كتاب الزكاة
 كتاب الزكاة

باب

وحدّثني عَمْرُو بْنُ مُحَمّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النّاقِدُ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. قَالَ: سَأَلْتُ عَمْرَو بْنَ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ. فَأَخْبَرَنِي عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ. وَلاَ فِيما دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ. وَلاَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أواقٍ صَدَقَةً.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ.ح وَحَدّثَنِي عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ إِدْرِيسَ. كِلاَهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَىَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ. أَخْبَرَنَي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى ابْنِ عُمَارَة عَنْ أَبيهِ، يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ. وَأَشَارَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِكَفّهِ بِخَمْسِ أَصَابِعِهِ. ثُمّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.
وحدّثني أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيّ. حَدّثَنَا بِشْرٌ(يَعْنِي ابْنَ مُفَضّلٍ) حَدّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ غَزِيّةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقةٌ. وَلَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ. وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقةٌ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهْيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيّةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَىَ بْنِ حَبّانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لَيْسَ فِيما دُونَ خَمْسَةِ أَوْسَاقٍ مِنْ تَمْرٍ وَلاَ حَبَ صَدَقَةٌ".
وحدّثنا إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ (يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيَ) حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيّةَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبّانَ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لَيْسَ فِي حَبَ وَلاَ تَمْرٍ صَدَقَةٌ. حَتّىَ يَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ. وَلاَ فِيما دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ. وَلاَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقةٌ".
وحدّثني عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ الثّورِيّ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيّةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيث ابْنِ مَهْدِيَ.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا الثّوْرِيّ وَ مَعْمَرٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيّةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ حَدِيثِ ابْنِ مَهْدِيَ وَيَحْيَى بْنِ آدَمَ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: (بَدَلَ التّمْرِ) ثَمَرٍ.
حدّثنا هَرُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ وَ هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ. قَالا: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنَي عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ. وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنَ الإِبِلِ صَدَقَةٌ. وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنَ التّمْرِ صَدَقَةٌ".
هي في اللغة النماء والتطهير، فالمال ينمى بها من حيث لا يرى وهي مطهرة لمؤديها من الذنوب، وقيل ينمى أجرها عند الله تعالى، وسميت في الشرع زكاة لوجود المعنى اللغوي فيها، وقيل لأنها تزكي صاحبها وتشهد بصحة إيمانه كما سبق في قوله صلى الله عليه وسلم: "والصدقة برهان" قالوا: وسميت صدقة لأنها دليل لتصديق صاحبها وصحة إيمانه بظاهره وباطنه. قال القاضي عياض: قال المازري رحمه الله قد أفهم الشرع أن الزكاة وجبت للمواساة وأن المواساة لا تكون إلا في مال له بال وهو النصاب، ثم جعلها في الأموال الثابتة وهي العين والزرع والماشية، وأجمعوا على وجوب الزكاة في هذه الأنواع، واختلفوا فيما سواها كالعروض، فالجمهور يوجبون زكاة العروض، وداود يمنعها تعلقاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على الرجل في عبده ولا فرسه صدقة" وحمله الجمهور على ما كان للقنية، وحدد الشرع نصاب كل جنس بما يحتمل المواساة، فنصاب الفضة خمس أواق وهي مائتا درهم بنص الحديث والإجماع، وأما الذهب فعشرون مثقالاً والمعول فيه على الإجماع، قال: وقد حكي فيه خلاف شاذ، وورد فيه أيضاً حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وأما الزروع والثمار والماشية فنصبها معلومة" ورتب الشرع مقدار الواجب بحسب المؤنة والتعب في المال فأعلاها وأقلها تعباً الركاز وفيه الخمس لعدم التعب فيه، ويليه الزرع والتمر فإن سقي بماء السماء ونحوه ففيه العشر وإلا فنصفه، ويليه الذهب والفضة والتجارة وفيها ربع العشر لأنه يحتاج إلى العمل فيه جميع السنة، ويليه الماشية فإنه يدخلها الأوقاص بخلاف الأنواع السابقة والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" الأوسق جمع وسق فيه لغتان فتح الواو وهو المشهور وكسرها وأصله في اللغة الحمل، والمراد بالوسق ستون صاعاً كل صاع خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، وفي رطل بغداد أقوال أظهرها أنه مائة درهم وثمانية وعشرون درهماً وأربعة أسباع درهم، وقيل مائة وثمانية وعشرون بلا أسباع، وقيل مائة وثلاثون، فالأوسق الخمسة ألف وستمائة رطل بالبغدادي، وهل هذا التقدير بالأرطال تقريب أم تحديد؟ فيه وجهان لأصحابنا أصحهما تقريب فإذا نقص عن ذلك يسيراً وجبت الزكاة. والثاني تحديد فمتى نقص شيئاً وإن قل لم تجب الزكاة. وفي هذا الحديث فائدتان: إحداهما وجوب الزكاة في هذه المحدودات. الثانية أنه لا زكاة فيما دون ذلك. ولا خلاف بين المسلمين في هاتين إلا ما قال أبو حنيفة وبعض السلف أنه تجب الزكاة في قليل الحب وكثيره وهذا مذهب باطل منابذ لصريح الأحاديث الصحيحة، وكذلك أجمعوا على أن في عشرين مثقالاً من الذهب زكاة إلا ما روي عن الحسن البصري والزهري أنهما قالا: لا تجب في أقل من أربعين مثقالاً، والأشهر عنهما الوجوب في عشرين كما قاله الجمهور. قال القاضي عياض: وعن بعض السلف وجوب الزكاة في الذهب إذا بلغت قيمته مائتي درهم وإن كان دون عشرين مثقالاً، قال هذا القائل: ولا زكاة في العشرين حتى تكون قيمتها مائتي درهم، وكذلك أجمعوا فيما زاد في الحب والتمر أنه يجب فيما زاد على خمسة أوسق بحسابه وأنه لا أوقاص فيها، واختلفوا في الذهب والفضة فقال مالك والليث والثوري والشافعي وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وأكثر أصحاب أبي حنيفة وجماعة أهل الحديث: أن فيما زاد من الذهب والفضة ربع العشر في قليله وكثيره ولا وقص. وروي ذلك عن علي وابن عمر. وقال أبو حنيفة وبعض السلف: لا شيء فيما زاد على مائتي درهم حتى يبلغ أربعين درهماً. ولا فيما زاد على عشرين ديناراً حتى يبلغ أربعة دنانير، فإذا زادت ففي كل أربعين درهماً درهم، وفي كل أربعة دنانير درهم فجعل لها وقصاً كالماشية، واحتج الجمهور بقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: "في الرقة ربع العشر" والرقة الفضة، وهذا عام في النصاب وما فوقه بالقياس على الحبوب. ولأبي حنيفة في المسألة حديث ضعيف لا يصح الاحتجاج به. قال القاضي: ثم إن مالكاً والجمهور يقولون بضم الذهب والفضة بعضهما إلى بعض في إكمال النصاب، ثم أن مالكاً يراعي الوزن ويضم على الأجزاء لا على القيم ويجعل كل دينار كعشرة دراهم على الصرف الأول. وقال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة: يضم على القيم في وقت الزكاة. وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور وداود: لا يضم مطلقاً. قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا فيما دون خمس ذود صدقة" الرواية المشهورة خمس ذود بإضافة ذود إلى خمس وروي بتنوين خمس ويكون ذود بدلاً منه حكاه ابن عبد البر والقاضي وغيرهما والمعروف الأول. ونقله ابن عبد البر والقاضي عن الجمهور، وقال أهل اللغة: الذود من الثلاثة إلى العشر لا واحد له من لفظه إنما يقال في الواحد بعير، وكذلك النفر والرهط والقوم والنساء وأشباه هذه الألفاظ لا واحد لها من لفظها، قالوا: وقوله خمس ذود كقوله خمسة أبعرة وخمسة جمال وخمس نوق وخمس نسوة. قال سيبويه: تقول ثلاث ذود لأن الذود مؤنث وليس باسم كسر عليه مذكره. ثم الجمهور على أن الذود من ثلاثة إلى العشرة، وقال أبو عبيد: ما بين ثلاث إلى تسع وهو مختص بالإناث.
وقال الحربي: قال الأصمعي الذود ما بين الثلاث إلى العشرة، والصبة خمس أو ست، والصرمة ما بين العشرة إلى العشرين، والعكرة ما بين العشرين إلى الثلاثين، والهجمة ما بين الستين إلى السبعين، والهنية مائة، والحظر نحو مائتين، والعرج من خمسمائة إلى ألف. وقال أبو عبيدة وغيره: الصرمة ما بين العشر إلى الأربعين، وأنكر ابن قتيبة أن يقال خمس ذود كما لا يقال خمس ثوب وغلطه العلماء بل هذا اللفظ شائع في الحديث الصحيح ومسموع من العرب معروف في كتب اللغة وليس هو جمعاً لمفرد بخلاف الأثواب. قال أبو حاتم السجستاني: تركوا القياس في الجمع فقالوا خمس ذود لخمس من الإبل، وثلاث ذود لثلاث من الإبل، وأربع ذود وعشر ذود على غير قياس، كما قالوا ثلثمائة وأربعمائة والقياس مئين ومئات ولا يكادون يقولونه، وقد ضبطه الجمهور خمس ذود، ورواه بعضهم خمسة ذود، وكلاهما لرواة كتاب مسلم والأول أشهر وكلاهما صحيح في اللغة، فإثبات الهاء لانطلاقه على المذكر والمؤنث، ومن حذفها قال الداودي: أراد أن الواحدة منه فريضة. قوله صلى الله عليه وسلم: (وليس فيما دون خمس أواقي صدقة" هكذا وقع في الرواية الأولى أواقي بالياء، وفي باقي الروايات بعدها أواق بحذف الياء وكلاهما صحيح. قال أهل اللغة: الأوقية بضم الهمزة وتشديد الياء وجمعها أواقي بتشديد الياء وتخفيفها وأواق بحذفها. قال ابن السكيت في الإصلاح: كل ما كان من هذا النوع واحده مشدداً جاز في جمعه التشديد والتخفيف، فالأوقية والأواقي والسرية والسراري والختية والعلية والأثفية ونظائرها، وأنكر جمهورهم أن يقال في الواحدة وقية بحذف الهمزة، وحكى اللحياني جوازها بحذف الواو وتشديد الياء وجمعها وقايا، وأجمع أهل الحديث والفقه وأئمة أهل اللغة على أن الأوقية الشرعية أربعون درهماً وهي أوقية الحجاز، قال القاضي عياض: ولا يصح أن تكون الأوقية والدراهم مجهولة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوجب الزكاة في أعداد منها ويقع بها البياعات والأنكحة كما ثبت في الأحاديث الصحيحة، قال: وهذا يبين أن قول من زعم أن الدراهم لم تكن معلومة إلى زمان عبد الملك بن مروان وأنه جمعها برأي العلماء وجعل كل عشرة وزن سبعة مثاقيل ووزن الدرهم ستة دوانيق قول باطل، وإنما معنى ما نقل من ذلك أنه لم يكن منها شيء من ضرب الإسلام وعلى صفة لا تختلف، بل كانت مجموعات من ضرب فارس والروم وصغاراً وكباراً وقطع فضة غير مضروبة ولا منقوشة ويمنية ومغربية، فرأوا صرفها إلى ضرب الإسلام ونقشه وتصييرها وزناً واحداً لا يختلف وأعياناً ليستغني فيها عن الموازين، فجمعوا أكبرها وأصغرها وضربوه على وزنهم. قال القاضي: ولا شك أن الدراهم كانت حينئذ معلومة، وإلا فكيف كانت تعلق بها حقوق الله تعالى في الزكاة وغيرها وحقوق العباد؟ ولهذا كانت الأوقية معلومة، هذا كلام القاضي. وقال أصحابنا: أجمع أهل العصر الأول على التقدير بهذا الوزن المعروف وهو أن الدرهم ستة دوانيق، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل، ولم يتغير المثقال في الجاهلية ولا الإسلام. قوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي بكر بن أبي شيبة: "ليس فيما دون خمسة أوساق) هكذا هو في الأصول خمسة أوساق وهو صحيح جمع وسق بكسر الواو كحمل وأحمال، وقد سبق أن الوسق بفتح الواو وبكسره. قوله صلى الله عليه وسلم: (من تمر أو حب) هو تمر بفتح التاء المثناة وإسكان الميم، وفي رواية محمد بن رافع عن عبد الرزاق ثمر بفتح المثلثة وفتح الميم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" قال أهل اللغة: يقال ورق وورق بكسر الراء وإسكانها والمراد به هنا الفضة كلها مضروبها وغيره. واختلف أهل اللغة في أصله فقيل يطلق في الأصل على جميع الفضة، وقيل هو حقيقة للمضروب دراهم، ولا يطلق على غير الدراهم إلا مجازاً، وهذا قول كثير من أهل اللغة، وبالأول قال ابن قتيبة وغيره منهم وهو مذهب الفقهاء، ولم يأت في صحيح بيان نصاب الذهب، وقد جاءت فيه أحاديث بتحديد نصابه بعشرين مثقالاً وهي ضعاف، ولكن أجمع من يعتد به في الإجماع على ذلك، وكذا اتفقوا على اشتراط الحول في زكاة الماشية والذهب والفضة دون المعشرات، وفي هذا الحديث دلالة لمذهب الشافعي وموافقيه في الفضة إذا كانت دون مائتي درهم رائجة أو نحوها لا زكاة فيها لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" وقد سبق أن الأوقية أربعون درهماً وهي أوقية الحجاز الشرعية. وقال مالك: إذا نقصت شيئاً يسيراً بحيث تروج رواج الوازنة وجبت الزكاة، ودليلنا أنه يصدق أنها دون خمس أواق، وفيه دليل أيضاً للشافعي وموافقيه في الدراهم المغشوشة أنه لا زكاة فيها حتى تبلغ الفضة المحضة منها مائتي درهم
*2* باب ما فيه العشر أو نصف العشر
*حدّثني أَبُو الطّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، وَ هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ، وَ عَمْرُو بْنُ سَوّادٍ وَ الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعٍ. كُلّهُمْ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ. قَالَ أَبُو الطّاهِرِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنّ أَبَا الزّبَيْرِ حَدّثَهُ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَذْكُرُ أَنّهُ سَمِعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "فِيما سَقَتِ الأَنْهَارُ والْغَيْمُ الْعُشُورُ. وَفِيمَا سُقِيَ بِالسّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت الأنهار والغيم العشور وفيما سقي بالسانية نصف العشر" ضبطناه العشور بضم العين جمع عشر، وقال القاضي عياض: ضبطناه عن عامة شيوخنا بفتح العين جمع وهو اسم للمخرج من ذلك. وقال صاحب مطالع الأنوار: أكثر الشيوخ يقولونه بالضم وصوابه الفتح وهذا الذي ادعاه من الصواب ليس بصحيح، وقد اعترف بأن أكثر الرواة رووه بالضم وهو الصواب جمع عشر، وقد اتفقوا على قولهم عشور أهل الذمة بالضم وهو الصواب جمع عشر ولا فرق بين اللفظين، وأما الغيم هنا فبفتح الغين المعجمة وهو المطر، وجاء في غير مسلم الغيل باللام، قال أبو عبيد: هو ما جرى من المياه في الأنهار وهو سيل دون السيل الكبير. وقال ابن السكيت: هو الماء الجاري على الأرض. وأما السانية فهو البعير الذي يسقى به الماء من البئر ويقال له الناضح يقال منه سنا يسنو إذا أسقى به، وفي هذا الحديث وجوب العشر فيما سقي بماء السماء والأنهار ونحوها مما ليس فيه مؤنة كثيرة، ونصف العشر فيما سقي بالنواضح وغيرها مما فيه مؤنة كثيرة وهذا متّفق عليه، ولكن اختلف العلماء في أنه هل تجب الزكاة في كل ما أخرجت الأرض من الثمار والزروع والرياحين وغيرها إلا الحشيش والحطب ونحوهما أم يختص؟ فعمم أبو حنيفة وخصص الجمهور على اختلاف لهم فيما يختص به وهو معروف في كتب الفقه
*2* باب لا زكاة على المسلم في عبده وفرسه
*وحدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التّمِيمِيّ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ".
وحدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. حَدّثَنَا أَيّوبُ ابْن مُوسَىَ عَنْ مَكْحُولٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، (قَالَ عَمْرٌو): عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم (وَقَالَ زُهَيْرٌ: يَبْلُغُ بِهِ) "لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ".
حدثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ. ح وَحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ. كُلّهُمْ عَنْ خُثَيْمِ بْنِ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ وَ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَىَ. قَالُوا: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنَي مَخْرَمَةُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِرَاكِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدّثُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ فِي الْعَبْدِ صَدَقَةٌ إِلاّ صَدَقَةُ الْفِطْرِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" هذا الحديث أصل في أن أموال القنية لا زكاة فيها، وأنه لا زكاة في الخيل والرقيق إذا لم تكن للتجارة، وبهذا قال العلماء كافة من السلف والخلف، إلا أن أبا حنيفة وشيخه حماد بن أبي سليمان ونفراً أوجبوا في الخيل إذا كانت إناثاً أو ذكوراً وإناثاً في كل فرس ديناراً وإن شاء قومها، وأخرج عن كل مائتي درهم خمسة دراهم وليس لهم حجة في ذلك، وهذا الحديث صريح في الرد عليهم. وقوله في العبد: (إلا صدقة الفطر) صريح في وجوب صدقة الفطر على السيد عن عبده سواء كان للقنية أم للتجارة وهو مذهب مالك والشافعي والجمهور، وقال أهل الكوفة: لا يجب في عبيد التجارة، وحكي عن داود أنه قال: لا تجب على السيد بل تجب على العبد ويلزم السيد تمكينه من الكسب ليؤديها، وحكاه القاضي عن أبي ثور أيضاً، ومذهب الشافعي وجمهور العلماء أن المكاتب لا فطرة عليه ولا على سيده، وعن عطاء ومالك وأبي ثور وجوبها على السيد وهو وجه لبعض أصحاب الشافعي لقوله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" وفيه وجه أيضاً لبعض أصحابنا أنها تجب على المكاتب لأنه كالحر في كثير من الأحكام
*2* باب في تقويم الزكاة ومنعها
*وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ حَفْصٍ. حَدّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ أَبِي الزّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عُمَرَ عَلَى الصّدَقَةِ. فَقِيلَ: مَنَعَ ابْنُ جَمِيلٍ وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَالْعَبّاسُ رَضِيَ اللّهِ عَنْهُمَ عَمّ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَنْقِمُ ابْنُ جَمِيلٍ إِلاّ أَنّهُ كَانَ فَقِيراً فَأَغْنَاهُ اللّهُ وَأَمّا خَالِدٌ فَإِنّكُمْ تَظْلِمُونَ خَالِداً. قَدِ احْتَبَسَ أَدْرَاعَهُ وَأَعْتَادَهُ فِي سَبِيلِ اللّهِ، وَأَمّا الْعَبّاسُ فَهِيَ عَلَيّ. وَمِثْلُهَا مَعَهَا". ثُمّ قَالَ: "يَا عُمَرُ أَمَا شَعَرْتَ أَنّ عَمّ الرّجُلِ صِنْوُ أَبِيهِ؟".
قوله: (منع ابن جميل) أي منع الزكاة وامتنع من دفعها. قوله صلى الله عليه وسلم: "ما ينقم ابن جميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله" قوله: ينقم بكسر القاف وفتحها والكسر أفصح. قوله صلى الله عليه وسلم: "وأما خالد فإنكم تظلمون خالداً فقد احتبس أدراعه وأعتاده في سبيل الله" قال أهل اللغة: الأعتاد آلات الحرب من السلاح والدواب وغيرها، والواحد عتاد بفتح العين ويجمع أعتاداً وأعتدة، ومعنى الحديث أنهم طلبوا من خالد زكاة أعتاده ظناً منهم أنها للتجارة وأن الزكاة فيها واجبة فقال لهم: لا زكاة لكم علي، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن خالداً منع الزكاة، فقال لهم: إنكم تظلمونه لأنه حبسها ووقفها في سبيل الله قبل الحول عليها فلا زكاة فيها. ويحتمل أن يكون المراد لو وجبت عليه زكاة لأعطاها ولم يشح بها لأنه قد وقف أمواله لله تعالى متبرعاً فكيف يشح بواجب عليه، واستنبط بعضهم من هذا وجوب زكاة التجارة، وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف خلافاً لداود، وفيه دليل على صحة الوقف وصحة وقف المنقول، وبه قالت الأمة بأسرها إلا أبا حنيفة وبعض الكوفيين، وقال بعضهم: هذه الصدقة التي منعها ابن جميل وخالد والعباس لم تكن زكاة إنما كانت صدقة تطوع حكاه القاضي عياض، قال: ويؤيده أن عبد الرزاق روى هذا الحديث وذكر في روايته أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ندب الناس إلى الصدقة وذكر تمام الحديث. قال ابن القصار من المالكية: وهذا التأويل أليق بالقصة فلا يظن بالصحابة منع الواجب، وعلى هذا فعذر خالد واضح لأنه أخرج ماله في سبيل الله، فما بقي له مال يحتمل المواساة بصدقة التطوع، ويكون ابن جميل شح بصدقة التطوع فعتب عليه وقال في العباس هي علي ومثلها معها أي أنّه لا يمتنع إذا طلبت منه هذا كلام ابن القصار. وقال القاضي: لكن ظاهر الأحاديث في الصحيحين أنها في الزكاة لقوله: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على الصدقة وإنما كان يبعث في الفريضة. قلت: الصحيح المشهور أن هذا كان في الزكاة لا في صدقة التطوع، وعلى هذا قال أصحابنا وغيرهم. قوله صلى الله عليه وسلم: (هي علي ومثلها معها) معناه اني تسلفت منه زكاة عامين، وقال الذين لا يجوزون تعجيل الزكاة معناه أنا أؤديها عنه. قال أبو عبيد وغيره: معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخرها عن العباس إلى وقت يساره من أجل حاجته إليها والصواب أن معناه تعجلتها منه. وقد جاء في حديث آخر في غير مسلم إنا تعجلنا منه صدقة عامين. قوله صلى الله عليه وسلم: (عم الرجل صنو أبيه) أي مثل أبيه وفيه تعظيم حق العم
*2* باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير
*حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا مَالِكٌ. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ (وَاللّفْظُ لَهُ) قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النّاسِ. صَاعاً مِنْ تَمْرٍ. أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ. عَلَىَ كُلّ حُرَ أَوْ عَبْدٍ. ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَىَ. مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
حدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ (وَاللّفْظُ لَهُ) قَالَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ وَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ. أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ. عَلَىَ كُلّ عَبْدٍ أَوْ حُرَ. صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ.
وأَخْبَرَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ أَيّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: فَرَضَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَدَقَةَ رَمَضَانَ عَلَى الْحُرّ وَالْعَبْدِ، وَالذّكَرِ وَالأُنْثَىَ، صَاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ.
قَالَ: فَعَدَلَ النّاسُ بِهِ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرَ.
حَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ رُمْحٍ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ عَنْ نَافِعٍ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ. صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَجَعَلَ الناسُ عِدْلَهُ مُدّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ أَخْبَرَنَا الضّحّاك عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَىَ كُلّ نَفْسٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، حُرَ أَوْ عَبْدٍ. أَوْ رَجُلٍ أَوِ امْرأَةٍ. صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ. صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ.
حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولُ: كُنّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ صَاعاً مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ.
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ. حَدّثَنَا دَاوُدُ (يَعْنِي ابْنَ قَيْسٍ) عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: كُنّا نُخْرِجُ، إِذْ كَانَ فِينَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ. حُرَ أَوْ مَمْلُوكٍ. صَاعاً مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ،أَوْ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ حَتّىَ قَدِمَ عَلَيْنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ حَاجّاً، أَوْ مُعْتَمِراً. فَكَلّمَ النّاسَ عَلَى الْمِنْبَرِ. فَكَانَ فِيمَا كَلّمَ بِهِ النّاسَ أَنْ قَالَ: إِنّي أُرَىَ مُدّيْنِ مِنْ سَمْرَاءِ الشّامِ تَعْدِلُ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ. فَأَخَذَ النّاسُ بِذَلِكَ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَمّا أَنَا فَلاَ أَزَالُ أُخْرِجُهُ، كَمَا كُنْتُ أُخْرِجُهُ أَبَداً، مَا عِشْتُ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيّةَ. قَالَ: أَخْبَرَنِي عَنْ عِيَاضُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدَرِيّ يَقُولُ: كُنّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطَرِ، وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِينَا، عَنْ كُلّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ. حُرَ وَمَمْلُوكٍ. مِنْ ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: صَاعاً مِنْ تَمْرٍ. صَاعاً مِنْ أَقِطٍ. صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ. فَلَمْ نَزَلْ نُخْرِجُهُ كَذَلِكَ حَتّىَ كَانَ مُعَاوِيَةُ. فَرَأَىَ أَنّ مُدّيْنِ مِنْ برَ تَعْدِلُ صَاعاً مِنْ تَمْرٍ.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَمّا أَنَا فَلاَ أَزَالُ أُخْرِجُهُ كَذَلِكَ.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رِافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي ذبَابٍ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: كُنّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: الأَقِطِ، وَالتّمْرِ، وَالشّعِيرِ.
وحدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنِ ابْنِ عَجْلاَنَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ مُعَاوِيَةَ، لَمّا جَعَلَ نِصْفَ الصّاعِ مِنَ الْحِنْطَةِ عَدْلَ صَاعِ مِنْ تَمْرٍ، أَنْكَرَ ذَلِكَ أَبُو سَعِيدٍ. وَقَالَ: لاَ أُخْرِجُ فِيهَا إِلاّ الّذِي كُنْتُ أُخْرِجُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: صَاعاً مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعاً مِنْ زَبِيبٍ أَوْ صَاعاً مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعاً مِنْ أَقِطٍ.
قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض زكاة الفطر من رمضان على الناس صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى من المسلمين) اختلف الناس في معنى فرض هنا فقال جمهورهم من السلف والخلف: معناه ألزم وأوجب، فزكاة الفطر فرض واجب عندهم لدخولها في عموم قوله تعالى: {وآتوا الزكاة} ولقوله فرض وهو غالب في استعمال الشرع بهذا المعنى. وقال إسحاق بن راهويه: إيجاب زكاة الفطر كالإجماع. وقال بعض أهل العراق وبعض أصحاب مالك وبعض أصحاب الشافعي وداود في آخر أمره. أنها سنة ليست واجبة. قالوا: ومعنى فرض قدر على سبيل الندب. وقال أبو حنيفة: هي واجبة ليست فرضاً بناء على مذهبه في الفرق بين الواجب والفرض. قال القاضي: وقال بعضهم الفطرة منسوخة بالزكاة، قلت: هذا غلط صريح والصواب أنها فرض واجب. قوله: (من رمضان) إشارة إلى وقت وجوبها وفيه خلاف للعلماء، فالصحيح من قول الشافعي أنها تجب بغروب الشمس ودخول أول جزء من ليلة عيد الفطر. والثاني تجب لطلوع الفجر ليلة العيد، وقال أصحابنا: تجب بالغروب والطلوع معاً، فإن ولد بعد الغروب أو مات قبل الطلوع لم تجب. وعن مالك روايتان كالقولين، وعند أبي حنيفة تجب بطلوع الفجر. قال المازري: قيل إن هذا الخلاف مبني على أن قوله الفطر من رمضان هل المراد به الفطر المعتاد في سائر الشهر فيكون الوجوب بالغروب، أو الفطر الطارئ بعد ذلك فيكون بطلوع الفجر؟ قال المازري: وفي قوله الفطر من رمضان دليل لمن يقول لا تجب إلا على من صام من رمضان ولو يوماً واحداً، قال: وكان سبب هذا أن العبادات التي تطول ويشق التحرز منها من أمور تفوت كمالها جعل الشرع فيها كفارة مالية بدل النقص كالهدي في الحج والعمرة، وكذا الفطرة لما يكون في الصوم من لغو وغيره، وقد جاء في حديث آخر أنها طهرة للصائم من اللغو والرفث. واختلف العلماء أيضاً في إخراجها عن الصبي فقال الجمهور: يجب إخراجها للحديث المذكور بعد هذا صغير أو كبير، وتعلق من لم يوجبها بأنها تطهير والصبي ليس محتاجاً إلى التطهير لعدم الإثم. وأجاب الجمهور عن هذا بأن التعليل بالتطهير لغالب الناس، ولا يمتنع أن لا يوجد التطهير من الذنب، كما أنها تجب على من لا ذنب له كصالح محقق الصلاح، وككافر أسلم قبل غروب الشمس بلحظة فإنها تجب عليه مع عدم الإثم، وكما أن القصر في السفر جوز للمشقة فلو وجد من لا مشقة عليه فله القصر. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "على كل حر أو عبد" فإن داود أخذ بظاهره فأوجبها على العبد بنفسه، وأوجب على السيد تمكينه من كسبها كما يمكنه من صلاة الفرض، ومذهب الجمهور وجوبها على سيده عنه، وعند أصحابنا في تقديرها وجهان: أحدهما أنها تجب على السيد ابتداء. والثاني تجب على العبد ثم يحملها عنه سيده. فمن قال بالثاني فلفظة على على ظاهرها، ومن قال بالأول قال لفظة على بمعنى عن. وأما قوله على الناس (على كل حر أو عبد ذكر أو أنثى) ففيه دليل على أنها تجب على أهل القرى والأمصار والبوادي والشعاب وكل مسلم حيث كان، وبه قال مالك وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وجماهير العلماء، وعن عطاء والزهري وربيعة والليث أنها لا تجب إلا على أهل الأمصار والقرى دون البوادي، وفيه دليل للشافعي والجمهور في أنها تجب على من ملك فاضلاً عن قوته وقوت عياله يوم العيد، وقال أبو حنيفة: لا تجب على من يحل له أخذ الزكاة، وعندنا أنه لو ملك من الفطرة المعجلة فاضلاً عن قوته ليلة العيد ويومه لزمته الفطرة عن نفسه وعياله، وعن مالك وأصحابه في ذلك خلاف. وقوله: ذكر أو أنثى حجة للكوفيين في أنها تجب على الزوجة في نفسها ويلزمها إخراجها من مالها. وعند مالك والشافعي والجمهور يلزم الزوج فطرة زوجته لأنها تابعة للنفقة. وأجابوا عن الحديث بما سبق في الجواب لداود في فطرة العيد. وأما قوله: (من المسلمين) فصريح في أنها لا تخرج إلا عن مسلم فلا يلزمه عن عبده وزوجته وولده ووالده الكفار وإن وجبت عليه نفقتهم، وهذا مذهب مالك والشافعي وجماهير العلماء. وقال الكوفيون وإسحاق وبعض السلف: تجب عن العبد الكافر. وتأول الطحاوي قوله من المسلمين على أن المراد بقوله من المسلمين السادة دون العبيد وهذا يرده ظاهر الحديث. وأما قوله صاعاً من كذا وصاعاً من كذا ففيه دليل على أن الواجب في الفطرة عن كل نفس صاع، فإن كان في غير حنطة وزبيب وجب صاع بالإجماع، وإن كان حنطة وزبيباً وجب أيضاً صاع عند الشافعي ومالك والجمهور، وقال أبو حنيفة وأحمد: نصف صاع بحديث معاوية المذكور بعد هذا، وحجة الجمهور حديث أبي سعيد بعد هذا في قوله: (صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب) والدلالة فيه من وجهين: أحدهما أن الطعام في عرف أهل الحجاز اسم للحنطة خاصة لا سيما وقد قرنه بباقي المذكورات. والثاني أنه ذكر أشياء قيمها مختلفة وأوجب في كل نوع منها صاعاً فدل على أن المعتبر صاع ولا نظر إلى قيمته.
ووقع في رواية لأبي داود أو صاعاً من حنطة، قال: وليس بمحفوظ، وليس للقائلين بنصف صاع حجة إلا حديث معاوية وسنجيب عنه إن شاء الله تعالى، واعتمدوا أحاديث ضعيفة ضعفها أهل الحديث وضعفها بين. قال القاضي: واختلف في النوع المخرج فأجمعوا أنه يجوز البر والزبيب والتمر والشعير إلا خلافاً في البر لمن لا يعتد بخلافه، وخلافاً في الزبيب لبعض المتأخرين، وكلاهما مسبوق بالإجماع مردود به وأما الأقط فأجازه مالك والجمهور ومنعه الحسن واختلف فيه قول الشافعي، وقال أشهب: لا تخرج إلا هذه الخمسة، وقاس مالك على الخمسة كل ما هو عيش أهل كل بلد من القطاني وغيرها. وعن مالك قول آخر أنه لا يجزي غير المنصوص في الحديث وما في معناه، ولم يجز عامة الفقهاء إخراج القيمة وأجازه أبو حنيفة. قلت: قال أصحابنا: جنس الفطرة كل حب وجب فيه العشر ويجزى الأقط على المذهب والأصح أنه يتعين عليه غالب قوت بلده. والثاني يتعين قوت نفسه. والثالث يتخير بينهما فإن عدل عن الواجب إلى أعلى منه أجزأه وإن عدل إلى ما دونه لم يجزه. قوله: (من المسلمين) قال أبو عيسى الترمذي وغيره: هذه اللفظة انفرد بها مالك دون سائر أصحاب نافع وليس كما قالوا، ولم ينفرد بها مالك بل وافقه فيها ثقتان وهما الضحاك بن عثمان وعمر بن نافع، فالضحاك ذكره مسلم في الرواية التي بعد هذه، وأما عمر ففي البخاري قوله عن معاوية أنه كلم الناس على المنبر فقال: إني أرى أن مدين من سمراء الشام يعدل صاعاً من تمر فأخذ الناس بذلك. قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبداً ما عشت. فقوله سمراء الشام هي الحنطة، وهذا الحديث هو الذي يعتمده أبو حنيفة وموافقوه في جواز نصف صاع حنطة، والجمهور يجيبون عنه بأنّه قول صحابي، وقد خالفه أبو سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة وأعلم بأحوال النبيّ صلى الله عليه وسلم، وإذا اختلفت الصحابة لم يكن قول بعضهم بأولى من بعض، فنرجع إلى دليل آخر وجدنا ظاهر الأحاديث والقياس متفقاً على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرها فوجب اعتماده، وقد صرح معاوية بأنه رأي رآه لا أنه سمعه من النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولو كان عند أحد من حاضري مجلسه مع كثرتهم في تلك اللحظة علم في موافقة معاوية عن النبيّ صلى الله عليه وسلم لذكره كما جرى لهم في غير هذه القصة.
قوله في حديث أبي سعيد: (أو صاعاً من أقط) صريح في إجزائه وإبطال لقول من منعه. قوله: (حدثنا محمد بن رافع حدثنا عبد الرزاق عن معمر عن إسماعيل بن أمية قال: أخبرني عياض بن عبد الله بن سعد بن أبي سرح أنه سمع أبا سعيد الخدري) هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم فقال: خالف سعيد بن مسلمة معمراً فيه فرواه عن إسماعيل بن أمية عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب عن عياض، قال الدارقطني: والحديث محفوظ عن الحارث، قلت: وهذا الاستدراك ليس بلازم فإن إسماعيل بن أمية صحيح السماع عن عياض والله أعلم. وقوله: (ابن أبي ذباب) هو بضم الذال المعجمة وبالباء الموحدة. قوله: (عن كل صغير وكبير حر ومملوك) فيه دليل على وجوبها على السيد عن عبده لا على العبد نفسه، وقد سبق الكلام فيه ومذاهبهم بدلائلها
*2* باب الأمر بإِخراج زكاة الفطر قبل الصلاة
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَمرَ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ، أَنْ تُؤَدّىَ، قَبْلَ خُرُوجِ النّاسِ إِلَى الصّلاَةِ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ. أَخْبَرَنَا الضّحّاكُ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِإِخْرَاجِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدّىَ، قَبْلَ خُرُوجِ النّاسِ إِلَى الصّلاَةِ.
قوله: (أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة) فيه دليل للشافعي والجمهور في أنه لا يجوز تأخير الفطرة عن يوم العيد وأن الأفضل إخراجها قبل الخروج إلى المصلى والله أعلم
*2* باب إِثم مانع الزكاة
*وحدّثني سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا حَفْصٌ (يَعْنِي ابْنَ مَيْسَرَةَ الصّنْعَانِيّ) عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنّ أَبَا صَالِحٍ ذَكْوَانَ أَخْبَرَهُ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلاَ فِضّةٍ، لاَ يُؤَدّي مِنْهَا حَقّهَا، إِلاّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنّمَ. فَيُكْوَىَ بِهَا جَنْبُهُ وَجَبِينُهُ وَظَهْرُهُ. كُلّمَا بَرَدَتْ أُعِيدَتْ لَهُ. فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. حَتّىَ يُقْضَىَ بَيْنَ الْعِبَادِ. فَيُرَىَ سَبِيلُهُ. إِمّا إِلَىَ الْجَنّةِ وَإِمّا إِلَى النّارِ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَالإِبِلُ؟ قَالَ: "وَلاَ صَاحِبُ إِبِلٍ لاَ يُؤَدّي مِنْهَا حَقّهَا. وَمِنْ حَقّهَا حَلْبُهَا يَوْمَ وِرْدِهَا. إِلاّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ أَوْفَرَ مَا كَانَتْ، لاَ يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلاً وَاحِداً، تَطَوهُ بِأَخْفَافِهَا وَتَعَضّهُ بِأَفْوَاهِهَا، كُلّمَا مَرّ عَلَيْهِ أُولاَهَا رُدّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا، فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتّىَ يُقْضَىَ بَيْنَ الْعِبَادِ. فَيُرَىَ سَبِيلُهُ إِمّا إِلَى الْجَنّةِ وَإِمّا إِلَى النّارِ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ؟ قَالَ: "وَلاَ صَاحِبُ بَقَرٍ وَلاَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدّي مِنْهَا حَقّهَا، إِلاّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، لاَ يَفْقِدُ مِنْهَا شَيْئاً، لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلاَ جَلْحَاءُ وَلاَ عَضْبَاءُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا. كُلّمَا مَرّ عَلَيْهِ أُولاَهَا رُدّ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا. فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. حَتّىَ يُقْضَىَ بَيْنَ الْعِبَادِ. فَيُرَىَ سَبِيلُهُ إِمّا إِلَى الْجَنّةِ وَإِمّا إِلَى النّارِ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَالْخَيْلُ؟ قَالَ: "الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ: هِيَ لِرَجُلٍ وِزْرٌ. وَهِيَ لِرَجُلٍ سِتْرٌ. وَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ. فَأَمّا الّتِي هِيَ لَهُ وِزْرٌ، فَرَجُلٌ رَبَطَهَا رِيَاءً وَفَخْراً وَنِوَاءً عَلَىَ أَهْلِ الإِسْلاَمِ فَهِيَ لَهُ وِزْرٌ. وَأَمّا الّتِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ. فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ. ثُمّ لَمْ يَنْسَ حَقّ اللّهِ فِي ظُهُورِهَا وَلاَ رِقَابِهَا. فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ وَأَمّا الّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ. فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ لأَهْلِ الإِسْلاَمِ. فِي مَرْجٍ وَرَوْضَةٍ. فَمَا أَكَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرْجِ أَوِ الرّوْضَةِ مِنْ شَيْءٍ. إِلاّ كُتِبَ لَهُ،عَدَدَ مَا أَكَلَتْ، حَسَنَاتٌ، وَكُتِبَ لَهُ، عَدَدَ أَرْوَاثِهَا وَأَبْوَالِهَا، حَسَنَاتٌ. وَلاَ تَقْطَعُ طِوَلَهَا فَاسْتَنّتْ شَرَفاً أَوْ شَرَفَيْنِ إِلاّ كَتَبَ اللّهُ لَهُ، عَدَدَ آثَارِهَا وَأَرْوَاثِهَا، حَسَنَاتٍ. وَلاَ مَرّ بِهَا صَاحِبُهَا عَلَىَ نَهْرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلاَ يُرِيدُ أَنْ يَسْقِيَهَا، إِلاّ كَتَبَ اللّهُ لَهُ، عَدَدَ مَا شَرِبَتْ، حَسَنَاتٍ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَالْحُمُرُ؟ قَالَ: "مَا أُنْزِلَ عَلَيّ فِي الْحُمُرِ شَيْءٌ إِلاّ هَذِهِ الاَيَةُ الْفَادَةُ الْجَامِعَةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ} (الزلزلة الاَية: 7، 8)".
وحدّثني يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ الصّدَفِيّ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. حَدّثَنِي هِشَامُ بْنِ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي هَذَا الاْسْنَادِ، بِمَعْنَىَ حَدِيثِ حَفْصِ بْنِ مَيْسَرَةَ، إِلَىَ آخِرِهِ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لاَ يُؤَدّي حَقّهَا" وَلَمْ يَقُلْ: "مِنْهَا حَقّهَا" وَذَكَرَ فِيهِ: "لاَ يَفْقِدُ مِنْهَا فَصِيلاً وَاحِداً" وَقَالَ: "يُكْوَىَ بِها جَنْبَاهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ" .
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأمَوِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ الْمُخْتَارِ. حَدّثَنَا سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالْحٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ صَاحِبِ كَنْزٍ لاَ يُؤَدّي زَكَاتَهُ إِلاّ أُحْمِيَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ. فَيُجْعَلُ صَفَائِحَ. فَيُكْوَىَ بِهَا جَنْبَاهُ وَجَبِينُهُ. حَتّىَ يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ. فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. ثُمّ يُرَىَ سَبِيلُهُ إِمّا إِلَىَ الْجَنّةِ وَإِمّا إِلَى النّارِ. وَمَا مِنْ صَاحِب إِبِلٍ لاَ يُوءَدِي زَكَاتَهَا إِلاّ بُطِحُ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ. كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ. تَسْتَنّ عَلَيْهِ. كُلّمَا مَضَىَ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدّتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا. حَتّىَ يَحْكُمْ اللّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ. فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. ثُمّ يُرَىَ سَبِيلُهُ إِمّا إِلَى الْجَنّةِ وَإِمّا إِلَى النّارِ. وَمَا مِنْ صَاحِبِ غَنَمٍ لاَ يُوءَدّي زَكَاتَهَا. إِلاّ بُطِحَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ. كَأَوْفَرِ مَا كَانَتْ. فَتَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا وَتَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا. لَيْسَ فِيهَا عَقْصَاءُ وَلاَ جَلْحَاءُ. كُلّمَا مَضَىَ عَلَيْهِ أُخْرَاهَا رُدّتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا. حَتّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَ عِبَادِهِ. فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِمّا تُعُدّونَ. ثُمّ يُرَىَ سَبِيلُهُ إِمّا إِلَى الْجَنّةِ وَإِمّا إِلَى النّارِ".
قَالَ سُهَيْلٌ: فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ الْبَقَرَ أَمْ لاَ. قَالُوا: فَالْخَيْلُ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: الْخَيْلُ فِي نَوَاصِيهَا (أَوْ قَالَ) الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا (قَالَ سُهَيْلٌ: أَنَا أَشُكّ) الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. الْخَيْلُ ثَلاَثَةٌ: فَهِيَ لِرَجُلٍ أَجْرٌ. وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ. وَلِرَجُلٍ وِزْرٌ. فَأَمّا الّتِي هِيَ لَهُ أَجْرٌ. فَالرّجُلُ يَتّخِذُهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ وَيُعِدّهَا لَهُ. فَلاَ تُغَيّبُ شَيْئَاً فِي بُطُونِهَا إِلاّ كَتَبَ اللّهُ لَهُ أَجْرَاً. وَلَوْ رَعَاهَا فِي مَرْجٍ، مَا أَكْلَتْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ كَتَبَ اللّهُ لَهُ بِهَا أَجْرَاً. وَلَوْ سَقَاهَا مِنْ نَهْرٍ، كَانَ لَهُ بِكُلّ قَطْرَةٍ تُغَيّبُهَا فِي بُطُونِهَا أَجْرٌ. (حَتّى ذَكَرَ الأَجْرَ فِي أَبْوَالِهَا وَأَرْوَاثِهَا) وَلَوِ اسْتَنّتْ شَرَفاً أَوْ شَرَفَيْنِ كُتِبَ لَهُ بِكُلِ خُطْوَةٍ تَخْطُوهَا أَجْرٌ. وَأَمّا الّذِي هِيَ لَهُ سِتْرٌ فَالرّجُلُ يَتّخِذُهَا تَكَرّماً وَتَجَمّلاً. وَلاَ يَنْسَىَ حَقّ ظُهُورِهَا وَبُطُونِهَا. فِي عُسْرِهَا وَيُسْرِهَا. وَأَمّا الّذِي عَلَيْهِ وِزْرٌ فَالّذِي يَتّخِذُهَا أَشَراً وَبَطَراً وَبَذخاً وَرِيَاءَ النّاسِ. فَذَاكَ الّذِي هِيَ عَلَيْهِ وِزْرٌ". قَالُوا: فَالْحُمُرُ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ عَلَيّ فِيهَا شَيْئَاً إِلاّ هَذِهِ الاَيَةَ الْجَامِعَةَ الْفَاذّةَ: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ شَرّاً يَرَهُ (الزلزلة الاَية 7،8)".
وحدّثناه قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ (يَعْنِي الدّرَاوَرْدِيّ) عَنْ سُهَيلٍ بِهَذَا الاْسْنَادِ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
وحدّثنيهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بَزِيعٍ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ. حَدّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ. حَدّثَنَا سُهَيْلُ بْنِ أَبِي صَالِحٍ بِهَذَا الاْسْنَادِ. وَقَالَ (بَدَلَ عَقْصَاءُ) "عَضْبَاءُ" وَقَالَ "فَيُكْوَىَ بِهَا جَنْبُهُ وَظَهْرُهُ" وَلَمْ يَذْكُرْ: جَبِينُهُ.
وحدّثني هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنّ بُكَيْراً حَدّثَهُ عَنْ ذَكْوَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ "إِذَا لَمْ يُوءَدّ الْمَرْءُ حَقّ اللّهِ أَو الصّدَقَةَ فِي إِبِلِهِ" وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ.
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ (وَاللّفْظُ لَهُ) حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ جِرَيْجٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الأَنْصَارِيّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقّهَا، إِلاّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قَطّ. وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ. تَسْتَنّ عَلَيْهِ بِقَوَائِمِهَا وَأَخْفَافِهَا وَلاَ صَاحِبِ بَقَرٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقّهَا، إِلاّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ، وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، تَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَأُهُ بِقَوَائِمِهَا، وَلاَ صَاحِبِ غَنَمٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهَا حَقّهَا، إِلاّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ، وَقَعَدَ لَهَا بِقَاعٍ قَرْقَرٍ، تَنْطِحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلاَفِهَا. لَيْسَ فِيهَا جَمّاءُ وَلاَ مُنْكَسِرٌ قَرْنُهَا. وَلاَ صَاحِبِ كَنْزٍ لاَ يَفْعَلُ فِيهِ حَقّهُ. إِلاّ جَاءَ كَنْزُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً أَقْرَعَ". يَتْبَعُهُ فَاتِحاً فَاهُ، فَإِذَا أَتَاهُ فَرّ مِنْهُ. فَيُنَادِيهِ: خُذْ كَنْزَكَ الّذِي خَبَأْتَهُ. فَأَنَا عَنْهُ غَنِيّ. فَإِذَا رَأَىَ أَنْ لاَ بُدّ مِنْهُ، سَلَكَ يَدَهُ فِي فِيهِ، فَيَقْضَمُهَا قَضْمَ الْفَحْلِ.
قَالَ أَبُو الزّبَيْرِ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ هَذَا الْقَوْلَ. ثُمّ سَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ مِثْلَ قَوْلِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ.
وَقَالَ: أَبُو الزّبَيْرِ: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا حَقّ الإِبِلِ؟ قَالَ: "حَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ. وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا. وَإِعَارَةُ فَحْلِهَا. وَمَنِيحَتُهَا". وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلاَ بَقَرٍ وَلاَ غَنَمٍ، لاَ يُؤَدّي حَقّهَا. إِلاّ أُقْعِدَ لَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَاعٍ قَرْقَرٍ. تَطَوهُ ذَاتُ الظّلْفِ بِظِلْفِهَا. وَتَنْطَحُهُ ذَاتُ الْقَرْنِ بِقَرْنِهَا. لَيْسَ فِيهَا يَوْمَئِذٍ جَمّاءُ وَلاَ مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ". قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا حَقّهَا؟ قَالَ: "إِطْرَاقُ فَحْلِهَا، وَإِعَارَةُ دَلْوِهَا، وَمَنِيحَتُهَا، وَحَلَبُهَا عَلَى الْمَاءِ، وَحَمْلٌ عَلَيْهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ. وَلاَ مِنْ صَاحِبِ مَالٍ لاَ يُؤَدّي زَكَاتَهُ إِلاّ تَحَوّلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً أَقْرَعَ. يَتْبَعُ صَاحِبَهُ حَيْثُمَا ذَهَبَ، وَهُوَ يَفِرّ مِنْهُ. وَيُقَالُ: هَذَا مَالُكَ الّذِي كُنْتَ تَبْخَلُ بِهِ، فَإِذَا رَأَىَ أَنّهُ لاَ بُدّ مِنْهُ، أَدْخَلَ يَدَهُ فِي فِيهِ، فَجَعَلَ يَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ" .
قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها" إلى آخر الحديث، هذا الحديث صريح في وجوب الزكاة في الذهب والفضة ولا خلاف فيه، وكذا باقي المذكوارت من الإبل والبقر والغنم. قوله صلى الله عليه وسلم: "كلما بردت أعيدت له" هكذا هو في بعض النسخ بردت بالباء، وفي بعضها ردت بحذف الباء وبضم الراء، وذكر القاضي الروايتين وقال: الأولى هي الصواب، قال: والثانية رواية الجمهور. قوله صلى الله عليه وسلم: "حلبها يوم وردها" هو بفتح اللام على اللغة المشهورة وحكي إسكانها وهو غريب ضعيف وإن كان هو القياس. قوله صلى الله عليه وسلم: "بطح لها بقاع قرقر" القاع المستوى الواسع من الأرض يعلوه ماء السماء فيمسكه، قال الهروي: وجمعه قيعة وقيعان مثل جار وجيرة وجيران، والقرقر المستوي أيضاً من الأرض الواسع وهو بفتح القافين. قوله: (بطح) قال جماعة معناه ألقي على وجهه، قال القاضي: قد جاء في رواية للبخاري يخبط وجهه بأخفافها، قال: وهذا يقتضي أنه ليس من شرط البطح كونه على الوجه وإنما هو في اللغة بمعنى البسط والمد فقد يكون على وجهه وقد يكون على ظهره، ومنه سميت بطحاء مكة لانبساطها. قوله صلى الله عليه وسلم: "كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها" هكذا هو في جميع الأصول في هذا الموضع. قال القاضي عياض: قالوا هو تغيير وتصحيف وصوابه ما جاء بعده في الحديث الاَخر من رواية سهيل عن أبيه، وما جاء في حديث المعرور بن سويد عن أبي ذر: "كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها" وبهذا ينتظم الكلام. قوله صلى الله عليه وسلم: "فيرى سبيله" ضبطناه بضم الياء وفتحها وبرفع لام سبيله ونصبها. قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء" قال أهل اللغة: العقصاء ملتوية القرنين، والجلحاء التي لا قرن لها، والعضباء التي انكسر قرنها الداخل. قوله صلى الله عليه وسلم: "تنطحه" بكسر الطاء وفتحها لغتان حكاهما الجوهري وغيره الكسر أفصح وهو المعروف في الرواية. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا صاحب بقر" إلى آخره، فيه دليل على وجوب الزكاة في البقر، وهذا أصح الأحاديث الواردة في زكاة البقر. قوله صلى الله عليه وسلم: "أوفر ما كانت لا يفقد منها فصيلاً واحداً" في الرواية الأخرى أعظم ما كانت هذا للزيادة في عقوبته بكثرتها وقوتها وكمال خلقها فتكون أثقل في وطئها، كما أن ذوات القرون تكون بقرونها ليكون أنكى وأصوب لطعنها ونطحها. قوله صلى الله عليه وسلم: "وتطؤه بأظلافها" الظلف للبقر والغنم والظباء وهو المنشق من القوائم، والخف للبعير، والقدم للاَدمي، والحافر للفرس والبغل والحمار. قوله صلى الله عليه وسلم في الخيل: "فأما التي هي له وزر" هكذا هو في أكثر النسخ التي، ووقع في بعضها الذي وهو أوضح وأظهر. قوله صلى الله عليه وسلم: "ونواء لأهل الإسلام" هو بكسر النون وبالمد أي مناوأة ومعاداة. قوله صلى الله عليه وسلم: "ربطها في سبيل الله" أي أعدها للجهاد وأصله من الربط ومنه الرباط وهو حبس الرجل نفسه في الثغر وإعداده الأهبة لذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الخيل قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها" استدل به أبو حنيفة على وجوب الزكاة في الخيل، ومذهبه أنه إن كانت الخيل كلها ذكوراً فلا زكاة فيها، وإن كانت إناثاً أو ذكوراً وإناثاً وجبت الزكاة وهو بالخيار إن شاء أخرج عن كل فرس ديناراً وإن شاء قومها وأخرج ربع عشر القيمة. وقال مالك والشافعي وجماهير العلماء: لا زكاة في الخيل بحال للحديث السابق: "ليس على المسلم في فرسه صدقة" وتأولوا هذا الحديث على أن المراد أنه يجاهد بها، وقد يجب الجهاد بها إذا تعين، وقيل: يحتمل أن المراد بالحق في رقابها الإحسان إليها والقيام بعلفها وسائر مؤنها، والمراد بظهورها إطراق فحلها إذا طلبت عاريته وهذا على الندب، وقيل: المراد حق الله مما يكسب من مال العدو على ظهورها وهو خمس الغنيمة. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تقطع طولها" هو بكسر الطاء وفتح الواو، ويقال طيلها بالياء كذا جاء في الموطأ، والطول والطيل الحبل الذي تربط فيه. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يقطع طولها فاستنت شرفاً أو شرفين" معنى استنت أي جرت، والشرف بفتح الشين المعجمة والراء وهو العالي من الأرض، وقيل المراد هنا طلقاً أو طلقين. قوله صلى الله عليه وسلم: "فشربت ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات" هذا من باب التنبيه لأنه إذا كان تحصل له هذه الحسنات من غير أن يقصد سقيها، فإذا قصده فأولى بإضعاف الحسنات.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أنزل الله علي في الحمر شيء إلا هذه الاَية الفاذة الجامعة" معنى الفاذة القليلة النظير، والجامعة أي العامة المتناولة لكل خير ومعروف، وفيه إشارة إلى التمسك بالعموم، ومعنى الحديث لم ينزل علي فيها نص بعينها لكن نزلت هذه الاَية العامة، وقد يحتج به من قال: لا يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما كان يحكم بالوحي، ويجاب للجمهور القائلين بجواز الاجتهاد بأنه لم يظهر له فيها شيء. قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته" قال الإمام أبو جعفر الطبري: الكنز كل شيء مجموع بعضه على بعض سواء كان في بطن الأرض أم على ظهرها. زاد صاحب العين وغيره: وكان مخزوناً. قال القاضي: واختلف السلف في المراد بالكنز المذكور في القرآن والحديث فقال أكثرهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤد، فأما مال أخرجت زكاته فليس بكنز، وقيل الكنز هو المذكور عن أهل اللغة ولكن الاَية منسوخة بوجوب الزكاة، وقيل المراد بالاَية أهل الكتاب المذكورون قبل ذلك، وقيل كل ما زاد على أربعة آلاف فهو كنز وإن أديت زكاته، وقيل هو ما فضل عن الحاجة، ولعل هذا كان في أول الإسلام وضيق الحال، واتفق أئمة الفتوى على القول الأول وهو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته" وذكر عقابه. وفي الحديث الاَخر: "من كان عنده مال فلم يؤد زكاته مثل له شجاعاً أقرع، وفي آخره: فيقول أنا كنزك". قوله صلى الله عليه وسلم: "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" جاء تفسيره في الحديث الاَخر في الصحيح الأجر والمغنم، وفيه دليل على بقاء الإسلام والجهاد إلى يوم القيامة، والمراد قبيل القيامة بيسير أي حتى تأتي الريح الطيبة من قبل اليمن تقبض روح كل مؤمن ومؤمنة كما ثبت في الصحيح. قوله صلى الله عليه وسلم: "وأما التي هي عليه وزر فالذي يتخذها أشراً وبطراً وبذخاً ورياء الناس" قال أهل اللغة: الأشر بفتح الهمزة والشين وهو المرح واللجاج، وأما البطر فالطغيان عند الحق، وأما البذخ فبفتح الباء والذال المعجمة وهو بمعنى الأشر والبطر.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قط وقعد لها" وكذلك في البقر والغنم، هكذا هو في الأصول بالثاء المثلثة وقعد بفتح القاف والعين، وفي قط لغات حكاهن الجوهري والفصيحة المشهورة قط مفتوحة القاف مشددة الطاء، قال الكسائي: كانت قطط بضم الحروف الثلاثة فأسكن الثاني ثم أدغم، والثانية قط بضم القاف تتبع الضمة كقولك: مديا هذا، والثالثة قط بفتح القاف وتخفيف الطاء، والرابعة قط بضم القاف والطاء المخففة وهي قليلة هذا إذا كانت بمعنى الدهر، فأما التي بمعنى حسب وهو الاكتفاء فمفتوحة ساكنة الطاء تقول: رأيته مرة فقط، فإن أضفت قلت: قطك هذا الشيء أي حسبك، وقطنى وقطى وقطه وقطاه. قوله صلى الله عليه وسلم: "شجاعاً أقرع" الشجاع الحية الذكر، والأقرع الذي تمعط شعره لكثرة سمه، وقيل الشجاع الذي يواثب الراجل والفارس ويقوم على ذنبه وربما بلغ رأس الفارس ويكون في الصحارى. قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل له شجاعاً أقرع" قال القاضي: ظاهره أن الله تعالى خلق هذا الشجاع لعذابه، ومعنى مثل أي نصب وصير بمعنى أن ماله يصير على صورة الشجاع. قوله صلى الله عليه وسلم: "سلك بيده في فيه فيقضمها قضم الفحل" معنى سلك أدخل، ويقضمها بفتح الضاد يقال قضمت الدابة شعيرها بكسر الضاد تقضمه بفتحها إذا أكلته. قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيها جماء" هي التي لا قرن لها. قوله: (قلنا يا رسول الله وما حقها؟ قال: طراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله) قال القاضي: قال المازري يحتمل أن يكون هذا الحق في موضع تتعين فيه المواساة، قال القاضي: هذه الألفاظ صريحة في أن هذا الحق غير الزكاة، قال: ولعل هذا كان قبل وجوب الزكاة، وقد اختلف السلف في معنى قول الله تعالى: {وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم} فقال الجمهور: المراد به الزكاة وأنه ليس في المال حق سوى الزكاة، وأما ما جاء غير ذلك فعلى وجه الندب ومكارم الأخلاق، ولأن الاَية إخبار عن وصف قوم أثنى عليهم بخصال كريمة فلا يقتضي الوجوب، كما لا يقتضيه قوله تعالى: {كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون} وقال بعضهم: هي منسوخة بالزكاة وإن كان لفظه لفظ خبر فمعناه أمر، قال: وذهب جماعة منهم الشعبي والحسن وطاوس وعطاء ومسروق وغيرهم إلى أنها محكمة، وأن في المال حقاً سوى الزكاة من فك الأسير وإطعام المضطر والمواساة في العسرة وصلة القرابة. قوله صلى الله عليه وسلم: "ومنيحتها" قال أهل اللغة: المنيحة ضربان: أحدهما أن يعطي الإنسان آخر شيئاً هبة، وهذا النوع يكون في الحيوان والأرض والأثاث وغير ذلك. الثاني: أن المنيحة ناقة أو بقرة أو شاة ينتفع بلبنها ووبرها وصوفها وشعرها زماناً ثم يردها، ويقال: منحه يمنحه بفتح النون في المضارع وكسرها، فأما حلبها يوم وردها ففيه رفق بالماشية وبالمساكين لأنه أهون على الماشية وأرفق بها وأوسع عليها من حلبها في المنازل، وهو أسهل على المساكين وأمكن في وصولهم إلى موضع الحلب ليواسوا والله أعلم
*2* باب إِرضاء السعاة
*حدّثنا أَبُو كَامِلٍ فُضَيُلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَرِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ أَبِي إِسْمَاعِيلُ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ هِلاَلٍ الْعَبْسِيّ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا: إِنّ نَاساً مِنَ الْمُصَدّقِينَ يَأْتُونَنَا فَيَظْلِمُونَنَا. قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرْضُوا مُصَدّقِيكُمْ".
قَالَ جَرِيرٌ: مَا صَدَرَ عَنّي مُصَدّقٌ، مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلاّ وَهُوَ عَنّي رَاضٍ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بَشَارٍ. حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ. أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ. كُلّهُمْ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ أَبِي إِسْمَاعِيلَ بِهَذَا الاْسْنَادِ، نَحْوَهُ.
وهم العاملون على الصدقات. قوله: (إن ناساً من المتصدقين يأتوننا فيظلموننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضوا مصدقيكم) المصدقون بتخفيف الصاد وهم السعاة العاملون على الصدقات. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أرضوا مصدقيكم" معناه ببذل الواجب وملاطفتهم وترك مشاقهم، وهذا محمول على ظلم لا يفسق به الساعي، إذ لو فسق لانعزل ولم يجب الدفع إليه بل لا يجزى، والظلم قد يكون بغير معصية فإنه مجاوزة الحد ويدخل في ذلك المكروهات
*2* باب تغليظ عقوبة من لا يؤدي الزكاة
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ، عَنْ أَبِي ذَرَ قَالَ: انْتَهَيْتُ إِلَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلّ الْكَعْبَةِ. فَلَمّا رَآنِي قَالَ: "هُمُ الأَخْسَرُونَ. وَرَبّ الْكَعْبَةِ" قَالَ: فَجِئْتُ حَتّى جَلَسْتُ. فَلَمْ أَتَقَارّ أَنْ قُمْتُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، فِدَاكَ أَبِي وَأُمّي مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "هُمُ الأَكْثَرُونَ أَمْوَالاً، إِلاّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ) وَقَلِيلٌ مَا هُمْ. مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلاَ بَقَرٍ وَلاَ غَنَمٍ لاَ يُؤَدّي زَكَاتَهَا إِلاّ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ. تَنْطِحَهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَأُهُ بِأَظْلاَفِهَا. كُلّمَا نَفِدَتْ أُخْرَاهَا عَادَتْ عَلَيْهِ أُولاَهَا. حَتّىَ يُقْضَىَ بَيْنَ النّاسِ".
وحدّثناه أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنِ الْمَعْرُورِ، عَنْ أَبِي ذَرَ قَالَ: اْنْتَهَيْتُ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ جَالِسٌ فِي ظِلّ الْكَعْبَةِ. فَذَكَر نَحْوَ حَدِيثِ وَكِيعٍ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ "وَالّذِي نَفْسِي بِيدِهِ مَا عَلَى الأَرْضِ رَجُلٌ يَمُوتُ. فَيَدَعُ إِبِلاً أَوْ بَقَراً أَوْ غَنَماً، لَمْ يُؤَدّ زَكَاتَهَا".
حدّثنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ سَلاّمٍ الْجُمَحِيّ. حَدّثَنَا الرّبِيعُ (يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ) عَنْ مُحَمّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا يَسُرّنِي أَنّ لِي أُحُداً ذَهَباً. تَأْتِي عَلَيّ ثَالِثَةٌ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ. إِلاّ دِينَارٌ أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ عَلَيّ".
م 1 حع...) وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبا هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ.
قوله: (لم أتقار) أي لم يمكني القرار والثبات. قوله صلى الله عليه وسلم: "هم الأخسرون ورب الكعبة" ثم فسرهم فقال: (هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم) فيه الحث على الصدقة في وجوه الخير وأنه لا يقتصر على نوع من وجوه البر، بل ينفق في كل وجه من وجوه الخير يحضر، وفيه جواز الحلف بغير تحليف، بل هو مستحب إذا كان فيه مصلحة كتوكيد أمر وتحقيقه ونفي المجاز عنه، وقد كثرت الأحاديث الصحيحة في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا النوع لهذا المعنى، وأما إشارته صلى الله عليه وسلم إلى قدام ووراء والجانبين فمعناها ما ذكرنا أنه ينبغي أن ينفق متى حضر أمر مهم. قوله صلى الله عليه وسلم: "كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها" هكذا ضبطناه نفدت بالدال المهملة ونفذت بالذال المعجمة وفتح الفاء وكلاهما صحيح
*2* باب الترغيب في الصدقة
*حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. كُلّهُمْ عَنِ أَبِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ: يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرَ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي حَرّةِ الْمَدِينَةِ، عِشَاءً. وَنَحْنُ نَنْظُرُ إِلَىَ أُحُدٍ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَبَا ذَرَ" قَالَ قُلْتُ: لَبّيْكَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "مَا أُحِبّ أَنّ أُحُداً ذَاكَ عِنْدِي ذَهَبٌ. أَمْسَىَ ثَالِثَةً عِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ. إِلاّ دِينَاراً أُرْصِدُهُ لِدَيْنٍ. إِلاّ أَنْ أَقُولَ بِهِ فِي عِبَادِ اللّهِ. هَكَذَا (حَثَا بَيْنَ يَدَيْهِ) وَهَكَذَا (عَنْ يَمِينِهِ) وَهَكَذَا (عَنْ شِمَالِهِ)" قَالَ: ثُمّ مَشَيْنَا فَقَالَ: "يَا أَبَا ذَرَ" قَالَ قُلْتُ: لَبّيْكَ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "إِنّ الأَكْثَرِينَ هُمُ الأَقَلّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إِلاّ مَنْ قَالَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا" مِثْلَ مَا صَنَعَ فِي الْمَرّةِ الأُولَىَ. قَالَ: ثُمّ مَشَيْنَا. قَالَ: "يَا أَبَا ذَرَ كَمَا أَنْتَ حَتّىَ آتِيَكَ" قَالَ: فَانْطَلَقَ حَتّىَ تَوَارَى عَنّي. قَالَ: سَمِعْتُ لَغَطاً وَسَمِعْتُ صَوْتاً. قَالَ فَقُلْتُ: لَعَلّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عُرِضَ لَهُ. قَالَ: فَهَمَمْتُ أَنْ أَتّبِعَهُ. قَالَ: ثُمّ ذَكَرْتُ قوله: "لاَ تَبْرَحْ حَتّىَ آتِيَكَ" قَالَ: فَانْتَظَرْتُهُ. فَلَمّا جَاءَ ذَكَرْتُ لَهُ الّذِي سَمِعْتُ. قَالَ فَقَالَ: "ذَاكَ جِبْرِيلُ. أَتَانِي فَقَالَ: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمّتِكَ لاَ يُشْرِكُ بِاللّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنّةَ. قَالَ قُلْتُ: وَإِنْ زَنَىَ وَإِنْ سَرَقَ؟ قَالَ: وَإِنْ زَنَىَ وَإِنْ سَرَقَ".
وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ(وَهُوَ ابْنُ رَفِيعٍ) عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ، عَنْ أَبِي ذَرَ قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنَ اللّيَالِي. فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْشِي وَحْدَهُ. لَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ. قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ. قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلّ الْقَمَرِ. فَالْتَفَتَ فَرَآنِي. فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟" فَقُلْتُ: أَبُو ذَرَ. جَعَلَنِي اللّهُ فِدَاكَ. قَالَ: "يَا أَبَا ذَرَ تَعَالَهْ" قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً. فَقَالَ: "إِنّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. إِلاّ مَنْ أَعْطَاهُ الله خَيْراً. فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْراً". قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً. فَقَالَ: "اجْلِسْ هَهُنَا" قَالَ: فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ. فَقَالَ لِي: "اجْلِسْ هَهُنَا حَتّىَ أَرْجِعَ إِلَيْكَ" قَالَ: فَانْطَلَقَ فِي الْحَرّةِ حَتّىَ لاَ أَرَاهُ. فَلَبِثَ عَنّي. فَأَطَالَ اللّبْثَ. ثُمّ إِنّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ وَهُوَ يَقُولُ: "وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَىَ" قَالَ: فَلَمّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ فَقُلْتُ: يَا نَبِيّ اللّهِ جَعَلَنِي اللّهُ فِدَاءَكَ. مَنْ تُكَلّمُ فِي جَانِبِ الْحَرّةِ؟ مَا سَمِعْتُ أَحَداً يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئاً. قَالَ: ذَاكَ جِبْرِيلُ. عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرّةِ. فَقَالَ: بَشّرْ أُمّتَكَ أَنّهُ مَنْ مَاتَ لاَ يُشْرِكُ بِاللّهِ شَيْئاً دَخَلَ الْجَنّةَ. فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَىَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَىَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَىَ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ".
قوله: (سمعت لغطاً) هو بفتح الغين وإسكانها لغتان أي جلبة وصوتاً غير مفهوم. قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر" فيه مناداة العالم والكبير صاحبه بكنيته إذا كان جليلاً. قوله: (من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال: وإن زنى وإن سرق) فيه دلالة لمذهب أهل الحق أنه لا يخلد أصحاب الكبائر في النار خلافاً للخوارج والمعتزلة، وخص الزنى والسرقة بالذكر لكونهما من أفحش الكبائر وهو داخل في أحاديث الرجاء. قوله: (فالتفت فرآني فقال من هذا؟ فقلت: أبو ذر) فيه جواز تسمية الإنسان نفسه بكنيته إذا كان مشهوراً بها دون اسمه وقد كثر مثله في الحديث. قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا من أعطاه الله خيراً فنفح فيه يمينه وشماله وبين يديه ووراءه وعمل فيه خيراً" المراد بالخير الأول المال كقوله تعالى: {وإنه لحب الخير} أي المال، والمراد بالخير الثاني طاعة الله تعالى، والمراد بيمينه وشماله ما سبق أنه جميع وجوه المكارم والخير، ونفح بالحاء المهملة أي ضرب يديه فيه بالعطاء، والنفح الرمي والضرب. قوله: (فانطلق في الحرة) هي الأرض الملبسة حجارة سوداء. قوله صلى الله عليه وسلم: "قلت: وإن سرق وإن زنى؟ قال: نعم وإن شرب الخمر" فيه تغليظ تحريم الخمر
*2* باب في الكنازين للأموال والتغليظ عليهم
*وحدّثني زُهْيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ الْجُرَيْرِيّ، عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ، عَنِ الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ. فَبَيْنَا أَنَا فِي حَلْقَةٍ فِيهَا مَلأٌ مِنْ قُرَيْشٍ. إِذْ جَاءَ رَجُلٌ أَخْشَنُ الثّيَابِ. أَخْشَنُ الْجَسَدِ. أَخْشَنُ الْوَجْهِ. فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: بَشّرِ الْكَانِزِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَىَ عَلَيْهِ فِي نَارِ جَهَنّمَ. فَيُوضَعُ عَلَىَ حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ. حَتّىَ يَخْرُجُ مِنْ نُغْضِ كَتِفَيْهِ. وَيُوضَعُ عَلَىَ نُغْضِ كَتِفَيْهِ. حَتّىَ يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيَيْهِ يَتَزَلْزَلُ. قَالَ: فَوَضَعَ الْقَوْمُ رُؤُوسَهُمْ. فَمَا رَأَيْتُ أَحَداً مِنْهُمْ رَجَعَ إِلَيْهِ شَيْئاً. قَالَ: فَأَدْبَرَ. وَاتّبَعْتُهُ حَتّىَ جَلَسَ إِلَىَ سَارِيَةٍ. فَقُلْتُ: مَا رَأَيْتُ هَؤُلاَءِ إِلاّ كَرِهُوا مَا قُلْتَ لَهُمْ. قَالَ: إِنّ هَؤُلاَءِ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً. إِنّ خَلِيلِي أَبَا الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ. فَقَالَ: "أَتَرَىَ أُحُداً؟" فَنَظَرْتُ مَا عَلَيّ مِنَ الشّمْسِ وَأَنَا أَظُنّ أَنّهُ يَبْعَثُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ. فَقُلْتُ: أَرَاهُ. فَقَالَ: "مَا يَسُرّنِي أَنّ لِي مِثْلَهُ ذَهَباً أُنْفِقُهُ كُلّهُ. إِلاّ ثَلاَثَةَ دَنَانِيرَ" ثُمّ هَؤُلاَءِ يَجْمَعُونَ الدّنْيَا. لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً. قَالَ قُلْتُ: مَا لَكَ وَلإِخْوَتِكَ مِنْ قُرَيْشٍ، لاَ تَعْتَرِيهِمْ وَتُصِيبُ مِنْهُمْ. قَالَ: لاَ. وَرَبّكَ لاَ أَسْأَلُهُمْ عَنْ دُنْيَا. وَلاَ أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ. حَتّىَ أَلْحَقَ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ.
وحدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ. حَدّثَنَا أَبُو الأَشْهَبِ. حَدّثَنَا خُلَيْدٌ الْعَصَرِيّ عَنِ الأَحْنَفِ ابْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ. فَمَرّ أَبُو ذَرَ وَهُوَ يَقُولُ: بَشّرِ الْكَانِزِينَ بِكَيَ فِي ظُهُورِهِمْ. يَخْرُجُ مِنْ جُنُوبِهِمْ. وَبِكَيَ مِنْ قِبَلِ أَقْفَائِهِمْ يَخْرُجُ مِنْ جِبَاهِهِمْ. قَالَ: ثُمّ تَنَحّى فَقَعَدَ. قَالَ قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: هَذَا أَبُو ذَرَ. قَالَ: فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: مَا شَيْءٌ سَمِعْتُكَ تَقُولُ قُبَيْلُ؟ قَالَ: مَا قُلْتُ إِلاّ شَيْئاً قَدْ سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيّهِمْ صلى الله عليه وسلم. قَالَ قُلْتُ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الْعَطَاءِ؟ قَالَ: خُذْهُ فَإِنّ فِيهِ الْيَوْمَ مَعُونَةً. فَإِذَا كَانَ ثَمَناً لِدِينِكَ فَدَعْهُ.
قوله: (فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش) الملأ الأشراف ويقال أيضاً للجماعة، والحلقة بإسكان اللام وحكى الجوهري لغية رديئة في فتحها. وقوله: (بينا أنا في حلقة) أي بين أوقات قعودي في الحلقة. قوله: (إذ جاء رجل أخشن الثياب أخشن الجسد أخشن الوجه) هو بالخاء والشين المعجمتين في الألفاظ الثلاثة، ونقله القاضي هكذا عن الجمهور وهو من الخشونة، قال: وعند ابن الحذاء في الأخير خاصة حسن الوجه من الحسن، ورواه القابسي في البخاري حسن الشعر والثياب والهيئة من الحسن، ولغيره خشن من الخشونة وهو أصوب. قوله: (فقام عليهم) أي وقف. قوله: (عن أبي ذر قال: بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل) أما قوله: بشر الكانزين فظاهره أنه أراد الاحتجاج لمذهبه في أن الكنز كل ما فضل عن حاجة الإنسان، هذا هو المعروف من مذهب أبي ذر وروى عنه غيره، والصحيح الذي عليه الجمهور أن الكنز هو المال الذي لم تؤد زكاته، فأما إذا أديت زكاته فليس بكنز سواء كثر أم قل. وقال القاضي: الصحيح أن إنكاره إنما هو على السلاطين الذين يأخذون لأنفسهم من بيت المال ولا ينفقونه في وجوهه، وهذا الذي قاله القاضي باطل لأن السلاطين في زمنه لم تكن هذه صفتهم ولم يخونوا في بيت المال، إنما كان في زمنه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وتوفي في زمن عثمان سنة ثنتين وثلاثين. قوله: (برضف) هي الحجارة المحماة. وقوله: يحمى عليه أي يوقد عليه، وفي جهنم مذهبان لأهل العربية أحدهما أنه اسم عجمي فلا ينصرف للعجمة والعلمية، قال الواحدي: قال يونس وأكثر النحويين: هي أعجمية لا تنصرف للتعريف والعجمة، وقال آخرون: هو اسم عربي سميت به لبعد قعرها ولم ينصرف للعلمية والتأنيث، قال قطرب عن رؤبة: يقال بئر جهنام أي بعيدة القعر. وقال الواحدي في موضع آخر: قال بعض أهل اللغة هي مشتقة من الجهومة وهي الغلظ يقال جهم الوجه أي غليظه، وسميت جهنم لغلظ أمرها في العذاب. وقوله: (ثدي أحدهم) فيه جواز استعمال الثدي في الرجل وهو الصحيح ومن أهل اللغة من أنكره وقال: لا يقال ثدي إلا للمرأة ويقال في الرجل ثندؤة وقد سبق بيان هذا مبسوطاً في كتاب الإيمان في حديث الرجل الذي قتل نفسه بسيفه فجعل ذبابه بين ثدييه، وسبق أن الثدي يذكر ويؤنث. قوله: (نغض كتفيه) هو بضم النون وإسكان الغين المعجمة وبعدها ضاد معجمة وهو العظم الرقيق الذي على طرف الكتف، وقيل هو أعلى الكتف، ويقال له أيضاً الناغض. وقوله: يتزلزل أي يتحرك، قال القاضي: قيل معناه أنه بسبب نضجه يتحرك لكونه يهتري، قال: والصواب أن الحركة والتزلزل إنما هو للرضف أي يتحرك من نغض كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، ووقع في النسخ على حلمة ثدي أحدهم إلى قوله حتى يخرج من حلمة ثدييه بإفراد الثدي في الأول وتثنيته في الثاني وكلاهما صحيح. قوله: (لا تعتريهم) أي تأتيهم وتطلب منهم، يقال عروته واعتريته واعتررته إذا أتيته تطلب منه حاجة. قوله: (لا أسألهم عن دنيا ولا أستفتيهم عن دين) هكذا هو في الأصول عن دنيا، وفي رواية البخاري: لا أسألهم دنيا بحذف عن وهو الأجود أي لا أسألهم شيئاً من متاعها. قوله: (حدثنا خليد العصري) هو بضم الخاء المعجمة وفتح اللام وإسكان الياء، والعصري بفتح العين والصاد المهملتين منسوب إلى بني عصر
*2* باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف
*حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ اللّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ". وَقَالَ: "يَمِينُ اللّهِ مَلاَى (وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ مَلاَنُ) سَحّاءُ. لاَ يَغِيضُهَا شَيْءٌ اللّيْلَ وَالنّهَارَ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ بْنُ هَمّامٍ. حَدّثَنَا مَعمَرُ بْنُ رَاشِدٍ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ، أَخِي وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا. وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهَ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ اللّهِ قَالَ لِي: أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ". وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَمِينُ اللّهِ مَلاَى. لاَ يَغِيضُهَا سَحّاءُ اللّيْلُ وَالنّهَارُ. أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْفَقَ مُذْ خَلَقَ السّمَاءَ وَالأَرْضَ. فَإِنّهُ لَمْ يَغِضْ مَا فِي يَمِينِهِ". قَالَ: "وَعَرْشُهُ عَلَىَ الْمَاءِ وَبِيَدِهِ الأُخْرَىَ الْقَبْضُ، يَرْفَعُ وَيَخْفِضُ".
