كتاب الطهارة
 كتاب الطهارة
باب

قال جمهور أهل اللغة: يقال الوضوء والطهور بضم أولهما إذا أريد به الفعل الذي هو المصدر، ويقال الوضوء والطهور بفتح أولهما إذا أريد به الماء الذي يتطهر به، هكذا نقله ابن الأنباري وجماعات من أهل اللغة وغيرهم عن أكثر أهل اللغة. وذهب الخليل والأصمعي وأبو حاتم السجستاني والأزهري وجماعة إلى أنه بالفتح فيهما. قال صاحب المطالع: وحكي الضم فيهما جميعاً، وأصل الوضوء من الوضاءة وهي الحسن والنظافة، وسمي وضوء الصلة وضوءاً لأنه ينظف المتوضئ ويحسنه، وكذلك الطهارة أصلها النظافة والتنزه، وأما الغسل فإذا أريد به الماء فهو مضموم الغين، وإذا أريد به المصدر فيجوز بضم الغين وفتحها لغتان مشهورتان، وبعضهم يقول: إن كان مصدراً لغسلت فهو بالفتح كضربت ضرباً، وإن كان بمعنى الاغتسال فهو بالضم كقولنا غسل الجمعة مسنون، وكذلك الغسل من الجنابة واجب وما أشبهه. وأما ما ذكره بعض من صنف في لحن الفقهاء من أن قولهم غسل الجنابة وغسل الجمعة وشبههما بالضم لحن فهو خطأ منه بل الذي قالوه صواب كما ذكرناه. وأما الغسل بكسر الغين فهو اسم لما يغسل به الرأس من خطمي وغيره والله أعلم
*2* باب فضل الوضوء
*حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدّثَنَا حَبّانُ بْنُ هِلاَلٍ: حَدّثَنَا أَبَانٌ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ أَنّ زَيْداً حَدّثَهُ أَنّ أَبَا سَلاّمٍ حَدّثَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "الطّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ. وَالْحَمْدُ لله تَمْلأُ الْمِيزَانَ وَسُبْحَانَ الله وَالْحَمْدُ لله تَمْلاَنِ (أَوْ تَمْلأُ) مَا بَيْنَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ. وَالصّلاَةُ نُورٌ. والصّدَقَةُ بُرْهَانٌ. وَالصّبْرُ ضِيَاءٌ. وَالْقُرْآنُ حُجّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ. كُلّ النّاسِ يَغْدُو. فَبَايعٌ نَفْسَهُ. فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا".
قال مسلم رحمه الله: (حدثنا إسحاق بن منصور، حدثنا حبان بن هلال، حدثنا أبان، حدثنا يحيى أن زيداً حدثه أن أبا سلام حدثه عن أبي مالك الأشعري) هذا الإسناد مما تكلم فيه الدارقطني وغيره فقالوا: سقط فيه رجل بين أبي سلام وأبي مالك والساقط عبد الرحمن بن غنم، قالوا: والدليل على سقوطه أن معاوية بن سلام رواه عن أخيه زيد بن سلام عن جده أبي سلام عن عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك الأشعري، وهكذا أخرجه النسائي وابن ماجه وغيرهما. ويمكن أن يجاب لمسلم عن هذا بأن الظاهر من حال مسلم أنه علم سماع أبي سلام لهذا الحديث من أبي مالك، فيكون أبو سلام سمعه من أبي مالك، وسمعه أيضاً من عبد الرحمن بن غنم عن أبي مالك، فرواه مرة عنه ومرة عن عبد الرحمن، وكيف كان فالمتن صحيح لا مطعن فيه والله أعلم. وأما حبان بن هلال فبفتح الحاء وبالباء الموحدة. وأما أبان فقد تقدم ذكره في أول الكتاب وأنه يجوز صرفه وترك صرفه وأن المختار صرفه. وأما أبو سلام فاسمه ممطور الأعرج الحبشي الدمشقي نسب إلى حي من حمير من اليمن لا إلى الحبشة. وأما أبو مالك فاختلف في اسمه فقيل الحارث وقيل عبيد وقيل كعب بن عاصم وقيل عمرو وهو معدود في الشاميين. قوله صلى الله عليه وسلم: (الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملاَن أو تملأ ما بين السموات والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها) هذا حديث عظيم أصل من أصول الإسلام قد اشتمل على مهمات من قواعد الإسلام، فأما الطهور فالمراد به الفعل فهو مضموم الطاء على المختار وقول الأكثرين ويجوز فتحها كما تقدم، وأصل الشطر النصف، واختلف في معنى قوله صلى الله عليه وسلم الطهور شطر الإيمان فقيل معناه أن الأجر فيه ينتهي تضعيفه إلى نصف أجر الإيمان، وقيل معناه أن الإيمان يجب ما قبله من الخطايا وكذلك الوضوء لأن الوضوء لا يصح إلا مع الإيمان، فصار لتوقفه على الإيمان في معنى الشطر، وقيل المراد بالإيمان هنا الصلاة كما قال الله تعالى: {وما كان الله ليضيع إيمانكم} والطهارة شرط في صحة الصلاة فصارت كالشطر، وليس يلزم في الشطر أن يكون نصفاً حقيقياً وهذا القول أقرب الأقوال، ويحتمل أن يكون معناه أن الإيمان تصديق بالقلب وانقياد بالظاهر، وهما شطران للإيمان، والطهارة متضمنة الصلاة فهي انقياد في الظاهر والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: والحمد لله تملأ الميزان فمعناه عظم أجرها وأنه يملأ الميزان، وقد تظاهرت نصوص القرآن والسنة على وزن الأعمال وثقل الموازين وخفتها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وسبحان الله والحمد لله تملاَن أو تملأ ما بين السموات والأرض" فضبطناه بالتاء المثناة من فوق في تملاَن وتملأ وهو صحيح، فالأول ضمير مؤنثتين غائبتين، والثاني ضمير هذه الجملة من الكلام. وقال صاحب التحرير: يجوز تملاَن بالتأنيث والتذكير جميعاً، فالتأنيث على ما ذكرناه والتذكير على إرادة النوعين من الكلام أو الذكرين، قال: وأما تملأ فمذكر على إرادة الذكر، وأما معناه فيحتمل أن يقال لو قدر ثوابهما جسماً لملأ ما بين السموات والأرض، وسبب عظم فضلهما ما اشتملتا عليه من التنزيه لله تعالى بقوله سبحان الله: والتفويض والافتقار إلى الله تعالى بقوله: الحمد لله، والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: والصلاة نور فمعناه أنها تمنع من المعاصي وتنهى عن الفحشاء والمنكر وتهدي إلى الصواب كما أن النور يستضاء به، وقيل معناه أنه يكون أجرها نوراً لصاحبها يوم القيامة، وقيل: لأنها سبب لإشراق أنوار المعارف وانشراح القلب ومكاشفات الحقائق لفراغ القلب فيها وإقباله إلى الله تعالى بظاهره وباطنه، وقد قال الله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} وقيل معناه أنها تكون نوراً ظاهراً على وجهه يوم القيامة، ويكون في الدنيا أيضاً على وجهه البهاء بخلاف من لم يصل والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: والصدقة برهان فقال صاحب التحرير: معناه يفزع إليها كما يفزع إلى البراهين، كأن العبد إذا سئل يوم القيامة عن مصرف ماله كانت صدقاته براهين في جواب هذا السؤال فيقول تصدقت به، قال: ويجوز أن يوسم المتصدق بسيماء يعرف بها فيكون برهاناً له على حاله ولا يسأل عن مصرف ماله، وقال غير صاحب التحرير: معناه الصدقة حجة على إيمان فاعلها، فإن المنافق يمتنع منها لكونه لا يعتقدها، فمن تصدق استدل بصدقته على صدق إيمانه والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: والصبر ضياء فمعناه الصبر المحبوب في الشرع وهو الصبر على طاعة الله تعالى، والصبر على معصيته، والصبر أيضاً على النائبات وأنواع المكاره في الدنيا، والمراد أن الصبر محمود، لا يزال صاحبه مستضيئاً مهتدياً مستمراً على الصواب. قال إبراهيم الخواص: الصبر هو الثبات على الكتاب والسنة. وقال ابن عطاء: الصبر الوقوف مع البلاء بحسن الأدب.
وقال الأستاذ أبو علي الدقاق رحمه الله تعالى: حقيقة الصبر على أن يعترض على المقدور، فأما إظهار البلاء لا على وجهه الشكوى فلا ينافي الصبر. قال الله تعالى في أيوب عليه السلام: (إنا وجدناه صابراً نعم العبد) مع أنه قال: (إني مسني الضر) والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: كل الناس غدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها فمعناه كل إنسان يسعى بنفسه فمنهم من يبيعها لله تعالى بطاعته فيعتقها من العذاب، ومنهم من يبيعها للشيطان والهوى باتباعهما فيوبقها أي يهلكها والله أعلم
*2* باب وجوب الطهارة للصلاة
*حدّثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ أَبُو كَامِلٍ الْجّحَدَرِيّ (وَاللّفْظُ لِسَعِيدٍ) قَالُوا: حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: دَخَلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى ابْنِ عَامِرٍ يَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ. فَقَالَ: أَلاَ تَدْعُو الله لِي، يَا ابْنَ عُمَرَ؟ قَالَ: إِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَقْبَلُ الله صَلاَةً بِغَيْرِ طُهُورٍ. وَلاَ صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ" وَكُنْتَ عَلَى الْبَصْرَةِ.
م 1 حع...) حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ. ح. وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيّ، عَنْ زَائِدَةَ قَالَ أَبُو بَكْرِ وَ وَكِيعٌ: عَنْ إِسْرَائِيلَ، كُلّهُمْ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ بِهَذَا الإسْنَادِ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ.
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ بْنُ هَمّامٍ: حَدّثَنَا مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنْبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ أَحَدِكُمْ، إِذَا أَحْدَثَ حَتّى يَتَوَضّأَ".
في إسناده (أبو كامل الجحدري) بفتح الجيم وإسكان الحاء المهملة وفتح الدال واسمه الفضيل بن حسين منسوب إلى جدله اسمه جحدر وتقدم بيانه مرات. وفيه (أبو عوانة) واسمه الوضاح بن عبد الله. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول) هذا الحديث نص في وجوب الطهارة للصلاة، وقد أجمعت الأمة على أن الطهارة شرط في صحة الصلاة. قال القاضي عياض: واختلفوا متى فرضت الطهارة للصلاة؟ فذهب ابن الجهم إلى أن الوضوء في أول الإسلام كان سنة ثم نزل فرضه في آية التيمم، قال الجمهور: بل كان قبل ذلك فرضاً، قال: واختلفوا في أن الوضوء فرض على كل قائم إلى الصلاة أم على المحدث خاصة؟ فذهب ذاهبون من السلف إلى أن الوضوء لكل صلاة فرض بدليل قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} الاَية، وذهب قوم إلى أن ذلك قد كان ثم نسخ، وقيل الأمر به لكل صلاة على الندب، وقيل بل لم يشرع إلا لمن أحدث، ولكن تجديده لكل صلاة مستحب، وعلى هذا أجمع أهل الفتوى بعد ذلك ولم يبق بينهم فيه خلاف، ومعنى الاَية عندهم إذا كنتم محدثين، هذا كلام القاضي رحمه الله تعالى. واختلف أصحابنا في الموجب للوضوء على ثلاثة أوجه: أحدها أنه يجب بالحدث وجوباً موسعاً. والثاني لا يجب إلا عند القيام إلى الصلاة. والثالث بجب بالأمرين وهو الراجح عند أصحابنا، وأجمعت الأمة على تحريم الصلاة بغير طهارة من ماء أو تراب، ولا فرق بين الصلاة المفروضة والنافلة وسجود التلاوة والشكر وصلاة الجنازة إلا ما حكي عن الشعبي ومحمد بن جرير الطبري من قولهما: تجوز صلاة الجنازة بغير طهارة، وهذا مذهب باطل، وأجمع العلماء على خلافه، ولو صلى محدثاً متعمداً بلا عذر أثم ولا يكفر عندنا وعند الجماهير. وحكى عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه يكفر لتلاعبه، ودليلنا أن الكفر للاعتقاد، وهذا المصلى اعتقاده صحيح، وهذا كله إذا لم يكن للمصلي محدثاً عذر، أما المعذور كمن لم يجد ماء ولا تراباً ففيه أربعة أقوال للشافعي رحمه الله تعالى وهي مذاهب للعلماء، قال بكل واحد منها قائلون أصحها عند أصحابنا يجب عليه أن يصلي على حاله، ويجب أن يعيد إذا تمكن من الطهارة. والثاني: يحرم عليه أن يصلي ويجب القضاء. والثالث: يستحب أن يصلي ويجب القضاء. والرابع: يجب أن يصلي ولا يجب القضاء وهذا القول اختيار المزني وهو أقوى الأقوال دليلاً. فأما وجوب الصلاة فلقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا أمرتكم بأمر فافعلوا منه ما استطعتم". وأما الإعادة فإنما تجب بأمر مجدد والأصل عدمه، وكذا يقول المزني: كل صلاة أمر بفعلها في الوقت على نوع من الخلل لا يجب قضاؤها والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الثاني: "لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ" فمعناه حتى يتطهر بماء أو تراب، وإنما اقتصر صلى الله عليه وسلم على الوضوء لكونه الأصل والغالب والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا صدقة من غلول" فهو بضم الغين والغلول الخيانة وأصله السرقة من مال الغنيمة قبل القسمة. وأما قول ابن عامر ادع لي فقال ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور ولا صدقة من غلول" وكنت على البصرة فمعناه أنك لست بسالم من الغلول، فقف كنت والياً على البصرة، وتعلقت بك تبعات من حقوق الله تعالى وحقوق العباد، ولا يقبل الدعاء لمن هذه صفته، كما لا تقبل الصلاة والصدقة إلا من متصون، والظاهر والله أعلم أن ابن عمر قصد زجر بن عامر وحثه على التوبة وتحريضه على الإقلاع عن المخالفات، ولم يرد القطع حقيقة بأن الدعاء للفساق لا ينفع، فلم يزل النبيّ صلى الله عليه وسلم والسلف والخلف يدعون للكفار وأصحاب المعاصي بالهداية والتوبة والله أعلم.
قوله: (حدثنا محمد بن مثنى وابن بشار قالا: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا شعبة ح وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا حسين بن علي عن زائدة، قال أبو بكرو ووكيع: حدثنا عن إسرائيل كلهم عن سماك بن حرب) أما قوله: كلهم فيعني به شعبة وزائدة وإسرائيل. فأما قوله: قال أبو بكر ووكيع حدثنا فمعناه أن أبا بكر بن أبي شيبة رواه عن حسين بن على عن زائدة، ورواه أبو بكر أيضاً عن وكيع عن إسرائيل فقال أبو بكر ووكيع: حدثنا وهو بمعنى قوله حدثنا وكيع، وسقط في بعض الأصول لفظة حدثنا وبقي قوله أبو بكر ووكيع عن إسرائيل وهو صحيح أيضاً، ويكون معطوفاً على قول أبي بكر أولاً حدثنا حسين أي وحدثنا وكيع عن إسرائيل، ووقع في بعض الأصول هكذا قال أبو بكر وحدثنا وكيع وكله صحيح والله أعلم
*2* باب صفة الوضوء وكماله
*حدّثني أَبُو الطّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ التّجِيبِيّ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ اللّيْثِيّ أَخْبَرَهُ أَنّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ رَضِي اللّهُ عنه دَعَا بوَضُوءٍ. فَتَوَضّأَ. فَغَسَلَ كَفّيْهِ ثَلاَثَ مَرّاتٍ. ثُمّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ. ثُمّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثَ مَرّاتٍ. ثُمّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْمِرْفَقِ ثَلاَثَ مَرّاتٍ. ثُمّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمّ مَسَحَ رَأْسَهُ. ثُمّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَى إِلَى الْكَعْبَيْنِ ثَلاَثَ مَرّاتٍ. ثُمّ غَسَلَ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ. ثُمّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمّ قَامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ، لاَ يُحَدّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ: هَذَا الْوُضُوءُ أَسْبَغُ مَا يَتَوَضّأُ بِهِ أَحَدٌ لِلصّلاَةِ.
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدّثَنَا أَبِي، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللّيْثِيّ، عَنْ حَمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَنّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا بِإِنَاءٍ. فَأَفْرَغَ عَلَى كَفّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ. فَغَسَلَهُمَا. ثُمّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإِنَاءِ. فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثم غسل وجهه ثلاث مرات ويديه إلى المرفقين ثلاث مرات ثم مسح برأسه. ثُمّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثَ مَرّاتٍ. ثُمّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضّأْ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا. ثُمّ صَلّى رَكْعَتَيْنِ، لاَ يُحَدّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".
فيه حرملة التجيبي هو بضم التاء وفتحها، وقد تقدم بيانه في أول الكتاب في مواضع والله أعلم.
قوله: (عن ابن شهاب أن عطاء بن يزيد أخبره أن حمران أخبره) هؤلاء ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض وحمر أن بعض الحاء. قوله: (فغسل كفيه ثلاث مرات) هذا دليل على أن غسلهما في أول الوضوء سنة وهو كذلك باتفاق العلماء. وقوله: (ثم تمضمض واستنثر) قال جمهور أهل اللغة والفقهاء والمحدثون: الاستنثار هو إخراج الماء من الأنف بعد الاستنشاق. وقال ابن الأعرابي وابن قتيبة: الاستنثار الاستنشاق والصواب الأول، ويدل عليه الرواية الأخرى استنشق واستنثر فجمع بينهما، قال أهل اللغة: هو مأخوذ من النثرة وهي طرف الأنف. وقال الخطابي وغيره: هي الأنف والمشهور الأول. قال الأزهري روي سلمة عن الفراء أنه يقال نثر الرجل وانتثر واستنثر إذا حرك النثرة في الطهارة والله أعلم. وأما حقيقة المضمضة فقال أصحابنا: كما لها أن يجعل الماء في فمه ثم يديره فيه ثم يمجه، وأما أقلها فأن يجعل الماء في فيه ولا يشترط إدارته على المشهور الذي قاله الجمهور، وقال جماعة من أصحابنا: يشترط وهو مثل الخلاف في مسح الرأس أنه لو وضع يده المبتلة على رأسه ولم يمرها هل يحصل المسح؟ والأصح الحصول، كما يكفي إيصال الماء إلى باقي الأعضاء من غير ذلك. وأما الاستنشاق فهو إيصال الماء إلى داخل الأنف وجذبه بالنفس إلى أقصاه، ويستحب المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائماً فيكره ذلك لحديث لقيط أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: "وبالغ في الاستنشاق إلا أن يكون صائماً" وهو حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الصحيحة. قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح. قال أصحابنا: وعلى أي صفة وصل الماء إلى الفم والأنف حصلت المضمضة والاستنشاق. وفي الأفضل خمسة أوجه، الأول: بتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق منها. والوجه الثاني: يجمع بينهما بغرفة واحدة يتمضمض منها ثلاثة ثم يستنشق منها ثلاثاً. الوجه الثالث: يجمع أيضاً بغرفة ولكن يتمضمض منها ثم يستنشق ثم يتمضمض منها ثم يستنشق ثم يتمضمض منها ثم يستنشق. والرابع: يفصل بينهما بغرفتين فيتمضمض من إحداهما ثلاثاً ثم يستنشق من الأخرى ثلاثاً. والخامس: يفصل بست غرفات يتمضمض بثلاث غرفات ثم يستنشق بثلاث غرفات، والصحيح الوجه الأول، وبه جاءت الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما. وأما حديث الفصل فضعيف فيتعين المصير إلى الجمع بثلاث غرفات كما ذكرنا لحديث عبد الله بن زيد المذكور في الكتاب، واتفقوا على أن المضمضة على كل قول مقدمة على الاستنشاق وعلى كل صفة، وهل هو تقديم استحباب واشتراط؟ فيه وجهان: أظهرهما اشتراط لاختلاف العضوين. والثاني: استحباب كتقديم يده اليمنى على اليسرى والله أعلم. قوله: (ثم غسل وجهه ثلاث مرات ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات ثم غسل يده اليسرى مثل ذلك ثم مسح رأسه ثم غسل رجله اليمنى إلى الكعبين ثلاث مرات ثم غسل اليسرى مثل ذلك) هذا الحديث أصل عظيم في صفة الوضوء، وقد أجمع المسلمون على أن الواجب في غسل الأعضاء مرة مرة وعلى أن الثلاث سنة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بالغسل مرة مرة وثلاثاً ثلاثاً، وبعض الأعضاء ثلاثاً وبعضها مرتين وبعضها مرة، قال العلماء: فاختلافها دليل على جواز ذلك كله، وأن الثلاث هي الكمال والواحدة تجزئ، فعلى هذا يحمل اختلاف الأحاديث، وأما اختلاف الرواة فيه عن الصحابي الواحد في القصة الواحدة فذلك محمول على أن بعضهم حفظ وبعضهم نسي، فيؤخذ بما زاد الثقة كما تقرر من قبول زيادة الثقة الضابط، واختلف العلماء في مسح الرأس، فذهب الشافعي في طائفة إلى أنه يستحب فيه المسح ثلاث مرات كما في باقي الأعضاء، وذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد والأكثرون إلى أن السنة مرة واحدة لا يزاد عليها، والأحاديث الصحيحة فيها المسح مرة واحدة، وفي بعضها الاقتصار على قوله مسح، واحتج الشافعي بحديث عثمان رضي الله عنه الاَتي في صحيح مسلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، وبما رواه أبو داود في سننه أنه صلى الله عليه وسلم مسح رأسه ثلاثاً، وبالقياس على باقي الأعضاء، وأجاب عن أحاديث المسح مرة واحدة بأن ذلك لبيان الجواز، وواظب صلى الله عليه وسلم على الأفضل والله أعلم.
وأجمع العلماء على وجوب غسل الوجه واليدين والرجلين واستيعاب جميعهما بالغسل، وانفردت الرافضة عن العلماء فقالوا: الواجب في الرجلين المسح وهذا خطأ منهم، فقد تظاهرت النصوص بإيجاب غسلهما، وكذلك اتفق كل من نقل وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم على أنه غسلهما وأجمعوا على وجوب مسح الرأس، واختلفوا في قدر الواجب فيه، فذهب الشافعي في جماعة إلى أن الواجب ما يطلق عليه الاسم ولو شعرة واحدة، وذهب مالك وأحمد وجماعة إلى وجوب استيعابه، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى في رواية الواجب ربعه، واختلفوا في وجوب المضمضة والاستنشاق على أربعة مذاهب: أحدها: مذهب مالك والشافعي وأصحابهما أنهما سنتان في الوضوء والغسل وذهب إليه من السلف الحسن البصري والزهري والحكم وقتادة وربيعة ويحيى بن سعيد الأنصاري والأوزاعي والليث بن سعد وهو رواية عن عطاء وأحمد. والمذهب الثاني: أنهما واجبتان في الوضوء والغسل لا يصحان إلا بهما وهو المشهور عن أحمد بن حنبل وهو مذهب ابن أبي ليلى وحماد وإسحاق بن راهويه ورواية عن عطاء. والمذهب الثالث: أنهما واجبتان في الغسل دون الوضوء وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه وسفيان الثوري. والمذهب الرابع: أن الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل والمضمضة سنة فيهما وهو مذهب أبي ثور وأبي عبيد وداود الظاهري وأبي بكر بن المنذر ورواية عن أحمد والله أعلم. واتفق الجمهور على أنه يكفي في غسل الأعضاء في الوضوء، والغسل جريان الماء على الأعضاء ولا يشترط الدلك وانفرد مالك والمزني باشتراطه والله أعلم. واتفق الجماهير على وجوب غسل الكعبين والمرفقين، وانفرد زفر وداود الظاهري بقولهما لا يجب والله أعلم. واتفق العلماء على أن المراد بالكعبين العظمان الناتئان بين الساق والقدم وفي كل رجل كعبان، وشذت الرافضة فقالت في كل رجل كعب وهو العظم الذي في ظهر القدم، وحكى هذا عن محمد بن الحسن ولا يصح عنه، وحجة العلماء في ذلك نقل أهل اللغة والاشتقاق، وهذا الحديث الصحيح الذي نحن فيه وهو قوله فغسل رجله اليمنى إلى الكعبين ورجله اليسرى كذلك، فأثبت في كل رجل كعبين، والأدلة في المسألة كثيرة، وقد أوضحتها بشواهدها وأصولها في المجموع في شرح المهذب، وكذلك بسطت فيه أدلة هذه المسائل واختلاف المذاهب وحجج الجميع من الطوائف وأجوبتها والجمع بين النصوص المختلفة فيها، وأطنبت فيها غاية الإطناب، وليس مرادي هنا إلا الإشارة إلى ما يتعلق بالحديث والله أعلم. قال أصحابنا: ولو خلق للإنسان وجهان وجب غسلهما، ولو خلق له ثلاثة أيد أو أرجل أو أكثر وهي متساويات وجب غسل الجميع، وإن كانت اليد الزائدة ناقصة وهي نابتة في محل الفرض وجب غسلها مع الأصلية، وإن كانت نابتة فوق المرفق ولم تحاذ محل الفرض لم يجب غسلها، وإن حاذته وجب غسل المحاذي خاصة على المذهب الصحيح المختار، وقال بعض أصحابنا: لا يجب، ولو قطعت يده من فوق المرفق فلا فرض عليه فيها، ويستحب أن يغسل بعض ما بقي لئلا يخلو العضو من طهارة، فلو قطع بعض الذراع وجب غسل باقيه والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم قام فركع ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه) إنما قال صلى الله عليه وسلم نحو وضوئي ولم يقل مثل لأن حقيقة مماثلته صلى الله عليه وسلم لا يقدر عليها غيره، والمراد بالغفران الصغائر دون الكبائر، وفيه استحباب صلاة ركعتين فأكثر عقب كل وضوء وهو سنة مؤكدة، قال جماعة من أصحابنا: ويفعل هذه الصلوات في أوقات النهي وغيرهما لأن لها سبباً، واستدلوا بحديث بلال رضي الله عنه المخرج في صحيح البخاري أنه كان متى توضأ صلىوقال: إنه أرجى عمل له، ولو صلى فريضة أو نافلة مقصودة حصلت له هذه الفضيلة كما تحصل تحية المسجد بذلك والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحدث فيهما نفسه" فالمراد لا يحدث بشيء من أمور الدنيا وما لا يتعلق بالصلاة، ولو عرض له حديث فأعرض عنه بمجرد عروضه عفى عن ذلك وحصلت له هذه الفضيلة إن شاء الله تعالى لأن هذا ليس من فعله، وقد عفى لهذه الأمة عن الخواطر التي تعرض ولا تستقر، وقد تقدم بيان هذه القاعدة في كتاب الإيمان والله تعالى أعلم. وقد قال معنى ما ذكرته الإمام أبو عبد الله المازري وتابعه عليه القاضي عياض فقال: يريد بحديث النفس الحديث المختلف والمكتسب. وأما ما يقع في الخواطر غالباً فليس هو المراد، قال قوله يحدث نفسه فيه إشارة إلى أن ذلك الحديث مما يكتسب لإضافته إليه، قال القاضي عياض: وقال بعضهم هذا الذي يكون بغير قصد يرجى أن تقبل معه الصلاة ويكون دون صلاة من لم يحدث نفسه بشيء، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم إنما ضمن الغفران المراعى ذلك لأنه قل من تسلم صلاته من حديث النفس، وإنما حصلت له هذه المرتبة لمجاهدة نفسه من خطرات الشيطان ونفيها عنه ومحافظته عليها حتى لم يشتغل عنها طرفة عين وسلم من الشيطان باجتهاده وتفريغه قلبه، هذا كلام القاضي والصواب ما قدمته والله أعلم.
قوله: (قال ابن شهاب وكان علماؤنا يقولون هذا أسبغ ما يتوضأ به أحد للصلاة) معناه هذا أتم الوضوء، وقد أجمع العلماء على كراهة الزيادة على الثلاث، والمراد بالثلاث المستوعبة للعضو، وأما إذا لم تستوعب العضو إلا بغرفتين فهي غسلة واحدة، ولو شك هل غسل ثلاثاً أم اثنتين جعل ذلك اثنتين وأتى بثالثة، هذا هو الصواب الذي قاله الجماهير من أصحابنا. وقال الشيخ أبو محمد الجويني من أصحابنا: يجعل ذلك ثلاثاً ولا يزيد عليها مخافة من ارتكاب بدعة بالرابعة، والأول هو الجاري على القواعد، وإنما تكون الرابعة بدعة ومكروهة إذا تعمد كونها رابعة والله أعلم. وقد يستدل بقول ابن شهاب هذا من يكره غسل ما فوق المرفقين والكعبين، وليس ذلك بمكروه عندنا بل هو سنة محبوبة، وسيأتي بيانها في بابها إن شاء الله تعالى، ولا دلالة في قول ابن شهاب على كراهته فإن مراده العدد كما قدمناه، ولو صرح ابن شهاب أو غيره بكراهة ذلك كانت سنة النبيّ صلى الله عليه وسلم لصحيحة مقدمة عليه والله أعلم.
قوله: (أنه رأى عثمان رضي الله عنه دعا بإناء فأفرغ على كفيه ثلاث مرات فغسلهما ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنثر ثم غسل وجهه ثلاث مرات) فيه أن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يأخذ الماء لهما بيمينه، وقد يستدل به على أن المضمضة والاستنشاق يكونان بغرفة واحدة وهو أحد الأوجه الخمسة التي قدمتها، ووجه الدلالة منه أنه ذكر تكرار غسل الكفين والوجه وأطلق أخذ الماء للمضمضة والله أعلم. ويستدل على استحباب غسل الكفين قبل إدخالهما الإناء وإن لم يكن قد قام من النوم إذا شك في نجاسة يده وهو مذهبنا والدلالة منه ظاهرة، وسيأتي بيان هذه المسألة في بابها قريباً إن شاء الله تعالى والله أعلم
*2* باب فضل الوضوء والصلاة عقبه
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ عُثْمَانُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ،(وَاللّفْظُ لِقُتَيْبَةَ) قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا. جَرِيرٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حَمْرَانَ، مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ وَهُوَ بِفِنَاءِ الْمَسْجِدِ. فَجَاءَهُ الْمُؤَذّنُ عِنْدَ الْعَصْرِ. فَدَعَا بِوَضُوءٍ فَتَوَضّأَ. ثُمّ قَالَ: وَالله لأُحَدّثَنّكُمْ حَدِيثاً. لَوْلاَ آيَةٌ فِي كِتَابِ الله مَا حَدّثْتُكُمْ. إِنّي سَمِعْتُ رَسُول اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَتَوَضّأُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فَيُحْسِنُ الْوُضُوءَ. فَيُصَلّي صَلاَةً. إِلاّ غَفَرَ الله لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصّلاَةِ الّتِي تَلِيهَا".
وحدّثناه أَبُو كُرَيْبٍ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. ح وَحَدّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ أَبُو كُرَيْبٍ قَالاَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، جَمِيعاً عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الإسْنَادِ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: "فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ ثُمّ يُصَلّي الْمَكْتُوبَةَ".
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. حَدّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدّثُ عَنْ حُمْرَانَ أَنّهُ قَالَ: فَلَمّا تَوَضّأَ عُثْمَانُ قَالَ: وَالله لأُحَدّثَنّكُمْ حَدِيثاً. وَالله لَوْلاَ آيَةٌ فِي كِتَابِ الله مَا حَدّثْتُكُمُوهُ. إِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ يَتَوَضّأُ رَجُلٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ. ثُمّ يُصَلّي الصّلاَةَ. إِلاّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصّلاَةِ الّتِي تَلِيهَا".
قَالَ عُرْوَةُ: الاَيَةُ: {إِنّ الّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيّنَاتِ وَالْهُدَى} إِلَى قوله: {اللاّعِنُونَ} (البقرة الاَية: 9).
حدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَ حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ، كِلاَهُمَا عَنْ أَبِي الْوَلِيدِ قَالَ عَبْدٌ: حَدّثَنِي أَبُو الْوَلِيدِ: حَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ: حَدّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ. فَدَعَا بِطَهُورٍ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلاَةٌ مَكْتُوبَةٌ. فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشَوعَهَا وَرُكُوعَهَا. إِلاّ كَانَتْ كَفّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذّنُوبِ. مَا لَمْ تُؤْتَ كَبِيرَةٌ. وَذَلِكَ الدّهْرَ كُلّهُ".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ. قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَهُوَ الدّرَاوَردِيّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ حَمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ بِوَضُوءٍ. فَتَوَضّأَ ثُمّ قَالَ: إِنّ نَاساً يَتَحَدّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَادِيثَ. لاَ أَدْرِي مَا هِيَ؟ إِلاّ أَنّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا. ثُمّ قَالَ: "مَنْ تَوَضّأَ هَكَذَا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. وَكَانَتْ صَلاَتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً".
