف الواو ومعناه طويل وهما لغتان، وأما شنوءة فبشين معجمة مفتوحة ثم نون ثم واو ثم همزة ثم هاء وهي قبيلة معروفة، قال ابن قتيبة في أدب الكاتب، سموا بذلك من قولك رجل فيه شنوءة أي تقزز، قال ويقال: سموا بذلك لأنهم تشانؤوا وتباعدوا. وقال الجوهري: الشنوءة التقزز وهو التباعد من الأدناس، ومنه أزدشنوءة وهم حي من اليمن ينسب إليهم شنئي. قال: قال ابن السكيت: ربما قالوا أزدشنوة بالتشديد غير مهموز وينسب إليها شنوى. وأما قوله صلى الله عليه وسلم"مربوع" فقال أهل اللغة: هو الرجل بين الرجلين في القامة ليس بالطويل البائن ولا بالقصير الحقير، وفيه لغات ذكرهن صاحب المحكم وغيره: مربوع ومرتبع ومرتبع بفتح الباء وكسرها، وربع وربعة وربعة الأخيرة بفتح الباء، والمرأة ربعة وربعة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في عيسى صلى الله عليه وسلم أنه جعد، ووقع في أكثر الروايات في صفته سبط الرأس فقال العلماء: المراد بالجعد هنا جعودة الجسم وهو اجتماعه واكتنازه، وليس المراد جعودة الشعر. وأما الجعد في صفة موسى عليه السلام فقال صاحب التحرير فيه معنيان: أحدهما ما ذكرناه في عيسى عليه السلام وهو اكتناز الجسم. والثاني: جعودة الشعر، قال: والأول أصح لأنه قد جاء في رواية أبي هريرة في الصحيح أنه رجل الشعر، هذا كلام صاحب التحرير، والمعنيان فيه جائزان، وتكون جعودة الشعر على المعنى الثاني ليست جعودة القطط، بل معناها أنه بين القطط والسبط، والله أعلم. والسبط بفتح الباء وكسرها لغتان مشهورتان، ويجوز إسكان الباء مع كسر السين وفتحها على التخفيف كما في كتف وبابه، قال أهل اللغة: الشعر السبط هو المسترسل ليس فيه تكسر، ويقال في الفعل منه سبط شعره بكسر الباء يسبط بفتحها سبطا بفتحها أيضا، والله أعلم.
قوله في الرواية الأخرى: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مررت ليلة أسري بي على موسى بن عمران) هكذا وقع في بعض الأصول، وسقطت لفظة مررت في معظمها ولا بد منها، فإن حذفت كانت مرادة، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (وأري مالكا خازن النار) هو بضم الهمزة وكسر الراء، ومالكا بالنصب ومعناه أرى النبيّ صلى الله عليه وسلم مالكا، وقد ثبت في صحيح البخاري في هذا الحديث ورأيت مالكا، ووقع في أكثر الأصول مالك بالرفع وهذا قد ينكر، ويقال: هذا لحن لا يجوز في العربية، ولكن عنه جواب حسن وهو أن لفظة مالك منصوبة ولكن أسقطت الألف في الكتابة، وهذا يفعله المحدثون كثيرا فيكتبون: سمعت أنس بغير ألف، ويقرؤونه بالنصب، وكذلك مالك كتبوه بغير ألف ويقرؤونه بالنصب، فهذا إن شاء الله تعالى من أحسن ما يقال فيه، وفيه فوائد يتنبه بها على غيره، والله أعلم. قوله: (وأري مالكا خازن النار والدجال في آيات أراهن الله إياه {فلا تكن في مرية من لقائه} قال: كان قتادة يفسرها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد لقي موسى عليه السلام) هذا الاستشهاد بقوله تعالى: {فلا تكن في مرية} هو من استدلال بعض الرواة. وأما تفسير قتادة فقد وافقه عليه جماعة منهم مجاهد والكلبي والسدي وعلى مذهبهم معناه: فلا تكن في شك من لقائك موسى. وذهب كثيرون من المحققين من المفسرين وأصحاب المعاني إلى أن معناها: فلا تكن في شك من لقاء موسى الكتاب، وهذا مذهب ابن عباس ومقاتل والزجاج وغيرهم، والله أعلم.
قوله: (حدثنا أحمد بن حنبل وسريج بن يونس) هو بالسين المهملة والجيم. قوله صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إلى موسى صلى الله عليه وسلم هابطا من الثنية وله جؤار إلى الله تعالى بالتلبية) ثم قال صلى الله عليه وسلم في يونس بن متى صلى الله عليه وسلم: (رأيته وهو يلبي) قال القاضي عياض رحمه الله: أكثر الروايات في وصفهم تدل على أنه صلى الله عليه وسلم رأى ذلك ليلة أسري به، وقد وقع ذلك مبينا في رواية أبي العالية عن ابن عباس، وفي رواية ابن المسيب عن أبي هريرة وليس فيها ذكر التلبية، قال: فإن قيل كيف يحجون ويلبون وهم أموات وهم في الدار الاَخرة وليست دار عمل؟ فاعلم أن للمشايخ وفيما ظهر لنا عن هذا أجوبة، أحدها: أنهم كالشهداء بل هم أفضل منهم، والشهداء أحياء عند ربهم فلا يبعد أن يحجوا ويصلوا كما ورد في الحديث الاَخر، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بما استطاعوا، لأنهم وإن كانوا قد توفوا فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل، حتى إذا فنيت مدتها وتعقبتها الاَخرة التي هي دار الجزاء انقطع العمل. الوجه الثاني: أن عمل الاَخرة ذكرودعاء، قال الله تعالى: {دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام}. الوجه الثالث: أن تكون هذه رؤية منام في غير ليلة الإسراء أو في بعض ليلة الإسراء كما قال في رواية ابن عمر رضي الله عنهما: بينا أنا نائم رأيتني أطوف بالكعبة، وذكر الحديث في قصة عيسى صلى الله عليه وسلم. الوجه الرابع: أنه صلى الله عليه وسلم أري أحوالهم التي كانت في حياتهم ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا وكيف حجهم وتلبيتهم، كما قال صلى الله عليه وسلم: "كأني أنظر إلى موسى، وكأني أنظر إلى عيسى، وكأني أنظر إلى يونس عليهم السلام". الوجه الخامس: أن يكون أخبر عما أوحي إليه صلى الله عليه وسلم من أمرهم وما كان منهم وإن لم يرهم رؤية عين، هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "له جؤار" بضم الجيم وبالهمز وهو رفع الصوت. قوله: (ثنية هرشى) هي بفتح الهاء وإسكان الراء وبالشين المعجمة مقصورة الألف، وهو جبل على طريق الشام والمدينة قريب من الجحفة. قوله صلى الله عليه وسلم: (على ناقة حمراء جعدة عليه جبة من صوف خطام ناقته خلبة قال هشيم يعني ليفا) أما الجعدة فهي مكتنزة اللحم كما تقدم قريبا. وأما الخطام بكسر الخاء فهو الحبل الذي يقاد به البعير يجعل على خطمه، وقد تقدم بيانه واضحا في أول كتاب الإيمان. وأما الخلبة فبضم الخاء المعجمة وبالباء الموحدة بينهما لام فيها لغتان مشهورتان: الضم والإسكان، حكاهما ابن السكيت والجوهري وآخرون. وكذلك الخلب والخلب وهو الليف كما فسره هشيم، والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إلى موسى واضعا أصبعيه في أذنيه) أما الأصبع ففيها عشر لغات: كسر الهمزة وفتحها وضمها مع فتح الباء وكسرها وضمها، والعاشرة أصبوع على مثال عصفور، وفي هذا دليل على استحباب وضع الأصبع في الأذن عند رفع الصوت بالأذان، ونحوها مما يستحب له رفع الصوت، وهذا الاستنباط والاستحباب يجيء على مذهب من يقول من أصحابنا وغيرهم: إن شرع من قبلنا شرع لنا، والله أعلم. قوله: (فقال أي ثنية هذه قالوا هرشى أو لفت) هكذا ضبطناها لفت بكسرها اللام وإسكان الفاء وبعدها تاء مثناة من فوق، وذكر القاضي وصاحب المطالع فيها ثلاثة أوجه، أحدها: ما ذكرته. والثاني: فتح اللام مع إسكان الفاء. والثالث: فتح اللام والفاء جميعا، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (خطام ناقته ليف خلبة) روي بتنوين ليف وروي بإضافته إلى خلبة، فمن نون جعل خلبة بدلاً أو عطف بيان.
قوله: (عن مجاهد قال: كنا عند ابن عباس رضي الله عنهما فذكروا الدجال فقال: إنه مكتوب بين عينيه كافر، قال: فقال ابن عباس لم أسمعه قال ذلك ولكنه قال: أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم) كذا هو في الأصول وهو صحيح. وقوله: فقال إنه مكتوب أي قال قائل من الحاضرين، ووقع في الجمع بين الصحيحين لعبد الحق في هذا الحديث من رواية مسلم فذكروا الدجال فقالوا: إنه مكتوب بين عينيه، هكذا رواه فقالوا. وفي رواية الحميدي عن الصحيحين وذكروا الدجال بين عينيه كافر فحذف لفظة قال. وقالوا: وهذا كله يصحح ما تقدم. وقوله: فقال ابن عباس لم أسمعه يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إليه إذا انحدر) هكذا هو في الأصول كلها إذا بالألف بعد الذال وهو صحيح، وقد حكى القاضي عياض عن بعض العلماء أنه أنكر إثبات الألف وغلط راويه وغلطه القاضي وقال: هذا جهل من هذا القائل وتعسف وجسارة على التوهم لغير ضرورة وعدم فهم بمعاني الكلام، إذ لا فرق بين إذا وإذ هنا لأنه وصف حاله حين انحداره فيما مضى.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا موسى عليه السلام ضرب من الرجال) هو بإسكان الراء، قال القاضي عياض: هو الرجل بين الرجلين في كثرة اللحم وقلته، قال القاضي: لكن ذكر البخاري فيه من بعض الروايات مضطرب، وهو الطويل غير الشديد، وهو ضد جعد اللحم مكتنزه، ولكن يحتمل أن الرواية الأولى أصح يعني رواية ضرب، لقوله في الرواية الأخرى: حسبته قال مضطرب، فقد ضعفت هذه الرواية للشك، ومخالفة الأخرى التي لا شك فيها وفي الرواية الأخرى جسيم سبط وهذا يرجع إلى الطويل، ولا يتأول جسيم بمعنى سمين لأنه ضد ضرب، وهذا إنما جاء في صفة الدجال، هذا كلام القاضي، وهذا الذي قاله من تضعيف رواية مضطرب، وأنها مخالفة لرواية ضرب لا يوافق عليه فإنه لا مخالفة بينهما، فقد قال أهل اللغة: الضرب هو الرجل الخفيف اللحم، كذا قاله ابن السكيت في الإصلاح وصاحب المجمل والزبيدي والجوهري وآخرون لا يحصون، والله أعلم. قوله: (دحية بن خليفة) هو بفتح الدال وكسرها لغتان مشهورتان.
قوله صلى الله عليه وسلم: (رجل الرأس) هو بكسر الجيم أي رجل الشعر، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى بيان ترجيل الشعر. قوله صلى الله عليه وسلم في صفة عيسى صلى الله عليه وسلم: (فإذا ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس يعني حماما) أما الربعة فبإسكان الباء ويجوز فتحها، وقد تقدم قريبا بيان اللغات فيه وبيان معناه. وأما الديماس فبكسر الدال وإسكان الياء والسين في آخره مهملة، وفسره الراوي بالحمام، والمعروف عند أهل اللغة أن الديماس هو السرب وهو أيضا الكن، قال الهروي في هذا الحديث قال بعضهم: الديماس هنا هو الكن أي كأنه مخدر لم ير شمسا، قال وقال بعضهم: المراد به السرب ومنه دمسته إذا دفنته. وقال الجوهري في صحاحه في هذا الحديث قوله: خرج من ديماس يعني في نضارته وكثرة ماء وجهه كأنه خرج من كن، لأنه قال في وصفه: كأن رأسه يقطر ماء. وذكر صاحب المطالع الأقوال الثلاثة فيه، فقال الديماس: قيل هو السرب، وقيل الكن، وقيل الحمام، هذا ما يتعلق بالديماس. وأما الحمام فمعروف وهو مذكر باتفاق أهل اللغة، وقد نقل الأزهري في تهذيب اللغة تذكيره عن العرب، والله أعلم. وأما وصف عيسى صلوات الله عليه وسلامه في هذه الرواية وهي رواية أبي هريرة رضي الله عنه بأنه أحمر، ووصفة في رواية ابن عمر رضي الله عنهما بعدها بأنه آدم والاَدم الأسمر. وقد روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أنكر رواية أحمر وحلف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقله يعني وأنه اشتبه على الراوي، فيجوز أن يتأول الأحمر على الاَدم، ولا يكون المراد حقيقة الأدمة والحمرة بل ما قاربها، والله أعلم.
*2* باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَرَانِي لَيْلَةً عِنْدَ الْكَعْبَةِ. فَرَأَيْتُ رَجُلاً آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرّجَالِ. لَهُ لِمّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللّمَمِ. قَدْ رَجّلَهَا فَهْيَ تَقْطُرُ مَاءً. مُتّكِئا عَلَى رَجُلَيْنِ (أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ) يَطُوفُ بِالْبَيْتِ. فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. ثُمّ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ. أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَىَ. كَأَنّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ. فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: هَذَا الْمَسِيحُ الدّجّالُ".
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ إِسْحَقَ الْمُسَيّبِيّ: حَدّثَنَا أَنَسٌ (يَعْنِي ابْنَ عِيَاضٍ) عَنْ مُوْسَىَ (وَهُوَ ابْنُ عُقْبَةَ) عَنْ نَافِعٍ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْما، بَيْنَ ظَهْرَانِي النّاسِ: الْمَسِيحَ الدّجّالَ. فَقَالَ: "إِنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِنّهُ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، أَلاَ وَإِنّ الْمَسِيحَ الدّجّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَىَ. كَأَنّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ" قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَانِي اللّيْلَةَ فِي الْمَنَامِ عِنْدَ الْكَعْبَةِ. فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا تَرَى مِنْ أُدْمِ الرّجَالِ. تَضْرِبُ لِمّتُهُ بَيْنَ مَنْكِبَيْهِ. رَجِلُ الشّعَرِ. يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً. وَاضِعا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ. وَهُوَ بَيْنَهُمَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. وَرَأَيْتُ وَرَاءَهُ رَجُلاً جَعْدا قَطَطا. أَعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَىَ. كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النّاسِ بِابْنِ قَطَنٍ. وَاضِعا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ. يَطُوفُ بِالْبَيْتِ. فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا الْمَسِيحُ الدّجّالُ".
حدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا حَنْظَلَةُ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "رَأَيْتُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ رَجُلاً آدَمَ. سَبِطَ الرّأْسِ. وَاضِعا يَدَيْهِ عَلَى رَجُلَيْنِ. يَسْكُبُ رَأْسُهُ (أَوْ يَقْطُرُ رَأْسُهُ). فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: عِيَسىَ بْنُ مَرْيَمَ أو المسيحُ ابْنُ مَرْيَمَ (لاَ نَدْرِي أَيّ ذَلِكَ قَالَ) وَرَأَيْتُ وَرَاءَهُ رَجُلاً أَحْمَرَ. جَعْدَ الرّأْسِ. أَعْوَرَ الْعَيْنِ اليُمْنَىَ. أَشْبَهُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ ابْنُ قَطَنٍ. فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا: الْمَسِيحُ الدّجّالُ".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيَثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدُ الرّحْمَنِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمّا كَذّبَتْنِي قُرَيْشٌ. قُمْتُ فِي الْحِجْرِ فَجَلاَ الله لِي بَيْتَ الْمَقْدِسِ. فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ".
حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ الله بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبِطُ الشّعْرِ. بَيْنَ رَجُلَيْنِ. يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً (أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً) قُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا ابْنُ مَرْيَمَ. ثُمّ ذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ. جَسِيمٌ. جَعْدُ الرّأْسِ. أَعْوَرُ الْعَيْنِ. كَأَنّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الدّجّالُ. أَقْرَبُ النّاسِ بِهِ شَبَها ابْنُ قَطَنٍ".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ (وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ)، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الفَضْلِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْد الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ. وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطّ. قَالَ: فَرَفَعَهُ الله لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ. مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاّ أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ، وَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الأَنْبِيَاءِ. فَإِذَا مُوسَىَ قَائِمٌ يُصَلّي. فَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ جَعْدٌ كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. وَإِذَا عِيسَىَ ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السّلاَمُ قَائِمٌ يُصَلّي. أَقْرَبُ النّاسِ بِهِ شَبَها عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ. وَإِذَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلاَمُ قَائِمٌ يُصَلّي. أَشْبَهُ النّاسِ بِهِ صَاحِبُكُمْ (يَعْنِي نَفْسَهُ) فَحَانَتِ الصّلاَةُ فَأَمَمْتُهُمْ. فَلَمّا فَرَغْتُ مِنَ الصّلاَةِ قَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمّدُ! هَذَا مَالِكٌ، صَاحِبُ النّارِ فَسَلّمْ عَلَيْهِ. فَالْتَفَتّ إِلَيْهِ فَبَدَأَنِي بِالسّلاَمِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (أراني ليلة عند الكعبة فرأيت رجلاً آدم كأحسن ما أنت راء من أدم الرجال، له لمة كأحسن ما أنت راء من اللمم قد رجلها، فهي تقطر ماء متكئا على رجلين أو على عواتق رجلين يطوف بالبيت، فسألت من هذا؟ فقيل: هذا المسيح ابن مريم، ثم إذا أنا برجل جعد قطط أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية فسألت من هذا؟ فقيل: هذا المسيح الدجال) أما قوله صلى الله عليه وسلم: "أراني" فهو بفتح الهمزة. وأما الكعبة فسميت كعبة لارتفاعها وتربعها، وكل بيت مربع عند العرب فهو كعبة، وقيل سميت كعبة لاستدارتها وعلوها، ومنه كعب الرجل، ومنه كعب ثدي المرأة إذا علا واستدار. وأما اللمة فهي بكسر اللام وتشديد الميم وجمعها لمم كقربة وقرب، قال الجوهري: ويجمع على لمام يعني بكسر اللام وهو الشعر المتدلي الذي جاوز شحمة الأذنين فإذا بلغ المنكبين فهو جمة. وأما رجلها فهو بتشديد الجيم ومعناه سرحها بمشط مع ماء أو غيره. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "يقطر ماء) فقد قال القاضي عياض: يحتمل أن يكون على ظاهره أتى يقطر بالماء الذي رجلها به لقرب ترجيله، وإلى هذا نحا القاضي الباجي. قال القاضي عياض: ومعناه عندي أن يكون ذلك عبارة عن نضارته وحسنه واستعارة لجماله. وأما العواتق فجمع عاتق قال أهل اللغة: هو ما بين المنكب والعنق، وفيه لغتان: التذكير والتأنيث، والتذكير أفصح وأشهر. قال صاحب المحكم: ويجمع العاتق على عواتق كما ذكرنا، وعلى عتق وعتق بإسكان التاء وضمها. وأما طواف عيسى عليه السلام فقال القاضي عياض رحمه الله: إن كانت هذه رؤيا عين فعيسى حي لم يمت، يعني فلا امتناع في طوافه حقيقة، وإن كان مناما كما نبه عليه ابن عمر رضي الله عنهما في روايته فهو محتمل لما تقدم ولتأويل الرؤيا. قال القاضي: وعلى هذا يحمل ما ذكر من طواف الدجال بالبيت وأن ذلك رؤيا، إذ قد ورد في الصحيح أنه لا يدخل مكة ولا المدينة، مع أنه لم يذكر في رواية مالك طواف الدجال. وقد يقال: إن تحريم دخول المدينة عليه إنما هو في زمن فتنته، والله أعلم. وأما المسيح فهو صفة لعيسى صلى الله عليه وسلم وصفة للدجال، فأما عيسى فاختلف العلماء في سبب تسميته مسيحا، قال الواحدي: ذهب أبو عبيد والليث إلى أن أصله بالعبرانية مشيحا فعربته العرب وغيرت لفظه، كما قالوا موسى وأصله موشى أو ميشا بالعبرانية فلما عربوه غيروه، فعلى هذا لا اشتقاق له. قال: وذهب أكثر العلماء إلى أنه مشتق، وكذا قال غيره أنه مشتق على قول الجمهور، ثم اختلف هؤلاء، فحكي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لأنه لم يمسح ذا عاهة إلا بريء. وقال إبراهيم وابن الأعرابي: المسيح الصديق، وقيل: لكونه ممسوح أسفل القدمين لا أخمص له، وقيل: لمسح زكريا إياه، وقيل: لمسحه الأرض أي قطعها، وقيل: لأنه خرج من بطن أمه ممسوحا بالدهن، وقيل: لأنه مسح بالبركة حين ولد، وقيل: لأن الله تعالى مسحه أي خلقه خلقا حسنا، وقيل غير ذلك، والله أعلم. وأما الدجال فقيل سمي بذلك لأنه ممسوح العين، وقيل: لأنه أعور والأعور يسمى مسيحا، وقيل: لمسحه الأرض حين خروجه، وقيل غير ذلك. قال القاضي: ولا خلاف عند أحد من الرواة في اسم عيسى أنه بفتح الميم وكسر السين مخففة، واختلف في الدجال فأكثرهم يقوله مثله ولا فرق بينهما في اللفظ، ولكن عيسى صلى الله عليه وسلم مسيح هدى، والدجال مسيح ضلالة. ورواه بعض الرواة مسيح بكسر الميم والسين المشددة، وقاله غير واحد كذلك إلا أنه بالخاء المعجمة، وقاله بعضهم بكسر الميم وتخفيف السين، والله أعلم. وأما تسمية الدجال فقد تقدم بيانها في شرح المقدمة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الدجال: "جعد قطط" فهو بفتح القاف والطاء هذا هو المشهور، قال القاضي عياض: رويناه بفتح الطاء الأولى وبكسرها، قال وهو شديد الجعود: وقال الهروي: الجعد في صفات الرجال يكون مدحا ويكون ذما، فإذا كان ذما فله معنيان: أحدهما القصير المتردد، والاَخر البخيل. يقال: رجل جعد اليدين وجعد الأصابع أي بخيل. وإذا كان مدحا فله أيضا معنيان: أحدهما أن يكون معناه شديد الخلق، والاَخر يكون شعره جعدا غير سبط فيكون مدحا، لأن السبوطة أكثرها في شعور العجم. قال القاضي: قال غير الهروي الجعد في صفة الدجال ذم، وفي صفة عيسى عليه السلام مدح، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أعور العين اليمنى كأنها عنبة طافية" فروي الهمز وبغير همز، فمن همز معناه ذهب ضوؤها، ومن لم يهمز معناه ناتئة بارزة، ثم أنه جاء هنا أعور العين اليمنى، وجاء في رواية أخرى أعور العين اليسرى، وقد ذكرهما جميعا مسلم في آخر الكتاب وكلاهما صحيح. قال القاضي عياض رحمه الله: روينا هذا الحرف عن أكثر شيوخنا بغير همز وهو الذي صححه أكثرهم.
قال: وهو الذي ذهب إليه الأخفش ومعناه ناتئة كنتوء حبة العنب من بين صواحبها، قال: وضبطه بعض شيوخنا بالهمز وأنكره بعضهم ولا وجه لإنكاره، وقد وصف في الحديث بأنه ممسوح العين، وأنها ليست جحراء ولا ناتئة بل مطموسة، وهذه صفة حبة العنب إذا سال ماؤها، وهذا يصحح رواية الهمز. وأما ما جاء في الأحاديث الأخر جاحظ العين وكأنها كوكب، وفي رواية: لها حدقة جاحظة كأنها نخاعة في حائط فتصحح رواية ترك الهمزة ولكن يجمع بين الأحاديث وتصحح الروايات جميعا بأن تكون المطموسة والممسوحة، والتي ليست بجحراء ولا ناتئة هي العوراء الطافئة بالهمز وهي العين اليمنى كما جاء هنا وتكون الجاحظة، والتي كأنها كوكب وكأنها نخاعة هي الطافية بغير همز وهي العين اليسرى كما جاء في الرواية الأخرى، وهذا جمع بين الأحاديث والروايات في الطافية بالهمز وبتركه وأعور العين اليمنى واليسرى لأن كل واحدة منهما عوراء، فإن الأعور من كل شيء المعيب لا سيما ما يختص بالعين، وكلا عيني الدجال معيبة عوراء إحداهما بذهابها والأخرى بعيبها، هذا آخر كلام القاضي، وهو في نهاية من الحسن، والله أعلم. قوله: (حدثنا محمد بن إسحاق المسيبي) هو بفتح الياء منسوب إلى جد له وهو محمد بن إسحاق بن محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن المسيب بن أبي السائب أبو عبد الله المخزومي.
قوله: (بين ظهراني الناس) هو بفتح الظاء وإسكان الهاء وفتح النون أي بينهم، وتقدم بيانه أيضا. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى ليس بأعور، ألا إن المسيح الدجال أعور عين اليمنى) معناه أن الله تعالى منزه عن سمات الحدث وعن جميع النقائص، وأن الدجال مخلوق من خلق الله تعالى ناقص الصورة، فينبغي لكم أن تعلموا هذا وتعلموه الناس لئلا يغتر بالدجال من يرى تخييلاته وما معه من الفتنة. وأما أعور عين اليمنى فهو عند النحويين من الكوفيين على ظاهره من الإضافة، وعند البصريين يقدر فيه محذوف كما يقدر في نظائره، فالتقدير أعور عين صفحة وجهه اليمنى، والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (كأشبه من رأيت بابن قطن) ضبطناه رأيت بضم التاء وفتحها وهما ظاهران، وقطن هذا بفتح القاف والطاء.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فجلا الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته) روي فحلا بتشديد اللام وتخفيفها وهما ظاهران ومعناه كشف وأظهر، وتقدم بيان لغات بيت المقدس واشتقاقه في أول هذا الباب وآياته علاماته.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ينطف رأسه ماء أو يهراق) أما ينطف فمعناه يقطر ويسيل، يقال نطف بفتح الطاء ينطف بضمها وكسرها. وأما يهراق فبضم الياء وفتح الهاء ومعناه ينصب.
قوله: (حدثنا حجين بن المثنى) هو بحاء مهملة مضمومة ثم جيم مفتوحة ثم ياء ثم نون. قوله صلى الله عليه وسلم: (فكربت كربة ما كربت مثله قط) هو بضم الكافين، والضمير في مثله يعود على معنى الكربة، وهو الكرب أو الغم أو الهم أو الشيء. قال الجوهري: الكربة بالضم الغم الذي يأخذ بالنفس، وكذلك الكرب، وكربه الغم إذا اشتد عليه. قوله صلى الله عليه وسلم: (وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء صلوات الله عليهم فإذا موسى صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، وإذا عيسى بن مريم عليه السلام قائم يصلي، وإذا إبراهيم عليه السلام قائم يصلي، فحانت الصلاة فأممتهم) قال القاضي عياض رحمه الله: قد تقدم الجواب في صلاتهم عند ذكر طواف موسى وعيسى عليهما السلام. قال: وقد تكون الصلاة هنا بمعنى الذكر والدعاء وهي من أعمال الاَخرة. قال القاضي: فإن قيل: كيف رأى موسى عليه السلام يصلي في قبره وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالأنبياء ببيت المقدس ووجدهم على مراتبهم في السموات وسلموا عليه ورحبوا به؟ فالجواب أنه يحتمل أن تكون رؤيته موسى في قبره عند الكثيب الأحمر كانت قبل صعود النبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء وفي طريقه إلى بيت المقدس ثم وجد موسى قد سبقه إلى السماء، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وصلى بهم على تلك الحال لأول ما رآهم ثم سألوه ورحبوا به، أو يكون اجتماعه بهم وصلاته ورؤيته موسى بعد انصرافه ورجوعه عن سدرة المنتهى، والله أعلم.
ا لغتان مشهورتان: الضم
والإسكان، حكاهما ابن السكيت والجوهري وآخرون. وكذلك الخلب والخلب وهو الليف كما فسره هشيم، والله أعلم.
*1* كتاب
*2* باب في ذكر سدرة المنتهى
*وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ: حَدّثَنَا مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيرٍ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعَاً عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ. وَأَلْفَاظِهُمْ مُتَقَارِبَةٌ. قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا مَالِكٍ بْنُ مِغْوَلٍ عَنِ الزّبَيْرِ بْنِ عَدِيَ، عَنْ طَلْحَةَ، عَنْ مُرّةَ، عَنْ عَبْدِ الله قَالَ: لَمّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. وَهِيَ فِي السّمَاءِ السّادِسَةِ. إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الأَرْضِ. فَيُقْبَضُ مِنْهَا. وَإِلَيْهَا يُنْتَهِى مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا. فَيُقْبَضُ مِنْهَا. قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السّدْرَةَ مَا يَغْشَى} (النجم الاَية: ). قَالَ: فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثاً: أُعْطِيَ الصّلَوَاتِ الْخَمْسَ. وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِالله مِنْ أُمّتِهِ شَيْئاً الْمُقْحِمَاتُ.
وحدّثني أَبُو الرّبِيعِ الزّهْرَانِيّ: حَدّثَنَا عَبّادٌ (وَهُوَ ابْنُ الْعَوّامِ): حَدّثَنَا الشّيْبَانِيّ قَالَ: سَأَلْتُ زِرّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ قَوْلِ الله عَزّ وَجَلّ: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىَ} (النجم الاَية: 9) قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ مَسْعُودٍ، أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتّمِائَةِ جَنَاحٍ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الشّيْبَانِيّ، عَنْ زِرّ، عَنْ عَبْدِ الله قَالَ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم الاَية: ) قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلاَمُ لَهُ سِتّمِائَةِ جَنَاحٍ.
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الشّيْبَانِيّ. سَمِعَ زِرّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَات رَبّهِ الْكُبْرَى} (النجم الاَية: ) قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ، لَهُ سِتّمِائَةِ جَنَاحٍ.
قوله: (عن مالك بن مغول عن الزبير بن عدي عن طلحة عن مرة) أما مغول فبكسر الميم وإسكان الغين المعجمة وفتح الواو، وطلحة هو ابن مصرف وهؤلاء الثلاثة أعني الزبير وطلحة ومرة تابعيون كوفيون. قوله: (انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السادسة) كذا هو في جميع الأصول السادسة، وقد تقدم في الروايات الأخر من حديث أنس أنها فوق السماء السابعة، قال القاضي: كونها في السابعة هو الأصح، وقول الأكثرين وهو الذي يقتضيه المعنى وتسميتها بالمنتهى. قلت: ويمكن أن يجمع بينهما فيكون أصلها في السادسة ومعظمها في السابعة فقد علم أنها في نهاية من العظيم. وقد قال الخليل رحمه الله: هي سدرة في السماء السابعة قد أظلت السموات والجنة، وقد تقدم ما حكيناه عن القاضي عياض رحمه الله في قوله: إن مقتضى خروج النهرين الظاهرين النيل والفرات من أصل سدرة المنتهى أن يكون أصلها في الأرض، فإن سلم له هذا أمكن حمله على ما ذكرناه والله أعلم. قوله: (وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات) هو بضم الميم وإسكان القاف وكسر الحاء ومعناه الذنوب العظام الكبائر التي تهلك أصحابها وتوردهم النار وتقحمهم إياها، والتقحم الوقوع في المهالك، ومعنى الكلام: من مات من هذه الأمة غير مشرك بالله غفر له المقحمات. والمراد والله أعلم بغفرانها أنه لا يخلد في النار بخلاف المشركين وليس المراد أنه لا يعذب أصلاً، فقد تقررت نصوص الشرع وإجماع أهل السنة على إثبات عذاب بعض العصاة من الموحدين، ويحتمل أن يكون المراد بهذا خصوصاً من الأمة أي يغفر لبعض الأمة المقحمات، وهذا يظهر على مذهب من يقول إن لفظة من لا تقتضي العموم مطلقاً، وعلى مذهب من يقول لا تقتضيه في الأخبار وإن اقتضته في الأمر والنهي، ويمكن تصحيحه على المذهب المختار وهو كونها للعموم مطلقاً، لأنه قد قام دليل على إرادة الخصوص وهو ما ذكرناه من النصوص والإجماع والله أعلم.
قوله: (وحدثني أبو الربيع الزهراني) هو بفتح الزاي وإسكان الهاء واسمه سليمان بن داود.
قول مسلم رحمه الله: (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا حفص بن غياث عن الشيباني عن زر عن عبد الله) هذا الإسناد كله كوفيون، وغياث بالغين المعجمة، والشيباني هو أبو إسحاق واسمه سليمان بن فيروز وقيل ابن خاقان وقيل ابن عمرو وهو تابعي. وأما زر فبكسر الزاي وحبيش بضم الحاء وفتح الموحدة وآخره الشين المعجمة وهو من المعمرين زاد على مائة وعشرين سنة وهو من كبار التابعين.
قوله: (عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى} قال رأى جبريل له ستمائة جناح) هذا الذي قاله عبد الله رضي الله عنه هو مذهبه في هذه الاَية. وذهب الجمهور من المفسرين إلى أن المراد أنه رأى ربه سبحانه وتعالى ثم اختلف هؤلاء فذهب جماعة إلى أنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بفؤاده دون عينيه وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينيه. قال الإمام أبو الحسن الواحدي قال المفسرون: هذا إخبار عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل ليلة المعراج. قال ابن عباس وأبو ذر وإبراهيم التيمي: رآه بقلبه، قال وعلى هذا رأى بقلبه ربه رؤية صحيحة، وهو أن الله تعالى جعل بصره في فؤاده أو خلق لفؤاده بصراً حتى رأى ربه رؤية صحيحة كما يرى بالعين، قال: وقد ذهب جماعة من المفسرين إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنس وعكرمة والحسن والربيع، قال المبرد: ومعنى الاَية أن الفؤاد رأى شيئاً فصدق فيه وما رأى في موضع نصب أي ما كذب الفؤاد مرئيه، وقرأ ابن عامر ما كذب بالتشديد، وقال المبرد: معناه أنه رأى شيئاً فقبله وهذا الذي قاله المبرد على أن الرؤية للفؤاد فإن جعلتها للبصر فظاهر أي ما كذب الفؤاد ما رأه البصر، هذا آخر كلام الواحدي.