قوله عز وجل: (أنفق أنفق عليك) هو معنى قوله عز وجل: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} فيتضمن الحث على الإنفاق معنى في وجوه الخير والتبشير بالخلف من فضل الله تعالى. قوله صلى الله عليه وسلم: "يمين الله ملأى. وقال ابن نمير: ملاَن" هكذا وقعت رواية ابن نمير بالنون، قالوا: وهو غلط منه وصوابه ملأى كما في سائر الروايات، ثم ضبطوا رواية ابن نمير من وجهين: أحدهما إسكان اللام وبعدها همزة. والثاني ملان بفتح اللام بلا همز. قوله صلى الله عليه وسلم: "يمين الله ملأى سحاء لا يفيضها شيء الليل والنهار" ضبطوا سحاء بوجهين: أحدهما سحاء بالتنوين على المصدر وهذا هو الأصح الأشهر، والثاني حكاه القاضي سحاء بالمد على الوصف، ووزنه فعلاء صفة لليد، والسح الصب الدائم والليل والنهار، وفي هذه الرواية منصوبان على الظرف، ومعنى لا يغيضها شيء أي لا ينقصها، يقال: غاض الماء وغاضه الله لازم ومتعد. قال القاضي: قال الإمام المازري هذا مما يتأول لأن اليمين إذا كانت بمعنى المناسبة للشمال لا يوصف بها الباري سبحانه وتعالى لأنها تتضمن إثبات الشمال وهذا يتضمن التحديد ويتقدس الله سبحانه على التجسيم والحد، وإنما خاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يفهمونه وأراد الإخبار بأن الله تعالى لا ينقصه الإنفاق ولا يمسك خشية الإملاق جل الله على ذلك، وعبر صلى الله عليه وسلم عن توالي النعم بسح اليمين لأن الباذل منا يفعل ذلك بيمينه، قال: ويحتمل أن يريد بذلك أن قدرة الله سبحانه وتعالى على الأشياء على وجه واحد لا يختلف ضعفاً وقوة، وأن المقدورات تقع بها على جهة واحدة، ولا تختلف قوة وضعفاً كما يختلف فعلنا باليمين والشمال، تعالى الله عن صفات المخلوقين ومشابهة المحدثين. وأما قوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الثانية: "وبيده الأخرى القبض" فمعناه أنه وإن كانت قدرته سبحانه وتعالى واحدة فإنه يفعل بها المختلفات، ولما كان ذلك فينا لا يمكن إلا بيدين عبر عن قدرته على التصرف في ذلك باليدين ليفهمهم المعنى المراد بما اعتادوه من الخطاب على سبيل المجاز، هذا آخر كلام المازري. قوله في رواية محمد بن رافع: (لا يغيضها سحاء الليل والنهار) ضبطناه بوجهين: نصب الليل والنهار ورفعهما النصب على الظرف والرفع على أنه فاعل قوله صلى الله عليه وسلم: "وبيده الأخرى القبض يخفض ويرفع" ضبطوه بوجهين: أحدهما الفيض بالفاء والياء المثناة تحت، والثاني القبض بالقاف والباء الموحدة، وذكر القاضي أنه بالقاف وهو الموجود لأكثر الرواة، قال: وهو الأشهر والمعروف، قال: ومعنى القبض الموت، وأما الفيض بالفاء فالإحسان والعطاء والرزق الواسع، قال: وقد يكون بمعنى القبض بالقاف أي الموت، قال البكراوي: والفيض الموت. قال القاضي قيس: يقولون فاضت نفسه بالضاد إذا مات وطى يقولون فاظت نفسه بالظاء. وقيل: إذا ذكرت النفس فبالضاد، وإذا قيل فاظ من غير ذكر النفس فبالظاء، وجاء في رواية أخرى: وبيده الميزان يخفض ويرفع، فقد يكون عبارة عن الرزق ومقاديره، وقد يكون عبارة عن جملة المقادير، ومعنى يخفض ويرفع قيل هو عبارة عن تقدير الرزق يقتره على من يشاء ويوسعه على من يشاء، وقد يكونان عبارة عن تصرف المقادير بالخلق بالعز والذل والله أعلم
*2* باب فضل النفقة على العيال والمملوك، وإثم من ضيعهم أو حبس نفقتهم عنهم
*حدّثنا أَبُو الرّبِيعِ الزّهْرَانِيّ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. كِلاَهُمَا عَنْ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ. قَالَ أَبُو الرّبِيعِ: حَدّثَنَا حَمّادٌ. حَدّثَنَا أَيّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَبِي أَسْمَاءَ، عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَفْضَلُ دِينَارٍ يُنْفِقُهُ الرّجُلُ: دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَىَ عِيَالِهِ. وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ الرّجُلُ عَلَىَ دَابّتِهِ فِي سَبِيلِ اللّهِ. وَدِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَىَ أَصْحَابِهِ فِي سَبِيلِ اللّهِ".
قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: وَبَدَأَ بِالْعِيَالِ. ثُمّ قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: وَأَيّ رَجُلٍ أَعْظَمُ أَجْراً مِنْ رَجُلٍ يُنْفِقُ عَلَىَ عِيَالٍ صِغَارٍ. يُعِفّهُمْ، أَوْ يَنْفَعُهُمُ اللّهُ بِهِ، وَيُغْنِيهِمْ.
حدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ أَبُو كُرَيْبٍ (وَاللّفْظُ لاِءَبِي كُرَيْبٍ) قَالُوا: حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُزاحِمِ بْنِ زُفَرَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ. وَدِينارٌ تَصَدّقْتَ بِهِ عَلَىَ مِسْكِينٍ. وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَىَ أَهْلِكَ. أَعْظَمُهَا أَجْراً الّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَىَ أَهْلِكَ".
حدّثنا سَعِيدُ بْنُ مُحَمّدٍ الْجرْمِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبْجَرَ الْكِنَانِيّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرّفٍ، عَنْ خَيْثَمَةَ قَالَ: كُنّا جُلُوساً مَعَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو. إِذْ جَاءَهُ قَهْرَمَانٌ لَهُ، فَدَخَلَ. فَقَالَ: أَعْطَيْتَ الرّقِيقَ قُوتَهُمْ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَانْطَلِقْ فَأَعْطِهِمْ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَفَىَ بِالْمَرْءِ إِثْماً أَنْ يَحْبِسَ، عَمّنْ يَمْلِكُ، قُوتَهُ".
مقصود الباب الحث على النفقة على العيال وبيان عظم الثواب فيه، لأن منهم من تجب نفقته بالقرابة، ومنهم من تكون مندوبة وتكون صدقة وصلة، ومنهم من تكون واجبة بملك النكاح أو ملك اليمين، وهذا كله فاضل محثوث عليه وهو أفضل من صدقة التطوع.
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في رواية ابن أبي شيبة: "أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك" مع أنه ذكر قبله النفقة في سبيل الله وفي العتق والصدقة، ورجح النفقة على العيال على هذا كله لما ذكرناه وزاده تأكيداً بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الاَخر: "كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوته" فقوته مفعول يحبس.
قوله: (حدثنا سعيد بن محمد الجرمي) هو بالجيم. قوله: (قهرمان) بفتح القاف وإسكان الهاء وفتح الراء وهو الخازن القائم بحوائج الإنسان وهو بمعنى الوكيل وهو بلسان الفرس
*2* باب الابتداء في النفقة بالنفس ثم أهله ثم القرابة
*حَدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ رُمْحٍ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ عَبْداً لَهُ عَنْ دُبُرٍ. فَبَلَغَ ذَلَكَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ "أَلَكَ مَالٌ غَيْرُهُ؟" فَقَالَ: لاَ فَقَالَ "مَنْ يَشْتَرِيهِ مِنّي؟" فَاشْتَرَاهُ نُعَيْمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْعَدَوِيّ بِثَمَانِمَائَةِ دِرْهَمٍ. فَجَاءَ بِهَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ ثُمّ قَالَ: "ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدّقْ عَلَيْهَا. فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَلأَهْلِكَ. فَإِنْ فَضَلَ عَنْ أَهْلِكَ شَيْءٌ فَلِذِي قَرَابَتِكَ. فَإِنْ فَضَلَ عَنْ ذِي قَرَابَتِكَ شَيْءٌ فَهَكَذَا وَهَكَذَا" يَقُولُ: فَبَيْنَ يَدَيْكَ وَعَنْ يَمِينِكَ وَعَنْ شِمَالِكَ.
وحدّثني يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدّوْرَقِي: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (يَعْنِي ابْنَ عُلَيّةَ) عَنْ أَيّوبَ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ (يُقَالُ لَهُ أَبُو مَذْكُورٍ) أَعْتَقَ غُلاَماً لَهُ عَنْ دُبُرٍ. يُقَالُ لَهُ يَعْقُوبُ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَىَ حَدِيثِ اللّيْثِ.
فيه حديث جابر: (أن رجلاً أعتق عبداً له عن دبر فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألك مال غيره؟ فقال: لا، فقال: من يشتريه مني؟ فاشتراه نعيم بن عبدالله العدوي بثمانمائة درهم فجاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفعها إليه ثم قال: ابدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك فإن فضل عن قرابتك شيء فهكذا وهكذا يقول فبين يديك وعن يمينك وعن شمالك) في هذا الحديث فوائد منها الابتداء في النفقة بالمذكور على هذا الترتيب. ومنها أن الحقوق والفضائل إذا تزاحمت قدم الأوكد فالأوكد. ومنها أن الأفضل في صدقة التطوع أن ينوعها في جهات الخير ووجوه البر بحسب المصلحة ولا ينحصر في جهة بعينها. ومنها دلالة ظاهرة للشافعي وموافقيه في جواز بيع المدبر، وقال مالك وأصحابه: لا يجوز بيعه إلا إذا كان على السيد دين فيباع فيه، وهذا الحديث صريح أو ظاهر في الرد عليهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما باعه لينفقه سيده على نفسه، والحديث صريح أو ظاهر في هذا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسك فتصدق عليها" إلى آخره والله أعلم
*2* باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين، ولو كانوا مشركين
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيَ بِالْمَدِينَةِ مَالاً. وَكَانَ أَحَبّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَا. وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيّبٍ.
قَالَ أَنَسٌ: فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ} (3 آل عمران الاَية: ) قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنّ اللّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ}. وَإِنّ أَحَبّ أَمْوَالِي إِلَيّ بَيْرَحَىَ. وَإِنّهَا صَدَقَةٌ للّهِ. أَرْجُو بِرّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللّهِ. فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللّهِ، حَيْثُ شِئْتَ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَخْ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ. ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ. قَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ فِيهَا. وَإِنّي أَرَىَ أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ" فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمّهِ.
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا بَهْزٌ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ. حَدّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَمّا نزَلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ: لَنْ تَنَالوا الْبِرّ حَتّىَ تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبّونَ. قَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَرَى رَبّنا يَسْأَلُنَا مِنْ أَمْوَالِنَا، فَأُشْهِدُكَ، يَا رَسُولَ اللّهِ، أَنّي قَدْ جَعَلْتُ أَرْضِي، بَرِيحَا، لِلّهِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "اجْعَلْهَا فِي قَرَابَتِكَ" قَالَ: فَجَعَلَهَا فِي حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيّ بْنِ كَعْبٍ.
حدّثني هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ كُرَيْبٍ، عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنّهَا أَعْتَقَتْ وَلِيدَةً فِي زَمَانِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "لَوْ أَعْطَيْتِهَا بعض أَخْوَالَكِ، كَانَ أَعْظَمَ لأَجْرِكِ".
حدّثنا حَسَنُ بْنُ الرّبِيعِ. حَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللّهِ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَصَدّقْنَ، يَا مَعْشَرَ النّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حَلْيِكُنّ" قَالَتْ: فَرَجَعْتُ إِلَىَ عَبْدِ اللّهِ فَقُلْتُ: إِنّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ. وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَمَرَنَا بِالصّدَقَةِ. فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَجْزِي عَنّي وَإِلاّ صَرَفْتُهَا إِلَىَ غَيْرِكُمْ. قَالَتْ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللّهِ: بَلِ ائْتِيهِ أَنْتِ. قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ. فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. حَاجَتِي حَاجَتُهَا. قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ. قَالَتْ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلاَلٌ فَقُلْنَا لَهُ: ائْتِ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَخْبِرْهُ أَنّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ تَسْأَلاَنِكَ: أَتَجْزِي الصّدَقَةُ عَنْهُمَا، عَلَىَ أَزْوَاجِهِمَا، وَعَلَىَ أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا؟ وَلاَ تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ. قَالَتْ: فَدَخَلَ بِلاَلٌ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلَهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هُمَا؟" فَقَالَ: امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيّ الزّيَانِبِ؟" قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللّهِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصّدَقَةِ".
حدّثني أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيّ. حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ. حَدّثَنَا أَبِي حَدّثَنَا الأَعْمَشُ. حَدّثَنِي شَقِيقٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: فَذَكَرْتُ لإِبْرَاهِيمَ فَحَدّثَنِي عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ زَيْنَبَ امْرأَةِ عَبْدِ اللّهِ. بِمِثْلِهِ. سَوَاءً. قَالَ قَالَتْ: كُنْتُ فِي الْمَسْجِدِ. فَرَآنِي النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "تَصَدّقْنَ. وَلَوْ مِنْ حُلِيّكُنّ" وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَبِي الأَحْوَصِ.
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. حَدّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَن زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَلْ لِي أَجْرٌ فِي بَنِي أَبِي سَلَمَةَ؟ أُنْفِقُ عَلَيْهِمْ. وَلَسْتُ بِتَارِكَتِهِمْ هَكَذَا وَهَكَذَا. إِنّمَا هُمْ بَنِيّ. فَقَالَ: "نَعَمْ. لَكِ فِيهِمْ أَجْرُ مَا أَنْفَقْتِ عَلَيْهِمْ".
وحدّثني سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ. ح وَحَدّثَنَاهُ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. جَمِيعاً عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ فِي هَذَا الإِسْنَادِ، بِمِثْلِهِ.
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيَ (وَهُوَ ابْنُ ثَابِتٍ) عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ الْبَدْرِيّ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً، وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا، كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً".
وحدّثناه مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ. كِلاَهُمَا عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جَعْفَرٍ. ح وَحَدّثَنَاهُ أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ. جَمِيعاً عَنْ شُعْبَةَ فِي هَذَا الإِسْنَادِ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: قلتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ أُمّي قَدِمَتْ عَلَيّ. وَهِيَ رَاغِبَةٌ (أَوْ رَاهِبَةٌ) أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ".
وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيّ أُمّي، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدَهُمْ. فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ قَدِمَتْ عَلَيّ أُمّي وَهِيَ رَاغِبَةٌ، أَفَأَصِلُ أُمّي؟ قَالَ: "نَعَمْ. صِلِي أُمّكِ".
قوله: (وكان أحب أمواله إليه بيرحاء) اختلفوا في ضبط هذه اللفظة على أوجه، قال القاضي رحمه الله: روينا هذه اللفظة عن شيوخنا بفتح الراء وضمها مع كسر الباء وبفتح الباء والراء. قال الباجي: قرأت هذه اللفظة على أبي ذر البروي بفتح الراء على كل حال، قال: وعليه أدركت أهل العلم والحفظ بالمشرق، وقال لي الصوري هي بالفتح واتفقا على أن من رفع الراء وألزمها حكم الإعراب فقد أخطأ، قال: وبالرفع قرأناه على شيوخنا بالأندلس وهذا الموضع يعرف بقصر بني جديلة قبلي المسجد، وذكر مسلم رواية حماد بن سلمة هذا الحرف بريحاء بفتح الباء وكسر الراء، وكذا سمعناه من أبي بحر عن العذري والسمرقندي، وكان عند ابن سعيد عن البحري من رواية حماد بيرحاء بكسر الباء وفتح الراء، وضبطه الحميدي من رواية حماد بيرحاء بفتح الباء والراء، ووقع في كتاب أبي داود جعلت أرضي بأريحا لله، وأكثر رواياتهم في هذا الحرف بالقصر، ورويناه عن بعض شيوخنا بالوجهين، وبالمد وجدته بخط الأصيلي وهو حائط يسمى بهذا الاسم وليس اسم بئر والحديث يدل عليه والله أعلم، هذا آخر كلام القاضي. قوله: (قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله تعالى يقول في كتابه) إلى آخره فيه دلالة للمذهب الصحيح وقول الجمهور أنه يجوز أن يقال: إن الله يقول، كما يقال: إن الله قال. وقال مطرف بن بعد الله بن سخير التابعي: لا يقال الله يقول، وإنما يقال: قال الله، أو الله قال، ولا يستعمل مضارعاً وهذا غلط والصواب جوازه. وقد قال الله تعالى: {والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة باستعمال ذلك، وقد أشرت إلى طرف منها في كتاب الأذكار، وكأن من كرهه ظن أنه يقتضي استئناف القول وقول الله تعالى قديم وهذا ظن عجيب، فإن المعنى مفهوم ولا لبس فيه، وفي هذا الحديث استحباب الإنفاق مما يحب، ومشاورة أهل العلم والفضل في كيفية الصدقات ووجوه الطاعات وغيرها. قوله صلى الله عليه وسلم: "بخ ذلك مال رابح ذلك مال رابح" قال أهل اللغة: يقال بخ بإسكان الخاء وتنوينها مكسورة. وحكى القاضي الكسر بلا تنوين. وحكى الأحمر التشديد فيه. قال القاضي: وروي بالرفع فإذا كررت فالاختيار تحريك الأول منوناً وإسكان الثاني. قال ابن دريد: معناه تعظيم الأمر وتفخيمه، وسكنت الخاء فيه كسكون اللام في هل وبل، ومن قال بخ بكسره منوناً شبهه بالأصوات كصه ومه. قال ابن السكيت: بخ بخ، وبه به، بمعنى واحد. وقال الداودي: بخ كلمة تقال إذا حمد الفعل، وقال غيره: تقال عند الإعجاب. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "مال رابح" فضبطناه هنا بوجهين بالياء المثناة وبالموحدة، وقال القاضي: روايتنا فيه في كتاب مسلم بالموحدة، واختلفت الرواة فيه عن مالك في البخاري والموطأ وغيرهما. فمن رواه بالموحدة فمعناه ظاهر، ومن رواه رايح بالمثناة فمعناه رايح عليك أجره ونفعه في الاَخرة، وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما سبق من أن الصدقة على الأقارب أفضل من الأجانب إذا كانوا محتاجين، وفيه أن القرابة يرعى حقها في صلة الأرحام وإن لم يجتمعوا إلا في أب بعيد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أبا طلحة أن يجعل صدقته في الأقربين فجعلها في أبي بن كعب وحسان بن ثابت وإنما يجتمعان معه في الجد السابع.
قوله صلى الله عليه وسلم في قصة ميمونة حين أعتقت الجارية: "لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك" فيه فضيلة صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب وأنه أفضل من العتق، وهكذا وقعت هذه اللفظة في صحيح مسلم أخوالك باللام، ووقعت في رواية غير الأصيلي في البخاري وفي رواية الأصيلي أخواتك بالتاء، قال القاضي: ولعله أصح بدليل رواية مالك في الموطأ: أعطيتها أختك، قلت: الجميع صحيح ولا تعارض، وقد قال صلى الله عليه وسلم ذلك كله وفيه الاعتناء بأقارب الأم إكراماً بحقها وهو زيادة في برها، وفيه جواز تبرع المرأة بمالها بغير إذن زوجها.
قوله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر النساء تصدقن" فيه أمر ولي الأمر رعيته بالصدقة وفعال الخير ووعظه النساء إذا لم يترتب عليه فتنة، والمعشر الجماعة الذين صفتهم واحدة. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولو من حليكن" هو بفتح الحاء وإسكان اللام مفرد، وأما الجمع فيقال بضم الحاء وكسرها واللام مكسورة فيهما والياء مشددة. قولها: (فإن كان ذلك يجزي عني) هو بفتح الياء أي يكفي، وكذا قولها بعد أتجزي الصدقة عنهما بفتح التاء. وقولها: (أتجزي الصدقة عنهما على زوجيهما) هذه أفصح اللغات، فيقال على زوجيهما وعلى زوجهما وعلى أزواجهما وهي أفصحهن، وبها جاء القرآن العزيز في قوله تعالى: {فقد صغت قلوبكما} وكذا قولها: (وعلى أيتام في حجورهما) وشبه ذلك مما يكون لكل واحد من الاثنين منه واحد. قولهما: (ولا تخبر من نحن ثم أخبر بهما) قد يقال إنه اخلاف للوعد وإفشاء للسر، وجوابه أنه عارض ذلك جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجوابه صلى الله عليه وسلم واجب محتم لا يجوز تأخيره ولا يقدم عليه غيره، وقد تقرر أنه إذا تعارضت المصالح بدئ بأهمها. قوله صلى الله عليه وسلم: "لهما أجران أجر القرابة وأجر الصدقة" فيه الحث على الصدقة على الأقارب وصلة الأرحام وأن فيها أجرين. قوله: (فذكرت لإبراهيم فحدثني عن أبي عبيدة) القائل فذكرت لإبراهيم هو الأعمش ومقصوده أنه رواه عن شيخين شقيق وأبي عبيدة، وهذا المذكور في حديث امرأة ابن مسعود والمرأة الأنصارية من النفقة على أزواجهما وأيتام في حجورهما ونفقة أم سلمة على بنيها المراد به كله صدقة تطوع وسياق الأحاديث يدل عليه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة" فيه بيان أن المراد بالصدقة والنفقة المطلقة في باقي الأحاديث إذا احتسبها، ومعناه أراد بها وجه الله تعالى فلا يدخل فيه من أنفقها ذاهلاً ولكن يدخل المحتسب، وطريقه في الاحتساب أن يتذكر أنه يجب عليه الإنفاق على الزوجة وأطفال أولاده والمملوك وغيرهم ممن تجب نفقته على حسب أحوالهم واختلاف العلماء فيهم، وأن غيرهم ممن ينفق عليه مندوب إلى الإنفاق عليهم فينفق بنية أداء ما أمر به وقد أمر بالإحسان إليهم والله أعلم.
قوله: (عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قدمت على أمي وهي راهبة أو راغبة). وفي الرواية الثانية (راغبة) بلا شك وفيها: (وهي مشركة) فقلت للنبي صلى الله عليه وسلم: (أفأصل أمي؟ قال: نعم صلي أمك) قال القاضي: الصحيح راغبة بلا شك، قال: قيل معناه راغبة عن الإسلام وكارهة له، وقيل معناه طامعة فيما أعطيتها حريصة عليه. وفي رواية أبي داود: (قدمت على أمي راغبة في عهد قريش وهي راغمة مشركة) فالأول راغبة بالباء أي طامعة طالبة صلتي، والثانية بالميم معناه كارهة للإسلام ساخطته، وفيه جواز صلة القريب المشرك، وأم أسماء اسمها قيلة، وقيل قتيلة بالقاف وتاء مثناة من فوق، وهي قيلة بنت عبد العزى القرشية العامرية، واختلف العلماء في أنها أسلمت أم ماتت على كفرها والأكثرون على موتها مشركة
*2* باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إِليه
*وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ. حَدّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَجُلاً أَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ أُمّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا وَلَمْ تُوصِ. وَأَظُنّهَا لَوْ تَكَلّمَتْ تَصَدّقَتُ. أَفَلَهَا أَجْرٌ، إِنْ تَصَدّقْتَ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ".
وحدّثنيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. ح وَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ. أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ. ح حَدّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ مُوسَىَ. حَدّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَقَ. كُلّهُمْ عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ: وَلَمْ تُوصِ. كَمَا قَالَ ابْنُ بِشْرٍ. وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ الْبَاقُونَ.
قوله: (يا رسول الله إن أمي أفتلتت نفسها) ضبطناه نفسها، ونفسها بنصب السين ورفعها فالرفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله، والنصب على أنه مفعول ثان، قال القاضي: أكثر روايتنا فيه بالنصب. وقوله: افتلتت بالفاء هذا هو صواب الذي رواه أهل الحديث وغيرهم، ورواه ابن قتيبة اقتتلت نفسها بالقاف، قال: وهي كلمة تقال لمن مات فجأة، ويقال أيضاً لمن قتلته الجن والعشق والصواب الفاء، قالوا: ومعناه ماتت فجأة، وكل شيء فعل بلا تمكث فقد افتلت، ويقال افتلت الكلام واقترحه واقتضبه إذا ارتجله. وقولها: (أفلها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم) فقوله إن تصدقت هو بكسر الهمزة من إن وهذا لا خلاف فيه، قال القاضي: هكذا الرواية فيه، قال: ولا يصح غيره لأنه إنما سأل عما لم يفعله بعد، وفي هذا الحديث أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصله ثوابها وهو كذلك بإجماع العلماء، وكذا أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين بالنصوص الواردة في الجميع، ويصح الحج عن الميت إذا كان حج الإسلام، وكذا إذا وصى بحج التطوع على الأصح عندنا، واختلف العلماء في الصوم إذا مات وعليه صوم فالراجح جوازه عنه للأحاديث الصحيحة فيه، والمشهور في مذهبنا أن قراءة القرآن لا يصله ثوابها، وقال جماعة من أصحابنا: يصله ثوابها، وبه قال أحمد بن حنبل. وأما الصلاة وسائر الطاعات فلا تصله عندنا ولا عند الجمهور، وقال أحمد: يصله ثواب الجميع كالحج
*2* باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدّثَنَا عَبّادُ بْنُ الْعَوّامِ كِلاَهُمَا عَنْ أَبِي مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ، عَنْ رِبْعِيّ بْنِ حِرَاشٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ (فِي حَدِيثِ قُتَيْبَةَ. قَالَ: قَالَ نَبِيّكُمْ صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم) قَالَ "كُلّ مَعْرُوفٍ صَدَقَةٌ".