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدَةَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ فَتَوَضّأَ.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيد وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ (وَاللّفْظُ لِقُتَيْبَةَ وَأَبِي بَكْرٍ) قَالُوا: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي النّضْرِ، عَنْ أَبِي أَنَسٍ: أَنّ عُثْمَانَ تَوْضّأَ بِالْمَقَاعِدِ. فَقَالَ: أَلاَ أُرِيكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمّ تَوَضّأَ ثَلاثَاً ثَلاثَاً.
وزادَ قُتَيْبَةُ فِي رِوَايَتِهِ، قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ أَبُو النّضْرِ عَنْ أَبِي أَنَسٍ، قَالَ: وَعِنْدَهُ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ،وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعاً عَنْ وَكِيعٍ. قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ جَامِعِ بْنُ شَدّادٍ، أَبِي صَخْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ. قَالَ: كُنْتُ أَضَعُ لِعُثْمَانَ طَهُورَهُ. فَمَا أَتَىَ عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلاّ وَهُوَ يُفِيضُ عَلَيْهِ نُطْفَةً. وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدّثَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ انْصِرَافِنَا مِنْ صَلاَتِنَا هَذِهِ (قَالَ مِسْعَرٌ: أُرَاهَا الْعَصْرَ) فَقَالَ: "مَا أَدْرِي. أُحَدّثُكُمْ بِشَيْءٍ أَوْ أَسْكُتُ؟" فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنْ كَانَ خَيْراً فَحَدّثْنَا. وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ فَالله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَطَهّرُ، فَيُتِمّ الطّهُورَ الّذِي كَتَبَ الله عَلَيْهِ، فَيُصَلّي هَذِهِ الصّلَوَاتِ الْخَمْسَ، إِلاّ كَانَتْ كَفّارَاتٍ لِمَا بَيْنَهَا".
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ: حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. قَالاَ جَمِيعاً: حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ جَامِعِ بْنِ شَدّادٍ قَالَ: سَمِعْتُ حُمْرَانَ بْنَ أَبَانٍ يُحَدّثُ أَبَا بُرْدَةَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ. فِي إِمَارَةِ بِشْرٍ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَتَمّ الْوُضُوءَ كَمَا أَمَرَهُ الله تَعَالَى. فَالصّلَوَاتُ الْمَكْتُوبَاتُ كَفّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنّ".
هَذَا حَدِيثُ ابْن مُعَاذٍ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ غُنْدَرٍ: فِي إِمَارَةَ بِشْرٍ. وَلاَ ذِكْرُ الْمَكْتُوبَاتِ.
حدّثنا هَرُونَ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: وَأَخْبَرَنِي مَخْرَمَةُ بْنُ بُكَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ قَالَ: تَوَضّأَ عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ يَوْماً وُضُوءاً حَسَناً. ثُمّ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ. ثُمّ قَالَ: "مَنْ تَوَضّأَ هَكَذَا. ثُمّ خَرَجَ إِلَى الْمَسْجِدِ لاَ يَنْهَزُهُ إِلاّ الصّلاَةُ. غُفِرَ لَهُ مَا خَلاَ مِنْ ذَنْبِهِ".
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ قَالاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنّ الْحُكَيْمَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الْقُرَشِيّ حَدّثَهُ أَنّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرٍ وَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ حَدّثَاهُ أَنّ مُعَاذَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ حَدّثهُمَا عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ تَوَضّأَ لِلصّلاَةِ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ. ثُمّ مَشَىَ إِلَى الصّلاَةِ الْمَكْتُوبَةِ. فَصَلاّهَا مَعَ النّاسِ، أَوْ مَعَ الْجَمَاعَةِ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ، غَفَرَ الله لَهُ ذُنُوبَهُ".
قوله: (وهو بفناء المسجد) هو بكسر الفاء وبالمد أي بين يدي المسجد وفي جواره والله أعلم. قوله: (والله لأحدثنكم حديثاً) فيه جواز الحلف من غير ضرورة الاستحلاف. قوله: (لولا آية في كتاب الله تعالى ما حدثتكم، ثم قال عروة الاَية: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات} الاَية) معناه لولا أن الله تعالى أوجب على من علم علماً إبلاغه لما كنت حريصاً على تحديثكم ولست متكثراً بتحديثكم، وهذا كله على ما وقع في الأصول التي ببلادنا، ولأكثر الناس من غيرهم لولا آية بالياء ومد الألف، قال القاضي عياض: وقع للرواة في الحديثين لولا آية بالياء إلا الباجي فإنه رواه في الحديث الأول لولا أنه بالنون، قال: واختلف رواة مالك في هذين اللفظين قال: واختلف العلماء في تأويل ذلك، ففي مسلم قول عروة إن الاَية هي قوله تعالى: {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات} وعلى هذا لا تصح رواية النون، وفي الموطأ قال مالك أراه يريد هذه الاَية: {وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل} الاَية، وعلى هذا تصح الروايتان، ويكون معنى رواية النون لولا أن معنى ما أحدثكم به في كتاب الله تعالى ما حدثتكم به لئلا تتكلوا. قال القاضي: والاَية التي رآها عروة وإن كانت نزلت في أهل الكتاب ففيها تنبيه وتحذير لمن فعل فعلهم وسلك سبيلهم، مع أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد عم في الحديث المشهور: "من كتم علماً ألجمه الله بلجام من نار" هذا كلام القاضي والصحيح تأويل عروة والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيحسن الوضوء) أي يأتي به تاماً بكمال صفته وآدابه، وفي هذا الحديث الحث على الاعتناء بتعلم آداب الوضوء وشروطه والعمل بذلك والاحتياط فيه والحرص على أن يتوضأ على وجه يصح عند جميع العلماء ولا يترخص باختلاف، فينبغي أن يحرص على التسمية والنية والمضمضة والاستنشاق والاستنثار واستيعاب مسح الرأس ومسح الأذنين الأعضاء والتتابع في الوضوء وترتيبه وغير ذلك من المختلف فيه وتحصيل ماء طهور بالإجماع والله سبحانه وتعالى أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها) أي التي بعدها فقد جاء في الموطأ التي تليها حتى يصليها.
قوله: (عن صالح قال: قال ابن شهاب: ولكن عروة يحدث عن حمران أنه قال توضأ عثمان) هذا إسناد اجتمع فيه أربعة تابعيون مدنيون يروي بعضهم عن بعض وفيه لطيفة أخرى وهو من رواية الأكابر عن الأصاغر، فإن صالح بن كيسان أكبر سناً من الزهري وقوله: (ولكن هو متعلق بحدث قبله).
قوله صلى الله عليه وسلم: (كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وذلك الدهر كله) معناه أن الذنوب كلها تغفر إلا الكبائر فإنها لا تغفر، وليس المراد أن الذنوب تغفر ما لم تكن كبيرة، فإن كانت لا يغفر شيء من الصغائر فإن هذا وإن كان محتملاً فسياق الأحاديث يأباه، قال القاضي عياض: هذا المذكور في الحديث من غفران الذنوب ما لم تؤت كبيرة هو مذهب أهل السنة، وأن الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى وفضله والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وذلك الدهر كله"أي ذلك مستمر في جميع الأزمان. ثم أنه وقع في هذا الحديث: (ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة). وفي الرواية المتقدمة: (من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه). وفي الرواية الأخرى: (إلا غفر له ما بينه وبين الصلاة التي تليها).
وفي الحديث الاَخر: (من توضأ هكذا غفر له ما تقدم من ذنبه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة). وفي الحديث الاَخر: (الصلوات الخمس كفارة لما بينهن). وفي الحديث الاَخر: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر) فهذه الألفاظ كلها ذكرها مسلم في هذا الباب، وقد يقال إذا كفر الوضوء فماذا تكفر الصلاة، وإذا كفرت الصلاة فماذا تكفر الجمعات ورمضان، وكذلك صوم يوم عرفة كفارة سنتين، ويوم عاشوراء كفارة سنة، وإذا وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه. والجواب ما أجابه العلماء أن كل واحد من هذه المذكورات صالح للتكفير، فإن وجد ما يكفره من الصغائر كفره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتبت به حسنات ورفعت به درجات، وإن صادفت كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغيرة رجونا أن يخفف من الكبائر والله أعلم.
وقوله: (عن أبي النضر عن أبي أنس أن عثمان رضي الله عنه توضأ بالمقاعد فقال: ألا أريكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ثم توضأ ثلاثاً ثلاثاً) وزاد قتيبة في روايته: قال سفيان قال أبو النضر عن أبي أنس قال: وعنده رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما أبو النضر فاسمه سالم بن أمية المدني القرشي التيمي مولى عمر بن عبد الله التيمي وكاتبه. وأما أبو أنس فاسمه مالك بن أبي عامر الأصبحي المدني وهو جد مالك بن أنس الإمام ووالد أبي سهيل عم مالك. وأما المقاعد فبفتح الميم وبالقاف قيل هي دكاكين عند دار عثمان بن عفان، وقيل درج، وقيل موضع بقرب المسجد اتخذه للقعود فيه لقضاء حوائج الناس والوضوء ونحو ذلك. وأما قوله: توضأ ثلاثاً ثلاثاً فهو أصل عظيم في أن السنة في الوضوء ثلاثاً ثلاثاً، وقد قدمنا أنه مجمع على أنه سنة وأن الواجب مرة واحدة، وفيه دلالة للشافعي ومن وافقه في أن المستحب في الرأس أن يمسح ثلاثاً كباقي الأعضاء، وقد جاءت أحاديث كثيرة بنحو هذا الحديث، وقد جمعتها مبينة في شرح المهذب، ونبهت على صحيحها من ضعيفها وموضع الدلالة منها. وأما قوله: وعنده رجال من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فمعناه أن عثمان قال ما قاله والرجال عنده فلم يخالفوه. وقد جاء في رواية رواها البيهقي وغيره: أن عثمان رضي الله تعالى عنه توضأ ثلاثاً ثلاثاً ثم قال لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيتم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا؟ قالوا: نعم والله أعلم. قوله: (حدثنا وكيع عن سفيان عن أبي النضر عن أبي أنس أن عثمان توضأ) هذا الإسناد من جملة ما استدركه الدارقطني وغيره. قال أبو علي الغساني الجياني: مذكور أن وكيع بن الجراح وهم في إسناد هذا الحديث في قوله عن أبي أنس، وإنما يرويه أبو النضر عن بسر رن سعيد عن عثمان بن عفان، روينا هذا عن أحمد بن حنبل وغيره قال: وهكذا قال الدارقطني هذا مما وهم فيه وكيع على الثوري، وخالفه أصحاب الثوري الحفاظ منهم الأشجعي عبد الله وعبد الله بن الوليد ويزيد بن أبي حكيم والفريابي ومعاوية بن هشام وأبو حذيفة وغيرهم رووه عن الثوري عن أبي النضر عن بسر بن سعيد أن عثمان وهو الصواب، هذا آخر كلام أبي علي.
وقوله: (عن جامع بن شداد أبي صخرة) هو بفتح الصاد المهملة ثم خاء معجمة ساكنة ثم راء ثم هاء وقد تقدم ضبطه. قوله: (فما أتى عليه يوم إلا وهو يفيض عليه نطفة) النطفة بضم النون وهي الماء القليل ومراده لم يكن يمر عليه يوم إلا اغتسل فيه، وكانت ملازمته للاغتسال محافظة على تكثير الطهر وتحصيل ما فيه من عظيم الأجر الذي ذكره في حديثه والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ما أدري أحدثكم بشيء أو أسكت، قال: فقلنا يا رسول الله إن كان خيراً فحدثنا، وإن كان غير ذلك فالله ورسوله أعلم) أما قوله صلى الله عليه وسلم: ما أدري أحدثكم أو أسكت فيحتمل أن يكون معناه ما أدري هل ذكري لكم هذا الحديث في هذا الزمن مصلحة أم لا؟ ثم طهرت مصلحته في الحال عنده صلى الله عليه وسلم فحدثهم به لما فيه من ترغيبهم في الطهارة وسائر أنواع الطاعات، وسبب توقفه أولاً أنه خاف مفسدة اتكالهم ثم رأى المصلحة في التحديث به. وأما قولهم إن كان خيراً فحدثنا فيحتمل أن يكون معناه إن كان بشارة لنا وسبباً لنشاطنا وترغيبنا في الأعمال أو تحذيراً وتنفيراً من المعاصي والمخالفات فحدثنا به لنحرص على عمل الخير والإعراض عن الشر، وإن كان حديثاً لا يتعلق بالأعمال ولا ترغيب فيه ولا ترهيب فالله ورسوله أعلم، ومعناه فر فيه رأيك والله أعلم. قوله: (ما من مسلم يتطهر فيتم الطهور الذي كتب الله تعالى عليه فيصلي هذه الصلوات الخمس إلا كانت كفارة لما بينهن) هذه الرواية فيها فائدة نفيسة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: الطهور الذي كتبه الله عليه، فإنه دال على أن من اقتصر في وضوئه على طهارة الأعضاء الواجبة وترك السنن والمستحبات كانت هذه الفضيلة حاصلة له، وإن كان من أتى بالسنن أكمل وأشد تكفيراً والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا ينهزه إلا الصلاة) هو بفتح الياء والهاء وإسكان النون بينهما، ومعناه لا يدفعه وينهضه ويحركه إلا الصلاة، قال أهل اللغة: نهزت الرجل أنهزه إذا دفعته، ونهز رأسه أي حركه، قال صاحب المطالع: وضبطه بعضهم ينهزه بضم الياء وهو خطأ ثم قال: وقيل هي لغة الله أعلم. وفي هذا الحديث الحث على الإخلاص في الطاعات وأن تكون متمحضة لله تعالى والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (غفر له ما خلا من ذنبه) أي مضى.
قوله: (أن الحكيم بن عبد الله القرشي حدثه أن نافع بن جبير وعبد الله بن أبي سلمة حدثاه أن معاذ بن عبد الرحمن حدثهما عن حمران) هذا الإسناد اجتمع فيه الحكيم بضم الحاء وفتح الكاف ونافع بن جبير ومعاذ وحمران
*2* باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ. كُلّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ. قَالَ ابْنُ أَيّوبَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ. أَخْبَرَنِي الْعَلاَءُ بْنُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، مَوْلَى الْحُرَقَةِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: الصّلاَةُ الْخَمْسُ. وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ. كَفّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُنّ. مَا لَمْ تُغْشَ الْكَبَائِرُ".
حدّثني نَصْرُ بْنُ عَلِيَ الْجَهْضَمِيّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ بْنُ الأَعْلَىَ: حَدّثَنَا هِشامٌ عَنْ مُحمّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الصّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ. كَفّارَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنّ.
حدّثني أَبُو الطّاهِرِ، و هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ أَبِي صَخْرٍ أَنّ عُمَرَ بْنَ إِسْحَقَ مَوْلَى زَائِدَة حَدّثَهُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ "الصّلَوَاتُ الْخَمْسُ. وَالْجُمُعَةُ إِلَى الْجُمُعَةِ. وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ. مُكَفّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنّ. إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ".
قوله: (مولى الحرقة) هو بضم الحاء المهملة وفتح الراء تقدم بيانه أول الكتاب. قوله: (حدثنا ابن وهب عن أبي صخر) هو أبو صخر من غير هاء في آخره واسمه حميد بن زياد، وقيل حميد بن صخر، وقيل حماد بن زياد، ويقال له أبو الصخر الخراط صاحب العباء المدني سكن مصر. قوله صلى الله عليه وسلم: (ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما) فيه جواز قول رمضان من غير إضافة شهر إليه وهذا هو الصواب، ولا وجه لإنكار من أنكره، وستأتي المسألة في كتاب الصيام إن شاء الله تعالى واضحة مبسوطة بشواهدها. قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتنب الكبائر) هكذا هو في أكثر الأصول اجتنب آخره باء موحدة، والكبائر منصوب أي إذا اجتنب فاعلها الكبائر، وفي بعض الأصول اجتنبت بزيادة تاء مثناة في آخره على ما لم يسم فاعله ورفع الكبائر وكلاهما صحيح ظاهر والله أعلم
*2* باب الذكر المستحب عقب الوضوء
*حدّثني مُحمّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيَ: حَدّثَنَا مُعَاوِيَةُ ابْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ،يَعْنِي ابْنَ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَولاَنِيّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. ح وَحَدّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْر، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: كَانَتْ عَلَيْنَا رِعَايْة الأبل. فَجَاءَتْ نَوْبَتِي. فَرَوّحْتُهَا بِعَشِيَ. فَأَدْرَكْتُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قائِمَاً يُحَدّثُ النّاسَ. فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ "مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَتَوَضّأُ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ. ثُمّ يَقُومُ فَيُصَلّي رَكْعَتَيْنِ. مُقْبِلٌ عَلَيْهِمَا بِقَلْبه وَوَجْهِهِ. أَلاّ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنّةُ" قَالَ فَقُلْتُ: مَا أَجْوَدَ هَذِهِ فَإِذَا قَائِلٌ بَيْنَ يَدَيّ يَقُولُ: الّتِي قَبْلَهَا أَجْوَدُ. فَنَظَرْتُ فَإِذَا عُمَرُ. قَالَ: إِنّي قَدْ رَأَيْتُكَ جِئْتَ آنِفَاً. قَالَ: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ يَتَوَضَأُ فَيُبْلِغُ (أَوْ فَيُسْبِغُ) الْوُضُوءَ ثُمّ يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنّ لاَ إِلَهَ أَلاّ اللّهُ وَأَنّ مُحمّداً عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ، أَلاّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنّةِ الثّمَانِيَةُ، يَدْخُلُ مِنْ أَيّهَا شَاءَ".
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ: حَدّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْن يَزِيدِ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيّ وَأَبِي عُثْمَانَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرِ بْنِ مَالِكٍ الْحَضْرَمِيّ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَذَكَرَ مِثْلَهُ غَيْرَ أَنّهُ قَالَ "مَنْ تَوَضَأَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ".
قال مسلم: (حدثني محمد بن حاتم بن ميمون، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن ربيعة يعني ابن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن عقبة بن عامر قال: وحدثني أبو عثمان عن جبير بن نفير عن عقبة بن عامر). ثم قال مسلم: (وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا معاوية بن صالح بن ميمون عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس وأبي عثمان عن جبير بن نفير عن عقبة) اعلم أن العلماء اختلفوا في القائل في الطريق الأول وحدثني أبو عثمان من هو؟ فقيل هو معاوية بن صالح، وقيل ربيعة بن يزيد، قال أبو علي الغساني الجياني في تقييد المهمل: الصواب أن القائل ذلك هو معاوية بن صالح، قال: وكتب أبو عبد الله بن الحذاء في نسخته قال ربيعة بن يزيد، وحدثني أبو عثمان عن جبير عن عقبة قال أبو علي، والذي أتى في النسخ المروية عن مسلم هو ما ذكرناه أولاً يعني ما قدمته أنا هنا، قال وهو الصواب، قال: وما أتى به ابن الحذاء وهم منه وهذا بين من رواية الأئمة الثقاة الحفاظ، وهذا الحديث يرويه معاوية بن صالح بإسنادين: أحدهما عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس عن عقبة. والثاني: عن أبي عثمان عن جبير بن نفير عن عقبة. قال أبو علي: وعلى ما ذكرنا من الصواب خرجه أبو مسعود الدمشقي فصرح وقال: قال معاوية بن صالح وحدثني أبو عثمان عن جبير عن عقبة، ثم ذكر أبو علي طرقاً كثيرة فيها التصريح بأنه معاوية بن صالح، وأطنب أبو علي في إيضاح ما صوبه، وكذلك جاء التصريح بكون القائل هو معاوية بن صالح في سنن أبي داود، فقال أبو داود: حدثنا أحمد بن سعيد عن أبي وهب عن معاوية بن صالح عن أبيه عثمان وأظنه سعيد بن هانئ عن جبير بن نفير عن عقبة، قال معاوية: وحدثني ربيعة عن يزيد عن أبي إدريس عن عقبة، هذا لفظ أبي داود وهو صريح فيما قدمناه. وأما قوله في الرواية الأخرى من طريق ابن أبي شيبة: (حدثنا معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس وأبي عثمان عن جبير) فهو محمول على ما تقدم، فقوله وأبي عثمان معطوف على ربيعة وتقديره حدثنا معاوية عن ربيعة عن أبي إدريس عن جبير، وحدثنا معاوية عن أبي عثمان عن جبير، والدليل على هذا التأويل والتقدير ما رواه أبو علي الغساني بإسناده عن عبد الله بن محمد البغوي قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن عقبة قال معاوية وأبو عثمان عن جبير بن نفير عن عقبة، قال أبو علي: فهذا الإسناد يبين ما أشكل من رواية مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة، قال أبو علي: وقد روى عبد اللهبن وهب عن معاوية بن صالح هذا الحديث أيضاً فبين الإسنادين معاً ومن أين مخرجهما، فذكر ما قدمناه من رواية أبي داود عن أحمد بن سعيد عن ابن وهب، قال أبو علي: وقد خرج أبو عيسى الترمذي في مصنفه هذا الحديث من طريق زيد بن الحباب عن شيخ له لم يقم إسناده عن زيد، وحمل أبو عيسى في ذلك على زيد بن الحباب وزيد بريء من هذه العهدة، والوهم في ذلك من أبي عيسى أو من شيخه الذي حدثه به لأنا قدمنا من رواية أئمة حفاظ عن زيد بن الحباب ما خالف ما ذكره أبو عيسى والحمد لله. وذكره أبو عيسى أيضاً في كتاب العلل وسؤالاته محمد بن إسماعيل البخاري فلم يجوده، وأتى فيه عنه بقول يخالف ما ذكرنا عن الأئمة ولعله لم يحفظه عنه، وهذا حديث مختلف في إسناده، وأحسن طرقه ما خرجه مسلم بن الحجاج من حديث بن مهدي وزيد بن الحباب عن معاوية بن صالح، قال أبو علي: وقد رواه عثمان بن أبي شيبة أخو أبي بكر عن زيد بن الحباب فزاد في إسناده رجلاً وهو جبير بن نفير، ذكره أبو داود في سننه في باب كراهة الوسوسة بحديث النفس في الصلاة فقال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا معاوية بن صالح عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن جبير بن نفير عن عقبة بن عامر فذكر الحديث، هذا آخر كلام أبي علي الغساني، وقد أتقن رحمه الله تعالى هذا الإسناد غاية الإتقان والله أعلم. واسم أبي إدريس عائذ الله بالذال المعجمة ابن عبد الله. وأما زيد بن الحباب فبضم الحاء المهملة وبالباء الموحدة المكررة والله أعلم. قوله: كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعثي، معنى هذا الكلام أنهم كانوا يتناوبون رعي إبلهم فيجتمع الجماعة ويضمون إبلهم بعضها إلى بعض فيرعاها كل يوم واحد منهم ليكون أرفق بهم وينصرف الباقون في مصالحهم، والرعاية بكسر الراء وهي الرعي. وقوله: روحتها بعشي أي رددتها إلى مراحها في آخر النهار وتفرغت من أمرها ثم جئت إلى مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله صلى الله عليه وسلم: (فيصلي ركعتين مقبل عليهما بقلبه ووجهه) هكذا هو في الأصول مقبل أي وهو مقبل، وقد جمع صلى الله عليه وسلم بهاتين اللفظتين أنواع الخضوع الخشوع لأن الخضوع في الأعضاء والخشوع بالقلب على ما قاله جماعة من العلماء. قوله: ما أجود هذه يعني هذه الكلمة أو الفائدة أو البشارة أو العبادة، وجودتها من جهات منها أنها سهلة متيسرة يقدر عليها كل أحد بلا مشقة: ومنها أن أجرها عظيم والله أعلم.
قوله: جئت آنفاً، أي قريباً وهو بالمد على اللغة المشهورة وبالقصر على لغة صحيحة قرئ بها في السبع. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيبلغ أو يسبغ الوضوء) هما بمعنى واحد أي يتمه ويكمله فيوصله مواضعه على الوجه المسنون والله أعلم. أما أحكام الحديث ففيه أنه يستحب للمتوضئ أن يقول عقب وضوئه: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وهذا متفق عليه، وينبغي أن يضم إليه ما في رواية الترمذي متصلاً بهذا الحديث: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين. ويستحب أن يضم إلينه ما رواه النسائي في كتابه عمل اليوم والليلة مرفوعاً: سبحانك اللهم وبحمدك أشهدك أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك أستغفرك وأتوب إليك، قال أصحابنا: وتستحب هذه الأذكار للمغتسل أيضاً والله أعلم
*2* باب في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم
*حدّثني مُحمّدُ بْنُ الصّبّاحِ: حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَىَ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الأَنْصَارِيّ (وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ) قَالَ: قِيلَ لَهُ: تَوَضّأْ لَنَا وُضُوءَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَدَعَا بِإِنَاءٍ. فَأَكْفَأَ مِنْهَا عَلَى يَدَيْهِ. فَغَسَلَهُمَا ثَلاثاً. ثُمّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا. فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَ وَاحِدَةٍ. فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثاً. ثُمّ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَها فغسل وَجْهَهُ ثَلاَثاً. ثُمّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَغَسَلَ يَدَيه إلى المرفقين، مَرّتَيْنِ مَرّتَيْنِ. ثُمّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاسْتَخْرَجَهَا فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ. فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ. ثُمّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ. ثُمّ قَالَ: هَكَذَا كَانَ وُضُوءُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
وحدّثني الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيّاءَ: حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ (هُوَ ابْنُ بِلاَلٍ)، عَنْ عَمْرِو بْنُ يَحْيَىَ بِهَذَا الاْسْنَادِ، نَحْوَهُ. وَلَمْ يَذْكُرِ الْكَعْبَيْنِ.
وحدّثني إِسْحَقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيّ: حَدّثَنَا مَعْنٌ: حَدّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَىَ بِهَذَا الاْسْنَادِ، وَقَالَ: مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثاً. وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ كَفَ وَاحِدَةٍ. وَزَادَ بَعْدَ قَوْلِهِ، فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ: بَدَأَ بِمُقَدّمِ رَأْسِهِ ثُمّ ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ. ثُمّ رَدّهُمَا حَتّى رَجَعَ إِلَى الْمَكَانِ الّذِي بَدَأَ مِنْهُ. وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ.
حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيّ: حَدّثَنَا بَهْزٌ: حَدّثَنَا وُهَيْبٌ: حَدّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَىَ بِمْثِل إِسْنَادِهِمْ. وَاقْتَصّ الْحَدِيثَ. وَقَالَ فِيهِ: فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ مِنْ ثَلاَثِ غَرَفَاتٍ. وَقَالَ أَيْضَاً فَمَسحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِهِ وَأَدْبَرَ مَرّةً وَاحِدَةً.
قَالَ بَهَزٌ: أَمْلَىَ عَلَيّ وُهَيْبٌ هَذَا الْحَدِيثَ. وَقَالَ وُهِيْبٌ: أَمْلَىَ عَلَيّ عَمْرُو بْنُ يَحْيَىَ هَذَا الْحَدِيثَ مَرّتَيْنِ.
حدّثنا هَرُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ. ح وَحَدّثَنِي هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ وَ أَبُو الطّاهِرِ. قَالُوا حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمَرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنّ حَبّانَ بْن وَاسِعٍ حَدّثَهُ أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ أَنّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ زَيْدِ بْنِ عَاصِمٍ الْمَازِنِيّ يَذْكُرُ أَنّهُ رَأَى رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تَوَضّأَ، فَمَضْمَضَ ثُمّ اسْتَنْثَرَ، ثُمّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً، وَيَدَهُ الْيُمْنَى ثَلاَثاً، وَالأُخْرَى ثَلاَثاً، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ بِمَاءٍ غَيْرِ فَضْلِ يَدَهِ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتّى أَنْقَاهُمَا.
قَالَ أَبُو الطّاهِرِ: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ.
فيه حديث عبد الله بن زيد بن عاصم وهو غير عبد الله بن زيد بن عبد ربه صاحب الأذان، كذا قاله الحفاظ من المتقدمين والمتأخرين، وغلطوا سفيان بن عيينة في قوله: هو هو، وممن نص على غلطه في ذلك البخاري في كتاب الاستسقاء من صحيحه، وقد قيل: إن صاحب الأذان لا يعرف له غير حديث الأذان والله أعلم. قوله: (فدعا بإناء فأكفأ منها على يديه) هكذا هو في الأصول منها وهو صحيح أي من المطهرة أو الأداوة، وقوله: أكفأ هو بالهمز أي أمال وصب، وفيه استحباب تقديم غسل الكفين قبل غمسهما في الإناء. قوله: (فمضمض واستنشق من كف واحدة ففعل ذلك ثلاثاً) وفي الرواية التي بعدها: (فمضمض واستنشق واستنثر من ثلاث غرفات) في هذا الحديث دلالة ظاهرة للمذهب الصحيح المختار أن السنة في المضمضة والاستنشاق أن يكون بثلاث غرفات يتمضمض ويستنشق من كل واحدة منها، وقد قدمنا إيضاح هذه المسألة والخلاف فيها في الباب الأول والله أعلم. وقوله في الرواية الثانية: (فمضمض واستنشق واستنثر) فيه حجة للمذهب المختار الذي عليه الجماهير من أهل اللغة وغيرهم أن الاستنثار غير الاستنشاق، خلافاً لما قاله ابن الأعرابي وابن قتيبة أنهما بمعنى واحد، وقد تقدم في الباب الأول إيضاحه والله أعلم. قوله: (ثم أدخل يده فاستخرجها فغسل وجهه ثلاثاً) هكذا وقع في صحيح مسلم أدخل يده بلفظ الإفراد، وكذا في أكثر روايات البخاري. ووقع في رواية للبخاري في حدث عبد الله بن زيد هذا: ثم أدخل يديه فاغترف بهما فغسل وجهه ثلاثاً. وفي صحيح البخاري أيضاً من رواية ابن عباس: ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ. وفي سنن أبي داود والبيهقي من رواية علي رضي الله عنه في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثم أدخل يديه في الإناء جميعاً فأخذ بهما حفنة من ماء فضرب بها على وجهه. فهذه أحاديث في بعضها يده وفي بعضها يديه وفي بعضها يده وضم إليها الأخرى، فهي دالة على جواز الأمور الثلاثة وأن الجميع سنة، ويجمع بين الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في مرات وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا، ولكن الصحيح منها والمشهور الذي قطع بها الجمهور ونص عليه الشافعي رضي الله عنه في البويطي والمزني أن المستحب أخذ الماء للوجه باليدين جميعاً لكونه أسهل وأقرب إلى الإسباغ والله أعلم. قال أصحابنا: ويستحب أن يبدأ في غسل وجهه بأعلاه لكونه أشرف ولأنه أقرب إلى الاستيعاب والله أعلم. قوله: (فغسل وجهه ثلاثاً ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين) فيه دلالة على جواز مخالفة الأعضاء وغسل بعضها ثلاثاً وبعضها مرتين وبعضها مرة، وهذا جائز، والوضوء على هذه الصفة صحيح بلا شك، ولكن المستحب تطهير الأعضاء كلها ثلاثاً ثلاثاً كما قدمناه، وإنما كانت مخالفتها من النبيّ صلى الله عليه وسلم في بعض الأوقات بياناً للجواز، كما توضأ صلى الله عليه وسلم مرة مرة في بعض الأوقات بياناً للجواز، وكان في ذلك الوقت أفضل في حقه صلى الله عليه وسلم، لأن البيان واجب عليه صلى الله عليه وسلم، فإن قيل: البيان يحصل بالقول. فالجواب: أنه أوقع بالفعل في النفوس وأبعد من التأويل والله أعلم. قوله: (فمسح برأسه فأقبل بيديه وأدبر) هذا مستحب باتفاق العلماء فإنه طريق إلى استيعاب الرأس ووصول الماء إلى جميع شعره. قال أصحابنا: وهذا الرد إنما يستحب لمن كان له شعر غير مضفور، أما من لا شعر على رأسه وكان شعره مضفوراً فلا يستحب الرد إذ لا فائدة فيه، ولو رد في هذه الحالة لم يحسب الرد مسحة ثانية لأن الماء صار مستعملاً بالنسبة إلى ما سوى تلك المسحة والله أعلم. وليس في هذا الحديث دلالة لوجوب استيعاب الرأس بالمسح لأن الحديث ورد في كمال الوضوء لا فيما لا بد منه والله أعلم. قوله: (فمسح برأسه فأقبل به) أي بالمسح. قوله: (حدثنا هارون بن معروف، وحدثني هارون بن سعيد الأيلي وأبو الطاهر قالوا: حدثنا ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث أن حبان بن واسع حدثه فذكر الحديث، ثم قال في آخره: قال أبو الطاهر: حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث) هذا من احتياط مسلم رحمه الله تعالى ووفور علمه وورعه، ففرق بين روايته عن شيخيه الهارونين، فقال في الأول حدثنا، وفي الثاني حدثني، فإن روايته عن الأول كانت سماعاً من لفظ الشيخ له ولغيره، وروايته عن الثاني كانت له خاصة من غير شريك له، وقد قدمنا أن المستحب في مثل الأول أن يقول حدثنا، وفي الثاني وحدثني، وهذا مستحب بالاتفاق وليس بواجب، فاستعمله مسلم رحمه الله تعالى وقد أكثر من التحري في مثل هذا وقد قدمت له نظائر، وسيأتي إن شاء الله تعالى التنبيه على نظائره كثيرة والله أعلم.