قوله: (عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في قول الله تعالى: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} قال: رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح) هذا الذي قاله عبد الله رضي الله عنه هو قول كثيرين من السلف، وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وابن زيد ومحمد بن كعب ومقاتل بن حيان، وقال الضحاك: المراد أنه رأى سدرة المنتهى، وقيل رأى رفرفاً أخضر وفي الكبرى قولان للسلف: منهم من يقول هو نعت للاَيات ويجوز نعت الجماعة بنعت الواحدة كقوله تعالى: {مآرب أخرى} وقيل هو صفة لمحذوف تقديره رأى من آيات ربه الاَية الكبرى.
*2* باب معنى قول الله عزّ وجلّ {ولقد رآه نزلة أخرى}
*قال القاضي عياض رحمه الله اختلف السلف والخلف هل رأى نبينا صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإسراء فأنكرته عائشة رضي الله عنها كما وقع هنا في صحيح مسلم، وجاء مثله عن أبي هريرة وجماعة وهو المشهور عن ابن مسعود وإليه ذهب جماعة من المحدثين والمتكلمين. وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رآه بعينه، ومثله عن أبي ذر وكعب رضي الله عنهما، والحسن رحمه الله وكان يحلف عن ذلك، وحكى مثله عن ابن مسعود وأبي هريرة وأحمد بن حنبل، وحكى أصحاب المقالات عن أبي الحسن الأشعري وجماعة من أصحابه أنه رآه، وقف بعض مشايخنا في هذا وقال ليس عليه دليل واضح ولكنه جائز، ورؤية الله تعالى في الدنيا جائزة، وسؤال موسى إياها دليل على جوازها، إذ لا يجهل نبي ما يجوز أو يمتنع عن ربه، وقد اختلفوا في رؤية موسى صلى الله عليه وسلم ربه وفي مقتضى الاَية ورؤية الجبل، ففي جواب القاضي أبي بكر ما يقتضي أنهما رأياه، وكذلك اختلفوا في أن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم هل كلم ربه سبحانه وتعالى ليلة الإسراء بغير واسطة أم لا؟ فحكى عن الأشعري وقوم من المتكلمين أنه كلمه، وعزا بعضهم هذا إلى جعفر بن محمد وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، وكذلك اختلفوا في قوله تعالى: {ثم دنا فتدلى} فالأكثرون على أن هذا الدنو والتدلي منقسم ما بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم، أو مختص بأحدهما من الاَخر ومن السدرة المنتهى. وذكر عن ابن عباس والحسن ومحمد بن كعب وجعفر بن محمد وغيرهم أنه دنو من النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه سبحانه وتعالى أو من الله تعالى، وعلى هذا القول يكون الدنو والتدلي متأولاً ليس على وجهه، بل كما قال جعفر بن محمد: الدنو من الله تعالى لا حد له ومن العباد بالحدود، فيكون معنى دنو النبي صلى الله عليه وسلم من ربه سبحانه وتعالى وقربه منه ظهور عظيم منزلته لديه وإشراق أنوار معرفته عليه واطلاعه من غيبه وأسرار ملكوته على ما لم يطلع سواه عليه. والدنو من الله سبحانه له إظهار ذلك له وعظيم بره وفضله العظيم لديه، ويكون قوله تعالى: {قاب قوسين أو أدنى} على هذا عبارة عن لطف المحل وإيضاح المعرفة والإشراف على الحقيقة من نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن الله إجابة الرغبة وإباحة المنزلة، ويتأول في ذلك ما يتأول في قوله صلى الله عليه وسلم عن ربه عز وجل: "من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً" الحديث، هذا آخر كلام القاضي. وأما صاحب التحرير فإنه اختار إثبات الرؤية قال: والحجج في هذه المسألة وإن كانت كثيرة ولكنا لا نتمسك إلا بالأقوى منها، وهو حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ وعن عكرمة سئل ابن عباس رضي الله عنهما هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قال: نعم، وقد روي بإسناد لا بأس به عن شعبة عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه. وكان الحسن يحلف لقد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه. والأصل في الباب حديث ابن عباس حبر الأمة والمرجوع إليه في المعضلات، وقد راجعه ابن عمر رضي الله عنهم في هذه المسألة وراسله هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فأخبره أنه رآه، ولا يقدح في هذا حديث عائشة رضي الله عنها لأن عائشة لم تخبر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لم أر ربي، وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة لقول الله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً} ولقوله الله تعالى: {لا تدركه الأبصار} والصحابي إذا قال قولاً وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة، وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن وإنما يتلقى بالسماع، ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد. وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم ان ابن عباس أثبت شيئاً نفاه غيره والمثبت مقدم على النافي، هذا كلام صاحب التحرير، فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم، وإثبات هذا لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا ما لا ينبغي أن يتشكك فيه، ثم إن عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط من الاَيات وسنوضح الجواب عنها. فأما احتجاج عائشة بقول الله تعالى: {لا تدركه الأبصار}؟ فجوابه ظاهر فإن الإدراك هو الإحاطة والله تعالى لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وأجيب عن الاَية بأجوبة أخرى لا حاجة إليها مع ما ذكرناه فإنه في نهاية من الحسن مع اختصاره.
وأما احتجاجها رضي الله عنها بقول الله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً} الاَية فالجواب عنه من أوجه: أحدها أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية فيجوز وجود الرؤية من غير كلام. الثاني: أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة. الثالث: ما قاله بعض العلماء أن المراد بالوحي الكلام من غير واسطة، وهذا الذي قاله هذا القائل وإن كان محتملاً، ولكن الجمهور على أن المراد بالوحي هنا الإلهام والرؤية في المنام وكلاهما يسمى وحياً. وأما قوله تعالى: {أو من وراء حجاب} فقال الواحدي وغيره معناه غير مجاهر لهم بالكلام بل يسمعون كلامه سبحانه وتعالى من حيث لا يرونه، وليس المراد أن هناك حجاباً يفصل موضعاً من موضع ويدل على تحديد المحجوب فهو بمنزلة ما يسمع من وراء الحجاب حيث لم ير المتكلم والله أعلم
هل رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم ربه ليلة الإِسراء؟ 9 حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهرٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: {ولَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}(النجم الاَية: ) قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا حَفْصٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: رَآهُ بِقَلْبِهِ.
حدّثنا أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجّ، جَمِيعاً عَنْ وَكِيعٍ: قَالَ الأَشَجّ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ زِيَادَ بْنُ الْحُصَيْنِ أَبِي جَهْمَةَ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} (النجم الاَية: ) {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىَ} (النجم الاَية: ) قَالَ: رَآهُ بِفُؤَاده مَرّتَيْن.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الأَعْمَشِ. حَدّثَنَا أَبُو جَهْمَةَ بِهَذَا الاْسْنَادِ.
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ دَاوُدَ عَنِ الشّعْبِيّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ مُتّكِئاً عِنْدَ عَائِشَةَ. فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشَةَ! ثَلاَثٌ مَنْ تَكَلّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنّ فَقَدْ أَعْظَمَ علَى الله الْفِرْيَةَ. قُلْتُ مَا هُنّ؟ قَالَتْ: مَنْ زَعَمَ أَنّ مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم رَأَى رَبّهُ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الْفِرْيَةَ. قَالَ وَكُنْتُ مُتّكِئاً فَجَلَسْتُ. فَقُلْتُ: يَا أُمّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلاَ تَعْجَلِينِي. أَلَمْ يَقُلِ الله عَزّ وَجَلّ: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ} (التكوير الاَية: ) {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىَ}(النجم الاَية: ) فَقَالَتْ: أَنَا أَوّلُ هَذِهِ الأُمّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "إِنّمَا هُوَ جِبْرِيلُ. لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرّتَيْنِ. رَأَيْتُهُ مُنْهَبطاً مِنَ السّماءِ. سَادّاً عِظَمُ خلقه مَا بَيْنَ السّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ" فَقَالَتْ: أَوَ لَمْ تَسْمَع أن الله يَقُولُ: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام آية: 3) أَوَ لَمْ تَسْمَعْ أَنّ الله يَقُولُ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلّمَهُ الله إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنّهُ عَلِيّ حَكِيمٌ} (الشورى الاَية: ) قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَمَ شَيْئاً مِنْ كِتَابِ الله فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الْفِرْيَةَ. وَالله يَقُولُ: {يَا أَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة الاَية: ) قَالَتْ: وَمَنْ زَعَمَ أَنّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى الله الْفِرْيَةَ. وَالله يَقُولُ: {قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاّ الله} (النمل الاَية: ).
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ: حَدّثَنَا دَاوُدُ بِهَذَا الاْسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيّةَ، وَزَادَ: قالت: وَلَوْ كَانَ مُحَمّد صلى الله عليه وسلم كَاتِماً شَيْئاً مِمّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ لَكَتَمَ هَذِهِ الاَيَةَ: {وَإِذْ تَقُولُ لِلّذِي أَنْعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتّقِ الله وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النّاسَ وَالله أَحَقّ أَنْ تَخْشَاهُ} (الأحزاب الاَية: ).
حدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ الشّعْبِيّ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ: هَلْ رَأَى مُحَمّدٌ صلى الله عليه وسلم رَبّهُ؟ فَقَالَتْ: سُبْحَانَ الله! لَقَدْ قَفّ شَعْرِي لِمَا قُلْتَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصّتِهِ. وَحَدِيثُ دَاوُدُ أَتَمّ وَأَطْوَلُ.
وحدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ: حَدّثَنَا زَكَرِيّاءُ، عَنِ ابْنِ أَشْوَعَ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ: فَأَيْنَ قوله: {ثُمّ دَنَا فَتَدَلّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَىَ}(النجم الاَيات: 9 ) قَالَتْ: إِنّمَا ذَاكَ جِبْرِيلُ صلى الله عليه وسلم. كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرّجَالِ. وَإِنّهُ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَرّةِ فِي صُورَتِهِ الّتِي هِيَ صُورَتُهُ، فَسَدّ أُفُقَ السّمَاءِ.
قوله: (عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى} قال رأى جبريل) وهكذا قاله أيضاً أكثر العلماء. قال الواحدي أكثر العلماء: المراد رأى جبريل في صورته التي خلقه الله تعالى عليها. وقال ابن عباس: رأى ربه سبحانه وتعالى، وعلى هذا معنى نزلة أخرى يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقد كانت له عرجات في تلك الليلة لاستحطاط عدد الصلوات فكل عرجة نزلة والله أعلم.
قوله: (عن الأعمش عن زياد بن الحصين أبي جهمة عن أبي العالية عن ابن عباس رضي الله عنهما: {ما كذب الفؤاد ما رأى ولقد رآه نزلة أخرى} قال: رآه بفؤاده مرتين) هذا الذي قاله ابن عباس معناه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وتعالى مرتين في هاتين الاَيتين، وقد قدمنا اختلاف العلماء في المراد بالاَيتين، وأن الرؤية عند من أثبتها بالفؤاد أم بالعين، وفي هذا الإسناد ثلاثة تابعيون الأعمش وزياد وأبو العالية بعضهم عن بعض، واسم الأعمش سليمان بن مهران تقدم بيانه مرات، وجهمة بفتح الجيم وإسكان الهاء، واسم أبي العالية رفيع بضم الراء وفتح الفاء والله أعلم.
قوله: (أعظم على الله الفرية) هي بكسر الفاء وإسكان الراء وهي الكذب يقال فرى الشيء يفريه فرياً وافتراه يفتريه افتراء إذا اختلقه وجمع الفرية فرى. قوله: (أنظريني) أي أمهليني. قوله: (عن مسروق ألم يقل الله تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين}) وقول عائشة رضي الله عنها: {أو لم تسمع أن الله تعالى يقول: {لا تدركه الأبصار} أو لم تسمع أن الله تعالى يقول: {ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً}) ثم قالت عائشة أيضاً: (والله تعالى يقول: {يا أيها الرسول بلغ} ثم قالت: والله تعالى يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) هذا كله تصريح من عائشة ومسروق رضي الله عنهما بجواز قول المستدل بآية من القرآن أن الله عز وجل يقول، وقد كره ذلك مطرف بن عبد الله بن الشخير التابعي المشهور، فروى ابن أبي داود بإسناده عنه أنه قال: لا تقولوا إن الله يقول، ولكن قولوا إن الله قال، وهذا الذي أنكره مطرفه رحمه الله خلاف ما فعلته الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أئمة المسلمين، فالصحيح المختار جواز الأمرين كما استعملته عائشة رضي الله عنها ومن في عصرها وبعدها من السلف والخلف وليس لمن أنكره حجة، ومما يدل على جوازه من النصوص قول الله عز وجل: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} وفي صحيح مسلم رحمه الله عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} والله أعلم. وأما قولها: (أو لم تسمع أن الله تعالى يقول ما كان لبشر) فهكذا هو في معظم الأصول ما كان بحذف الواو والتلاوة وما كان بإثبات الواو، ولكن لا يضر هذا في الرواية والاستدلال لأن المستدل ليس مقصوده التلاوة على وجهها، وإنما مقصوده بيان موضع الدلالة، ولا يؤثر حذف الواو في ذلك، وقد جاء لهذا نظائر كثيرة في الحديث منها قوله فأنزل الله تعالى: {أقم الصلاة طرفي النهار} وقوله تعالى: {أقم الصلاة لذكري} هكذا هو في روايات الحديثين في الصحيحين والتلاوة بالواو فيهما والله أعلم. وأما مسروق فقال أبو سعيد السمعاني في الأنساب: سمي مسروقاً لأنه سرقه إنسان في صغره ثم وجد. قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيته منهبطاً من السماء ساداً عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض) هكذا هو في الأصول ما بين السماء إلى الأرض وهو صحيح، وأما عظم خلقه فضبط على وجهين: أحدهما بضم العين وإسكان الظاء: والثاني: بكسر العين وفتح الظاء وكلاهما صحيح.
قوله: (سألت عائشة رضي الله عنها: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وتعالى؟ فقالت: سبحان الله لقد قف شعري لما قلت) أما قولها سبحان الله فمعناه التعجب من جهل مثل هذا وكأنها تقول: كيف يخفى عليك مثل هذا؟ ولفظة سبحان الله لإرادة التعجب كثيرة في الحديث وكلام العرب كقوله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله تطهري بها، وسبحان الله المسلم لا ينجس، وقول الصحابة: سبحان الله يا رسول الله، وممن ذكر من النحويين أنها من ألفاظ التعجب أبو بكر بن السراج وغيره، وكذلك يقولون في التعجب: لا إله إلا الله والله أعلم. وأما قولها رضي الله عنها قل شعري فمعناه قام شعري من الفزع لكوني سمعت ما لا ينبغي أن يقال، قال ابن الأعرابي: تقول العرب عند إنكار الشيء قف شعري واقشعر جلدي. واشمأزت نفسي، قال النضر بن شميل القفة كهيئة القشعريرة وأصله التقبض والاجتماع لأن الجلد ينقبض عند الفزع والاستهوال فيقوم الشعر لذلك وبذلك سميت القفة التي هي الزنبيل لاجتماعها ولما يجتمع فيها والله أعلم.
قول مسلم رحمه الله: (حدثنا ابن نمير حدثنا أبو أسامة حدثنا زكريا عن ابن أشوع عن عامر عن مسروق) هؤلاء كلهم كوفيون، وابن نمير اسمه محمد بن عبد الله بن نمير، وأبو أسامة اسمه حماد بن أسامة، وزكريا هو ابن أبي زائدة واسم أبي زائدة خالد بن ميمون وقيل هبيرة، وابن أشوع هو سعد بن عمرو بن أشوع بفتح الهمزة وإسكان الشين المعجمة وفتح الواو وبالعين المهملة.
قوله: (قلت لعائشة رضي الله عنها: فأين قوله تعالى: {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} فقالت: إنما ذاك جبريل عليه السلام) قال الإمام أبو الحسن الواحدي: معنى التدلي الامتداد إلى جهة السفل هكذا هو الأصل، ثم استعمل في القرب من العلو هذا قول الفراء، وقال صاحب النظم: هذا على التقديم والتأخير لأن المعنى ثم تدلى فدنا لأن التدلي سبب الدنو، قال ابن الأعرابي: تدلى إذا قرب بعد علو، قال الكلبي المعنى دنا جبريل من محمد صلى الله عليه وسلم فقرب منه، وقال الحسن وقتادة: ثم دنا جبريل بعد استوائه في الأفق الأعلى من الأرض فنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قوله تعالى: {فكان قاب قوسين أو أدنى} فالقاب ما بين القبضة والسية ولكل قوس قابان والقاب في اللغة أيضاً القدر، وهذا هو المراد بالاَية عند جميع المفسرين، والمراد القوس التي يرمى عنها وهي القوس العربية وخصت بالذكر على عادتهم، وذهب جماعة إلى أن المراد بالقوس الذراع، هذا قول عبد الله بن مسعود وشقيق بن سلمة وسعيد بن جبير وأبي إسحاق السبيعي، وعلى هذا معنى القوس ما يقاس به الشيء أي يذرع، قالت عائشة رضي الله عنها وابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم: هذه المسافة كانت بين جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم، وقول الله تعالى: {أو أدنى} معناه أو أقرب، قال مقاتل: بل أقرب، وقال الزجاج: خاطب الله تعالى العباد على لغتهم ومقدار فهمهم والمعنى أو أدنى فيما تقدرون أنتم، والله تعالى عالم بحقاق الأشياء من غير شك، ولكنه خاطبنا على ما جرت به عادتنا، ومعنى الاَية أن جبريل عليه السلام مع عظم خلقه وكثرة أجزائه دنا من النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدنو والله أعلم
*2* باب في قوله عليه السلام: نور أني أراه، وفي قوله: "رأيت نوراً"
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي ذَرّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: هَلْ رَأَيْتَ رَبّكَ؟ قَالَ: "نُورٌ أَنّىَ أَرَاهُ"؟.
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ بَشّارٍ: حَدّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنِي حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ. حَدّثَنَا عَفّانُ بْنُ مُسْلِمٍ. حَدّثَنَا هَمّامٌ. كِلاَهُمَا عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ قُلْتُ لأَبِي ذَرّ: لَوْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَسَأَلْتُهُ. فَقَالَ: عَنْ أَيّ شَيْءٍ كُنْتَ تَسْأَلُهُ؟ قَالَ: كُنْتُ أَسْأَلُهُ: هَلْ رَأَيْتَ رَبّكَ؟ قَالَ أَبُو ذَرَ: قَدْ سَأَلْتُ فَقَالَ: "رَأَيْتُ نُوراً".
قوله: (عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه). وفي الرواية الأخرى: (رأيت نوراً) أما قوله صلى الله عليه وسلم نور أني أراه فهو بتنوين نور وبفتح الهمزة في أني وتشديد النون وفتحها وأراه بفتح الهمزة، هكذا رواه جميع الرواة في جميع الأصول والروايات ومعناه حجابه نور فكيف أراه؟ قال الإمام أبو عبد الله المازري رحمه الله: الضمير في أراه عائد على الله سبحانه وتعالى ومعناه أن النور منعني من الرؤية كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من إدراك ما حالت بين الرائي وبينه. وقوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت نوراً) معناه رأيت النور فحسب ولم أر غيره، قال: وروى نوراني أراه بفتح الراء وكسر النون وتشديد الياء، ويحتمل أن يكون معناه راجعاً إلى ما قلناه أي خالق النور المانع من رؤيته فيكون من صفات الأفعال، قال القاضي عياض رحمه الله: هذه الرواية لم تقع إلينا ولا رأيتها في شيء من الأصول، ومن المستحيل أن تكون ذات الله تعالى نوراً إذ النور من جملة الأجسام والله سبحانه وتعالى يجل عن ذلك، هذا مذهب جميع أئمة المسلمين، ومعنى قوله تعالى: {الله نور السموات والأرض} وما جاء في الأحاديث من تسميته سبحانه وتعالى بالنور معناه ذو نورهما وخالقه، وقيل هادي أهل السموات والأرض، وقيل منور قلوب عباده المؤمنين، وقيل معناه ذو البهجة والضياء والجمال والله أعلم
*2* باب في قوله عليه السلام: إن الله لا ينام، وفي قوله: حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَىَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، فَقَالَ: "إِنّ الله عَزّ وَجَلّ لاَ يَنَامُ وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ. يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ. يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النّهَارِ. وَعَمَلُ النّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللّيْلِ. حِجَابُهُ النّورُ. (وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: النّارُ) لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ". وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرِ عَنِ الأَعْمَشِ وَلَمْ يَقُلْ حَدّثَنَا).
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ. قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ. ثُمَ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ. وَلَمْ يَذْكُرْ "مِنْ خَلْقِهِ" وَقَالَ: حِجَابُهُ النّورُ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدّثَنِي شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوْسَىَ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِأَرْبَعٍ: "إِنّ الله لاَ يَنَامُ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ. يَرْفَعُ الْقِسْطَ وَيَخْفِضُهُ. وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ النّهَارِ بِاللّيْلِ. وَعَمَلُ اللّيْلِ بِالنّهَارِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور. وفي رواية: النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). أما قوله صلى الله عليه وسلم: لا ينام ولا ينبغي له أن ينام فمعناه أنه سبحانه وتعالى لا ينام وأنه يستحيل في حقه النوم، فإن النوم انغمار وغلبة على العقل يسقط به الإحساس والله تعالى منزه عن ذلك، وهو مستحيل في حقه جل وعلى، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: يخفض القسط ويرفعه فقال القاضي عياض قال الهروي قال ابن قتيبة: القسط الميزان وسمي قسطاً لأن القسط العدل وبالميزان يقع العدل، قال: والمراد أن الله تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن من أعمال العباد المرتفعة ويوزن من أرزاقهم النازلة، وهذا تمثيل لما يقدر تنزيله، فشبه بوزن الميزان، وقيل المراد بالقسط الرزق الذي هو قسط كل مخلوق يخفضه فيقتره ويرفعه فيوسعه والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل). وفي الرواية الثانية: (عمل النهار بالليل وعمل الليل بالنهار) فمعنى الأول والله أعلم يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار الذي بعده، وعمل النهار قبل عمل الليل الذي بعده، ومعنى الرواية الثانية يرفع إليه عمل النهار في أول الليل الذي بعده، ويرفع إليه عمل الليل في أول النهار الذي بعده، فإن الملائكة الحفظة يصعدون بأعمال الليل بعد انقضائه في أول النهار، ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول الليل والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) فالسبحات بضم السين والباء ورفع التاء في آخره وهي جمع سبحة، قال صاحب العين والهروي وجميع الشارحين للحديث من اللغويين والمحدثين: معنى سبحات وجهه نوره وجلاله وبهاؤه، وأما الحجاب فأصله في اللغة المنع والستر، وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة والله تعالى منزه عن الجسم والحد، والمراد هنا المانع من رؤيته، وسمي ذلك المانع نوراً أو ناراً لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة لشعاعهما، والمراد بالوجه الذات والمراد بما انتهى إليه بصره من خلقه جميع المخلوقات، لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات، ولفظة من لبيان الجنس لا للتبعيض، والتقدير لو أزال المانع من رؤيته وهو الحجاب المسمى نوراً أو ناراً وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته والله أعلم.
قوله: (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية حدثنا الأعمش عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى ثم قال. وفي رواية أبي بكر عن الأعمش ولم يقل حدثنا) هذا الإسناد كله كوفيون وأبو موسى الأشعري بصري، كوفي، واسم أبي بكر بن أبي شيبة عبد الله بن محمد بن إبراهيم وهو أبو شيبة، واسم أبي كريب محمد بن العلاء، وأبو معاوية محمد بن خارم بالخاء المعجمة، والأعمش سليمان بن مهران، وأبو موسى عبد الله بن قيس وكل هؤلاء تقدم بيانهم، ولكن طال العهد بهم فأردت تجديده لمن لا يحفظهم، وأما أبو عبيدة فهو ابن عبد الله بن مسعود واسمه عبد الرحمن، وفي هذا الإسناد لطيفتان من لطائف علم الإسناد: إحداهما أنهم كلهم كوفيون كما ذكرته، والثانية أن فيه ثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض: الأعمش وعمرو وأبو عبيدة. وأما قوله: وفي رواية أبي بكر عن الأعمش ولم يقل حدثنا فهو من احتياط مسلم رحمه الله وورعه وإتقانه، وهو أنه رواه عن أبي كريب وأبي بكر فقال أبو كريب في روايته: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا الأعمش، وقال أبو بكر: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش، فلما اختلفت عبارتهما في كيفية رواية شيخهما أبي معاوية بينها مسلم رحمه الله فحصل فيه فائدتان: إحداهما: أن حدثنا للاتصال بإجماع العلماء، وفي عن خلاف كما قدمناه في الفصول وغيرها، والصحيح الذي عليه الجماهير من طوائف العلماء أنها أيضاً للاتصال إلا أن يكون قائلها مدلساً فبين مسلم ذلك، والثانية أنه لو اقتصر على إحدى العبارتين كان فيه خلل، فإنه إن اقتصر على عن كان مفوتاً لقوة حدثنا وراوياً بالمعنى، وإن اقتصر على حدثنا كان زائداً في رواية أحدهما راوياً بالمعنى، وكل هذا مما يجتنب والله أعلم بالصواب
*2* باب إثبات رؤية المؤمنين في الاَخرة ربهم سبحانه وتعالى
*أعلم أن مذهب أهل السنة بأجمعهم أن رؤية الله تعالى ممكنة غير مستحيلة عقلاً، وأجمعوا أيضاً على وقوعها في الاَخرة، وأن المؤمنين يرون الله تعالى دون الكافرين، وزعمت طائفة من أهل البدع المعتزلة والخوارج وبعض المرجئة أن الله تعالى لا يراه أحد من خلقه وأن رؤيته مستحيلة عقلاً، وهذا الذي قالوه خطأ صريح وجهل قبيح، وقد تظاهرت أدلة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فمن بعدهم من سلف الأمة على إثبات رؤية الله تعالى في الاَخرة للمؤمنين، ورواها نحو من عشرين صحابياً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآيات القرآن فيها مشهورة، واعتراضات المبتدعة عليها لها أجوبة مشهورة في كتب المتكلمين من أهل السنة، وكذلك باقي شبههم وهي مستقصاة في كتب الكلام وليس بنا ضرورة إلى ذكرها هنا. وأما رؤية الله تعالى في الدنيا فقد قدمنا أنها ممكنة، ولكن الجمهور من السلف والخلف من المتكلمين وغيرهم أنها لا تقع في الدنيا، وحكم الإمام أبو القاسم القشيري في رسالته المعروفة عن الإمام أبي بكر بن فورك أنه حكى فيها قولين للإمام أبي الحسن الأشعري: أحدهما وقوعها، والثاني: لا تقع، ثم مذهب أهل الحق أن الرؤية قوة يجعلها الله تعالى في خلقه، ولا يشترط فيها اتصال الأشعة ولا مقابلة المرئي ولا غير ذلك، لكن جرت العادة في رؤية بعضنا بعضاً بوجود ذلك على جهة الاتفاق لا على سبيل الاشتراط، وقد قرر أئمتنا المتكلمون ذلك بدلائله الجلية، ولا يلزم من رؤية الله تعالى إثبات جهة تعالى عن ذلك بل يراه المؤمنون لا في جهة كما يعلمونه لا في جهة والله أعلم. قوله في الإسناد: (الجهضمي وأبو غسان المسمعي) أما الجهضمي فبفتح الجيم والضاد المعجمة وإسكان الهاء بينهما، وقد تقدم بيانه في أول شرح المقدمة، وكذلك تقدم بيان أبي غسان، وأنه يجوز صرفه وترك صرفه، وأن اسمه مالك بن عبد الواحد، وأن المسمعي بكسر الميم الأولى وفتح الثانية منسوب إلى مسمع ابن ربيعة جد القبيلة، وهذا كله وإن كان ظاهراً وقد تقدم إلا أني أعيده لطول العهد بموضعه والله أعلم.
حدّثنا نَصْرُ بْنُ عَلِيَ الْجَهْضَمِيّ، وَ أَبُو غَسّانَ الْمِسْمَعِيّ، وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعاً عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ الصّمَدِ. وَاللّفْظُ لاَِبِي غَسّانَ. قَالَ: حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ الصّمَدِ: حَدّثَنَا أَبُو عِمْرَانَ الْجَونِيّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْن عَبْدِ اللّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "جَنّتَانِ مِنْ فِضّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا. وَجَنّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا. وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبّهِمْ إِلاّ رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ. فِي جَنّةِ عَدْنٍ".
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنِ عُمَرَ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيَ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَىَ، عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنّةِ الْجَنّةَ، قَالَ يَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئاً أَزِيدُكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: أَلَمْ تُبِيّضْ وُجُوهَنَا؟ أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنّةَ وَتُنَجّنَا مِنَ النّارِ؟ قَالَ: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ. فَمَا أُعْطُوا شَيْئاً أَحَبّ إِلَيْهِمْ مِنَ النّظَرِ إِلَى رَبّهِمْ عَزّ وَجَلّ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا يَزِيْدُ بْنُ هَرُونَ، عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ بِهَذَا الإسْنَادِ. وَزَادَ: ثُمّ تَلاَ هَذِهِ الاَيَةَ: {لِلّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىَ وَزِيَادَةٌ} (يونس الاَية: ).
قوله: (عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس) هو أبو بكر بن أبي موسى الأشعري واسم أبي بكر عمرو وقيل عامر. قوله صلى الله عليه وسلم: (وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبر في جنة عدن) قال العلماء: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطب العرب بما يفهمونه ويقرب الكلام إلى أفهامهم، ويستعمل الاستعارة وغيرها من أنواع المجاز ليقرب متناولها، فعبر صلى الله عليه وسلم عن زوال المانع ورفعه عن الأبصار بإزالة الرداء. قوله صلى الله عليه وسلم: (في جنة عدن) أي الناظرون في جنة عدن فهي ظرف للناظر.
قوله: (حدثنا عبد الله بن عمر بن ميسرة، حدثني عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة الحديث) هذا الحديث هكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة وغيرهم من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن ابن أبي ليلى عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال أبو عيسى الترمذي وأبو مسعود الدمشقي وغيرهما: لم يروه هكذا مرفوعاً عن ثابت غير حماد بن سلمة، ورواه سليمان بن المغيرة وحماد بن زيد وحماد بن واقد عن ثابت عن ابن أبي ليلى من قوله: ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ولا ذكر صهيب، وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بقادح في صحة الحديث، فقد قدمنا في الفصول أن المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه الفقهاء وأصحاب الأصول والمحققون من المحدثين وصححه الخطيب البغدادي أن الحديث إذا رواه بعض الثقات متصلاً وبعضهم مرسلاً أو بعضهم مرفوعاً وبعضهم موقوفاً حكم بالمتصل وبالمرفوع لأنهما زيادة ثقة، وهي مقبولة عند الجماهير من كل الطواف والله أعلم
*2* باب معرفة طريق الرؤية
*حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدّثَنَا أَبِي، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللّيْثِيّ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ: أَنّ نَاساً قَالُوا لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللّهِ! هَلْ نَرَى رَبّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تُضَارّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ؟" قَالُوا: لاَ. يَا رَسُولَ اللّهِ! قَالَ: "هَلْ تُضَارّونَ فِي الشّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ؟" قَالُوا: لاَ. يَا رَسُولَ اللّهِ! قَالَ: فَإِنّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ. يَجْمَعُ الله النّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيَقُولُ: مَنْ كَانَ يَعْبُدُ شَيْئاً فَلْيَتّبِعْهُ. فَيَتّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الشّمْسَ الشّمْسَ. وَيَتّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الْقَمَرَ الْقَمَرَ. وَيَتّبِعُ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الطّواغِيتَ الطّوَاغِيتَ. وَتَبْقَى هَذِهِ الأُمّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا. فَيَأْتِيهِمُ الله، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فِي صُورَةٍ غيرِ صورتِهِ التي يَعْرِفُونَ. فَيَقُولُ: أَنَا رَبّكُمْ. فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِالله مِنْكَ. هَذَا مَكَانُنَا حَتّى يَأْتِيَنَا رَبّنَا. فَإِذَا جَاءَ رَبّنَا عَرَفْنَاهُ. فَيَأْتِيهِمُ الله تَعَالَى فِي صُورَتِهِ الّتِي يَعْرِفُونَ. فَيَقُولُ: أَنَا رَبّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبّنَا. فَيَتّبِعُونَهُ. وَيُضْرَبُ الصّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنّمَ. فَأَكُونُ أَنَا وَأُمّتِي أَوّلَ مَنْ يُجِيزُ. وَلاَ يَتَكَلّمُ يَوْمَئِذٍ إِلاّ الرّسُلُ. وَدَعْوَى الرّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللّهُمّ! سَلّمْ، سَلّمْ. وَفِي جَهَنّمَ كَلاَلِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السّعْدَانِ. هَلْ رَأَيْتُمُ السّعْدَانَ؟" قَالُوا: نَعَمْ. يَا رَسُولَ اللّهِ! قَالَ: "فَإِنّهَا مِثْلُ شَوْكِ السّعْدَانِ. غَيْرَ أَنّهُ لاَ يَعْلَمُ مَا قَدْرُ عِظَمِهَا إِلاّ الله. تَخْطَفُ النّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ. فَمِنْهُمُ الْمُومن يَقِيَ بِعَمَلِهِ. وَمِنْهُمُ الْمُجَازَى حَتّى يُنَجّى. حَتّى إِذَا فَرَغَ الله مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ، وَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ بِرَحْمَتِهِ مَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ النّارِ، أَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ أَنْ يُخْرِجُوا مِنَ النّارِ مَنْ كَانَ لاَ يُشْرِكُ بِالله شَيْئاً، مِمّنْ أَرَادَ الله تَعَالَى أَنْ يَرْحَمَهُ، مِمّنْ يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله. فَيَعْرِفُونَهُمْ فِي النّارِ. يَعْرِفُونَهُمْ بِأَثَرِ السّجُودِ. تَأْكُلُ النّارُ مِنِ ابْنِ آدَمَ إِلاّ أَثَرَ السّجُودِ. حَرّمَ الله عَلَى النّارِ أَنْ تَأْكُلَ أَثَرَ السّجُودِ. فَيُخْرَجُونَ مِنَ النّارِ وَقَدِ امْتَحَشُوا. فَيُصَبّ عَلَيْهِمْ مَاءُ الْحَيَاةِ. فَيَنْبُتُونَ مِنْهُ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبّةُ فِي حَمِيلِ السّيْلِ. ثُمّ يَفْرُغُ الله تَعَالَى مِنَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْعِبَادِ. وَيَبْقَى رَجُلٌ مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى النّارِ. وَهُوَ آخِرُ أَهْلِ الْجَنّةِ دُخُولاً الْجَنّةَ. فَيَقُولُ: أَيْ! رَبّ اصْرِفْ وَجْهِي عَنِ النّارِ. فَإِنّهُ قَدْ قَشَبَنِي رِيحُهَا وَأَحْرَقَنِي ذَكَاؤُهَا. فَيَدْعُو الله مَا شَاءَ الله أَنْ يَدْعُوَهُ. ثُمّ يَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: هَلْ عَسَيْتَ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ! فَيَقُولُ: لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ. وَيُعْطِي رَبّهُ مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ مَا شَاءَ الله. فَيَصْرِفُ الله وَجْهَهُ عَنِ النّارِ. فَإِذَا أَقْبَلَ عَلَى الْجَنّةِ وَرَآهَا سَكَتَ مَا شَاءَ الله أَنْ يَسْكُتَ. ثُمّ يَقُولُ: أَيْ رَبّ قَدّمْنِي إِلَى بَابِ الْجَنّةِ. فَيَقُولُ الله لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عُهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ لاَ تَسْأَلُنِي غَيْرَ الّذِي أَعْطَيْتُكَ. وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مَا أَغْدَرَكَ فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ! وَيَدْعُو الله حَتّى يَقُولَ لَهُ: فَهَلْ عَسَيْتَ إِنْ أَعْطَيْتُكَ ذَلِكَ أَنْ تَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَقُولُ: لاَ. وَعِزّتِكَ فَيُعطِي رَبّهُ مَا شَاءَ الله مِنْ عُهُودٍ وَمَوَاثِيقَ. فَيُقَدّمُهُ إِلَى بَابِ الْجَنّةِ. فَإِذَا قَامَ عَلَى بَابِ الْجَنّةِ انْفَهَقَتْ لَهُ الْجَنّةُ. فَرَأَى مَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالسّرُورِ. فَيَسْكُتُ مَا شَاءَ الله أَنْ يَسْكُتَ. ثُمّ يَقُولُ: أَيْ رَبّ! أَدْخِلْنِي الْجَنّةَ. فَيَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْطَيْتَ عَهُودَكَ وَمَوَاثِيقَكَ أَنْ لاَ تَسْأَلَ غَيْرَ مَا أُعْطِيتَ. وَيْلَكَ يَا ابْنَ آدَمَ! مَا أَغْدَرَكَ! فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ! لاَ أَكُونُ أَشْقىَ خَلْقِكَ. فَلاَ يَزَالُ يَدْعُو الله حَتّى يَضْحَكَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى مِنْهُ. فَإِذَا ضَحِكَ الله مِنْهُ، قَالَ: ادْخُلِ الْجَنّةَ.