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضّبَعِيّ. حَدّثَنَا مَهْدِيّ بْنُ مَيْمُونٍ. حَدّثَنَا وَاصِلٌ مَوْلَىَ أَبِي عُيَيْنَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُقَيْلٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ الدّيلِيّ، عَنْ أَبِي ذَرَ أَنّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدّثُورِ بِالأُجُورِ. يُصَلّونَ كَمَا نُصَلّي. وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ. وَيَتَصَدّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ. قَالَ: "أَوَ لَيْسَ قَدْ جَعَلَ اللّهِ لَكُمْ مَا تَصّدّقُونَ؟ إِنّ بِكُلّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةً. وَكُلّ تَكْبِيرَةٍ صَدَقَةٌ. وَكُلّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ. وَكُلّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ. وَأَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ صَدَقَةٌ. وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ صَدَقَةٌ. وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: "أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهَا وِزْرٌ؟ فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلاَلِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ".
حدّثنا حَسَنُ بْنُ عَلِيَ الْحُلْوَانِيّ. حَدّثَنَا أَبُو تَوْبَةَ الرّبِيعُ بْنُ نَافِعٍ. حَدّثَنَا مُعَاوِيَةُ (يَعْنِي ابْنَ سَلاّمٍ) عَنْ زَيْدٍ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا سَلاّمٍ يَقُولُ: حَدّثَنِي عَ بْدُ اللّهِ بْنُ فَرّوخَ أَنّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّهُ خُلِقَ كُلّ إِنْسَانٍ مِنْ بَنِي آدَمَ عَلَىَ سِتّينَ وَثَلاَثِمِائَةِ مَفْصِلٍ. فَمَنْ كَبّرَ اللّهَ، وَحَمِدَ اللّهَ، وَهَلّلَ اللّهَ، وَسَبّحَ اللّهَ، وَاسْتَغْفَرَ اللّهَ، وَعَزَلَ حَجَراً عَنْ طَرِيقِ النّاسِ، أَوْ شَوْكَةً أَوْ عَظْماً عَنْ طَرِيقِ النّاسِ، وَأَمَرَ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهَىَ عَنْ مُنْكَرٍ، عَدَدَ تِلْكَ السّتّينَ وَالثّلاَثِمِائَةِ السّلاَمَىَ. فَإِنّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ وَقَدْ زَحْزَحَ نَفْسَهُ عَنِ النّارِ".
قَالَ أَبُو تَوْبَةَ: وَرُبّمَا قَالَ "يُمْسِي".
وحدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسّانَ. حَدّثَنَي مُعَاوِيَةُ. أَخْبَرَنِي أَخِي، زَيْدٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ. مِثْلَهُ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ "أَوْ أَمَرَ بِمَعْرُوفٍ" وَقَالَ "فَإِنّهُ يُمْسِي يَوْمَئِذٍ".
وحدّثني أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ الْعَبْدِيّ. حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ كَثِيرٍ. حَدّثَنَا عَلِيّ (يَعْنِي ابْنَ الْمُبَارَكِ) حَدّثَنَا يَحْيَىَ عَنْ زَيْدِ بْنِ سَلاّمٍ، عَنْ جَدّهِ أَبِي سَلاّمٍ. قَالَ حَدّثَنَي عَبْدُ اللّهِ بْنُ فَرّوخَ أَنّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "خُلِقَ كُلّ إِنْسَانٍ" بِنَحْوِ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ عَنْ زَيْدٍ. وَقَالَ "فَإِنّهُ يَمْشِي يَوْمَئِذٍ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "عَلَىَ كُلّ مُسْلِمٍ صَدَقَةٌ" قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَجِدْ؟ قَالَ: "يَعْتَمِلُ بِيَدَيْهِ فَيَنْفَعُ نَفْسَهُ وَيَتَصَدّقُ" قَالَ قِيلَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: "يُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ الْمَلْهُوف" قَالَ قِيلَ لَهُ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ؟ قَالَ: "يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ أَوِ الْخَيْرِ" قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ لَمْ يَفْعَلْ؟ قَالَ: "يُمْسِكُ عَنِ الشّرّ. فَإِنّهَا صَدَقَةٌ".
وحدّثناه مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيَ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ بْنُ هَمّامٍ. حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُلّ سُلاَمَىَ مِنَ النّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ كُلّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشّمْسُ". قَالَ: "تَعْدِلُ بَيْنَ الإِثْنَيْنِ صَدَقَةٌ. وَتُعِينُ الرّجُلَ فِي دَابّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعهُ، صَدَقَةٌ". قَالَ: "وَالْكَلِمَةُ الطّيّبَةُ صَدَقَةٌ. وَكُلّ خُطْوَةٍ تَمْشِيهَا إِلَى الصّلاَةِ صَدَقَةٌ. وَتُمِيطُ الأَذَىَ عَنِ الطّرِيقِ صَدَقَةٌ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "كل معروف صدقة" أي له حكمها في الثواب، وفيه بيان ما ذكرناه في الترجمة، وفيه أنه لا يحتقر شيئاً من المعروف وأنه ينبغي أن لا يبخل به، بل ينبغي أن يحضره.
قوله: (ذهب أهل الدثور بالأجور) الدثور بضم الدال جمع دثر بفتحها وهو المال الكثير. قوله صلى الله عليه وسلم: "أوليس قد جعل الله لكم ما تصدقون إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة" أما قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تصدقون" فالرواية فيه بتشديد الصاد والدال جميعاً ويجوز في اللغة تخفيف الصاد. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة" فرويناه بوجهين: رفع صدقة ونصبه، فالرفع على الاستئناف والنصب عطف على أن بكل تسبيحة صدقة. قال القاضي: يحتمل تسميتها صدقة أن لها أجراً كما للصدقة أجر، وأن هذه الطاعات تماثل الصدقات في الأجور، وسماها صدقة على طريق المقابلة وتجنيس الكلام، وقيل معناه أنها صدقة على نفسه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة" فيه إشارة إلى ثبوت حكم الصدقة في كل فرد من أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولهذا نكره، والثواب في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر منه في التسبيح والتحميد والتهليل، لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية وقد يتعين ولا يتصور وقوعه نفلاً، والتسبيح والتحميد والتهليل نوافل، ومعلوم أن أجر الفرض أكثر من أجر النفل لقوله عز وجل: وما تقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه، رواه البخاري من رواية أبي هريرة. وقد قال إمام الحرمين من أصحابنا عن بعض العلماء: أن ثواب الفرض يزيد على ثواب النافلة بسبعين درجة واستأنسوا فيه بحديث. قوله صلى الله عليه وسلم: "وفي بضع أحدكم صدقة" هو بضم الباء ويطلق على الجماع ويطلق على الفرج نفسه وكلاهما تصح إرادته هنا. وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات، فالجماع يكون عبادة إذا نوى به قضاء حق الزوجة ومعاشرتها بالمعروف الذي أمر الله تعالى به أو طلب ولد صالح أو إعفاف نفسه أو إعفاف الزوجة، ومنعهما جميعاً من النظر إلى حرام أو الفكر فيه أو الهم به أو غير ذلك من المقاصد الصالحة. قوله: (قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر) فيه جواز القياس وهو مذهب العلماء كافة، ولم يخالف فيه إلا أهل الظاهر ولا يعتد بهم وأما المنقول عن التابعين ونحوهم من ذم القياس فليس المراد به القياس الذي يعتمده الفقهاء المجتهدون، وهذا القياس المذكور في الحديث هو من قياس العكس، واختلف الأصوليون في العمل به، وهذا الحديث دليل لمن عمل به وهو الأصح والله أعلم. وفي هذا الحديث فضيلة التسبيح وسائر الأذكار والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحضار النية في المباحات وذكر العالم دليلاً لبعض المسائل التي تخفى، وتنبيه المفتي على مختصر الأدلة، وجواز سؤال المستفتي عن بعض ما يخفى من الدليل إذا علم من حال المسؤول أنه لا يكره ذلك ولم يكن فيه سوء أدب والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر" ضبطنا أجراً بالنصب والرفع وهما ظاهران.
قوله صلى الله عليه وسلم: "خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل" هو بفتح الميم وكسر الصاد. قوله صلى الله عليه وسلم: "عدد تلك الستين والثلاثمائة السلامى" قد يقال وقع هنا إضافة ثلاث إلى مائة مع تعريف الأول وتنكير الثاني، والمعروف لأهل العربية عكسه وهو تنكير الأول وتعريف الثاني، وقد سبق بيان هذا والجواب عنه وكيفية قراءته في كتاب الإيمان في حديث حذيفة في حديث: "أحصوا لي كم يلفظ بالإسلام، قلنا: أتخاف علينا ونحن بين الستمائة". وأما السلامي فبضم السين المهملة وتخفيف اللام وهو المفصل وجمعه سلاميات بفتح الميم وتخفيف الياء. قوله صلى الله عليه وسلم: "زحزح نفسه عن النار" أي باعدها. قوله: (فإنه يمشي يومئذٍ وقد زحزح نفسه عن النار) قال أبو توبة: وربما قال يمسي، ووقع لأكثر رواة كتاب مسلم الأول يمشي بفتح الياء وبالشين المعجمة، والثاني: بضمها وبالسين المهملة، ولبعضهم عكسه وكلاهما صحيح. وأما قوله بعده في رواية الدارمي: (وقال إنه يمسي) فبالمهملة لا غير، وأما قوله بعده في حديث أبي بكر بن نافع (وقال فإنه يمشي يومئذٍ) فبالمعجمة باتفاقهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "تعين ذا الحاجة الملهوف" الملهوف عند أهل اللغة يطلق على المتحسر وعلى المضطر وعلى المظلوم، وقولهم: يا لهف نفسي على كذا كلمة يتحسر بها على ما فات، ويقال لهف بكسر الهاء يلهف بفتحها لهفاً بإسكانها أي حزن وتحسر وكذلك التلهف. قوله صلى الله عليه وسلم: "تمسك عن الشر فإنها صدقة" معناه صدقة على نفسه كما في غير هذه الرواية، والمراد أنه إذا أمسك عن الشر لله تعالى كان له أجر على ذلك كما أن للمتصدق بالمال أجراً.
قوله صلى الله عليه وسلم: "كل سلامي من الناس عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس" قال العلماء: المراد صدقة ندب وترغيب لا إيجاب وإلزام. قوله صلى الله عليه وسلم: "يعدل بين الاثنين صدقة" أي يصلح بينهما بالعدل
*2* باب في المنفق والممسك
*وحدّثني الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيّا. حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ. حَدّثَنَي سُلَيْمَانُ (وَهُوَ ابْنُ بِلاَلٍ) حَدّثَنَي مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي مُزَرّدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ، إِلاّ مَلَكَانِ يَنْزِلاَنِ. فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللّهُمّ أَعْطِ مُنْفِقاً خَلَفاً. وَيَقُولُ الاَخَرُ: اللّهُمّ أَعْطِ مُمْسِكاً تَلَفاً".
قوله: (عن معاوية بن أبي مزرد) هو بمض الميم وفتح الزاي وكسر الراء المشددة، واسم أبي مزرد عبد الرحمن بن يسار. قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الاَخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً" قال العلماء: هذا في الإنفاق في الطاعات ومكارم الأخلاق وعلى العيال والضيفان والصدقات ونحو ذلك بحيث لا يذم ولا يسمى سرفاً، والإمساك المذموم هو الإمساك عن هذا
*2* باب الترغيب في الصدقة قبل أن لا يوجد من يقبلها
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَ ابْنُ نُمَيْرٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى (وَاللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ قَالَ سَمِعَتُ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "تَصَدّقُوا. فَيُوشِكُ الرّجُلُ يَمْشِي بِصَدَقَتِهِ، فَيَقُولُ الّذِي أُعْطِيَهَا: لَوْ جِئْتَنَا بِهَا بِالأَمْسِ قَبِلْتُهَا. فَأَمّا الاَنَ، فَلاَ حَاجَةَ لِي بِهَا. فَلاَ يَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهَا".
وحدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ بَرّادٍ الأَشْعَرِيّ، وَ أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَىَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَأْتِيَنّ عَلَى النّاسِ زَمَانٌ يَطُوفُ الرّجُلُ فِيهِ بِالصّدَقَةِ مِنَ الذّهَبِ. ثُمّ لاَ يَجِدُ أَحَداً يَأْخُذُهَا مِنْهُ. وَيُرَى الرّجُلُ الْوَاحِدُ يَتْبَعُهُ أَرْبَعُونَ امْرَأَةً. يَلُذْنَ بِهِ. مِنْ قِلّةِ الرّجَالِ وَكَثْرَةِ النّسَاءِ".
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ بَرّادٍ "وَتَرَى الرّجُلَ".
وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْقَارِيّ) عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَقُومُ السّاعَةُ حَتّىَ يَكْثُرَ الْمَالُ وَيَفِيضَ. حَتّىَ يَخْرُجَ الرّجُلُ بِزَكَاةِ مَالِهِ فَلاَ يَجِدُ أَحَداً يَقْبَلُهَا مِنْهُ. وَحَتّىَ تَعُودَ أَرْضُ الْعَرَبِ مُرُوجاً وَأَنْهَاراً".
وحدّثنا أَبُو الطّاهِرِ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي يُونُسَ، عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَقُومُ السّاعَةُ حَتّىَ يَكْثُرَ فِيكُمُ الْمَالُ. فَيَفِيضَ حَتّىَ يُهِمّ رَبّ الْمَالِ مَنْ يَقْبَلُهُ مِنْهُ صَدَقَةً. وَيُدْعَىَ إِلَيْهِ الرّجُلُ فَيَقُولُ: لاَ أَرَبَ لِي فِيهِ".
وحدّثنا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ يَزِيدَ الرّفَاعِيّ (وَاللّفْظُ لِوَاصِلٍ) قَالُوا: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا. أَمْثَالَ الأُسْطُوَانِ مِنَ الذّهَبِ وَالْفِضّة. فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَتَلْتُ. وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي. وَيَجِيءُ السّارِقُ فَيَقُولُ: فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي. ثُمّ يَدَعُونَهُ فَلاَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئاً".
قوله صلى الله عليه وسلم: "تصدقوا فيوشك الرجل يمشي بصدقته فيقول الذي أعطيها لو جئتنا بها بالأمس قبلتها فأما الاَن فلا حاجة لي بها فلا يجد من يقبلها" معنى أعطيها أي عرضت عليه، وفي هذا الحديث والأحاديث بعده مما ورد في كثرة المال في آخر الزمان، وأن الإنسان لا يجد من يقبل صدقته الحث على المبادرة بالصدقة واغتنام إمكانها قبل تعذرها، وقد صرح بهذا المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم في أول الحديث: "تصدقوا فيوشك الرجل" إلى آخره، وسبب عدم قبولهم الصدقة في آخر الزمان لكثرة الأموال وظهور كنوز الأرض ووضع البركات فيها كما ثبت في الصحيح بعد هلاك يأجوج ومأجوج وقلة آمالهم وقرب الساعة وعدم إدخارهم المال وكثرة الصدقات والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "يطوف الرجل بصدقته من الذهب" إنما هذا يتضمن التنبيه على ما سواه، لأنه إذا كان الذهب لا يقبله أحد فكيف الظن بغيره؟ وقوله صلى الله عليه وسلم: "يطوف" إشارة إلى أنه يتردد بها بين الناس فلا يجد من يقبلها فتحصل المبالغة، والتنبيه على عدم قبول الصدقة بثلاثة أشياء كونه يعرضها ويطوف بها وهي ذهب. قوله: (ويرى الرجل الواحد) ثم قال: وفي رواية ابن براد (وترى) هكذا هو في جميع النسخ، الأول يرى بضم الياء المثناة تحت، والثاني بفتح المثناة فوق. قوله صلى الله عليه وسلم: "ويرى الرجل الواحد تتبعه أربعون امرأة يلذن به من قلة الرجال وكثرة النساء" معنى يلذن به أي ينتمين إليه ليقوم بحوائجهن ويذب عنهن كقبيلة بقي من رجالها واحد فقط وبقيت نساؤها فيلذن بذلك الرجل ليذب عنهن ويقوم بحوائجهن ولا يطمع فيهن أحد بسببه، وأما سبب قلة الرجال وكثرة النساء فهو الحروب والقتال الذي يقع في آخر الزمان وتراكم الملاحم كما قال صلى الله عليه وسلم: "ويكثر الهرج" أي القتل.
قوله: (حدثنا يعقوب وهو ابن عبد الرحمن القاري) هو بتشديد الياء منسوب إلى القارة القبيلة المعروفة وسبق بيانه مرات. قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً" معناه والله أعلم أنها يتركونها ويعرضون عنها فتبقى مهملة لا تزرع ولا تسقى من مياهها، وذلك لقلة الرجال وكثرة الحروب وتراكم الفتن وقرب الساعة وقلة الاَمال وعدم الفراغ لذلك والاهتمام به.
قوله: (حتى يهم رب المال من يقبل صدقته) ضبطوه بوجهين: أجودهما وأشهرهما يهم بضم الياء وكسر الهاء ويكون رب المال منصوباً مفعولاً والفاعل من وتقديره يحزنه ويهتم له. والثاني يهم بفتح الياء وضم الهاء ويكون رب المال مرفوعاً فاعلاً وتقديره يهم رب المال من يقبل صدقته أي يقصده، قال أهل اللغة: يقال أهمه إذا أحزنه، وهمه إذا أذابه، ومنه قولهم: همك ما أهمك أي أذابك الشيء الذي أحزنك فأذهب شحمك وعلى الوجه الثاني هو من هم به إذا قصده، قوله صلى الله عليه وسلم: (لا أرب لي فيه) بفتح الهمزة والراء أي لا حاجة.
قوله: (محمد بن يزيد الرفاعي) منسوب إلى جد له وهو محمد بن يزيد بن محمد بن كثير ابن رفاعة بن سماعة أبو هشام الرفاعي قاضي بغداد. قوله صلى الله عليه وسلم: "تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة" قال ابن السكيت: الفلذ القطعة من كبد البعير، وقال غيره: هي القطعة من اللحم، ومعنى الحديث التشبيه أي تخرج ما في جوفها من القطع المدفونة فيها، والأسطوان بضم الهمزة والطاء وهو جمع أسطوانة وهي السارية والعمود وشبهه بالأسطوان لعظمه وكثرته
*2* باب قبول الصدقة من الكسب الطيب وتربيتها
*وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَسَارٍ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَصَدّقَ أَحَدٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ طَيّبٍ، وَلاَ يَقْبَلُ الله إِلاّ الطّيّبَ، إِلاّ أَخَذَهَا الرّحْمَنُ بِيَمِينِهِ. وَإِنْ كَانَتْ تَمْرَةً. فَتَرْبُو فِي كَفّ الرّحْمَنِ حَتّىَ تَكُونَ أَعْظَمَ مِنَ الْجَبَلِ. كَمَا يُرَبّي أَحَدُكُمْ فَلُوّهُ أَوْ فَصِيلَهُ".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْقَارِيّ) عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَتَصَدّقُ أَحَدٌ بِتَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيّبٍ. إِلاّ أَخَذَهَا اللّهُ بِيَمِينِهِ. فَيُرَبّيهَا كَمَا يُرَبّي أَحَدُكُمْ فَلُوّهُ أَوْ قلَوصة. حَتّىَ تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ، أَوْ أَعْظَمَ".
وحدّثني أُمَيّةُ بْنُ بِسْطَامَ. حَدّثَنَا يَزِيدُ (يَعْنِي ابْنَ زُرَيْعِ) حَدّثَنَا رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ. ح وَحَدّثَنِيهِ أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ الأَوْدِيّ. حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ. حَدّثَنِي سُلَيْمَانُ (يَعْنِي ابْنَ بِلاَلٍ). كِلاَهُمَا عَنْ سُهِيْلٍ بِهذَا الاْسْنَادِ.
فِي حَدِيثِ رَوْحٍ (مِنَ الْكَسْبِ الطّيّبِ فَيَضَعُهَا فِي حَقّهَا" وَفِي حَدِيثِ سُلَيْمَانَ "فَيَضَعُهَا فِي مَوْضِعِهَا".
وحدّثنيهِ أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِي صَالْحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ يَعْقُوبَ عَنْ سُهَيْلٍ.
وحدّثني أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. حَدّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ. حَدّثَنِي عَدِيّ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيّهَا النّاسُ إِنّ اللّهَ طَيّبٌ لاَ يَقْبَلُ إِلاّ طَيّباً. وَإِنّ اللّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ. فَقَالَ: {يَا أَيّهَا الرّسُلُ كُلُوا مِنَ الطّيّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} (المؤمنون الاَية: ) وَقَالَ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} (2 البقرة الاَية: 1)". ثُمّ ذَكَرَ الرّجُلُ يُطِيلُ السّفَرَ. أَشْعَثَ أَغْبَرَ. يَمُدّ يَدَيْهِ إِلَى السّمَاءِ. يَا رَبّ يَا رَبّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ. فَأَنّى يُسْتَجَابُ لِذَلِك؟".
قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يقبل الله إلا الطيب" المراد بالطيب هنا الحلال. قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل" قال المازري: قد ذكرنا استحالة الجارحة على الله سبحانه وتعالى، وأن هذا الحديث وشبهه إنما عبر به على ما اعتادوا في خطابهم ليفهموا، فكنى هنا عن قبول الصدقة بأخذها في الكف وعن تضعيف أجرها بالتربية. قال القاضي عياض: لما كان الشيء الذي يرتضي ويعز يتلقى باليمين ويؤخذ بها استعمل في مثل هذا واستعير للقبول والرضا كما قال الشاعر:
إذا ما راية رفعت لمجدتلقاها عرابة باليمين
قال: وقيل عبر باليمين هنا عن جهة القبول والرضا إذ الشمال بضده في هذا. قال: وقيل المراد بكف الرحمن هنا، ويمينه كف الذي تدفع إليه الصدقة، وإضافتها إلى الله تعالى إضافة ملك واختصاص لوضع هذه الصدقة فيها لله عز وجل. قال: وقد قيل في تربيتها وتعظيمها حتى تكون أعظم من الجبل أن المراد بذلك تعظيم أجرها وتضعيف ثوابها. قال: ويصح أن يكون على ظاهره وأن تعظم ذاتها ويبارك الله تعالى فيها ويزيدها من فضله حتى تثقل في الميزان، وهذا الحديث نحو قول الله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}. قوله صلى الله عليه وسلم: "كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله" قال أهل اللغة: الفلو المهر سمي بذلك لأنه فلى عن أمه أي فصل وعزل. والفصيل ولد الناقة إذا فصل من إرضاع أمه فعيل بمعنى مفعول، كجريح وقتيل بمعنى مجروح ومقتول. وفي الفلو لغتان فصيحتان أفصحهما وأشهرهما فتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو، والثانية كسر الفاء وإسكان اللام وتخفيف الواو. قوله صلى الله عليه وسلم: "فلوه أو قلوصه" هي بفتح القاف وضم اللام وهي الناقة الفتية ولا يطلق على الذكر.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً" قال القاضي: الطيب في صفة الله تعالى بمعنى المنزه عن النقائص وهو بمعنى القدوس، وأصل الطيب الزكاة والطهارة والسلامة من الخبث، وهذا الحديث أحد الأحاديث التي هي قواعد الإسلام ومباني الأحكام، وقد جمعت منها أربعين حديثاً في جزء، وفي الحث على الإنفاق من الحلال والنهي عن الإنفاق من غيره، وفيه أن المشروب والمأكول والملبوس ونحو ذلك ينبغي أن يكون حلالاً خالصاً لا شبهة فيه، وأن من أراد الدعاء كان أولى بالإعتناء بذلك من غيره. قوله: (ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب) إلى آخره. معناه والله أعلم أنه يطيل السفر في وجوه الطاعات كحج وزيارة مستحبة وصلة رحم وغير ذلك. قوله صلى الله عليه وسلم: "وغذي بالحرام" هو بضم الغين وتخفيف الذال المكسورة. قوله صلى الله عليه وسلم: "فأنى يستجاب لذلك" أي من أين يستجاب لمن هذه صفته وكيف يستجاب له
*2* باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة، وأنها حجاب من النار
*حدّثنا عَوْنُ بْنُ سَلاّمٍ الْكُوفِيّ. حَدّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْجُعْفِيّ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَعْقَلٍ، عَنْ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنَ النّارِ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ، فَلْيَفْعَلْ".
حدّثنا عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ السّعْدِيّ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ عَلِيّ بْنُ خَشْرَمٍ (قَالَ ابْنُ حُجْرٍ: حَدّثَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ) حَدّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ سَيُكَلّمُهُ اللّهُ. لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ. فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلاَ يَرَىَ إِلاّ مَا قَدّمَ. وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلاَ يَرَىَ إِلاّ مَا قَدّمَ. وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلاَ يَرَىَ إِلاّ النّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ. فَاتّقُوا النّارَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ".
زَادَ ابْنُ حُجْرٍ: قَالَ الأَعْمَشُ: وَحَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُرّةَ عَنْ خَيْثَمَةَ، مِثْلَهُ. وَزَادَ فِيهِ "وَلَوْ بِكَلِمَةٍ طَيّبَةٍ".
وَقَالَ إِسْحَقُ: قَالَ الأَعْمَشُ: عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ، عَنْ خَيْثَمَة.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم النّارَ فَأعْرَضَ وَأَشَاحَ. ثُمّ قَالَ "اتّقُوا النّارَ". ثُم أَعْرَضَ وَأَشَاحَ حَتّىَ ظَنَنّا أَنّهُ كَأَنّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا. ثُمّ قَالَ: "اتّقُوا النّارَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ، فَبِكَلِمَةٍ طَيّبَةٍ".
وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو كُرَيْبٍ. كَأَنّمَا. وَقَالَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ، عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ عَدِيّ بْنِ حَاتِمٍ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ ذَكَرَ النّارَ فَتَعَوّذَ مِنْهَا. وَأَشَاحَ بِوَجْهِهِ. ثَلاَثَ مِرَارٍ. ثُمّ قَالَ: "اتّقُوا النّارَ وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ. فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا، فَبِكَلِمَةٍ طَيّبَةٍ".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى الْعَنَزِيّ. أَخْبَرَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَوْنِ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي صَدْرِ النّهَارِ. قَالَ: فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النّمَارِ أَوِ الْعَبَاءِ. مُتَقَلّدِي السّيُوفِ. عَامّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ. بَلْ كُلّهُمْ مِنْ مُضَرَ. فَتَمَعّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَا رَأَىَ بِهِمْ مِنَ الْفَاقَةِ. فَدَخَلَ ثُمّ خَرَجَ. فَأَمَرَ بِلاَلاً فَأَذّنَ وَأَقَامَ. فَصَلّى ثُمّ خَطَبَ فَقَالَ: {يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ الّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (4 النساء الاَية: 1) إِلَىَ آخِرِ الاَيَةِ. {إِنّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} وَالاَيَةَ الّتِي فِي الْحَشْرِ: {اتّقُوا الله وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُوا الله} (الحشر الاَية: ) تَصَدّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ (حَتّىَ قَالَ) وَلَوْ بِشِقّ تَمْرَةٍ" قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ بِصُرّةٍ كَادَتْ كَفّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا. بَلْ قَدْ عَجزَتْ. قَالَ: ثُمّ تَتَابَعَ النّاسُ. حَتّىَ رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ. حَتّىَ رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَهَلّلُ. كَأَنّهُ مُذْهَبَةٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَنّ فِي الإِسْلاَمِ سُنّةً حَسَنَةً، فَلَهُ أَجْرُهَا، وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ. مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. وَمَنْ سَنّ فِي الإِسْلاَمِ سُنّةً سَيّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ. مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. ح وَحَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ. حَدّثَنَا أَبِي. قَالاَ جَمِيعاً: حَدّثَنَا شُعْبَةُ. حَدّثَنِي عَوْنُ بْنِ أَبِي جُحَيْفَةَ. قَالَ: سَمِعْتُ الْمُنْذِرَ بْنَ جَرِيرٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم صَدْرَ النّهَارِ. بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مُعَاذٍ مِنَ الزّيَادَةِ قَالَ: ثُمّ صَلّى الظّهْرَ ثُمّ خَطَبَ.
حدّثني عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيريّ وَ أَبُو كَامِلٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأُمَوِيّ. قَالَوا: حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الْمُنْذِرِ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَأَتَاهُ قَوْمٌ مُجْتَابِي النّمَارِ. وَسَاقُوا الْحَدِيثَ بِقِصّتِهِ. وَفِيهِ: فَصَلّى الظّهْرَ ثُمّ صَعِدَ مِنْبَراً صَغِيراً. فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَىَ عَلَيْهِ. ثُمّ قَالَ: "أَمّا بَعْدُ. فَإِنّ الله أَنْزَلَ فِي كِتَابِهِ: {يَا أَيّهَا النّاسُ اتّقُوا رَبّكُمُ} الاَيَةَ".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ يَزِيدَ وَ أَبِي الضّحَىَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ هِلاَلٍ الْعَبْسِيّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. عَلَيْهِمُ الصّوفُ. فَرَأَىَ سُوءَ حَالِهِمْ. قَدْ أَصَابَتْهُمْ حَاجَةٌ. فَذَكَرَ بِمَعْنَىَ حَدِيثِهِمْ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل" شق التمرة بكسر الشين نصفها وجانبها، وفيه الحث على الصدقة، وأنه لا يمتنع منها لقلتها، وأن قليلها سبب للنجاة من النار. قوله: (ليس بينه وبينه ترجمان) هو بفتح التاء وضمها وهو المعبر عن لسان بلسان. قوله: (ولو بكلمة طيبة) فيه أن الكلمة الطيبة سبب للنجاة من النار، وهي الكلمة التي فيها تطييب قلب إنسان إذا كانت مباحة أو طاعة. قوله: (حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وأبو كريب قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن خيثمة عن عدي بن حاتم) هذا الإسناد كله كوفيون، وفيه ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض: الأعمش وعمرو وخيثمة. قوله: (فأعرض وأشاح) هو بالشين المعجمة والحاء المهملة ومعناه قال الخليل وغيره معناه نحاه وعدل به. وقال الأكثرون: المشيح الحذر والجاد في الأمر، وقيل المقبل، وقيل الهارب، وقيل المقبل إليه المانع لما وراء ظهره، فأشاح هنا يحتمل هذه المعاني أي حذر النار كأنه ينظر إليها، أو جد في الإيضاح بإيقانها، أو أقبل إليك خطاباً أو أعرض كالهارب.
قوله: (مجتابي النمار أو العباء) النمار بكسر النون جمع نمرة بفتحها وهي ثياب صوف فيها تنمير، والعباء بالمد وبفتح العين جمع عباءة وعباية لغتان، وقوله مجتابي النمار أي خرقوها وقوروا وسطها. قوله: (فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم) هو بالعين المهملة أي تغير. قوله: (فصلى ثم خطب) فيه استحباب جمع الناس للأمور المهمة ووعظهم وحثهم على مصالحهم وتحذيرهم من القبائح. قوله: (فقال يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة) سبب قراءة هذه الاَية أنها أبلغ في الحث على الصدقة عليهم ولما فيها من تأكد الحق لكونهم إخوة. قوله: (رأيت كومين من طعام وثياب) هو بفتح الكاف وضمها، قال القاضي: ضبطه بعضهم بالفتح وبعضهم بالضم، قال ابن سراج: هو بالضم اسم لما كومه وبالفتح المرة الواحدة، قال: والكومة بالضم الصبرة، والكوم العظيم من كل شيء، والكوم المكان المرتفع كالرابية، قال القاضي: فالفتح هنا أولى لأن مقصوده الكثرة والتشبيه بالرابية. قوله: (حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة) فقوله: يتهلل أي يستنير فرحاً وسروراً. وقوله: مذهبة ضبطوه بوجهين: أحدهما وهو المشهور وبه جزم القاضي والجمهور مذهبة بذال معجمة وفتح الهاء وبعدها باء موحدة. والثاني ولم يذكر الحميدي في الجمع بين الصحيحين غيره مدهنة بدال مهملة وضم الهاء وبعدها نون، وشرحه الحميدي في كتابه غريب الجمع بين الصحيحين فقال هو وغيره ممن فسر هذه الرواية إن صحت المدهن الإناء الذي يدهن فيه، وهو أيضاً اسم للنقرة في الجبل التي يستجمع فيها ماء المطر، فشبه صفاء وجهه الكريم بصفاء هذا الماء وبصفاء الدهن والمدهن. وقال القاضي عياض في المشارق وغيره من الأئمة: هذا تصحيف وهو بالذال المعجمة والباء الموحدة وهو المعروف في الروايات، وعلى هذا ذكر القاضي وجهين في تفسيره: أحدهما معناه فضة مذهبة فهو أبلغ في حسن الوجه وإشراقه. والثاني شبهه في حسنه ونوره بالمذهبة من الجلود وجمعها مذاهب وهي شيء كانت العرب تصنعه من جلود وتجعل فيها خطوطاً مذهبة يرى بعضها إثر بعض، وأما سبب سروره صلى الله عليه وسلم ففرحاً بمبادرة المسلمين إلى طاعة الله تعالى وبذل أموالهم لله وامتثال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولدفع حاجة هؤلاء المحتاجين، وشفقة المسلمين بعضهم على بعض، وتعاونهم على البر والتقوى، وينبغي للإنسان إذا رأى شيئاً من هذا القبيل أن يفرح ويظهر سروره ويكون فرحه لما ذكرناه. قوله صلى الله عليه وسلم: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها" إلى آخره فيه الحث على الابتداء بالخيرات وسن السنن الحسنات، والتحذير من اختراع الأباطيل والمستقبحات، وسبب هذا الكلام في هذا الحديث أنه قال في أوله: (فجاء رجل بصرة كادت كفه تعجز عنها فتتابع الناس) وكان الفضل العظيم للبادي بهذا الخير والفاتح لباب هذا الإحسان. وفي هذا الحديث تخصيص قوله صلى الله عليه وسلم: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" وأن المراد به المحدثات الباطلة والبدع المذمومة، وقد سبق بيان هذا في كتاب صلاة الجمعة، وذكرنا هناك أن البدع خمسة أقسام: واجبة ومندوبة ومحرمة ومكروهة ومباحة. قوله: (عن عبد الرحمن بن هلال العبسي) هو بالباء الموحدة
*2* باب الحمل أجرة يتصدق بها، والنهي الشديد عن تنقيص المتصدق بقليل
*حدّثني يَحْيَىَ بْنُ مَعِينٍ. حَدّثَنَا غُنْدَرٌ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ. ح وَحَدّثَنِيهِ بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ (وَاللّفْظُ لَهُ) أَخْبَرَنَا مُحَمّدٌ (يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ) عَنْ شُعْبَةُ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: أُمِرْنَا بِالصّدَقَةِ. قَالَ: كُنّا نُحَامِلُ. قَالَ: فَتَصَدّقَ أَبُو عَقِيلٍ بِنِصْفِ صَاعٍ. قَالَ: وَجَاءَ إِنْسَانٌ بِشَيْءٍ أَكْثَرَ مِنْهُ. فَقَالَ الْمُنَافِقُونَ: إِنّ اللّهَ لَغَنِيّ عَنْ صَدَقَةِ هَذَا. وَمَا فَعَلَ هَذَا الاَخَرُ إِلاّ رِيَاءً. فَنَزَلَتْ: {الّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطّوّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصّدَقَاتِ وَالّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاّ جُهْدَهُمْ} (9 التوبة الاَية: ).
وَلَمْ يَلْفِظْ بِشْرٌ: بِالْمُطَوّعِينَ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ. حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الرّبِيعِ. ح وَحَدّثَنِيهِ إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورِ. أَخْبَرَنَا أَبُو دَاوُدَ. كِلاَهُمَا عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الاْسْنَادِ. وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الرّبِيعِ: قَالَ: كُنّا نُحَامِلُ عَلَى ظُهُورِنَا.
قوله: (كنا نحامل). وفي الرواية الثانية: (كنا نحامل على ظهورنا) معناه نحمل على ظهورنا بالأجرة ونتصدق من تلك الأجرة أو نتصدق بها كلها، ففيه التحريض على الاعتناء بالصدقة، وأنه إذا لم يكن له مال يتوصل إلى تحصيل ما يتصدق به من حمل بالأجرة أو غيره من الأسباب المباحة
*2* باب فضل المنيحة
*حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ "أَلاَ رَجُلٌ يَمْنَحُ أَهْلَ بَيْتٍ نَاقَةً. تَغْدُو بِعُسَ. وَتَرُوحُ بِعُسَ. إِنّ أَجْرَهَا لَعَظِيمٌ".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ. حَدّثَنَا زَكَرِيّاءُ بْنُ عَدِيّ. أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو عَنْ زَيْدٍ، عَنْ عَدِيّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ نَهَىَ فَذَكَرَ خِصَالاً وَقَالَ: "مَنْ مَنَحَ مَنِيحَةً، غَدَتْ بِصَدَقَةٍ، وَرَاحَتْ بِصَدَقَةٍ، صَبُوحِهَا وَغَبُوقِهَا".
قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا رجل يمنح أهل بيت ناقة تغدو بعس وتروح بعس" العس بضم العين وتشديد السين المهملة وهو القدح الكبير هكذا ضبطناه، وروي بعشاء بشين معجمة ممدودة، قال القاضي: وهذه رواية أكثر رواة مسلم، قال: والذي سمعناه من متقني شيوخنا بعس وهو القدح الضخم، قال: وهذا هو الصواب المعروف، قال: وروي من رواية الحميدي في غير مسلم بعساء بالسين المهملة، وفسره الحميدي بالعس الكبير وهو من أهل اللسان، قال: وضبطنا عن أبي مروان بن سراج بكسر العين وفتحها معاً ولم يقيده الجياني وأبو الحسن بن أبي مروان عنه إلا بالكسر وحده، هذا كلام القاضي، ووقع في كثير من نسخ بلادنا أو أكثرها من صحيح مسلم بعساء بسين مهملة ممدودة والعين مفتوحة، وقوله يمنح بفتح النون أي يعطيهم ناقة يأكلون لبنها مدة ثم يردونها إليه، وقد تكون المنيحة عطية للرقبة بمنافعها مؤبدة مثل الهبة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من منح منيحة غدت بصدقة وراحت بصدقة صبوحها وغبوقها" وقع في بعض النسخ منيحة وبعضها منحة بحذف الياء، قال أهل اللغة: المنحة بكسر الميم والمنيحة بفتحها مع زيادة الياء هي العطية، وتكون في الحيوان وفي الثمار وغيرهما: وفي الصحيح: "أن النبي صلى الله عليه وسلم منح أم أيمن عذاقاً أي نخيلاً" ثم قد تكون المنيحة عطية للرقبة بمنافعها وهي الهبة، وقد تكون عطية اللبن أو الثمرة مدة، وتكون الرقبة باقية على ملك صاحبها ويردها إليه إذا انقضى اللبن أو الثمر المأذون فيه. وقوله: (صبوحها وغبوقها) الصبوح بفتح الصاد الشرب أول النهار، والغبوق بفتح الغين أول الليل، والصبوح والغبوق منصوبان على الظرف، وقال القاضي عياض: هما مجروران على البدل من قوله صدقة، قال: ويصح نصبهما على الظرف. وقوله: (عن أبي هريرة يبلغ به ألا رجل يمنح) معناه يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه قال عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا رجل يمنح، ولا فرق بين هاتين الصيغتين باتفاق العلماء والله أعلم
*2* باب مثل المنفق والبخيل
*حدّثنا عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ عَمْرٌو: وَحَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلُ الْمُنْفِقِ وَالْمُتَصَدّقِ. كَمَثَلِ رَجُلٍ عَلَيْهِ جُبّتَانِ أَوْ جُنّتَانِ. مِنْ لَدُنْ ثُدِيّهِمَا إِلَىَ تَرَاقِيهِمَا. فَإِذَا أَرَادَ الْمُنْفِقُ (وَقَالَ الاَخَرُ: فَإِذَا أَرَادَ الْمُتَصَدّقُ) أَنْ يَتَصَدّقَ سَبَغَتْ عَلَيْهِ أَوْ مَرّتْ. وَإِذَا أَرَادَ الْبَخِيلُ أَنْ يُنْفِقَ. قَلَصَتْ عَلَيْهِ وَأَخَذَتْ كُلّ حَلْقَةٍ مَوْضِعَهَا. حَتّىَ تُجِنّ بَنَانَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ" قَالَ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَقَالَ يُوَسّعُهَا فَلاَ تَتّسِعُ.
حدّثني سُلَيْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ أَبُو أَيّوبَ الْغَيْلاَنِيّ. حَدّثَنَا أَبُو عَامِرٍ (يَعْنِي الْعَقَدِيّ). حَدّثَنَا إِبْرَاهِيمَ بْنُ نَافِعٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "مَثَلَ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدّقِ. كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ. قَدِ اضْطُرّتْ أَيْدِيهِمَا إِلَىَ ثُدِيّهِمَا وَتَرَاقِيهِمَا. فَجَعَلَ الْمُتَصَدّقُ كُلّمَا تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ انْبَسَطَتْ عَنْهُ. حَتّىَ تُغَشّيَ أَنَامِلَهُ وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ. وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلّمَا هَمّ بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ. وَأَخَذَتْ كُلّ حَلَقَةٍ مَكَانَهَا". قَالَ: فَأَنَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ بِإِصْبَعِهِ فِي جَيْبِهِ. فَلَوْ رَأَيْتَهُ يُوَسّعُهَا وَلاَ تَوَسّعُ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَقَ الْحَضْرَمِيّ عَنْ وُهَيْبٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدّقِ مَثَلُ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُنّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ. إِذَا هَمّ الْمُتَصَدّقُ بِصَدَقَةٍ اتّسَعَتْ عَلَيْهِ. حَتّىَ تُعَفّيَ أَثَرَهُ. وَإِذَا هَمّ الْبَخِيلُ بِصَدَقَةٍ تَقَلّصَتْ عَلَيْهِ، وَانْضَمّتْ يَدَاهُ إِلَىَ تَرَاقِيهِ، وَانْقَبَضَتْ كُلّ حَلْقَةٍ إِلَىَ صَاحِبَتِهَا" قَالَ: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "فَيَجْهَدُ أَنْ يُوَسّعَهَا فَلاَ يَسْتَطِيعُ".
قوله: (قال عمر وحدثنا سفيان بن عيينة قال وقال ابن جريج) هكذا هو في النسخ وقال ابن جريج بالواو وهي صحيحة مليحة، وإنما أتى بالواو لأن ابن عيينة قال لعمرو قال ابن جريج كذا، فإذا روى عمرو الثاني من تلك الأحاديث أتى بالواو لأن ابن عيينة قال في الثاني وقال ابن جريج كذا، وقد سبق التنبيه على مثل هذا مرات في أول الكتاب. قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو الناقد: "مثل المنفق والمتصدق كمثل رجل عليه جبتان أو جنتان من لدن ثديهما إلى تراقيهما". ثم قال: (فإذا أراد المنفق أن يتصدق سبغت وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت) هكذا وقع هذا الحديث في جميع النسخ من رواية عمرو مثل المنفق والمتصدق، قال القاضي وغيره. هذا وهم وصوابه مثل ما وقع في باقي الروايات مثل البخيل والمتصدق وتفسيرهما آخر الحديث يبين هذا، وقد يحتمل أن صحة رواية عمرو هكذا أن تكون على وجهها وفيها محذوف تقديره مثل المنفق والمتصدق وقسيمهما وهو البخيل، وحذف البخيل لدلالة المنفق والمتصدق عليه كقول الله تعالى: {سرابيل تقيكم الحرد أي والبرد، وحذف ذكر البرد لدلالة الكلام عليه. وأما قوله (والمتصدق) فوقع في بعض الأصول المتصدق بالتاء وفي بعضها المصدق بحذفها وتشديد الصاد وهما صحيحان. وأما قوله (كمثل رجل) فهكذا وقع في الأصول كلها كمثل رجل بالإفراد، والظاهر أنه تغيير من بعض الرواة وصوابه كمثل رجلين. وأما قوله (جبتان أو جنتان" فالأول بالباء والثاني بالنون، ووقع في بعض الأصول عكسه. وأما قوله من (لدن ثديهما) فكذا هو في كثير من النسخ المعتمدة أو أكثرها ثديهما بضم الثاء وبياء واحدة مشددة على الجمع وفي بعضهما ثدييهما بالتثنية. قال القاضي عياض: وقع في هذا الحديث أوهام كثيرة من الرواة وتصحيف وتحريف وتقديم وتأخير ويعرف صوابه من الأحاديث التي بعده، فمنه مثل المنفق والمتصدق وصوابه المتصدق والبخيل، ومنه كمثل رجل وصوابه رجلين عليهما جنتان، ومنه قوله جنتان أو جبتان بالشك وصوابه جنتان بالنون بلا شك كما في الحديث الاَخر بالنون بلا شك والجنة الدرع ويدل عليه في الحديث نفسه. قوله: (فأخذت كل حلقة موضعها) وفي الحديث الاَخر: (جنتان من حديد) ومنه قوله: سبغت عليه أو مرت كذا هو في النسخ مرت بالراء قيل إن صوابه مدت بالدال بمعنى سبغت، وكما قال في الحديث الاَخر (انبسطت) لكنه قد يصح مرت على نحو هذا المعنى، والسابغ الكامل، وقد رواه البخاري مادت بدال مخففة من ماد إذا مال، ورواه بعضهم مارت ومعناه سالت عليه وامتدت، وقال الأزهري: معناه ترددت وذهبت وجاءت يعني لكمالها. ومنه قوله: (وإذا أراد البخيل أن ينفق قلصت عليه وأخذت كل حلقة موضعها حتى تجن بنانه ويعفو أثره قال فقال أبو هريرة يوسعها فلا تتسع) وفي هذا الكلام اختلال كثير، لأن قوله تجن بنانه ويعفو أثره إنما جاء في المتصدق لا في البخيل، وهو على ضد ما هو وصف البخيل من قوله قلصت كل حلقة موضعها، وقوله: يوسعها فلا تتسع وهذا من وصف البخيل فأدخله في وصف المتصدق فاختل الكلام وتناقض، وقد ذكر في الأحاديث على الصواب، ومنه رواية بعضهم تحز ثيابه بالحاء والزاي وهو وهم، والصواب رواية الجمهور تجن بالجيم والنون أي تستتر، ومنه رواية بعضهم ثيابه بالثاء المثلثة وهو وهم، والصواب بنانه بالنون وهو رواية الجمهور كما قال في الحديث الاَخر أنامله، ومعنى تقلصت انقبضت، ومعنى يعفو أثره أي يمحى أثر مشيه بسبوغها وكمالها، وهو تمثيل لنماء المال بالصدقة والإنفاق والبخل بضد ذلك، وقيل هو تمثيل لكثرة الجود والبخل، وأن المعطي إذا أعطى انبسطت يداه بالعطاء وتعود ذلك، وإذا أمسك صار ذلك عادة له، وقيل معنى يمحو أثره أي يذهب بخطاياه ويمحوها، وقيل في البخيل قلصت ولزمت كل حلقة مكانها أي يحمى عليه يوم القيامة فيكوى بها والصواب الأول، والحديث جاء على التمثيل لا على الخبر عن كائن، وقيل ضرب المثل بهما لأن المنفق يستره الله تعالى بنفقته ويستر عوراته في الدنيا والاَخرة كستر هذه الجنة لابسها، والبخيل كمن لبس جبة إلى ثدييه فيبقى مكشوفاً بادي العورة مفتضحاً في الدنيا والاَخرة، هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى. قوله صلى الله عليه وسلم في الروايتين الأخريين: "كمثل رجلين ومثل رجلين عليهما جنتان" هما بالنون في هذين الموضعين بلا شك ولا خلاف. قوله: (فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بإصبعه في جيبه فلو رأيته يوسعها فلا توسع فقوله رأيته بفتح التاء. قوله: توسع بفتح التاء وأصله تتوسع، وفي هذا دليل على لباس القميص، وكذا ترجم عليه البخاري باب جيب القميص من عند الصدر لأنه المفهوم من لباس النبي صلى الله عليه وسلم في هذه القصة مع أحاديث صحيحة جاءت به والله أعلم
*2* باب ثبوت أجر المتصدق، وإن وقعت الصدقة في يد غير أهلها
*حدّثني سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي الزّنَادِ ، عَنِ الأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ: لأَتَصَدّقَنّ اللّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ. فَأَصْبَحُوا يَتَحَدّثُونَ: تُصُدّقَ اللّيْلَةَ عَلَىَ زَانِيَةٍ. قَالَ: اللّهُمّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَىَ زَانِيَةٍ. لأَتَصَدّقَنّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِيَ. فَأَصْبَحُوا يَتَحَدّثُونَ: تُصُدّقَ عَلَىَ غَنِيَ. قَالَ: اللّهُمّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَىَ غَنِيَ. لأَتَصَدّقَنّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ. فَأَصْبَحُوا يَتَحَدّثُونَ: تُصُدّقَ عَلَىَ سَارِقٍ. فَقَالَ: اللّهُمّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَىَ زَانِيَةٍ وَعَلَىَ غَنِيَ وَعَلَىَ سَارِقٍ. فَأُتِيَ فَقِيلَ لَهُ: أَمّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ. أَمّا الزّانِيَةُ فَلَعَلّهَا تَسْتَعِفّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا. وَلَعَلّ الْغَنِيّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمّا أَعْطَاهُ اللّهُ. وَلَعَلّ السّارِقَ يَسْتَعِفّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ".
فيه حديث المتصدق على سارق وزانية وغني ، وفيه ثبوت الثواب في الصدقة وإن كان الاَخذ فاسقاً وغنياً ففي كل كبد حري أجر وهذا في صدقة التطوع ، وأما الزكاة فلا يجزى دفعها إلى غني
*2* باب أَجر الخازن الأَمين، والمرأَة إِذا تصدقت من بيت زوجها غير مفسدة، بإذنه الصريح أو العرفي
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيّ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. كُلّهُمْ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ. قَالَ: أَبُو عَامِرٍ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. حَدّثَنَا بُرَيْدٌ عَنْ جَدّهِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَىَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ الْخَازِنَ الْمُسْلِمَ الأَمِينَ الّذِي يُنْفِذُ (وَرُبّمَا قَالَ يُعْطِي) مَا أُمِرَ بِهِ، فَيُعْطِيهِ كَامِلاً مَوَفّراً، طَيّبَةً بِهِ نَفْسُهُ، فَيَدْفَعُهُ إِلَىَ الّذِي أُمِرَ لَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَصَدّقِينَ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. جَمِيعاً عَنْ جَرِيرٍ. قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ طَعَامِ بَيْتِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةً، كَانَ لَهَا أَجْرُهَا بِمَا أَنْفَقَتْ. وَلِزَوْجِهَا أَجْرُهُ بِمَا كَسَبَ. وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِكَ. لاَ يَنْقُصُ بَعْضُهُمْ أَجْرَ بَعْضٍ شَيْئاً".
وحدّثناه ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا فضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ مَنْصُورٍ بِهَذَا الاْسْنَادِ، وَقَالَ "مِنْ طَعَامِ زَوْجِهَا".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَنْفَقَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا غَيْرَ مُفْسِدَةٍ. كَانَ لَهَا أَجْرُهَا. وَلَهُ مِثْلُهُ. بِمَا اكْتَسَبَ. وَلَهَا بِمَا أَنْفَقَتْ. وَلِلْخَازِنِ مِثْلُ ذَلِك. مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئاً".
وحدّثناه ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي وَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الاْسْنَادِ، نَحْوَهُ.
قوله صلى الله عليه وسلم في الخازن الأمين الذي يعطي ما أمر به أحد المتصدقين.