وأما قوله: قال أبو الطاهر حدثنا ابن وهب عن عمرو بن الحارث فهو أيضاً من احتياط مسلم وورعه، فإنه روى الحديث أولاً عن شيوخه الثلاثة الهارونين وأبي الطاهر عن ابن وهب قال: أخبرني عمرو بن الحارث، ولم يكن في رواية أبي الطاهر أخبرني إنما كان فيها عن عمرو بن الحارث، وقد تقرر أن لفظة عن مختلف في حملها على الاتصال، والقائلون أنها للاتصال وهم الجماهير يوافقون على أنها دون أخبرنا فاحتاط مسلم رحمه الله تعالى وبين ذلك، وكم في كتابه من الدرر والنفائس والمشابهة لهذا رحمه الله تعالى وجمع بيننا وبينه في دار كرامته والله أعلم. وحبان بفتح الحاء المهملة وبالموحدة، والأيلي بفتح الهمزة وإسكان المثناة والله أعلم.
قوله: (ومسح برأسه بما غير فضل يده) وفي بعض النسخ يديه معناه أنه مسح الرأس بماء جديد لا ببقية ماء يديه، ولا يستدل بهذا على أن الماء المستعمل لا تصح الطهارة به لأن هذا إخبار عن الإتيان بماء جديد للرأس ولا يلزم من ذلك اشتراطه والله أعلم
*2* باب الإِيتار في الاستنثار والاستجمار
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ وَ مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. جَمِيعاً عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ وِتْراً. وَإِذَا تَوَضّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمّ لْيَنْتَثِرْ".
حدّثني مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ بْنُ هَمّامٍ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهِ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَوَضّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنَ الْمَاءِ ثُمّ لْيَنْتَثِرْ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ قَالَ: قَرْأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ تَوَضّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ. وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ".
حدّثنا سَعِيد بْنُ مَنْصُورٍ: حَدّثَنَا حَسّانُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدّثَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ. ح وَحَدّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ الْخَوْلاَنِيّ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ وَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولاَنِ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ.
حدّثني بِشْرُ بْنُ الْحَكَمِ الْعَبْدِيّ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ (يَعْنِي الدّرَاوَرْدِيّ) عَنِ ابْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحمّدِ بْن إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فَلْيَسْتَنْثِرْ ثَلاَثَ مَرّاتٍ، فَإِنّ الشّيْطَانَ يَبِيتُ عَلَى خَيَاشِيمِهِ".
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ مُحمّدُ بْنُ رَافِعِ قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيُوتِرْ".
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا استجمر أحدكم فليستجمر وتراً، وإذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ثم لينتثر) أما الاستجمار فهو مسح محل البول والغائط بالجمار وهي الأحجار الصغار. قال العلماء: يقال الاستطابة والاستجمار والاستنجاء لتطهير محل البول والغائط، فأما الاستجمار فمختص بالمسح بالأحجار، وأما الاستطابة والاستنجاء فيكونان بالماء ويكونان بالأحجار، هذا الذي ذكرنا من معنى الاستجمار هو الصحيح المشهور الذي قاله الجماهير من طوائف العلماء من اللغويين والمحدثين والفقهاء. وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: اختلف قول مالك وغيره في معنى الاستجمار المذكور في هذا الحديث فقيل هذا، وقيل المراد به في البخور أن يأخذ منه ثلاث قطع، أو يأخذ منه ثلاث مرات يستعمل واحدة بعد أخرى، قال: والأول أظهر والله أعلم. والصحيح المعروف ما قدمناه والمراد بالإيتار أن يكون عدد المسحات ثلاثاً أو خمساً أو فوق ذلك من الأوتار، ومذهبنا أن الإيتار فيما زاد على الثلاث مستحب، وحاصل المذهب أن الانقاء واجب، واستيفاء ثلاث مسحات واجب، فإن حصل الانقاء بثلاث فلا زيادة، وإن لم يحصل وجب الزيادة، ثم إن حصل بوتر فلا زيادة، وإن حصل بشفع كأربع أو ست استحب الإيتار. وقال بعض أصحابنا: يجب الإيتار مطلقاً لظاهر هذا الحديث، وحجة الجمهور الحديث الصحيح في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" ويحملون حديث الباب على الثلاث وعلى الندب فيما زاد والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فليجعل في أنفه ماء ثم لينثر"ففيه دلالة ظاهرة على الاستنثار غير الاستنشاق، وأن الانتثار هو إخراج الماء بعد الاستنشاق مع ما في الأنف من مخاط وشبهه، وقد تقدم ذكر هذا. وفيه دلالة لمذهب من يقول: الاستنشاق واجب لمطلق الأمر، ومن لم يوجبه حمل الأمر على الندب بدليل أن المأمور به حقيقة وهو الانتثار ليس بواجب بالإتفاق، فإن قالوا ففي الرواية الأخرى إذا توضأ فليستنشق بمنخريه من الماء ثم لينتثر فهذا فيه دلالة ظاهرة للوجوب، لكن حمله على الندب محتمل ليجمع بينه وبين الأدلة الدالة على الاستحباب والله أعلم. قوله في حديث همام: (فذكر أحاديث منها وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم) قد قدمنا مرات بيان الفائدة في هذه العبارة، وإنما ننبه على تقدمها ليتعاهد. قوله: (بمنخريه) هما بفتح الميم وكسر الخاء وبكسر هما جميعاً لغتان معروفتان.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فليستنثر فإن الشيطان يبيت على خياشيمه) قال العلماء: الخيشوم أعلى الأنف، وقيل هو الأنف كله، وقيل هي عظام رقاق لينة في أقصى الأنف بينه وبين الدماغ، وقيل غير ذلك وهو اختلاف متقارب المعنى. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن الشيطان يبيت على خياشيمه" على حقيقته فإن الأنف أحد منافذ الجسم التي يتوصل إلى القلب منها، لا سيما وليس من منافذ الجسم ما ليس عليه غلق سواه وسوى الأذنين. وفي الحديث: "إن الشيطان لا يفتح غلقاً" وجاء في التثاؤب الأمر بكظمه من أجل دخول الشيطان حينئذ في الفم. قال: ويحتمل أن يكون على الاستعارة، فإن ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذارة توافق الشيطان والله أعلم
*2* باب وجوب غسل الرجلين بكمالهما
*حدّثنا هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ وَ أَبُو الطّاهِرِ وَ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَىَ. قَالُوا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ بُكْيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَالِمٍ مَوْلَىَ شَدّادٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ زَوْجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ تُوُفّيَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ. فَدَخَلَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فَتَوَضّأَ عِنْدَهَا. فَقَالَتْ: يَا عَبْدَ الرّحْمَنِ! أَسْبِغِ الْوُضُوءَ. فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النّارِ".
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ: حَدّثَنَا ابْنُ وَهبٍ: أَخْبَرَنِي حَيْوَةُ: أَخْبَرَنِي مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّ أَبَا عَبْدِ اللّهِ مَوْلَىَ شَدّادِ بْنِ الْهَادِ حَدّثَهُ أَنّهُ دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ. فَذَكَرَ عَنْهَا، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ.
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ وَ أَبِي مَعْنٍ الرّقَاشِيّ قَالاَ: حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ: حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ: حَدّثَنِي يَحْيَىَ بْنُ أَبِي كَثِيرٍ. قَالَ: حَدّثَنِي أَوْ حَدّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ: حَدّثَنِي سَالِمٌ مَوْلَى الْمَهْرِيّ قَالَ: خَرَجْتُ أَنَا وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي جَنَازَةِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ. فَمَرَرْنَا عَلَى بَابِ حُجْرَةِ عَائِشَةَ. فَذَكَرَ عَنْهَا عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. مِثْلَهُ.
حدّثني سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ: حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ: حَدّثَنَا فُلَيْحٌ: حَدّثَنِي نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ سَالِمٍ مَوْلَى شَدّادِ بْنِ الْهَادِ قَالَ: كُنْتُ أَنَا مَعَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا . فَذَكَرَ عَنْهَا، عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ.
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ هِلاَلِ بْنِ يَسَافٍ، عَنْ أَبِي يَحْيَىَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: رَجَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ، حَتّى إِذَا كُنّا بِمَاءٍ بِالطّرِيقِ. تَعَجّلَ قَوْمٌ عِنْدَ الْعَصْرِ. فَتَوَضّأُوا وَهُمْ عِجَالٌ. فَانْتَهَيْنَا إِلَيْهِمْ. وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسّهَا الْمَاءُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ".
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ سُفْيَانَ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ قَالاَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جعْفَرٍ قَالَ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، كِلاَهُمَا، عَنْ مَنْصُورٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةَ "أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ" وَفِي حَدِيثِهِ، عَنْ أَبِي يَحْيَىَ الأَعْرَجِ.
حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ وَ أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيّ: جَمِيعاً عَنْ أَبِي عَوَانَةَ. قَالَ أَبُو كَامِلٍ: حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهِكَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرو قَالَ: تَخَلّفَ عَنّا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ سَافَرْنَاهُ. فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ حَضَرَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ. فَجَعَلْنَا نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا. فَنَادَى: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النّارِ".
حدّثنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ سَلاّمٍ الْجُمَحِيّ: حَدّثَنَا الرّبِيعُ (يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ) عَنْ مُحمّدٍ (وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَأَى رَجُلاً لَمْ يَغْسِلْ عَقِبَيْهِ فَقَالَ: "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النّارِ".
حدّثنا قُتَيْبَة وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مُحمّد بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ رَأَى قَوْماً يَتَوَضّأُونَ مِنَ الْمِطْهَرَةِ. فَقَالَ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ. فَإِنّي سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "وَيْلٌ لِلْعَرَاقِيبِ مِنَ النّارِ".
حَدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النّارِ".
في الباب قوله صلى الله عليه وسلم: (ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء) ومراد مسلم رحمه الله تعالى بإيراده هنا الاستدلال به على وجوب غسل الرجلين وأن المسح لا يجزئ، وهذه مسألة اختلف الناس فيها على مذاهب، فذهب جمع من الفقهاء من أهل الفتوى في الأعصار والأمصار إلى أن الواجب غسل القدمين مع الكعبين ولا يجزئ مسحهما ولا يجب المسح مع الغسل، ولم يثبت خلاف هذا عن أحد يعتد به في الإجماع. وقالت الشيعة: الواجب مسحهما. وقال محمد بن جرير والجبائي رأس المعتزلة: يختير بين المسح والغسل. وقال بعض أهل الظاهر: يجب الجمع بين المسح والغسل، وتعلق هؤلاء المخالفون للجماهير بما لا تظهر فيه دلالة، وقد أوضحت دلائل المسألة من الكتاب والسنة وشواهدها وجواب ما تعلق به المخالفون بأبسط العبارات المنقحات في شرح المهذب بحيث لم يبق للمخالف شبهة أصلاً إلا وضح جوابها من غير وجه، والمقصود هنا شرح متون الأحاديث وألفاظها دون بسط الأدلة وأجوبة المخالفين، ومن أخصر ما نذكره أن جميع من وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن مختلفة وعلى صفات متعددة متفقون على غسل الرجلين. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ويل للأعقاب من النار" فتواعدها بالنار لعدم طهارتها، ولو كان المسح كافياً لما تواعد من ترك غسل عقبيه، وقد صح من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "أن رجلاً قال: يا رسول الله كيف الطهور؟ فدعا بماء فغسل كفيه ثلاثاً، إلى أن قال: ثم غسل رجليه ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" هذا حديث صحيح أخرجه أبو داود وغيره بأسانيدهم الصحيحة والله أعلم. قوله: (عن سالم مولى شداد. وفي الرواية الأخرى: أن أبا عبد الله مولى شداد بن الهاد. وفي الثالثة: سالم مولى المهري) هذه كلها صفات له وهو شخص واحد يقال له سالم مولى شداد بن الهاد، وسالم مولى المهري، وسالم بادوس، وسالم مولى مالك بن أوس بن الحدثان النصري بالنون والصاد المهملة، وسالم سبنان بفتحا لسين المهملة والباء الموحدة، وسالم البراد، وسالم مولى البصريين، وسالم أبو عبد الله المديني، وسالم بن عبد الله وأبو عبيد الله مولى شداد بن الهاد، فهذه كلها تقال فيه. قال أبو حاتم: كان سالم من خيار المسلمين. وقال عطاء بن السائب: حدثني سالم البراد وكان أوثق عندي من نفسي.
وأما قوله: (حدثني سلمة بن شبيب، حدثنا الحسن بن أعين، حدثنا فليح، حدثني نعيم بن عبد الله عن سالم مولى ابن شداد) فكذا وقع في الأصول مولى ابن شداد قيل إنه خطأ، والصواب حذف لفظة ابن كما تقدم، والظاهر أنه صحيح فإن مولى شداد مولى لابنه وإذا أمكن تأويل ما صحت به الرواية لم يجز إبطالها لا سيما في هذا الذي قد قيل فيه هذه الأقوال والله أعلم.
قوله: (حدثنا عكرمة بن عمار حدثنا يحيى بن أبي كثير قال: حدثني أو حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن حدثنا سالم مولى المهري) هذا إسناد اجتمع فيه أربعة تابعيون يروي بعضهم عن بعض، فسالم وأبو سلمة ويحيى تابعيون معروفون، وعكرمة بن عمار أيضاً تابعي سمع الهرماس بن زياد الباهلي الصحابي رضي الله عنه، وفي سنن أبي داود التصريح بسماعه منه والله أعلم. وقوله: حدثني أو حدثنا فيه أحسن احتياط، وقد تقدم التنبيه على مثل هذا قريباً وسابقاً والله أعلم. قوله: (حدثني محمد بن حاتم وأبو معن الرقاشي) اسم أبي معن زيد بن يزيد وقد تقدم بيانه في أوائل كتاب الإيمان.
قوله: (كنت أنا مع عائشة) هكذا هو في الأصول المحققة التي ضبطها المتقنون أنا مع بالنون والميم بينهما ألف، ووقع في كثير من الأصول ولكثير من الرواة المشارقة والمغاربة أبايع عائشة بالباء الموحدة والياء المثناة من المبايعة، قال القاضي: الصواب هو الأول، قلت: وللثاني أيضاً وجه.
قوله: (عن هلال بن يساف عن أبي يحيى) أما يساف ففيه ثلاث لغات: فتح الياء وكسرها وإساف بكسر الهمزة قال صاحب المطالع: يقوله المحدثون بكسر الياء قال: وقال بعضهوم هو بفتح الياء لأنه لم يأت في كلام العرب كلمة أولها ياء مكسور إلا يسار لليد، قلت: والأشهر عند أهل اللغة إساف بالهمزة، وقد ذكره ابن السكيت وابن قتيبة وغيرهما فيما يغيره الناس ويلحنون فيه فقال: هو هلال بن اساف، وأما أبو يحيى فالأكثرون على أن اسمه مصدع بكسر الميم وإسكان الصاد وفتح الدال وبالعين المهملات. وقال يحيى بن معين: اسمه زياد الأعرج المعرقب الأنصاري والله أعلم. قوله: (فتوضؤوا وهم عجال) هو بكسر العين جمع عجلان وهو المستعجل كغضبان وغضاب.
قوله: (حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف ابن ماهك) أما أبو عوانة فتقدم أن اسمه الوضاح بن عبد الله. وأما أبو بشر فهو جعفر بن أبي وحشية. وأما ماهك فبفتح الهاء وهو غيره مصروف لأنه اسم عجمي علم. قوله: (وقد حضرت صلاة العصر) أي جاء وقت فعلها، ويقال حضرت بفتح الضاد وكسرها لغتان الفتح أشهر.
قوله: (يتوضؤون من المطهرة) قال العلماء: المطهرة كل إناء يتطهر به، وهي بكسر الميم وفتحها لغتان مشهورتان، وذكرهما ابن السكيت من كسر جعلها آلة، ومن فتحها جعلها موضعاً يفعل فيه. قوله صلى الله عليه وسلم: (ويل للعراقيب من النار) العراقيب جمع عرقوب بضم العين في المفرد وفتحها في الجمع، وهو العصبة التي فوق العقب، ومعنى ويل لهم هلكة وخيبة
*2* باب وجوب استيعاب جميع أجزاء محل الطهارة
*حدّثني سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ: حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحمّد بْنِ أَعْيَنَ: حَدّثَنَا مَعْقَلٌ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ أَنّ رَجُلاً تَوَضّأَ فَتَرَكَ مَوْضِعَ ظُفُرٍ عَلَى قَدَمِهِ، فَأَبْصَرَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "ارْجِعْ فَأَحْسِنْ وُضُوءَكَ" فَرَجَعَ ثُمّ صَلّى.
فيه (أن رجلاً توضأ موضع ظفر على ظهر قدمه فأبصره النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ارجع فأحسن وضوءك فرجع ثم صلى) في هذا الحديث أن من ترك جزأ يسيراً مما يجب تطهيره لا تصح طهارته وهذا متفق عليه، واختلفوا في المتيمم يترك بعض وجهه، فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا يصح كما لا يصح وضوءه. وعن أبي حنيفة ثلاثة روايات: إحداها إذا ترك أقل من النصف أجزأه. والثانية إذا ترك أقل من قدر الدرهم أجزأه. والثالثة إذا ترك الربع فما دونه أجزأه. وللجمهور أن يحتجوا بالقياس والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل على أن من ترك شيئاً من أعضاء طهارته جاهلاً لم تصح طهارته، وفيه تعليم الجاهل والرفق به، وقد استدل به جماعة على أن الواجب في الرجلين الغسل دون المسح، وستدل القاضي عياض رحمه الله تعالى وغيره بهذا الحديث على وجوب الموالاة في الوضوء لقوله صلى الله عليه وسلم: "أحسن وضوءك" ولم يقل اغسل الموضع الذي تركته، وهذا الاستدلال ضعيف أو باطل، فإن قوله صلى الله عليه وسلم: "أحسن وضوءك" محتمل للتتميم والاستئناف، وليس حمله على أحدهما أولى من الاَخر والله أعلم. وفي الظفر لغتان: أجودهما ظفر بضم الظاء والفاء على هذا، ويقال ظفر بكسر الظاء وإسكان الفاء وظفر بكسرهما وقرئ بهما في الشواذ وجمعه أظفار وجمع الجمع أظافير، ويقال في الواحد أيضاً أظفور والله أعلم
*2* باب خروج الخطايا مع ماء الوضوء
*حدّثنا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو الطّاهِرِ، وَاللّفْظُ لَهُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا تَوَضّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ (أَوِ الْمُؤْمِنُ) فَغَسَلَ وَجْهَهُ، خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ (أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ) فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ (أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ) فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَتْ كُلّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلاَهُ مَعَ الْمَاءِ (أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ) حَتّى يَخْرُجَ نَقِيّاً مِنَ الذّنُوبِ".
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ رِبْعِيَ الْقَيْسِيّ: حَدّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الْمَخزُومِيّ، عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ (وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ). حَدّثَنَا عْثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ حُمْرَانَ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ. حَتّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ".
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينه مع الماء أو على آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة كان بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب) أما قوله: المسلم أو المؤمن فهو شك من الراوي. وكذا قوله مع الماء أو مع آخر قطر الماء هو شك أيضاً، والمراد بالخطايا الصغائر دون الكبائر كما تقدم بيانه، وكما في الحديث الاَخر ما لم تغ 5 الكبائر. قال القاضي: والمراد بخروجها مع الماء المجاز والاستعارة في غفرانها لأنها ليست بأجسام فتخرج حقيقة والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل على الرافضة وإبطال لقولهم الواجب مسح الرجلين. وقوله صلى الله عليه وسلم: بطشتها يداه ومشتها رجلاه معنهاه اكتسبتها.
قوله: (حدثنا محمد بن معمر بن ربعي القيسي، حدثنا أبو هشام المخزومي) هكذا هو في جميع الأصول التي ببلادنا أبو هشام وهو الصواب، وكذا حكاه القاضي عياض رحمه الله تعالى عن بعض رواتهم قال: ووقع لأكثر الرواة أبو هاشم، قال: والصواب الأول واسمه المغيرة بن سلمة، وكان من الأخيار المتعبدين المتواضعين رضي الله تعالى عنه
*2* باب استحباب إطالة الغرة والتحجيل في الوضوء
*اعلم أن هذه الأحاديث مصرحة باستحباب تطويل الغرة والتحجيل: أما تطويل الغرة فقال أصحابنا: هو غسل شيء من مقدم الرأس وما يجاوز الوجه زائد على الجزء الذي يجب غسله لاستيقان كمال الوجه. وأما تطويل التحجيل فهو غسل ما فوق المرفقين والكعبين وهذا مستحب بلا خلاف بين أصحابنا. واختلفوا في قدر المستحب على أوجه: أحدها أنه يستحب الزيادة فوق المرفقين والكعبين من غير توقيت. والثاني يستحب إلى نصف العضد والساق. والثالث يستحب إلى المستحب إلى المنكبين والركبتين، وأحاديث الباب تقتضي هذا كله. وأما دعوى الإمام أبي الحسن بن بطال المالكي والقاضي عياض اتفاق العلماء على أنه لا يستحب الزيادة فوق المرفق والكعب فباطلة، وكيف تصح دعواهما وقد ثبت فعل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي هريرة رضي الله عنه وهو مذهبنا لا خلاف فيه عندنا كما ذكرناه، ولو خالف فيه مخالف كان محجوجاً بهذه السنن الصحيحة الصريحة. وأما احتجاجهما بقوله صلى الله عليه وسلم: "من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" فلا يصح لأن المراد من زاد في عدد المرات والله أعلم
حدّثني أَبُو كُرَيْبٍ مُحمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ وَ الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيّاءَ بْنِ دِينَارٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ. حَدّثَنِي عُمَارَةُ بْنُ غَزِيّةَ الأَنْصَارِيّ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ الله الْمُجْمِرِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضّأُ. فَغَسَلَ وَجْهَهُ فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ. ثُمّ غَسَلَ يَدَهُ الْيُمْنَىَ حَتّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ. ثُمّ يَدَهُ الْيُسْرَى حَتّى أَشْرَعَ فِي الْعَضُدِ. ثُمّ مَسَحَ رَأْسَهُ. ثُمّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُمْنَىَ حَتّى أَشْرَعَ فِي السّاقِ. ثُمّ غَسَلَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى حَتّى أَشْرَعَ فِي السّاقِ. ثُمّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَوَضّأُ. وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْتُمُ الْغُرّ الْمُحَجّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. مِنْ إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ. فَمَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ فَلْيُطِلْ غُرّتَهُ وَتَحْجِيلَهُ".
وحدّثني هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ: حَدّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ، عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّهُ رَأَى أَبَا هُرَيْرَةَ يَتَوَضّأُ. فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ حَتّى كَادَ يَبْلُغُ الْمَنْكِبَيْنِ. ثُمّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ حَتّى رَفَعَ إِلَى السّاقَيْنِ. ثُمّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّ أُمّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرّاً مُحَجّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ. فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرّتَهُ فَلْيَفْعَلْ".
حدّثنا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعاً عَنْ مَرْوَانَ الْفَزَارِيّ. قَالَ: ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدّثَنَا مَرْوَانُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ سَعْدِ بْنُ طَارِقٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ حَوْضِي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَة مِنْ عَدَنٍ. لَهُوَ أَشَدّ بَيَاضاً مِنَ الثّلْجِ، وَأَحْلَىَ مِنَ الْعَسَلِ بِاللّبَنِ، وَلاَنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النّجُومِ، وَإِنّي لأَصُدّ النّاسَ عَنْهُ كَمَا يَصُدّ الرّجُلُ إِبِلَ النّاسِ عَنْ حَوْضِهِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ. لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لأَحَدٍ غَيْرَكُمْ، تَرِدُونَ عَلَيّ غُرّاً مُحَجّلِينَ مِنْ أَثَرِ الْوُضُوءِ".
وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ وَ وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ (وَاللّفْظُ لِوَاصَلٍ) قَالاَ حَدّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "تَرِدُ عَلَيّ أُمّتِي الْحَوْضَ. وَأَنَا أَذودُ النّاسَ عَنْهُ كَمَا يَذُودُ الرّجُلُ إِبِلَ الرّجلِ عَنْ إِبِلِهِ" قَالُوا: يا نَبِيّ اللّهِ أَتَعْرَفُنَا؟! قَالَ "نَعمْ. لَكُمْ سِيمَاً لَيْستْ لاَِحَدٍ غَيْرِكُمْ. تَرِدُونَ عَلَيّ غُرَا مُحَجّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوَضُوءِ. وَلَيُصَدّنّ عَنّي طَائِفَةٌ مِنْكُمْ فَلاَ يَصِلُونَ. فَأَقُولُ: يَا رَبّ! هَؤُلاَءِ مِنْ أَصْحَابِي. فَيُجِيبُنِي مَلَكٌ فَيَقُولُ: وَهَلْ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ؟".
وحدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ طَارِقٍ، عَنْ رِبْعيّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ حَوْضِي لأَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنٍ. وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنّي لأَذُودُ عَنْهُ الرّجَالَ كَمَا يَذُودُ الرّجُلُ الإِبِلَ الْغَرِيبَةَ عَنْ حَوْضِهِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ! وَتَعْرِفُنَا؟ قَالَ: "نَعَمْ. تَرِدُونَ عَلَيّ غُرّاً مُحَجّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ. لَيْسَتْ لأَحَدٍ غَيْرِكُمْ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ. جَمِيعاً عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ. قَالَ ابْنُ أَيّوبَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ. أَخْبَرَنِي الْعَلاَءُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: "السّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ. وَإِنّا، إِنْ شَاءَ اللّهَ، بِكُمْ لاَحِقُونَ. وَدِدْتُ أَنّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا" قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: "أَنْتُمْ أَصْحَابِي. وَإِخْوَانُنَا الّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ". فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمّتِكَ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ أَنّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرّ مُحَجّلَةٌ. بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ. أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟" قَالُوا: بَلَىَ. يَا رَسُولَ اللّهِ! قَالَ: "فَإِنّهُمْ يَأْتُونَ غُرّاً مُحَجّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ. وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ. أَلاَ لَيُذَادَنّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضّالّ فَأُنَادِيهِمْ: أَلاَ هَلُمّ فَيُقَالَ: إِنّهُمْ قَدْ بَدّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقاً سُحْقاً".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ يَعْنِي الدّرَاوَرْدِيّ. ح وَحَدّثَنِي إِسْحَقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَاريّ: حَدّثَنَا مَعْنٌ: حَدّثَنَا مَالِكٌ جَمِيعاً عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدُ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ إِلَى المَقْبُرَةِ فَقَالَ: "السّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَار قَوْمٍ مُؤْمِنيِنَ. وَإِنّا، إِنّ شَاء اللّهُ، بِكُمْ لاَحِقُونَ" بِمِثْلِ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ. غَيْرَ أَنّ حَدِيثَ مَالِكٍ "فَلَيُذَادَنّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي".
قوله: (عن نعيم بن عبد الله المجمر) هو بضم الميم الأولى وإسكان الجيم وكسر الميم الثانية، ويقال المجمر بفتح الجيم وتشديد الميم الثانية المكسورة، وقيل له المجمر لأنه كان يجمر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يبخره، والمجمر صفة لعبد الله ويطلق على ابنه نعيم مجازاً والله أعلم. قوله: (أشرع في العضد وأشرع في الساق) معناه أدخل الغسل فيهما.
قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم الغر المحجلون يوم القيامة من آثار الوضوء) قال أهل اللغة: الغرة بياض في جبهة الفرس، والتحجيل بياض في يديها ورجليها، قال العلماء: سمي النور الذي يكون على مواضع الوضوء يوم القيامة غرة وتحجيلاً تشبيهاً بغرة الفرس والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (لكم سيما ليست لأحد من الأمم تردون علي غراً محجلين من أثر الوضوء) أما السيما فهي العلامة وهي مقصورة وممدودة لغتان، ويقال السيميا بياء بعد الميم مع المد، وقد استدل جماعة من أهل العلم بهذا الحديث على أن الوضوء من خصائص هذه الأمة زادها الله تعالى شرفاً. وقال آخرون: ليس الوضوء مختصاً وإنما الذي اختصت به هذه الأمة الغرة والتحجيل، واحتجوا بالحديث الاَخر: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي" وأجاب الأولون عن هذا بجوابين: أحدهما أنه حديث ضعيف معروف الضعف. والثاني لو صح احتمل أن يكون الأنبياء اختصت بالوضوء دون أممهم إلا هذه الأمة والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (وإني لأصد الناس عنه). وفي الرواية الأخرى: (وأنا أذود الناس عنه هما بمعنى أطرد وأمنعه. قوله صلى الله عليه وسلم: (فيجيبني ملك) هكذا هو في جميع الأصول فيجيبني بالباء الموحدة من الجواب، وكذا نقله القاضي عياض عن جميع الرواة إلا ابن أبي جعفر من رواتهم فإنه عنده فيجيئني بالهمز من المجيء، والأول أظهر والثاني وجه الله أعلم. قوله: (وهل تدري ما أحدثوا بعدك) وفي الرواية الأخرى: (قد بدلوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً) هذا مما اختلف العلماء في المراد به على أقوال: أحدها: أن المراد به المنافقون والمرتدون فيجوز أن يحشروا بالغرة والتحجيل فيناديهم النبيّ صلى الله عليه وسلم للسيما التي عليها فيقال: ليس هؤلاء مما وعدت بهم إن هؤلاء بدلوا بعدك أي لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم. والثاني: أن المراد من كان في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم ارتد بعده فيناديهم النبيّ صلى الله عليه وسلم وإن لم يكن عليهم سيما الوضوء لما كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم فيقال: ارتدوا بعدك. والثالث: أن المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام، وعلى هذا القول لا يقطع لهؤلاء الذين يذادون بالنار، بل يجوز أن يزادوا عقوبة لهم، ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب. قال أصحاب هذا القول: ولا يمتنع أن يكون لهم غرة وتحجيل، ويحتمل أن يكون كانوا في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم وبعده لكن عرفهم بالسيما. وقال الإمام الحافظ أبو عمرو بن عبد البر: كل من أحدث في الدين فهو من المطرودين عن الحوض كالخوارج والروافض وسائر أصحاب الأهواء. قال: وكذلك الظلمة المسرفون في جور وطمس الحق والمعلنون بالكبائر. قال: وكل هؤلاء يخاف عليهم أن يكونوا ممن عنوا بهذا الخبر والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده) فيه جواز الحلف بالله تعالى من غير استحلاف ولا ضرورة ودلائله كثيرة.