فَإِذَا دَخَلَهَا قَالَ الله لَهُ: تَمَنّهْ. فَيَسْأَلُ رَبّهُ وَيَتَمَنّى. حَتّى إِنّ الله لَيُذَكّرُهُ مِنْ كَذَا وَكَذَا، حَتّى إِذَا انْقَطَعَتْ بِهِ الأَمَانِيّ. قَالَ الله تَعَالَى: ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ.
قَالَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ: وَأَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ لاَ يَرُدّ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيِثِهِ شَيْئاً. حَتّى إِذَا حَدّثَ أَبُو هُرَيْرَةَ: إِنّ اللّهَ قَالَ لِذَلِكَ الرّجُلِ: وَمِثْلُهُ مَعَهُ. قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ مَعَهُ. يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةُ: مَا حَفِظْتُ إِلاّ قوله: "ذَلِكَ لَكَ وَمِثْلُهُ مَعَهُ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: أَشْهَدُ أَنّي حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قوله: ذَلِكَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَذَلِكَ الرّجُلُ آخِرُ أَهْلِ الْجَنّةِ دُخُولاً الْجَنّةَ.
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْد الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، عَنِ الزّهْرِيّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ، وَ عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ اللّيْثِيّ: أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنّ النّاسَ قَالُوا لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم! هَلْ نَرَى رَبّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ مَعْنَىَ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ.
وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ أَدْنَىَ مَقْعَدِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنّةِ أَنْ يَقُولَ لَهُ: تَمَنّ. فَيَتَمَنّى وَيَتَمَنّى. فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَمَنّيْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ؟ فَيَقُولُ لَهُ: فَإِنّ لَكَ مَا تَمَنّيْتَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ".
وحدّثني سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ: أَنّ نَاساً فِي زَمَنِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ! هَلْ نَرَى رَبّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ". قَالَ: "هَلْ تُضَارّونَ فِي رُؤْيَةِ الشّمْسِ بِالظّهِيرَةِ صَحْواً لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تُضَارّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْواً لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟" قَالُوا: لاَ. يَا رَسُولَ اللّهِ! قَالَ: "مَا تُضَارّونَ فِي رُؤْيَةِ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلاّ كَمَا تُضَارّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا. إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذّنَ مُؤَذّنٌ: لِيَتّبِعْ كُلّ أُمّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ. فَلاَ يَبْقَىَ أَحَدٌ، كَانَ يَعبُدُ غَيْرَ الله سُبْحَانَهُ مِنَ الأَصْنَامِ وَالأَنْصَابِ، إِلاّ يَتَسَاقَطُونَ فِي النّارِ. حَتّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللّهَ مِنْ بَرّ وَفَاجِرٍ. وَغُبّرِ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَيُدْعَى الْيَهُودُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنّا نَعْبُدُ عُزَيْرَ ابْنَ اللّهِ. فَيُقَالَ: كَذَبْتُمْ مَا اتّخَذَ اللّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ. فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ قَالُوا: عَطِشْنَا. يَا رَبّنَا فَاسْقِنَا. فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ: أَلاَ تَردُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النّارِ كَأَنّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضَاً. فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النّارِ. ثُمّ يُدْعَىَ النّصَارَى. فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ بْنَ اللّهِ. فَيُقَالُ لَهُمْ: كَذَبْتُمْ. مَا اتّخَذَ اللّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلاَ وَلَدٍ. فَيُقَالَ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ: عَطِشْنَا. يَا رَبّنَا فَاسْقِنَا. قَالَ فَيُشَارُ إِلَيَهِمْ: أَلاّ تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنّمَ كَأَنّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضَاً، فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النّارِ. حَتّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلاّ مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللّهَ تَعَالَى مِنْ بَرّ وَفَاجِرٍ، أَتَاهُمْ رَبّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىَ فِي أَدْنَىَ صُورَةٍ مِنَ الّتِي رَأَوْهُ فِيهَا. قَالَ: فَمَا تَنْتَظِرُونَ؟ تَتْبَعُ كُلّ أُمّةٍ مَا كَانَتَ تَعْبُدُ. قَالُوا: يَا رَبّنَا! فَارَقْنَا النّاسَ فِي الدّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ. فَيَقُولُ: أَنَا رَبّكُمْ. فَيَقُولُونَ: نَعُوذُ بِاللّهِ مِنْكَ. لاَ نُشْرِكُ بِاللّهِ شَيْئَاً (مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثَاً) حَتّى إِنّ بَعْضَهُمْ لَيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ. فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ فَتَعْرِفُونَهُ بِهَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعْمْ. فَيُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ. فَلاَ يَبْقَىَ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلاّ أَذِنَ اللّهُ لَهُ بِالسّجُودِ. وَلاَ يَبْقَىَ مَنْ كَانَ يَسْجُدُ اتّقَاءً وَرِيَاءً إِلاّ جَعَلَ اللّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً. كُلّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرّ عَلَى قَفَاهُ. ثُمّ يَرْفَعُونَ رُؤُوسَهُمْ، وَقَدْ تَحَوّلَ فِي صُورَتِهِ الّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوّلَ مَرّةٍ. فَقَالَ: أَنّا رَبّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبّنَا. ثُمّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنّمَ. وَتَحِلّ الشّفَاعَةُ. وَيَقُولُونَ: اللّهُمّ سَلّمْ سَلّمْ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: "دَحْضٌ مَزلّةٌ. فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلاَلِيبُ وَحَسَكٌ. تَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السّعْدَانُ. فَيَمُرّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرّيحِ وَكَالطّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرّكَابِ. فَنَاجٍ مُسَلّمٌ. وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ. وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنّمَ. حَتّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النّارِ، فَوَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ بِأَشَدّ مُنَاشَدَةً لله فِي اسْتِقْصَاءِ الْحَقّ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لله يَوْمَ الْقِيَامَةِ لإِخْوَانِهِمْ الّذِينَ فِي النّارِ يَقُولُونَ: رَبّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلّونَ وَيَحُجّونَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ. فَتُحَرّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النّارِ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كثيراً قد أَخَذَتِ النّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ. ثُمّ يَقُولُونَ: رَبّنَا! مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ. فَيَقُولُ: ارْجِعُوا. فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كَثِيراً.
ثُمّ يَقُولُونَ رَبّنَا! لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَداً مِمّنْ أَمَرْتَنَا. ثُمّ يَقُولُ: ارْجِعُوا. فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كَثِيراً. ثُمّ يَقُولُونَ: رَبّنَا! لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمّنْ أَمَرْتَنَا أَحَداً. ثُمّ يَقُولُ: ارْجِعُوا. فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرِجُونَ خَلْقاً كَثِيراً. ثُمّ يَقُولُونَ: رَبّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا خَيْراً".
وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدّقونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ: {إِنّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (النساء الاَية: 4) "فَيَقُولُ الله عَزّ وَجَلّ: شَفَعَتِ الْمَلاَئِكَةُ وَشَفَعَ النّبِيّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلاّ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ. فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْماً لَمْ يَعْمَلُوا خَيْراً قَطّ. قَدْ عَادُوا حُمماً فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنّةِ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الْحَيَاةِ. فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبّةُ فِي حَمِيلِ السّيْلِ. أَلاَ تَرَوْنَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشّجَرِ. مَا يَكُونُ إِلَى الشّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ. وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظّلّ يَكُونُ أَبْيَضَ؟" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ! كَأَنّكَ كُنْتَ تَرْعَى بِالْبَادِيَةِ. قَالَ: "فَيَخْرُجُونَ كَاللّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِمُ. يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنّةِ. هَؤُلاَءِ عُتَقَاءُ الله الّذِينَ أَدْخَلَهُمُ الله الْجَنّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلاَ خَيْرٍ قَدّمُوهُ. ثُمّ يَقُولُ: ادْخُلُوا الْجَنّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ. فَيَقُولُونَ: رَبّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ. فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا. فَيَقُولُونَ: يَا رَبّنَا! أَيّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: رِضَايَ. فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَداً".
قَالَ مُسْلِمٌ: قَرَأْتُ عَلَى عَيِسى بْنِ حَمّادٍ زُغْبَةَ الْمِصْرِيّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي الشّفَاعَةِ وَقُلْتُ لَهُ: أُحَدّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْكَ أَنّكَ سَمِعْتَ مِنَ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ لِعِيسَى بْنِ حَمّادٍ: أَخْبَرَكُمُ اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيد بْنِ أَبِي هِلاَلٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّهُ قَالَ: قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَرَى رَبّنَا؟ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "هَلْ تُضَارّونَ فِي رُؤْيَةِ الشّمْسِ إِذَا كَانَ يَوْمٌ صَحْوٌ؟" قُلْنَا: لاَ. وَسُقْتُ الْحَدِيثَ حَتّى انْقَضَىَ آخِرُهُ وَهُوَ نَحْوُ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ. وَزَادَ بَعْدَ قوله: بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلاَ قَدَمٍ قَدّمُوهُ "فَيُقَالَ لَهُمْ: لَكُمْ مَا رَأَيْتمُ وَمِثْلُهُ مَعَهُ".
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: بَلَغَنِي أَنّ الْجِسْرَ أَدَقّ مِنَ الشّعَرَةِ وَأَحَدّ مِنَ السّيْفِ.
وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ اللْيْثِ "فَيَقُولُونَ رَبّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَداً مِنَ الْعَالِمينَ وَمَا بَعْدَهُ".
فَأَقَرّ بِهِ عِيْسَى بْنُ حَمّادٍ .
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ. حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلمَ بِإِسْنَادِهِمَا، نَحْوَ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ إِلَى آخِرِهِ. وَقَدْ زَادَ وَنَقَصَ شَيْئاً.
قوله صلى الله عليه وسلم: (هل تضارون في القمر ليلة البدر) وفي الرواية الأخرى: هل تضامون، وروي تضارون بتشديد الراء وبتخفيفها والتاء مضمومة فيهما، ومعنى المشدد: هل تضارون غيركم في حالة الرؤية بزحمة أو مخالفة في الرؤية أو غيرها لخفائه كما تفعلون أول ليلة من الشهر؟ ومعنى المخفف: هل يلحقكم في رؤيته ضير وهو الضرر؟ وروي أيضاً تضامون بتشديد الميم وتخفيفها، فمن شددها فتح التاء ومن خففها ضم التاء، ومعنى المشدد: هل تتضامون وتتلطفون في التوصل إلى رؤيته؟ ومعنى المخفف: هل يلحقكم ضيم وهو المشقة والتعب؟ قال القاضي عياض رحمه الله: وقال فيه بعض أهل اللغة تضارون أو تضامون بفتح التاء وتشديد الراء والميم، وأشار القاضي بهذا إلى أن غير هذا القائل يقولهما بضم التاء سواء شدد أو خفف، وكل هذا صحيح ظاهر المعنى. وفي رواية للبخاري: لا تضامون أو لا تضارون على الشك ومعناه لا يشتبه عليكم وترتابون فيه فيعارض بعضكم بعضاً في رؤيته والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فإنكم ترونه كذلك) معناه تشبيه الرؤية بالرؤية في الوضوح وزوال الشك والمشقة والاختلاف. قوله: (الطواغيت) هو جمع طاغوت قال الليث وأبو عبيدة والكسائي وجماهير أهل اللغة: الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى. وقال ابن عباس ومقاتل والكلبي وغيرهم: الطاغوت الشيطان. وقيل هو الأصنام. قال الواحدي: الطاغوت يكون واحداً وجمعاً ويؤنث ويذكر. قال الله تعالى: {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} فهذا في الواحد. وقال تعالى في الجمع: {الذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم} وقال في المؤنث: {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها} قال الواحدي: ومثله من الأسماء الفلك يكون واحداً وجمعاً ومذكراً ومؤنثاً. قال النحويون: وزنه فعلوت والتاء زائدة وهو مشتق من طغى وتقديره طغووت ثم قلبت الواو ألفاً والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها) قال العلماء: إنما بقوا في زمرة المؤمنين لأنهم كانوا في الدنيا متسترين بهم، فيسترون بهم أيضاً في الاَخرة، وسلكوا مسلكهم ودخلوا في جملتهم وتبعوهم ومشوا في نورهم حتى ضرب بينهم بسور له باب باطنه في الرحمة وظاهره من قبله العذاب وذهب عنهم نور المؤمنين. قال بعض العلماء: هؤلاء هم المطرودون عن الحوض الذي يقال لهم سحقاً سحقاً والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيأتيهم الله في صورة غير صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه، فيأتيهم الله في صورته التي يعرفون فيقول: أنا ربكم، فيقولون: أنت ربنا فيتبعونه) اعلم أن لأهل العلم في أحاديث الصفات وآيات الصفات قولين: أحدهما وهو مذهب معظم السلف أو كلهم أنه لا يتكلم في معناها بل يقولون: يجب علينا أن نؤمن بها ونعتقد لها معنى يليق بجلال الله تعالى وعظمته مع اعتقادنا الجازم أن الله تعالى ليس كمثله شيء، وأنه منزه عن التجسم والانتقال والتحيز في جهة وعن سائر صفات المخلوق، وهذا القول هو مذهب جماعة من المتكلمين واختاره جماعة من محققيهم وهو أسلم. والقول الثاني: وهو مذهب معظم المتكلمين أنها تتأول على ما يليق بها على حسب مواقعها، وإنما يسوغ تأويلها لمن كان من أهله بأن يكون عارفاً بلسان العرب وقواعد الأصول الفروع ذا رياضة في العلم، فعلى هذا المذهب يقال في قوله صلى الله عليه وسلم: "فيأتيهم الله أن الإتيان عبارة عن رؤيتهم إياه، لأن العادة أن من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالإتيان، فعبر بالإتيان والمجيء هنا عن الرؤية مجازاً، وقيل: الإتيان فعل من أفعال الله تعالى سماه إتيانا، وقيل: المراد بيأتيهم الله أي يأتيهم بعض ملائكة الله. قال القاضي عياض رحمه الله: هذا الوجه أشبه عندي بالحديث، قال: ويكون هذا الملك الذي جاءهم في الصورة التي أنكروها من سمات الحدث الظاهرة على الملك والمخلوق، أو يكون معناه يأتيهم الله في صورة أي يأتيهم بصورة ويظهر لهم من صور ملائكته ومخلوقاته التي لا تشبه صفات الإله ليختبرهم وهذا آخر امتحان المؤمنين، فإذا قال لهم هذا الملك أو هذه الصورة: أنا ربكم رأوا عليه من علامات المخلوقات ما ينكرونه ويعلمون أنه ليس ربهم ويستعيذون بالله منه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فيأتيهم في صورته التي يعرفون) فالمراد بالصورة هنا الصفة، ومعناه فيتجلى الله سبحانه وتعالى لهم على الصفة التي يعلمونها ويعرفونه بها، وإنما عرفوه بصفته وإن لم تكن تقدمت لهم رؤية له سبحانه وتعالى لأنهم يرونه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، وقد علموا أنه لا يشبه شيئاً من مخلوقاته فيعلمون أنه ربهم فيقولون: أنت ربنا، وإنما عبر بالصورة عن الصفة لمشابهتها إياها ولمجانسة الكلام فإنه تقدم ذكر الصورة.
وأما قولهم: (نعوذ بالله منك) فقال الخطابي: يحتمل أن تكون هذه الاستعاذة من المنافقين خاصة، وأنكر القاضي عياض هذا وقال: لا يصح أن تكون من قول المنافقين ولا يستقيم الكلام به، وهذا الذي قاله القاضي هو الصواب، ولفظ الحديث مصرح به أو ظاهر فيه، وإنما استعاذوا منه لما قدمناه من كونهم رأوا سمات المخلوقات. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فيتبعونه) فمعناه أمره إياهم بذهابهم إلى الجنة، أو يتبعون ملائكته الذين يذهبون بهم إلى الجنة والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ويضرب الصراط بين ظهري جهنم) هو بفتح الظاء وسكون الهاء ومعناه يمد الصراط عليها وفي هذا إثبات الصراط، ومذهب أهل الحق إثباته، وقد أجمع السلف على إثباته، وهو جسر على متن جهنم يمر عليه الناس كلهم، فالمؤمنون ينجون على حسب حالهم أي منازلهم، والاَخرون يسقطون فيها أعاذنا الله الكريم منها، وأصحابنا المتكلمون وغيرهم من السلف يقولون: إن الصراط أدق من الشعرة وأحد من السيف ما ذكره أبو سعيد الخدري رضي الله عنه هنا في روايته الأخرى المذكورة في الكتاب والله تعالى أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فأكون أنا وأمتي أول من يجيز) هو بضم الياء وكسر الجيم والزاي آخره ومعناه يكون أول من يمضي عليه ويقطعه، يقال أجزت الوادي وجزته لغتان بمعنى واحد، وقال الأصمعي: أجزته بقطعته وجزته مشيت فيه والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل) معناه لشدة الأهوال، والمراد لا يتكلم في حال الإجازة، وإلا ففي يوم القيامة مواطن يتكلم الناس فيها وتجادل كل نفس عن نفسها ويسأل بعضهم بعضاً ويتلاومون ويخاصم التابعون المتبوعين والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ودعوى الرسل يومئذ اللهم سلم سلم) هذا من كمال شفقتهم ورحمتهم للخلق، وفيه أن الدعوات تكون بحسب المواطن فيدعى في كل موطن بما يليق به والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (وفي جهنم كلاليب مثل شوك السعدان) أما الكلاليب فجمع كلوب بفتح الكاف وضم اللام المشددة وهو حديدة معطوفة الرأس يعلق فيها اللحم وترسل في التنور، قال صاحب المطالع: هي خشبة في رأسها عقافة حديد وقد تكون حديد أكلها ويقال لها أيضاً كلاب، وأما السعدان فبفتح السين وإسكان العين المهملة وهو نبت له شوكة عظيمة مثل الحسك من كل الجوانب. قوله صلى الله عليه وسلم: (تخطف الناس بأعمالهم) هو بفتح الطاء ويجوز كسرها، يقال خطف وخطف بكسر الطاء وفتحها والكسر أفصح، ويجوز أن يكون معناه تخطفهم بسبب أعمالهم، ويجوز أن يكون معناه تخطفهم بسبب أعمالهم، ويجوز أن يكون معناه تخطفهم على قدر أعمالهم والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فمنهم المؤمن بقي بعمله ومنهم المجازي حتى ينجى) أما الأول فذكر القاضي عياض رحمه الله أنه روي على ثلاثة أوجه: أحدها المؤمن يقي بعمله بالميم والنون ويقي بالياء والقاف: والثاني الموثق بالمثلثة والقاف. والثالث الموبق يعني بعمله، فالموبق بالياء الموحدة والقاف ويعني بفتح الياء المثناة وبعدها العين ثم النون قال القاضي: هذا أصحها، وكذا قال صاحب المطالع هذا الثالث هو الصواب، قال: وفي يقي على الوجه الأول ضبطان: أحدهما بالباء الموحدة والثاني بالياء المثناة من تحت من الوقاية، قلت: والموجود في معظم الأصول ببلادنا هو الوجه الأول. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ومنهم المجازي) فضبطناه بالجيم والزاي من المجازاة، وهكذا هو في أصول بلادنا في هذا الموضع وذكر القاضي عياض رحمه الله في ضبطهخلافاً فقال: رواه العذري وغيره المجازي كما ذكرناه، ورواه بعضهم المخردلّ بالخاء المعجمة والدال واللام، ورواه بعضهم في البخاري المجردل بالجيم. فأما الذي بالخاء فمعناه المقطع أي بالكلاليب يقال: خردلت اللحم أي قطعته، وقيل خردلت بمعنى صرعت، ويقال بالذال المعجمة أيضاً، والجردلة بالجيم الإشراف على الهلاك والسقوط. قوله صلى الله عليه وسلم: (تأكل النار من ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود) ظاهر هذا أن النار لا تأكل جميع أعضاء السجود السبعة التي يسجد الإنسان عليها هي: الجبهة واليدان والركبتان والقدمان، وهكذا قاله بعض العلماء وأنكره القاضي عياض رحمه الله وقال: المراد بأثر السجود الجبهة خاصة والمختار الأول، فإن قيل قد ذكر مسلم بعد هذا مرفوعاً أن قوماً يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات الوجوه، فالجواب أن هؤلاء القوم مخصوصون من جملة الخارجين من النار بأنه لا يسلم منهم من النار إلا دارات الوجوه، وأما غيرهم فيسلم جميع أعضاء السجود منهم عملاً بعموم هذا الحديث، فهذا الحديث عام وذلك خاص فيعمل بالعام إلا ما خص والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فيخرجون من النار قد امتحشوا) هو بالحاء المهملة والشين المعجمة وهو بفتح التاء والحاء هكذا هو في الروايات، وكذا نقله القاضي عياض رحمه الله عن متقني شيوخهم قال: وهو وجه الكلام، وبه ضبطه الخطابي والهروي وقالوا في معناه احترقوا، قال القاضي: ورواه بعض شيوخنا بضم التاء وكسر الحاء والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فينبتون منه كما تنبت الحبة في حميل السيل) هكذا هو في الأصول فينبتون منه بالميم والنون وهو صحيح ومعناه ينبتون بسببه، وأما الحبة فبكسر الحاء وهي بزر البقول والعشب تنبت في البراري وجوانب السيول وجمعها حبب بكسر الحاء المهملة وفتح الباء، وأما حميل السيل فبفتح الحاء وكسر الميم وهو ما جاء به السيل من طين أو غثاء ومعناه محمول السيل، والمراد التشبيه في سرعة النبات وحسنه وطراوته. قوله: (قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها) أما قشبني فبقاف مفتوحة ثم شين معجمة مخففة مفتوحة ومعناه سمني وآذاني وأهلكني، كذا قاله الجماهير من أهل اللغة والغريب. وقال الداودي: معناه غير جلدي وصورتي، وأما ذكاؤها فكذا وقع في جميع روايات الحديث ذكاؤها بالمد وهو بفتح الذال المعجمة ومعناه لهبها واشتعالها وشدة وهجها، والأشهر في اللغة ذكاها مقصور، وذكر جماعات أن المد والقصر لغتان يقال: ذكت النار تذكو ذكاً إذا اشتعلت، وأذكيتها أنا والله أعلم. قوله عز وجل: (هل عسيت) هو بفتح التاء على الخطاب ويقال بفتح السين وكسرها لغتان وقرئ بهما في السبع، قرأ نافع بالكسر والباقون بالفتح وهو الأفصح الأشهر في اللغة، قال ابن السكيت: ولا ينطق في عسيت بمستقبل. قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا قام على باب الجنة انفهقت له الجنة فرأى ما فيها من الخير) أما الخير فبالخاء المعجمة والياء المثناة تحت، هذا هو الصحيح المعروف في الروايات والأصول. وحكى القاضي عياض رحمه الله أن بعض الرواة في مسلم رواه الحبر بفتح الحاء المهملة وإسكان الباء الموحدة ومعناه السرور، قال صاحب المطالع: كلاهما صحيح، قال: والثاني أظهر.ورواه البخاري الحبرة والسرورة والحبرة المسرة، وأما انفهقت فبفتح الفاء والهاء والقاف ومعناه انفتحت واتسعت. قوله: (فلا يزال يدعو الله تعالى حتى يضحك الله تعالى منه) قال العلماء: ضحك الله تعالى منه هو رضاه بفعل عبده ومحبته إياه وإظهار نعمته عليه وإيجابها عليه والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيسأل ربه ويتمنى حتى أن الله تعالى ليذكره من كذا وكذا) معناه يقول له: تمن من الشيء الفلاني ومن الشيء الاَخر يسمى له أجناس ما يتمنى وهذا من عظيم رحمته سبحانه وتعالى. قوله في رواية أبي هريرة: (لك ذلك ومثله معه) وفي رواية أبي سعيد وعشرة أمثاله. قال العلماء: وجه الجمع بينهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أعلم أولاً بما في حديث أبي هريرة، ثم تكرم الله تعالى فزاد ما في رواية أبي سعيد فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسمعه أبو هريرة. قوله صلى الله عليه وسلم: (ما تضارون في رؤية الله تبارك وتعالى يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما) معناه لا تضارون أصلاً كما لا تضارون في رؤيتهما أصلاً. قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله تعالى من بر وفاجر وغبر أهل الكتاب) أما البر فهو المطيع، وأما غبر فبضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة المشددة ومعناه بقاياهم جمع غابر. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً) أما السراب فهو الذي يتراءى للناس في الأرض القفر والقاع المستوي وسط النهار في الحر الشديد لامعاً مثل الماء يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، فالكفار يأتون جهنم أعاذنا الله الكريم وسائر المسلمين منها ومن كل مكروه وهم عطاش فيحسبونها ماء فيتساقطون فيها، وأما يحطم بعضها بعضاً فمعناه لشدة اتقادها وتلاطم أمواج لهبها، والحطم الكسر والإهلاك والحطمة اسم من أسماء النار لكونها تحطم ما يلقى فيها. قوله صلى الله عليه وسلم: (أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها) معنى رأوه فيها علموها له وهي صفته المعلومة للمؤمنين وهي أنه لا يشبهه شيء، وقد تقدم معنى الإتيان والصورة والله أعلم. قوله: (قالوا ربما فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ولم نصاحبهم) معنى قولهم التضرع إلى الله تعالى في كشف هذه الشدة عنهم، وأنهم لزموا طاعته سبحانه وتعالى، وفارقوا في الدنيا الناس الذين زاغوا عن طاعته سبحانه من قراباتهم وغيرهم ممن كانوا يحتاجون في معايشهم ومصالح دنياهم إلى معاشرتهم للارتفاق بهم، وهذا كما جرى للصحابة المهاجرين وغيرهم، ومن أشبههم من المؤمنين في جميع الأزمان، فإنهم يقاطعون من حاد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم مع حاجتهم في معايشهم إلى الارتفاق بهم والاعتضاد بمخالطتهم فآثروا رضى الله تعالى على ذلك، هذا معنى ظاهر في هذا الحديث لا شك في حسنه.
وقد أنكر القاضي عياض رحمه الله هذا الكلام الواقع في صحيح مسلم وادعى أنه مغير، وليس كما قال بل الصواب ما ذكرناه. قوله صلى الله عليه وسلم: (حتى أن بعضهم ليكاد أن ينقلب) هكذا هو في الأصول ليكاد أن ينقلب بإثبات أن وإثباتها مع كاد لغة، كما أن حذفها مع عسى لغة، وينقلب بياء مثناة من تحت ثم نون ثم قاف ثم لام ثم باء موحدة، ومعناه والله أعلم ينقلب عن الصواب ويرجع عنه للامتحان الشديد الذي جرى والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيكشف عن ساق) ضبط يكشف بفتح الياء وضمها وهما صحيحان، وفسر ابن عباس وجمهور أهل اللغة وغريب الحديث الساق هنا بالشدة أي يكشف عن شدة وأمر مهول، وهذا مثل تضربه العرب لشدة الأمر ولهذا يقولون: قامت الحرب على ساق، وأصله أن الإنسان إذا وقع في أمر شديد شمر ساعده وكشف عن ساقه للاهتمام به. قال القاضي عياض رحمه الله: وقيل المراد بالساق هنا نور عظيم، وورد ذلك في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال ابن فورك: ومعنى ذلك ما يتجدد للمؤمنين عند رؤية الله تعالى من الفوائد والألطاف. قال القاضي عياض: وقيل قد يكون الساق علامة بينه وبين المؤمنين من ظهور جماعة من الملائكة على خلقة عظيمة لأنه يقال ساق من الناس كما يقال رجل من جراد، وقيل: قد يكون ساق مخلوقاً جعله الله تعالى علامة للمؤمنين خارجة عن السوق المعتادة، وقيل معناه: كشف الخوف وإزالة الرعب عنهم وما كان غلب على قلوبهم من الأهوال، فتطمئن حينئذ نفوسهم عند ذلك ويتجلى لهم فيخرون سجداً. قال الخطابي رحمه الله: وهذه الرؤية التي في هذا المقام يوم القيامة غير الرؤية التي في الجنة لكرامة أولياء الله تعالى وإنما هذه للامتحان والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يبقى من كان يسجد لله تعالى من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة" هذا السجود امتحان من الله تعالى لعباده، وقد استدل بعض العلماء بهذا مع قوله تعالى: (ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون) على جواز تكليف ما لا يطاق، وهذا استدلال باطل، فإن الاَخرة ليست دار تكليف بالسجود وإنما المراد امتحانهم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم طبقة فبفتح الطاء والباء قال الهروي وغيره: الطبق فقار الظهر أي صار فقارة واحدة كالصحيفة فلا يقدر على السجود والله أعلم. ثم اعلم أن هذا الحديث قد يتوهم منه أن المنافقين يرون الله تعالى مع المؤمنين، وقد ذهب إلى ذلك طائفة حكاه ابن فورك لقوله صلى الله عليه وسلم: "وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها فيأتيهم الله تعالى" وهذا الذي قالوه باطل، بل لا يراه المنافقون بإجماع من يعتد به من علماء المسلمين، وليس في هذا الحديث تصريح برؤيتهم الله تعالى، وإنما فيه أن الجمع الذي فيه المؤمنون والمنافقون يرون الصورة، ثم بعد ذلك يرون الله تعالى، وهذا لا يقتضي أن يراه جميعهم، وقد قامت دلائل الكتاب والسنة على أن المنافق لا يراه سبحانه وتعالى والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته) هكذا ضبطناه صورته بالهاء في آخرها، ووقع في أكثر الأصول أو كثير منها في صورة بغير هاء، وكذا هو في الجمع بين الصحيحين للحميدي والأول أظهر، وهو الموجود في الجمع بين الصحيحين للحافظ عبد الحق ومعناه: وقد أزال المانع لهم من رؤيته وتجلى لهم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة) الجسر بفتح الجيم وكسرها لغتان مشهورتان وهو الصراط، ومعنى تحل الشفاعة بكسر الحاء وقيل بضمها أي تقع ويؤذن فيها. قوله: (قيل يا رسول الله وما الجسر؟ قال دحض مزلة) هو بتنوين دحض ودالة مفتوحة والحاء ساكنة، ومزلة بفتح الميم وفي الزاي لغتان مشهورتان: الفتح والكسر، والدحض والمزلة بمعنى واحد وهو الموضع الذي تزل فيه الأقدام ولا تستقر، ومنه دحضت الشمس أي مالت وحجة داحضة لإثبات لها. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيه خطاطيف وكلاليب وحسك) أما الخطاطيف فجمع خطاف بضم الخاء في المفرد، والكلاليب بمعناه وقد تقدم بيانهما، وأما الحسك فبفتح الحاء والسين المهملتين وهو شوك صلب من حديد. قوله صلى الله عليه وسلم: (فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم) معناه أنهم ثلاثة أقسام: قسم يسلم فلا يناله شيء أصلاً، وقسم يخدش ثم يرسل فيخلص، وقسم يكردس ويلقى فيسقط في جهنم، وأما مكدوس فهو بالسين المهملة هكذا هو في الأصول، وكذا نقله القاضي عياض رحمه الله عن أكثر الرواة، قال: ورواه العذري بالشين المعجمة ومعناه بالمعجمة السوق، وبالمهملة كون الأشياء بعضها على بعض، ومنه تكدست الدواب في سيرها إذا ركب بعضها بعضاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة في استقصاء الحق من المؤمنين لله تعالى يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار) اعلم أن هذه اللفظة ضبطت على أوجه، أحدها: استيضاء بتاء مثناة من فوق ثم ياء مثناة من تحت ثم ضاد معجمة. والثاني: استضاء بحذف المثناة من تحت.