وفي رواية: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة كان لها أجرها بما أنفقت ولزوجها أجره بما كسب وللخازن مثل ذلك لا ينقص بعضهم أجر بعض شيئاً". وفي رواية: "من طعام زوجها". وفي رواية: "في العبد إذا أنفق من مال مواليه" قال: الأجر بينكما نصفان.وفي رواية: "ولا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه، ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه، وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له". معنى هذه الأحاديث أن المشارك في الطاعة مشارك في الأجر، ومعنى المشاركة أن له أجراً كما لصاحبه أجر، وليس معناه أن يزاحمه في أجره، والمراد المشاركة في أصل الثواب فيكون لهذا ثواب ولهذا ثواب وإن كان أحدهما أكثر، ولا يلزم أن يكون مقدار ثوابهما سواء، بل قد يكون ثواب هذا أكثر وقد يكون عكسه، فإذا أعطى المالك لخازنه أو امرأته أو غيرهما مائة درهم أو نحوها ليوصلها إلى مستحق الصدقة على باب داره أو نحوه فأجر المالك أكثر، وإن أعطاء رمانة أو رغيفاً ونحوهما مما ليس له كثير قيمة ليذهب به إلى محتاج في مسافة بعيدة بحيث يقابل مشي الذاهب إليه بأجرة تزيد على الرمانة والرغيف فأجر الوكيل أكثر، وقد يكون عمله قدر الرغيف مثلاً فيكون مقدار الأجر سواء. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الأجر بينكما نصفان" فمعناه قسمان وإن كان أحدهما أكثر كما قال الشاعر: إذا مت كان الناس نصفان بيننا. وأشار القاضي إلى أنه يحتمل أيضاً أن يكون سواء، لأن الأجر فضل من الله تعالى يؤتيه من يشاء، ولا يدرك بقياس ولا هو بحسب الأعمال، بل ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والمختار الأول. وقوله صلى الله عليه وسلم: الأجر بينكما ليس معناه أن الأجر الذي لأحدهما يزدحمان فيه، بل معناه أن هذه النفقة والصدقة التي أخرجها الخازن أو المرأة أو المملوك ونحوهم بإذن المالك يترتب على جملتها ثواب على قدر المال والعمل فيكون ذلك مقسوماً بينهما، لهذا نصيب بماله ولهذا نصيب بعمله، فلا يزاحم صاحب المال العامل في نصيب عمله، ولا يزاحم العامل صاحب المال في نصيب ماله، واعلم أنه لا بد للعامل وهو الخازن وللزوجة والمملوك من إذن المالك في ذلك، فإن لم يكن إذن أصلاً فلا أجر لأحد من هؤلاء الثلاثة، بل عليهم وزر بتصرفهم في مال غيرهم بغير إذنه والإذن ضربان: أحدهما الإذن الصريح في النفقة والصدقة. والثاني الإذن المفهوم من اطراد العرف والعادة كإعطاء السائل كسرة ونحوها مما جرت العادة به واطرد العرف فيه، وعلم بالعرف رضاء الزوج والمالك به، فإذنه في ذلك حاصل وإن لم يتكلم، وهذا إذا علم رضاه لاطراد العرف، وعلم أن نفسه كنفوس غالب الناس في السماحة بذلك والرضا به، فإن اضطرب العرف وشك في رضاه أو كان شخصاً يشح بذلك وعلم من حاله ذلك أو شك فيه لم يجز للمرأة وغيرها التصدق من ماله إلا بصريح إذنه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وما أنفقت من كسبه من غير أمره فإن نصف أجره له" فمعناه من غير أمره الصريح في ذلك القدر المعين، ويكون معها إذن عام سابق متناول لهذا القدر وغيره، وذلك الإذن الذي قد بيناه سابقاً إما بالصريح وإما بالعرف، ولا بد من هذا التأويل لأنه صلى الله عليه وسلم جعل الأجر مناصفة. وفي رواية أبي داود: فلها نصف أجره، ومعلوم أنها إذا أنفقت من غير إذن صريح ولا معروف من العرف فلا أجر لها بل عليها وزر فتعين تأويله، واعلم أن هذا كله مفروض في قدر يسير يعلم رضا المالك به في العادة، فإن زاد على المتعارف لم يجز، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غير مفسدة، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه قدر يعلم رضا الزوج به في العادة، ونبه بالطعام أيضاً على ذلك لأنه يسمح به في العادة، بخلاف الدراهم والدنانير في حق أكثر الناس وفي كثير من الأحوال. واعلم أن المراد بنفقة المرأة والعبد والخازن النفقة على عيال صاحب المال وغلمانه ومصالحه وقاصديه من ضيف وابن سبيل ونحوهما، وكذلك صدقتهم المأذون فيها بالصريح أو العرف والله أعلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الخازن المسلم الأمين" إلى آخره هذه الأوصاف شروط لحصول هذا الثواب فينبغي أن يعتنى بها ويحافظ عليها. قوله صلى الله عليه وسلم: "أحد المتصدقين" هو بفتح القاف على التثنية ومعناه له أجر متصدق وتفصيله كما سبق. وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها" أي من طعام زوجها الذي في بيتها كما صرح به في الرواية الأخرى. قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنفقت المرأة من بيت زوجها غير مفسدة كان لها أجرها وله مثله بما اكتسب ولها بما أنفقت وللخازن مثل ذلك من غير أن ينتقص من أجورهم شيئاً" هكذا وقع في جميع النسخ شيئاً بالنصب فيقدر له ناصب، فيحتمل أن يكون تقديره من غير أن ينقص الله من أجورهم شيئاً، ويحتمل أن يقدر من غير أن ينقص الزوج من أجر المرأة والخازن شيئاً، وجمع ضميرهما مجازاً على قول الأكثرين إن أقل الجمع ثلاثة أو حقيقة على قول من قال: أقل الجمع اثنان
*2* باب ما أنفق العبد من مال مولاه
*وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. جَمِيعاً عَنْ حَفْصِ بْنِ غَيَاثٍ. قَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا حَفْصٌ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَىَ آبِي اللّحْمِ قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكاً. فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: أَأَتَصَدّقُ مِنْ مَالِ مَوَالِيّ بِشَيْءٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ. وَالأَجْرُ بَيْنَكُمَا نِصْفَانِ".
وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا حَاتِمٌ (يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ) عَنْ يَزِيدَ (يَعْنِي ابْنَ أَبِي عُبَيْدٍ) قَالَ: سَمِعْتُ عُمَيْراً مَوْلَىَ آبِي اللّحْمِ قَالَ: أَمَرَنِي مَوْلاَيَ أَنْ أُقَدّدَ لَحْماً. فَجَاءَنِي مِسْكِينٌ. فَأَطْعَمْتُهُ مِنْهُ. فَعَلِمَ بِذَلِكَ مَوْلاَيَ فَضَرَبَنِي. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. فَدَعَاهُ فَقَالَ: "لِمَ ضَرَبْتَهُ؟" فَقَالَ: يُعْطِي طَعَامِي بِغَيْرِ أَنْ آمُرَهُ. فَقَالَ: "الأَجْرُ بَيْنَكُمَا".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تَصُمِ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ. وَلاَ تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلاّ بِإِذْنِهِ. وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ كَسْبِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنّ نِصْفَ أَجْرَهِ لَهُ".
قوله: (مولى آبي اللحم) هو بهمزة ممدودة وكسر الباء قيل لأنه كان لا يأكل اللحم، وقيل لا يأكل ما ذبح للأصنام، واسم آبي اللحم عبد الله، وقيل خلف، وقيل الحويرث الغفاري وهو صحابي استشهد يوم حنين روى عمير مولاه قوله: (كنت مملوكاً فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أأتصدق من مال موالي بشيء؟ قال: نعم الأجر بينكما نصفان) هذا محمول على ما سبق أنه استأذن في الصدقة بقدر يعلم رضا سيده به. وقوله: (أمرني مولاي أن أقدد لحماً فجاءني مسكين فأطعمته فعلم ذلك مولاي فضربني فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فدعاه فقال: لم ضربته؟ فقال: يعطي طعامي بغير أن آمره، فقال: الأجر بينكما) هذا محمول على أن عميراً تصدق بشيء يظن أن مولاه يرضى به ولم يرض به مولاه، فلعمير أجر لأنه فعل شيئاً يعتقده طاعة بنية الطاعة، ولمولاه أجر لأن ماله تلف عليه، ومعنى الأجر بينكما أي لكل منكما أجر، وليس المراد أن أجر نفس المال يتقاسمانه، وقد سبق بيان هذا قريباً، فهذا الذي ذكرته من تأويله هو المعتمد، وقد وقع في كلام بعضهم ما لا يرتضي من تفسيره.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصم المرأة وبعلها شاهد إلا بإذنه" هذا محمول على صوم التطوع والمندوب الذي ليس له زمن معين. وهذا النهي للتحريم صرح به أصحابنا، وسببه أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام، وحقه فيه واجب على الفور، فلا يفوته بتطوع ولا بواجب على التراخي، فإن قيل فينبغي أن يجوز لها الصوم بغير إذنه فإن أراد الاستمتاع بها كان له ذلك ويفسد صومها. فالجواب أن صومها يمنعه من الاستمتاع في العادة لأنه يهاب انتهاك الصوم بالإفساد. وقوله صلى الله عليه وسلم: "وزوجها شاهد" أي مقيم في البلد، أما إذا كان مسافراً فلها الصوم لأنه لا يتأتى منه الاستمتاع إذا لم تكن معه. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تأذن في بيته وهو شاهد إلا بإذنه" في إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج وغيره من مالكي البيوت وغيرها بالإذن في أملاكهم إلا بإذنهم، وهذا محمول على ما لا يعلم رضا الزوج ونحوه به، فإن علمت المرأة ونحوها رضاه به جاز كما سبق في النفقة
*2* باب من جمع الصدقة وأعمال البر
*حدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التّجِيبِيّ (وَاللّفْظُ لاِءَبِي الطّاهِرِ) قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللّهِ نُودِيَ فِي الْجَنّةِ: يَا عَبْدَ اللّهِ هَذَا خَيْرٌ. فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصّلاَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصّلاَةِ. وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الْجِهَادِ. وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصّدَقَةِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الصّدَقَةِ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الصّيَامِ، دُعِيَ مِنْ بَابِ الرّيّانِ".
حدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ وَ الْحَسَنُ الْحُلْوَانِيّ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. كِلاَهُمَا عَنِ الزّهْرِيّ بِإِسْنَادِ يُونُسَ. وَمَعْنَىَ حَدِيثِهِ.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ. حَدّثَنَا شَيْبَانُ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ (وَاللّفْظُ لَهُ) حَدّثَنَا شَبَابَةُ. حَدّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَة يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللّهِ دَعَاهُ خَزَنَةُ الْجَنّةِ. كُلّ خَزَنَةِ بَابٍ: أَيْ فُلُ هَلُمّ". فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللّهِ ذَلِكَ الّذِي لاَ تَوَى عَلَيْهِ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّي لأَرْجُو أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ".
حدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا مَرْوَانُ (يَعْنِي الْفَزَارِيّ) عَنْ يَزِيدَ (وَهُوَ ابْنُ كَيسَانَ) عَنْ أَبِي حَازِمٍ الأَشْجَعِيّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِماً؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ: أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ: أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِيناً؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ: أَنَا. قَالَ: "فَمَنْ عَادَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مَرِيضاً؟" قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ: أَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا اجْتَمَعْنَ فِي امْرِئ، إِلاّ دَخَلَ الْجَنّةَ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير" قال القاضي: قال الهروي في تفسير هذا الحديث قيل وما زوجان؟ قال فرسان أو عبدان أو بعيران وقال ابن عرفة: كل شيء قرن بصاحبه فهو زوج، يقال: زوجت بين الإبل إذا قرنت بعيراً ببعير، وقيل درهم ودينار أو درهم وثوب، قال: والزوج يقع على الاثنين ويقع على الواحد، وقيل إنما يقع على الواحد إذا كان معه آخر، ويقع الزوج أيضاً على الصنف، وفسر بقوله تعالى: {وكنتم أزواجاً} ثلاثة، وقيل: يحتمل أن يكون هذا الحديث في جميع أعمال البر من صلاتين أو صيام يومين، والمطلوب تشفيع صدقة بأخرى، والتنبيه على فضل الصدقة والنفقة في الطاعة والاستكثار منها. وقوله: (في سبيل الله) قيل هو على العموم في جميع وجوه الخير، وقيل هو مخصوص بالجهاد والأول أصح وأظهر، هذا آخر كلام القاضي. قوله صلى الله عليه وسلم: "نودي في الجنة يا عبد الله هذا خير" قيل معناه لك هنا خير وثواب وغبطة، وقيل معناه هذا الباب فيما نعتقده خير لك من غيره من الأبواب لكثرة ثوابه ونعيمه فتعال فادخل منه، ولا بد من تقدير ما ذكرناه، أن كل مناد يعتقد ذلك الباب أفضل من غيره. قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة" وذكر مثله في الصدقة والجهاد والصيام. قال العلماء: معناه من كان الغالب عليه في عمله وطاعته ذلك. قوله صلى الله عليه وسلم في صاحب الصوم: "دعي من باب الريان" قال العلماء: سمي باب الريان تنبيهاً على أن العطشان بالصوم في الهواجر سيروى وعاقبته إليه وهو مشتق من الري. قوله صلى الله عليه وسلم: "دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب أي فل هلم" هكذا ضبطناه أي فل بضم اللام وهو المشهور، ولم يذكر القاضي وآخرون غيره، وضبطه بعضهم بإسكان اللام والأول أصوب. قال القاضي: معناه أي فلان فرخم، ونقل إعراب الكلمة على إحدى اللغتين في الترخيم، قال: وقيل فل لغة في فلان في غير النداء والترخيم. قوله: (لا توى عليه) وهو بفتح المثناة فوق مقصور أي لا هلاك. قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله عنه: (إني لأرجو أن تكون منهم) فيه منقبة لأبي بكر رضي الله عنه، وفيه جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا لم يخف عليه فتنة بإعجاب وغيره والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من باب كذا ومن باب كذا" فذكر باب الصلاة والصدقة والصيام والجهاد. قال القاضي: وقد جاء ذكر بقية أبواب الجنة الثمانية في حديث آخر في باب التوبة. وباب الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. وباب الراضين. فهذه سبعة أبواب جاءت في الأحاديث. وجاء في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب أنهم يدخلون من الباب الأيمن فلعله الباب الثامن
*2* باب الحث في الإِنفاق، وكراهة الإِحصاء
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا حَفْصٌ (يَعْنِي ابْنَ غِيَاثٍ) عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنْفِقِي (أَوِ انْضَحِي، أَوِ انْفَحِي) وَلاَ تُحْصِي، فَيُحْصِيَ اللّهُ عَلَيْكِ".
وحدّثنا عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. جَمِيعاً عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ. قَالَ زُهَيْرٌ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ خَازُمٍ. حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عَبّادِ بْنِ حَمْزَةَ، وَعَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "انْفَحِي (أَوِ انْضَحِي، أَوْ أَنْفِقِي) وَلاَ تُحْصِي. فَيُحْصِيَ اللّهُ عَلَيْكِ. وَلاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللّهُ عَلَيْكِ".
وحدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ. حَدّثَنَا هِشَامٌ عَنْ عَبّادِ بْنِ حَمْزَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهَا نَحْوَ حَدِيثِهِمْ.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ وَ هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. قَالاَ: حَدّثَنَا حَجّاجُ بْنُ مُحَمّدٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنّ عَبّادَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ أَخْبَرَهُ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنّهَا جَاءَتِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَتْ: يَا نَبِيّ اللّهِ لَيْسَ لِي شَيْءٌ إِلاّ مَا أَدْخَلَ عَلَيّ الزّبَيْرُ. فَهَلْ عَلَيّ جُنَاحٌ أَنْ أَرْضَخَ مِمّا يُدْخِلُ عَلَيّ؟ فَقَالَ: "ارْضَخِي مَا اسْتَطَعْتِ. وَلاَ تُوعِي فَيُوعِيَ اللّهُ عَلَيْكِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "أنفقي وانفحي وانضحي" أما انفحي فبفتح الفاء وبحاء مهملة، وأما انضحي فبكسر الضاد، ومعنى انفحي وانضحي أعطي، والنفح والنضح العطاء، ويطلق النضح أيضاً على الصب فلعله المراد هنا ويكون أبلغ من النفح. قوله صلى الله عليه وسلم: "انفحي وانضحي وانفقي ولا تحصي فيحصي الله عليك ولا توعي فيوعي الله عليك" معناه الحث على النفقة في الطاعة والنهي عن الإمساك والبخل وعن ادخار المال في الوعاء. قوله: (عن أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله ليس لي من شيء إلا ما أدخل على الزبير فهل علي جناح أن أرضخ مما يدخل علي؟ فقال: ارضخي ما استطعت ولا توعي فيوعي الله عليك) هذا محمول على ما أعطاها الزبير لنفسها بسبب نفقة وغيرها، أو مما هو ملك الزبير ولا يكره الصدقة منه بل رضي بها على عادة غالب الناس، وقد سبق بيان هذه المسألة قريباً. قوله صلى الله عليه وسلم: "ارضخي ما استطعت" معناه مما يرضى به الزبير، وتقديره أن لك في الرضخ مراتب مباحة بعضها فوق بعض وكلها يرضاها الزبير فافعلي أعلاها، أو يكون معناه ما استطعت مما هو ملك لك. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تحصي فيحصي الله عليك ويوعي عليك" هو من باب مقابلة اللفظ باللفظ للتجنيس كما قال تعالى: {ومكروا ومكر الله} ومعناه يمنعك كما منعت، ويقتر عليك كما قترت، ويمسك فضله عنك كما أمسكته، وقيل معنى لا تحصي أي لا تعديه فتستكثريه فيكون سبباً لانقطاع إنفاقك
*2* باب الحث على الصدقة ولو بالقليل، ولا تمتنع من القليل لاحتقاره
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. ح وَحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا اللّيْثُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: "يَا نِسَاءَ الْمُسْلِمَاتِ لاَ تَحْقِرَنّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا. وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة" قال أهل اللغة: هو بكسر الفاء والسين وهو الظلف، قالوا: وأصله في الإبل وهو فيها مثل القدم في الإنسان، قالوا: ولا يقال إلا في الإبل ومرادهم أصله مختص بالإبل، ويطلق على الغنم استعارة، وهذا النهي عن الاحتقار نهي للمعطية المهدية، ومعناه لا تمتنع جارة من الصدقة والهدية لجارتها لاستقلالها واحتقارها الموجود عندها، بل تجود بما تيسر وإن كان قليلاً كفرسن شاة وهو خير من العدم، وقد قال الله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة" قال القاضي: هذا التأويل هو الظاهر وهو تأويل مالك لإدخاله هذا الحديث في باب الترغيب في الصدقة، قال: ويحتمل أن يكون نهياً للمعطاة عن الاحتقار. قوله صلى الله عليه وسلم: "يا نساء المسلمات" ذكر القاضي في إعرابه ثلاثة أوجه أصحها وأشهرها نصب النساء وجر المسلمات على الإضافة. قال الباجي: وبهذا رويناه عن جميع شيوخنا بالمشرق وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه والموصوف إلى صفته، والأعم إلى الأخص كمسجد الجامع وجانب الغربي ولدار الاَخرة، وهو عند الكوفيين جائز على ظاهره، وعند البصريين يقدرون فيه محذوفاً أي مسجد المكان الجامع، وجانب المكان الغربي، ولدار الحياة الاَخرة، وتقدر هنا يا نساء إلا نفس المسلمات أو الجماعات المؤمنات، وقيل تقديره يا فاضلات المؤمنات، كما يقال هؤلاء رجال القوم أي ساداتهم وأفاضلهم. والوجه الثاني رفع النساء ورفع المسلمات أيضاً على معنى النداء والصفة أي يا أيها النساء المسلمات، قال الباجي: وهكذا يرويه أهل بلدنا. والوجه الثالث رفع نساء وكسر التاء من المسلمات على أنه منصوب على الصفة على الموضع كما يقال يا زيد العاقل برفع زيد ونصب العاقل والله أعلم
*2* باب فضل إخفاء الصدقة
*حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ. جَمِيعاً عَنْ يَحْيَىَ الْقَطّانِ. قَالَ زُهَيْرٌ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ. أَخْبَرَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَبْعَةٌ يُظِلّهُمُ اللّهُ فِي ظِلّهِ يَوْمَ لاَ ظِلّ إِلاّ ظِلّهُ: الإِمَامُ الْعَادِلُ. وَشَابّ نَشَأَ بِعِبَادَةِ اللّهِ. وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ. وَرَجُلاَنِ تَحَابّا فِي اللّهِ، اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرّقَا عَلَيْهِ. وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ، فَقَالَ: إِنّي أَخَافُ اللّهَ. وَرَجُلٌ تَصَدّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتّىَ لاَ تَعْلَمُ يَمِينُهُ مَا تُنْفِقُ شِمَالُهُ. وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللّهَ خَالِياً، فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ".
وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدَرِيّ (أَوْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) أَنّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللّهِ. وَقَالَ "وَرَجُلٌ مُعَلّقٌ بِالْمَسْجِدِ، إِذَا خَرَجَ مِنْهُ حَتّىَ يَعُودَ إِلَيْهِ".
قوله: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) قال القاضي: إضافة الظل إلى الله تعالى إضافة ملك، وكل ظل فهو لله وملكه وخلقه وسلطانه، والمراد هنا ظل العرش كما جاء في حديث آخر مبيناً، والمراد يوم القيامة إذا قام الناس لرب العالمين ودنت منهم الشمس واشتد عليهم حرها وأخذهم العرق، ولا ظل هناك لشيء إلا للعرش، وقد يراد به هنا ظل الجنة وهو نعيمها والكون فيها كما قال تعالى: {وندخلهم ظلاً ظليلاً} قال القاضي: وقال ابن دينار المراد بالظل هنا الكرامة والكنف والكف من المكاره في ذلك الموقف، قال: وليس المراد ظل الشمس. قال القاضي: وما قاله معلوم في اللسان يقال فلان في ظل فلان أي في كنفه وحمايته، قال: وهذا أولى الأقوال وتكون إضافته إلى العرش لأنه مكان التقريب والكرامة وإلا فالشمس وسائر العالم تحت العرش وفي ظله. قوله صلى الله عليه وسلم: "الإمام العادل" قال القاضي: هو كل من إليه نظر في شيء من مصالح المسلمين من الولاة والحكام وبدأ به لكثرة مصالحه وعموم نفعه، ووقع في أكثر النسخ الإمام العادل، وفي بعضها الإمام العدل وهما صحيحان. قوله صلى الله عليه وسلم: "وشاب نشأ بعبادة الله" هكذا هو في جميع النسخ نشأ بعبادة الله، والمشهور في روايات هذا الحديث نشأ في عبادة الله وكلاهما صحيح، ومعنى رواية الباء نشأ متلبساً للعبادة أو مصاحباً لها أو ملتصقاً بها. قوله صلى الله عليه وسلم: "ورجل قلبه معلق في المساجد" هكذا هو في النسخ كلها في المساجد، وفي غير هذه الرواية بالمساجد، ووقع في هذه الرواية في أكثر النسخ معلق في المساجد، وفي بعضها متعلق بالتاء وكلاهما صحيح ومعناه شديد الحب لها والملازمة للجماعة فيها، وليس معناه دوام القعود في المسجد. قوله صلى الله عليه وسلم: "ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه" معناه اجتمعا على حب الله وافترقا على حب الله، أي كان سبب اجتماعهما حب الله واستمرار على ذلك حتى تفرقا من مجلسهما وهما صادقان في حب كل واحد منهما صاحبه لله تعالى حال اجتماعهما وافتراقهما، وفي هذا الحديث الحث على التحاب في الله وبيان عظم فضله وهو من المهمات، فإن الحب في الله والبغض في الله من الإيمان، وهو بحمد الله كثير يوفق له أكثر الناس أو من وفق له. قوله صلى الله عليه وسلم: "ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله" قال القاضي: يحتمل قوله أخاف الله باللسان، ويحتمل قوله في قلبه ليزجر نفسه، وخص ذات المنصب والجمال لكثرة الرغبة فيها وعسر حصولها وهي جامعة للمنصب والجمال، لا سيما وهي داعية إلى نفسها طالبة لذلك قد أغنت عن مشاق التوصل إلى مراودة ونحوها، فالصبر عنها لخوف الله تعالى، وقد دعت إلى نفسها مع جمعها المنصب والجمال من أكمل المراتب وأعظم الطاعات، فرتب الله تعالى عليه أن يظله في ظله، وذات المنصب هي ذات الحسب والنسب الشريف، ومعنى دعته أي دعته إلى الزنا بها هذا هو الصواب في معناه. وذكر القاضي فيه احتمالين أصحهما هذا. والثاني أنه يحتمل أنها دعته لنكاحها فخاف العجز عن القيام بحقها أو أن الخوف من الله تعالى شغله عن لذات الدنيا وشهواتها. قوله صلى الله عليه وسلم: "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله" هكذا وقع في جميع نسخ مسلم في بلادنا وغيرها، وكذا نقله القاضي عن جميع روايات نسخ مسلم لا تعلم يمينه ما تنفق شماله، والصحيح المعروف حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، هكذا رواه مالك في الموطأ والبخاري في صحيحه وغيرهما من الأئمة وهو وجه الكلام، لأن المعروف في النفقة فعلها باليمين. قال القاضي: ويشبه أن يكون الوهم فيها من الناقلين عن مسلم لا من مسلم بدليل إدخاله بعده حديث مالك رحمه الله، وقال بمثل حديث عبيد وبين الخلاف في قوله وقال رجل معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود، فلو كان ما رواه مخالفاً لرواية مالك لنبه عليه كما نبه على هذا، وفي هذا الحديث فضل صدقة السر، قال العلماء: وهذا في صدقة التطوع، فالسر فيها أفضل لأنه أقرب إلى الإخلاص وأبعد من الرياء، وأما الزكاة الواجبة فإعلانها أفضل، وهكذا حكم الصلاة فإعلان فرائضها أفضل، وإسرار نوافلها أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة" قال العلماء: وذكر اليمين والشمال مبالغة في الإخفاء والاستتار بالصدقة، وضرب المثل بهما لقرب اليمين من الشمال وملازمتها لها، ومعناه لو قدرت الشمال رجلاً متيقظاً لما علم صدقة اليمين لمبالغته في الإخفاء. ونقل القاضي عن بعضهم أن المراد من عن يمينه وشماله من الناس والصواب الأول. قوله صلى الله عليه وسلم: "ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه" فيه فضيلة البكاء من خشية الله تعالى وفضل طاعة السر لكمال الإخلاص فيها
*2* باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح
*حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَتَىَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَيّ الصّدَقَةِ أَعْظَمُ؟ فَقَالَ: "أَنْ تَصَدّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ. تَخْشَىَ الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْغِنَىَ. وَلاَ تُمْهِلَ حَتّىَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا. وَلِفُلاَنٍ كَذَا. أَلاَ وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَيّ الصّدَقَةِ أَعْظَمُ أَجْراً؟ فَقَالَ: "أَمَا وَأَبِيكَ لَتُنَبّأَنّهُ: أَنْ تَصَدّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ. تَخْشَىَ الْفَقْرَ وَتَأْمُلُ الْبَقَاءَ. وَلاَ تُمْهِلْ حَتّىَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قُلْتَ: لِفُلاَنٍ كَذَا. وَلِفُلاَنٍ كَذَا. وَقَدْ كَانَ لِفُلاَنٍ".