قوله: (سريج بن يونس) هو بالسين المهملة وبالجيم، وتقدم أن يونس بضم النون وكسرها وفتحها مع الهمز فيهن وتركه والله أعلم. قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى المقبرة فقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون) أما المقبرة فبضم الباء وفتحها وكسرها ثلاث لغات الكسر قليل، وأما دار قوم فهو بنصب دار، قال صاحب المطالع: هو منصوب على الاختصاص أو النداء المضاف والأول أظهر. قال: ويصح الخفض على البدل من الكاف والميم في عليكم، والمراد بالدار على هذين الوجهين الأخيرين الجماعة أو أهل الدار، وعلى الأول مثله أو المنزل. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" فأتى بالاستثناء مع أن الموت لا شك فيه، وللعلماء فيه أقوال أظهرها أنه ليس للشك ولكنه صلى الله عليه وسلم قاله للتبرك وامتثال أمر الله تعالى في قوله: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} والثاني حكاه الخطابي وغيره أنه عادة للمتكلم يحسن به كلامه. والثالث أن الاستثناء عائد إلى اللحوق في هذا المكان. وقيل معناه إذ شاء الله. وقيل أقوال أخر ضعيفة جداً تركتها لضعفها وعدم الحاجة إليها. منها قول من قال الاستثناء منقطع راجع إلى استصحاب الإيمان. وقول من قال: كان معه صلى الله عليه وسلم مؤمنون حقيقة، وآخرون يظن بهم النفاق فعاد الاستثناء إليهم، وهذان القولان وإن كانا مشهورين فيهما خطأ ظاهر والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال: بل أنتم أصحابي وإخواننا الذين لم يأتوا بعد) قال العلماء: في هذا الحديث جواز التمني لا سيما في الخير ولقاء الفضلاء وأهل الصلاح، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم وددت أنا قد رأينا إخواننا أي رأيناهم في الحياة الدنيا. قال القاضي عياض: وقيل المراد تمني لقائهم بعد الموت. قال الإمام الباجي قوله صلى الله عليه وسلم: بل أنتم أصحابي ليس نفياً لإخوتهم ولكن ذكر مرتبتهم الزائدة بالصحبة، فهؤلاء إخوة صحابة والذين لم يأتوا إخوة ليسوا بصحابة كما قال الله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة} قال القاضي عياض: ذهب أبو عمرو بن عبد البر في هذا الحديث وغيره من الأحاديث في فضل من يأتي آخر الزمان، إلى أنه قد يكون فيمن يأتي بعد الصحابة من هو أفضل ممن كان من جملة الصحابة، وأن قوله صلى الله عليه وسلم: "خيركم قرني" على الخصوص معناه خير الناس قرني أي السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ومن سلك مسلكهم، فهؤلاء أفضل الأمة وهم المرادون بالحديث، وأما من خلط في زمنه صلى الله عليه وسلم وإن رآه وصحبه أو لم يكن له سابقة ولا أثر في الدين فقد يكون في القرون التي تأتي بعد القرن الأول من يفضلهم على ما دلت عليه الاَثار. قال القاضي: وقد ذهب إلى هذا أيضاً غيره من المتكلمين على المعاني، قال: وذهب معظم العلماء إلى خلاف هذا، وأن من صحب النبي صلى الله عليه وسلم ورآه مرة من عمره وحصلت له مزية الصحبة أفضل من كل من يأتي بعد، فإن فضيلة الصحبة لا يعدلها عمل، قالوا: وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" هذا كلام القاضي والله أعلم. قوله: (لو أن رجلاً له خيل غر محجلة بين ظهري خيل دهم بهم) أما بين ظهري فمعناه بينهما وهو بفتح الظاء وإسكان الهاء، وأما الدهم فجمع أدهم وهو الأسود والدهمة السواد، وأما البهم فقيلالسود أيضاً، وقيل البهم الذي لا يخالط لونه لوناً سواه، سواء كان أسود أو أبيض أو أحمر، بل يكون لونه خالصاً، وهذا قول ابن السكيت وأبي حاتم السختياني وغيرهما. قوله صلى الله عليه وسلم: (وأنا فرطهم على الحوض) قال الهروي وغيره معناه. أنا أتقدهم على الحوض، يقال فرط القوم إذا تقدمهم ليرتاد لهم الماء ويهيء لهم الدلا والرشا. وفي هذا الحديث بشارة لهذه الأمة زادها الله تعالى شرفاً، فهنيئاً لمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه فرطه. قوله صلى الله عليه وسلم: (أناديهم ألا هلم) معناه تعالوا، قال أهل اللغة في هلم لغتان أفصحهما هلم للرجل والرجلين والمرأة والجماعة من الصنفين بصيغة واحدة، وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله تعالى: {هلم شهداءكم} والقائلين لإخوانهم هلم إلينا. واللغة الثانية هلم يا رجل، وهلما يا رجلان، وهلموا يا رجال، وللمرأة هلمي، وللمرأتان هلمتا، وللنسوة هلمن. قال ابن السكيت وغيره: الأولى أفصح كما قدمناه. قوله صلى الله عليه وسلم: (فأقول سحقاً سحقاً) هكذا هو في الروايات سحقاً سحقاً مرتين، ومعناه بعداً بعداً، والمكان السحيق البعيد، وفي سحقاً سحقاً لغتان قرئ بهما في السبع إسكان الحاء وضمها قرأ الكسائي بالضم والباقون بالإسكان ونصب على تقدير ألزمهم الله سحقاً أو سحقهم سحقاً
*2* باب تبليغ الحلية حيث يبلغ الوضوء
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا خَلَفٌ (يَعْنِي ابْنَ خَلِيْفَةَ) عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: كُنْتُ خَلْفَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَهُوَ يَتَوَضّأُ لِلصّلاَةِ. فَكَانَ يَمُدّ يَدَهُ حَتّى تَبْلُغَ إِبْطَهُ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! مَا هَذَا الْوُضُوءُ؟ فَقَالَ: يَا بَنِي فَرّوخَ! أَنْتُمْ هَهُنَا؟ لَوْ عَلِمْتُ أَنّكُمْ هَهُنَا مَا تَوَضّأْتُ هَذَا الْوُضُوءَ. سَمِعْتُ خَلِيلِي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَبْلُغُ الْحِلْيَةُ مِنَ الْمُؤْمِنِ حَيْثُ يَبْلُغُ الْوَضُوءُ".
قوله: (فقلت يا أبا هريرة ما هذا الوضوء؟ فقال: يا بني فروخ أنتم ههنا لو علمت أنكم ههنا ما توضأت هذا الوضوء، سمعت خليلي صلى الله عليه وسلم يقول: تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء) أما فروخ فبفتح الفاء وتشديد الراء وبالخاء المعجمة، قال صاحب العين: فروخ بلغنا أنه كان من ولد إبراهيم صلى الله عليه وسلم، من ولد كان بعد إسماعيل وإسحاق كثر نسله ونما عدده فولد العجم الذين هم في وسط البلاد. قال القاضي عياض: أراد أبو هريرة هنا الموالي وكان خطابه لأبي حازم. قال القاضي: وإنما أراد أبو هريرة بكلامه هذا أنه لا ينبغي لمن يقتدي به إذا ترخص في أمر لضرورة أو تشدد فيه لوسوسة أو لاعتقاده في ذلك مذهباً شذبه عن الناس أن يفعله بحضرة العامة الجهلة لئلا يترخصوا برخصته لغير ضرورة أو يعتقدوا أن ما تشدد فيه هو الفرض اللازم، هذا كلام القاضي والله أعلم
*2* باب فضل إِسباغ الوضوء على المكاره
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ حُجْرٍ، جَمِيعاً عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ. قَالَ ابّنُ أَيّوبَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ. أَخْبَرَنِي الْعَلاَءُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلاَ أَدُلّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو الله بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدّرَجَاتِ؟" قَالُوا: بَلَىَ. يَا رَسُولَ اللّهِ! قَالَ: "إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ علَى الْمَكَارِهِ. وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسْاجِدِ. وَانْتِظَارُ الصّلاَةِ بَعْدَ الصّلاَةِ. فَذَلِكُمُ الرّبَاطُ".
حدّثني إِسْحَقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيّ: حَدّثَنَا مَعْنٌ: حَدّثَنَا مَالِكٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، جَمِيعاً عَنِ الْعَلاَءِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بِهَذَا الاْسْنَادِ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ شُعْبَةُ ذِكْرُ الرّبَاطِ. وَفِي حَدِيثِ مَالِكٍ ثِنَتَيْنِ "فَذَلِكُمُ الرّبَاطُ. فَذَلِكُمُ الرّبَاطُ".
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا بلى يا رسول الله، قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط) قال القاضي عياض: محو الخطايا كناية عن غفرانها، قال: ويحتمل محوها من كتاب الحفظة ويكون دليلاً على غفرانها ورفع الدرجات إعلاء المنازل في الجنة، وإسباغ الوضوء تمامه، والمكاره تكون بشدة البرد وألم الجسم ونحو ذلك، وكثرة الخطا تكون ببعد الدار وكثرة التكرار، وانتظار الصلاة بعد الصلاة. قال القاضي أبو الوليد الباجي: هذا في المشتركتين من الصلوات في الوقت، وأما غيرهما فلم يكن من عمل الناس. وقوله: فذلكم الرباط أي الرباط المرغب فيه، وأصل الرباط الحبس على الشيء كأنه حبس نفسه على هذه الطاعة، قيل: ويحتمل أنه أفضل الرباط كما قيل: الجهاد جهاد النفس، ويحتمل أنه الرباط المتيسر الممكن أي أنه من أنواع الرباط، هذا آخر كلام القاضي وكله حسن إلا قول الباجي في انتظار الصلاة فإن فيه نظراً والله أعلم. قوله: (وفي حديث مالك ثنتين فذلكم الرباط فذلكم الرباط) هكذا هو في الأصول ثنتين وهو صحيح، ونصبه بتقدير فعل أي ذكر ثنتين أو كرر ثنتين، ثم أنه كذا وقع في رواية مسلم تكراره مرتين، وفي الموطأ ثلاث مرات: فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط. وأما حكمة تكراره فقيل للاهتمام به وتعظيم شأنه، وقيل كرره صلى الله عليه وسلم على عادته في تكرار الكلام ليفهم عنه والأول أظهر والله أعلم
*2* باب السواك
*قال أهل اللغة: السواك بكسر السين وهو يطلق على الفعل وعلى العود الذي يتسوك به وهو مذكر، قال الليث: وتؤنثه العرب أيضاً. قال الأزهري: هذا من عدد الليث أي من أغاليطه القبيحة. وذكر صاحب المحكم أنه يؤنث ويذكر، والسواك فعلك بالسواك، ويقال ساك فمه يسوكه سوكاً، فإن قلت: استاك لم يذكر الفم، وجمع السواك سوك بضمتين ككتاب وكتب. وذكر صاحب المحكم أنه يجوز أيضاً سؤك بالهمز، ثم قيل: إن السواك مأخوذ من ساك إذا دلك، وقيل من جاءت الإبل تساوك أي تتمايل هزالاً، وهو في اصطلاح العلماء استعمال عود أو نحوه في الأسنان لتذهب الصفرة وغيرها عنها والله أعلم. ثم إن السواك سنة ليس بواجب في حال من الأحوال لا في الصلاة ولا في غيرها بإجماع من يعتد به في الإجماع. وقد حكى الشيخ أبو حامد الإسفرايني إمام أصحابنا العراقيين عن داود الظاهري أنه أوجبه للصلاة. وحكاه الماوردي عن داود وقال: هو عنده واجب لو تركه لم تبطل صلاته. وحكي عن إسحاق بن راهويه أنه قال: هو واجب، فإن تركه عمداً بطلت صلاته. وقد أنكر أصحابنا المتأخرون على الشيخ أبي حامد وغيره نقل الوجوب عن داود وقالوا مذهبه أنه سنة كالجماعة، ولو صح إيجابه عن داود لم تضر مخالفته في انعقاد الإجماع على المختار الذي عليه المحققون والأكثرون. وأما إسحاق فلم يصح هذا المحكي عنه والله أعلم. ثم إن السواك مستحب في جميع الأوقات، ولكن في خمسة أوقات أشد استحباباً، أحدها: عند الصلاة سواء كان متطهراً بماء أو بتراب أو غير متطهر كمن لم يجد ماء ولا تراباً. بالثاني: عند الوضوء. الثالث: عند قراءة القرآن. الرابع: عند الاستيقاظ من النوم. الخامس: عند تغير الفم وتغيره يكون بأشياء: منها ترك الأكل والشرب، ومنها أكل ماله رائحة كريهة، ومنها طول السكوت، ومنها كثرة الكلام. ومذهب الشافعي أن السواك يكره للصائم بعد زوال الشمس لئلا يزيل رائحة الخلوف المستحبة، ويستحب أن يستاك بعود من أراك، وبأي شيء استاك مما يزيل التغير حصل السواك كالخرقة الخشنة والسعد والاشنان، وأما الأصبع فإن كانت لينة لم يحصل بها السواك، وإن كانت خشنة ففيها ثلاثة أوجه لأصحابنا المشهور لا تجزى، والثاني تجزى، والثالث تجزى إن لم يجد غيرها ولا تجزى إن وجد. والمستحب أن يستاك بعود متوسط لا شديد اليبس يجرح ولا رطب لا يزيل، والمستحب أن يستاك عرضاً ولا يستاك طولاً لئلا يدمي لحم أسنانه، فإن خالف واستاك طولاً حصل السواك مع الكراهة، ويستحب أن يمر السواك أيضاً على طرف أسنانه وكراسي أضراسه وسقف حلقه إمراراً لطيفاً، ويستحب أن يبدأ في سواكه بالجانب الأيمن من فيه، ولا بأس باستعمال سواك غيره بإذنه، ويستحب أن يعود الصبي السواك ليعتاده
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا: حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْلاَ أَنْ أَشُقّ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (وَفِي حَدِيثِ زُهَيْرٍ، عَلَى أُمّتِي) لأَمَرْتُهُمْ بِالسّوَاكِ عِنْدَ كُلّ صَلاَةٍ".
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ: حَدّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ. قُلْتُ: بِأَيّ شَيْءٍ كَانَ يَبْدَأُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ قَالَتْ: بِالسّوَاكِ.
وحدّثني أَبُو بَكْرٍ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيّ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ، عَنْ سُفْيَان، عَنِ الِمْقْدَامِ بْنِ شُرَيحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عن عائشة أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ بَدَأَ بِالسّوَاكِ.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ غَيْلاَنَ (وَهُوَ ابْنُ جَرِيرٍ الْمَعوَلِيّ) عَنْ أَبِي بُرَدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَطَرَفُ السّوَاكِ عَلَى لِسَانِهِ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ لِيَتَهَجّدَ، يَشُوصُ فَاهُ بِالسّوَاكِ.
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي وَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ. كِلاَهُمَا عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَامَ مِنْ اللّيْلِ. بِمِثْلِهِ. وَلَمْ يَقُولُوا: لِيتَهَجّدَ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ. وَ حُصَيْنٌ وَ الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ: أَنّ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسّوَاكِ.
حدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُسْلِمٍ: حَدّثَنَا أَبُو الْمُتَوَكّلِ أَن ابْنَ عَبّاسٍ حَدّثَهُ أَنّهُ بَاتَ عِنْدَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ. فَقَامَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ آخِرِ اللّيْلِ. ثُمّ خَرَجَ فَنَظَرَ إِلىَ السّمَاءِ. ثُمّ تَلاَ هَذِهِ الاَيَةَ فِي آلِ عِمْرَانَ: {إِنّ فِي خَلْقِ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللّيْلِ وَالنّهَارِ}، حَتّى بَلَغَ، {فَقِنَا عَذَابَ النّارِ} (آل عمران الاَيتان: 0 و 1) ثُمّ رَجَعَ إِلَى الْبَيْتِ فَتَسَوّكَ وَتَوَضّأَ. ثُمّ قَامَ فَصَلّى. ثُمّ اضْطَجَعَ. ثُمّ قَامَ فَخَرَجَ فَنَظَرَ إِلَى السّمَاءِ فَتَلاَ هَذِهِ الاَيَةَ. ثُمّ رَجَعَ فَتَسَوّكَ فَتَوَضّأَ. ثُمّ قَامَ فَصَلّى.
قوله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على المؤمنين أو على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة) فيه دليل على أن السواك ليس بواجب. قال الشافعي رحمه الله تعالى: لو كان واجباً لأمرهم به شق أو لم شق. قال جماعات من العلماء من الطوائف: فيه دليل على أن الأمر للوجوب وهو مذهب أكثر الفقهاء وجماعات من المتكلمين، وأصحاب الأصول قالوا: وجه الدلالة أنه مسنون بالاتفاق فدل على أن المتروك إيجابه، وهذا الاستدلال يحتاج في تمامه إلى دليل على أن السواك كان مسنوناً حالة قوله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم" وقال جماعة أيضاً: فيه دليل على أن المندوب ليس مأموراً به، وهذا فيه خلاف لأصحاب الأصول، ويقال في هذا الاستدلال ما قدمنا في الاستدلال على الوجوب والله أعلم. وفيه دليل على جواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم فيما لم يرد فيه نص من الله تعالى، وهذا مذهب أكثر الفقهاء وأصحاب الأصول وهو الصحيح المختار، وفيه بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الرفق بأمته صلى الله عليه وسلم، وفيه دليل على فضيلة السواك عند كل صلاة، وقد تقدم بيان وقت استحبابه.
قوله: (حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا حماد بن زيد عن غيلان وهو ابن جرير المعولي عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه) هذا الإسناد كله بصريون إلا أبا بردة فإنه كوفي، وأما أبو موسى الأشعري فكوفي بصري واسم أبي بردة عامر وقيل الحارث، والمعولي بفتح الميم وإسكان العين المهملة وفتح الواو منسوب إلى المعاول بطن من الأزهد، وهذا الذي ذكرته من ضبطه متفق عليه عند أهل العلم بهذا الفن وكلهم مصرحون به والله أعلم.
قوله: (إذا دخل بيته بدأ بالسواك) فيه بيان فضيلة السواك في جميع الأوقات وشدة الاهتمام به وتكراره والله أعلم.
قوله: (إذا قام ليتهجد يشوص فاه بالسواك) أما التهجد فهو الصلاة في الليل، ويقال هجاء الرجل إذا نام، وتهجد إذا خرج من الهجود وهو النوم بالصلاة، كما يقال: تحنث وتأثم وتحرج إذا اجتنب الحنث والإثم والحرج. وأما قوله: يشوص فاه بالسواك فهو بفتح الياء وضم الشين المعجمة وبالصاد المهملة، والشوص ذلك الأسنان بالسواك عرضاً، قاله ابن الأعرابي وإبراهيم الحربي وأبو سليمان الخطابي وآخرون، وقيل: هو الغسل قاله الهروي وغيره، وقيل: التنقية قاله أبو عبيد والداودي، وقيل: هو الحك قاله أبو عمرو بن عبد البر تأوله بعضهم أنه بأصبعه، فهذه أقوال الأئمة فيه وأكثرها متقاربة وأظهرها الأول وما في معناه والله أعلم.
قوله: (حدثنا أبو المتوكل أن ابن عباس حدثه) إلى آخره، هذا الحديث فيه فوائد كثيرة ويستنبط منه أحكام نفيسة، وقد ذكره مسلم رحمه الله تعالى هنا مختصراً، وقد بسط طرقه في كتاب الصلاة، وهناك نبسط شرحه وفوائده إن شاء الله تعالى، ونذكر هنا أحرفاً تتعلق بهذا القدر منه هنا، فاسم أبي المتوكل علي بن داود ويقال ابن داود البصري، وقوله: (فخرج فنظر إلى السماء ثم تلا هذه الاَية في آل عمران: {إن في خلق السموات والأرض} الاَيات) فيه أنه يستحب قراءتها عند الاستيقاظ في الليل مع النظر إلى السماء لما في ذلك من عظيم التدبر، وإذا تكرر نومه واستيقاظه وخروجه استحب تكريره قراءة هذه الاَيات كما ذكر في الحديث والله سبحانه وتعالى أعلم
*2* باب خصال الفطرة
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعاً، عَنْ سُفْيَانَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدّثَنَا ابْنُ عُيْيَنَةَ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ (أَوْ خَمْسٌ مِنَ الْفِطْرَةِ) الْخِتَانُ، وَالاِسْتِحْدَادُ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَقَصّ الشّارِبِ".
حدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرَمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ بْنِ الْمُسَيّبِ، عَن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الإِخْتِتانُ، وَالاستحْدَادُ، وَقَصّ الشّارِبِ، وَتَقْلِيمُ الأَظْفَارِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، كِلاَهُمَا عَنْ جَعْفَرٍ. قَالَ يَحْيَىَ: حَدّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: وُقّتَ لَنَا فِي قَصّ الشّارِبِ، وَتَقْلِيمِ الأَظْفَارِ، وَنَتْفِ الإِبِطِ، وَحَلْقِ الْعَانَةِ، أَنْ لاَ نَتْرُكَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ يَوْماً.
حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا يَحْيَىَ (يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ). ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي. جَمِيعاً عَنْ عُبَيْدُ اللّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَحْفُوا الشّوَارِبَ وَأَعْفُوا اللّحَىَ".
وحدّثناه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ أَمَرَ بِإِحْفَاءِ الشّوَارِبِ وَإِعْفَاءِ اللّحْيَةِ.
حدّثنا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ. حَدّثَنَا يَزِيِدُ بْنِ زُرَيْعٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحمّدٍ حَدّثَنَا نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ. أَحْفُوا الشّوَارِبَ وَأَوْفُوا اللّحَىَ".
حدّثني أَبُو بَكْرٍ بْنُ إِسْحَقَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ. أَخْبَرَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. أَخْبَرَنِي الْعَلاَءُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ يَعْقُوبَ، مَوْلَى الْحُرَقَةِ ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "جُزّوا الشّوَارِبَ وَأَرْخُوا اللّحَىَ. خَالِفُوا الْمَجُوسَ".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ زَكَرِيّاءَ بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ، عَنْ طَلَقِ بْنِ حَبِيبٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَشْرٌ مِنَ الْفِطْرَةِ: قَصّ الشّارِبِ، وَإِعْفَاءُ اللّحْيَةِ، وَالسّوَاكُ، وَاسْتِنْشَاقُ الْمَاءِ، وَقَصّ الأَظْفَارِ، وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ، وَنَتْفُ الإِبِطِ، وَحَلْقُ الْعَانَةِ، وَانْتِقَاصُ الْمَاءِ".
قَالَ زَكَرُيّاءُ: قَالَ مُصْعَبٌ: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ. إِلاّ أَنْ تَكُونَ الْمَضْمَضَةَ.
زَادَ قُتَيْبَةُ: قَالَ وَكِيعٌ: انْتِقَاصُ الْمَاءِ يَعْنِي الاستنْجَاءَ..
وحدّثناه أَبُو كُرَيْبٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ شَيْبَةَ فِي هَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: قَالَ أَبُوهُ: وَنَسِيتُ الْعَاشِرَةَ.
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (الفطرة خمس أو خمس من الفطرة) هذا شك من الراوي هل قال الأول أو الثاني؟ وقد جزم في الرواية الثانية فقال: الفطرة خمس، ثم فسر صلى الله عليه وسلم الخمس فقال: (الختان والاستحداد وتقليم الأظفار ونتف الإبط وقص الشارب). وفي الحديث الاَخر: (عشر من الفطرة: قص الشارب وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء، قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة). أما قوله صلى الله عليه وسلم: "الفطرة خمس" فمعناه خمس من الفطرة كما في الرواية الأخرى عشر من الفطرة وليست منحصرة في العشر، وقد أشار صلى الله عليه وسلم إلى عدم انحصارها فيها بقوله من الفطرة والله أعلم. وأما الفطرة فقد اختلف في المراد بها هنا فقال أبو سليمان الخطابي: ذهب أكثر العلماء إلى أنها السنة، وكذا ذكره جماعة غير الخطابي قالوا: ومعناه أنها من سنن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وقيل هي الدين، ثم إن معظم هذه الخصال ليست بواجبة عند العلماء، وفي بعضها خلاف في وجوبه كالختان والمضمضة والاستنشاق، ولا يمتنع قرن الواجب بغيره كما قال الله تعالى: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده} والإيتاء واجب والأكل ليس بواجب والله أعلم. أما تفصيلها فالختان واجب عند الشافعي وكثير من العلماء وسنة عند مالك وأكثر العلماء، وهو عند الشافعي واجب على الرجال والنساء جميعاً، ثم أن الواجب في الرجل أن يقطع جميع الجلدة التي تغطي الحشفة حتى ينكشف جميع الحشفة، وفي المرأة يجب قطع أدنى جزء من الجلدة التي في أعلى الفرج، والصحيح من مذهبنا الذي عليه جمهور أصحابنا أن الختان جائز في حال الصغر ليس بواجب، ولنا وجه أنه يجب على الولي أن يختن الصغير قبل بلوغه، ووجه أنه يحرم ختانه قبل عشر سنين. وإذا قلنا بالصحيح استحب أن يختن في اليوم السابع من ولادته، وهل يحسب يوم الولادة من السبع أم تكون سبعة سواه فيه وجهان أظهرهما يحسب. واختلف أصحابنا في الخنثى المشكل فقيل يجب ختانه في فرجيه بعد البلوغ، وقيل لا يجوز حتى يتبين وهو الأظهر، وأما من له ذكران فإن كانا عاملين وجب ختانهما، وإن كان أحدهما عاملاً دون الاَخر ختن العامل، وفيما يعتبر العمل به وجهان: قوله: أحدهما: بالبول والاَخر بالجماع، ولو مات إنسان غير مختون ففيه ثلاثة أوجه لأصحابنا الصحيح المشهور أنه لا يختن صغيراً كان أو كبيراً. والثاني يختن الكبير دون الصغير والله أعلم. وأما الاستحداد فهو حلق العانة سمي استحداداً لاستعمال الحديدة وهي الموسى وهو سنة والمراد به نظافة ذلك الموضع والأفضل في الحلق، ويجوز بالقص والنتف والنورة، والمراد بالعانة الشعر الذي فوق ذكر الرجل وحواليه، وكذاك الشعر الذي حوالي فرج المرأة. ونقل عن أبي العباس بن سريج أنه الشعر النابت حول حلقة الدبر، فيحصل من مجموع هذا استحباب حلق جميع ما على القبل والدبر وحولهما. وأما وقت حلقه فالمختار أنه يضبط بالحاجة وطوله فإذا طال حلق، وكذلك الضبط في قص الشارب ونتف الإبط وتقليم الأظفار.
وأما حديث أنس المذكور في الكتاب (وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا يترك أكثر من أربعين ليلة) فمعناه لا يترك تركاً يتجاوز به أربعين لا أنهم وقت لهم الترك أربعين والله أعلم. وأما تقليم الأظفار فسنة ليس بواجب وهو تفعيل من القلم وهو القطع، ويستحب أن يبدأ باليدين قبل الرجلين، فيبدأ بمسبحة يده اليمنى ثم الوسطى ثم البنصر ثم الخنصر ثم الإبهام، ثم تعود إلى اليسرى فيبدأ بخنصرها ثم ببنصرها إلى آخرها، ثم يعود إلى الرجلين اليمنى فيبدأ بخنصرها ويختم بخنصر اليسرى والله أعلم. أما نتف الإبط فسنة بالاتفاق والأفضل فيه النتف لمن قوي عليه ويحصل أيضاً بالحلق وبالنورة. وحكى عن يونس بن عبد الأعلى قال: دخلت على الشافعي رحمه الله وعنده المزين يحلق إبطه فقال الشافعي: علمت أن السنة النتف ولكن لا أقوى على الوجع. ويستحب أن يبدأ بالإبط الأيمن. وأما قص الشارب فسنة أيضاً، ويستحب أن يبدأ بالجانب الأيمن، وهو مخير بين القص بنفسه وبين أن يولي ذلك غيره، لحصول المقصود من غير هتك مروؤة ولا حرمة بخلاف الإبط والعانة وأما حد ما يقصه فالمختار أنه يقص حتى يبدو طرف الشفة ولا يخفه من أصله. وأما روايات حفوا الشوارب فمعناها حفوا ما طال على الشفتين والله أعلم. وأما إعفاء اللحية فمعناه توفيرها وهو معنى أوفوا اللحى في الرواية الأخرى. وكان من عادة الفرس قص اللحية فنهى الشرع عن ذلك وقد ذكر العلماء في اللحية عشر خصال مكروهة بعضها أشد قبحاً من بعض: إحداها: خضابها بالسواد لا لغرض الجهاد. الثانية: خضابها بالصفرة تشبيهاً بالصالحين لا لاتباع السنة. الثالثة: تبييضها بالكبريت أو غيره استعجالاً للشيخوخة لأجل الرياسة والتعظيم وإيهام أنه من المشايخ. الرابعة: نتفها أو حلقها أول طلوعها إيثاراً للمرودة وحسن الصورة. الخامسة: نتف الشيب. السادسة: تصفيفها طاقة فوق طاقة تصنعاً ليستحسنه النساء وغيرهن. السابعة: الزيادة فيها والنقص منها بالزيادة في شعر العذر من الصدغين أو أخذ بعض العذار في حلق الرأس ونتف جانبي العنقة وغير ذلك. الثامنة: تسريحها تصنعاً لأجل الناس. التاسعة: تركها شعثة ملبدة إظهاراً للزهادة وقلة المبالاة بنفسه. العاشرة: النظر إلى سوادها وبياضها إعجاباً وخيلاء وغرة بالشباب وفخراً بالمشيب وتطاولاً على الشباب. الحادية عشر: عقدها وضفرها. الثانية عشر: حلقها إلا إذا نبت للمرأة لحية فيستحب لها حلقها والله أعلم.
وأما الاستنشاق فتقدم بيان صفته واختلاف العلماء في وجوبه واستحبابه. وأما غسل البراجم فسنة مستقلة ليست مختصة بالوضوء. والبراجم بفتح الباء وبالجيم جمع برجمة بضم الباء والجيم وهي عقد الأصابع ومفاصلها كلها. قال العلماء: ويلحق بالبراجم ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن وهو الصماخ فيزيله بالمسح لأنه ربما أضرت كثرته بالسمع، وكذلك ما يجتمع في داخل الأنف، وكذلك جميع الوسخ المجتمع على أي موضع كان من البدن بالعرق والغبار ونحوهما والله أعلم. وأما انتقاص الماء فهو بالقاف والصاد المهملة، وقد فسره وكيع في الكتاب بأنه الاستنجاء. وقال أبو عبيدة وغيره معناه انتقاص البول بسبب استعمال الماء في غسل مذاكيره. قيل هو الانتضاح. وقد جاء في رواية الانتضاح بدل انتقاص الماء. قال الجمهور: الانتضاح نضح الفرج بماء قليل بعد الوضوء لينفي عنه الوسواس. وقيل هو الاستنجاء بالماء. وذكر ابن الأثير أنه روى انتفاص الماء بالفاء والصاد المهملة. وقال في فصل الفاء: قيل الصواب أنه بالفاء، قال: والمراد نضحه على الذكر من قولهم لنضح الدم القليل نفصه وجمعها نفص، وهذا الذي نقله شاذ والصواب ما سبق والله أعلم. وأما قوله: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة فهذا شك منه فيها، قال القاضي عياض: ولعلها الختان المذكور مع الخمس وهو أولى والله أعلم. فهذا مختصر ما يتعلق بالفطرة، وقد أشبعت القول فيها بدلائلها وفروعها في شرح المهذب والله أعلم.
قوله عن جعفر بن سليمان عن أبي عمران الجوني عن أنس رضي الله عنه قال وقت لنا في قص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أن لا نترك أكثر من أربعين ليلة. قد تقدم بيانه وأن معناه أن لا نترك تركاً يتجاوز الأربعين. وقوله وقت لنا هو من الأحاديث المرفوعة مثل قوله أمرنا بكذا، وقد تقدم بيان هذا في الفصول المذكورة في أول هذا الكتاب. وقد جاء في غير صحيح مسلم: وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والله أعلم. قال القاضي عياض قال العقيلي: في حديث جعفر هذا نظر، قال: وقال أبو عمر يعني ابن عبد البر لم يروه إلا جعفر بن سليمان وليس بحجة لسوء حفظه وكثرة غلطه. قلت: وقد وثق كثير من الأئمة المتقدمين جعفر بن سليمان، ويكفي في توثيقه احتجاج مسلم به وقد تابعه غيره.
قوله صلى الله عليه وسلم: أحفوا الشوارب وأعفوا اللحى. وفي الرواية الأخرى وأوفوا اللحى هو بقطع الهمزة في أحفوا وأعفوا وأوفوا. وقال ابن دريد: يقال أيضاً حفا الرجل شاربه يحفوه حفواً إذا استأصل أخذ شعره، فعلى هذا تكون همزة حفوا همزة وصل. وقال غيره: عفوت الشعر وأعفيته لغتان، وقد تقدم بيان معنى إحفاء الشوارب وإعفاء اللحى. وأما أوفوا فهو بمعنى أعفوا أي اتركوها وافية كاملة لا تقصوها. قال ابن السكيت وغيره: يقال في جمع اللحية لحى ولحى بكسر اللام وبضمها لغتان الكسر أفصح.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: وأرخوا فهو أيضاً بقطع الهمزة وبالخاء المعجمة ومعناه اتركوها ولا تتعرضوا لها بتغيير. وذكر القاضي عياض أنه وقع في رواية الأكثرين كما ذكرنا. وأنه وقع عند ابن ماهان ارجوا بالجيم، قيل هو بمعنى الأول وأصله ارجؤا بالهمز فحذفت الهمزة تخفيفاً ومعناه أخروها واتركوها. وجاء في رواية البخاري: وفروا اللحى فحصل خمس روايات: أعفوا وأوفوا وأرخوا وارجوا ووفروا، ومعناها كلها تركها على حالها، هذا هو الظاهر من الحديث الذي تقتضيه ألفاظه، وهو الذي قاله جماعة من أصحابنا وغيرهم من العلماء. وقال القاضي عياض رحمه الله تعالى: يكره حلقها وقصها وتحريقها. وأما الأخذ من طولها وعرضها فحسن، وتكره الشهرة في تعظيمها كما تكره في قصها وجزها. قال: وقد اختلف السلف هل لذلك حد؟ فمنهم من لم يحدد شيئاً في ذلك إلا أنه لا يتركها لحد الشهرة ويأخذ منها، وكره مالك طولها جداً، ومنهم من حدد بما زاد على القبضة فيزال، ومنهم من كره الأخذ منها إلا في حج أو عمرة.