(يتبع...)
*(تابع... 1): حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ:... ...
والثالث: استيفاء بإثبات المثناة من تحت وبالفاء بدل الضاد. والرابع: استقصاء بمثناة من فوق ثم قاف ثم صاد مهملة. فالأول موجود في كثير من الأصول ببلادنا. والثاني هو الموجود في أكثرها وهو الموجود في الجمع بين الصحيحين للحميدي. والثالث في بعضها وهو الموجود في الجمع بين الصحيحين لعبد الحق الحافظ. والرابع في بعضها ولم يذكر القاضي عياض غيره، وادعى اتفاق الرواة وجميع النسخ عليه، وادعى أنه تصحيف ووهم وفيه تغيير وأن صوابه ما وقع في كتاب البخاري من رواية ابن بكير بأشد مناشدة في استقصاء الحق يعني في الدنيا من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم، وبه يتم الكلام ويتوجه، هذا آخر كلام القاضي رحمه الله، وليس الأمر على ما قاله بل جميع الروايات التي ذكرناها صحيحة لكل منها معنى حسن، وقد جاء في رواية يحيى بن بكير عن الليث: فما أنتم بأشد مناشدة في الحق قد تبين لكم من المؤمنين يومئذ للجبار وتقدس إذا رأوا أنهم قد نجوا في إخوانهم. وهذه الرواية التي ذكرها لليث توضح المعنى، فمعنى الرواية الأولى والثانية أنكم إذا عرض لكم في الدنيا أمر مهم والتبس الحال فيه وسألتم الله تعالى بيانه وناشدتموه في استيضائه وبالغتم فيها لا تكون مناشدة أحدكم مناشدة بأشد من مناشدة المؤمنين لله تعالى في الشفاعة لإخوانهم. وأما الرواية الثالثة والرابعة فمعناهما أيضاً: ما منكم من أحد يناشد الله تعالى في الدنيا في استيفاء حقه أو استقصائه وتحصيله من خصمه والمتعدي عليه بأشد من مناشدة المؤمنين الله تعالى في الشفاعة لإخوانهم يوم القيامة والله أعلم. قوله سبحانه وتعالى: (من وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير ونصف مثقال من خير ومثقال ذرة) قال القاضي عياض رحمه الله: قيل معنى الخير هنا اليقين، قال: والصحيح أن معناه شيء زائد على مجرد الإيمان، لأن مجرد الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزأ، وإنما يكون هذا التجزؤ لشيء زائد عليه من عمل صالح أو ذكر خفي أو عمل من أعمال القلب من شفقة على مسكين أو خوف من الله تعالى ونية صادقة، ويدل عليه قوله في الرواية الأخرى في الكتاب: "يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن كذا" ومثله الرواية الأخرى يقول الله تعالى: {شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنين ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط} وفي الحديث الاَخر: "لأخرجن من قال لا إله إلا الله" قال القاضي رحمه الله: فهؤلاء هم الذين معهم مجرد الإيمان، وهم الذين لم يؤذن في الشفاعة فيهم، وإنما دلت الاَثار على أنه أذن لمن عنده شيء زائد على مجرد الإيمان، وجعل للشافعين من الملائكة والنبيين صلوات الله وسلامه عليهم دليلاً عليه، وتفرد الله عز وجل بعلم ما تكنه القلوب والرحمة لمن ليس عنده إلا مجرد الإيمان وضرب بمثقال الذرة المثل لأقل الخير فإنها أقل المقادير. قال القاضي: وقوله تعالى: منْ كان في قلبه ذرة وكذا دليل على أنه لا ينفع من العمل إلا ما حضر له القلب وصحبته نية، وفيه دليل على زيادة الإيمان ونقصانه وهو مذهب أهل السنة، هذا آخر كلام القاضي رحمه الله والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيراً) هكذا هو خيراً بإسكان الياء أي صاحب خير. قوله سبحانه وتعالى: (شفعت الملائكة) هو بفتح الفاء وإنما ذكرته وإن كان ظاهراً لأني رأيت من يصحفه ولا خلاف فيه، يقال شفع يشفع شفاعة فهو شافع وشفيع والمشفع بكسر الفاء الذي يقبل الشفاعة والمشفع بفتحها الذي تقبل شفاعته. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيقبض قبضة من النار) معناه يجمع جماعة. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيخرج منها قوماً لم يعملوا خيراً قط قد عادوا حمماً) معنى عادوا صاروا، وليس بلازم في عاد أن يصير إلى حالة كان عليها قبل ذلك بل معناه صار، وأما الحمم فبضم الحاء وفتح الميم الأولى المخففة وهو الفحم الواحدة حممة والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيلقيهم في نهر في أفواه الجنة) أما النهر ففيه لغتان معروفتان فتح الهاء وإسكانها والفتح أجود وبه جاء القرآن العزيز. وأما الأفواه فجمع فوهة بضم الفاء وتشديد الواو المفتوحة وهو جمع سمع من العرب على غير قياس، وأفواه الأزقة والأنهار أوائلها. قال صاحب المطالع: كأن المراد في الحديث مفتتح من مسالك قصور الجنة ومنازلها. قوله صلى الله عليه وسلم: (ما يكون إلى الشمس أصيفر وأخيضر وما يكون منها إلى الظل يكون أبيض) أما يكون في الموضعين الأولين فتامة ليس لها خبر معناها ما يقع، وأصيفر، وأخيضر مرفوعان، وأما يكون أبيض فيكون فيه ناقصة وأبيض منصوب وهو خبرها. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم) أما اللؤلؤ فمعروف وفيه أربع قراءات في السبع بهمزتين في أوله وآخره وبحذفها وبإثبات الهمزة في أوله دون آخره وعكسه، وأما الخواتم فجمع خاتم بفتح التاء وكسرها ويقال أيضاً خيتام وخاتام. قال صاحب التحرير: المراد بالخواتم هنا أشياء من ذهب أو غير ذلك تعلق في أعناقهم علامة يعرفون بها، قال: معناه تشبيه صفائهم وتلألئهم باللؤلؤ والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (يعرفهم أهل الجنة هؤلاء عتقاء الله) أي يقولون هؤلاء عتقاء الله. قوله: (قرأت على عيسى بن حماد زغبة) هو بضم الزاي وإسكان الغين المعجمة وبعدها باء موحدة وهو لقب لحماد والد عيسى، ذكره أبو علي الغساني الجياني. قوله: (وزاد بعد قوله بغير عمل عملوه ولا قدم قدموه) هذا مما قد يسأل عنه فيقال: لم يتقدم في الرواية الأولى ذكره القدم وإنما تقدم ولا خير قدموه، وإذا كان كذلك لم يكن لمسلم أن يقول زاد بعد قوله ولا قدم، إذ لم يجر للقدم ذكر، وجوابه أن هذه الرواية التي فيها الزيادة وقع فيها ولا قدم بدل قوله في الأولى خير، ووقع فيها الزيادة فأراد مسلم رحمه الله بيان الزيادة ولم يمكنه أن يقول زاد بعد قوله ولا خير قدموه، إذ لم يجر له ذكر في هذه الرواية فقال زاد بعد قوله ولا قدموه، أي زاد بعد قوله في روايته ولا قدم قدموه، واعلم أيها المخاطب أن هذا لفظه في روايته، وأن زيادته بعد هذا والله أعلم، والقدم هنا بفتح القاف والدال ومعناه الخير كما في الرواية الأخرى والله أعلم. قوله: (وليس في حديث الليث: فيقولون ربنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين وما بعده فأقربه عيسى بن حماد) أما قوله: وما بعده فمعطوف على فيقولون ربنا أي ليس فيه فيقولون ربنا ولا ما بعده، وأما قوله فأقربه عيسى فمعناه أقر بقول له أولاً أخبركم الليث بن سعد إلى آخره والله أعلم.
قوله: (وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا جعفر بن عون، حدثنا هشام بن سعد، حدثنا زيد بن أسلم بإسنادهما نحو حديث حفص بن ميسرة) فقوله: بإسنادهما يعني بإسناد حفص بن ميسرة وإسناد سعيد بن أبي هلال الراويين في الطريقين المتقدمين عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، ومراد مسلم رحمه الله أن زيد بن أسلم رواه عن عطاء عن أبي سعيد الخدري، ورواه عن زيد بهذا الإسناد ثلاثة من أصحابه حفص بن ميسرة وسعيد بن أبي هلال وهشام بن سعد، فأما روايتا حفص وسعيد فتقدمتا مبينتين في الكتاب، وأما رواية هشام فهي من حيث الإسناد بإسنادهما، ومن حديث المتن نحو حديث حفص والله عز وجل أعلم
*2* باب إِثبات الشفاعة وإِخراج الموحدين من النار
*قال القاضي عياض رحمه الله: مذهب أهل السنة جواز الشافعة عقلاً ووجوبها سمعاً، بصريح قوله تعالى: {يومئذ لا تنفع الشافعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً} وقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وأمثالهما. وبخبر الصادق صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الاَثار التي بلغت بمجموعها التواتر بصحة الشفاعة في الاَخرة لمذنبي المؤمنين، وأجمع السلف والخلف ومن بعدهم من أهل السنة عليها، ومنعت الخوارج وبعض المعتزلة منها، وتعلقوا بمذاهبهم في تخليد المذنبين في النار واحتجوا بقوله تعالى: {فما تنفعهم شفاعة الشافعين} وبقوله تعالى: {ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع} وهذه الاَيات في الكفار، وأما تأويلهم أحاديث الشفاعة بكونها في زيادة الدرجات فباطل، وألفاظ الأحاديث في الكتاب وغيره صريحة في بطلان مذهبهم وإخراج من استوجب النار، لكن الشفاعة خمسة أقسام. أولها: مختصة بنبينا صلى الله عليه وسلم وهي الإراحة من هول الموقف وتعجيل الحساب كما سيأتي بيانها. الثانية: في إدخال قوم الجنة بغير حساب، وهذه وردت أيضاً لنبينا صلى الله عليه وسلم وقد ذكرها مسلم رحمه الله. الثالثة: الشفاعة لقوم استوجبوا النار فيشفع فيهم نبينا صلى الله عليه وسلم ومن شاء الله تعالى وسنن به على موضعها قريباً إن شاء الله تعالى. الرابعة: فيمن دخل النار من المذنبين، فقد جاءت هذه الأحاديث بإخراجهم من النار بشفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم والملائكة وإخوانهم من المؤمنين، ثم يخرج الله تعالى كل من قال لا إله إلا الله كما جاء في الحديث لا يبقى فيها إلا الكافرون. الخامسة: في زيادة الدرجات في الجنة لأهلها وهذه لا ينكرها المعتزلة ولا ينكرون أيضاً شفاعة الحشر الأول. قال القاضي عياض: وقد عرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح رضي الله عنهم شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يلتفت إلى قول من قال أنه يكره أن يسأل الإنسان الله تعالى أن يرزقه شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم لكونها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات، ثم كل عاقل معترف بالتقصير محتاج إلى العفو غير معتد بعمله مشفق من أن يكون من الهالكين، ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة والرحمة لأنها لأصحاب الذنوب، وهذا كله خلاف ما عرف من دعاء السلف والخلف، هذا آخر كلام القاضي رحمه الله والله أعلم.
وحدّثني هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَىَ بْنِ عُمَارَة قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يُدْخِلُ الله أَهْلَ الْجَنّةِ الْجَنّةَ. يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ بِرَحْمَتِهِ. وَيُدْخِلُ أَهْلَ النّارِ النّارَ. ثُمّ يَقُولُ: انْظُرُوا مَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ. فَيُخْرَجُونَ مِنْهَا حُمَماً قَدِ امْتَحَشُوا. فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ أَوِ الْحَيَا. فَيَنْبُتُونَ فِيهِ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبّةُ إِلَى جَانِبِ السّيْلِ. أَلَمْ تَرَوْهَا كَيْفَ تَخْرُجُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَفّانُ. حَدّثَنَا وُهَيْبٌ. ح وَحَدّثَنَا حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ. حَدّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ. أَخْبَرَنَا خَالِدٌ، كِلاَهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَىَ بِهَذَا الاْسْنَادِ، وَقَالاَ: فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرٍ يُقَالَ لَهُ الْحَيَاةُ. وَلَمْ يَشُكّا. وَفِي حَدِيثِ خَالِدٍ: كَمَا تَنْبُتُ الْغُثَاءَةُ فِي جَانِبِ السّيْلِ. وَفِي حَدِيثِ وُهَيْبٍ: كَمَا تَنْبُتُ الْحِبّةُ فِي حَمِئَةِ أَوْ حَمِيلَةِ السّيْلِ.
وحدّثني نَصْرُ بْنُ عَلِيَ الْجهْضَمِيّ. حَدّثَنَا بِشْرٌ (يَعْنِي ابْنَ الْمُفَضّلِ) عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمّا أَهْلُ النّارِ الّذِينَ هُمْ أَهْلُهَا، فَإِنّهُمْ لاَ يَمُوتُونَ فِيهَا وَلاَ يَحْيَوْنَ. وَلَكِنْ قَوْمٌ أَصَابَتْهُمُ النّارُ بِذُنُوبِهِمْ (أَوْ قَالَ بِخَطَايَاهُمْ) فَأَمَاتَهُمْ إِمَاتَةً. حَتّى إِذَا كَانُوا فَحْماً. أُذِنَ بِالشّفَاعَةِ. فَجِيءَ بِهِمْ ضَبَائِرَ ضَبَائِرَ. فَبُثّوا عَلَى أَنْهَارِ الْجَنّةِ. ثُمّ قِيلَ: يَا أَهْلَ الْجَنّةِ أَفِيضُوا عَلَيْهِمْ. فَيَنْبُتُونَ نَبَاتَ الْحِبّةِ تَكُونُ فِي حَمِيل السّيْلِ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: كَأَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ بِالْبَادِيَةِ.
م 1 حع 7) وحدّثناه مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَابْنُ بَشّارٍ قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي مَسْلَمَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ. إِلَى قوله: فِي حَمِيلِ السّيْلِ. وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فيخرجون منها حمماً قد امتحشوا فيلقون في نهر الحياة أو الحيا فينتبون فيه كما تنبت الحبة) أما الحمم فتقدم بيانه في الباب السابق وهو بضم الحاء وفتح الميم المخففة وهو الفحم، وقد تقدم فيه بيان الحبة والنهر وبيان امتحشوا وأنه بفتح التاء على المختار وقيل بضمها ومعناه احترقوا. وقوله: الحياة أو الحيا هكذا وقع هنا وفي البخاري من رواية مالك، وقد صرح البخاري في أول صحيحه بأن هذا الشك من مالك، وروايات غيره الحياة بالتاء من غير شك، ثم إن الحيا هنا مقصور وهو المطر سمي حيا لأنه تحيا به الأرض، ولذلك هذا الماء يحيا به هؤلاء المحترقون، ونحدث فيهم النضارة كما يحدث ذلك المطر في الأرض والله أعلم. قوله: (كما تنبت الغثاء) هو بضم الغين المعجمة وبالثاء المثلثة المخففة وبالمد وآخره هاء وهو كل ما جاء به السيل. وقيل: المراد ما احتمله السيل من البذور، وجاء في غير مسلم كما تنبت الحبة في غثاء السيل بحذف الهاء من آخره وهو ما احتمله السيل من الزبد والعيدان ونحوهما من الأقذار والله أعلم.
قوله: (وفي حديث وهيب كما نبت الحبة في حمئة أو حميلة السيل) أما الأول فهو حمئة بفتح الحاء وكسر الميم وبعدها همزة وهي الطين الأسود الذي يكون في أطراف النهر. وأما الثاني: فهو حميلة وهي واحدة الحميل المذكور في الروايات الأخر بمعنى المحمول وهو الغثاء الذي يحتمله السيل والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم أو قال بخطاياهم فأماتهم إماتة حتى إذا كانوا فحماً أذن بالشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر فبثوا على أنهار الجنة ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عيهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل) هكذا وقع في معظم النسخ أهل النار، وفي بعضها: أما أهل النار بزيادة أما وهذا أوضح والأول صحيح وتكون الفاء في فإنهم زائدة وهو جائز. وقوله: (فأماتهم) أي أماتهم إماتة وحذف للعلم به، وفي بعض النسخ فأماتتهم بتاءين أي أماتتهم النار. وأما معنى الحديث فالظاهر والله أعلم من معنى هذا الحديث أن الكفار الذين هم أهل النار والمستحقون للخلود لا يموتون فيها ولا يحيون حياة ينتفعون بها ويستريحون معها كما قال الله تعالى: (لا يقضى عليهم) فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها. وكما قال تعالى: (ثم لا يموت فيها ولا يحيى) وهذا جار على مذهب أهل الحق أن نعيم أهل الجنة دائم، وأن عذاب أهل الخلود في النار دائم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن ناس أصابتهم النار" إلى آخره فمعناه أن المذنيين من المؤمنين يميتهم الله تعالى إماتة بعد أن يعذبوا المدة التي أرادها الله تعالى، وهذه الإماتة إماتة حقيقية يذهب معها الإحساس ويكون عذابهم على قدر ذنوبهم ثم يميتهم ثم يكونون محبوسين في النار من غير إحساس المدة التي قدرها الله تعالى، ثم يخرجون من النار موتى قد صاروا فحماً، فيحملون ضبائر كما تحمل الأمتعة ويلقون على أنهار الجنة فيصيب عليهم ماء الحياة فيحيون وينبتون نبات الحبة في حميل السيل في سرعة نباتها وضعفها فتخرج لضعفها صفراء ملتوية، ثم تشتد قوتهم بعد ذلك ويصيرون إلى منازلهم وتكمل أحوالهم، فهذا هو الظاهر من لفظ الحديث ومعناه. وحكى القاضي عياض رحمه الله فيه وجهين: أحدهما: أنها إماتة حقيقية. والثاني: ليبس بموت حقيقي ولكن تغيب عنهم إحساسهم بالاَلام، قال: ويجوز أن تكون آلامهم أخف، فهذا كلام القاضي والمختار ما قدمناه والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ضبائر ضبائر" فكذا هو في الروايات والأصول ضبائر ضبائر مكرر مرتين وهو منصوب على الحال وهو بفتح الضاد المعجمة وهو جمع ضبارة بفتح الضاد وكسرها لغتان، حكاهما القاضي عياض وصاحب المطالع وغيرهما أشهرهما الكسر، ولم يذكر الهروي وغيره إلا الكسر، ويقال فيها أيضاً إضبارة بكسر الهمزة، قال أهل اللغة: الضبائر جماعات في تفرقة. وروي ضبارات ضبارات. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (فبثوا) فهو بالباء الموحدة المضمومة بعدها ثاء ومعناه فرقوا والله أعلم.
قوله: (عن أبي مسلمة قال سمعت أبا نضرة عن أبي سعيد الخدري) أما أبو سعيد فاسمه سعد بن مالك بن سنان، وأما أبو نضرة فاسمه المنذر بن مالك بن قطعة بكسر القاف، وأما أبو مسلمة فبفتح الميم وإسكان السين واسمه سعيد بن يزيد الأزدي البصري والله أعلم
*2* باب آخر أهل النار خروجاً
*حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ، كِلاَهُمَا عَنْ جَرِيرٍ. قَالَ عُثْمَانُ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النّارِ خُرُوجاً مِنْهَا، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنّةِ دُخُولاً الْجَنّةَ. رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنَ النّارِ حَبْواً. فَيَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنّةَ. فَيَأْتِيهَا فَيُخَيّلُ إِلَيْهِ أَنّهَا مَلأَى. فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبّ وَجَدْتُهَا مَلأَى. فَيَقُولُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنّةَ. قَالَ فَيَأْتِيَهَا فَيُخَيّلُ إِلَيْهِ أَنّهَا مَلأَى. فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ: يَا رَبّ وَجَدْتُهَا مَلأَى. فَيَقُولُ الله لَهُ: اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنّةَ. فَإِنّ لَكَ مِثْلَ الدّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا. أَوْ إِنّ لَكَ عَشَرَةَ أَمْثَالِ الدّنْيَا. قَالَ فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي (أَوْ أَتَضْحَكُ بِي) وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟" قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ.
قَالَ فَكَانَ يُقَالُ: ذَاكَ أَدْنَىَ أَهْلِ الْجَنّةِ مَنْزِلَةً.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ. وَاللّفْظُ لاِءَبِي كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبِيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنّي لأَعْرِفُ آخِرَ أَهْلِ النّارِ خُرُوجاً مِنَ النّارِ. رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْهَا زَحْفَاً. فَيُقَالُ لَهُ: انْطَلِقْ فَادْخُلِ الْجَنّةَ. قَالَ: فَيَذْهَبُ فَيَدْخُلُ الْجَنّةَ. فَيَجِدُ النّاسَ قَدْ أَخَذُوا الْمَنَازِلَ. فَيُقَالُ لَهُ: أَتَذْكُرُ الزّمَانَ الّذِي كُنْتَ فِيهِ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لَهُ: تَمَنّ. فَيَتَمَنّى. فَيُقَالُ لَهُ: لَكَ الّذِي تَمَنّيْتَ وَعَشَرَةُ أَضْعَافِ الدّنْيَا. قَالَ فَيَقُولُ: أَتَسْخَرُ بِي وَأَنْتَ الْمَلِكُ؟" قَالَ فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَفّانُ بْنُ مُسْلِمٍ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ. حَدّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنّ رَسُول اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "آخِرُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنّةَ رَجُلٌ. فَهُوَ يَمْشِي مَرّةً وَيَكْبُو مَرّةً. وَتَسْفَعُهُ النّارُ مَرّةً. فَإِذَا مَا جَاوَزَهَا الْتَفَتَ إِلَيْهَا. فَقَالَ: تَبَارَكَ الّذِي نَجّانِي مِنْكِ. لَقَدْ أَعْطَانِي اللّهُ شَيْئاً مَا أَعْطَاهُ أَحَداً مِنَ الأَوّلِينَ وَالاَخِرِينَ. فَتُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ الشّجَرَةِ فَلاِءَسْتَظِلّ بِظِلّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا. فَيَقُولُ الله عَزّ وَجَلّ: يَا ابْنَ آدَمَ لَعَلّي إِنْ أَعْطَيْتُكَهَا سَأَلْتَنِي غَيْرَهَا. فَيَقُولُ: لاَ. يَا رَبّ وَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا. وَرَبّهُ يَعْذِرُهُ. لأَنّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ. فَيُدْنِيهِ مِنْهَا. فَيَسْتَظِلّ بِظِلّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا. ثُمّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الأُولَى. فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا وَأَسْتَظِلّ بِظِلّهَا. لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. فَيَقُولُ: يَا ابْنِ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَهَا؟ فَيَقُولُ: لَعَلّي إِنْ أَدْنَيْتُكَ مِنْهَا تَسْأَلُنِي غَيْرَهَا؟ فَيُعَاهِدُهُ أَنْ لاَ يَسْأَلَهُ غَيْرَهَا. وَرَبّهُ يَعْذِرُهُ. لأَنّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهِ فَيُدْنِيهِ مِنْهَا. فَيَسْتَظِلّ بِظِلّهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَائِهَا. ثُمّ تُرْفَعُ لَهُ شَجَرَةٌ عِنْدَ بَابِ الْجَنّةِ هِيَ أَحْسَنُ مِنَ الأُولَيَيْنِ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ أَدْنِنِي مِنْ هَذِهِ لأَسْتَظِلّ بِظِلّهَا وَأَشْرَبَ مِنْ مَائِهَا. لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ أَلَمْ تُعَاهِدْنِي أَنْ لاَ تَسْأَلَنِي غَيْرَها؟ قَالَ: بَلَىَ. يَا رَبّ هَذِهِ لاَ أَسْأَلُكَ غَيْرَهَا. وَرَبّهُ يَعْذِرُهُ لأَنّهُ يَرَى مَا لاَ صَبْرَ لَهُ عَلَيْهَا. فَيُدْنِيهِ مِنْهَا. فَإِذَا أَدْنَاهُ مِنْهَا، فَيَسْمَعُ أَصْوَاتَ أَهْلِ الْجَنّةِ، فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ أَدْخِلْنِيهَا. فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ؟ أَيُرْضِيكَ أَنْ أُعْطِيَكَ الدّنْيَا وَمِثْلَهَا مَعَهَا؟ قَالَ: يَا رَبّ أَتَسْتَهْزِئُ مِنّي وَأَنْتَ رَبّ الْعَالَمِينَ".
فَضَحِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ: أَلاَ تَسْأَلُونّي مِمّ أَضْحَكُ؟ فَقَالُوا: مِمّ تَضْحَكُ؟ قَالَ: هَكَذَا ضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا: مِمّ تَضْحَكُ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: "مِنْ ضِحْكِ رَبّ الْعَالَمِينَ حِينَ قَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ مِنّي وَأَنْتَ رَبّ الْعَالَمِينَ؟ فَيَقُولُ: إِنّي لاَ أَسْتَهْزِئُ مِنْكَ، وَلَكِنّي عَلَى مَا أَشَاءُ قَادِرٌ".
قوله: (حدثنا عثمان بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي كليهما) هكذا وقع في معظم الأصول كليهما بالياء، ووقع في بعضها كلاهما بالألف مصلحاً، وقد قدمت في الفصول التي في أول الكتاب بيان جوازه بالياء. قوله: (عن عبيدة) هو بفتح العين وهو عبيدة السلماني. قوله صلى الله عليه وسلم: (رجل يخرج من النار حبواً) وفي الرواية الأخرى زحفاً، قال أهل اللغة: الحبو المشي على اليدين والرجلين، وربما قالوا على اليدين والركبتين، وربما قالوا على يديه ومقعدته. وأما الزحف فقال ابن دريد وغيره هو المشي على الإست مع افراشه بصدره، فحصل من هذا أن الحبو والزحف متماثلان أو متقاربان، ولو ثبت اختلافهما حمل على أنه في حال يزحف وفي حال يحبو والله أعلم. قوله: (أتسخر بي أو أتضحك بي وأنت الملك) هذا شك من الراوي هل قال أتسخر بي؟ أو قال أتضحك بي؟ فإن كان الواقع في نفس الأمر أتضحك بي فمعناه أتسخر بي؟ لأن الساخر في العادة يضحك ممن يسخر به، فوضع الضحك موضع السخرية مجازاً، وأما معنى أتسخر بي هنا ففيه أقوال: أحدها قاله المازري أنه خرج على المقابلة الموجودة في معنى الحديث دون لفظه، لأنها عاهد الله مراراً أن لا يسأله غير ما سأل، ثم غدر فحل غدره محل الاستهزاء والسخرية، فقدر الرجل أن قول الله تعالى له: {ادخل الجنة} وتردده إليها وتخييل كونها مملوءة ضرب من الإطماع له والسخرية به جزاء لما تقدم من غدره وعقوبة له، فسمى الجزاء على السخرية سخرية فقال: أتسخر بي؟ أي تعاقبني بالاطماع. والقول الثاني قاله أبو بكر الصوفي أن معناه نفي السخرية التي لا تجوز على الله تعالى كأنه قال: أعلم أنك لا تهزأ بي لأنك رب العالمين، وما أعطيتني من جزيل العطاء وأضعاف مثل الدنيا حق، ولكن العجب أنك أعطيتني هذا وأنا غير أهل له، قال والهمزة في أتسخر بي همزة نفي، قال وهذا كلام منبسط متدلل. والقول الثالث قاله القاضي عياض أن يكون هذا الكلام صدر من هذا الرجل وهو غير ضابط لما قاله لما ناله من السرور ببلوغ ما لم يخطر بباله فلم يضبط لسانه دهشاً وفرحاً، فقاله وهو لا يعتقد حقيقة معناه، وجرى على عادته في الدنيا في مخاطبة المخلوق، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل الاَخر أنه لم يضبط نفسه من الفرح فقال: أنت عبدي وأنا ربك والله أعلم. واعلم أنه وقع في الروايات أتسخر بي وهو صحيح، يقال سخرت منه وسخرت به والأول هو الأفصح الأشهر وبه جاء القرآن، والثاني فصيح أيضاً، وقد قال بعض العلماء: أنه إنما جاء بالباء لإرادة معناه كأنه قال: أتهزأ بي والله أعلم. قوله: قوله: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه) هو بالجيم والذال المعجمة، قال أبو العباس ثعلب وجماهير العلماء من أهل اللغة وغريب الحديث وغيرهم: المراد بالنواجذ هنا الأنياب، وقيل المراد هنا الضواحك، وقيل المراد بها الأضراس وهذا هو الأشهر في إطلاق النواجذ في اللغة، ولكن الصواب عند الجماهير ما قدمناه وفي هذا جواز الضحك، وأنه ليس بمكروه في بعض المواطن، ولا بمسقط للمروءة إذا لم يجاوز به الحد المعتاد من أمثاله في مثل تلك الحال والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فيقول الله تعالى له اذهب فادخل الجنة فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها) وفي الرواية الأخرى (لك الذي تمنيت وعشرة أضعاف الدنيا) هاتان الروايتان بمعنى واحد واحدهما تفسير الأخرى فالمراد بالاضعاف الامثال فإن المختار عند أهل اللغة أن الضعف المثل. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الأخرى في الكتاب (فيقول الله تعالى أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها). وفي الرواية الأخرى: (أترضى أن يكون لك مثل ملك ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول رضيت رب، فيقول: لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله ومثله في الخامسة رضيت رب، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله) فهاتان الروايتان لا تخالفان الأوليين فإن المراد بالأولى من هاتين أن يقال له أولاً لك الدنيا ومثلها، ثم يزاد إلى تمام أمثالها كما بينه في الرواية الأخيرة، وأما الأخيرة فالمراد بها أن أحد ملوك الدنيا لا ينتهي ملكه إلى جميع الأرض بل يملك بعضاً منها، ثم منهم من يكثر البعض الذي يملكه، ومنهم من يقل بعضه فيعطى هذا الرجل مثل أحد ملوك الدنيا خمس مرات وذلك كله قدر الدنيا كلها، ثم يقال له لك عشرة أمثال هذا، فيعود معنى هذه الرواية إلى موافقة الروايات المتقدمة ولله الحمد وهو أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (آخر من يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة ويكبو مرة وتسفعه النار مرة) أما يكبو فمعناه يسقط على وجهه، وأما تسفعه فهو بفتح التاء وإسكان السين المهملة وفتح الفاء ومعناه تضرب وجهه وتسوده وتؤثر فيه أثراً. قوله صلى الله عليه وسلم: (لأنه يرى ما لا صبر له عليه) كذا هو في الأصول في المرتين الأولتين، وأما الثالثة فوقع في أكثر الأصول ما لا صبر له عليها وفي بعضها عليه وكلاهما صحيح، ومعنى عليها أي نعمة لا صبر له عليها أي عنها. قوله عز وجل: يا ابن آدم ما يصريني منك هو بفتح الياء وإسكان الصاد المهملة ومعناه يقطع مسألتك مني، قال أهل اللغة: الصرى بفتح الصاد وإسكان الراء هو القطع. وروي في غير مسلم ما يصريك مني، قال إبراهيم الحربي: هو الصواب وأنكر الرواية التي في صحيح مسلم وغيره ما يصريني منك وليس هو كما قال بل كلاهما صحيح، فإن السائل متى انقطع من المسؤول انقطع المسؤول منه، والمعنى أي يرضيك ويقطع السؤال بيني وبينك والله أعلم. قوله: (قالوا مم تضحك يا رسول الله؟ قال: من ضحك رب العالمين) قد قدمنا معنى الضحك من الله تعالى وهو الرضى والرحمة واردة الخير لمن يشاء رحمته من عباده والله أعلم
*2* باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ. حَدّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحمّدٍ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ النّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إِنّ أَدْنَىَ أَهْلِ الْجَنّةِ مَنْزِلَةً رَجُلٌ صَرَفَ اللّهُ وَجْهَهُ عَنِ النّارِ قِبَلَ الْجَنّةِ. وَمَثّلَ لَهُ شَجَرَةً ذَاتَ ظِلَ. فَقَالَ: أَيْ رَبّ قَدّمْنِي إِلَى هَذِهِ الشّجَرَةِ أَكُونُ فِي ظِلّهَا". وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ. وَلَمْ يَذْكُرْ "فَيَقُولُ: يَا ابْنَ آدَمَ مَا يَصْرِينِي مِنْكَ" إِلَى آخِرِ الْحَدِيثِ. وَزَادَ فِيهِ "وَيُذَكّرُهُ اللّهُ سَلْ كَذَا وَكَذَا. فَإِذَا انْقَطَعْتَ بِهِ الأَمَانِيّ قَالَ اللّهُ: هُوَ لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ" قَالَ: "ثُمّ يَدْخُلُ بَيْتَهُ فَتَدْخُلُ عَلَيْهِ زَوْجَتَاهُ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ. فَتَقُولاَنِ: الْحَمْدُلله الّذِي أَحْيَاكَ لَنَا وَأَحْيَانَا لَكَ. قَالَ فَيَقُولُ: مَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُعْطِيتُ".
حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيّ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عَيَيْنَةَ عَنْ مُطْرّفٍ وَابْنِ أَبْجَرَ، عَنِ الشّعْبِيّ، قَالَ: سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ، رِوَايَةً إِنْ شَاءَ اللّهُ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ. حَدّثَنَا مُطَرّفُ بْنُ طَرِيفٍ وَعَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ سَعِيدٍ. سَمِعَا الشّعْبِيّ يُخْبِرُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُهُ عَلَى الْمِنْبَرِ، يَرْفَعُهُ إِلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَحَدّثَنِي بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ. وَاللّفْظُ لَهُ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيْيَنَة. حَدّثَنَا مُطَرّفٌ وَابْنُ أَبْجَرَ. سَمِعَا الشّعْبِيّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُغِيْرَةَ بْنَ شُعْبَةَ يُخْبِرُ بِهِ النّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ. قَالَ سُفْيَانُ: رَفَعَهُ أَحَدُهُمَا (أُرَاهُ ابْنَ أَبْجَرَ) قَالَ "سَأَلَ مُوسَىَ رَبّهُ: مَا أَدْنَى أَهْلِ الْجَنّةِ مَنْزلَةً؟ قَالَ: هُوَ رَجُلٌ يَجِئُ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ أَهْلُ الْجَنّةِ الجَنّةَ فَيُقَالُ لَهُ: ادْخُلِ الْجَنّةَ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ كَيْفَ؟ وَقَدْ نَزَلَ النّاسُ مَنَازِلَهُمْ وَأَخَذُوا أَخَذَاتِهِمِ؟ فَيُقَالُ لَهُ: أَتَرْضَىَ أَنْ يَكُونَ لَكَ مِثْلُ مُلْكِ مَلِكٍ مِنْ مُلُوكِ الدّنْيَا؟ فَيَقُولُ: رَضِيتُ، رَبّ فَيُقُولَ: لَكَ ذَلَكَ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ وَمِثْلُهُ. فَقَالَ فِي الْخَامِسَةِ: رَضِيتُ، رَبّ فَيَقُولُ: هَذَا لَكَ وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهِ. وَلَكَ مَا اشْتَهَتْ نَفْسُكَ وَلَذّتْ عَيْنُكَ. فَيَقُولُ: رَضِيتُ، رَبّ قَالَ: رَبّ فَأَعْلاَهُمْ مَنْزِلَةً؟ قَالَ: أُولَئِكَ الّذِينَ أَرَدْتُ غَرَسْتُ كَرَامَتَهُمْ بِيَدِي. وَخَتَمْتُ عَلَيْهَا فَلَمْ تَرَ عَيْنٌ وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ" قَالَ: وَمِصْدَاقُهُ فِي كِتَابِ الله عَزّ وَجَلّ: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرّةِ أَعْيُنٍ} (السجدة الاَية: ) الاَية.
حع 3) حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ الأَشْجَعِيّ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ قَالَ: سَمِعْتُ الشّعْبِيّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْمُغِيْرَةَ بْنَ شُعْبَةُ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: إِنّ مُوسىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ سَأَلَ اللّهَ عَزّ وَجَلّ عَنْ أَخَسّ أَهْلِ الْجَنّةِ مِنْهَا حَظَا. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ.
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّي لأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ الْجَنّةِ دُخُولاً الْجَنّةَ. وَآخِرَ أَهْلِ النّارِ خُرُوجاً مِنْهَا. رَجُلٌ يُؤْتَىَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا. فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبَهِ. فَيُقَالَ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا. وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا. فَيَقُولُ: نَعَمْ. لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ. وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ فَيُقَالُ لَهُ: فَإِنّ لَكَ بِكُلّ سَيّئَةٍ حَسَنَةً. فَيَقُولُ: رَبّ قَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لاَ أَرَاهَا هَهُنَا".
فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ضَحِكَ حَتّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ.
م 1 حع 5) وحدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الاْسْنَادِ.
حدّثني عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ وَإِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ، كِلاَهُمَا عَنْ رَوْحٍ. قَالَ عُبَيْدُ اللّهِ: حَدّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ الْقَيْسِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ، أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يُسْأَلُ عَنِ الْوُرُودِ. فَقَالَ: نَجِيءُ نَحْنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ كَذَا وَكَذَا انْظُرْ أَيْ ذَلِكَ فَوْقَ النّاسِ. قَالَ فَتُدْعَى الأُمَمُ بِأَوْثَانِهَا وَمَا كَانَتْ تَعْبُدُ. الأَوّلُ فَالأَوّلُ. ثُمّ يَأْتِينَا رَبّنَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَقُولُ: مَنْ تَنْظُرُونَ؟ فَيَقُولُونَ: نَنْظُرُ رَبّنَا. فَيَقُولُ: أَنَا رَبّكُمْ. فَيَقُولُونَ: حَتّى نَنْظُرَ إِلَيْكَ. فَيَتَجَلّى لَهُمْ نَضْحَكُ. قَالَ فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتّبِعُونَهُ. وَيُعْطَىَ كُلّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ، مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ، نُوراً. ثُمّ يَتّبِعُونَهُ. وَعَلَى جِسْرِ جَهَنّمَ كَلاَلِيبُ وَحَسَكٌ. تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ الله. ثُمّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ. ثُمّ يَنْجُو الْمُؤْمِنُونَ. فَتَنْجُو أَوّلُ زُمْرَةٍ وَجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. سَبْعُونَ أَلْفاً لاَ يُحَاسَبُونَ. ثُمّ الّذِينَ يَلُونَهُمْ كَأَضْوَإِ نَجْمٍ فِي السّمَاءِ. ثُمّ كَذَلِكَ. ثُمّ تَحِلّ الشّفَاعَةُ. وَيَشْفَعُونَ حَتّى يَخْرُجَ مِنَ النّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ. وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً. فَيُجْعَلُونَ بِفِنَاءِ الْجَنّةِ. وَيَجْعَلُ أَهْلُ الْجَنّةِ يَرُشّونَ عَلَيْهِمُ الْمَاءَ حَتّى يَنْبُتُوا نَبَاتَ الشّيْءِ فِي السّيْلِ. وَيَذْهَبُ حُرَاقُهُ. ثُمّ يُسْأَلُ حَتّى تُجْعَلَ لَهُ الدّنْيَا وَعَشَرَةُ أَمْثَالِهَا مَعَهَا.
م 1 حع 7) حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِراً يَقُولُ: سَمِعَهُ مِنَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِأُذُنِهِ يَقُولُ "إِنّ الله يُخْرِجُ نَاساً مِنَ النّارِ فَيُدْخِلُهُمْ الْجَنّةَ".
م 2 حع 8) حدّثنا أَبُو الرّبِيعِ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ قَالَ قُلْتُ لِعَمْرِو بْنِ دِينَارٍ: أَسَمِعْتَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يُحَدّثُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنّ الله يُخْرِجُ قَوْماً مِنَ النّارِ بِالشّفَاعَةِ؟" قَالَ: نَعَمْ.
م 3 حع 9) حدّثنا حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ. حَدّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزّبَيْرِيّ. حَدّثَنَا قَيْسُ بْنُ سُلَيْمٍ الْعَنْبَرِيّ. قَالَ: حَدّثَنِي يَزِيدُ الْفَقِيرُ. حَدّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنّ قَوْماً يُخْرَجُونَ مِنَ النّارِ يَحْتَرِقُونَ فِيهَا، إِلاّ دَارَاتِ وُجُوهِهِمْ، حَتّى يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ".
م 4 حع 0) وحدّثنا حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ. حَدّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ. حَدّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ (يَعْنِي مُحَمّدِ بْنِ أَبِي أَيّوبَ) قَالَ: حَدّثَنِي يَزِيْدُ الْفَقِيرُ، قَالَ: كُنْتُ قَدْ شَغَفَنِي رَأْيٌ مِنْ رَأْيِ الْخَوَارِجِ. فَخَرَجْنَا فِي عِصَابَةٍ ذَوِي عَدَدٍ نُرِيدُ أَنْ نَحُجّ. ثُمّ نَخْرُجَ عَلَى النّاسِ. قَالَ: فَمَرَرْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ فَإِذَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ يُحَدّثُ الْقَوْمَ. جَالِسٌ إِلَى سَارِيَةٍ. عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَإِذَا هُوَ قَدْ ذَكَرَ الْجَهَنّمِيّين. قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا صَاحِبَ رَسُولِ اللّهِ مَا هَذَا الّذِي تُحَدّثُونَ؟ وَالله يَقُولُ: {إِنّكَ مَنْ تُدْخِلِ النّارَ فَقَدْ أَخْزَيْنَهُ} (آل عمران الاَية: 2) وَ {كُلّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا} (السجدة الاَية: ) فَمَا هَذَا الّذِي تَقُولُونَ؟ قَالَ: فَقَالَ: أَتَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَهَلْ سَمِعْتَ بِمَقَامِ مُحَمّدٍ عَلَيْهِ السّلاَمُ (يَعْنِي الّذِي يَبْعَثُهُ الله فِيهِ)؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنّهُ مَقَامُ مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم الْمَحْمُودُ الّذِي يُخْرِجُ الله بِهِ مَنْ يُخْرِجُ. قَالَ: ثُمّ نَعَتَ وَضْعَ الصّرَاطِ وَمَرّ النّاسِ عَلَيْهِ. قَالَ: وَأَخَافُ أَنْ لاَ أَكُونَ أَحْفَظُ ذَاكَ. قَالَ: غَيْرَ أَنّهُ قَدْ زَعَمَ أَنّ قَوْماً يَخْرُجُونَ مِنَ النّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا. قَالَ: يَعْنِي فَيَخْرُجُونَ كَأَنّهُمْ عِيدَانُ السّمَاسِمِ. قَالَ: فَيَدْخُلُونَ نَهْراً مِنْ أَنْهَارِ الْجَنّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ. فَيَخْرُجُونَ كَأَنّهُمْ الْقَرَاطِيسُ. فَرَجَعْنَا قُلْنَا: وَيْحَكُمْ أَتُرَوْنَ الشّيْخَ يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَرَجَعْنَا. فَلاَ وَالله مَا خَرَجَ مِنّا غَيْرُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْ كَمَا قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ.
حدّثنا هَدّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزَدِيّ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي عِمْرَانُ وَثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَخْرُجُ مِنَ النّارِ أَرْبَعَةٌ فَيُعْرَضُونَ عَلَى الله. فَيَلْتَفِتُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ إِذْ أَخْرَجْتَنِي مِنْهَا فَلاَ تُعِدْنِي فِيهَا. فَيُنْجِيهِ الله مِنْهَا".
حدّثنا أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيّ، وَ مُحمّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيّ (وَاللّفْظُ لاِءَبِي كَامِلٍ). قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَجْمَعُ الله النّاسَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَهْتَمّونَ لِذَلِكَ (وَقَالَ ابْنُ عُبَيْدٍ: فَيُلْهَمُونَ لِذَلِكَ) فَيَقُولُونَ: لَوِ اسْتَشْفَعْنَا علَى رَبّنَا حَتّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا قَالَ: فَيَأْتُونَ آدَمَ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ: أَنْتَ آدَمُ أَبُو الْخَلْقِ. خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ. وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ. اشْفَعْ لَنَا عِنْدَ رَبّكَ حَتّى يُرِيحَنَا مِنْ مَكَانِنَا هَذَا. فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ. فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الّتِي أَصَابَ. فَيَسْتَحِي رَبّهُ مِنْهَا. وَلَكِنِ ائْتُوا نُوحاً. أَوّلَ رَسُولٍ بَعَثَهُ الله. قَالَ: فَيَأْتُونَ نُوحاً صلى الله عليه وسلم. فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ. فَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي رَبّهُ مِنْهَا. وَلَكِنِ ائْتُوا إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم الّذِي اتّخَذَهُ الله خَلِيلاً. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ. وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي رَبّهُ مِنْهَا. وَلَكِنِ ائْتُوا مُوسَىَ صلى الله عليه وسلم. الّذِي كَلّمَهُ الله وَأَعْطَاهُ التّوْرَاةَ. قَالَ: فَيَأْتُونَ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ. وَيَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ الّتِي أَصَابَ فَيَسْتَحْيِي رَبّهُ مِنْهَا. وَلَكِنِ ائْتُوا عِيسىَ رُوحَ الله وَكَلِمَتَهُ. فَيَأْتُونَ عِيسىَ رُوحَ الله وَكَلِمَتَهُ. فَيَقُولُ: لَسْتُ هُنَاكُمْ. وَلَكِنِ ائْتُوا مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم. عَبْداً غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخّرَ". قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَيَأْتُونِي. فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبّي فَيُؤْذَنُ لِي. فَإِذَا أَنَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِداً. فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ الله. فَيُقَالُ: يَا مُحَمّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ. قُلْ تُسْمَعْ. سَلْ تُعْطَهْ. اشْفَعْ تُشَفّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِي. فَأَحْمَدُ رَبّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلّمُنِيهِ رَبّي. ثُمّ أَشْفَعُ. فَيَحُدّ لِي حَدّاً فَأُخْرِجُ مِنَ النّارِ، وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنّةَ. ثُمّ أَعُودُ فَأَقَعُ سَاجِداً. فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ الله أَنْ يَدَعَنِي ثُمّ يُقَالُ: ارْفَعْ رَأْسَكَ يَا مُحَمّدُ قُلْ تُسْمَعْ. سَلْ تُعْطَهْ. اشْفَعْ تُشَفّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِي. فَأَحْمَدُ رَبّي بِتَحْمِيدٍ يُعَلّمُنِيهِ. ثُمّ أَشْفَعُ. فَيَحُدّ لِي حَدّاً فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النّارِ. وَأُدْخِلُهُمْ الْجَنّةَ. (قَالَ: فَلاَ أَدْرِي فِي الثّالِثَةِ أَوْ فِي الرّابِعَةِ قَالَ) يَا رَبّ مَا بَقِيَ فِي النّارِ إِلاّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ" (قَالَ ابْنُ عُبَيْدٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ).
م 1 حع 3) وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى، وَمُحمّدُ بْنُ بَشّارٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ عَنْ سَعِيدٍ، عَنِ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "يَجْتَمِعُ الْمُؤْمِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيَهْتَمّونَ بِذَلِكَ (أَوْ يَلْهَمُونَ ذَلِكَ)" بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ. وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ "ثُمّ آتِيهِ الرّابِعَةَ (أَوْ أَعُودُ الرّابِعَةَ) فَأَقُولُ: يَا رَبّ مَا بَقِيَ إِلاّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ".
م 2 حع 4) حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ. قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَجْمَعُ اللّهُ المْوءْمِنينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْهَمُونَ لِذلِكَ" بِمِثْلِ حَدِيثِهِمَا. وَذَكَرَ فِي الرّابِعَةِ "فَأَقُولُ: يَا رَبّ، مَا بَقِيَ فِي النّارِ إلاّ مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ. أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ".
م 3 حع 5) وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ مِنْهالٍ الضّرِيرُ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ. حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ وَهِشَامُ صَاحِبُ الدّسْتَوائِيّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنِي أَبُو غَسّانَ الْمِسْمَعِيّ وَمُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. قَالاَ: حَدّثَنَا مُعَاذٌ، وَهُو ابْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ. حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَخْرُجُ مِنَ النّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله، وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً. ثُمّ يَخْرُجُ مِنَ النّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرّةً. ثُمّ يَخْرُجُ مِنَ النّارِ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ ذَرّةً".
زَادَ ابْنُ مِنْهَالٍ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ يَزِيدُ: فَلَقِيتُ شُعْبَةُ فَحَدّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ. فَقَالَ شُعْبَةُ: حَدّثَنَا بِهِ قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِالْحَدِيثِ إِلاّ أَنّ شُعْبَةُ جَعَلَ مَكَانَ الذّرّةِ، ذُرَةً، قَالَ يَزِيدُ: صَحّفَ فِيهَا أَبُو بِسْطَامٍ.
م 4 حع 6) حدّثنا أَبُو الرّبِيعِ الْعَتَكِيّ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ. حَدّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلاَلٍ الْعَنَزِيّ. ح وَحَدّثَنَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ (وَاللّفْظُ لَهُ) حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ. حَدّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ هِلاَلٍ الْعَنْزِيّ قَالَ: انْطَلَقْنَا إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَتَشَفّعْنَا بِثَابِتٍ. فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلّي الضّحَىَ. فَاسْتَأْذَنَ لَنَا ثَابِتٌ. فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ. وَأَجْلَسَ ثَابِتاً مَعَهُ عَلَى سَرِيرِهِ. فَقَالَ لَهُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ إِنّ إِخْوَانَكَ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَسْأَلُونَكَ أَنْ تُحَدّثَهُمْ حَدِيثَ الشّفَاعَةِ. قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدٌ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ مَاجَ النّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ لَهُ: اشْفَعْ لِذُرّيّتِكَ. فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا. وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَإِنّهُ خَلِيلُ الله. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ. فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا. وَلَكنْ عَلَيْكُمْ بِمُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَإِنّهُ كَلِيمُ الله. فَيُؤْتَىَ مُوسَىَ فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا. وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِعِيسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَإِنّهُ رُوحُ الله وَكَلِمَتُهُ. فَيُؤْتَىَ عِيسَىَ. فَيَقُولُ: لَسْتُ لَهَا. وَلَكِنْ عَلَيْكُمْ بِمُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَأُوتَىَ فَأَقُولُ: أَنَا لَهَا. فَأَنْطَلِقُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبّي. فَيُؤْذَنُ لِي. فَأَقُومُ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لاَ أَقْدِرُ عَلَيْهِ الاَنَ. يُلْهِمُنِيهِ الله. ثُمّ أَخِرّ لَهُ سَاجِداً. فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمّدُ ارْفَعْ رأْسكَ. وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ. وَسَلْ تُعْطَهْ. وَاشْفَعْ تُشَفّعْ. فَأَقُولُ: رَبّ أُمّتِي. أُمّتِي. فَيُقَالُ: انْطَلِقْ. فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّةٍ مِنْ بُرّةٍ أَوْ شَعِيرَةٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ. ثُمّ أَرْجِعُ إِلَى رَبّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ ثُمّ أَخِرّ لَهُ سَاجِداً. فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ. وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ. وَسَلْ تُعْطَهْ. وَاشْفَعْ تُشَفّعْ. فَأَقُولُ: أُمّتِي. أُمّتِي. فَيُقَالُ لِيَ: انْطَلِقْ. فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنْهَا. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ. ثُمّ أَعُودُ إِلَى رَبّي فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ. ثُمّ أَخِرّ لَهُ سَاجِداً. فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ. وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ. وَسَلْ تُعْطَهْ. وَاشْفَعْ تُشَفّعْ. فَأَقُولُ: يَا رَبّ أُمّتِي. أُمّتِي. فَيُقَالُ لِيَ: انْطَلِقْ. فَمَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى أَدْنَى أَدْنَى مِنْ مِثْقَالِ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجْهُ مِنَ النّارِ. فَأَنْطَلِقُ فَأَفْعَلُ".
هَذَا حَدِيثُ أَنَسٍ الّذِي أَنْبَأَنَا بِهِ. فَخَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ. فَلَمّا كُنّا بِظَهْرِ الْجَبّانِ قُلْنَا: لَوْ مِلْنَا إِلَى الْحَسَنِ فَسَلّمْنَا عَلَيْهِ، وَهُوَ مُسْتَخْفٍ فِي دَارِ أَبِي خَلِيفَةَ. قَالَ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ فَسَلّمْنَا عَلَيْهِ. فَقُلْنَا: يَا أَبَا سَعِيدٍ جِئْنَا مِنْ عِنْدِ أَخِيكَ أَبِي حَمْزَةَ. فَلَمْ نَسْمَعْ مِثْلَ حَدِيثٍ حَدّثَنَاهُ فِي الشّفَاعَةِ. قَالَ: هِيهِ فَحَدّثْنَاهُ الْحَدِيثَ. فَقَالَ: هِيهِ قُلْنَا: مَا زَادَنَا. قَالَ: قَدْ حَدّثَنَا بِهِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً وَهُوَ يَوْمَئِذٍ جَمِيعٌ وَلَقَدْ تَرَكَ شَيْئاً مَا أَدْرِي أَنَسِيَ الشّيْخُ أَوْ كَرِهِ أَنْ يُحَدّثَكُمْ فَتَتّكِلُوا. قُلْنَا لَهُ: حَدّثَنَا. فَضَحِكَ وَقَالَ: خُلِقَ الاْنُسَانُ مِنْ عَجَلٍ. مَا ذَكَرْتُ لَكُمْ هَذَا إِلاّ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَدّثَكُمُوهُ. "ثُمّ أَرْجِعُ إِلَى رَبّي فِي الرّابِعَةِ فَأَحْمَدُهُ بِتِلْكَ الْمَحَامِدِ. ثُمّ أُخِرّ لَهُ سَاجِداً. فَيُقَالُ لِي: يَا مُحَمّدُ ارْفَعْ رَأْسُكَ. وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ. وَسَلْ تُعْطَ. وَاشْفَعْ تُشَفّعْ. "فَأَقُولُ: يَا رَبّ ائْذَنْ لِي فِيمَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله. قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ لَكَ (أَوْ قَالَ لَيْسَ ذَاكَ إِلَيْكَ) وَلَكِنْ، وَعِزّتِي وَكِبْرِيَائِي وَعَظَمَتِي وَجِبْرِيَائِي لأُخْرِجَنّ مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاّ الله".
قَالَ فَأَشْهَدُ عَلَى الْحَسَنِ أَنّهُ حَدّثَنَا بِهِ أَنّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، أُرَاهُ قَالَ قَبْلَ عِشْرِينَ سَنَةً، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ جَمِيعٌ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَمُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ (وَاتّفَقَا فِي سِياقِ الْحَدِيثِ، إِلاّ مَا يَزِيدُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْحَرْفِ بَعْدَ الْحرْفِ) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ بِشْرٍ. حَدّثَنَا أَبُو حَيّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً بِلَحْمٍ. فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذّرَاعُ وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً فَقَالَ: "أَنَا سَيّدُ النّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوّلِينَ وَالاَخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ. فَيُسْمِعُهُمُ الدّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ. وَتَدْنُو الشّمْسُ فَيَبْلُغُ النّاسَ مِنَ الْغَمّ وَالْكَرْبِ مَا لاَ يُطِيقُونَ. وَمَا لاَ يَحْتَمِلُونَ. فَيَقُولُ بَعْضُ النّاسِ لِبَعْضٍ: أَلاَ تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ؟ أَلاَ تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلاَ تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبّكُمْ؟ فَيَقُولُ بَعْضُ النّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ. فَيَأْتُونَ آدَمَ. فَيَقُولُونَ: يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ. خَلَقَكَ الله بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ. اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبّكَ. أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنّ رَبّي غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ. وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَإِنّهُ نَهَانِي عَنِ الشّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ. نَفْسِي. نَفْسِي. اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي. اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحاً فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوّلُ الرّسُل إِلَى الأَرْضِ. وَسَمّاكَ الله عَبْداً شَكُوراً. اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبّكَ. أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: إِنّ رَبّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَإِنّهُ قَدْ كَانَتْ لِي دَعْوَةٌ دَعَوْتُ بِهَا عَلَى قَوْمِي. نَفْسِي. نَفْسِي. اذْهَبُوا إِلَى إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم. فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيّ اللّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ. اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبّكَ. أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ: إِنّ رَبّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَذَكَرَ كذبَاتِهِ. نَفْسِي. نَفْسِي. اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى مُوسَىَ. فَيَأْتُونَ مُوسَىَ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَىَ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ. فَضّلَكَ الله، بِرِسَالاَتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ، عَلَى النّاسِ. اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبّكَ. أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ مُوسَىَ صلى الله عليه وسلم: إِنّ رَبّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَإِنّي قَتَلْتُ نَفْساً لَمْ أُومَرْ بِقَتْلِهَا. نَفْسِي. نَفْسِي. اذْهَبُوا إِلَى عِيسىَ صلى الله عليه وسلم. فَيَأْتُونَ عِيسىَ فَيَقُولُونَ: يَا عِيسىَ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ، وَكَلّمْتَ النّاسَ فِي الْمَهْدِ، وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ، وَرُوحٌ مِنْهُ. فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبّكَ. أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عِيسىَ صلى الله عليه وسلم: إِنّ رَبّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَباً لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ لَهُ ذَنْباً. نَفْسِي. نَفْسِي. اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي. إِذْهَبُوا إِلَى مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَيَأْتُونّي فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ. وَغَفَرَ الله لَكَ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخّرَ. اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبّكَ. أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ أَلاَ تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ فَآتِي تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِداً لِرَبّي. ثُمّ يَفْتَحُ الله عَلَيّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئاً لَمْ يَفْتَحْهُ لأَحَدٍ قَبْلِي. ثُمّ يُقَالُ: يَا مُحَمّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ. سَلْ تُعْطَهْ. اشْفَعْ تُشَفّعْ. فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: يَا رَبّ أُمّتِي. أُمّتِي. فَيُقَالُ: يَا مُحَمّدُ أَدْخِلِ الْجَنّةَ مِنْ أُمّتِكَ، مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِ، منَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنّةِ.
وَهُمْ شُرَكَاءُ النّاسِ. فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ. وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ إِنّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنّةِ لَكَمَا بَيْنَ مَكّةَ وَهَجَرٍ. أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكّةَ وَبُصْرَى".
م 1 حع 8) وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وُضِعَتُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَصْعَةٌ مِنْ ثَرِيدٍ وَلَحْمٍ. فَتَنَاوَلَ الذّرَاعَ. وَكَانَتْ أَحَبّ الشّاةِ إِلَيْهِ. فَنَهَسَ نَهْسَةً فَقَالَ "أَنَا سَيّدُ النّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" ثُمّ نَهَسَ أُخْرَى فَقَالَ: "أَنَا سَيّدُ النّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" فَلَمّا رَأَى أَصْحَابَهُ لاَ يَسْأَلُونَهُ قَالَ: "أَلاَ تَقُولُونَ كَيْفهُ؟" قَالُوا: كَيْفَهْ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ "يَقُومُ النّاسُ لِرَبّ الْعَالَمِينَ" وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي حَيّانَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ. وَزَادَ فِي قِصّةِ إِبْرَاهِيمَ فَقَالَ. وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ: هَذَا: رَبّي. وَقَوْلَهُ لاَِلِهَتِهِمْ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا. وَقوله: إِنّي سَقِيمٌ. قَالَ: "وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ إِنّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ مِنْ مَصَارِيعِ الْجَنّةِ إِلَى عِضَادَتَي الْبَابِ لَكَمَا بَيْنَ مَكّةَ وَهَجَرٍ أَوْ هَجَرٍ وَمَكّةَ".
قَالَ: لاَ أَدْرِي أَيّ ذَلِكَ قَالَ.
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ طَرِيفِ بْنِ خَلِيفَةَ الْبَجَلِيّ. حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ فُضَيْلٍ. حَدّثَنَا أَبُو مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَبُو مَالِكٍ عَنْ رِبْعِيَ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالاَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَجْمَعُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى النّاسَ. فَيَقُومُ الْمُؤْمِنُونَ حَتّى تُزْلَفَ لَهُمُ الْجَنّةُ. فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ: يَا أَبَانَا اسْتَفْتِحْ لَنَا الْجَنّةَ. فَيَقُولُ: وَهَلْ أَخْرَجَكُمْ مِنَ الْجَنّةِ إِلاّ خَطِيئَةُ أَبِيكُمْ آدَمَ لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. اذْهَبُوا إِلَى ابْنِي إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ الله. قَالَ فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. إِنّمَا كُنْتُ خَلِيلاً مِنْ وَرَاءَ وَرَاءَ. اعْمِدُوا إِلَى مُوسَىَ صلى الله عليه وسلم الّذِي كَلّمَهُ الله تَكْلِيماً. فَيَأْتُونَ مُوسَىَ صلى الله عليه وسلم فَيَقُولُ: لَسْتُ بِصَاحِبَ ذَلِكَ. اذْهَبُوا إِلَىَ عِيسَىَ كِلَمِةِ الله وَرُوحِهِ. فَيَقُولُ عِيَسىَ صلى الله عليه وسلم: لَسْتُ بِصَاحِبِ ذَلِكَ. فَيَأْتُونَ مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم. فَيَقُومُ فَيُؤْذَنُ لَهُ. وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرّحِمُ. فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصّرَاطِ يَمِيناً وَشِمَالاً. فَيَمُرّ أَوّلُكُمْ كَالْبَرْقِ" قَالَ قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي أَيّ شَيْءٍ كَمَرّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: "أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ؟ ثُمّ كَمَرّ الرّيحِ. ثُمّ كَمَرّ الطّيْرِ وَشَدّ الرّجَالِ. تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ. وَنَبِيّكُمْ قَائِمٌ عَلَى الصّرَاطِ يَقُولُ: رَبّ سَلّمْ سَلّمْ. حَتّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ. حَتّى يَجِيءَ الرّجُلُ فَلاَ يَسْتَطِيعُ السّيْرَ إِلاّ زَحْفاً. قَالَ وَفِي حَافَتَي الصّرَاطِ كَلاَلِيبُ مُعَلّقَةٌ. مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ. فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوسٌ فِي النّارِ".
وَالّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنّ قَعْرَ جَهَنّمَ لَسَبْعوننَ خَرِيفاً .
قوله: (عن النعمان بن أبي عياش) هو بالشين المعجمة وهو أبو عياش الزرقي الأنصاري الصحابي المعروف في اسمه خلاف مشهور، قيل زيد بن الصامت، وقيل زيد بن النعمان، وقيل عبيد، وقيل عبد الرحمن. قوله صلى الله عليه وسلم: (فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين فتقولان: الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك) هكذا ثبت في الروايات والأصول زوجتاه بالتاء تثنية زوجة بالهاء وهي لغة صحيحة معروفة، وفيها أبيات كثيرة من شعر العرب، وذكرها ابن السكيت وجماعات من أهل اللغة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (فتقولان) هو بالتاء المثناة من فوق وإنما ضبطت هذا وإن كان ظاهراً لكونه مما يغلط فيه بعض من لا يميز فيقوله بالمثناة من تحت وذلك لحن لا شك فيه، قال الله تعالى: {إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} وقال تعالى: {ووجد من دونهم امرأتين تذودان} وقال الله تعالى: {إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا} وقال تعالى: {فيهما عينان تجريان}. وأما قولهما: الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك فمعناه الذي خلقك لنا وخلقنا لك وجمع بيننا في هذه الدار الدائمة السرور والله أعلم.
قوله: (حدثنا سعيد بن عمرو الأشعثي) هو بالثاء المثلثة بعد العين المهملة منسوب إلى جده الأشعث وقد تقدم بيانه. قوله: (عن ابن أبجر) هو بفتح الهمزة وإسكان الباء الموحدة وفتح الجيم واسمه عبد الملك بن سعيد بن حيان بن أبجرو هو تابعي سمع أبا الطفيل عامر بن واثلة، وقد سماه مسلم في الطريق الثاني فقال عبد الملك بن سعيد. قوله: (عن مطرف وابن أبجر عن الشعبي قال: سمعت المغيرة بن شعبة رواية إن شاء الله تعالى). وفي الرواية الأخرى: (سمعته على المنبر يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) وفي الرواية الأخرى: (عن سفيان عن مطرف وابن أبجر عن الشعبي عن المغيرة قال سفيان رفعه أحدهما أراه ابن أبجر قال سأل موسى صلى الله عليه وسلم ربه سبحانه وتعالى ما أدنى أهل الجنة منزلة) اعلم أنه قد تقدم في الفصول التي في أول الكتاب أن قولهم رواية أو يرفعه أو ينميه أو يبلغ به كلها ألفاظ موضوعة عند أهل العلم لإضافة الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا خلاف في ذلك بين أهل العلم، فقوله له رواية معناه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بينه هنا في الرواية الثانية. وأما قوله: رواية إن شاء الله فلا يضره هذا الشك والاستثناء لأنه جزم به في الروايات الباقية. وأما قوله في الرواية الأخيرة رفعه أحدهما فمعناه أن أحدهما رفعه وأضافه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاَخر وقفه على المغيرة فقال عن المغيرة قال: سأل موسى صلى الله عليه وسلم والضمير في أحدهما يعود على مطرف وابن أبجر شيخي سفيان فقال أحدهما عن الشعبي عن المغيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سأل موسى صلى الله عليه وسلم، وقال الاَخر عن الشعبي عن المغيرة قال: سأل موسى، ثم أنه يحصل من هذا أن الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، وقد قدمنا في الفصول المتقدمة في أول الكتاب أن المذهب الصحيح المختار الذي عليه الفقهاء وأصحاب الأصول والمحققون من المحدثين أن الحديث إذا روي متصلاً وروي مرسلاً وروي مرفوعاً وروي موقوفاً فالحكم للموصول والمرفوع لأنها زيادة ثقة وهي مقبولة عند الجماهير من أصحاب فنون العلوم، فلا يقدح اختلافهم ههنا في رفع الحديث ووقفه لا سيما وقد رواه الأكثرون مرفوعاً والله أعلم. وأما قول موسى صلى الله عليه وسلم: (ما أدنى أهل الجنة) كذا هو في الأصول ما أدنى وهو صحيح، ومعناه ما صفة أو ما علامة أدنى أهل الجنة، وقد تقدم أن المغيرة يقال بضم الميم وكسرها لغتان والضم أشهر والله أعلم. قوله: (كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم) هو بفتح الهمزة والخاء، قال القاضي: هو ما أخذوه من كرامة مولاهم وحصلوه أو يكون معناه قصدوا منازلهم، قال: وذكره ثعلب بكسر الهمزة. قوله صلى الله عليه وسلم: (فأعلاهم منزلة قال أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقه في كتاب الله تعالى) أما أردت فبضم التاء ومعناه اخترت واصطفيت، وأما غرست كرامتهم بيدي إلى آخره فمعناه اصطفيتهم وتوليتهم فلا يتطرق إلى كرامتهم تغيير، وفي آخر الكلام حذف اختصر للعلم به تقديره، ولم يخطر على قلب بشر ما أكرمتهم به وأعددته لهم، وقوله: مصداقه هو بكسر الميم ومعناه دليله وما يصدقه والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن موسى صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى عن أخس أهل الجنة) هكذا ضبطناه بالخاء المعجمة وبعدها السين المشددة، وهكذا رواه جميع الرواة ومعناه أدناهم كما تقدم في الرواية الأخرى.