قال: وأما الشارب فذهب كثير من السلف إلى استئصاله وحلقه بظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "احفوا وانهكوا" وهو قول الكوفيين. وذهب كثير منهم إلى منع الحلق والاستئصال وقاله مالك، وكان يرى حلقه مثلة ويأمر بأدب فاعله، وكان يكره أن يؤخذ من أعلاه، ويذهب هؤلاء إلى أن الإحفاء والجز والقص بمعنى واحد، وهو الأخذ منه حتى يبدو طرف الشفة. وذهب بعض العلماء إلى التخيير بين الأمرين. هذا آخر كلام القاضي، والمختار ترك اللحية على حالها. وأن لا يتعرض لها بتقصير شيء أصلاً، والمختار في الشارب ترك الاستئصال والاقتصار على ما يبدو به طرف الشفة والله أعلم
*2* باب الاستطابة
*وهو مشتمل على النهي عن استقبال القبلة في الصحراء بغائط أو بول، وعن الاستنجاء باليمين، وعن مس الذكر باليمين، وعن التخلي في الطريق والظل، وعن الاقتصار على أقل من ثلاثة أحجار، وعن الاستنجاء بالرجيع والعظم، وعلى جواز الاستنجاء بالماء
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، وَ وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ (وَاللّفْظُ لَهُ) أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قِيلَ لَهُ: قَدْ عَلّمَكُمْ نَبِيّكُمْ صلى الله عليه وسلم كُلّ شَيْءٍ، حَتّى الْخِرَاءَةَ. قَالَ، فَقَالَ: أَجَلْ. لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أوَ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِاليَمِينَ، أَوْ أَنْ نسْتَنْجِيَ بِأَقَلّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ. أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ:حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ وَ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ لَنَا الْمُشْرِكُونَ: إِنّي أَرَى صَاحِبَكُمْ يُعَلّمُكُمْ. حَتّى يُعَلّمَكُمُ الْخِرَاءَةَ. فَقَالَ: أَجَلْ. إِنّهُ نَهَانَا أَنْ يَسْتَنْجِيَ أَحَدُنَا بِيَمِينِهِ. أَوْ يَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ. وَنَهَىَ عَنِ الرّوْثِ وَالْعِظَامِ. وَقَالَ: "لاَ يَسْتَنْجِي أَحَدُكُمْ بِدُونِ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ".
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ: حَدّثَنَا زَكَرِيّاءُ بْنُ إِسْحَقَ: حَدّثَنَا أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِراً يَقُولُ: نَهَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُتَمَسّحَ بِعَظْمٍ أَوْ بِبَعَرٍ.
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ قَالاَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. ح قَالَ: وَحَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ (وَاللّفْظُ لَهُ) قَالَ: قُلْتُ لِ سُفْيَانَ بْنِ عُيْيَنَة: سَمِعْتُ الزّهْرِيّ يَذْكُرُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللّيْثِيّ، عَنْ أَبِي أَيّوبَ، أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ فَلاَ تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ وَلاَ تَسْتَدْبِرُوهَا، بِبَوْلٍ وَلاَ غَائِطٍ. وَلَكِنْ شَرّقُوا أَوْ غَرّبُوا".
قَالَ أَبُو أَيّوبَ: فَقَدِمْنَا الشّامَ. فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ قَدْ بُنِيَتْ قِبَلَ الْقِبْلَةِ. فَنَنْحَرِفُ عَنْهَا وَنَسْتَغْفِرُ الله؟ قَالَ: نَعَمْ.
وحدّثنا أَحْمدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ خِرَاشٍ: حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْوَهّابِ: حَدّثَنَا يَزِيدُ (يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ) حَدّثَنَا رَوْحٌ عَنُ سُهَيْلٍ، عَنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عَلَى حَاجَتِهِ، فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يَسْتَدْبِرْهَا".
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ: حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ (يَعْنِي ابْنَ بِلاَلٍ) عَنْ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ مُحمّدِ بْنِ يَحْيَىَ، عَنْ عَمّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبّانَ قَالَ: كُنْتُ أُصَلّي فِي الْمَسْجِدِ. وَعَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ مُسْنِدٌ ظَهْرَهُ إِلَى الْقِبْلَةِ. فَلَمّا قَضَيْتُ صَلاَتِي انْصَرَفْتُ إِلَيْهِ مِنْ شِقّي. فَقَالَ عَبْدِ اللّهِ: يَقُولُ نَاسٌ: إِذَا قَعَدْتَ لِلْحَاجَةِ تَكُونُ لَكَ، فَلاَ تَقْعُدْ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَلاَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ عَبْدُ اللّهِ: وَلَقَدْ رَقِيتُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِداً عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَدْبِرَ الْكَعْبَةِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ، لِحَاجَتِهِ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ بِشْرٍ الْعَبْدِيّ. حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ مُحمّدِ بْنُ يَحْيَىَ بْنِ حَبّانَ، عَنْ عَمّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبّانَ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: رَقِيتُ عَلَى بَيْتِ أُخْتِي حَفْصَةَ. فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَاعِداً لِحَاجَتِهِ، مُسْتَقْبِلَ الشّامِ، مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ.
في الباب حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه (قيل له: قد علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيء حتى الخراءة، قال فقال: أجل لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو عظم).
وفيه حديث أبي أيوب. (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرقوا أو غربوا).
وفيه حديث أبي هريرة: (إذا جلس أحدكم على حاجته فلا يستقبلن القبلة ولا يستدبرها).
وفيه حديث ابن عمر: (قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً على لبنتين مستقبلاً بيت المقدس لحاجته). وفي رواية: (مستقبل الشام مستدبر القبلة). وفيه غير ذلك من الأحاديث. أما الخراءة فبكسر الخاء المعجمة وتخفيف الراء وبالمد، وهي اسم لهيئة الحدث. وأما نفس الحدث فبحذف التاء وبالمدمع فتح الخاء وكسرها. وقوله: أجل معناه نعم وهي بتخفيف اللام، ومراد سلمان رضي الله عنه أنه علمنا كل ما نحتاج إليه في ديننا حتى الخراءة التي ذكرت أيها القائل فإنه علمنا آدابها فنهانا فيها عن كذا وكذا والله أعلم. وقوله: نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول كذا ضبطناه في مسلم لغائط باللام، وروي في غيره بغائط وروي للغائط باللام والباء وهما بمعنى وأصل الغائط المطمئن من الأرض ثم صار عبارة عن الخارج المعروف من دبر الاَدمي. وأما النهي عن الاستقبال للقبلة بالبول والغائط فقد اختلف العلماء فيه على مذاهب، أحدها: مذهب مالك والشافعي رحمهما الله تعالى أنه يحرم استقبال القبلة في الصحراء بالبول والغائط ولا يحرم ذلك في البنيان، وهذا مروي عن العباس بن عبد المطلب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما والشعبي وإسحاق بن راهويه وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين رحمهم الله. والمذهب الثاني: أنه لا يجوز ذلك لا في البنيان ولا في الصحراء وهو قول أبي أيوب الأنصاري الصحابي رضي الله عنه ومجاهد وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأبي ثور وأحمد في رواية. والمذهب الثالث: جواز ذلك في البنيان والصحراء جميعاً وهو مذهب عروة بن الزبير وربيعة شيخ مالك رضي الله عنهم وداود الظاهري. والمذهب الرابع: لا يجوز الاستقبال لا في الصحراء ولا في البنيان ويجوز الاستدبار فيهما وهي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى. واحتج المانعون مطلقاً بالأحاديث الصحيحة الواردة في النهي مطلقاً كحديث سلمان المذكور وحديث أبي أيوب وأبي هريرة وغيرهما قالوا: ولأنه إنما منع لحرمة القبلة، وهذا المعنى موجود في البنيان والصحراء، ولأنه لو كان الحائل كافياً لجاز في الصحراء لأن بيننا وبين الكعبة جبالاً وأودية وغير ذلك من أنواع الحائل، واحتج من أباح مطلقاً بحديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الكتاب أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم مستقبلاً بيت المقدس مستدبر القبلة. وبحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم بلغه أن أناساً يكرهون استقبال القبلة بفروجهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوقد فعلوها حولوا بمقعدي أي إلى القبلة". رواه أحمد بن حنبل في مسنده وابن ماجه وإسناده حسن، واحتج من أباح الاستدبار دون الاستقبال بحديث سلمان، واحتج من حرم الاستقبال والاستدبرا في الصحراء، وأباحهما في البنيان بحديث ابن عمر رضي الله عنهما المذكور في الكتاب، وبحديث عائشة الذي ذكرناه. وفي حديث جابر قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة ببول فرأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها). رواه أبو داود والترمذي وغيرهما وإسناده حسن. وبحديث مروان الأصغر قال: (رأيت ابن عمر رضي الله عنهما أناخ راحلته مستقبل القبلة ثم جلس يبول إليها فقلت: يا أبا عبد الرحمن أليس قد نهي عن هذا؟ فقال: بلى إنما نهى عن ذلك في الفضاء فإذا كان بينك وبين القبلة شيء يسترك فلا بأس). رواه أبو داود وغيره. فهذه أحاديث صحيحة مصرحة بالجواز في البنيان، وحديث أبي أيوب وسلمان وأبي هريرة وغيرهم وردت بالنهي فيحمل على الصحراء ليجمع بين الأحاديث، ولا خلاف بين العلماء أنه إذا أمكن الجمع بين الأحاديث لا يصار إلى ترك بعضها، بل يجب الجمع بينها والعمل بجميعها، وقد أمكن الجمع على ما ذكرناه، فوجب المصير إليه، وفرقوا بين الصحراء والبنيان من حيث المعنى بأنه يلحقه المشقة في البنيان في تكليفه ترك القبلة بخلاف الصحراء. وأما من أباح الاستدبار فيحتج على رد مذهبه بالأحاديث الصحيحة المصرحة بالنهى عن الاستقبال والاستدبار جميعاً كحديث أبي أيوب وغيره والله أعلم.
فرع) في مسائل تتعلق باستقبال القبلة لقضاء الحاجة على مذهب الشافعي رضي الله عنه. إحداها: المختار عند أصحابنا أنه إنما يجوز الاستقبال والاستدبار في البنيان إذا كان قريباً من ساتر من جدران ونحوها من حيث يكون بينه وبينه ثلاثة أذرع فما دونها، وبشرط آخر وهو أن يكون الحائل مرتفعاً بحيث يستر أسافل الإنسان وقدروه باخرة الرحل وهي نحو ثلثي ذراع فإن زاد ما بينه وبينه على ثلاثة أذرع أو قصر الحائل عن اخرة الرحل فهو حرام كالصحراء، إلا إذا كان في بيت بني لذلك فلا حجر فيه كيف كان، قالوا: ولو كان في الصحراء وتستر بشيء على الشرط المذكور زال التحريم، فالاعتبار بوجود الساتر المذكور وعدمه، فيحل في الصحراء والبنيان بوجوده، ويحرم فيهما لعدمه، هذا هو الصحيح المشهور عند أصحابنا، ومن أصحابنا من اعتبر الصحراء والبنيان مطلقاً، ولم يعتبر الحائل، فأباح في البنيان بكل حال وحرم في الصحراء بكل حال، والصحيح الأول، وفرعوا عليه فقالوا: لا فرق بين أن يكون الساتر دابة أو جداراً أو وهدة أو كثيب رمل أو جبلاً ولو أرخى ذيله في قبالة القبلة، ففي حصول الستر وجهان لأصحابنا أصحهما عندهم وأشهرهما أنه ساتر لحصول الحائل والله أعلم. المسألة الثانية: حيث جوزنا الاستقبال والاستدبار. قال جماعة من أصحابنا: هو مكروه ولم يذكر الجمهور الكراهة، والمختار أنه لو كان عليه مشقة في تكلف التحرف عن القبلة فلا كراهة، وإن لم تكن مشقة فالأولى تجنبه للخروج من خلاف العلماء، ولا تطلق عليه الكراهة للأحاديث الصحيحة فيه. المسألة الثالثة: يجوز الجماع مستقبل القبلة في الصحراء والنبيان، هذا مذهبنا ومذهب أبي حنيفة وأحمد وداود الظاهري، واختلف فيه أصحاب مالك فجوزه ابن القاسم وكرهه ابن حبيب والصواب الجواز، فإن التحريم إنما يثبت بالشرع ولم يرد فيه نهى والله أعلم. المسألة الرابعة: لا يحرم استقبال المقدس ولا استدباره بالبول والغائط لكن يكره. المسألة الخامسة: إذا تجنب استقبال القبلة واستدبارها حال خروج البول والغائط ثم أراد الاستقبال أو الاستدبار حال الاستنجاء جاز والله أعلم. قوله: (وأن لا يستنجي باليمين) هو من أدب الاستنجاء، وقد أجمع العلماء على أنه منهي عن الاستنجاء باليمين، ثم الجماهير على أنه نهي تنزيه وأدب لا نهي تحريم. وذهب بعض أهل الظاهر إلى أنه حرام، وأشار إلى تحريمه جماعة من أصحابنا ولا تعويل على إشارتهم، قال أصحابنا: ويستحب أن لا يستعين باليد اليمنى في شيء من أمور الاستنجاء إلا لعذر، فإذا استنجى بماء صبه باليمنى ومسح باليسرى، وإذا استنجى بحجر فإن كان في الدبر مسح بيساره، وإن كان في القبل وأمكنه وضع الحجر على الأرض أو بين قدميه بحيث يتأتى مسحه أمسك الذكر بيساره ومسحه على الحجر، فإن لم يمكنه ذلك واضطر إلى حمل الحجر حمله بيمينه وأمسك الذكر بيساره ومسح بها ولا يحرك اليمنى، هذا هو الصواب. وقال بعض أصحابنا: يأخذ الذكر بيمينه والحجر بيساره ويمسح ويحرك اليسرى وهذا ليس بصحيح لأنه يمس الذكر بيمينه بغير ضرورة وقد نهى عنه والله أعلم. ثم إن في النهي عن الاستنجاء باليمين تنبيهاً على إكرامها وصيانتها عن الأقذار ونحوها، وسنوضح هذه القاعدة قريباً في أواخر الباب إن شاء الله تعالى والله أعلم. قوله: (أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار) هذا نص صريح صحيح في أن الاستيفاء ثلاث مسحات واجب لا بد منه، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، فمذهبنا أنه لا بد في الاستنجاء بالحجر من إزالة عين النجاسة واستيفاء ثلاث مسحات، فلو مسح مرة أو مرتين فزالت عين النجاسة وجب مسحه ثالثة، وبهذا قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وأبو ثور. وقال مالك وداود: الواجب الانقاء فإن حصل بحجر أجزأه وهو وجه لبعض أصحابنا، والمعروف من مذهبنا ما قدمناه. قال أصحابنا: ولو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف مسح بكل حرف مسحة أجزأه، لأن المراد المسحات، والأحجار الثلاثة أفضل من حجر له ثلاثة أحرف، ولو استنجى في القبل والدبر وجب ست مسحات لكل واحد ثلاث مسحات والأفضل أن يكون بستة أحجار، فإن اقتصر على حجر واحد له ستة أحرف أجزأه، وكذلك الخرقة الصفيقة التي إذا مسح بها لا يصل البلل إلى الجانب الاَخر يجوز أن يمسح بجانبها والله أعلم. قال أصحابنا: وإذا حصل الانقاء بثلاثة أحجار فلا زيادة عليها، فإن لم يحصل بثلاثة وجب رابع، فإن حصل الانقاء به لم تجب الزيادة، ولكن يستحب الإيتار بخامس فإن لم يحصل بالأربعة وجب خامس، فإن حصل به فلا زيادة، وهكذا فيما زاد متى حصل الإنقاء بوتر فلا زيادة وإلا وجب الانقاء واستحب الإيتار والله أعلم. وأما نصه صلى الله عليه وسلم على الأحجار فقد تعلق به بعض أهل الظاهر وقالوا: الحجر متعين لا يجزئ غيره.
وذهب العلماء كافة من الطوائف فكلها إلى أن الحجر ليس متعيناً بل تقوم الخرق والخشب وغير ذلك مقامه، وأن المعنى فيه كونه مزيلاً وهذا يحصل بغير الحجر، وإنما قال صلى الله عليه وسلم ثلاثة أحجار لكونها الغالب المتيسر فلا يكون له مفهوم كما في قوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} ونظائره، ويدل على عدم تعيين الحجر نهيه صلى الله عليه وسلم عن العظام والبعر والرجيع، ولو كان الحجر متعيناً لنهى عما سواه مطلقاً. قال أصحابنا: والذي يقوم مقام الحجر كل جامد طاهر مزيل للعين ليس له حرمة ولا هو جزء من حيوان، قالوا: ولا يشترط اتحاد جنسه فيجوز في القبل أحجار وفي الدبر خرق، ويجوز في أحدهما حجر مع خرقتين أو مع خرقة وخشبة ونحو ذلك والله أعلم. قوله: (أو أن نستنجي برجيع أو عظم) فيه النهي عن الاستنجاء بالنجاسة، ونبه صلى الله عليه وسلم بالرجيع على جنس الجنس، فإن الرجيع هو الروث، وأما العظم فلكونه طعاماً للجن، فنبه على جميع المطعومات وتلتحق به المحترمات كأجزاء الحيوان وأوراق كتب العلم وغير ذلك. ولا فرق في النجس بين المائع والجامد، فإن استنجى بنجس لم يصح استنجاؤه ووجب عليه بعد ذلك الاستنجاء بالماء ولا يجزئه الحجر لأن الموضع صار نجساً بنجاسة أجنبية، ولو استنجى بمطعوم أو غيره من المحترمات الطاهرة فالأصل أنه لا يصح استنجاؤه، ولكن يجزئه الحجر بعد ذلك إن لم يكن نقل النجاسة من موضعها، وقيل: إن استنجاءه الأول يجزئه مع المعصية والله أعلم.
قوله: (عن سلمان رضي الله عنه قال: قال لنا المشركون: إني أرى صاحبكم) هكذا هو في الأصول وهو صحيح تقديره قال لنا قائل المشركين، أو أنه أراد واحداً من المشركين وجمعه لكون باقيهم يوافقونه.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ولكن شرقوا أو غربوا) قال العلماء: هذا خطاب لأهل المدينة ومن في معناهم بحيث إذا شرق أو غرب لا يستقبل الكعبة ولا يستدبرها. قوله: (فوجدنا مراحيض) هو بفتح الميم والحاء المهملة والضاد المعجمة جمع مرحاض بكسر الميم وهو بيت المتخذ لقضاء حاجة الإنسان أي للتغوط. قوله: (فننحرف عنها) بالنونين معناه نحرص على اجتنابها بالميل عنها بحسب قدرتنا. قوله: (قال نعم) هو جواب لقوله أولاً: قلت لسفيان بن عيينة سمعت الزهري يذكره عن عطاء.
قوله: (وحدثنا أحمد بن الحسن بن خراش، حدثنا عمر بن عبد الوهاب، حدثنا يزيد يعني ابن زريع، حدثنا روح عن سهيل عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هرير رضي الله عنه) قال الدارقطني: هذا غير محفوظ عن سهيل، وإنما هو حديث ابن عجلان حدث به عن روح وغيره. وقال أبو الفضل حفيد أبي سعيد الهروي: الخطأ فيه من عمر بن عبد الوهاب لأنه حديث يعرف بمحمد بن عجلان عن القعقاع، وليس لسهيل في هذا الإسناد ذكر رواه أمية بن بسطام عن يزيد بن زريع على الصواب عن روح عن ابن عجلان عن القعقاع عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم بطوله. وحديث عمر بن عبد الوهاب مختصر. قلت: ومثل هذا لا يظهر قدمه فإنه محمول على أن سهيلاً وابن عجلان سمعناه جميعاً واشتهرت روايته عن ابن عجلان وقلت عن سهيل، ولم يذكره أبو داود والنسائي وابن ماجه إلا من جهة ابن عجلان، فرواه أبو داود عن ابن المبارك عن ابن عجلان عن القعقاع، والنسائي عن يحيى بن عجلان، وابن ماجه عن سفيان بن عيينة، والمغيرة بن عبد الرحمن وعبد الله بن رجاء المكي ثلاثتهم عن ابن عجلان والله أعلم. وأحمد بن خراش المذكور بالخاء المعجمة. قوله: (عن حبان) هو بفتح الحاء وبالباء الموحدة. قوله: (لقد رقيت على ظهر بيت فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً على لبنتين يستقبل بيت المقدس) أما رقيت فبكسر القاف ومعناه صعدت هذه اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى صاحب المطالع لغتين أخرتين: إحداهما بفتح القاف بغير همزة، والثانية بفتحها مع الهمزة والله تعالى أعلم. وأما رؤيته فوقعت اتفاقاً بغير قصد لذلك. وأما اللبنة فمعروفة وهي بفتح اللام وكسر الباء، ويجوز إسكان الباء مع فتح اللام ومع كسرها، وكذا كل ما كان على هذا الوزن أعني مفتوح الأول مكسور الثاني يجوز فيه الأوجه الثلاثة ككتف، فإن كان ثانية أو ثالثة حرف حلق جاز فيه وجه رابع وهو كسر الأول والثاني كفخذ. وأما بيت المقدس فتقدم بيان لغاته واشتقاقه في أول باب الإسراء والله أعلم.
*2* باب النهي عن الاستنجاء باليمين
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيَ عَنْ هَمّامٍ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يُمْسِكَنّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ يَبُولُ. وَلاَ يَتَمَسّحْ مِنَ الْخَلاَءِ بِيَمِينِهِ. وَلاَ يَتَنَفّسْ فِي الإِنَاءِ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، عَنْ هِشَامٍ الدّسْتَوائِيّ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْخَلاَءَ فَلاَ يَمَسّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ".
حدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدّثَنَا الّثَقَفِيّ، عَنْ أَيّوبَ عَنْ يَحْيَىَ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم نَهَىَ أَنْ يَتَنَفّسَ فِي الإِنَاءِ. وَأَنْ يَمَسّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ. وَأَنْ يَسْتَطِيبَ بِيَمِينِهِ.
قوله: (حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن همام عن يحيى بن أبي كثير عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه). قال مسلم رحمه الله تعالى: (وحدثنا يحيى بن يحيى، أخبرنا وكيع عن هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن ابن أبي كثير عن ابن أبي قتادة عن أبيه) هكذا هو في الأصول التي رأيناها في الأول همام بالميم عن يحيى بن أبي كثير. وفي الثاني هشام بالشين، وأظن الأول تصحيفاً من بعض الناقلين عن مسلم، فإن البخاري والنسائي وغيرهما من الأئمة رووه عن هشام الدستوائي كما رواه مسلم في الطريق الثاني، وقد أوضح ما قلته الإمام الحافظ أبو محمد خلف الواسطي فقال: رواه مسلم عن يحيى بن يحيى عن عبد الرحمن بن مهدي عن هشام، وعن يحيى بن يحيى عن وكيع عن هشام عن يحيى بن أبي كثير، فصرح الإمام خلف بأن مسلماً رواه في الطريقين عن هشام الدستوائي، فدل هذا على أن هماماً بالميم تصحيف وقع في نسخنا ممن بعد مسلم والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يمسكن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول ولا يتمسح من الخلاء بيمينه) أما إمساك الذكر باليمين فمكروه كراهة تنزيه لا تحريم كما تقدم في الاستنجاء، وقد قدمنا هناك أنه لا يستعين باليمين في شيء من ذلك من الاستنجاء، وقد قدمنا ما يتعلق بهذا الفصل. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يتمسح من الخلاء بيمينه" فليس التقييد بالخلاء للاحتراز عن البول بل هما سواء، والخلاء بالمد هو الغائط والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا يتنفس في الإناء) معناه لا يتنفس في نفس الإناء، وأما التنفس ثلاثاً خارج الإناء فسنة معروفة. قال العلماء: والنهي عن التنفس في الإناء هو من طريق الأدب مخافة من تقذيره ونتنه وسقوط شيء من الفم والأنف فيه ونحو ذلك والله أعلم
*2* باب التيمن في الطهور وغيره
*وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّمِيمِيّ. أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ أَشْعَثَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: إِنْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَيُحِبّ التّيَمّنَ فِي طُهُورِهِ إِذَا تَطَهّرَ. وَفِي تَرَجّلِهِ إِذَا تَرَجّلَ. وَفِي انْتِعَالِهِ إِذَا انْتَعَلَ.
وحدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنِ الأَشْعَثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبّ التّيَمّنَ فِي شَأْنِهِ كُلّهِ. فِي نَعْلَيْهِ، وَتَرَجّلِهِ، وَطُهُورِهِ.
قولها: (كان صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في طهوره إذا تطهر، وفي ترجله إذا ترجل، وفي انتعاله إذا انتعل) هذه قاعدة مستمرة في الشرع، وهي إنما كان من باب التكريم والتشريف، كلبس الثوب والسراويل والخف ودخول المسجد والسواك والاكتحال وتقليم الأظفار وقص الشارب وترجيل الشعر وهو مشطه ونتف الإبط وحلق الرأس والسلام من الصلاة وغسل أعضاء الطهارة والخروج من الخلاء والأكل والشرب والمصافحة واستلام الحجر الأسود، وغير ذلك مما هو في معناه يستحب التيامن فيه. وأما ما كان بضده كدخول الخلاء والخروج من المسجد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثوب والساويل والخف وما أشبه ذلك فيستحب التياسر فيه، وذلك كله بكرامة اليمين وشرفها والله أعلم. وأجمع العلماء على أن تقديم اليمين على اليسار من اليدين والرجلين في الوضوء سنة لو خالفها فاته الفضل وصح وضوءه، وقالت الشيعة: هو واجب ولا اعتداد بخلاف الشيعة. واعلم أن الابتداء باليسار وإن كان مجزياً فهو مكروه نص عليه الشافعي وهو ظاهر، وقد ثبت في سنن أبي داود والترمذي وغيرهما بأسانيد حميدة عن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا لبستم أو توضأتم فابدؤوا بأيامنكم) فهذا نص في الأمر بتقديم اليمين ومخالفته مكروهة أو محرمة، وقد انعقد إجماع العلماء على أنها ليست محرمة فوجب أن تكون مكروهة. ثم اعلم أن من أعضاء الوضوء ما لا يستحب فيه التيامن وهو الأذنان والكفان والخدان بل يطهران دفعة واحدة، فإن تعذر ذلك كما في حق الأقطع ونحوه قدم اليمين والله أعلم.
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب التيمن في شأنه كله في نعله وترجله) هكذا وقع في بعض الأصول في نعله على إفراد النعل، وفي بعضها نعليه بزيادة ياء التثنية وهما صحيحان أي في لبس نعليه أو في لبس نعله أي جنس النعل، ولم ير في شيء من نسخ بلادنا غير هذين الوجهين، وذكر الحميدي والحافظ عبد الحق في كتابهما الجمع بين الصحيحين في تنلعه بتاء مثناة. فوق ثم نون وتشديد العين، وكذا هو في روايات البخاري وغيره وكله صحيح، ووقع في روايات البخاري يحب التيمن ما استطاع في شأنه كله وذكر الحديث الخ. وفي قوله: ما استطاع إشارة إلى شدة المحافظة على التيمن والله أعلم
*2* باب النهي عن التخلي في الطرق والظلال
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ و ابْنُ حُجْرٍ. جَمِيعاً عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ. قَالَ ابْنُ أَيّوبَ: حدّثنا إِسْمَاعِيلُ: أَخْبَرَنِي الْعَلاَءُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "اتّقُوا اللّعّانَيْنِ" قَالُوا: وَمَا اللّعّانَانِ يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: "الّذِي يَتَخَلّى فِي طَرِيقِ النّاسِ أَوْ فِي ظِلّهِمْ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا اللعانين، قالوا: وما اللعانان يا رسول الله؟ قال: الذي يتخلى في طريق الناس أو في ظلهم) أما اللعانان فكذا وقع في مسلم، ووقع في رواية أبي داود: (اتقوا اللاعنين) والروايتان صحيحتان. قال الإمام أبو سليمان الخطابي: المراد باللاعنين الأمرين الجالبين للعن، الحاملين الناس عليه والداعيين إليه، وذلك أن من فعلهما شتم ولعن يعني عادة الناس لعنه، فلما صارا سبباً لذلك أضيف اللعن إليهما، قال: وقد يكون اللاعن بمعنى الملعون والملاعن مواضع اللعن، قلت: فعلى هذا يكون التقدير: اتقوا الأمرين الملعون فاعلهما، وهذا على رواية أبي داود. وأما رواية مسلم فمعناها والله أعلم: اتقوا فعل اللعانين أي صاحبي اللعن وهما اللذيان يلعنهما الناس في العادة والله أعلم. قال الخطابي وغيره من العلماء: المراد بالظل هنا مستظل الناس الذي اتخذوه مقيلاً ومناخاً ينزلونه ويقعدون فيه، وليس كل ظل يحرم القعود تحته، فقد قعد النبي صلى الله عليه وسلم تحت حايش النخل لحاجته وله ظل بلا شك والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الذي يتخلى في طريق الناس" فمعناه يتغوط في موضع يمر به الناس، وما نهى عنه في الظل والطريق لما فيه من إيذاء المسلمين بتنجيس من يمر به ونتنه واستقذاره والله أعلم
*2* باب الاستنجاء بالماء من التبرز
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ حَائِطاً، فَأَتَبَعَهُ غُلاَمٌ مَعَهُ مِيْضَأَةٌ، هُوَ أَصْغَرُنَا، فَوَضَعَهَا عِنْدَ سِدْرَةٍ، فَقَضَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَاجَتَهُ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا وَقَدِ اسْتَنْجَىَ بِالْمَاءِ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ وَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةُ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى (وَاللّفْظُ لَهُ) حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ أَنّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنُ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ الْخَلاَءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا، وَغُلاَمٌ نَحْوِي، إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ، وَعَنَزَةً فَيَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ.
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ أَبُو كُرَيْبٍ (وَاللّفْظُ لِزُهَيْرٍ): حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (يَعْنِي ابْنَ عُلَيّةَ): حَدّثَنِي رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَبَرّزُ لِحَاجَتِهِ، فَآتِيهِ بِالْمَاءِ، فَيَتَغَسّلُ بِهِ.
قوله: (دخل حائطاً وتبعه غلام معه ميضأة فوضعها عند سدرة فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجته فخرج علينا وقد استنجى بالماء).
وفي الرواية الأخرى (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل الخلاء فأحمل أنا وغلام نحوي اداوة من ماء وعنزة فيستنجي بالماء). وفي رواية أخرى: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبرز لحاجته فآتيه بالماء فيغتسل به) الميضأة بكسر الميم وبهمزة بعد الضاد المعجمة وهي الإناء الذي يتوضأ به كالركوة والإبريق وشبههما. وأما الحائط فهو البستان. وأما العنزة فبفتح العين والزاي وهي عصا طويلة في أسفلها زج ويقال رمح قصير، وإنما كان يستصحبها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان إذا توضأ صلى فيحتاج إلى نصبها بين يديه لتكون حائلاً يصلي إليه. وأما قوله يتبرز فمعناه يأتي البراز بفتح الباء وهو المكان الواسع الظاهر من الأرض ليخلو لحاجته ويستتر ويبعد عن أعين الناظرين. وأما قوله: فيغتسل به فمعناه يستنجي به ويغسل محل الاستنجاء والله أعلم. وأما فقه هذه الأحاديث ففيها استحباب التباعد لقضاء الحاجة عن الناس والاستتار عن أعين الناظرين، وفيها جواز استخدام الرجل الفاضل بعض أصحابه في حاجته، وفيها خدمة الصالحين وأهل الفضل والتبرك بذلك، وفيها جواز الاستنجاء بالماء واستحبابه ورجحانه على الاقتصار على الحجر، وقد اختلف الناس في هذه المسألة، فالذي عليه الجماهير من السلف والخلف وأجمع عليه أهل الفتوى من أئمة الأمصار أن الأفضل أن يجمع بين الماء والحجر، فيستعمل الحجر أولاً لتخف النجاسة وتقل مباشرتها بيده، ثم يستعمل الماء، فإن أراد الاقتصار على أحدهما جاز الاقتصار على أيهما شاء، سواء وجد الاَخر أو لم يجده، فيجوز الاقتصار على الحجر مع وجود الماء، ويجوز عكسه، فإن اقتصر على أحدهما فالماء أفضل من الحجر، لأن الماء يطهر المحل طهارة حقيقية، وأما الحجر فلا يطهره، وإنما يخفف النجاسة، ويبيح الصلاة مع النجاسة المعفو عنها، وبعض السلف ذهبوا إلى أن الأفضل هو الحجر، وربما أوهم كلام بعضهم أن الماء لا يجزئ. وقال ابن حبيب المالكي: لا يجزئ الحجر إلا لمن عدم الماء، وهذا خلاف ما عليه العلماء من السلف والخلف وخلاف ظواهر السنن المتظاهرة والله أعلم. وقد استدل بعض العلماء بهذه الأحاديث على أن المستحب أن يتوضأ من الأواني دون المشارع والبرك ونحوها، إذ لم ينقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الذي قاله غير مقبول ولم يوافق عليه أحد فيما نعلم. قال القاضي عياض: هذا الذي قاله هذا القائل لا أصل له، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم وجدها فعدل عنها إلى الأواني والله أعلم
*2* باب المسح على الخفين
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّمِيمِيّ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ، جَمِيعاً عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَوَكِيعٌ (وَاللّفْظُ لِيَحْيَىَ) قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنْ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمّامٍ قَالَ: بَالَ جَرِيرٌ. ثُمّ تَوَضّأَ، وَمَسَحَ عَلَى خُفّيْهِ. فَقِيلَ: تَفْعَلُ هَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَالَ، ثُمّ تَوَضّأَ ومَسَحَ عَلَى خُفّيْهِ.
قَالَ الأَعْمَشُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: كَانَ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ لأَنّ إِسْلاَمَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ.
وحدّثناه إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ و عَلِيّ بْنُ خَشْرَمٍ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا عِيِسَى بْنُ يُونِسَ. ح وَحَدّثَنَاهُ مُحمّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ. قَالَ: حَدّثَنَا سُفيَانُ. ح وَحَدّثَنَا مِنْجَابُ بْنُ الْحَارِثِ التّمِيمِيّ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مُسْهِرٍ، كُلُهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ فِي هَذَا الاْسْنَادِ، بِمَعْنَىَ حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ. غَيْرَ أَنّ فِي حَدِيثِ عِيسَىَ وَسُفْيَانَ: قَالَ: فَكَانَ أَصْحَابُ عَبْدِ اللّهِ يُعْجِبُهُمْ هَذَا الْحَدِيثُ لأَنّ إِسْلاَمَ جَرِيرٍ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ الْمَائِدَةِ.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّمِيمِيّ: أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَانْتَهَىَ إِلَى سُبَاطَةِ قَوْمٍ، فَبَالَ قَائِماً، فَتَنَحّيْتُ. فَقَالَ: "ادْنُهْ" فَدَنَوْت حَتّى قُمْتُ عِنْدَ عَقِبَيْهِ. فَتَوَضّأَ، فَمَسَحَ عَلَى خُفّيْهِ.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَىَ يُشَدّدُ فِي الْبَوْلِ. وَيَبُولُ فِي قَارُورَةٍ وَيَقُولُ: إِنّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ جِلْدَ أَحَدِهِمْ بَوْلٌ قَرَضَهُ بِالْمَقَارِيضِ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَوَدِدْتُ أَنّ صَاحِبَكُمْ لاَ يُشَدّدُ هَذَا التّشْدِيدَ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَنَا وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم نَتَمَاشَىَ، فَأَتَىَ سُبَاطَةً خَلْفَ حَائِطٍ. فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ، فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَيّ فَجِئْتُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتّى فَرَغَ.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ: أَخْبَرَنَا اللّيْثُ عَنْ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ الْمُغَيْرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَاتّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ، فَصَبّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَتَوَضّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفّيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ ابْنِ رُمْحٍ: (مَكَانَ حِينَ: حَتّى).
وحدّثناه مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَىَ بْنَ سَعِيدٍ، بِهَذَا الاْسْنَادِ. وَقَالَ: فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمّ مَسَحَ عَلَى الْخُفّيْنِ.
وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّمِيمِيّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَشْعَثَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ هِلاَلٍ، عَنْ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ، إِذْ نَزَلَ فَقَضَىَ حَاجَتَهُ، ثُمّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ مِنْ إِدَاوَةٍ كَانَتْ مَعِي، فَتَوَضّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفّيْهِ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ الْمُغِيرةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي سَفَرٍ. فَقَالَ: "يَا مُغِيرَةُ! خُذِ الإِدَاوَةَ" فَأَخَذْتُهَا، ثُمّ خَرَجْتُ مَعَهُ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَتّى تَوَارَى عَنّي، فَقَضىَ حَاجَتَهُ، ثُمّ جَاءَ وَعَلَيْهِ جُبّةٌ شَامِيّةٌ ضَيّقَةُ الْكُمّيْنِ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَهُ مِنْ كُمّهَا فَضَاقَتْ عَلَيْهِ فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ فَتَوَضّأَ وُضُوءَهُ لِلصّلاَةِ، ثُمّ مَسَحَ عَلَى خُفّيْهِ ثُمّ صَلّى.
وحدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ عَلِيّ بْنُ خَشْرَمٍ جَمِيعاً عَنْ عِيسَى بْنُ يُونُسَ. قَالَ إِسْحَقَ: أَخْبَرَنَا عِيسَىَ: حَدّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنِ الْمَغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِيَقْضِيَ حَاجَتَهُ، فَلَمّا رَجَعَ تَلَقّيْتُهُ بِالإِدَاوَةِ، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمّ غَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمّ ذَهَبَ لِيَغْسِلَ ذِرَاعَيْهِ فَضَاَقتِ الْجُبّةُ فَأَخْرَجَهُمَا مِنْ تَحْتِ الْجُبّةِ، فَغَسَلَهُمَا، وَمَسَحَ رَأْسَهُ وَمَسَحَ عَلَى خُفّيْهِ. ثُمّ صَلّى بِنَا.
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا زَكَرِيّاءُ، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَي عُرْوَةُ بْنُ الْمُغَيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي مَسِيرٍ، فَقَالَ لِي: "أَمَعَكَ مَاءٌ؟" قُلْتُ: نَعَمْ، فَنَزَلَ عَنْ رَاحِلَتِهِ، فَمَشَىَ حَتّى تَوَارَى فِي سَوَادِ اللّيْلِ، ثُمّ جَاءَ فَأَفْرَغْتُ عَلَيْهِ مِنَ الإِدَاوَةِ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ، وَعَلَيْهِ جُبّةٌ مِنْ صُوفٍ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يُخْرِجَ ذِرَاعَيْهِ مِنْهَا، حَتّى أَخْرَجَهُمَا مِنْ أَسْفَلِ الْجُبّةِ، فَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمّ أَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفّيْهِ فَقَالَ: "دَعْهُمَا، فَإِنّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ" وَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ: حَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ الشّعْبِيّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغْيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ وَضّأَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَتَوَضّأَ وَمَسَحَ عَلَى خُفّيْهِ، فَقَالَ لَهُ. فَقَالَ: "إِنّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ".
أجمع من يعتد به في الإجماع على جواز المسح على الخفين في السفر والحضر سواء كان لحاجة أو لغيرها، حتى يجوز للمرأة الملازمة بيتها والزمن الذي لا يمشي، وإنما أنكرته الشيعة والخوارج ولا يعتد بخلافهم. وقد روي عن مالك رحمه الله تعالى روايات فيه والمشهور من مذهبه كمذهب الجماهير، وقد روي المسح على الخفين خلائق لا يحصون من الصحابة. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين، وقد بينت أسماء جماعات كثيرين من الصحابة الذين رووه في شرح المهذب، وقد ذكرت فيه جملاً نفيسة مما يتعلق بذلك وبالله التوفيق. واختلف العلماء في أن المسح على الخفين أفضل أم غسل الرجلين؟ فذهب أصحابنا إلى أن الغسل أفضل لكونه الأصل، وذهب إليه جماعات من الصحابة منهم عمر بن الخطاب وابنه عبد الله وأبو أيوب الأنصاري رضي الله عنهم وذهب جماعات من التابعين إلى أن المسح أفضل، وذهب إليه الشعبي والحكم وحماد، وعن أحمد روايتان أصحهما المسح أفضل والثانية هما سواء، واختاره ابن المنذر والله أعلم. قوله: (كان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة) معناه أن الله تعالى قال في سورة المائدة: {فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم} فلو كان إسلام جرير متقدماً على نزول المائدة لاحتمل كون حديثه في مسح الخف منسوخاً بآية المائدة، فلما كان إسلامه متأخراً علمنا أن حديثه يعمل به، وهو مبين أن المراد بآية المائدة غير صاحب الخف فتكون السنة مخصصة للاَية والله أعلم. وروينا في سنن البيهقي عن إبراهيم بن أدهم قال: ما سمعت في المسح على الخفين أحسن من حديث جرير والله أعلم.
قوله: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائماً فتنحيت فقال ادنه فدنوت حتى قمت عند عقبيه فتوضأ فمسح على خفيه) أما السباطة فبضم السين المهملة وتخفيف الباء الموحدة وهي ملقى القمامة والتراب ونحوهما تكون بفناء الدور مرفقاً لأهلها، قال الخطابي: ويكون ذلك في الغالب سهلاً منثاً لا يحد فيه البول ولا يرتد على البائل، وأما سبب بوله صلى الله عليه وسلم قائماً فذكر العلماء فيه أوجهاً حكاها الخطابي والبيهقي وغيرهما من الأئمة أحدها قالا وهو مروي عن الشافعي: أن العرب كانت تستشفي لوجع الصلب بالبول قائماً، قال: فترى أنه كان به صلى الله عليه وسلم وجع الصلب إذ ذاك. والثاني أن سببه ما روي في رواية ضعيفة رواها البيهقي وغيره أنه صلى الله عليه وسلم بال قائماً لعلة بمأبضه، والمأبض بهمزة ساكنة بعد الميم ثم باء موحدة وهو باطن الركبة. والثالث أنه لم يجد مكاناً للقعود فاضطر إلى القيام لكون الطرف الذي من السباطة كان عالياً مرتفعاً. وذكر الإمام أبو عبد الله المازري والقاضي عياض رحمهما الله تعالى وجهاً رابعاً وهو أنه بال قائماً لكونها حالة يؤمن فيها خروج الحدث من السبيل الاَخر في الغالب بخلاف حالة القعود، ولذلك قال عمر: البول قائماً أحصن للدبر ويجوز وجه خامس أنه صلى الله عليه وسلم فعله للجواز في هذه المرة وكانت عادته المستمرة يبول قاعداً، ويدل عليه حديث عائشة رضي الله عنها قالت: "من حدثكم أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يبول قائماً فلا تصدقوا ما كان يبول إلا قاعداً" رواه أحمد بن حنبل والترمذي والنسائي وآخرون وإسناده جيد والله أعلم. وقد روي في النهي عن البول قائماً أحاديث لا تثبت، ولكن حديث عائشة هذا ثابت فلهذا قال العلماء: يكره البول قائماً إلا لعذر وهي كراهة تنزيه لا تحريم. قال ابن المنذر في الإشراق: اختلفوا في البول قائماً فثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وزيد بن ثابت وابن عمر وسهل بن سعد أنهم بالوا قياماً، قال: وروي ذلك عن أنس وعلي وأبي هريرة رضي الله عنهم، وفعل ذلك ابن سيرين وعروة بن الزبير، وكرهه ابن مسعود والشعبي وإبراهيم بن سعد، وكان إبراهيم بن سعد لا يجيز شهادة من بال قائماً. وفيه قول ثالث أنه إن كان في مكان يتطاير إليه من البول شيء فهو مكروه فإن كان لا يتطاير فلا بأس به وهذا قول مالك. قال ابن المنذر: البول جالساً أحب إلي وقائماً مباح، وكل ذلك ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا كلام ابن المنذر والله أعلم. وأما بوله صلى الله عليه وسلم في سباطة قوم فيحتمل أوجهاً أظهرها أنهم كانوا يؤثرون ذلك ولا يكرهونه بل يفرحون به، ومن كان هذا حاله جاز البول في أرضه والأكل من طعامه، ونظائر هذا في السنة أكثر من أن تحصى، وقد أشرنا إلى هذه القاعدة في كتاب الإيمان في حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: احتفزت كما يحتفز الثعلب. والوجه الثاني أنها لم تكن مختصة بهم بل كانت بفناء دورهم للناس كلهم فأضيفت إليهم لقربها منهم. والثالث أن يكونوا أذنوا لمن أراد قضاء الحاجة إما بصريح الإذن وإما بما في معناه والله أعلم. وأما بوله صلى الله عليه وسلم في السباطة التي بقرب الدور مع أن المعروف من عادته صلى الله عليه وسلم التباعد في المذهب فقد ذكر القاضي عياض رضي الله عنه أن سببه أنه صلى الله عليه وسلم كان من الشغل بأمور المسلمين والنظر في مصالحهم بالمحل المعروف، فلعله طال عليه مجلس حتى حفزه البول فلم يمكنه التباعد ولو أبعد لتضرر وارتاد السباطة لدمثها وأقام حذيفة بقربه ليستره عن الناس، وهذا الذي قاله القاضي حسن ظاهر والله أعلم. وأما قوله: فتنحيت فقال: ادنه فدنوت حتى قمت عند عقبيه قال العلماء: إنما استدناه صلى الله عليه وسلم ليستتر به عن أعين الناس وغيرهم من الناظرين لكونها حالة يستخفي بها ويستحيي منها في العادة، وكانت الحاجة التي يقضيها بولاً من قيام يؤمن معها خروج الحدث الاَخر والرائحة الكريهة فلهذا استدناه. وجاء في الحديث الاَخر لما أراد قضاء الحاجة قال: لكونه كان يقضيها قاعداً ويحتاج إلى الحدثين جميعاً فتحصل الرائحة الكريهة وما يتبعها، ولهذا قال بعض العلماء في هذا الحديث: من السنة القرب من البائل إذا كان قائماً فإذا كان قاعداً فالسنة الإبعاد عنه والله تعالى أعلم. واعلم أن هذا الحديث مشتمل على أنواع من الفوائد تقدم بسط أكثرها فيما ذكرناه ونشير إليها ههنا مختصرة، ففيه إثبات المسح على الخفين، وفيه جواز المسح في الحضر، وفيه جواز البول قائماً، وجواز قرب الإنسان من البائل، وفيه جواز طلب البائل من صاحبه الذي يدل عليه القرب منه ليستره، وفيه استحباب الستر، وفيه جواز البول بقرب الديار، وفيه غير ذلك والله أعلم.
قوله: (فقال حذيفة لوددت أن صاحبكم لا يشدد هذا التشديد فلقد رأيتني أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم نتماشى فأتى سباطة خلف حائط فقام كما يقوم أحدكم فبال) الخ، مقصود حذيفة أن هذا التشديد خلاف السنة، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم بال قائماً، ولا شك في كون القائم معرضاً للرشيش، ولم يلتفت النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هذا الاحتمال ولم يتكلف البول في قارورة كما فعل أبو موسى رضي الله عنه والله أعلم.
قوله: (أخبرنا الليث عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن إبراهيم عن نافع بن جبير عن عروة بن المغيرة عن أبيه المغيرة) هذا الإسناد فيه أربعة تابعيون يروي بعضهم عن بعض وهم: يحيى بن سعيد وهو الأنصاري وسعد ونافع وعروة، وقد تقدم أن ميم المغيرة تضم وتكسر والله أعلم. قوله: (عن عروة بن المغيرة عن أبيه المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج لحاجته فاتبعه المغيرة بإداوة فيها ماء فصب عليه حين فرغ من حاجته فتوضأ ومسح على الخفين) وفي رواية: حتى مكان حين. أما قوله: فاتبعه المغيرة فهو من كلام عروة عن أبيه وهذا كثير يقع مثله في الحديث فنقل الراوي عن الروي عنه لفظه عن نفسه بلفظ الغيبة. وأما الإداوة فهي والركوة والمطهرة والميضأة بمعنى متقارب وهو إناء الوضوء. وأما قوله: فصب عليه حين فرغ من حاجته فمعناه بعد انفصاله من موضع قضاء حاجته وانتقاله إلى موضع آخر فصب عليه في وضوئه. وأما رواية حتى فرغ فلعل معناها فصب عليه في وضوئه حتى فرغ من الوضوء فيكون المراد بالحاجة الوضوء. وقد جاء في الرواية الأخرى مبيناً أن صبه عليه كان بعد رجوعه من قضاء الحاجة والله أعلم. وفي هذا الحديث دليل على جواز الاستعانة في الوضوء، وقد ثبت أيضاً في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه صب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وضوئه حين انصرف من عرفة، وقد جاء في أحاديث ليست بثابتة النهي عن الاستعانة، قال أصحابنا: الاستعانة ثلاثة أقسام: أحدها: أن يستعين بغيره في إحضار الماء فلا كراهة فيه ولا نقص. والثاني: أن يستعين به في غسل الأعضاء ويباشر الأجنبي بنفسه غسل الأعضاء فهذا مكروه إلا لحاجة. والثالث: أن يصب عليه فهذا الأولى تركه، وهل يسمى مكروهاً فيه وجهان، قال أصحابنا وغيرهم: وإذا صب عليه وقف الصاب على يسار المتوضئ والله أعلم.
قوله: (فأخرجهما من تحت الجبة) فيه جواز مثل هذا للحاجة وفي الخلوة، وأما بين الناس فينبغي أن لا يفعل لغير حاجة لأن فيه إخلالاً بالمروءة.
قوله: (حدثني محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبي حدثنا زكرياء عن عامر قال: أخبرني عروة بن المغيرة عن أبيه) هذا الإسناد كله كوفيون. قوله صلى الله عليه وسلم: (فإني أدخلتهما طاهرتين) فيه دليل على أن المسح على الخفين لا يجوز إلا إذا لبسهما على طهارة كاملة بأن يفرغ من الوضوء بكماله ثم يلبسهما، لأن حقيقة إدخالهما طاهرتين أن تكون كل واحدة منهما أدخلت وهي طاهرة، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة، فمذهبنا أنه يشترط لبسهما على طهارة كاملة حتى لو غسل رجله اليمنى ثم لبس خفها وغسل اليسرى ثم لبس خفها لم يصح لبس اليمنى فلا بد من نزعها وإعادة لبسها، ولا يحتاج إلى نزع اليسرى لكونها ألبست بعد كمال الطهارة، وشذ بعض أصحابنا فأوجب نزع اليسرى أيضاً، وهذا الذي ذكرناه من اشتراط الطهارة في اللبس هو مذهب مالك وأحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري ويحيى بن آدم والمزني وأبو ثور وداود: يجوز اللبس على حدث ثم يكمل طهارته والله أعلم.
قوله: (وحدثني محمد بن حاتم حدثنا إسحاق بن منصور حدثنا عمر بن أبي زائدة عن الشعبي عن عروة بن المغيرة عن أبيه) قال الحافظ أبو علي النيسابوري: هكذا روي لنا عن مسلم إسناد هذا الحديث عن عمر بن أبي زائدة من جميع الطرق ليس بينه وبين الشعبي أحد، وذكر أبو مسعود أن مسلم بن الحجاج خرجه عن ابن حاتم عن إسحاق عن عمر بن أبي زائدة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي، وهكذا قال أبو بكر الجورقي في كتابه الكبير وذكر البخاري في تاريخه أن عمر بن أبي زائدة قد سمع من الشعبي، وأنه كان يبعث ابن أبي السفر وزكريا إلى الشعبي يسألانه، هذا آخر كلام أبي علي، قلت: وقد ذكر الحافظ أبو محمد خلف الواسطي في أطرافه أن مسلماً رواه عن ابن حاتم عن إسحاق عن عمر بن أبي زائدة عن الشعبي كما هو في الأصول ولم يذكر ابن أبي السفر والله أعلم
*2* باب المسح على الناصية والعمامة
*وحدّثني مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بَزِيعٍ حَدّثَنَا يَزِيدُ (يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعٍ) حَدّثَنَا حُمَيْدٌ الطّوِيلُ: حَدّثَنَا بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْمُزَنِيّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغَيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: تَخَلّفَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَخَلّفْتُ مَعَهُ، فَلَمّا قَضَىَ حَاجَتَهُ قَالَ: "أَمَعَكَ مَاءٌ؟" فَأَتَيْتُهُ بِمَطْهَرَةٍ، فَغَسَلَ كَفّيْهِ وَوَجْهَهُ، ثُمّ ذَهَبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِرَاعَيْهِ فَضَاقَ كُمّ الْجُبّة، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ تَحْتِ الْجُبّةِ، وَأَلْقَى الْجُبّةَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ. وَغَسَلَ ذِرَاعَيْهِ، وَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ وَعَلَى الْعِمَامَةِ وَعَلَى خُفّيْهِ، ثُمّ رَكِبَ وَرَكِبْتُ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَوْمِ وَقَدْ قَامُوا فِي الصّلاَةِ، يُصَلّي بِهِمْ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَقَدْ رَكَعَ بِهِمْ رَكْعَةً، فَلَمّا أَحَسّ بِالنّبِيّ صلى الله عليه وسلم ذَهَبَ يَتَأَخّرُ. فَأَوْمَأَ إِلَيْهِ، فَصَلّى بِهِمْ، فَلَمّا سَلّمَ قَامَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَقُمْتُ، فَرَكَعْنَا الرّكْعَةَ الّتِي سَبَقَتْنَا.
حدّثنا أُمَيّةُ بْنُ بِسْطَامَ وَ مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ قَالاَ: حَدّثَنَا الْمُعَتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: حَدّثَنِي بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْخُفّيْنِ، وَمُقَدّمِ رَأْسِهِ، وَعَلَى عِمَامَتِهِ.
وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ: حَدّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ بَكْرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ أَبِيهِ: عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.
وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ بَشّارٍ وَ مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ، جَمِيعاً عَنْ يَحْيَىَ الْقَطّانِ. قَالَ ابْنُ حَاتِمٍ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ، عَنِ التّيْمِيّ، عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ بَكْرٌ وَقَدْ سَمِعْتُ مِنِ ابْنِ الْمُغِيرَةِ : أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم تَوَضَأَ. فَمَسَحَ بِنَاصِيَتِهِ، وَعَلَى الْعِمَامَةِ، وَعَلَى الْخُفّيْنِ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَىَ، عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ بِلاَلٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَسَحَ عَلَى الْخُفّيْنِ وَالْخِمَارِ.
وَفِي حَدِيثِ عِيسَىَ: حَدّثَنَا الْحَكَمُ: حَدّثَنَا بِلاَلٌ: وَحَدّثَنِيهِ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا عَلِيّ (يَعْنِي ابْنَ مُسْهِرٍ)، عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الاْسْنَادِ.
وقالَ فِي الْحَدِيثِ: رَأَيْتُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
قوله: (وحدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال: حدثنا يزيد يعني ابن زريع قال: حدثنا حميد الطويل قال: حدثنا بكر بن عبد الله المزني عن عروة بن المغيرة بن شعبة عن أبيه قال الحافظ أبو علي الغساني: قال أبو مسعود الدمشقي) هكذا يقول مسلم في حديث ابن بزيع عن يزيد بن زريع عن عروة بن المغيرة، وخالفه الناس فقالوا فيه حمزة بن المغيرة بدل عروة، وأما أبو الحسن الدارقطني فنسب الوهم فيه إلى محمد بن عبد الله بزيع لا إلى مسلم، هذا آخر كلام الغساني. قال القاضي عياض: حمزة بن المغيرة هو الصحيح غيرهم في هذا الحديث، وإنما عروة بن المغيرة في الأحاديث الأخر وحمزة وعروة ابنان للمغيرة والحديث مروى عنهما جميعاً، لكن رواية بكر بن عبد الله بن المزني إنما هي عن حمزة بن المغيرة وعن بن المغيرة غير مسمى ولا يقول بكر عروة ومن قال عروة عنه فقد وهم، وكذلك اختلف عن بكر فرواه معتمر في أحد الوجهين عنه عن بكر عن الحسن عن ابن المغيرة، وكذا رواه يحيى بن سعيد عن التيمي وقد ذكر هذا مسلم، وقال غيرهم عن بكر عن المغيرة قال الدارقطني: وهو وهم، هذا آخر كلام القاضي عياض والله أعلم. قوله: (فأتيته بمطهرة) قد تقدم قريباً أن فيها لغتين: فتح الميم وكسرها وأنها الإناء الذي يتطهر منه. قوله: (ثم ذهب يحسر عن ذراعيه) هو بفتح الياء وكسر السين أي يكشف والله أعلم. قوله: (مسح بناصيته وعلى العمامة) هذا مما احتج به أصحابنا على أن مسح بعض الرأس يكفي ولا يشترط الجميع، لأنه لو وجب الجميع لما اكتفى بالعمامة عن الباقي، فإن الجمع بين الأصل والبدل في عضو واحد لا يجوز كما لو مسح على خف واحد وغسل الرجل الأخرى، وأما التتميم بالعمامة فهو عند الشافعي وجماعة على الاستحباب لتكون الطهارة على جميع الرأس، ولا فرق بين أن يكون لبس العمامة على طهر أو على حدث، وكذا لو كان على رأسه قلنسوة ولم ينزعها مسح بناصيته، ويستحب أن يتم على القلنسوة كالعمامة، ولو اقتصر على العمامة ولم يمسح شيئاً من الرأس لم يجزه ذلك عندنا بلا خلاف، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأكثر العلماء رحمهم الله تعالى، وذهب أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى إلى جواز الاقتصار ووافقه عليه جماعة من السلف والله أعلم، والناصية هي مقدم الرأس. قوله: (فانتهينا إلى القوم وقد قاموا في الصلاة يصلي بهم عبد الرحمن بن عوف وقد ركع ركعة بهم فلما أحس بالنبي صلى الله عليه وسلم ذهب يتأخر فأومأ إليه فصلى بهم فلما سلم قام النبيّ صلى الله عليه وسلم وقمت فركعنا الركعة التي سبقتنا) اعلم أن هذا الحديث فيه فوائد كثيرة، منها جواز اقتداء الفاضل بالمفضول، وجواز صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم خلف بعض أمته. ومنها أن الأفضل تقديم الصلاة في أول الوقت فإنهم فعلوها أول الوقت ولم ينتظروا النبيّ صلى الله عليه وسلم. ومنها أن الإمام إذا تأخر عن أول الوقت استحب للجماعة أن يقدموا أحدهم فيصلي بهم إذا وثقوا بحسن خلق الإمام وأنه لا يتأذى من ذلك ولا يترتب عليه فتنة، فأما إذا لم يأمنوا أذاه فإنهم يصلون في أول الوقت فرادى، ثم إن أدركوا الجماعة بعد ذلك استحب لهم إعادتها معهم. ومنها أن من سبقه الإمام ببعض الصلاة أتى بما أدرك فإذا سلم الإمام أتى بما بقي عليه ولا يسقط ذلك عنه بخلاف قراءة الفاتحة فإنها تسقط عن المسبوق إذا أدرك الإمام راكعاً. ومنها اتباع المسبوق للإمام في فعله في ركوعه وسجوده وجلوسه وإن لم يكن ذلك موضع فعله للمأموم. ومنها أن المسبوق إنما يفارق الإمام بعد سلام الإمام والله أعلم. وأما بقاء عبد الرحمن في صلاته وتأخر أبي بكر الصديق رضي الله عنهما ليتقدم النبيّ صلى الله عليه وسلم فالفرق بينهما أن في قضية عبد الرحمن كان قد ركع ركعة فترك النبيّ صلى الله عليه وسلم التقدم لئلا يختل ترتيب صلاة القوم، بخلاف قضية أبي بكر رضي الله عنهما والله أعلم. وأما قوله: فركعنا الركعة التي سبقتنا فكذا ضبطناه وكذا هو في الأصول بفتح السين والباء والقاف وبعدها مثناة من فوق ساكنة أي وجدت قبل حضورنا والله أعلم.
قوله: (حدثنا المعتمر عن أبيه عن بكر عن الحسن عن ابن المغيرة عن أبيه) هذا الإسناد فيه أربعة تابعيون يروي بعضهم عن بعض وهم: أبو المعتمر سليمان بن طرخان وبكر بن عبد الله والحسن البصري وابن المغيرة واسمه حمزة كما تقدم، وهؤلاء التابعيون الأربعة بصريون إلا ابن المغيرة فإنه كوفي.
قوله: (قال بكر وقد سمعت من ابن المغيرة) هكذا ضبطناه وكذا هو في الأصول ببلادنا سمعت بالتاء في آخره وليس بعدها هاء، وقال القاضي: هو عند جميع شيوخنا سمعته يعني بالهاء في آخره بعد التاء، قال: وكذا ذكره ابن أبي خيثمة والدارقطني وغيرهما، قال: ووقع عند بعضهم ولم أروه، وقد سمعت من ابن المغيرة يعني بحذف الهاء وقد تقدم سماعه الحديث منه هذا كلام القاضي.
قوله في حديث بلال: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار) يعني بالخمار العمامة لأنها تخمر الرأس أي تغطيه. قوله: (وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن العلاء قالا حدثنا أبو معاوية وحدثنا إسحاق أخبرنا عيسى بن يونس كلاهما عن الأعمش عن الحكم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة عن بلال رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والخمار. وفي حديث عيسى: حدثني الحكم حدثني بلال) وهذا الذي قاله في الأخير من دقيق علم الإسناد أعني قوله وفي حديث الخ، ومعنى هذا أن الأعمش يروي عنه هنا اثنان: أبو معاوية وعيسى بن يونس، فقال أبو معاوية فى روايته عن الأعمش عن الحكم، وقال عيسى بن أبي ليلى في روايته عن الأعمش قال: حدثني الحكم فأتى بحدثني بدل عن، ولا شك أن حدثنا أقوى لا سيما من الأعمش الذي هو معروف بالتدليس، وقال أيضاً أبو معاوية في روايته عن الأعمش عن الحكم عن ابن أبي ليلى عن بلال عن كعب بن عجرة، وقال عيسى في روايته عن الأعمش: حدثني الحكم عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة قال: حدثني بلال، فأتى يحدثني بلال موضع عن بلال، ثم اعلم أن هذا الإسناد الذي ذكره مسلم رحمه الله تعالى مما تلكم عليه الدارقطني في كتاب العلل وذكر الخلاف في طريقه والخلاف عن الأعمش فيه، وأن بلالاً سقط منه عند بعض الرواة واقتصر على كعب بن عجرة، وأن بعضهم عكسه فأسقط كعباً واقتصر على بلال، وأن بعضهم زاد البراء بين بلال وابن أبي ليلى، وأكثر من رواه رووه كما هو في مسلم، وقد رواه بعضهم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن بلال والله أعلم
*2* باب التوقيت في المسح على الخفين
*وحدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا الثّوْرِيّ، عَنْ عَمْرِو ابْنَ قَيْسٍ الْمُلاَئِيّ، عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخيْمِرَةَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ أَسْأَلُهَا عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفّيْنِ. فَقَالَتْ: عَلَيْكَ بِابْنِ أَبِي طَالِبٍ فَسَلْهُ، فَإِنّهُ كَانَ يُسَافِرُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ: جَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثَةَ أَيّامٍ وَلَيَالِيَهُنّ لِلْمُسَافِرِ. وَيَوْماً وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ.
قَالَ وَكَانَ سُفْيَانُ إِذَا ذَكَرَ عَمْراً أَثْنَىَ عَلَيْهِ.
وحدّثنا إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا زَكَرِيّاءُ بْنُ عَدِيَ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ زَيْدٍ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، عَنِ الْحَكَمِ بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ.
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ الْحَكَمِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُخَيْمِرَةَ، عَنْ شُرَيْحِ بْنِ هَانِئٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفّيْنِ. فَقَالَتِ: ائْتِ عَلِيّاً، فَإِنّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنّي، فَأَتْيْتُ عَلِيّا، فَذَكَر عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِهِ.