قوله: (عن المعرور ابن سويد) هو بالعين المهملة والراء المكررة.
(يتبع...)
*(تابع... 1): حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ... ...
قوله: (عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يسأل عن الورود فقال: نجيء يوم القيامة عن كذا وكذا، انظر أي ذلك فوق الناس؟ قال فتدعى الأمم بأوثانها إلى آخره) هكذا وقع هذا اللفظ في جميع الأصول من صحيح مسلم، واتفق المتقدمون والمتأخرون على أنه تصحيف وتغيير واختلاط في اللفظ، قال الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين: هذا الذي وقع في كتاب مسلم تخليط من أحد الناسخين أو كيف كان. وقال القاضي عياض: هذه صورة الحديث في جميع النسخ وفيه تغيير كثير وتصحيف، قال: وصوابه نجيء يوم القيامة على كوم، هكذا رواه بعض أهل الحديث وفي كتاب ابن أبي خيثمة من طريق كعب بن مالك: يحشر الناس يوم القيامة على تل وأمتي على تل وذكر الطبري في التفسير من حديث ابن عمير فيرقى هو يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وأمته على كوم فوق الناس. وذكر من حديث كعب بن مالك يحشر الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل، قال القاضي: فهذا كله يبين ما تغير من الحديث، وأنه كان أظلم هذا الحرف على الراوي أو أمحى فعبر عنه بكذا وكذا وفسره بقوله أي فوق الناس وكتب عليه انظر تنبيهاً، فجمع النقلة الكل ونسقوه على أنه من متن الحديث كما تراه، وهذا كلام القاضي وقد تابعه عليه جماعة من المتأخرين والله أعلم. قال القاضي: ثم إن هذا الحديث جاء كله من كلام جابر موقوفاً عليه، وليس هذا من شرط مسلم إذ ليس فيه ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ذكره مسلم وأدخله في المسند لأنه روى مسنداً من غير هذا الطريق، فذكر ابن أبي خيثمة عن ابن جريج يرفعه بعد قوله يضحك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فينطلق بهم، وقد نبه على هذا مسلم بعد هذا في حديث ابن أبي شيبة وغيره في الشفاعة وإخراج من يخرج من النار، وذكر إسناده وسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم بمعنى بعض ما في الحديث والله أعلم. وأما قوله: (فيتجلى لهم يضحك فينطلق بهم ويتبعونه) فتقدم بيانهما في أوائل الكتاب وكذلك تقدم قريباً معنى الضحك. وأما التجلي فهو الظهور وإزالة المانع من الرؤية، ومعنى يتجلى يضحك أي يظهر وهو راض عنهم. قوله: (ثم يطفأ نور المنافقين) روي بفتح الياء وضمها وهما صحيحان معناهما ظاهر. قوله: (ثم ينجو المؤمنون) هكذا هو في كثير من الأصول وفي أكثرها المؤمنين بالياء. قوله: (أول زمرة) أي جماعة. قوله: (حتى ينبتوا نبات الشيء في السيل ويذهب حراقه ثم يسأل حتى تجعل له الدنيا وعشرة أمثالها) هكذا هو في جميع الأصول ببلادنا نبات الشيء، وكذا نقله القاضي عياض عن رواية الأكثرين، وعن بعض رواة مسلم نبات الدمن يعني بكسر الدال وإسكان الميم، وهذه الرواية هي الموجودة في الجمع بين الصحيحين لعبد الحق وكلاهما صحيح، لكن الأول هو المشهور الظاهر، وهو بمعنى الروايات السابقة نبات الحبة في حميل السيل، وأما نبات الدمن فمعناهما أيضاً كذلك فإن الدمن البعر والتقدير نبات ذي الدمن في السيل أي كما ينبت الشيء الحاصل في البعر والغثاء الموجود في أطراف النهر، والمراد التشبيه به في السرعة والنضارة، وقد أشار صاحب المطالع إلى تصحيح هذه الرواية ولكن لم ينقح الكلام في تحقيقها بل قال: عندي أنها رواية صحيحة ومعناه سرعة نبات الدمن مع ضعف ما ينبت فيه وحسن منظره والله أعلم. وأما قوله: (ويذهب حراقه) فهو بضم الحاء المهملة وتخفيف الراء، والضمير في حراقه يعود على المخرج من النار، وعليه يعود الضمير في قوله ثم يسأل ومعنى حراقه أثر النار والله أعلم.
قوله: (حدثني يزيد الفقير) هو يزيد بن صهيب الكوفي ثم المكي أبو عثمان قيل له الفقير لأنه أصيب في فقار ظهره فكان يألم منه حتى ينحني له قوله صلى الله عليه وسلم: (إن قوماً يخرجون من النار يحترقون فيها إلا دارات وجوههم حتى يدخلون الجنة) هكذا هو في الأصول حتى يدخلون بالنون وهو صحيح وهي لغة سبق بيانها، وأما دارات الوجوه فهي جمع دارة وهي ما يحيط بالوجه من جوانبه، ومعناه أن النار لا تأكل دارة الوجه لكونها محل السجود، ووقع هنا إلا دارت الوجوه، وسبق في الحديث الاَخر إلا مواضع السجود، وسبق هناك الجمع بينهما والله أعلم.
قوله: (كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج) هكذا هو في الأصول والروايات شغفني بالغين المعجمة. وحكى القاضي عياض رحمه الله تعالى أنه روي بالعين المهملة وهما متقاربان ومعناه لصق بشغاف قلبي وهو غلافه، وأما رأي الخوارج فهو ما قدمناه مرات أنهم يرون أن أصحاب الكبائر يخلدون في النار ولا يخرج منها من دخلها. قوله: (فخرجنا في عصابة ذوي عدو نريد أن نحج ثم نخرج على الناس) معناه خرجنا من بلادنا ونحن جماعة كثيرة لنحج ثم نخرج على الناس مظهرين مذهب الخوارج وندعو إليه ونحث عليه. قوله: (غير أنه قد زعم أن قوماً يخرجون من النار) زعم هنا بمعنى قال، وقد تقدم في أول الكتاب إيضاحها ونقل كلام الأئمة فيها والله أعلم. قوله: (فيخرجون كأنهم عيدان السماسم) هو بالسينين المهملتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة وهو جمع سمسم، وهو هذا السمسم المعروف الذي يستخرج منه الشيرج. قال الإمام أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم الجزري المعروف بابن الأثير رحمه الله تعالى معناه والله أعلم أن السماسم جمع سمسم وعيدانه تراها إذا قلعت وتركت في الشمس ليؤخذ حبها دقاقاً سوداً كأنها محترقة فشبه بها هؤلاء، قال: وطالما طلبت هذه اللفظة وسألت عنها فلم أجد فيها شافياً، قال: وما أشبه أن تكون اللفظة محرقة، وربما كانت عيدان الساسم وهو خشب أسود كالأبنوس، هذا كلام أبي السعادات، والساسم الذي ذكره هو بحذف الميم وفتح السين الثانية كذا قاله الجوهري وغيره. وأما القاضي عياض فقال: لا يعرف معنى السماسم هنا، قال: ولعله صوابه عيدان الساسم وهو أشبه وهو عود أسود وقيل هو الأبنوس. وأما صاحب المطالع فقال: قال بعضهم السماسم كل نبت ضعيف كالسمسم والكزبرة، وقال آخرون: السأسم مهوز وهو الأبنوس شبههم به في سواده، فهذا مختصر ما قالوه فيه، والمختار أنه السمسم كما قدمناه على ما بينه أبو السعادات والله أعلم. واعلم أنه وقع في كثير من الأصول كأنها عيدان السماسم بألف بعد الهاء، والصحيح الموجود في معظم الأصول والكتب كأنهم بميم بعد الهاء، وللأول أيضاً وجه وهو أن يكون الضمير في كأنها عائد على الصور أي كأن صورهم عيدان السماسم والله أعلم. قوله: (فيخرجون كأنهم القراطيس) القراطيس جمع قرطاس بكسر القاف وضمها لغتان وهو الصحيفة التي يكتب فيها، شبههم بالقراطيس لشدة بياضهم بعد اغتسالهم وزوال ما كان عليهم من السواد والله أعلم. قوله: (فقلنا ويحكم أترون الشيخ يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني بالشيخ جابر بن عبد الله رضي الله عنه وهو استفهام إنكار وجحد أي لا يظن به الكذب بلا شك. قوله: (فرجعنا فلا والله ما خرج منا غير رجل واحد) معناه رجعنا من حجنا ولم نتعرض لرأي الخوارج بل كففنا عنه وتبنا منه إلا رجلاً منا فإنه لم يوافقنا في الانكفاف عنه. قوله: (أو كما قال أبو نعيم) المراد بأبي نعيم الفضل بن دكين بضم الدال المهملة المذكور في أول الإسناد وهو شيخ شيخ مسلم، وهذا الذي فعله أدب معروف من آداب الرواة، وهو أنه ينبغي للراوي إذا روي بالمعنى أن يقول عقب روايته أو كما قال احتياطاً وخوفاً من تغيير حصل.
قوله: (حدثنا هداب بن خالد الأزدي، حدثنا حماد بن سلمة عن أبي مران وثابت عن أنس رضي الله عنه) هذا الإسناد كله بصريون، أما هداب فهو بفتح الهاء وتشديد الدال المهملة وآخره باء موحدة ويقال فيه أيضاً هدبة بضم الهاء وإسكان الدال فأحدهما اسم والاَخر لقب واختلف فيهما وقد قدمنا بيانه، وأما أبو عمران فهو الجوني واسمه عبد الملك بن حبيب، وأما ثابت فهو البناني.
قوله في الإسناد: (الجحدري) هو بفتح الجيم وبعدها حاء مهملة ساكنة ثم دال مهملة مفتوحة منسوب إلى جد له اسمه جحدر، وقد تقدم بيانه في أول الكتاب. قوله: (محمد بن عبيد الغبري) هو بضم الغين المعجمة وفتح الباء الموحدة منسوب إلى غبر جد القبيلة تقدم أيضاً بيانه. قوله صلى الله عليه وسلم: (يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك). وفي رواية فيلهمون، معنى اللفظتين متقارب، فمعنى الأولى أنهم يعتنون بسؤال الشفاعة وزوال الكرب الذي هم فيه، ومعنى الثانية أن الله تعالى يلهمهم سؤال ذلك، والإلهام أن يلقي الله تعالى في النفس أمراً يحمل على فعل الشيء أو تركه والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم في الناس "أنهم يأتون آدم ونوحاً وباقي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم فيطلبون شفاعتهم فيقولون لسنا هناكم ويذكرون خطاياهم إلى آخره" اعلم أن العلماء من أهل الفقه والأصول وغيرهم اختلفوا في جواز المعاصي على الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقد لخص القاضي رحمه الله تعالى مقاصد المسألة فقال: لا خلاف أن الكفر عليهم بعد النبوة ليس بجائز بل هم معصومون منه، واختلفوا فيه قبل النبوة والصحيح أنه لا يجوز، وأما المعاصي فلا خلاف أنهم معصومون من كل كبيرة، واختلف العلماء هل ذلك بطريق العقل أو الشرع؟ فقال الأستاذ أبو إسحاق ومن معه: ذلك ممتنع من مقتضى دليل المعجزة. وقال القاضي أبو بكر ومن وافقه ذلك من طريق الإجماع وذهبت المعتزلة إلى أن ذلك من طريق العقل، وكذلك اتفقوا على أن كل ما كان طريقه الإبلاغ في القول فهم معصومون فيه على كل حال، وأما ما كان طريقه الإبلاغ في الفعل فذهب بعضهم إلى العصمة فيه رأساً، وأن السهو والنسيان لا يجوز عليهم فيه، وتأولوا أحاديث السهو في الصلاة وغيرها بما سنذكره في مواضعه، وهذا مذهب الأستاذ أبي المظفر الإسفراييني أئمتنا الخراسانيين المتكلمين وغيره من المشايخ المتصوفة، وذهب معظم المحققين وجماهير العلماء إلى جواز ذلك ووقعه منهم وهذا هو الحق، ثم لا بد من تنبيههم عليه وذكرهم إياه، إما في الحين على قول جمهور المتكلمين وإما قبل وفاتهم على قول بعضهم ليسنوا حكم ذلك ويبينوه قبل انخرام مدتهم، وليصح تبليغهم ما أنزل إليهم، وكذلك لا خلاف أنهم معصومون من الصغائر التي تزري بفاعلها وتحط منزلته وتسقط مروأته، واختلفوا في وقوع غيرها من الصغائر منهم، فذهب معظم الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من السلف والخلف إلى جواز وقوعها منهم وحجتهم ظواهر القرآن والاختبار، وذهب جماعة من أهل التحقيق والنظر من الفقهاء والمتكلمين من أئمتنا إلى عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر، وأن منصب النبوة يجل عن مواقعها وعن مخالفة الله تعالى عمداً، وتكلموا على الاَيات والأحاديث الواردة في ذلك وتأولوها، وأن ما ذكر عنهم من ذلك إنما هو فيما كان منهم على تأويل أو سهو أو من إذن من الله تعالى في أشياء أشفقوا من المؤاخذة بها وأشياء منهم قبل النبوة، وهذا المذهب هو الحق لما قدمناه، ولأنه لو صح ذلك منهم لم يلزمنا الاقتداء بأفعالهم وإقرارهم وكثير من أقوالهم، ولا خلاف في الاقتداء بذلك، وإنما اختلاف العلماء هل ذلك على الوجوب أو على الندب أو الإباحة أو التفريق، فيما كان من باب القرب أو غيرها. قال القاضي: أو بسطنا القول في هذا الباب في كتابنا الشفاء وبلغنا فيه المبلغ الذي لا يوجد في غيره، وتكلمنا على الظواهر في ذلك بما فيه كفاية، ولا يهولك أن نسب قوم هذا المذهب إلى الخوارج والمعتزلة وطوائف من المبتدعة، إذ منزعهم فيه منزع آخر من التكفير بالصغائر ونحن نتبرأ إلى الله تعالى من هذا المذهب، وانظر هذه الخطايا التي ذكرت للأنبياء من أكل آدم عليه الصلاة والسلام من الشجرة ناسياً ومن دعوة نوح عليه السلام على قوم كفار وقتل موسى صلى الله عليه وسلم لكافر لم يؤمر بقتله، ومدافعة إبراهيم صلى الله عليه وسلم الكفار بقول عرض به هو فيه من وجه صادق، وهذه كلها في حق غيرهم ليست بذنوب لكنهم أشققوا منها، إذ لم تكن عن أمر الله تعالى، وعتب على بعضهم فيها لقدر منزلتهم من معرفة الله تعالى، هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى والله أعلم. قوله: (في آدم خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه) هو من باب إضافة التشريف. قوله صلى الله عليه وسلم: (لست هناكم) معناه لست أهلاً لذلك. قوله صلى الله عليه وسلم: (ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله تعالى) قال الإمام أبو عبد الله المازري: قد ذكر المؤرخون أن إدريس جد نوح عليهما السلام، فإن قام دليل أن إدريس أرسل أيضاً لم يصح قول النسابين أنه قبل نوح لإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن آدم أن نوحاً أول رسول بعث وإن لم يقم دليل جاز ما قالوه، وصح أن يحمل أن إدريس كان نبياً غير مرسل. قال القاضي عياض: وقد قيل إن إدريس هو إلياس وأنه كان نبياً غير مرسل.
قال القاضي عياض: وقد قيل إن إدريس هو إلياس وأنه كان نبياً في بني إسرائيل كما جاء في بعض الأخبار مع يوشع بن نون، فإن كان هكذا سقط الاعتراض قال القاضي: وبمثل هذا يسقط الاعتراض بآدم وشيث ورسالتهما إلى من معهما وإن كانا رسولين فإن آدم إنما أرسل لبنيه ولم يكونوا كفاراً، بل أمر بتعليمهم الإيمان وطاعة الله تعالى، وكذلك خلفه شيث بعده فيهم بخلاف رسالة نوح إلى كفار أهل الأرض. قال القاضي: وقد رأيت أبا الحسن بن بطال ذهب إلى أن آدم ليس برسول ليسلم من هذا الاعتراض، وحديث أبي ذر الطويل ينص على أن آدم وإدريس رسولان، هذا آخر كلام القاضي والله أعلم. قوله: (ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: أصل الخلة الاختصاص والاستصفاء، وقيل أصلها الانقطاع إلى من خاللت مأخوذ وهي الحاجة فسمي إبراهيم صلى الله عليه وسلم بذلك لأنه قصر حاجته إلى ربه سبحانه وتعالى، وقيل الخلة صفاء المودة التي توجب تخلل الإسرار، وقيل معناها المحبة والإلطاف، هذا كلام القاضي. وقال ابن الأنباري: الخليل معناه المحب الكامل المحبة والمحبوب الموفي بحقيقة المحبة اللذان ليس في حبهما نقص ولا خلل. قال الواحدي: هذا القول هو الاختيار لأن الله عز وجل خليل إبراهيم وإبراهيم خليل الله، ولا يجوز أن يقال: الله تعالى خليل إبراهيم من الخلة التي هي الحاجة والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن كل واحد من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يقول لست هناكم أو لست لها) قال القاضي عياض: هذا يقولونه تواضعاً وإكباراً لما يسألونه، قال: وقد تكون إشارة من كل واحد منهم إلى أن هذه الشفاعة وهذا المقام ليس له بل لغيره، وكل واحد منهم يدل على الاَخر حتى انتهى الأمر إلى صاحبه، قال: ويحتمل أنهم علموا أن صاحبها محمد صلى الله عليه وسلم معيناً وتكون إحالة كل واحد منهم على الاَخر على تدريج الشفاعة في ذلك إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، قال: وفيه تقديم ذوي الأسنان والاَباء على الأبناء في الأمور التي لها بال، قال: وأما مبادرة النبي صلى الله عليه وسلم لذلك وإجابته لدعوتهم فلتحققه صلى الله عليه وسلم أن هذه الكرامة والمقام له صلى الله عليه وسلم خاصة. هذا كلام القاضي. والحكمة في أن الله تعالى ألهمهم سؤال آدم ومن بعده صلوات الله وسلامه عليهم في الابتداء، ولم يلهموا سؤال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم هي والله أعلم إظهار فضيلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم لو سألوه ابتداء لكان يحتمل أن غيره يقدر على هذا ويحصله، وأما إذا سألوه غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه فامتنعوا ثم سألوه فأجاب وحصل غرضهم فهو النهاية في ارتفاع المنزلة وكمال القرب وعظيم الإدلال والأنس. وفيه تفضيله صلى الله عليه وسلم على جميع المخلوقين من الرسل والاَدميين والملائكة، فإن هذا الأمر العظيم وهي الشفاعة العظمى لا يقدر على الإقدام عليه غيره صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم في موسى صلى الله عليه وسلم: (الذي كلمه الله تكليماً) هذا بإجماع أهل السنة ظاهره، وأن الله تعالى كلم موسى حقيقة كلاماً سمعه بغير واسطة ولهذا أكد بالمصدر، والكلام صفة ثابتة لله تعالى لا يشبه كلام غيره. قوله في عيسى (روح الله وكلمته) تقدم الكلام في معناه في أوائل كتاب الإيمان. قوله صلى الله عليه وسلم: (ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر) هذا مما اختلف العلماء في معناه، قال القاضي: قيل المتقدم ما كان قبل النبوة والمتأخر عصمتك بعدها. وقيل المراد به ذنوب أمته صلى الله عليه وسلم، قلت: فعلى هذا يكون المراد الغفران لبعضهم أو سلامتهم من الخلود في النار، وقيل المراد ما وقع منه صلى الله عليه وسلم عن سهو وتأويل حكاه الطبري واختاره القشيري، وقيل ما تقدم لأبيك آدم وما تأخر من ذنوب أمتك، وقيل المراد أنه مغفور لك غير مؤاخذ بذنب لو كان، وقيل هو تنزيه له من الذنوب صلى الله عليه وسلم والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيأتوني فأستأذن على ربي فيؤذن لي) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى معناه والله أعلم: فيؤذن لي في الشفاعة الموعود بها والمقام المحمود الذي ادخره الله تعالى له وأعلمه أنه يبعثه فيه.
قال القاضي: وجاء في حديث أنس وحديث أبي هريرة ابتداء النبي صلى الله عليه وسلم بعد سجوده وحمده والإذن له في الشفاعة بقوله: أمتي أمتي، وقد جاء في حديث حذيفة بعد هذا في هذا الحديث نفسه قال: فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم فيقوم ويؤذن له وترسل الأمانة والرحم فيقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً فيمر أولهم كالبرق وساق الحديث وبهذا يتصل الحديث، لأن هذه هي الشفاعة التي لجأ الناس إليه فيها وهي الإراحة من الموقف والفصل بين العباد، ثم بعد ذلك حلت الشفاعة في أمته صلى الله عليه وسلم وفي المذنبين، وحلت الشفاعة للأنبياء والملائكة وغيرهم صلوات الله وسلامه عليهم كما جاء في الأحاديث الأخر وجاء في الأحاديث المتقدمة في الرؤية، وحشر الناس اتباع كل أمة ما كانت تعبد، ثم تمييز المؤمنين من المنافقين، ثم حلول الشفاعة ووضع الصراط، فيحتمل أن الأمر باتباع الأمم ما كانت تعبد هو أول الفصل والإراحة من هول الموقف وهو أول المقام المحمود، وأن الشفاعة التي ذكر حلولها هي الشفاعة في المذنبين على الصراط وهو ظاهر الأحاديث وأنها لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ولغيره كما نص عليه في الأحاديث، ثم ذكر بعدها الشفاعة فيمن دخل النار، وبهذا تجتمع متون الحديث وتترتب معانيها إن شاء الله تعالى، هذا آخر كلام القاضي والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن) أي وجب عليه الخلود، وبين مسلم رحمه الله تعالى أن قوله أي وجب عليه الخلود هو تفسير قتادة الراوي وهذا التفسير صحيح، ومعناه من أخبر القرآن أنه مخلد في النار وهم الكفار كما قال الله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} وفي هذا دلالة لمذهب أهل الحق، وما أجمع عليه السلف أنه لا يخلد في النار أحد مات على التوحيد والله أعلم. قوله: (ثم آتيه فأقول يا رب) معنى آتيه أي أعود إلى المقام الذي قمت فيه أولاً وسألت وهو مقام الشفاعة.
قوله: (حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا: حدثنا ابن أبي عدي عن سعيد عن قتادة عن أنس قال مسلم: وحدثنا محمد بن مثنى، حدثنا معاذ بن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة عن أنس).
قال مسلم: (وحدثنا محمد بن منهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا سعيد بن أبي عروبة وهشام صاحب الدستوائي عن قتادة عن أنس قال مسلم: وحدثني أبو غسان المسمعي ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا معاذ وهو ابن هشام قال: حدثني أبي عن قتادة قال: حدثنا أنس بن مالك).
قال مسلم: (حدثنا أبو الربيع العتكي، حدثنا حماد بن زيد، حدثنا معبد بن هلال العنزي) يعني عن أنس، هذه الأسانيد رجالها كلهم بصريون، وهذا الاتفاق في غاية من الحسن ونهاية من الندور، أعني اتفاق خمسة أسانيد في صحيح مسلم متوالية جميعهم بصريون والحمد لله على ما هدانا له. فأما ابن أبي عدي فاسمه محمد بن إبراهيم بن أبي عدي، وأما سعيد بن أبي عروبة فقد قدمنا أنه هكذا يروى في كتب الحديث وغيرها، وأن ابن قتيبة قال في كتابه أدب الكاتب: الصواب ابن أبي العروبة بالألف واللام واسم أبي عروبة مهران، وقد قدمنا أيضاً أن سعيد بن أبي عروبة ممن اختلط في آخر عمره، وأن المختلط لا يحتج بما رواه في حال الاختلاط، وشككنا هل رواه في الاختلاط أم في الصحة؟ وقد قدمنا أن ما كان في الصحيحين عن المختلطين محمول على أنه عرف أنه رواه قبل الاختلاط والله أعلم. وأما هشام صاحب الدستوائي فهو بفتح الدال وإسكان السين المهملتين وبعدهما مثناة من فوق مفتوحة وبعد الألف ياء من غير نون هكذا ضبطناه وهكذا هو المشهور في كتب الحديث. قال صاحب المطالع: ومنهم من يزيد فيه نوناً بين الألف والياء وهو منسوب إلى دستواء وهي كورة من كور الأهواز كان يبيع الثياب التي تجلب منها فنسب إليها فيقال هشام الدستوائي وهشام صاحب الدستوائي أي صاحب البر الدستوائي، وقد ذكره مسلم في أول كتاب الصلاة بعبارة أخرى أوهمت لبساً فقال في باب صفة الأذان: حدثني أبو غسان وإسحاق بن إبراهيم قال إسحاق: أخبرنا معاذ بن هشام صاحب الدستوائي فتوهم صاحب المطالع أن قوله صاحب الدستوائي مرفوع وأنه صفة بمعاذ فقال: يقال صاحب الدستوائي وإنما هو ابنه، وهذا الذي قاله صاحب المطالع ليس بشيء، وإنما صاحب هنا مجرور صفة لهشام كما جاء مصرحاً به في هذا الموضع الذي نحن الاَن فيه والله أعلم. وأما أبو غسان المسمعي فتقدم بيانه مرات وأنه يجوز صرفه وتركه، وأن المسمعي بكسر الميم الأولى وفتح الثانية منسوب إلى مسمع جد القبيلة. وأما قوله حدثنا معاذ وهو ابن هشام فتقدم بيانه في الفصول وفي مواضع كثيرة، وأن فائدته أنه لم يقل قوله ابن هشام في الرواية فأراد أن يبينه، ولم يستجز أن يقول معاذ بن هشام لكونه لم يقع في الرواية فقال وهو ابن هشام، وهذا وأشباهه مما كرر ذكره، أقصد به المبالغة في الإيضاح والتسهيل، فإنه إذا طال العهد به قد ينسى، وقد يقف على هذا الموضع من لا خبرة له بالموضع المتقدم والله أعلم.
وأما قوله: (أبو الربيع العتكي) فهو بفتح العين والتاء وهو أبو الربيع الزهراني الذي يكرره مسلم في مواضع كثيرة واسمه سليمان بن داود، قال القاضي عياض: نسبه مسلم مرة زهرانياً ومرة عتكياً ومرة جمع له النسبين ولا يجتمعان بوجه وكلاهما يرجع إلى الأزد، إلا أن يكون للجمع سبب من جواز أو خلف والله أعلم. وأما معبد العنزي فهو بالعين المهملة وبفتح النون وبالزاي والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة) المراد بالذرة واحدة الذر وهو الحيوان المعروف الصغير من النمل وهي بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء ومعنى يزن أي يعدل. وأما قوله: أن شعبة جعل مكان الذرة ذرة فمعناه أنه رواه بضم الذال وتخفيف الراء واتفقوا على أنه تصحيف منه، وهذا معنى قوله في الكتاب: قال يزيد صحف فيها أبو بسطام يعني شعبة. قوله: (فدخلنا عليه وأجلس ثابتاً معه على سريره) فيه أنه ينبغي للعالم وكبير المجلس أن يكرم فضلاء الداخلين عليه ويميزهم بمزيد إكرام في المجلس وغيره. قوله: (إخوانك من أهل البصرة) قد قدمنا في أوائل الكتاب أن في البصرة ثلاث لغات: فتح الباء وضمها وكسرها والفتح هو المشهور. قوله صلى الله عليه وسلم: (فأحمده بمحامد لا أقدر عليه الاَن) هكذا هو في الأصول لا أقدر عليه وهو صحيح ويعود الضمير في عليه إلى الحمد. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من برة أو شعيرة من إيمان فأخرجوه منها فأنطلق فأفعل) ثم قال صلى الله عليه وسلم بعده: (فيقال انطلق فمن كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه) ثم قال صلى الله عليه وسلم: (فيقال لي انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه) أما الثاني والثالث فاتفقت الأصول على أنه فأخرجه بضميره صلى الله عليه وسلم وحده. وأما الأول ففي بعض الأصول فأخرجوه كما ذرنا على لفظ الجمع، وفي بعضها فأخرجه، في أكثرها فأخرجوا بغير هاء وكله صحيح، فمن رواه فأخرجوه يكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ومن معه من الملائكة، ومن حذف الهاء فلأنها ضمير المفعول وهو فضلة يكثر حذفه والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أدنى أدنى أدنى" هكذا هو في الأصول مكرر ثلاث مرات. وفي هذا الحديث دلالة لمذهب السلف وأهل السنة ومن وافقهم من المتكلمين في أن الإيمان يزيد وينقص ونظائره في الكتاب والسنة كثيرة، وقد قدمنا تقرير هذه القاعدة في أول كتاب الإيمان وأوضحنا المذاهب فيها والجمع بينها والله أعلم.
وله: (هذا حديث أنس الذي أنبأنا به فخرجنا من عنده فلما كنا بظهر الجبان قلنا: لو ملنا إلى الحسن فسلمنا عليه وهو مستخف في دار أبي خليفة، قال: فدخلنا عليه فسلمنا عليه وقلنا: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أبي حمزة فلم نسمع بمثل حديث حدثناه في الشفاعة قال هيه، فحدثناه الحديث قال هيه، قلنا ما زادنا قال: حدثنا به منذ عشرين سنة وهو يومئذ جميع، ولقد ترك منه شيئاً ما أدري أنس الشيخ أو كره أن يحدثكم فتتكلوا، قلنا له حدثنا فضحك وقال: خلق الإنسان من عجل، ما ذكرت لكم هذا وأنا أريد أن أحدثكموه ثم أرجع إلى ربي في الرابعة فأحمده بتلك المحامد، ثم أخر له ساجداً فيقال لي يا محمد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع، فأقول: يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله، قال ليس ذلك لك أو قال ليس ذلك إليك، ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله، قال: فاشهد على الحسن أنه حدثنا به أنه سمع أنس بن مالك أراه قال قبل عشرين سنة وهو يومئذ جميع) هذا الكلام فيه فوائد كثيرة فلهذا نقلت المتن بلفظه مطولاً ليعرف مطالعه مقاصده. أما قوله بظهر الجبان فالجبان بفتح الجيم وتشديد الباء قال أهل اللغة: الجبان والجبانة هما الصحراء ويسمى بهما المقابر لأنها تكون في الصحراء وهو من تسمية الشيء باسم موضعه، وقوله بظهر الجبان أي بظاهرها وأعلاها المرتفع منها. وقوله: ملنا إلى الحسن يعني عدلنا وهو الحسن البصري. وقوله: وهو مستخف يعني متغيباً خوفاً من الحجاج بن يوسف. وقوله: قال هيه هو بكسر الهاء وإسكان الياء وكسر الهاء الثانية قال أهل اللغة يقال في استزادة الحديث إيه ويقال هيه بالهاء بدل الهمزة، قال الجوهري: إيه اسم سمي به الفعل لأن معناه الأمر، تقول للرجل إذا استزدته من حديث أو عمل: إيه بكسر الهمزة، قال ابن السكيت: فإن وصلت نونت فقلت إيه حديثاً قال ابن السري: إذا قلت ايه فإنما تأمره بأن يزيدك من الحديث المعهود بينكما كأنك قلت هات الحديث، وإن قلت إيه بالتنوين كأنك قلت هات حديثاً ما لأن التنوين تنكير فأما إذا أسكنته وكففته فإنك تقول إيها عنه. وأما قوله: وهو يومئذ جميع فهو بفتح الجيم وكسر الميم ومعناه مجتمع القوة والحفظ. وقوله: فضحك فيه أنه لا بأس بضحك العالم بحضرة أصحابه إذا كان بينه وبينهم أنس ولم يخرج بضحكه إلى حد يعد تركاً للمروءة. وقوله: فضحك وقال: {خلق الإنسان من عجل} فيه جواز الاستشهاد بالقرآن في مثل هذا الموطن، وقد ثبت في الصحيح مثله من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طرق فاطمة وعلياً رضي الله عنهما ثم انصرف وهو يقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً، ونظائر هذا كثيرة. وقوله: ما ذكرت لكم هذا إلا وأنا أريد أن أحدثكموه ثم أرجع إلى ربي، هكذا هو في الروايات وهو الظاهر، وتم الكلام على قوله أحدثكموه ثم ابتداء تمام الحديث فقال ثم أرجع ومعناه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم أرجع إلى ربي. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذلك لك ولكن وعزتي وجلالي وكبريائي وعظمتي وجبريائي لأخرجن من قال لا إله إلا الله" معناه لأتفضلن عليهم بإخراجهم من غير شفاعة كما تقدم في الحديث السابق: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين. وأما قوله عز وجل: وجبريائي فهو بكسر الجيم أي عظمتي وسلطاني أو قهري. وأما قوله: فأشهد على الحسن أنه حدثنا به إلى آخره فإنما ذكره تأكيداً ومبالغة في تحقيقه وتقريره في نفس المخاطب، وإلا فقد سبق هذا في أول الكلام الله أعلم.