فيه (عمرو بن قيس الملائي عن الحكم بن عتيبة عن القاسم بن مخيمرة عن شريح بن هانئ قال: أتيت عائشة رضي الله عنها أسألها عن المسح على الخفين فقالت: عليك بابن أبي طالب فأسأله فإنه كان يسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألناه فقال: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويوماً وليلة للمقيم). وفي الرواية الأخرى: (عن الأعمش عن الحكم عن القاسم بن مخيمرة عن شريح عن عائشة) أما أسانيده فالملائي بضم الميم وبالمد كان يبيع الملاء وهو نوع من الثياب معروف الواحدة ملاءة بالمد وكان من الأخيار، وعتيبة بضم العين وبعدها مثناة من فوق ثم مثناة من تحت ثم موحدة، ومخيمرة بضم الميم وبالخاء المعجمة، وشريح بالشين المعجمة وبالحاء، وهانئ بهمزة آخره، والأعمش والحكم والقاسم وشريح تابعيون كوفيون. وأما أحكامه ففيه الحجة البينة والدلالة الواضحة لمذهب الجمهور أن المسح على الخفين موقت بثلاثة أيام في السفر وبيوم وليلة في الحضر، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير العلماء من الصحابة فمن بعدهم، وقال مالك في المشهور عنه: يمسح بلا توقيت وهو قول قديم ضعيف عن الشافعي، واحتجوا بحديث ابن أبي عمارة بكسر العين في ترك التوقيت رواه أبو داود وغيره وهو حديث ضعيف باتفاق أهل الحديث، وأوجه الدلالة من الحديث على مذهب من يقول بالمفهوم ظاهرة، وعلى مذهب من لا يقول به يقال الأصل منع المسح فيما زاد، ومذهب الشافعي وكثيرين أن ابتداء المدة من حين الحدث بعد لبس الخف لا من حين اللبس ولا من حين المسح، ثم إن الحدث عام مخصوص بحديث صفوان بن غسال رضي الله عنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا مسافرين أو سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابه" قال أصحابنا: فإذا أجنب قبل انقضاء المدة لم يجز المسح على الخف، فلو اغتسل وغسل رجليه في الخف ارتفعت جنابته وجازت صلاته، فلو أحدث بعد ذلك لم يجز له المسح على الخف بل لا بد من خلعه ولبس على طهارة، بخلاف ما لو تنجست رجله في الخف فغسلها فيه فإن له المسح على الخف بعد ذلك والله أعلم. وفي هذا الحديث من الأدب ما قاله العلماء أنه يستحب للمحدث وللمعلم والمفتي إذا طلب منه ما يعلمه عند أجل منه أن يرشد إليه وإن لم يعرفه قال: اسأل عنه فلاناً، قال أبو عمر بن عبد البر: واختلف الرواة في رفع هذا الحديث ووقفه على علي قال: ومن رفعه أحفظ وأضبط والله سبحانه وتعالى أعلم
*2* باب جواز الصلوات كلها بوضوء واحد
*حدّثنا مُحمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ ح وَحَدّثَنِي مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ (وَاللّفْظُ لَهُ): حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَلّى الصّلَوَاتِ يَوْمَ الْفَتْحِ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ. وَمَسَحَ عَلَى خُفّيْهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ صَنَعْتَ الْيَوْمَ شَيْئاً لَمْ تَكُنْ تَصْنَعُهُ. قَالَ: "عَمْداً صَنَعْتُهُ يَا عُمَرُ".
فيه (بريدة رضي الله عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم صلى الصلوات يوم الفتح بوضوء واحد ومسح على خفيه فقال له عمر رضي الله عنه: لقد صنعت اليوم شيئاً لم تكن تصنعه، قال: عمداً صنعته يا عمر) في هذا الحديث أنواع من العلم منها جواز المسح على الخف، وجواز الصلوات المفروضات والنوافل بوضوء واحد ما لم يحدث وهذا جائز بإجماع من يعتد به، وحكى أبو جعفر الطحاوي وأبو الحسن بن بطال في شرح صحيح البخاري عن طائفة من العلماء أنهم قالوا: يجب الوضوء لكل صلاة وإن كان متطهراً، واحتجوا بقول الله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) الاَية، وما أظن هذا المذهب يصح عن أحد، ولعلهم أرادوا استحباب تجديد الوضوء عند كل صلاة، ودليل الجمهور الأحاديث الصحيحة منها هذا الحديث وحديث أنس في صحيح البخاري: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة وكان أحدنا يكفيه الوضوء ما لم يحدث) وحديث سويد بن النعمان في صحيح البخاري أيضاً: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى العصر ثم أكل سويقاً ثم صلى المغرب ولم يتضأ) وفي معناه أحاديث كثيرة كحديث الجمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة وسائر الأسفار، والجمع بين الصلوات الفائتات يوم الخندق وغير ذلك، وأما الاَية الكريمة فالمراد بها والله أعلم. {إذا قمتم محدثين) وقيل إنها منسوخة بفعل النبيّ صلى الله عليه وسلم وهذا القول ضعيف والله أعلم. قال أصحابنا: ويستحب تجديد الوضوء وهو أن يكون على طهارة ثم يتطهر ثانياً من غير حدث، وفي شرط استحباب التجديد أوجه، أحدها: أنه يستحب لمن صلى به صلاة سواء كانت فريضة أو نافلة. والثاني: لا يستحب إلا لمن صلى فريضة. والثالث: يستحب لمن فعل به ما لا يجوز إلا بطهارة كمس المصحف وسجود التلاوة. والرابع: يستحب وإن لم يفعل به شيئاً أصلاً بشرط أن يتخلل بين التجديد والوضوء زمن يقع بمثله تفريق، ولا يستحب تجديد الغسل على المذهب الصحيح المشهور. وحكى إمام الحرمين وجهاً أنه يستحب. وفي استحباب تجديد التيمم وجهان أشهرهما لا يستحب وصورته في الجريح والمريض ونحوهما ممن يتيمم مع وجود الماء ويتصور في غيره إذا قلنا لا يجب الطلب لمن تيمم ثانياً في موضعه والله أعلم. وأما قول عمر رضي الله عنه: صنعت اليوم شيئاً لم يتكن تصنعه ففيه تصريح بأن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يواظب على الوضوء لكل صلاة عملاً بالأفضل، وصلى الصلوات في هذا اليوم بوضوء واحد بياناً للجواز كما قال صلى الله عليه وسلم عمداً صنعته يا عمر، وفي هذا الحديث جواز سؤال المفضول الفاضل عن بعض أعماله التي في ظاهرها مخالفة للعادة، لأنها قد تكون عن نسيان فيرجع عنها وقد تكون تعمداً لمعنى خفي على المفضول فيستفيده والله أعلم. وأما إسناد الباب ففيه ابن نمير قال: حدثنا سفيان عن علقمة بن مرثد، وفي الطريق الاَخر: يحيى بن سعيد عن سفيان قال: حدثني علقمة بن مرثد، إنما فعل مسلم رحمه الله تعالى هذا وأعاد ذكر سفيان وعلقمة لفوائد منها أن سفيان رحمه الله تعالى من المدلسين، وقال في الرواية الأولى عن علقمة: والمدلس لا يحتج بعنعنته بالاتفاق إلا إن ثبت سماعه من طريق آخر، فذكر مسلم الطريق الثاني المصرح بسماع سفيان من علقمة فقال: حدثني علقمة، والفائدة الأخرى أن ابن نمير قال: حدثنا سفيان ويحيى بن سعيد قال عن سفيان، فلم يستجز مسلم رحمه الله تعالى الرواية عن الاثنين بصيغة أحدهما، فإن حدثنا متفق على حمله على الاتصال وعن مختلف فيه كما قدمناه في شرح المقدمة
*2* باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإِناء قبل غسلها ثلاثا
*وحدّثنا نَصْرُ بْنُ عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ، وَ حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيّ قَالاَ: حَدّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضّلِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شَقِيقٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ، فَلاَ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ حَتّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثاً، فَإِنّهُ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ".
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ وَ أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجّ قَالاَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ وَ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَفِي حَدِيثِ وَكِيعٍ قَالَ: يَرْفَعُهُ. بِمِثْلِهِ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ أَبِي سَلَمَة، ح وَحَدّثَنِيهِ مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيّبِ، كِلاَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.
وحدّثني سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ قَالَ: حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ: حَدّثَنَا مَعْقِلٌ عَنِ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ أَخْبَرَهُ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ فَلْيُفْرِغْ عَلَى يَدِهِ ثَلاَثَ مَرّاتٍ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَ يَدَهُ فِي إِنَائِهِ فَإِنّهُ لاَ يَدْرِي فِيمَ بَاتَتْ يَدُهُ".
وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا الْمُغِيْرَةُ (يَعْنِي الْحِزَامِيّ) عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ح وَحَدّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَىَ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحمّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ح وَحَدّثَنِي أَبُو كُرَيْبٍ: حَدّثَنَا خَالِدٌ (يَعْنِي ابْنَ مَخْلَدٍ) عَن مُحمّدِ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلاَءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ح وَحَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: حَدّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنْبّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ح وَحَدّثَنِي مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ بَكْرٍ. ح وَحَدّثَنَا الْحُلْوَانِيّ وَ ابْنُ رَافِع. قَالاَ) حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ قَالاَ جَمِيعاً: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيجٍ. أَخْبَرَنِي زِيَادٌ. أَنّ ثَابِتاً مَوْلَىَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنّه سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ فِي رِوَايَتِهِمْ جَمِيعاً عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بِهَذَا الْحَدِيثِ. كُلّهُمْ يَقُولُ: حَتّى يَغْسِلَهَا، وَلَمْ يَقُلْ وَاحدٌ مِنْهُمْ: ثَلاَثاً. أَلاّ مَا قَدّمْنَا مِنْ رِوَايَةِ جَابِرٍ، وَابْنِ الْمُسَيّبِ، وَأَبِي سَلَمَةَ، وَعَبْدِ اللّهِ بْنِ شَقِيقٍ، وَأَبِي صَالِحٍ، وَأَبِي رَزِينٍ. فَإِنّ فِي حَدِيثِهِمْ ذِكْرَ الثّلاَثِ.
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً فإنه لا يدري أين باتت يده) قال الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى في معنى قوله صلى الله عليه وسلم لا يدري أين باتت يده: أن أهل الحجاز كانوا يستنجون بالأحجار وبلادهم حارة، فإذا نام أحدهم عرق فلا يأمن النائم أن يطوف يده على ذلك الموضع النجس أو على بثرة أو قملة أو قذر غير ذلك، وفي هذا الحديث دلالة لمسائل كثيرة في مذهبنا ومذهب الجمهور، منها أن الماء القليل إذا وردت عليه نجاسة نجسته وإن قلت ولم تغيره فإنها تنجسه، لأن الذي تعلق باليد ولا يرى قليل جداً، وكانت عادتهم استعمال الأواني الصغيرة التي تقصر عن قلتين بل لا تقاربهما. ومنها الفرق بين ورود الماء على النجاسة وورودها عليه، وأنها إذا وردت عليه نجسته، وإذا ورد عليها أزالها. ومنها أن الغسل سبعاً ليس عاماً في جميع النجاسات وإنما ورد الشرع به في ولوغ الكلب خاصة. ومنها أن موضع الاستنجاء لا يطهر بالأحجار بل يبقى نجساً معفواً عنه في حق الصلاة. ومنها استحباب غسل النجاسة ثلاثاً لأنه إذا أمر به في المتوهمة ففي المحققة أولى. ومنها استحباب الغسل ثلاثاً في المتوهمة. ومنها أن النجاسة المتوهمة يستحب فيها الغسل ولا يؤثر فيها الرش فإنه صلى الله عليه وسلم قال حتى يغسلها ولم يقل حتى يغسلها أو يرشها. ومنها استحباب الأخذ بالاحتياط في العبادات وغيرها ما لم يخرج عن حد الاحتياط إلى حد الوسوسة، وفي الفرق بين الاحتياط والوسوسة كلام طويل أوضحته في باب الاَنية من شرح المهذب. ومنها استحباب استعمال ألفاظ الكنايات فيما يتحاشى من التصريح به فإنه صلى الله عليه وسلم قال: لا يدري أين باتت يده، ولم يقل فلعل يده وقعت على دبره أو ذكره أو نجاسة أو نحو ذلك وإن كان هذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز والأحاديث الصحيحة، وهذا إذا علم أن السامع يفهم بالكناية المقصود، فإن لم يكن كذلك فلا بد من التصريح لينفي اللبس والوقوع في خلاف المطلوب، وعلى هذا يحمل ما جاء من ذلك مصرحاً به والله أعلم. هذه فوائد من الحديث غير الفائدة المقصودة هنا وهي النهي عن غمس اليد في الإناء قبل غسلها وهذا مجمع عليه، لكن الجماهير من العلماء المتقدمين والمتأخرين على أنه نهي تنزيه لا تحريم، فلو خالف وغمس لم يفسد الماء ولم يأثم الغامس. وحكي أصحابنا عن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه ينجس إن كان قام من نوم الليل. وحكوه أيضاً عن إسحاق بن راهويه ومحمد بن جرير الطبري وهو ضعيف جداً، فإن الأصل في الماء واليد الطهارة فلا ينجس بالشك، وقواعد الشرع متظاهرة على هذا، ولا يمكن أن يقال الظاهر في اليد النجاسة، وأما الحديث فمحمول على التنزيه، ثم مذهبنا ومذهب المحققين أن هذا الحكم ليس مخصوصاً بالقيام من النوم بل المعتبر فيه الشك في نجاسة اليد، فمتى شك في نجاستها كره له غمسها في الإناء قبل غسلها، سواء قام من نوم الليل أو النهار أو شك في نجاستها من غير نوم، وهذا مذهب جمهور العلماء. وحكى عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى رواية أنه إن قام من نوم الليل كره كراهة تحريم، وإن قام من نوم النهار كره كراهة تنزيه، ووافقه عليه داود الظاهري اعتماداً على لفظ المبيت في الحديث، وهذا مذهب ضعيف جداً فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم نبه على العلة بقوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه لا يدري أين باتت يده" ومعناه أنه لا يأمن النجاسة على يده، وهذا عام لوجود احتمال النجاسة في نوم الليل والنهار وفي اليقظة، وذكر الليل أولاً لكونه الغالب، ولم يقتصر عليه خوفاً من توهم أنه مخصوص به بل ذكر العلة بعده والله أعلم. هذا كله إذا شك في نجاسة اليد، أما إذا تيقن طهارتها وأراد غمسها قبل غسلها فقد قال جماعة من أصحابنا: حكمه حكم الشك لأن أسباب النجاسة قد تخفى في حق معظم الناس فسد الباب لئلا يتساهل فيه من لا يعرف، والأصح الذي ذهب إليه الجماهير من أصحابنا أنه لا كراهة فيه بل هو في خيار بين الغمس أو لا والغسل، لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر النوم ونبه على العلة وهي الشك، فإذا انتفت العلة انتفت الكراهة، ولو كان النهي عاماً لقال: إذا أراد أحدكم استعمال الماء فلا يغمس يده حتى يغسلها وكان أعم وأحسن والله أعلم. قال أصحابنا: وإذا كان الماء في إناء كبير أو صخرة بحيث لا يمكن الصب منه وليس معه إناء صغير يغترف به فطريقه أن يأخذ الماء بفمه ثم يغسل به كفيه أو يأخذ بطرف ثوبه النظيف أو يستعين بغيره والله أعلم.
وأما أسانيد الباب ففيه الجهضمي بفتح الجيم والضاد المعجمة وتقديم بيانه في المقدمة، وفيه حامد بن عمر البكراوي بفتح الباء الموحدة وإسكان الكاف وهو حامد بن عمر بن حفص بن عمر بن عبد الله بن أبي بكرة نفيع بن الحارث الصحابي فنسب حامد إلى جده، وفيه أبو رزين اسمه مسعود بن مالك الكوفي كان عالماً فيها وهو مولى أبي وائل شقيق بن سلمة، وفيه قول مسلم رحمه الله تعالى في حديث أبي معاوية قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي حديث وكيع يرفعه، وهذا الذي فعله مسلم رحمه الله تعالى من احتياطه ودقيق نظره وغزير علمه وثبوت فهمه، فإن أبا معاوية ووكيعاً اختلفت روايتهما فقال أحدهما: قال أبو هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال الاَخر عن أبي هريرة يرفعه، وهذا بمعنى ذلك عند أهل العلم كما قدمناه في الفصول، ولكن أراد مسلم رحمه الله تعالى أن لا يرى بالمعنى، فإن الرواية بالمعنى حرام عند جماعات من العلماء وجائزة عند الأكثرين إلا أن الأولى اجتنابها والله أعلم. وفيه معقل عن أبي الزبير هو معقل بفتح الميم وكسر القاف، وأبو الزبير هو محمد بن مسلم بن تدرس تقدم بيانه في مواضع، وفيه المغيرة الحزامي بالزاي والمغيرة بضم الميم على المشهور ويقال بكسرها تقدم ذكرهما في المقدمة والله أعلم
*2* باب حكم ولوغ الكلب
*وحدّثني عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ السّعْدِيّ: حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ: أَخْبَرَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي رَزِينٍ وَ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيُرِقْهُ، ثُمّ لْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مِرَارٍ".
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ الصّبّاحِ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيّاءَ عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ. وَلَمْ يَقُلْ: فَلْيُرِقْهُ.
حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعَ مَرّاتٍ".
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسّانٍ، عَنْ مُحمّدٍ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرّاتٍ. أُولاَهُنّ بِالتّرَابِ".
حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: حَدّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمّدٍ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ، إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِيهِ، أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرّاتٍ".
وحدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التّيّاحِ. سَمِعَ مُطْرّفَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يُحَدّثُ عَنْ ابْنِ الْمُغْفّلِ قَالَ: أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ الْكِلاَبِ. ثُمّ قَالَ: "مَا بَالُهُمْ وَبَالُ الْكِلاَبِ؟" ثُمّ رَخّصَ فِي كَلْبِ الصّيْدِ وَكَلْبِ الْغَنَمِ. وَقَالَ: "إِذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعَ مَرّاتٍ. وَعَفّرُوهُ الثّامِنَةَ فِي التّرَابِ".
وحدّثنيهِ يَحْيَىَ بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ: حَدّثَنَا خَالِدٌ (يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ). ح وَحَدّثَنِي مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ. ح وَحَدّثَنِي مُحمّدُ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، كُلّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ فِي هَذَا الاْسْنَادِ بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنّ فِي رِوَايَةِ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ مِنَ الزّيَادَةِ: وَرَخّصَ فِي كَلْبِ الْغَنَمِ وَالصّيْدِ وَالزّرْعِ وَلَيْسَ ذَكَرَ الزّرْعَ فِي الرّوَايَةِ غَيْرُ يَحْيَىَ.
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ثم ليغسله سبع مرات) وفي الرواية الأخرى: (طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب). وفي الرواية الأخرى: (طهور أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات).
وفي الرواية الأخرى: (أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلام ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم وقال: إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات وعفروه الثامنة في التراب). وفي رواية: (ورخص في كلب الغنم والصيد والزرع) أما أسانيد الباب ولغاته ففيه أبو رزين تقدم ذكره في الباب قبله وفيه ولغ الكلب، قال أهل اللغة: يقال ولغ الكلب في الإناء يلغ بفتح اللام فيهما ولوغاً إذا شرب بطرف لسانه، قال أبو زيد: يقال ولغ الكلب بشرابنا وفي شرابنا ومن شرابنا. وفيه طهور إناء أحدكم الأشهر فيه ضم الطاء ويقال بفتحها لغتان تقدمتا في أول كتاب الوضوء. وفيه قوله في صحيفة همام فذكر أحاديث منها وقد تقدم في الفصول وغيرها بيان فائدة هذه العبارة. وفيه قوله في آخر الباب: وليس ذكر الزرع في الرواية غير يحيى هكذا هو في الأصول وهو صحيح، وذكر بفتح الذال والكاف والزرع منصوب وغير مرفوع معناه لم يذكر هذه الرواية إلا يحيى. وفيه أبو التياح بفتح المثناة فوق وبعدها مثناة تحت مشددة وآخره حاء مهملة واسمه يزيد بن حميد الضبعي البصري العبد الصالح، قال شعبة: كنا نكنيه بأبي حماد قال: وبلغني أنه كان يكنى بأبي التياح وهو غلام. وفيه ابن المغفل بضم الميم وفتح الغين المعجمة والفاء وهو عبد الله بن المغفل المزني، وقول مسلم: حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبي حدثنا شعبة عن أبي التياح سمع مطرف بن عبد الله عن أبي المغفل، قال مسلم: وحدثنيه يحيى بن حبيب الحارثي قال: حدثنا خالد يعني ابن الحارث ح وحدثني محمد بن حاتم قال: حدثنا يحيى بن سعيد ح وحدثني محمد بن الوليد قال: حدثنا محمد بن جعفر كلهم عن شعبة في هذا الإسناد بمثله، هذه الأسانيد من جميع هذه الطرق ورجالها بصريون، وقد قدمنا مرات أن شعبة واسطي ثم بصري، ويحيى بن سعيد المذكور هو القطان والله أعلم. أما أحكام الباب ففيه دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي وغيره رضي الله عنه ممن يقول بنجاسة الكلب، لأن الطهارة تكون عن حدث أو نجس وليس هنا حدث فتعين النجس، فإن قيل المراد الطهارة اللغوية، فالجواب أن حمل اللفظ على حقيقته الشرعية مقدم على اللغوية، وفيه أيضاً نجاسة ما ولغ فيه وأنه إن كان طعاماً مائعاً حرم أكله لأن إراقته إضاعة له، فلو كان طاهراً لم يأمرنا بإراقته بل قد نهينا عن إضاعة المال، وهذا مذهبنا ومذهب الجماهير أنه ينجس ما ولغ فيه، ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين كلب البدوي والحضري لعموم اللفظ. وفي مذهب مالك أربعة أقوال: طهارته ونجاسته وطهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره. وهذه الثلاثة عن مالك، والرابع عن عبد الملك بن الماجشون المالكي أنه يفرق بين البدوي والحضري وفيه الأمر بإراقته وهذا متفق عليه عندنا، ولكن هل الإراقة واجبة لعينها أم لا تجب إلا إذا أراد استعمال الإناء أراقه فيه خلاف، ذكر أكثر أصحابنا الإراقة لا تجب لعينها بل هي مستحبة، فإن أراد استعمال الإناء أراقه، وذهب بعض أصحابنا إلى أنها واجبة على الفور ولو لم يرد استعماله حكاه الماوردي من أصحابنا في كتابه الحاوي، ويحتج له بمطلق الأمر وهو يقتضي الوجوب على المختار وهو قول أكثر الفقهاء، ويحتج للأول بالقياس على باقي المياه النجسة فإنه لا تجب إراقتها بلا خلاف، ويمكن أن يجاب عنها بأن المراد في مسألة الولوغ الزجر والتغليظ والمبالغة في التنفير عن الكلاب والله أعلم. وفيه وجوب غسل نجاسة ولوغ الكلب سبع مرات وهذا مذهبنا ومذهب مالك وأحمد والجماهير، وقال أبو حنيفة: يكفي غسله ثلاث مرات والله أعلم. وأما الجمع بين الروايات فقد جاء في رواية سبع مرات، وفي رواية سبع مرات أولاهن بالتراب، وفي رواية أخراهن أو أولاهن، وفي رواية سبع مرات السابعة بالتراب، وفي رواية سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب، وقد روى البيهقي وغيره هذه الروايات كلها وفيها دليل على أن التقييد بالأولى وبغيرها ليس على الاشتراط بل المراد إحداهن، وأما رواية وعفروه الثامنة بالتراب فمذهبنا ومذهب الجماهير أن المراد اغسلوه سبعاً واحدة منهن بالتراب مع الماء فكأن التراب قائم مقام غسلة فسميت ثامنة لهذا والله أعلم. واعلم أنه لا فرق عندنا بين ولوغ الكلب وغيره من أجزائه، فإذا أصاب بوله أو روثه أو دمه أو عرقه أو شعره أو لعابه أو عضو من أعضائه شيئاً طاهراً في حال رطوبة أحدهما وجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب، ولو ولغ كلبان أو كلب واحد مرات في إناء ففيه ثلاثة أوجه لأصحابنا الصحيح أنه يكفيه للجميع سبع مرات. والثاني يجب لكل ولغة سبع.
والثالث يكفي لو لغات الكلب الواحد سبع، ويجب لكل كلب سبع، ولو وقعت نجاسة أخرى في الإناء الذي ولغ فيه الكلب كفى عن الجميع سبع، ولا تقوم الغسلة الثامنة بالماء وحده ولا غمس الإناء في ماء كثير ومكثه فيه قدر سبع غسلات مقام التراب على الأصح وقيل يقوم، ولا يقوم الصابون والأشنان وما أشبههما مقام التراب على الأصح، ولا فرق بين وجود التراب وعدمه على الأصح، ولا يحصل الغسل بالتراب النجس على الأصح، ولو كانت نجاسة الكلب دمه أو روثه فلم يزل عينه إلا بست غسلات مثلاً، فهل يحسب ذلك ست غسلات أم غسلة واحدة؟ أم لا يحسب من السبع أصلاً؟ فيه ثلاثة أوجه أصحها واحدة. وأما الخنزير فحكمه حكم الكلب في هذا كله، هذا مذهبنا، وذهب أكثر العلماء إليه أن الخنزير لا يفتقر إلى غسله سبعاً وهو قول الشافعي وهو قوي في الدليل، قال أصحابنا: ومعنى الغسل بالتراب أن يخلط التراب في الماء حتى يتكدر، ولا فرق بين أن يطرح الماء على التراب أو التراب على الماء أو يأخذ الماء الكدر من موضع فيغسل به، فأما مسح موضع النجاسة بالتراب فلا يجزي، ولا يجب إدخال اليد في الإناء بل يكفي أن يلقيه في الإناء ويحركه، ويستحب أن يكون التراب في غير الغسلة الأخيرة ليأتي عليه ما ينظفه، والأفضل أن يكون في الأولى، ولو ولغ الكلب في ماء كثير بحيث لم ينقص ولوغه عن قلتين لم ينجسه، ولو ولغ في ماء قليل أو طعام فأصاب ذلك الماء أو الطعام ثوباً أو بدناً أو إناء آخر وجب غسله سبعاً إحداهن بالتراب، ولو ولغ في إناء فيه طعام جامد ألقى ما أصابه وما حوله وانتفع بالباقي على طهارته السابقة، كما في الفأرة تموت في السمن الجامد والله أعلم. وأما قوله: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب ثم قال: ما بالهم وبال الكلاب، ثم رخص في كلب الصيد وكلب الغنم. وفي الرواية الأخرى وكلب الزرع فهذا نهي عن اقتنائها، وقد اتفق أصحابنا وغيرهم على أنه يحرم اقتناء الكلب لغير حاجة، مثل أن يقتني كلباً إعجاباً بصورته أو للمفاخرة به فهذا حرام بلا خلاف، وأما الحاجة التي يجوز الاقتناء لها فقد ورد هذا الحديث بالترخيص لأحد ثلاثة أشياء وهي: الزرع والماشية والصيد وهذا جائز بلا خلاف، واختلف أصحابنا في اقتنائه لحراسة الدور والدروب، وفي اقتناء الجر وليعلم، فمنهم من حرمه لأن الرخصة إنما وردت في الثلاثة المتقدمة، ومنهم من أباحه وهو الأصح لأنه في معناها، واختلفوا أيضاً فيمن اقتني كلب صيد وهو رجل لا يصيد والله أعلم. وأما الأمر بقتل الكلاب فقال أصحابنا: إن كان الكلب عقوراً قتل، وإن لم يكن عقوراً لم يجز قتله، سواء كان فيه منفعة من المنافع المذكورة أو لم يكن. قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: والأمر بقتل الكلاب منسوخ قال: وقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب مرة، ثم صح أنه نهى عن قتلها، قال: واستقر الشرع عليه على التفصيل الذي ذكرناه، قال: وأمر بقتل الأسود البهيم وكان هذا في الابتداء وهو الاَن منسوخ، هذا كلام إمام الحرمين ولا مزيد على تحقيقه والله أعلم
*2* باب النهي عن البول في الماء الراكد
*وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ مُحمّدُ بْنُ رُمْحٍ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا اللّيْثُ. ح وحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ: حَدّثَنَا اللّيْثُ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ نَهَىَ أَنْ يُبَالَ فِي الْمَاءِ الرّاكِدِ.
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ، عنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَبُولَنّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدّائِمِ ثُمّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ".
وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ رافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: حَدّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنْبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لاَ تَبُلْ فِي الْمَاءِ الدّائِمِ الّذِي لاَ يَجْرِي، ثُمّ تَغْتَسِلُ مِنْهُ".
فيه قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يبولين أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل منه).
وفي الرواية الأخرى (لا تبل في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل منه). وفي الرواية الأخرى: (نهى أن يبال في الماء الراكد) الرواية يغتسل مرفوع أي لا تبل ثم أنت تغتسل منه. وذكر شيخنا أبو عبد الله بن مالك رضي الله عنه أنه يجوز أيضاً جزمه عطفاً على موضع يبولن ونصبه بإضمار أن واعطاء ثم حكم واو الجمع، فأما الجزم فظاهر، وأما النصب فلا يجوز لأنه يقتضي أن المنهي عنه الجمع بينهما دون إفراد أحدهما، وهذا لم يقله أحد، بل البول فيه منهي عنه، سواء أراد الاغتسالب فيه أو منه أم لا والله أعلم. وأما الدائم فهو الراكد. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الذي لا يجري" تفسير للدائم وإيضاح لمعناه، ويحتمل أنه احترز به عن راكد لا يجري بعضه كالبرك ونحوها، وهذا النهي في بعض المياه للتحريم وفي بعضها للكراهة، ويؤخذ ذلك من حكم المسألة، فإن كان الماء كثيراً جارياً لم يحرم البول فيه لمفهول الحديث ولكن الأولى اجتنابه، وإن كان قليلاً جارياً فقد قال جماعة من أصحابنا يكره، والمختار أنه يحرم لأنه يقذره وينجسه على المشهور من مذهب الشافعي وغيره ويغر غيره فيستعمله مع أنه نجس، وإن كان الماء كثيراً راكداً فقال أصحابنا: يكره ولا يحرم، ولو قيل يحرم لم يكن بعيداً فإن النهي يقتضي التحريم على المختار عند المحققين والأكثرين من أهل الأصول، وفيه من المعنى أنه يقذره، وربما أدى إلى تنجيسه بالإجماع لتغيره أو إلى تنجيسه عند أبي حنيفة ومن وافقه في أن الغدير الذي يتحرك بتحرك طرفه الاَخر ينجس بوقوع نجس فيه، وأما الراكد القليل فقد أطلق جماعة من أصحابنا أنه مكروه، والصواب المختار أنه يحرم البول فيه لأنه ينجسه ويتلف ماليته ويغر غيره باستعماله والله أعلم. قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: والتغوط في الماء كالبول فيه وأقبح، وكذلك إذا بال في إناء ثم صبه في الماء، وكذا إذا بال بقرب النهر بحيث يجري إليه البول فكله مذموم قبيح منهي عنه على التفصيل المذكور، ولم يخالف في هذا أحد من العلماء إلا ما حكي عن داود بن علي الظاهري أن النهي مختص ببول الإنسان بنفسه وأن الغائط ليس كالبول، وكذا إذا بال في إناء ثم صبه في الماء أو بال بقرب الماء، وهذا الذي ذهب إليه خلاف إجماع العلماء وهو أقبح ما نقل عنه في الجمود على الظاهر والله أعلم. قال العلماء: ويكره البول والتغوط بقرب الماء وإن لم يصل إليه لعموم نهي النبيّ صلى الله عليه وسلم عن البراز في الموارد، ولما فيه من إيذاء المارين بالماء، ولما يخاف من وصوله إلى الماء والله أعلم. وأما انغماس من لم يستنج في الماء ليستنجي فيه فإن كان قليلاً بحيث ينجس بوقوع النجاسة فيه فهو حرام لما فيه من تلطخه بالنجاسة وتنجيس الماء، وإن كان كثيراً لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، فإن كان جارياً فلا بأس به، وإن كان راكداً فليس بحرام ولا تظهر كراهته لأنه ليس في معنى البول ولا يقاربه، ولو اجتنب الإنسان هذا كان أحسن والله أعلم
*2* باب النهي عن الاغتسال في الماء الراكد
*وحدّثنا هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ و أَبُو الطّاهِرِ وَ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَىَ، جَمِيعاً عَنِ ابْنِ وَهْبٍ. قَالَ هَرُونُ: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجّ أَنّ أَبَا السّائِبِ، مَوْلَىَ هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ حَدّثَهُ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي المَاءِ الدّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ" فَقَالَ: كَيْفَ يَفْعَلُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: يَتَنَاوَلُهُ تَنَاوُلاً.
فيه (أبو السائب أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب، فقال: كيف يفعل يا أبا هريرة؟ قال: يتناوله تناولاً) أما أبو السائب فلا يعرف اسمه، وأما أحكام المسألة فقال العلماء من أصحابنا وغيرهم: يكره الاغتسال في الماء الراكد قليلاً كان أو كثيراً، وكذا يكره الاغتسال في العين الجارية. قال الشافعي رحمه الله تعالى في البويطي: أكره للجنب أن يغتسل في البئر معينة كانت أو دائمة، وفي الماء الراكد الذي لا يجري، قال الشافعي: وسواء قليل الراكد وكثيره أكره الاغتسال فيه هذا نصه، وكذا صرح أصحابنا وغيرهم بمعناه، وهذا كله على كراهة التنزيه لا التحريم، وإذا اغتسل فيه الجنابة فهل يصير الماء، مستعملاً؟ فيه تفصيل معروف عند أصحابنا، وهو أنه إن كان الماء قلتين فصاعداً لم يصر مستعملاً ولو اغتسل فيه جماعات في أوقات متكررات، وأما إذا كان الماء دون القلتين فإن انغمس فيه الجنب بغير نية ثم لما صار تحت الماء نوى ارتفعت جنابته وصار الماء مستعملاً، وإن نزل فيه إلى ركبتيه مثلاً ثم نوى قبل انغماس باقيه صار الماء في الحال مستعملاً بالنسبة إلى غيره، وارتفعت الجنابة عن ذلك القدر المنغمس بلا خلاف، وارتفعت أيضاً عن القدر الباقي إذا تمم انغماسه على المذهب الصحيح المختار المنصوص المشهور، لأن الماء إنما يصير مستعملاً بالنسبة إلى المتطهر إذا انفصل عنه. وقال أبو عبد الله الخضري من أصحابنا وهو بكسر الخاء وإسكان الضاد المعجمتين لا يرتفع عن باقيه والصواب الأول، وهذا إذا تمم الانغماس من غير انفصاله، فلو انفصل ثم عاد إليه لم يجزئه ما يغسله به بعد ذلك بلا خلاف، ولو انغمس رجلان تحت الماء الناقص عن قلتين إن تصورا ثم نويا دفعة واحدة ارتفعت جنابتهما وصار الماء مستعملاً، فإن نوى أحدهما قبل الاَخر ارتفعت جنابة الناوي وصار الماء مستعملاً بالنسبة إلى رفيقه فلا ترتفع جنابته على المذهب الصحيح المشهور، وفيه وجه شاذ أنها ترتفع، وإن نزلا فيه إلى ركبتيهما فنويا ارتفعت جنابتهما عن ذلك القدر وصار مستعملاً فلا ترتفع عن باقيهما إلا على الوجه الشاذ والله أعلم
*2* باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصلت في المسجد، وأَن الأَرض تطهر بالماء من غير حاجة إِلى حفرها
*وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا حَمّادٌ (وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ) عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ أَعْرَابِيّاً بَالَ فِي الْمَسْجِدِ. فَقَامَ إِلَيْهِ بعض الْقَوْمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهُ وَلاَ تُزْرِمُوهُ" قَالَ فَلَمّا فَرَغَ دَعَا بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَصَبّهُ عَلَيْهِ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ الْقَطّانُ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ الأَنْصَارِيّ. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، جَمِيعاً عَنِ الدّرَاوَرْدِيّ قَالَ يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيْزِ بْنُ مُحمّدٍ الْمَدَنِيّ عَنْ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ أَنّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَذْكُرُ أَنّ أَعْرَابِيّاً قَامَ إِلَى نَاحِيَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَبَالَ فِيهَا، فَصَاحَ بِهِ النّاسُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعُوهُ" فَلَمّا فَرَغَ أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَنُوبٍ فَصُبّ عَلَى بَوْلِهِ.
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيّ: حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ: حَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ: حَدّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ (وَهُوَ عَمّ إِسْحَقَ) قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَ أَعْرَابِيّ، فَقَامَ يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: مَهْ مَهْ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُزْرِمُوهُ. دَعُوهُ" فَتَرَكُوهُ حَتّى بَالَ. ثُمّ إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَاهُ فَقَالَ لَهُ: "إِنّ هَذِهِ الْمَسَاجِدَ لاَ تَصْلُحُ لِشَيْءٍ مِنْ هَذَا لِلْبَوْلِ وَالْقَذَرِ. إِنّمَا هِيَ لِذِكْرِ الله عَزّ وَجَلّ، وَالصّلاَةِ، وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ"، أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ فَأَمَرَ رَجُلاً مِنَ الْقَوْمِ، فَجَاءَ بِدَلْوٍ مِنْ مَاءٍ، فَشَنّهُ عَلَيْهِ.
فيه حديث أنس رضي الله عنه: (أن أعرابياً بال في المسجد فقام إليه بعض القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبه عليه). وفي الرواية الأخرى: (فصاح به الناس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوه فلما فرغ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب فصب على بوله). الأعرابي هو الذي يسكن البادية. وقوله صلى الله عليه وسلم: لا تزرموه هو بضم التاء وإسكان الزاي وبعدها راء أي لا تقطعوا، والأزرام القطع، وأما الدلو ففيها لغتان التذكير والتأنيث، والذنوب بفتح الذال وضم النون وهي الدلو المملوءة ماء. أما أحكام الباب ففيه إثبات نجاسة بول الاَدمي وهو مجمع عليه، ولا فرق بين الكبير والصغير بإجماع من يعتد به، لكن بول الصغير يكفي فيه النضح كما سنوضحه في الباب الاَتي إن شاء الله تعالى، وفيه احترام المسجد وتنزيهه عن الأقذار، وفيه أن الأرض تطهر بصب الماء عليها، ولا يشترط حفرها، وهذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لا تطهر إلا بحفرها، وفيه أن غسالة النجاسة طاهرة، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء، ولأصحابنا فيها ثلاثة أوجه: أحدها أنها طاهرة. والثاني نجسة. والثالث إن انفصلت وقد طهر المحل فهي طاهرة، وإن انفصلت ولم يطهر المحل فهي نجسة، وهذا الثالث هو الصحيح، وهذا الخلاف إذا انفصلت غير متغيرة، أما إذا انفصلت متغيرة فهي نجسة بإجماع المسلمين، سواء تغير طعمها أو لونها أو ريحها، وسواء كان التغير قليلاً أو كثيراً والله أعلم. وفيه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف ولا إيذاء إذا لم يأت بالمخالفة استخفافاً أو عناداً، وفيه دفع أعظم الضررين باحتمال أخفهما لقوله صلى الله عليه وسلم دعوه، قال العلماء: كان قوله صلى الله عليه وسلم دعوه لمصلحتين: إحداهما أنه لو قطع عليه بوله تضرر وأصل التنجيس قد حصل، فكان احتمال زيادته أولى من إيقاع الضرر به. والثانية أن التنجيس قد حصل في جزء يسير من المسجد فلو أقاموه في أثناء بوله لتنجست ثيابه وبدنه ومواضع كثيرة من المسجد والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) فيه صيانة المساجد وتنزيهها عن الأقذار والقذى والبصاق ورفع الأصوات والخصومات، والبيع والشراء وسائر العقود وما في معنى ذلك. وفي هذا الفصل مسائل ينبغي أن أذكر أطرافاً منها مختصرة. أحدها: أجمع المسلمون على جواز الجلوس في المسجد للمحدث، فإن كان جلوسه لعبادة من اعتكاف أو قراءة علم أو سماع موعظة أو انتظار صلاه أو نحو ذلك كان مستحباً، وإن لم يكن لشيء من ذلك كان مباحاً، وقال بعض أصحابنا: إنه مكروه وهو ضعيف. الثانية: يجوز النوم عندنا في المسجد نص عليه الشافعي رحمه الله تعالى في الأم، قال ابن المنذر في الإشراق: رخص في النوم في المسجد ابن المسيب والحسن وعطاء والشافعي، وقال ابن عباس: لا تتخذوه مرقداً، وروي عنه أنه قال: إن كنت تنام فيه لصلاة فلا بأس. وقال الأوزاعي: يكره النوم في المسجد. وقال مالك: لا بأس بذلك للغرباء ولا أرى ذلك للحاضر. وقال أحمد: إن كان مسافراً أو شبهه فلا بأس وإن اتخذه مقيلاً أو مبيتاً فلا وهذا قول إسحاق، هذا ما حكاه ابن المنذر، واحتج من جوزه بنوم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عمر وأهل الصفة والمرأة صاحبة الوشاح والغريبين وثمامة بن أثال وصفوان بن أمية وغيرهم وأحاديثهم في الصحيح مشهورة والله أعلم. ويجوز أن يمكن الكافر من دخول المسجد بإذن المسلمين ويمنع من دخوله بغير إذن. الثالثة: قال ابن المنذر أباح كل من يحفظ عنه العلم الوضوء في المسجد إلا أن يتوضأ في مكان يبله أو يتأذى الناس به فإنه مكروه، ونقل الإمام والحسن ابن بطال المالكين هذا عن ابن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس والحنفي وابن القاسم المالكي وأكثر أهل العلم، وعن ابن سيرين ومالك وسحنون أنهم كرهوه تنزيهاً للمسجد والله أعلم. الرابعة: قال جماعة من أصحابنا يكره إدخال البهائم والمجانين والصبيان الذين لا يميزون المسجد لغير حاجة مقصودة، لأنه لا يؤمن تنجيسهم المسجد ولا يحرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على البعير، ولا ينفي هذا الكراهة لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك بياناً للجواز أو ليظهر ليقتدي به صلى الله عليه وسلم والله أعلم. الخامسة: يحرم إدخال النجاسة إلى المسجد، وأما من على بدنه نجاسة فإن خاف تنجيس المسجد لم يجز له الدخول فإن من ذلك جاز، وأما إذا افتصد في المسجد فإن كان في غير إناء فحرام، وإن قطر دمه في إناء فمكروه، وإن بال في المسجد في إناء ففيه وجهان أصحهما أنه حرام، والثاني مكروه. السادسة: يجوز الاستلقاء في المسجد وهز الرجل وتشبيك الأصابع للأحاديث الصحيحة المشهور في ذلك من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم. السابعة: يستحب استحباباً متأكداً كنس المسجد وتنظيفه للأحاديث الصحيحة المشهورة فيه والله أعلم. قوله: (فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مه مه) هي كلمة زجر، ويقال به به بالباء أيضاً، قال العلماء: هو اسم مبني على السكون معناه اسكت، قال صاحب المطالع: هي كلمة زجر قيل أصلها ما هذا ثم حذف تخفيفاً، قال وتقال مكررة مه مه، وتقال فردة مه، ومثله به به. وقال يعقوب: هي لتعظيم الأمر كبخ بخ، وقد تنون مع الكسر وينون الأول ويكسر الثاني بغير تنوين، هذا كلام صاحب المطالع وذكره أيضاً غيره والله أعلم. قوله: فجاء بدلو فشنه عليه يروى بالشين المعجمة وبالمهملة وهو في أكثر الأصول والروايات بالمعجمة ومعناه صبه، وفرق بعض العلماء بينهما فقال هو بالمهملة الصب في سهولة وبالمعجمة التفريق في صبه والله أعلم
*2* باب حكم بول الطفل الرضيع وكيفية غسله
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُؤْتَىَ بِالصّبْيَانِ فَيُبَرّكُ عَلَيْهِمْ وَيُحَنّكُهُمْ، فَأُتِيَ بِصَبِيَ فَبَالَ عَلَيْهِ. فَدَعَا بِمَاءٍ. فَأَتْبَعَهُ بوله وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَبِيَ يَرْضَعُ فَبَالَ فِي حِجْرِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَصَبّهُ عَلَيْهِ.
وحدّثنا إِسْحَقَ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا عِيسَىَ: حَدّثَنَا هِشَامٌ بِهَذَا الاْسْنَادِ. مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ.
حدّثنا مُحمّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمِهَاجِرِ: أَخْبَرَنَا اللّيْثُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أُمّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لَهَا لَمْ يَأْكُلِ الطّعَامَ فَوَضَعَتْهُ فِي حَجْرَهِ. فَبَالَ. قَالَ: فَلَمْ يَزِدْ عَلَى أَنْ نَضَحَ بِالْمَاءِ.
وحدّثناه يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، جَمِيعاً عَنِ ابْنِ عُيْيَنَةَ، عَنِ الزّهْرِيّ بِهَذَا الاْسْنَادِ. وَقَالَ: فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشّهُ.
وحدّثنيهِ حَرَمْلَةُ بْنُ يَحْيَىَ : أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ أَنّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنّ أُمّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ (وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللاّتِي بَايَعْنَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ أُخْتُ عُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ. أَحَدُ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ). قَالَ أَخْبَرَتْنِي أَنّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لَهَا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَأْكُلَ الطّعَامَ. قَالَ عُبَيْدُ اللّهِ: أَخْبَرَتْنِي، أَنّ ابْنَهَا ذَاكَ بَالَ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ عَلَى ثَوْبِهِ، وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلاً.
فيه (عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤتي بالصبيان فيبرك عليهم ويحنكهم فأتى بصبي فبال عليه فدعا بماء فأتبعه بوله ولم يغسله). وفي الرواية الأخرى: (أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصبي يرضع فبال في حجره فدعا بماء فصبه عليه).
وفي رواية أم قيس: (أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم بابن لها لم يأكل الطعام فوضعته في حجره فبال فلم يزد على أن نضح بالماء). وفي رواية (فدعا بماء فرشه). وفي رواية: (فنضحه عليه ولم يغسله غسلاً). الصبيان بكسر الصاد هذه اللغة المشهورة. وحكى ابن دريد ضمها. قوله فيبرك عليهم أي يدعو لهم ويمسح عليهم، وأصل البركة ثبوت الخير وكثرته، وقولها فيحنكهم قال أهل اللغة: التحنيك أن يمضغ التمر أو نحوه ثم يدلك به حنك الصغير، وفيه لغتان مشهورتان حنكته وحنكته بالتخفيف والتشديد، والرواية هنا فيحنكهم بالتشديد وهي أشهر اللغتين، وقولها: فبال في حجره يقال بفتح الحاء وكسرها لغتان مشهورتان، وقولها بصبي يرضع هو بفتح الياء أي رضيع وهو الذي لم يفطم، أما أحكام الباب ففيه استحباب تحنيك المولود، وفيه التبرك بأهل الصلاح والفضل، وفيه استحباب حمل الأطفال إلى أهل الفضل للتبرك بهم، وسواء في هذا الاستحباب المولود في حال ولادته وبعدها، وفيه الندب إلى حسن المعاشرة واللين والتواضع والرفق بالصغار وغيرهم، وفيه مقصود الباب وهو أن بول الصبي يكفي فيه النضح. وقد اختلف العلماء في كيفية طهارة بول الصبي والجارية على ثلاثة مذاهب وهي ثلاثة أوجه لأصحابنا الصحيح المشهور المختار أنه يكفي النضح في بول الصبي ولا يكفي في بول الجارية بل لا بد من غسله كسائر النجاسات والثاني أنه يكفي النضح فيهما. والثالث لا يكفي النضح فيهما، وهذان الوجهان حكاهما صاحب التتمة من أصحابنا وغيره وهما شاذان ضعيفان، وممن قال بالفرق علي بن أبي طالب وعطاء بن أبي رباح والحسن البصري وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه وجماعة من السلف وأصحاب الحديث وابن وهب من أصحاب مالك رضي الله عنهم، وروي عن أبي حنيفة، وممن قال بوجوب غسلهما أبو حنيفة ومالك في المشهور عنهما وأهل الكوفة، واعلم أن هذا الخلاف إنما هو في كيفية تطهير الشيء الذي بال عليه الصبي ولا خلاف في نجاسته. وقد نقل بعض أصحابنا إجماع العلماء على نجاسة بول الصبي وأنه لم يخالف فيه إلا داود الظاهري. قال الخطابي وغيره: وليس تجويز من جوز النضح في الصبي من أجل أن بوله ليس بنجس ولكنه من أجل التخفيف في إزالته فهذا هو الصواب. وأما ما حكاه أبو الحسن بن بطال ثم القاضي عياض عن الشافعي وغيره أنهم قالوا: بول الصبي طاهر فينضح فحكاية باطلة قطعاً. وأما حقيقة النضح هنا فقد اختلف أصحابنا فيها، فذهب الشيخ أبو محمد الجويني والقاضي حسين والبغوي إلى أن معناه أن الشيء الذي أصابه البول يغمر بالماء كسائر النجاسات بحيث لو عصر لا يعصر، قالوا: وإنا يخالف هذا غيره في أن غيره يشترط عصره على أحد الوجهين وهذا لا يشترط بالاتفاق. وذهب إمام الحرمين والمحققون إلى أن النضح أن يغمر ويكاثر بالماء مكاثرة لا يبلغ جريان الماء وتردده وتقاطره، بخلاف المكاثرة في غيره فإنه يشترط فيها أن يكون بحيث يجري بعض الماء ويتقاطر من المحل وإن لم يشترط عصره وهذا هو الصحيح المختار، ويدل عليه قولها فنضحه ولم يغسله وقولها فرشه أي نضحه والله أعلم. ثم إن النضح إنما يجزى ما دام الصبي يقتصر به على الرضاع، أما إذا أكل الطعام على جهة التغذية فإنه يجب الغسل بلا خلاف والله أعلم
*2* باب حكم المني
*وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ خَالِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ وَالأَسْوَدِ أَنّ رَجُلاً نَزَلَ بِعَائِشَةَ. فَأَصْبَحَ يَغْسِلُ ثَوْبَهُ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنّمَا كَانَ يُجْزِئُكَ، إِنْ رَأَيْتَهُ، أَنْ تَغْسِلَ مَكَانَهُ، فَإِنْ لَمْ تَرَ، نَضَحْتَ حَوْلَهُ، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَرْكاً، فَيُصَلّي فِيهِ.
وحدّثنا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ: حَدّثَنَا أَبِي، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ وَ هَمّامٍ، عَنْ عَائِشَةَ فِي الْمَنِيّ. قَالَتْ: كُنْتُ أَفْرُكُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا حَمّادٌ (يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ) عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسّانَ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَرُوبَةَ. جَمِيعاً عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ. ح وَحَدّثَنِي مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيَ عَنْ مَهْدِيّ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ وَاصِلٍ الأَحْدَبِ. ح وَحَدّثَنِي ابْن حَاتِمٍ: حَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدّثَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مَنْصُورٍ وَ مُغِيْرَةَ. كُلّ هَولاَءِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ فِي حَتّ المَنِيّ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، نَحْوَ حَدِيثِ خَالِدٍ عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ.
وحدّثني مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ: حَدّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هَمّامٍ، عَنْ عَائِشَةَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا مُحمّدُ بْنُ بِشْرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: سَأَلْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ عَنِ الْمَنِيّ يُصِيبُ ثَوْبَ الرّجُلِ. أَيَغْسِلُهُ أَمْ يَغْسِلُ الثّوْبَ؟ فَقَالَ: أَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيّ ثُمّ يَخْرُجُ إِلَى الصّلاَةِ فِي ذَلِكَ الثّوْبِ. وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى أَثَرِ الْغَسْلِ فِيهِ.
م 1 (...) وحدّثنا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ (يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ). ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَاركِ وَ ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ. كُلُهُمْ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ بِهَذَا الاْسْنَادِ. أَمّا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ فَحَدِيثُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ بِشْرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَغْسِلُ الْمَنِيّ. وَأَمَا ابْنُ الْمُبَارَكِ وَعَبْدُ الْوَاحِدِ فِفِي حَدِيِثِهِمَا قَالَتْ: كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
وحدّثنا أَحْمَدُ بْنُ جَوّاسٍ الْحَنَفِي أَبُو عَاصِمٍ: حَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ، عَنْ شَبِيبِ بْنِ غَرْقَدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شِهَابٍ الْخَوْلاَنِيّ قَالَ: كُنْتُ نَازِلاً عَلَى عَائِشَةَ، فَاحْتَلَمْتُ فِي ثَوْبَيّ، فَغَمَسْتُهُمَا فِي الْمَاءِ، فَرَأَتْنِي جَارِيَةٌ لِعَائِشَةَ، فَأَخْبَرَتْهَا، فَبَعَثَتْ إِلَيّ عَائِشَةُ فَقَالَتْ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ بِثَوْبَيْكَ؟ قَالَ قُلْتُ: رَأَيْتُ مَا يَرَى النّائِمُ فِي مَنَامِهِ. قَالَتْ: هَلْ رَأَيْتَ فِيهِمَا شَيْئاً؟ قَالَ: لاَ. قَالَتْ: فَلَوْ رَأَيْتَ شَيْئاً غَسَلْتَهُ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَإِنّي لأَحُكّهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، يَابِساً بِظُفُرِي.
فيه (أن رجلاً نزل بعائشة فأصبح يغسل ثوبه فقالت عائشة: إنما كان يجزئك إن رأيته أن تغسل مكانه فإن لم تر نضحت حوله لقد رأيتني أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فركاً فيصلي فيه). وفي الرواية الأخرى: (كنت أفركه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وفي الرواية الأخرى: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغسل الني ثم يخرج إلى الصلاة في ذلك الثوب). وفي الرواية الأخرى: (أن عائشة قالت للذي احتلم في ثوبيه وغسلهما هل رأيت فيهما شيئاً؟ قال لا، قالت: فلو رأيت شيئاً غسلته، لقد رأيتني وإني لأحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري). اختلف العلماء في طهارة مني الاَدمي، فذهب مالك وأبو حنيفة إلى نجاسته، إلا أن أبا حنيفة قال: يكفي في تطهيره فركه إذا كان يابساً وهو رواية عن أحمد. وقال مالك: لا بد من غسله رطباً ويابساً. وقال الليث: هو نجس ولا تعاد الصلاة منه. وقال الحسن: لا تعاد الصلاة من المني في الثوب وإن كان كثيراً وتعاد منه في الجسد وإن قل. وذهب كثيرون إلى أن المني طاهر، روي ذلك عن علي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وابن عمر وعائشة وداود وأحمد في أصح الروايتين وهو مذهب الشافعي وأصحاب الحديث، وقد غلط من أوهم أن الشافعي رحمه الله تعالى منفرد بطهارته، ودليل القائلين بالنجاسة رواية الغسل، ودليل القائلين بالطهارة رواية الفرك، فلو كان نجساً لم يكف فركه كالدم وغيره قالوا: ورواية الغسل محمولة على الاستحباب والتنزه واختيار النظافة والله أعلم. هذا حكم مني الاَدمي، ولنا قول شاذ ضعيف أن مني المرأة نجس دون مني الرجل، وقول أشذ منه أن مني المرأة والرجل نجس والصواب أنهما طاهران، وهل يحل أكل المني الطاهر فيه وجهان: أظهرهما لا يحل لأنه مستقذر فهو داخل في جملة الخبائث المحرمة علينا. وأما مني باقي الحيوانات غير الاَدمي فمنها الكلب والخنزير والمتولد من أحدهما وحيوان طاهر ومنيها نجس بلا خلاف، وما عداها من الحيوانات في منيه قلاثة أوجه الأصح أنها كلها طاهرة من مأكول اللحم وغيره. والثاني أنها نجسة. والثالث مني مأكول اللحم طاهر ومني غيره نجس والله أعلم. وأما ألفاظ الباب ففيه خالد بن عبد الله عن خالد عن أبي معشر واسمه زياد بن كليب التميمي الحنظلي الكوفي، وما خالد الأول فهو الواسطي الطحان، وأما خالد الثاني فهو الحذاء. وهو خالد بن مهران أبو المنازل بضم الميم البصري، وفيه قولها كان يجزئك هو بضم الياء وبالهمز، وفيه أحمد بن جواس هو بجيم مفتوحة ثم واو مشددة ثم ألف ثم سين مهملة، وفيه شيب بن غرقدة هو بفتح الغين المعجمة وإسكان الراء وفتح القاف، وفيه قولها: فلو أريت شيئاً غسلته هو استفهام إنكار حذفت منه الهمزة تقديره أكنت غاسله معتقداً وجوب غسله، وكيف تفعل هذا وقد كنت أحكه من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم يابساً بظفري، ولو كان نجساً لم يتركه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكتف بحكه والله أعلم. وقد استدل جماعة من العلماء بهذا الحديث على طهارة رطوبة فرج المرأة، وفيها خلاف مشهور عندنا وعند غيرنا، والأظهر طهارتها، وتعلق المحتجون بهذا الحديث بأن قالوا الاحتلام مستحيل في حق النبي صلى الله عليه وسلم لأنه من تلاعب الشيطان بالنائم، فلا يكون المني الذي على ثوبه صلى الله عليه وسلم إلا من الجماع، ويلزم من ذلك مرور المني على موضع أصاب رطوبة الفرج، فلو كانت الرطوبة نجسة لتنجس بها المني ولما تركه في ثوبه ولما اكتفى بالفرك، وأجاب القائلون بنجاسة رطوبة فرج المرأة بجوابين: أحدهما جواب بعضهم أنه يمتنع استحالة الاحتلام منه صلى الله عليه وسلم وكونها من تلاعب الشيطان، بل الاحتلام منه جائز صلى الله عليه وسلم وليس هو من تلاعب الشيطان بل هو فيض زيادة المني يخرج في وقت. والثاني أنه يجوز أن يكون ذلك المني حصل بمقدمات جماع فسقط منه شيء على الثوب، وأما المتلطخ بالرطوبة فلم يكن على الثوب والله أعلم
*2* باب نجاسة الدم وكيفية غسله
*وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ: حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ. ح وَحَدّثَنِي مُحمّدُ بْنُ حَاتِمٍ (وَاللّفْظُ لَهُ): حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ: حَدّثَتْنِي فَاطِمَةُ، عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: إِحْدَانَا يُصِيبُ ثَوْبَهَا مِنْ دَمِ الْحَيْضَةِ. كَيْفَ تَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: "تَحُتّهُ. ثُمّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ. ثُمّ تَنْضِحُهُ. ثُمّ تُصَلّي فِيهِ".
وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ: حَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ. ح وَحَدّثَنِي أَبُو الطّاهِرِ: أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يَحْيَىَ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَالِمٍ وَ مَالِكٍ بْنُ أَنَسٍ وَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ. كُلّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ.
فيه (أسماء رضي الله عنها قالت: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إحدانا يصيب ثوبها من دم الحيضة كيف تصنع به؟ قال: تحته ثم تقرضه بالماء ثم تنضحه ثم تصلي فيه) الحيضة بفتح الحاء أي الحيض، ومعنى تحته تقشره وتحكه وتنحته، ومعنى تقرضه تقطعه بأطراف الأصابع مع الماء ليتحلل، وروي تقرضه بفتح التاء وإسكان القاف وضم الراء، وروي بضم التاء وفتح القاف وكسر الراء المشددة، قال القاضي عياض: رويناه بهما جميعاً، ومعنى تنضحه تغسله وهو بكسر الضاد كذا قاله الجوهري وغيره. وفي هذا الحديث وجوب غسل النجاسة بالماء، ويؤخذ منه أن من غسل بالخل أو غيره من المائعات لم يجزئه لأنه ترك المأمور به، وفيه أن الدم نجس وهو بإجماع المسلمين، وفيه أن إزالة النجاسة لا يشترط فيها العدد بل يكفي فيها الإنقاء، وفيه غير ذلك من الفوائد. واعلم أن الواجب في إزالة النجاسة الإنقاء، فإن كانت النجاسة حكمية وهي التي لا تشاهد بالعين كالبول ونحوه وجب غسلها مرة ولا تجب الزيادة، ولكن يستحب الغسل ثانية وثالثة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً" وقد تقدم بيانه. وأما إذا كانت النجاسة عينية كالدم وغيره فلا بد من إزالة عينها، ويستحب غسلها بعد زوال العين ثانية وثالثة، وهل يشترط عصر الثوب إذا غسله؟ فيه وجهان الأصح أنه لا يشترط، وإذا غسل النجاسة العينية فبقي لونها لم يضره، بل قد حصلت الطهارة، وإن بقي طعمها فالثوب نجس فلا بد من إزالة الطعم، وإن بقيت الرائحة ففيه قولان للشافعي أفصحهما يطهر والثاني لا يطهر والله أعلم
*2* باب الدليل على نجاسة البول ووجوب الاستبراء منه
*وحدّثنا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجّ وَ أَبُو كُرَيْبٍ مُحمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (قَالَ: إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ: الاَخَرَان: حَدّثَنَا وَكِيعٌ): حَدّثَنَا الأَعْمَشُ. قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِداً يُحَدّثُ عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: مَرّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى قَبْرَيْنِ. فَقَالَ: "أَمَا إِنّهُمَا لَيُعَذّبَانِ، وَمَا يُعَذّبَانِ فِي كَبِيرٍ، أَمّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَمْشِي بِالنّمِيمَةِ، وَأَمّا الاَخَرُ فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ" قَالَ: فَدَعَا بِعَسِيبٍ رَطْبٍ فَشَقّهُ بِاثْنَيْنِ، ثُمّ غَرَسَ عَلَى هَذَا وَاحِداً، وَعَلَى هَذَا وَاحِداً. ثُمّ قَالَ: "لَعَلّهُ أَنْ يُخَفّفُ عَنْهُمَا، مَا لَمْ يَيْبَسَا".
حَدّثَنِيهِ أَحَمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزَدِيّ: حَدّثَنَا مُعَلّى بْنُ أَسَدٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَعْمَشِ بِهَذَا الاْسْنَادِ، غَيْرَ أَنّهُ قَالَ "وَكَانَ الاَخَرُ لاَ يَسْتَنْزِهُ عَنْ الْبَوْلِ (أَوْ مِنَ الْبَوْلِ)".
فيه حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الاَخر فكان لا يستتر من بوله، قال: فدعا بعسيب رطب فشقه باثنين ثم غرس على هذا واحداً وعلى هذا واحداً ثم قال: لعله أن يخفف عنهما ما لم ييبسا). وفي الرواية الأخرى: (كان لا يستنزه عن البول أو من البول). أما العسيب فبفتح العين وكسر السين المهملتين وهو الجريد والغصن من النخل ويقال له العثكال، وقوله باثنين هذه الباء زائدة للتوكيد واثنين منصوب على الحال وزيادة الباء في الحال صحيحة معروفة، وييبسا مفتوح الباء الموحدة قبل السين ويجوز كسرها لغتان، وأما النميمة فحقيقتها نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد، وقد تقدم في باب غلظ تحريم النميمة من كتاب الإيمان بيانها واضحاً مستقصى. وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يستتر من بوله فروي ثلاث روايات: يستتر بتاءين مثناتين، ويستنزه بالزاي والهاء، ويستبرئ بالباء الموحدة والهمزة، وهذه الثالثة في البخاري وغيره وكلها صحيحة ومعناها لا يتجنبه ويتحرز منه والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وما يعذبان في كبير" فقد جاء في رواية البخاري: "وما يعذبان في كبير وأنه لكبير كان أحدهما لا يستتر من البول" الحديث ذكره في كتاب الأدب في باب النميمة من الكبائر، وفي كتاب الوضوء من البخاري أيضاً: "وما يعذبان في كبير بل إنه كبير" فثبت بهاتين الزيادتين الصحيحتين أنه كبير، فيجب تأويل قوله صلى الله عليه وسلم وما يعذبان في كبير. وقد ذكر العلماء فيه تأويلين: أحدهما أنه ليس بكبير في زعمهما. والثاني أنه ليس بكبير تركه عليهما. وحكى القاضي عياض رحمه الله تعالى تأويلاً ثالثاً أي ليس بأكبر الكبائر، قلت: فعلى هذا يكون المراد بهذا الزجر والتحذير لغيرهما أي لا يتوهم أحد أن التعذيب لا يكون إلا في أكبر الكبائر الموبقات فإنه يكون في غيرها والله أعلم. وسبب كونهما كبيرين أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة فتركه كبيرة بلا شك والمشي بالنميمة والسعي بالفساد من أقبح القبائح، لا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم: كان يمشي بلفظ كان التي للحالة المستمرة غالباً والله أعلم. وأما وضعه صلى الله عليه وسلم الجريدتين على القبر فقال العلماء: محمول على أنه صلى الله عليه وسلم سأل الشفاعة لهما فأجيبت شفاعته صلى الله عليه وسلم بالتخفيف عنهما إلى أن ييبسا. وقد ذكر مسلم رحمه الله تعالى في آخر الكتاب في الحديث الطويل حديث جابر في صاحبي القبرين فأجيب شفاعتي أن يرفع ذلك عنها ما دام القضيبان رطبان. وقيل: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو لهما تلك المدة. وقيل: لكونهما يسبحان ما داما رطبين وليس لليابس تسبيح، وهذا مذهب كثيرين أو الأكثرين من المفسرين في قوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} قالوا معناه وإن من شيء حي، ثم قالوا حياة كل شيء بحسبه، فحياة الخشب ما لم ييبس، والحجر ما لم يقطع، وذهب المحققون من المفسرين وغيرهم إلى أنه على عمومه، ثم اختلف هؤلاء هل يسبح حقيقة أم فيه دلالة على الصانع فيكون مسبحاً منزهاً بصورة حاله، والمحققون على أنه يسبح حقيقة، وقد أخبر الله تعالى: {وإن من الحجارة لما يهبط من خشية الله} وإذا كان العقل لا يحيل جعل التميز فيها وجاء النص به وجب المصير إليه والله أعلم. واستحب العلماء قراءة القرآن عند القبر لهذا الحديث لأنه إذا كان يرجى التخفيف بتسبيح الجريد فتلاوة القرآن أولى والله أعلم. وقد ذكر البخاري في صحيحه أن بريدة بن الحصيب الأسلمي الصحابي رضي الله عنه أوصى أن يجعل في قبره جريدتان، ففيه أنه رضي الله عنه تبرك بفعل مثل فعل النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أنكر الخطابي ما يفعله الناس على القبور من الأخواص ونحوها متعلقين بهذا الحديث وقال لا أصل له ولا وجه له والله أعلم. وأما فقه الباب ففيه إثبات عذاب القبر وهو مذهب أهل الحق خلافاً للمعتزلة، وفيه نجاسة الأبوال للرواية الثانية لا يستنزه من البول، وفيه غلظ تحريم النميمة وغير ذلك مما تقدم والله أعلم.