قوله: (عن أبي حيان عن أبي زرعة) أما حيان فبالمثناة، وتقدم بيان أبي حيان وأبي زرعة في أول كتاب الإيمان وأن اسم أبي زرعة هرم، وقيل عمرو، وقيل عبيد الله، وقيل عبد الرحمن، واسم أبي حيان يحيى بن سعيد بن حيان. قوله: (فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: محبته صلى الله عليه وسلم للذراع لنضجها وسرعة استمرائها مع زيادة لذتها وحلاوة مذاقها وبعدها عن مواضع الأذى. هذا آخر القاضي. وقد روي الترمذي بإسناده عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كانت الذراع أحب اللحم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن كان لا يجد اللحم إلا غباً فكان يعجل إليها لأنها أعجلها نضجاً. قوله: (فنهس منها نهسة) هو بالسين المهملة قال القاضي عياض: أكثر الرواة رووه بالمهملة ووقع لابن ماهان بالمعجمة وكلاهما صحيح بمعنى أخذ بأطراف أسنانه. قال الهروي قال أبو العباس: النهس بالمهملة بأطراف الأسنان وبالمعجمة الأضراس. قوله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد الناس يوم القيامة) إنما قال هذا صلى الله عليه وسلم تحدثاً بنعمة الله تعالى وقد أمره الله تعالى بهذا ونصيحة لنا بتعريفنا حقه صلى الله عليه وسلم. قال القاضي عياض: قيل السيد الذي يفوق قومه والذي يفزع إليه في الشدائد والنبي صلى الله عليه وسلم سيدهم في الدنيا والاَخرة، وإنما خص يوم القيامة لارتفاع السودد فيها وتسليم جميعهم له، ولكون آدم وجميع أولاده تحت لوائه صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار، أي انقطعت دعاوى الملك في ذلك اليوم والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (يجمع الله يوم القيامة الأولين والاَخرين في صعيد واحد فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر) أما الصعيد فهو الأرض الواسعة المستوية، وأما ينفذهم البصر فهو بفتح الياء وبالذال المعجمة، وذكر الهروي وصاحب المطالع وغيرهما أنه روي بضم الياء وبفتحها، قال صاحب المطالع: رواه الأكثرون بالفتح وبعضهم بالضم، قال الهروي قال الكسائي: يقال نفذني بصره إذا بلغني وجاوزني، قال ويقال: أنفذت القوم إذا خرقتهم ومشيت في وسطهم فإن جزتهم حتى تخلفتهم قلت نفذتهم بغير ألف، وأما معناه فقال الهروي قال أبو عبيد معناه ينفذهم بصر الرحمن تبارك وتعالى حتى يأتي عليهم كلهم، وقال غير أبي عبيد: أراد تخرقهم أبصار الناظرين لاستواء الصعيد والله تعالى قد أحاط بالناس أولاً وآخراً، هذا كلام الهروي: وقال صاحب المطالع: معناه أنه يحيط بهم الناظر لا يخفى عليهم منهم شيء لاستواء الأرض أي ليس فيها ما يستتر به أحد عن الناظرين، قال: وهذا أولى من قول أبي عبيد: يأتي عليهم بصر الرحمن سبحانه وتعالى، لأن رؤية الله تعالى تحيط بجميعهم في كل حال في الصعيد المستوى وغيره هذا قول صاحب المطالع. قال الإمام أبو السعادات الجزري بعد أن ذكر الخلاف بين أبي عبيد وغيره في أن المراد بصر الرحمن سبحانه وتعالى أو بصر الناظر من الخلق. قال أبو حاتم: أصحاب الحديث يروونه بالذال المعجمة وإنما هو بالمهملة أي يبلغ أولهم وآخرهم حتى يراهم كلهم ويستوعبهم من نفد الشيء وأنفدته، قال: وحمل الحديث على بصر الناظر أولى من حمله على بصر الرحمن، هذا كلام أبي السعادات، فحصل خلاف في فتح الياء وضمها وفي الذال والدال وفي الضمير في ينفذهم والأصح فتح الياء وبالذال المعجمة وأنه بصر المخلوق والله أعلم.
قوله: (ألا ترى إلى ما قد بلغنا) هو بفتح الغين هذا هو الصحيح المعروف وضبطه بعض الأئمة المتأخرين بالفتح والإسكان وهذا له وجه ولكن المختار ما قدمناه، يدل عليه قوله في هذا الحديث قبل هذا: "ألا ترون ما قد بلغكم" ولو كان بإسكان الغين لقال بلغتم. قوله: (فيقول آدم وغيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) المراد بغضب الله تعالى ما يظهر من انتقامه ممن عصاه وما يرونه من أليم عذابه وما يشاهده أهل المجمع من الأهوال التي لم تكن ولا يكون مثلها، ولا شك في أن هذا كله لم يتقدم قبل ذلك اليوم مثله ولا يكون بعده مثله، فهذا معنى غضب الله تعالى، كما أن رضاه ظهور رحمته ولطفه من أراد به الخير والكرامة، لأن الله تعالى يستحيل في حقه التغير في الغضب والرضاء والله أعلم. قوله: (إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر أو كما بين مكة وبصرى) المصراعان بكسر الميم جانباً الباب، وهجر بفتح الهاء والجيم وهي مدينة عظيمة هي قاعدة بلاد البحرين، قال الجوهري في صحاحه: هجر اسم بلد مذكر مصروف قال: والنسبة إليه هاجري، وقال أبو القاسم الزجاجي في الجمل هجر يذكر ويؤنث، قلت: وهجر هذه غير هجر المذكورة في حديث إذا بلغ الماء قلتين بقلال هجر تلك قرية من قرى المدينة كانت القلال تصنع بها وهي غير مصروفة، وقد أوضحتها في أول شرح المهذب، وأما بصرى فبضم الباء وهي مدينة معروفة بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل وهي مدينة حوران وبينها وبين مكة شهر.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا تقولون كيفه قالوا كيفه يا رسول الله) هذه الهاء هي هاء السكت تلحق في الوقف. وأما قول الصحابة: كيفه يا رسول الله؟ فأثبتوا الهاء في حالة الدرج ففيها وجهان حكاهما صاحب التحرير وغيره: أحدهما أن من العرب من يجري الدرج مجرى الوقف. والثاني: أن الصحابة قصدوا اتباع لفظ النبي صلى الله عليه وسلم الذي حثهم عليه، فلو قالوا: كيف؟ لما كانوا سائلين عن اللفظ الذي حثهم عليه والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (إلى عضادتي الباب) هو بكسر العين قال الجوهري: عضادتا الباب هما خشبتاه من جانبيه.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة) هو بضم التاء وإسكان الزاي ومعناه تقرب كما قال الله تعالى: {وأزلفت الجنة للمتقين} أي قربت. قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما كنت خليلاً من وراء وراء) قال صاحب التحرير: هذه كلمة تذكر على سبيل التواضع أي ليست بتلك الدرجة الرفيعة، قال: وقد وقع لي معنى مليح فيه وهو أن معناه أن المكارم التي أعطيتها كانت بوساطة سفارة جبريل صلى الله عليه وسلم، ولكن ائتوا موسى فإنه حصل له سماع الكلام بغير واسطة، قال: وإنما كرر وراء وراء لكون نبينا محمد صلى الله عليه وسلم حصل له السماع بغير واسطة وحصل له الرؤية، فقال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: أنا وراء موسى الذي هو وراء محمد صلى الله عليه وسلم أجمعين وسلم، هذا كلام صاحب التحرير. وأما ضبط وراء وراء فالمشهور فيه الفتح فيهما بلا تنوين، ويجوز عند أهل العربية بناؤهما على الضم، وقد جرى في هذا كلام بين الحافظ أبي الخطاب بن دحية والإمام الأديب أبي اليمن الكندي فرواهما ابن دحية بالفتح وادعى أنه الصواب فأنكره الكندي وادعى أن الضم هو الصواب، وكذا قال أبو البقاء: الصواب الضم لأن تقديره من وراء ذلك أن من وراء شيء آخر، قال: فإن صح الفتح قبل وقد أفادني هذا الحرف الشيخ الإمام أبو عبد الله محمد بن أمية أدام الله نعمه عليه وقال الفتح صحيح وتكون الكلمة مؤكدة كشذر مذر وشغر بغر، وسقطوا بين بين فركبهما وبناهما على الفتح، قال: وإن ورد منصوباً منوناً جاز جوازاً جيداً. قلت: ونقل الجوهري في صحاحه عن الأخفش أنه يقال لقيته من وراء مرفوع على الغاية كقولك: من قبل ومن بعد، قال: وأنشد الأخفش شعراً:
إذا أنا لم أومن عليك ولم يكنلقاؤك إلا من وراء وراء
بضمهما والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (وترسل الأمانة والرحم فتقومان جنبتي الصراط) أما تقومان فبالتاء المثناة من فوق وقد قدمنا بيان ذلك، وأن المؤنثتين الغائبتين تكونان بالمثناة من فوق، وأما جنبتا الصراط فبفتح الجيم والنون ومعناهما جانباه، وأما ارسال الأمانة والرحم فهو لعظم أمرهما وكثير موقعهما فتصوران مشخصتين على الصفة التي يريدها الله تعالى. قال صاحب التحرير: في الكلام اختصار والسامع فهم أنهم تقومان لتطالبا كل من يريد الجواز بحقهما. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيمر أولهم كالبرق ثم كمر الريح ثم كمطر الطير وشد الرجال تجري بهم أعمالهم) أما شد الرجال فهو بالجيم جمع رجل هذا هو الصحيح المعروف المشهور، ونقل القاضي أنه في رواية ابن ماهان بالحاء، قال القاضي: وهما متقاربان في المعنى وشدها عدوها البالغ وجريها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: تجري بهم أعمالهم فهو كالتفسير لقوله صلى الله عليه وسلم: "فيمر أولكم كالبرق ثم كمر الريح" إلى آخره معناه أنهم يكونان في سرعة المرور على حسب مراتبهم وأعمالهم. قوله صلى الله عليه وسلم: (وفي حافتي الصراط) هو بتخفيف الفاء وهما جانباه، وأما الكلاليب فتقدم بيانها. قوله صلى الله عليه وسلم: (فمخدوش ناج ومكدوس) هو بالدال وقد تقدم بيانه في هذا الباب ووقع في أكثر الأصول هنا مكردس بالراء ثم الدال وهو قريب من معنى المكدوس. قوله: (والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفاً) هكذا هو في بعض الأصول لسبعون بالواو وهذا ظاهر وفيه حذف تقديره أن مسافة قعر جهنم سير سبعين سنة، ووقع في معظم الأصول والروايات لسبعين بالياء وهو صحيح أيضاً، أما على مذهب من يحذف المضاف ويبقى المضاف إليه على جره فيكون التقدير سير سبعين، وأما على أن قعر جهنم مصدر يقال: قعرت الشيء إذا بلغت قعره ويكون سبعين ظرف زمان، وفيه خبران التقدير أن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفاً والخريف السنة والله أعلم
*2* باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم "أنا أول الناس يشفع في الجنة، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً"
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ قُتَيْبَةُ: حدّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوّلُ النّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنّةِ. وَأَنَا أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعاً".
م 1 حع 1) وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. حَدّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُخْتَارِ ابْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "أَنَا أَكْثَرُ الأَنْبِيَاءِ تَبَعاً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَنَا أَوّلُ مَنْ يَقْرَعُ بَابَ الْجَنّةِ".
م 2 حع 2) وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيَ عَنْ زَائِدَةَ، عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ قَالَ: قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: قَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنّةِ. لَمْ يُصَدّقْ نَبِيّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ مَا صُدّقْتُ. وَإِنّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيّاً مَا يُصَدّقُهُ مِنْ أُمّتِهِ إِلاّ رَجُلٌ وَاحِدٌ".
وحدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ. حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "آتِي بَابَ الْجَنّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَأَسْتَفْتِحُ. فَيَقُولُ الْخَازِنُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَأَقُولُ: مُحَمّدٌ. فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لاَ أَفْتَحُ لأَحَدٍ قَبْلَكَ".
*2* باب اختباء النبي صلى الله عليه وسلم دعوة الشفاعة لأمته
*حدّثنا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلّ نَبِيَ دَعْوَةٌ يَدْعُوهَا. فَأُرِيدُ أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأِمّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
م 1 حع 5) وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالَ زُهَيْرٌ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. حَدّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمّهِ. أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لِكُلّ نَبِيَ دَعْوَةٌ. وَأَرَدْتُ، إِنْ شَاءَ الله، أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأِمّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
م 2 حع 6) حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالَ زُهَيْرٌ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. حَدّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمّهِ. حَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثّقَفِيّ، مِثْلَ ذَلِكَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
م 3 حع 7) وحدّثني حَرَمْلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنّ عَمْرَو بْنَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ الثّقَفِيّ أَخْبَرَهُ أَنّ أَبا هُرَيْرَةَ قَالَ لِكَعْبٍ الأَحْبَار: إِنّ نّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلّ نَبِيَ دَعْوَةٌ يَدْعُوهَا. "فَأَنَا أُرِيدُ، إِنْ شَاءَ الله، أَنْ أَخْتَبِئَ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
فقالَ كَعْبٌ لاِءَبِي هُرَيْرَةَ: أَنْتَ سَمِعْتَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: نَعَمْ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ (وَاللّفْظُ لاِءَبِي كُرَيْبٍ) قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلّ نَبِيَ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ. فَتَعَجّلَ كُلّ نَبِيَ دَعْوَتَهُ. وَإِنّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأِمّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَهِيَ نَائِلَةٌ، إِنْ شَاءَ الله، مَنْ مَاتَ مِنْ أُمّتِي لاَ يُشْرِكُ بِالله شَيْئاً".
م 1 حع 9) حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ (وَهُوَ ابْنُ الْقَعْقَاعِ) عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لِكُلّ نَبِيَ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ يَدْعُو بِهَا. فَيُسْتَجَابُ لَهُ فَيُؤْتَاهَا. وَإِنّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأِمّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
م 2 حع 0) حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحمّدٍ (وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ) قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ: رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لِكُلّ نَبِيَ دَعْوَةٌ دَعَا بِهَا فِي أُمّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ. وَإِنّي أُرِيدُ، إِنْ شَاءَ اللّهُ، أَنْ أُوءَخّرَ دَعْوَتِي شَفَاَعَةً لاِمّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
حدّثني أَبُو غَسّانَ الْمِسْمَعِيّ، وَمُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى، وَابْنُ بَشّارٍ حَدّثَانَا. وَاللّفْظُ لاِءَبِي غَسّانَ. قَالوا: حَدّثَنَا مُعَاذٌ (يَعْنُونَ ابْنَ هِشَامٍ) قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ. حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلّ نَبِيَ دَعْوَةٌ دَعَاهَا لاِمّتِهِ. وَإِنّي اخْتَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لاِمّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
م 1 حع 2) وَحَدّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَابْنُ أَبِي خَلَفٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا رَوْحٌ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الاْسْنَادِ.
م 2 حع 3) ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ. ح وحَدّثَنِيهِ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الْجَوْهَرِيّ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، جَمِيعاً عَنْ مسْعَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الاْسْنَادِ. غيْرَ أَنّ فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ قَالَ: قَالَ "أُعْطِيَ" وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
م 3 حع 4) وحدّثني مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ. حَدّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ.
وحدّثني مُحمّدُ بْنِ أَحْمَدَ بْنُ أَبِي خَلَفٍ. حَدّثَنَا رَوْحٌ. حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم "لِكُلّ نَبِيَ دَعْوَةٌ قَدْ دَعَا بِهَا فِي أُمّتِهِ. وَخَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأِمّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة يدعوها فأريد أن أختبئ دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة).
وفي الرواية الأخرى (لكل نبي دعوة مستجابة فتعجل كل نبي دعوته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً). وفي الرواية الأخرى: (لكل نبي دعوة دعا بها في أمته فاستجيب له وإني أريد إن شاء الله أن أؤخر دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة).
وفي الرواية الأخرى (لكل نبي دعوة دعاها لأمته وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة) هذه الأحاديث تفسر بعضها بعضاً، ومعناها أن كل نبي له دعوة متيقنة الإجابة وهو على يقين من إجابتها، وأما باقي دعواتهم فهم على طمع من إجابتها وبعضها يجاب وبعضها لا يجاب، وذكر القاضي عياض أنه يحتمل أن يكون المراد لكل نبي دعوة لأمته كما في الروايتين الأخيرتين والله أعلم. وفي هذا الحديث بيان كمال شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته ورأفته بهم واعتنائه بالنظر في مصالحهم المهمة، فأخر صلى الله عليه وسلم دعوته لأمته إلى أهم أوقات حاجاتهم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً" ففيه دلالة لمذهب أهل الحق أن كل من مات غير مشرك بالله تعالى لم يخلد في النار وإن كان مصراً على الكبائر، وقد تقدمت دلائله وبيانه في مواضع كثيرة. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إن شاء الله تعالى" هو على جهة التبرك والامتثال لقوله الله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} والله أعلم.
قوله: (أسيد بن جارية) هو بفتح الهمزة وكسر السين وجارية بالجيم. قوله: (كعب الأحبار) هو كعب بن ماتع بالميم والمثناة من فوق بعدها عين، والأحبار العلماء واحدهم حبر بفتح الحاء وكسرها لغتان أي كعب العلماء كذا قاله ابن قتيبة وغيره. وقال أبو عبيد: سمي كعب الأحبار لكونه صاحب كتب الأحبار جمع حبر وهو ما يكتب به وهو مكسور الحاء وكان كعب من علماء أهل الكتاب ثم أسلم في خلافة أبي بكر، وقيل بل في خلافة عمر رضي الله عنهما، توفي بحمص في سنة اثنتين وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنه وهو من فضلاء التابعين، وقد روى عنه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم.
قوله: (وحدثني أبو غسان المسمعي ومحمد بن المثني وابن بشار حدثانا واللفظ لأبي غسان قالوا: حدثنا معاذ يعنون بن هشام) هذا اللفظ قد يستدركه من لا معرفة له بتحقيق مسلم وإتقانه وكمال ورعه وحذقه وعرفانه، فيتوهم أن في الكلام طولاً فيقول: كان ينبغي أن يحذف قوله حدثانا وهذه غفلة ممن يصير إليها، بل في كلام مسلم فائدة لطيفة فإنه سمع هذا الحديث من لفظ أبي غسان ولم يكن مع مسلم غيره، وسمعه من محمد بن مثنى وابن بشار وكان معه غيره، وقد قدمنا في الفصول أن المستحب والمختار عند أهل الحديث أن من سمع وحده قال حدثني، ومن سمع مع غيره قال حدثنا، فاحتاط مسلم وعمل بهذا المستحب فقال: حدثني أبو غسان أي سمعت منه وحدي ثم ابتدأ فقال: ومحمد بن مثنى وابن بشار حدثانا أي سمعت منهما مع غيري، فمحمد بن المثنى مبتدأ وحدثانا الخبر، وليس هو معطوفاً على أبي غسان والله أعلم. وقوله: (قالوا حدثنا معاذ) يعني بقالوا محمد بن المثنى وابن بشار وأبا غسان والله أعلم. وقوله: (عن قتادة قال: حدثنا أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: لكل نبي دعوة) ثم ذكر مسلم طريقاً آخر عن وكيع وأبي أسامة عن مسعر عن قتادة ثم قال غير أن في حديث وكيع قال: قال أعطي، وحديث أبي أسامة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا من احتياط مسلم رضي الله عنه، ومعناه أن رواياتهم اختلفت في كيفية لفظ أنس، ففي الرواية الأولى عن أنس أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي دعوة" وفي رواية وكيع عن أنس قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم أعطى كل نبي دعوة. وفي رواية أبي أسامة عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لكل نبي دعوة والله أعلم. قوله: (وحدثني محمد بن عبد الأعلى، حدثنا المعتمر عن أبيه عن أنس) هذا الإسناد كله بصريون والله أعلم
*2* باب دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم لأُمته وبكائه شفقة عليهم
*حدّثني يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ الصّدَفِيّ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو ابْنُ الْحَارِثِ أَنّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدّثَهُ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم تَلاَ قَوْلَ الله عَزّ وَجَلّ فِي إِبْرَاهِيمَ: {رَبّ إِنّهُنّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنّهُ مِنّي} (إِبراهيم الاَية: ) الاَيَةَ. وَقَالَ عِيسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ: {إِنْ تُعَذّبْهُمْ فَإِنّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (المائدة الاَية: 8) فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللّهُمّ أُمّتِي أُمّتِي" وَبَكَىَ. فَقَالَ الله عَزّ وَجَلّ: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمّدٍ، وَرَبّكَ أَعْلَمُ، فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ؟ فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصّلاَةُ وَالسّلاَمُ فَسَأَلَهُ. فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَا قَالَ. وَهُوَ أَعْلَمُ. فَقَالَ الله: يَا جِبْرِيلُ اذْهَبْ إِلَى مُحَمّدٍ فَقُلْ: إِنّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ.
قوله: (حدثني يونس بن عبد الأعلى الصدفي، حدثنا ابن وهيب قال: أخبرني عمرو بن الحارث أن بكر بن سوادة حدثه عن عبد الرحمن بن جبير عن عبد الله بن عمرو بن العاصي) هذا الإسناد كله بصريون، وقدمنا أن في يونس ست لغات: ضم النون وفتحها وكسرها مع الهمز فيهن وتركه، وأما الصدفي فبفتح الصاد والدال المهملتين وبالفاء منسوب إلى الصدف بفتح الصاد وكسر الدال قبيلة معروفة، قال أبو سعيد بن يونس: دعوتهم في الصدف وليس من أنفسهم ولا من مواليهم، توفي يونس بن عبد الأعلى هذا في شهر ربيع الاَخر سنة أربع وستين ومائتين، وكان مولده في ذي الحجة سنة سبعين ومائة، ففي هذا الإسناد رواية مسلم عن شيخ عاش بعده، فإن مسلماً توفي سنة إحدى وستين ومائتين كما تقدم. وأما بكر بن سوادة فبفتح السين وتخفيف الواو والله أعلم. قوله: (عن عبد الله بن عمرو بن العاصي أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول الله تعالى في إبراهيم صلى الله عليه وسلم: "رب إنهن أضللن كثيراً من الناس" الاَية. وقال عيسى صلى الله عليه وسلم: (إن تعذبهم فإنهم عبادك) هكذا هو في الأصول: وقال عيسى. قال القاضي عياض: قال بعضهم قوله قال: هو اسم للقول لا فعل، يقال: قال قولاً وقالا وقيلا كأنه قال وتلا قول عيسى، هذا كلام القاضي عياض. قوله عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه {رفع يديه وقال: اللهم أمتي أمتي وبكى، فقال الله عز وجل: يا جبريل اذهب إلى محمد وربك أعلم فاسأله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام فسأله فأخبره النبيّ صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم، فقال الله تعالى: يا جبريل اذهب إلى محمد فقل إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك) هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد: منها بيان كمال شفقة النبيّ صلى الله عليه وسلم على أمته واعتنائه بمصالحهم واهتمامه بأمرهم. ومنها استحباب رفع اليدين في الدعاء. ومنها البشارة العظيمة لهذه الأمة زادها الله تعالى شرفاً بما وعدها الله تعالى بقوله: سنرضيك في أمتك ولا نسوءك، وهذا من أرجى الأحاديث لهذه الأمة أو أرجاها. ومنها بيان عظم منزلة النبيّ صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى وعظيم لطفه سبحانه به صلى الله عليه وسلم، والحكمة في إرسال جبريل لسؤاله صلى الله عليه وسلم إظهار شرف النبيّ صلى الله عليه وسلم وأنه بالمحل الأعلى فيسترضى ويكرم بما يرضيه والله أعلم. وهذا الحديث موافق لقول الله عز وجل: {ولسوف يعطيك ربك فترضي}. وأما قوله تعالى: ولا نسوءك فقال صاحب التحرير: هو تأكيد للمعنى أي لا نحزنك لأن الإرضاء قد يحصل في حق البعض بالعفو عنهم ويدخل الباقي النار فقال تعالى: نرضيك ولا ندخل عليك حزناً بل ننجي الجميع والله أعلم.
*2* باب بيان أَن من مات على الكفر فهو في النار ولا تناله شفاعة ولا تنفعه قرابة المقربين
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَفّانُ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: "فِي النّارِ" فَلَمّا قَفّى دَعَاهُ فَقَالَ: "إِنّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النّارِ".
قوله: (أن رجلاً قال: يا رسول الله أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفى دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار) فيه أن من مات على الكفر فهو في النار ولا تنفعه قرابة المقربين، وفي أن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان فهو من أهل النار، وليس هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة، فإن هؤلاء كانت قد بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الأنبياء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم. وقوله صلى الله عليه وسلم: إن أبي وأباك في النار هو من حسن العشرة للتسلية بالاشتراك في المصيبة، ومعنى قفى ولى قفاه منصرفاً.
*2* باب في قوله تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَمّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء الاَية: 4) دَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قُرَيْشاً. فَاجْتَمَعُوا. فَعَمّ وَخَصّ. فَقَالَ: "يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيَ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ. يَا بَنِي مُرّةَ بْنِ كَعْبٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ. يَا بَنِي هَاشِمٍ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ. يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النّارِ. يَا فَاطِمَةُ أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النّارِ. فَإِنّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئاً. غَيْرَ أَنّ لَكُمْ رَحِماً سَأَبُلّهَا بِبِلاَلِهَا".
م 1 حع 9) وحدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيّ. حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ بِهَذَا الاْسْنَادِ. وَحَدِيثُ جَرِيرٍ أَتمّ وَأَشْبَعُ.
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ وَيُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء الاَية: 4) قَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الصّفَا فَقَالَ: "يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمّدٍ يَا صَفِيّةُ بِنْتَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ الله شَيْئاً. سَلُونِي مِنْ مَالِي مَا شِئْتُمْ".
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ الْمُسَيّبِ وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدُ الرّحْمَنِ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء الاَية: 4) "يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الله. لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئَاً. يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئاً. يَا عَبّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئاً. يَا صَفِيّةُ عَمّةَ رَسُولِ اللّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللّهِ شَيْئاً. يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ سَلِينِي بِمَا شِئْتِ. لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئاً".
م 1 حع 2) وحدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو. حَدّثَنَا زَائِدَةُ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ ذَكْوَانَ عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ هَذَا.
حدّثنا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيّ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعِ. حَدّثَنَا التّيْمِيّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ قَبْيَصَةَ بْنِ الْمُخَارِقِ، وَزُهَيْرِ بْنِ عَمْرٍو قَالاَ: لَمّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء الاَية: 4) قَالَ انْطَلَقَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى رَضْمَةٍ مِنْ جَبَلٍ فَعَلاَ أَعْلاَهَا حَجَراً. ثُمّ نَادَى: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافَاهْ إِنّي نَذِيرٌ. إِنّمَا مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ رَأَى الْعَدُوّ فَانْطَلَقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ. فَخَشِيَ أَنْ يَسْبِقُوهُ فَجَعَلَ يَهْتِفُ: يَا صَبَاحَاهْ".
م 1 حع 4) وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ. حَدّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ. حَدّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنْ زُهَيْرُ بْنِ عَمْرٍو وَقَبِيْصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ.
وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} (الشعراء الاَية: 4) وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ. خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَتّى صَعِدَ الصّفَا. فَهَتَفَ: "يَا صَبَاحَاهْ" فَقَالُوا: مَنْ هَذَا الّذِي يَهْتِفُ؟ قَالُوا: مُحَمّدٌ. فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: "يَا بَنِي فُلاَنٍ يَا بَنِي فُلاَنٍ يَا بَنِي عَبْد مَنَافٍ يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ" فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ: "أَرَأَيْتُكُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنّ خَيْلاً تَخْرُجُ بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ أَكُنْتُمْ مُصَدّقِيّ"؟ قَالُوا: مَا جَرّبْنَا عَلَيْكَ كَذِباً. قَالَ: "فَإِنّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ".
قَالَ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبّاً لَكَ أما جَمَعْتَنَا إِلاّ لِهَذَا؟ ثُمّ قَامَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ السّورَةُ: {تَبّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَقَدْ تَبّ} (المسد الاَية: 1).
كَذَا قَرَأَ الأَعْمَشُ إِلَى آخِرِ السّورَةِ.
م 1 حع 6) وحدثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَأَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الاْسْنَادِ. قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ الصّفَا فَقَالَ "يَا صَبَاحَاهْ" بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ نُزُولَ الاَيَةِ: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ.
قوله صلى الله عليه وسلم: (يا بني كعب بن لؤي) قال صاحب المطالع: لؤي يهمز ولا يهمز والهمز أكثر. قوله صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة أنقذي نفسك) هكذا وقع في بعض الأصول فاطمة، وفي بعضها أو أكثرها يا فاطم بحذف الهاء على الترخيم، وعلى هذا يجوز ضم الميم وفتحها كما عرف في نظائره. قوله صلى الله عليه وسلم: (فإني لا أملك لكم من الله شيئاً) معناه لا تتكلوا على قرابتي فإني لا أقدر على دفع مكروه يريده الله تعالى بكم. قوله صلى الله عليه وسلم: (غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها) ضبطناه بفتح الباء الثانية وكسرها وهما وجهان مشهوران ذكرهما جماعات من العلماء، قال القاضي عياض: رويناه بالكسر قال: ورأيت للخطابي أنه بالفتح، وقال صاحب المطالع: رويناه بكسر الباء وفتحها من بله يبله والبلال الماء، ومعنى الحديث: سأصلها شبهت قطيعة الرحم بالحرارة ووصلها بإطفاء الحرارة ببرودة، ومنه: بلوا أرحامكم أي صلوها.
قوله صلى الله عليه وسلم: (يا فاطمة بنت محمد، يا صفية بنت عبد المطلب، يا عباس بن عبد المطلب) يجوز نصب فاطمة وصفية وعباس وضمهم والنصب أفصح وأشهر، وأما بنت وابن فمنصوب لا غير، وهذا وإن كان ظاهراً معروفاً فلا بأس بالتنبيه عليه لمن لا يحفظه، وأفرد صلى الله عليه وسلم هؤلاء لشدة قرابتهم.
ت. قوله: (عن قبيصة بن المخارق وزهير بن عمرو رضي الله عنهما قالا: لما نزلت: {وأنذر عشيرتك الأقربين} قال: انطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة من جبل فعلا أعلاها حجراً ثم نادى: يا بني عبد منافاه إني نذير إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأ أهله فخشى أن يسبقوه فجعل يهتف يا صباحاه) أما قوله أولاً: قال: انطلق فمعناه قالا، لأن المراد أن قبيصة وزهيراً قالا، ولكن لما كانا متفقين وهما كالرجل الواحد أفرد فعلهما، ولو حذف لفظة قال كان الكلام واضحاً منتظماً، ولكن لما حصل في الكلام بعض الطول حسن إعادة قال للتأكيد، ومثله في القرآن العزيز: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون} فأعاد أنكم، وله نظائر كثرة في القرآن العزيز والحديث، وقد تقدم بيانه في مواضع من هذا الكتاب والله أعلم. وأما المخارق والد قبيصة فبضم الميم والخاء المعجمة. وأما الرضمة فبفتح الراء وإسكان الضاد المعجمة وبفتحها لغتان حكاهما صاحب المطالع وغيره، واقتصر صاحب العين والجوهري والهروي وغيرهم على الإسكان، وابن فارس وبعضهم على الفتح قالوا: والرضمة واحدة الرضم والرضام وهي صخور عظام بعضها فوق بعض، وقيل هي دون الهضاب. وقال صاحب العين: الرضمة حجارة مجتمعة ليست بثابتة في الأرض كأنها منثورة، وأما يربأ فهو بفتح الياء وإسكان الراء وبعدها باء موحدة ثم همزة على وزن يقرأ، ومعناه يحفظهم ويتطلع لهم، ويقال لفاعل ذلك ربئة وهو العين والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم العدو، ولا يكون في الغالب إلا على جبل أو شرف أو شيء مرتفع لينظر إلى بعد، وأما يهتف فبفتح الياء وكسر التاء ومعناه يصيح ويصرخ، وقولهم يا صباحاه كلمة يعتادونها عند وقوع أمر عظيم فيقولونها ليجتمعوا ويتأهبوا له والله أعلم.
قوله: (عن ابن عباس رضي الله قال: لما نزلت هذه الاَية: وأنذر عشيرتك الأقربين ورهطك منهم المخلصين) هو بفتح اللام فظاهر هذه العبارة أن قوله ورهطك منهم المخلصين كان قرآناً أنزل ثم نسخت تلاوته، ولم تقع هذه الزيادة في روايات البخاري. قوله صلى الله عليه وسلم: (أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي) أما سفح الجبل فبفتح السين وهو أسفله وقيل عرضه، وأما مصدقي فبتشديد الدال والياء. قوله: (فنزلت هذه السورة تبت يدا أبي لهب وقد تب، كذا قرأ الأعمش إلى آخر السورة) معناه أن الأعمش زاد لفظة قد بخلاف القراءة المشهورة، وقوله إلى آخر السورة يعني أتم القراءة إلى آخر السورة كما يقرؤها الناس، وفي السورة لغتان: الهمز وتركه حكاهما ابن قتيبة، والمشهور بغير همز كسور البلد لارتفاعها، ومن همزه قال: هي قطعة من القرآن كسؤر الطعام والشراب وهي لبقية منه، وفي أبي لهب لغتان: قرئ بهما فتح الهاء وإسكانها واسمه عبد العزى ومعنى تب خسر. قال القاضي عياض: وقد استدل بهذه السورة على جواز تكنية الكافر، وقد اختلف العلماء في ذلك، واختلفت الرواية عن مالك في جواز تكنية الكافر بالجواز والكراهة وقال بعضهم: إنما يجوز من ذلك ما كان على جهة التألف وإلا فلا، إذ في التكنية تعظيم وتكبير، وأما تكنية الله تعالى لأبي لهب فليست من هذا ولا حجة فيه إذا كان اسمه عبد العزى وهذه تسمية باطلة فلهذا كني عنه، وقيل لأنه إنما كان يعرف بها، وقيل إن أبا لهب لقب وليس بكنية وكنيته أبو عتبة، وقيل: جاء ذكر أبي لهب لمجانسة الكلام والله أعلم
*2* باب شفاعة النبيّ صلى الله عليه وسلم لأَبي طالب والتخفيف عنه بسببه
*وحدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيّ وَ مُحمّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدّمِيّ، وَ مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأَمَوِيّ قَالُوا: حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنِ الْعَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَنّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ، فَإِنّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ. هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ. وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النّارِ".
حدثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عْمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبّاسَ يَقُولُ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَنْصُرُكَ. فَهَلْ نَفَعَهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: "نَعَمْ. وَجَدْتُهُ فِي غَمرَاتٍ مِنَ النّارِ فَأَخْرَجْتُهُ إِلَى ضَحْضَاحٍ".
وحدّثنيهِ مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: أَخْبَرَنِي الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَلِبِ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ بِهَذَا الإسْنَادِ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ.
وحدّثنا قُتَيبَة بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ خَبّابٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ذُكِرَ عِنْدَهُ عَمّهُ أَبُو طَالِبٍ. فَقَالَ: "لَعَلّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ، يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ".
قوله: (كان يحوطك) هو بفتح الياء وضم الحاء، قال أهل اللغة: يقال حاطه يحوطه حوطاً وحياطة إذا صانه وحفظه وذب عنه وتوفر على مصالحه. قوله صلى الله عليه وسلم: (وجدته في غمرات من النار فأخرجته إلى ضحضاح) أما الضحضاح فهو بضادين معجمتين مفتوحتين، والضحضاح ما رق من الماء على وجه الأرض إلى نحو الكعبين واستعير في النار، وأما الغمرات فبفتح الغين والميم واحدتها غمرة بإسكان الميم وهي المعظم من الشيء. قوله صلى الله عليه وسلم: (ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار) قال أهل اللغة في الدرك لغتان فصيحتان مشهورتان: فتح الراء وإسكانها وقرئ بهما في القراءات السبع، قال الفراء: هما لغتان جمعهما أدراك. وقال الزجاج: اللغتان جميعاً حكاهما أهل اللغة إلا أن الاختيار فتح الراء لأنه أكثر في الاستعمال. وقال أبو حاتم: جمع الدرك بالفتح أدراك كجمل وأجمال وفرس وأفراس، وجمع الدرك بالإسكان أدرك كفلس وأفلس. وأما معناه فقال جميع أهل اللغة والمعاني والغريب وجماهير المفسرين: الدرك الأسفل قعر جهنم وأقصى أسفلها، قالوا: ولجهنم أدراك فكل طبقة من أطباقها تسمى دركاً والله أعلم.
*2* باب أهون أهل النار عذابا
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ: حَدّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُحمّدٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ النّعْمَانِ بْنُ أَبِي عَيّاشٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ أَدْنَىَ أَهْلِ النّارِ عَذَاباً، يَنْتَعِلُ بِنَعْلَيْنِ مِنْ نَارٍ، يَغْلِي دِمَاغُهُ مِنْ حَرَارَةِ نَعْلَيْهِ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَفّانُ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النّهْدِيّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَهْوَنُ أَهْلِ النّارِ عَذَاباً أَبُو طَالِبٍ. وَهُوَ مُنْتَعِلٌ بِنَعْلَيْنِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ (وِاللّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنّى) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَقَ يَقُولُ: سَمِعْتُ النّعْمَانِ بْنَ بَشِيرٍ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّ أَهْوَنَ أَهْلِ النّارِ عَذَاباً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَرَجُلٌ تُوضَعُ فِي أَخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنِ النّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ أَهْوَنَ أَهْلِ النّارِ عَذَاباً مَنْ لَهُ نَعْلاَنِ وَشِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ، يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ. كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ مَا يَرَى أَنّ أَحَداً أَشَدّ مِنْهُ عَذَاباً. وَإِنّهُ لأَهْوَنُهُمْ عَذَاباً".
قوله صلى الله عليه وسلم: (يوضع في أخمص قدميه) هو بفتح الهمزة وهو المتجافي من الرجل عن الأرض. قوله صلى الله عليه وسلم: (أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل) أما الشراك فبكسر الشين وهو أحد سيور النعل وهو الذي يكون على وجهها وعلى ظهر القدم والغليان معروف وهو شدة اضطراب الماء ونحوه على النار لشدة اتقادها، يقال غلت القدر تغلي غلياً وغلياناً وأغليتها أنا، وأما المرجل فبكسر الميم وفتح الجيم وهو قدر معروف سواء كان من حديد أو نحاس أو حجارة أو خزف هذا هو الأصح. وقال صاحب المطالع: وقيل هو القدر من النحاس يعني خاصة والأول أعرف والميم فيه زائدة، وفي هذا الحديث وما أشبهه تصريح بتفاوت عذاب أهل النار كما أن نعيم أهل الجنة متفاوت والله أعلم
*2* باب الدليل على أَن من مات على الكفر لا ينفعه عمل
*حدّثني أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنْ دَاوُدَ، عَنِ الشّعْبِيّ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ يَصِلُ الرّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: "لاَ يَنْفَعُهُ. إِنّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْماً: رَبّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ".
فيه حديث عائشة رضي الله عنها (قالت: قلت يا رسول الله ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال: لا ينفعه إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين) معنى هذا الحديث أن ما كان يفعله من الصلة والإطعام ووجوه المكارم لا ينفعه في الاَخرة لكونه كافراً وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين أي لم يكن مصدقاً بالبعث، ومن لم يصدق به كافر ولا ينفعه عمل". قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: وقد انعقد الإجماع على أن الكفار لا تنفعهم أعمالهم ولا يثابون عليها بنعيم ولا تخفيف عذاب، لكن بعضهم أشد عذاباً من بعض بحسب جرائمهم، هذا آخر كلام القاضي. وذكر الإمام الحافظ الفقيه أبو بكر البيهقي في كتابه البعث والنشور نحو هذا عن بعض أهل العلم والنظر، قال البيهقي: وقد يجوز أن يكون حديث ابن جدعان وما ورد من الاَيات والأخبار في بطلان خيرات الكافر إذا مات على الكفر ورد في أنه لا يكون لها موقع التخلص من النار وإدخال الجنة، ولكن يخفف عنه من عذابه الذي يستوجبه على جنايات ارتكبها سوى الكفر بما فعل من الخيرات، هذا كلام البيهقي. قال العلماء: وكان ابن جدعان كثير الإطعام وكان اتخذ للضيفان جفنة يرقى إليها بسلم، وكان من بني تميم بن مرة أقرباء عائشة رضي الله عنها، وكان من رؤساء قريش واسمه عبد الله، وجدعان بضم الجيم وإسكان الدال المهملة وبالعين المهملة، وأما صلة الرحم فهي الإحسان إلى الأقارب وقد تقدم بيانها، وأما الجاهلية فما كان قبل النبوة سموا بذلك لكثرة جهالاتهم والله تعالى أعلم
*2* باب موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم
*حدّثني أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، جِهَاراً غَيْرَ سِرّ، يَقُولُ: "أَلاَ إِنّ آلَ أَبِي فُلاَنٍ (يَعْنِي فُلاَناً) لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ وَلَيَيَ الله وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ".
قوله: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم جهاراً غير سر يقول: ألا إن آل أبي يعني فلأنا ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين) هذه الكناية بقوله يعني فلاناً هي من بعض الرواة خشي أن يسميه فيترتب عليه مفسدة وفتنة إما في حق نفسه وإما في حقه وحق غيره فكنى عنه، والغرض إنما هو قوله صلى الله عليه وسلم: إنما وليي الله وصالح المؤمنين، ومعناه إنما وليي من كان صالحاً وإن بعد نسبه مني، وليس وليي من كان غير صالح وإن كان نسبه قريباً. قال القاضي عياض رضي الله عنه: قيل إن المكنى عنه ههنا هو الحكم بن أبي العاص والله أعلم. وأما قوله جهاراً فمعناه علانية لم يخفه بل باح به وأظهره وأشاعه، ففيه التبرؤ من المخالفين وموالاة الصالحين والإعلان بذلك ما لم يخف ترتب فتنة عليه والله أعلم
*2* باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب
*حدّثنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ سَلاّمِ بْنِ عُبَيْدُ اللّهِ الْجُمَحِيّ: حَدّثَنَا الرّبِيعُ. يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ ، عَنْ مُحمّدُ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَدْخُلُ مِنْ أُمّتِي الْجَنّةَ سَبْعُونَ أَلْفاً بِغيرِ حِسَابٍ" فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ! ادْعُ الله! أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: "اللّهُمّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ" ثُمّ قَامَ آخَرُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: "سَبَقَكَ بِهَا عُكّاشَةُ".
وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ بَشّارٍ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ مُحمّدَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَة يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ الرّبِيعِ.
حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ حَدّثَهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَدْخُلُ مِنْ أُمّتِي زُمْرَةٌ هُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً. تُضِيءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ".
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَامَ عُكّاشَة بْنُ مِحْصَنٍ الأَسَدِيّ، يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللّهُمّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ" ثُمّ قَامَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَبَقَكَ بِهَا عُكّاشَةُ".
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو يُونُسَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَدْخُلُ الْجَنّةَ مِنْ أُمّتِي سَبْعُونَ أَلْفَاً، زُمَرَةٌ وَاحِدَةٌ مِنْهُمْ، عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ خَلَفٍ الْبَاهِلِيّ: حَدّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسّانَ، عَنْ مُحمّدٍ يَعْنِي ابْنَ سِيرينَ، قَالَ: حَدّثَنِي عِمْرَانُ قَالَ: قَالَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَدْخُلُ الْجَنّةَ مِنْ أُمّتِي سَبْعُونَ أَلْفاً بِغَيْرِ حِسَابٍ" قَالُوا: وَمَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: "هُمُ الّذِينَ لاَ يَكْتَوُونَ وَلاَ يَسْتَرْقُونَ. وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ" فَقَامَ عُكّاشَةُ فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: "أَنْتَ مِنْهُمْ" قَالَ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا نَبِيّ اللّهِ ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. قَالَ: "سَبَقَكَ بِهَا عُكّاشَةُ".
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ: حَدّثَنَا حَاجِبُ بْنِ عِمَرَ أَبُو خُشَيْنَةَ الثّقَفِيّ: حَدّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ الأَعْرَجِ عَنْ عُمْرَانَ بْنُ حُصَيْنٍ: أَنّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَدْخُلُ الْجَنّةَ مِنْ أُمّتِي سَبْعُونَ أَلْفَاً بِغَيْرِ حِسَابٍ" قَالُوا: مَنْ هُمْ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "هُمُ الّذِينَ لاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَتَطَيّرُونَ وَلاَ يَكْتَوُونَ. وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ".
حدّثنا قُتَيْبَة بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، يَعْنِي ابْنَ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَدْخُلَنّ الْجَنّةَ مِنْ أُمّتِي سَبْعُونَ أَلْفاً، أَوْ سَبْعُمِائَةِ أَلْفٍ (لاَ يَدْرِي أَبُو حَازِمٍ أَيّهُمَا قَالَ) مُتَمَاسِكُونَ. آخِذٌ بَعْضُهُمْ بَعْضاً. لاَ يَدْخُلُ أَوّلُهُمْ حَتّى يَدْخُلَ آخِرُهُمْ وَجُوهُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ".
حدّثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدّثَنَا هُشَيْمٌ: أَخْبَرَنَا حُصَيْنِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: أَيّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الّذِي انْقَضّ الْبَارِحَةَ؟ قُلْتُ: أَنَا. ثُمّ قُلْتُ: أَمَا إِنّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاَةٍ. وَلَكِنّي لُدِغْتُ. قَالَ: فَمَاذَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: اسْتَرْقَيْتُ. قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟ قُلْتُ: حَدِيثٌ حَدّثَنَاهُ الشّعْبِيّ. فَقَالَ: وَمَا حَدّثَكُمُ الشّعْبِيّ؟ قُلْتُ: حَدّثَنَا عَنْ بُرَيْدَةَ بْنِ حُصَيْبٍ الأَسْلَمِيّ، أَنّهُ قَالَ: لاَ رُقْيَةَ إِلاّ مِنْ عَيْنٍ أَوْ حُمَةٍ. فَقَالَ: قَدْ أَحْسَنَ مَنِ انْتَهَى إِلَى مَا سَمِعَ. وَلَكِنْ حَدّثَنَا ابْنُ عَبّاسٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عُرِضَتْ عَلَيّ الأُمَمُ. فَرَأَيْتُ النّبِيّ وَمَعَهُ الرّهَيْطُ. وَالنّبِيّ وَمَعَهُ الرّجُلُ وَالرّجُلاَنِ. وَالنّبِيّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ. إِذْ رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَظَنَنْتُ أَنّهُمْ أُمّتِي. فَقِيلَ لِي: هَذَا مُوسَىَ صلى الله عليه وسلم وَقَوْمُهُ. وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ. فَنَظَرْتُ. فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَقِيلَ لِي: انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ الاَخَرِ. فَإِذَا سَوَادٌ عَظِيمٌ. فَقِيلَ لِي: هَذِهِ أُمّتُكَ. وَمَعَهُمْ سَبْعُونَ أَلْفاً يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ".
ثُمّ نَهَضَ فَدَخَلَ مَنْزِلَهُ. فَخَاضَ النّاسُ فِي أُولَئِكَ الّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَلاَ عَذَابٍ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ صَحِبُوا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: فَلَعَلّهُمُ الّذِينَ وُلِدُوا فِي الإِسْلاَمِ وَلَمْ يُشْرِكُوا بِالله. وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَا الّذِي تَخُوضُونَ فِيهِ؟" فَأَخْبَرُوهُ. فَقَالَ: "هُمُ الّذِينَ لاَ يَرْقُونَ. وَلاَ يَسْتَرْقُونَ. وَلاَ يَتَطَيّرُونَ. وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكّلُونَ" فَقَامَ عُكّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ. فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: "أَنْتَ مِنْهُمْ" ثُمّ قَامَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَالَ: ادْعُ الله أَنْ يَجْعَلَنِي مِنْهُمْ. فَقَالَ: "سَبَقَكَ بِهَا عُكّاشَةُ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، عَنْ حُصَينٍ، عَنْ سَعِيدٍ بْنِ جُبَيْرٍ: حَدّثَنَا عَبّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "عُرِضَتْ عَلَيّ الأُمَمُ" ثُمّ ذَكَرَ بَاقِي الْحَدِيثِ، نَحْوَ حَدِيثِ هُشَيْمٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَوّلَ حَدِيثِهِ.
قوله صلى الله عليه وسلم: (يدخل من أمتي الجنة سبعون ألفاً بغير حساب) فيه عظم ما أكرم الله سبحانه وتعالى به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته زادها الله فضلاً وشرفاً. وقد جاء في صحيح مسلم سبعون ألفاً مع كل واحد منهم سبعون ألفاً. قوله: (عكاشة بن محصن) هو بضم العين وتشديد الكاف وتخفيفها لغتان مشهورتان ذكرهما جماعات منهم ثعلب والجوهري وآخرون. قال الجوهري قال ثعلب: هو مشدد وقد يخفف. وقال صاحب المطالع: التشديد أكثر، ولم يذكر القاضي عياض هنا غير التشديد. وأما محصن فبكسر الميم وفتح الصاد. وأما قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الثاني: سبقك بها عكاشة فقال القاضي عياض: قيل إن الرجل الثاني لم يكن ممن يستحق تلك المنزلة ولا كان بصفة أهلها بخلاف عكاشة، وقيل بل كان منافقاً فأجابه النبيّ صلى الله عليه وسلم بكلام محتمل، ولم ير صلى الله عليه وسلم التصريح له بأنك لست منهم لما كان صلى الله عليه وسلم من حسن العشرة، وقيل: قد يكون سبق عكاشة بوحي أن يجاب فيه ولم يحصل ذلك للاَخر، قلت: وقد ذكر الخطيب البغدادي في كتابه في الأسماء المبهمة أنه يقال إن هذا الرجل هو سعد بن عبادة رضي الله عنه، فإن صح هذا بطل قول من زعم أنه منافق، والأظهر المختار هو القول الأخير والله أعلم. قوله: (يرفع نمرة) النمرة كساء فيه خطوط بيض وسود وحمر كأنها أخذت من جلد النمر لاشتراكهما في التلون وهي من مآزر العرب.
قوله: (حدثني أبو يونس عن أبي هريرة رضي الله عنه) واسم أبي يونس هذا سليم بن جبير بضم السين والجيم المصري الدوسي مولى أبي هريرة رضي الله عنه. قوله صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً زمرة واحدة منهم على صورة القمر) روى زمرة واحدة بالنصب والرفع، والزمرة الجماعة في تفرقة بعضها في إثر بعض.
قوله صلى الله عليه وسلم: (هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون) اختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال الإمام أبو عبد الله المازري: احتج بعض الناس بهذا الحديث على أن التداوي مكروه ومعظم العلماء على خلاف ذلك، واحتجوا بما وقع في أحاديث كثيرة من ذكره صلى الله عليه وسلم لمنافع الأدوية والأطعمة كالحبة السوداء والقسط والصبر وغير ذلك، وبأنه صلى الله عليه وسلم تداوى، وبأخبار عائشة رضي الله عنها بكثرة تداويه، وبما علم من الاستشفاء برقاه، وبالحديث الذي فيه أن بعض الصحابة أخذوا على الرقية أجراً، فإذا ثبت هذا حمل ما في الحديث على قوم يعتقدون أن الأدوية نافعة بطبعها ولا يفوضون الأمر إلى الله تعالى، قال القاضي عياض: قد ذهب إلى هذا التأويل غير واحد ممن تكلم على الحديث ولا يستقيم هذا التأويل، وإنما أخبر صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء لهم مزية وفضيلة يدخلون الجنة بغير حساب، وبأن وجوههم تضيء القمر ليلة البدر، ولو كان كما تأوله هؤلاء لما اختص هؤلاء بهذه الفضيلة لأن تلك هي عقيدة جميع المؤمنين، ومن اعتقد خلاف ذلك كفر، وقد تكلم العلماء وأصحاب المعاني على هذا، فذهب أبو سليمان الخطابي وغيره إلى أن المراد من تركها توكلاً على الله تعالى ورضاء بقضائه وبلائه، قال الخطابي: وهذه من أرفع درجات المحققين بالإيمان، قال: وإلى هذا ذهب جماعة سماهم، قال القاضي: وهذا ظاهر الحديث ومقتضاه أنه لا فرق بين ما ذكر من الكي والرقى وسائر أنواع الطب. وقال الداودي: المراد بالحديث الذي يفعلونه في الصحة فإنه يكره لمن ليست به علة أن يتخذ التمائم ويستعمل الرقي، وأما من يستعمل ذلك ممن به مرض فهو جائز، وذهب بعضهم إلى تخصيص الرقي والكي من بين أنواع الطب بمعنى، وأن الطب غير قادح في التوكل، إذ تطبب رسول الله صلى الله عليه وسلم والفضلاء من السلف، وكل سبب مقطوع به كالأكل والشرب للغذاء والري لا يقدح في التوكل عند المتكلمين في هذا الباب ولهذا لم ينف عنهم التطبب، ولهذا لم يجعلوا الاكتساب للقوت، وعلى العيال قادحاً في التوكل إذا لم يكن ثقته في رزقه باكتسابه وكان مفوضاً في ذلك كله إلى الله تعالى، والكلام في الفرق بين الطب والكي يطول، وقد أباحهما النبيّ صلى الله عليه وسلم وأثنى عليهما، لكني أذكر منه نكتة تكفي وهو أنه صلى الله عليه وسلم تطبب في نفسه وطبب غيره ولم يكتو وكوى غيره، ونهى في الصحيح أمته عن الكي وقال: ما أحب أن أكتوي، هذا آخر كلم القاضي والله أعلم. والظاهر من معنى الحديث ما اختاره الخطابي ومن وافقه كما تقدم، وحاصله أن هؤلاء كمل تفويضهم إلى الله عز وجل فلم يتسببوا في دفع ما أوقعه بهم ولا شك في فضيلة هذه الحالة ورجحان صاحبها، وأما تطبب النبي صلى الله عليه وسلم ففعله ليبين لنا الجواز والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "وعلى ربهم يتوكلون" اختلفت عبارات العلماء من السلف والخلف في حقيقة التوكل، فحكى الإمام أبو جعفر الطبري وغيره عن طائفة من السلف أنهم قالوا: لا يستحق اسم التوكل إلا من لم يخالط قلبه خوف غير الله تعالى من سبع أو عدو حتى يترك السعي في طلب الرزق ثقة بضمان الله تعالى له رزقه، واحتجوا بما جاء في ذلك من الاَثار وقالت طائفة: حده الثقة بالله تعالى والإيقان بأن قضاءه نافذ واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم في السعي فيما لا بد منه من المطعم والمشرب والتحرز من العدو كما فعله الأنبياء صلوات الله تعالى عليهم أجمعين. قال القاضي عياض: وهذا المذهب هو اختيار الطبري وعامة الفقهاء، والأول مذهب بعض المتصوفة وأصحاب علم القلوب والإشارات، وذهب المحققون منهم إلى نحو مذهب الجمهور، ولكن لا يصح عندهم اسم التوكل مع الالتفات والطمأنينة إلى الأسباب، بل فعل الأسباب سنة الله وحكمته والثقة بأنه لا يجلب نفعاً ولا يدخل ضراً والكل من الله تعالى وحده، هذا كلام القاضي عياض. قال الإمام الأستاذ أبو القاسم القشيري رحمه الله تعالى: اعلم أن التوكل محله القلب، وأما الحركة بالظاهر فلا تنافي التوكل بالقلب بعد ما تحقق العبد أن الثقة من قبل الله تعالى، فإن تعسر شيء فبتقديره، وإن تيسر فبتيسيره. وقال سهل بن عبد الله التستري رضي الله عنه: التوكل الاسترسال مع الله تعالى على ما يريد. وقال أبو عثمان الجبري: التوكل الاكتفاء بالله تعالى مع الاعتماد عليه. وقيل: التوكل أن يستوي الإكثار والتقلل والله أعلم.
قوله: (حدثنا حاجب بن عمر أبو خشينة) هو بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين بعدهما مثناة من تحت ثم نون ثم هاء، وحاجب هذا هو أخو عيسى بن عمر النحوي الإمام المشهور.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ليدخلن الجنة من أمتي سبعون ألفاً متماسكون آخذ بعضهم بعضاً لا يدخل أولهم حتى يدخل آخرهم) هكذا هو في معظم الأصول متماسكون بالواو وآخذ بالرفع، ووقع في بعض الأصول متماسكين وآخذاً بالياء والألف وكلاهما صحيح، ومعنى متماسكين ممسك بعضهم بيد بعض ويدخلون معترضين صفاً واحداً بعضهم بجنب بعض، وهذا تصريح بعظم سعة باب الجنة، نسأل الله الكريم رضاه والجنة لنا ولأحبابنا ولسائر المسلمين.
قوله: (أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة) هو بالقاف والضاد المعجمة ومعناه سقط، وأما البارحة فهي أقرب ليلة مضت، قال أبو العباس ثعلب: يقال قبل الزوال رأيت الليلة وبعد الزوال رأيت البارحة، وهكذا قاله غير ثعلب قالوا: وهي مشتقة من برح إذا زال، وقد ثبت في صحيح مسلم في كتاب الرؤيا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى الصبح قال: هل رأى أحد منكم البارحة رؤيا. قوله: (أما إني لم أكن في صلاة ولكني لدغت) أراد أن ينفي عن نفسه اتهام العبادة والسهر في الصلاة مع أنه لم يكن فيها، وقوله لدغت هو بالدال المهملة والغين المعجمة قال أهل اللغة: يقال لدغته العقرب وذوات السموم إذا أصابته بسمها وذلك بأن تأبره بشوكتها. قوله: (لا رقية إلا من عين أو حمة) أما الحمة فهي بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم وهي سم العقرب وشبهها، وقيل فوعة السم وهي حدته وحرارته، والمراد أو ذي حمة كالعقرب وشبهها، أي لا رقية إلا من لدغ ذي حمة، وأما العين فهي إصابة العائن غيره بعينه والعين حق، قال الخطابي: ومعنى الحديث لا رقيه أشفى وأولى من رقية العين وذي الحمة، وقد رقى النبيّ صلى الله عليه وسلم وأمر بها، فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله تعالى فهي مباحة، وإنما جاءت الكراهة منها لما كان بغير لسان العرب، فإنه ربما كان كفراً أو قولاً يدخله الشرك، قال: ويحتمل أن يكون الذي كره من الرقية ما كان منها على مذاهب الجاهلية في العوذ التي كانوا يتعاطونها ويزعمون أنها تدفع عنهم الاَفات ويعتقدون أنها من قبل الجن ومعونتهم، هذا كلام الخطابي رحمه الله تعالى أعلم. قوله: (بريدة بن حصيب) هو بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين. قوله صلى الله عليه وسلم: (فرأيت النبي ومعه الرهط) هو بضم الراء تصغير الرهط وهي الجماعة دون العشرة. قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا سواد عظيم فقيل له هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب) معناه ومع هؤلاء سبعون ألفاً من أمتك فكونهم من أمته صلى الله عليه وسلم لا شك فيه، وأما تقديره فيحتمل أن يكون معناه وسبعون ألفاً من أمتك غير هؤلاء وليسوا مع هؤلاء، ويحتمل أن يكون معناه في جملتهم سبعون ألفاً، ويؤيد هذا رواية البخاري في صحيحه هذه أمتك ويدخل الجنة من هؤلاء سبعون ألفاً والله أعلم. قوله: (فخاض الناس) هو بالخاء والضاد المعجمتين أي تكلموا وتناظروا، وفي هذا إباحة المناظرة في العلم والمباحثة في نصوص الشرع على جهة الاستفادة وإظهار الحق والله أعلم
*2* باب بيان كون هذه الأمة نصف أَهل الجنة
*حدّثنا هَنّادُ بْنُ السّرِيّ: حَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ الله قَالَ: قَالَ لَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنّةِ؟" قَالَ فَكَبّرْنَا. ثُمّ قَالَ: "أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنّةِ؟" قَالَ: فَكَبّرْنَا. ثُمّ قَالَ: "إِنّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنّةِ. وَسَأُخْبِرُكُمْ عَنْ ذَلِكَ. مَا الْمُسْلِمُونَ فِي الْكُفّارِ إِلاّ كَشَعْرَةٍ بَيْضَاءَ فِي ثَوْرٍ أَسْوَدَ. أَوْ كَشَعْرَةٍ سَوْدَاءَ فِي ثَوْرٍ أَبْيَضَ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ مُحمّدُ بْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنّى) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمَونٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي قُبّةٍ. نَحْواً مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلاً. فَقَالَ: "أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنّةِ؟" قَالَ: قُلْنَا: نَعَمْ. فَقَالَ: "أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنّةِ؟" فَقُلْنَا: نَعَمْ. فَقَالَ: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنّةِ. وَذَاكَ أَنّ الْجَنّةَ لاَ يَدْخُلُهَا إِلاّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ. وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشّرْكِ إِلاّ كَالشّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثّوْرِ الأَسْوَدِ. أَوْ كَالشّعْرَةِ السّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثّوْرِ الأَحْمَرِ".
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا مَالِكٌ(وَهُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ) عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى قُبّةِ مِنْ أَدَمٍ. فَقَالَ: "أَلاَ. لاَ يَدْخُلُ الْجَنّةَ إِلاّ نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ. اللّهُمّ هَلْ بَلّغْتُ؟ اللّهُمّ اشْهَدْ أَتُحِبّونَ أَنّكُمْ رُبُعُ أَهْلِ الْجَنّةِ؟" فَقُلْنَا: نَعَمْ. يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ: "أَتُحِبّونَ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الجَنّةِ؟" قَالُوا: نَعَمْ. يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنّةِ. مَا أَنْتُمْ فِي سِوَاكُمْ مِنَ الأُمَمِ إِلاّ كَالشّعْرَةِ السّوْدَاءِ فِي الثّوْرِ الأَبْيَضِ. أَوْ كَالشّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثّوْرِ الأَسْوَدِ".
قال مسلم: (حدثنا هناد بن السري، حدثنا أبو الأحوص عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله) هذا الإسناد كله كوفيون، واسم أبي الأحوص سلام بن سليم، وأبو إسحاق هو السبيعي واسمه عمرو بن عبد الله، وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: (كشعرة بيضاء في ثور أسود أو كشعرة سوداء في ثور أبيض) هذا شك من الراوي. قوله: (حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، حدثنا أبي، حدثمنا مالك وهو بن مغول عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون عن عبد الله) هذا الإسناد كله كوفيون. قوله: (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قال فكبرنا ثم قال: أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ فكبرنا ثم قال: إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة) أما تكبيرهم فلسرورهم بهذه البشارة العظيمة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ربع أهل الجنة ثم ثلث أهل الجنة ثم الشطر ولم يقل أولاً شطر أهل الجنة فلفائدة حسنة، وهي أن ذلك أوقع في نفوسهم وأبلغ في إكرامهم، فإن إعطاء الإنسان مرة بعد أخرى دليل على الاعتناء به ودوام ملاحظته، وفيه فائدة أخرى هي تكريره البشارة مرة بعد أخرى، وفيه أيضاً حملهم على تجديد شكر الله تعالى وتكبيره وحمده على كثرة نعمه والله أعلم. ثم إنه وقع في هذا الحديث شطر أهل الجنة، وفي الرواية الأخرى نصف أهل الجنة، وقد ثبت في الحديث الاَخر أن أهل الجنة عشرون ومائة صف هذه الأمة منها ثمانون صفاً، فهذا دليل على أنهم يكونون ثلثي أهل الجنة، فيكون أخبر أولاً بحديث الشطر، ثم تفضل الله سبحانه بالزيادة فأعلم بحديث الصفوف فأخبر به النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، ولهذا نظائر كثيرة في الحديث معروفة كحديث الجماعة تفضل صلة المنفرد بسبع وعشرين درجة وبخمس وعشرين درجة على إحدى التأويلات فيه، وسيأتي تقريره في موضعه إن وصلناه. إن شاء الله تعالى والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة) هذا نص صريح في أن من مات على الكفر لا يدخل الجنة أصلاً وهذا النص على عمومه بإجماع المسلمين. قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم هل بلغت اللهم اشهد) معناه أن التبليغ واجب علي وقد بلغت فاشهد لي به
*2* باب قوله "يقول اللّه لاَدم أخرج بعث النار من كل ألفٍ تسعمائة وتسعة وتسعين"
*حدّثنا عُثْمانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ الْعَبْسِيّ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ الله عَزّ وَجَلّ: يَا آدَمُ! فَيَقُولُ: لَبّيْكَ وَسَعْدَيْكَ! وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ! قَالَ يَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. قَالَ فَذَاكَ حِينَ يَشِيبُ الصّغِيرُ {وَتَضَعُ كُلّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنّ عَذَابَ الله شَدِيدٌ} قَالَ فَاشْتَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَيّنَا ذَلِكَ الرّجُلُ؟ فَقَالَ: "أَبْشِرُوا. فَإِنّ مِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفاً. وَمِنْكُمْ رَجُلٌ" قَالَ ثُمّ قَالَ: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنّةِ" فَحَمِدْنَا الله وَكَبّرْنَا. ثُمّ قَالَ: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنّةِ" فَحَمِدْنَا الله وَكَبّرْنَا. ثُمّ قَالَ: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنّي لأَطْمَعُ أَنْ تَكُونُوا شَطْرَ أَهْلِ الْجَنّةِ. إِنّ مَثَلَكُمْ فِي الأُمَمِ كَمَثَلِ الشّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثّوْرِ الأَسْوَدِ أَوْ كَالرّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ".
حَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الإسْنَادِ. غَيْرَ أَنّهُمَا قَالاَ: "مَا أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ فِي النّاسِ إِلاّ كَالشّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الثّوْرِ الأَسْوَدِ أَوْ كَالشّعْرَةِ السّوْدَاءِ فِي الثّوْرِ الأَبْيَضِ" وَلَمْ يَذْكُرَا: أَوْ كَالرّقمَةِ فِي ذِرَاعِ الْحِمَارِ.
قوله: (حدثنا عثمان بن أبي شيبة العبسي) هو بالباء الموحدة والسين المهملة. قوله صلى الله عليه وسلم: (لبيك وسعديك والخير في يديك) معنى في يديك عندك، وقد تقدم بيان لبيك وسعديك في حديث معاذ رضي الله عنه. قوله سبحانه وتعالى لاَدم صلى الله عليه وسلم: (أخرج بعث النار) البعث هنا بمعنى المبعوث الموجه إليها ومعناه ميز أهل النار من غيرهم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فذاك حين يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) معناه موافقة الاَية في قوله تعالى: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت} إلى آخرها. وقوله تعالى: {فكيف تتقون إن كفرتم يوماً يجعل الولدان شيباً} وقد اختلف العلماء في وقت وضع كل ذات حمل حملها وغيره من المذكور، فقيل عند زلزلة الساعة قبل خروجهم من الدنيا، وقيل هو في القيامة، فعلى الأول هو على ظاهره، وعلى الثاني يكون مجازاً، لأن القيامة ليس فيها حمل ولا ولادة، وتقديره ينتهي به الأهوال والشدائد إلى أنه لو تصورت الحوامل هناك لوضعن أحمالهن، كما تقول العرب: أصابنا أمر يشيب منه الوليد يريدون شدته والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن من يأجوج ومأجوج ألف ومنكم رجل) هكذا هو في الأصول والروايات. ألف ورجل بالرفع فيهما وهو صحيح، وتقديره أنه بالهاء التي هي ضمير الشأن وحذف الهاء وهو جائز معروف. وأما يأجوج ومأجوج فهما غير مهموزين عند جمهور القراء وأهل اللغة، وقرأ عاصم بالهمز فيهما وأصله من أجيج النار وهو صوتها وشررها، شبهوا به لكثرتهم وشدتهم واضطرابهم بعضهم في بعض. قال وهب بن منبه ومقاتل بن سليمان: هم من ولد يافث بن نوح، وقال الضحاك: هم جيل من الترك، وقال كعب: هم بادرة من ولد آدم من غير حواء، قال: وذلك أن آدم صلى الله عليه وسلم احتلم فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله تعالى يأجوج ومأجوج والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (كالرقمة في ذراع الحمار) هي بفتح الراء وإسكان القاف قال أهل اللغة: الرقمتان في الحمار هما الأثران في باطن عضديه، وقيل هي الدائرة في ذراعيه، وقيل هي الهنة الناتئة في ذراع الدابة من داخل والله أعلم بالصواب.