حدّثنا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ. حَدّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ بِهَذَا الاْسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ جَرِيرٍ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: أَيّ الصّدَقَةِ أَفْضَلُ.
قوله: (يا رسول الله أي الصدقة أعظم؟ فقال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا ألا وقد كان لفلان) قال الخطابي: الشح أعم من البخل، وكأن الشح جنس والبخل نوع، وأكثر ما يقال البخل في أفراد الأمور والشح عام كالوصف للازم وما هو من قبل الطبع، قال: فمعنى الحديث أن الشح غالب في حال الصحة، فإذا سمح فيها وتصدق كان أصدق في نيته وأعظم لأجره، بخلاف من أشرف على الموت وآيس من الحياة ورأى مصير المال لغيره، فإن صدقته حينئذٍ ناقصة بالنسبة إلى حالة الصحة، والشح رجاء البقاء وخوف الفقر وتأمل الغنى بضم الميم أي تطمع به، ومعنى بلغت الحلقوم بلغت الروح والمراد قاربت بلوغ الحلقوم إذ لو بلغته حقيقة لم تصح وصيته ولا صدقته ولا شيء من تصرفاته باتفاق الفقهاء. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لفلان كذا ولفلان كذا ألا وقد كان لفلان" قال الخطابي: المراد به الوارث، وقال غيره: المراد به سبق القضاء به للموصى له، ويحتمل أن يكون المعنى أنه قد خرج عن تصرفه وكمال ملكه واستقلاله بما شاء من التصرف، فليس له في وصيته كبير ثواب بالنسبة إلى صدقة الصحيح الشحيح. قوله صلى الله عليه وسلم: "أما وأبيك لتنبأنه" قد يقال حلف بأبيه وقد نهى عن الحلف بغير الله، وعن الحلف بالاَباء، والجواب أن النهي عن اليمين بغير الله لمن تعمده، وهذه اللفظة الواقعة في الحديث تجري على اللسان من غير تعمد، فلا تكون يميناً ولا منهياً عنها كما سبق بيانه في كتاب الإيمان
*2* باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى، وأن اليد العليا هي المنفقة، وأن السفلى هي الاَخذة
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَهُوَ عَلَىَ الْمِنْبَرِ، وَهُوَ يَذْكُرُ الصّدَقَةَ وَالتّعَفّفَ عَنِ الْمَسْأَلَةِ "الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السّفْلَىَ. وَالْيَدُ الْعُلْيَا الْمُنْفِقَةُ. وَالسّفْلَىَ السّائِلَةُ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ وَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ. جَمِيعاً عَنْ يَحْيَى الْقَطّانِ. قَالَ ابْنُ بَشّارٍ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ. حَدّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ مُوسَى بْنَ طَلْحَةَ يُحْدّثُ أَنْ حَكِيمِ بْنَ حِزَامٍ حَدّثَهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَفْضَلُ الصّدَقَةِ (أَوْ خَيْرُ الصّدَقَةِ) عَنْ ظَهْرِ غِنًى. وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السّفْلَىَ. وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ. قَالاَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ وَ سَعِيدٍ، عَنْ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ قَالَ: سَأَلْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِي. ثُمّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي. ثُمّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي. ثُمّ قَالَ: "إِنّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ. فَمَنْ أَخَذَهُ بِطِيبِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ. وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، وَكَانَ كَالّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السّفْلَىَ".
حدّثنا نَصْرُ بْنُ عَلِيَ الْجَهْضَمِيّ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ. حَدّثَنَا عِكْرَمَةُ بْنُ عَمّارٍ. حَدّثَنَا شَدّادٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا ابْنَ آدَمَ إِنّكَ أَنْ تَبْذُلَ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ. وَأَنْ تُمْسِكَهُ شَرّ لَكَ. وَلاَ تُلاَمُ عَلَىَ كَفَافٍ. وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ. وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السّفْلَىَ".
قوله صلى الله عليه وسلم في الصدقة: "اليد العليا خير من اليد السفلى واليد العليا المنفقة والسفلى السائلة" هكذا وقع في صحيح البخاري ومسلم العليا المنفقة من الإنفاق، وكذا ذكره أبو داود عن أكثر الرواة، قال: ورواه عبد الوارث عن أيوب عن نافع عن ابن عمر العليا المتعففة بالعين من العفة، ورجح الخطابي هذه الرواية قال: لأن السياق في ذكر المسألة والتعفف عنها والصحيح الرواية الأولى ويحتمل صحة الروايتين، فالمنفقة أعلى من السائلة، والمتعففة أعلى من السائلة، وفي هذا الحديث الحث على الإنفاق في وجوه الطاعات، وفيه دليل لمذهب الجمهور أن اليد العليا هي المنفقة، وقال الخطابي: المتعففة كما سبق، وقال غيره: العليا الاَخذة والسفلى المانعة حكاه القاضي والله أعلم. والمراد بالعلو علو الفضل والمجد ونيل الثواب.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وخير الصدقة عن ظهر غني" معناه أفضل الصدقة ما بقي صاحبها بعدها مستغنياً بما بقي معه، وتقديره أفضل الصدقة ما أبقت بعدها غنى يعتمده صاحبها ويستظهر به على مصالحه وحوائجه، وإنما كانت هذه أفضل الصدقة بالنسبة إلى من تصدق بجميع ماله، لأن من تصدق بالجميع يندم غالباً أوقد يندم إذا احتاج ويود أنه لم يتصدق، بخلاف من بقي بعدها مستغنياً فإنه لا يندم عليها بل يسر بها. وقد اختلف العلماء في الصدقة بجميع ماله، فمذهبنا أنه مستحب لمن لا دين عليه ولا له عيال لا يصبرون، بشرط أن يكون ممن يصبر على الإضاقة والفقر، فإن لم تجتمع هذه الشروط فهو مكروه قال القاضي: جوز جمهور العلماء وأئمة الأمصار الصدقة بجميع ماله. وقيل يرد جميعها وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقيل ينفذ في الثلث هو مذهب أهل الشام. وقيل إن زاد على النصف ردت الزيادة وهو محكي عن مكحول. قال أبو جعفر والطبري: ومع جوازه فالمستحب أن لا يفعله وأن يقتصر على الثلث. قوله صلى الله عليه وسلم: "وابدأ بمن تعول" فيه تقديم نفقة نفسه وعياله لأنها منحصرة فيه بخلاف نفقة غيرهم، وفيه الابتداء بالأهم فالأهم في الأمور الشرعية. قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا المال خضرة حلوة" شبهه في الرغبة فيه والميل إليه وحرص النفوس عليه بالفاكهة الخضراء الحلوة المستلذة، فإن الأخضر مرغوب فيه على انفراده، والحلو كذلك على انفراده فاجتماعهما أشد، وفيه إشارة إلى عدم بقائه لأن الخضروات لا تبقى ولا تراد للبقاء والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن أخذه بطيب نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه وكان كالذي يأكل ولا يشبع" قال العلماء: إشراف النفس تطلعها إليه وتعرضها له وطمعها فيه. وأما طيب النفس فذكر القاضي فيه احتمالين: أظهرهما أنه عائد على الاَخذ ومعناه من أخذه بغير سؤال ولا إشراف وتطلع بورك له فيه. والثاني أنه عائد إلى الدافع ومعناه من أخذه ممن يدفع منشرحاً بدفعه إليه طيب النفس لا بسؤال اضطره إليه أو نحوه مما لا تطيب معه نفس الدافع. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "كالذي يأكل ولا يشبع" فقيل هو الذي به داء لا يشبع بسببه، وقيل يحتمل أن المراد التشبيه بالبهيمة الراعية، وفي هذا الحديث وما قبله وما بعده الحث على التعفف والقناعة والرضا بما تيسر في عفاف وإن كان قليلاً والإجمال في الكسب، وأنه لا يغتر الإنسان بكثرة ما يحصل له بإشراف ونحوه فإنه لا يبارك له فيه وهو قريب من قول الله تعالى: {يمحق الله الربا ويربي الصدقات}.
قوله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك وأن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف" هو بفتح همزة أن ومعناه إن بذلت الفاضل عن حاجتك وحاجة عيالك فهو خير لك لبقاء ثوابه، وإن أمسكته فهو شر لك لأنه إن أمسك عن الواجب استحق العقاب عليه، وإن أمسك عن المندوب فقد نقص ثوابه وفوت مصلحة نفسه في آخرته وهذا كله شر، ومعنى لا تلام على كفاف أن قدر الحاجة لا لوم على صاحبه، وهذا إذا لم يتوجه في الكفاف حق شرعي كمن كان له نصاب زكوي ووجبت الزكاة بشروطها وهو محتاج إلى ذلك النصاب لكفافه وجب عليه إخراج الزكاة ويحصل كفايته من جهة مباحة، ومعنى ابدأ بمن تعول أن العيال والقرابة أحق من الأجانب وقد سبق
*2* باب النهي عن المسألة
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ. أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ. حَدّثَنِي رَبِيعَةُ بْنُ يَزِيدَ الدّمَشْقِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَامِرٍ الْيَحْصَبِيّ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ يَقُولُ: إِيّاكُمْ وَالأَحَادِيثَ: إِلاّ حَدِيثاً كَانَ فِي عَهْدِ عُمَرَ. فَإِنّ عُمَرَ كَانَ يُخِيفُ النّاسَ فِي اللّهِ عَزّ وَجَلّ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللّهِ بِهِ خَيْراً يُفَقّهْهُ فِي الدّينِ". وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّمَا أَنَا خَازِنٌ. فَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، فَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ. وَمَنْ أَعْطَيْتُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ وَشَرَهٍ، كَانَ كَالّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ، عَنْ أَخِيهِ هَمّام عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُلْحِفُوا فِي الْمَسْأَلَةِ. فَوَاللّهِ لاَ يَسْأَلُنِي أَحَدٌ مِنْكُمْ شَيْئاً، فَتُخْرِجَ لَهُ مَسْأَلَتُهُ مِنّي شَيْئاً، وَأَنَا لَهُ كَارِهٌ، فَيُبَارَكَ لَهُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُ".
حدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكّيّ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ. حَدّثَنَي وَهْبُ بْنُ مُنَبّهٍ (وَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فِي دَارِهِ بِصَنْعَاءَ فَأَطْعَمَنِي مِنْ جَوْزَةٍ فِي دَارِهِ) عَنْ أَخِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ. فَذَكَرَ مِثْلَهُ.
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنَي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قال: حَدّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ يَخْطُبُ يَقُولُ: إِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَنْ يُرِدِ اللّهُ بِهِ خَيْراً يُفَقّهْهُ فِي الدّينِ. وَإِنّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللّهُ".
مقصود الباب وأحاديثه النهي عن السؤال، واتفق العلماء عليه إذا لم تكن ضرورة، واختلف أصحابنا في مسألة القادر على الكسب على وجهين: أصحهما أنها حرام لظاهر الأحاديث. والثاني حلال مع الكراهة بثلاث شروط: أن لا يذل نفسه، ولا يلح في السؤال، ولا يؤذي المسؤول، فإن فقد أحد هذه الشروط فهي حرام بالاتفاق والله أعلم. قوله: (عن عبد الله بن عامر اليحصبي) هو أحد القراء السبعة وهو بضم الصاد وفتحها منسوب إلى بني يحصب. قوله: (سمعت معاوية يقول إياكم وأحاديث إلا حديثاً كان في عهد عمر فإن عمر كان يخيف الناس في الله) هكذا هو في أكثر النسخ وأحاديث، وفي بعضها والأحاديث وهما صحيحان، ومراد معاوية النهي عن الإكثار من الأحاديث بغير تثبت لما شاع في زمنه من التحدث عن أهل الكتاب وما وجد في كتبهم حين فتحت بلدانهم وأمرهم بالرجوع في الأحاديث إلى ما كان في زمن عمر رضي الله عنه لضبطه الأمر وشدته فيه وخوف الناس من سطوته ومنعه الناس من المسارعة إلى الأحاديث وطلبه الشهادة على ذلك حتى استقرت الأحاديث واشتهرت السنن.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" فيه فضيلة العلم والتفقه في الدين والحث عليه، وسببه أنه قائد إلى تقوى الله تعالى. قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما أنا خازن". وفي الرواية الأخرى: "وإنما أنا قاسم ويعطي الله" معناه أن المعطي حقيقة هو الله تعالى، ولست أنا معطياً، وإنما أنا خازن على ما عندي، ثم أقسم ما أمرت بقسمته على حسب ما أمرت به، فالأمور كلها بمشيئة الله تعالى وتقديره والإنسان مصرف مربوب.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تلحفوا في المسألة" هكذا هو في بعض الأصول في المسألة بالفاء وفي بعضها بالباء وكلاهما صحيح والإلحاف الإلحاح
*2* باب المسكين الذي لا يجد غنى، ولا يفطن له فيتصدق عليه
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا الْمُغِيرَةُ (يَعْنِي الْحِزَامِيّ) عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطّوّافِ الّذِي يَطُوفُ عَلَىَ النّاسِ. فَتَرُدّهُ اللّقْمَةُ وَاللّقْمَتَانِ. وَالتّمْرَةُ وَالتّمْرَتَانِ". قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "الّذِي لاَ يَجِدُ غِنىً يُغْنِيهِ. وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ، فَيُتَصَدّقَ عَلَيْهِ. وَلاَ يَسْأَلُ النّاسَ شَيْئاً".
حدّثنا يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. قَالَ ابْنُ أَيّوبَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ) أَخْبَرَنِي شَرِيكٌ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَىَ مَيْمُونَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِالّذِي تَرُدّهُ التّمْرَةُ وَالتّمْرَتَانِ. وَلاَ اللّقْمَةُ وَاللّقْمَتَانِ. إِنّمَا الْمِسْكِينُ الْمُتَعَفّفُ. اقْرَأوا إِنْ شِئْتُمْ: {لاَ يَسْأَلُونَ النّاسَ إِلْحَافاً} (2 البقرة الاَية: 2).
وحدّثنيهِ أَبُو بَكرِ بْنُ إِسْحَقَ حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ. أَخْبَرَنَا مُحَمّدُ بنُ جَعْفَرٍ. أَخْبَرَنِي شَرِيكٌ. أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنّهُمَا سَمِعَا أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثلِ حَدِيثِ إِسْمَاعِيلَ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين هذا الطواف" إلى قوله صلى الله عليه وسلم في المسكين: "الذي لا يجد غنى يغنيه" إلى آخره، معناه المسكين الكامل المسكنة الذي هو أحق بالصدقة وأحوج إليها ليس هو هذا الطواف، بل هو الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له ولا يسأل الناس، وليس معناه نفي أصل المسكنة عن الطواف بل معناه نفي كمال المسكنة كقوله تعالى: {ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الاَخر} إلى آخر الاَية. قوله: (قالوا فما المسكين) هكذا هو في الأصول كلها فما المسكين وهو صحيح، لأن ما تأتي كثيراً لصفات من يعقل كقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء}
*2* باب كراهة المسأَلة للناس
*وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، أَخِي الزّهْرِيّ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَزَالُ الْمَسْأَلَةُ بِأَحَدِكُمْ حَتّىَ يَلْقَىَ اللّهَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ".
وحدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَخِي الزّهْرِيّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ "مُزْعَةُ".
حدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي اللّيْثُ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ حمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ أَنّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا يَزَالُ الرّجُلُ يَسْأَلُ النّاسَ، حَتّىَ يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ".
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ وَ وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ. قَالاَ حَدّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ ابْنِ الْقَعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سَأَلَ النّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثّراً، فَإِنّمَا يَسْأَلُ جَمْراً. فَلْيَسْتَقِلّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ".
حدّثني هَنّادُ بْنُ السّرِيّ. حَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ بَيَانٍ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْطِبَ عَلَىَ ظَهْرِهِ، فَيَتَصَدّقَ بِهِ وَيَسْتَغْنِيَ بِهِ مِنَ النّاسِ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاً، أَعْطَاهُ أَوْ مَنَعَهُ ذَلِكَ. فَإِنّ الْيَدَ الْعُلْيَا أَفْضَلُ مِنَ الْيَدِ السّفْلَىَ. وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ. حَدّثَنِي قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: أَتَيْنَا أَبَا هُرَيْرَةَ فَقَالَ: قَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم "وَاللّهِ لأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ فَيَحْطِبَ عَلَىَ ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهُ". ثمّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ بَيَانٍ.
حدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ. قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ مَوْلَىَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لأَنْ يَحْتَزِمَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً مِنْ حَطَبٍ، فَيَحْمِلَهَا عَلَىَ ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ رَجُلاً، يُعْطِيهِ أَوْ يَمْنَعُهُ".
حدّثني عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ وَ سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ (قَالَ سَلَمَةُ: حَدّثَنَا. وَقَالَ الدّارِمِيّ: أَخْبَرَنَا مَرْوَانُ، وَهُوَ ابْنُ مُحَمّدٍ الدّمَشْقِيّ) حَدّثَنَا سَعِيدٌ (وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ) عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ الْخَولاَنِيّ، عَنْ أَبِي مُسْلِمٍ الْخَوْلاَنِي قَالَ: حَدّثَنَي الْحَبِيبُ الأَمِينُ. أَمّا هُوَ فَحَبِيبٌ إِلَيّ. وَأَمّا هوَ عِنْدِي، فَأَمِينٌ. عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ. قَالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً. فَقَالَ: "أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟" وَكُنّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ. فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللّهِ ثُمّ قَالَ: "أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللّهِ؟" فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللّهِ ثُمّ قَالَ: "أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللّهِ؟" قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللّهِ فَعَلاَمَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: "عَلَىَ أَنْ تَعْبُدُوا اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً. وَالصّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَتُطِيعُوا (وَأَسَرّ كَلِمَةً خَفِيّةً) وَلاَ تَسْأَلُوا النّاسَ شَيْئاً" فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ. فَمَا يَسْأَلُ أَحَداً يُنَاوِلُهُ إِيّاهُ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله وليس في وجهه مزعة لحم" بضم الميم وإسكان الزاي أي قطعة، قال القاضي: قيل معناه يأتي يوم القيامة ذليلاً ساقطاً لا وجه له عند الله. وقيل هو على ظاهره فيحشر ووجهه عظم لا لحم عليه عقوبة له وعلامة له بذنبه حين طلب وسأل بوجهه، كما جاءت الأحاديث الأخر بالعقوبات في الأعضاء التي كانت بها المعاصي، وهذا فيمن سأل لغير ضرورة سؤالاً منهياً عنه، وأكثر منه كما في الرواية الأخرى من سأل تكثراً والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من سأل الناس أموالهم تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو ليستكثر" قال القاضي: معناه أنه يعاقب بالنار، ويحتمل أن يكون على ظاهره وأن الذي يأخذه يصير جمراً يكوى به كما ثبت في مانع الزكاة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لأن يغدوا أحدكم فيحطب على ظهره فيتصدق به ويستغني به من الناس خير من أن يسأل رجلاً" فيه الحث على الصدقة والأكل من عمل يده والاكتساب بالمباحات كالحطب والحشيش النابتين في موات، وهكذا وقع في الأصول فيحطب بغير تاء بين الحاء والطاء في الموضعين وهو صحيح، وهكذا أيضاً في النسخ ويستغني به من الناس بالميم وفي نادر منها عن الناس بالعين وكلاهما صحيح والأول محمول على الثاني.
قوله: (عن أبي إدريس الخولاني عن أبي مسلم الخولاني) اسم أبي إدريس عابد الله ابن عبد الله، واسم أبي مسلم عبد الله بن ثوب بضم المثلثة وفتح الواو وبعدها موحدة، ويقال ابن ثواب بفتح الثاء وتخفيف الواو، ويقال ابن أثوب، ويقال ابن عبد الله، ويقال ابن عوف، ويقال ابن مسلم، ويقال اسمه يعقوب بن عوف، وهو مشهور بالزهد والكرامات الظاهرة والمحاسن الباهرة، أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وألقاه الأسود العنسي في النار فلم يحترق فتركه فجاء مهاجراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق، فجاء إلى المدينة فلقي أبا بكر الصديق وعمر وغيرهما من كبار الصحابة رضي الله عنهم، هذا هو الصواب المعروف ولا خلاف فيه بين العلماء. وأما قول السمعاني في الأنساب إنه أسلم في زمن معاوية فغلط باتفاق أهل العلم من المحدثين وأصحاب التواريخ والمغازي والسير وغيرهم والله أعلم. قوله: (فلقد رأيت أولئك النفر يسقط سوط أحدهم فما يسأل أحداً يناوله إياه) فيه التمسك بالعموم لأنهم نهوا عن السؤال فحملوه على عمومه، وفيه الحث على التنزيه عن جميع ما يسمى سؤالاً وإن كان حقيراً والله أعلم
*2* باب من تحل له المسألة
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. كِلاَهُمَا عَنْ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ. قَالَ يَحْيَىَ أَخْبَرَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ هَرُونَ بْنِ رِيَابٍ. حَدّثَنِي كِنَانَةُ بْنُ نُعَيْمٍ الْعَدَوِيّ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ مُخَارِقٍ الْهِلاَلِيّ قَالَ: تَحَمّلْتُ حَمَالَةً. فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْأَلُهُ فِيهَا. فَقَالَ: "أَقِمْ حَتّىَ تَأْتِيَنَا الصّدَقَةُ. فَنَأْمُرَ لَكَ بِهَا". قَالَ: ثُمّ قَالَ: "يَا قَبِيصَةُ إِنّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِلّ إِلاّ لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٌ تَحَمّلَ حَمَالَةً فَحَلّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتّىَ يُصِيفبَهَا ثُمّ يُمْسِكُ. وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلّتْ لَهُ الْمَسْأَلُةُ حَتّىَ يُصِيبَ قِوَام مِنْ عَيْشٍ (أَوْ قَالَ سِدَاد مِنْ عَيْشٍ). وَرَجُلٌ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ حَتّىَ يَقُولَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَناً فَاقَةٌ. فَحَلّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ. حَتّىَ يُصِيبَ قِوَام مِنْ عَيْشٍ (أَوْ قَالَ سِدَاد مِنْ عَيْشٍ) فَمَا سِوَاهُنّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ، يَا قَبِيصَةُ سُحْتاً يَأْكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتاً".
قوله: (عن هارون بن رياب) هو بكسر الراء وبمثناة تحت ثم ألف موحدة. قوله: (تحملت حمالة) هي بفتح الحاء وهي المال الذي يتحمله الإنسان أي يستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين كالإصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك، وإنما تحل له المسألة ويعطى من الزكاة. بشرط أن يستدين لغير معصية. قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى تصيب قواماً من عيش" أو قال سداداً من عيش، القوام والسداد بكسر القاف والسين وهما بمعنى واحد وهو ما يغني من الشيء وما تسد به الحاجة، وكل شيء سددت به شيئاً فهو سداد بالكسر، ومنه سداد الثغر والقارورة، وقولهم: سداد من عوز. قوله: (حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه لقد أصابت فلاناً فاقة) هكذا هو في جميع النسخ يقوم ثلاثة وهو صحيح، أي يقومون بهذا الأمر فيقولون: لقد أصابته فاقة، والحجى مقصور وهو العقل، وإنما قال صلى الله عليه وسلم من قومه لأنهم من أهل الخبرة بباطنه، والمال ممّا يخفى في العبادة فلا يعلمه إلا من كان خبيراً بصاحبه، وإنما شرط الحجى تنبيهاً على أنه يشترط في الشاهد التيقظ فلا تقبل من مغفل، وأما اشتراط الثلاثة فقال بعض أصحابنا: هو شرط في بينة الإعسار فلا يقبل إلا من ثلاثة لظاهر هذا الحديث. وقال الجمهور: يقبل من عدلين كسائر الشهادات غير الزنا، وحملوا الحديث على الاستحباب، وهذا محمول على من عرف له مال فلا يقبل قوله في تلفه والإعسار إلا ببينة، وأما من لم يعرف له مال فالقول قوله في عدم المال. قوله صلى الله عليه وسلم: "فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتاً" هكذا هو في جميع النسخ سحتاً، ورواية غير مسلم سحت وهذا واضح، ورواية مسلم صحيحة وفيه إضمار أي اعتقده سحتاً أو يؤكل سحتاً
*2* باب إباحة الأخذ لمن أعطي من غير مسألة ولا إشراف
*هَرُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. ح وَحَدّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَدْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ. فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنّي. حَتّىَ أَعْطَانِي مَرّةً مَالاً. فَقُلْتُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنّي. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "خُذْهُ. وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ، فَخُذْهُ. وَمَا لاَ، فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ".
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ عَنْ ابْنُ وَهْبٍ. عَنْ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنِ ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُعْطِي عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ الْعَطَاءَ. فَيَقُولُ لَهُ عُمَرُ: أَعْطِهِ، يَا رَسُولَ اللّهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنّي. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "خُذْهُ فَتَمَوّلْهُ أَوْ تَصَدّقْ بِهِ. وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لاَ، فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ".
قَالَ سَالِمٌ: فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَ ابْنُ عُمَرَ لاَ يَسْأَلُ أَحَداً شَيْئاً. وَلاَ يَرُدّ شَيْئاً أُعْطِيَهُ.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ عَمْرٌو: وَحَدّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَنِ السّائِبِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ السّعْدِيّ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثٌ عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ السّاعِدِيّ الْمَالِكِيّ أَنّهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ عَلَىَ الصّدَقَةِ. فَلَمّا فَرَغْتُ مِنْهَا، وَأَدّيْتُهَا إِلَيْهِ، أَمَرَ لِي بِعُمَالَةٍ. فَقُلْتُ: إِنّمَا عَمِلْتُ لله، وَأَجْرِي عَلَىَ اللّهِ. فَقَالَ: خُذْ مَا أُعْطِيتَ. فَإِنّي عَمِلْتُ عَلَىَ عَهْد رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَمّلَنِي. فَقُلْتُ مِثْلَ قَوْلِكَ. فَقَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أُعْطِيتَ شَيْئاً مِنْ غَيْرِ أَنْ تَسْأَلَ، فَكُلْ. وَتَصَدّقْ".
وحدّثني هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ ابْنِ الأَشَجّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ السّعْدِيّ أَنّهُ قَالَ: اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُعَلَى الصّدَقَةِ. بِمِثْلِ حَدِيثِ اللّيْثِ.
سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول اعطه أفقر إليه مني حتى أعطاني مرة مالاً فقلت أعطه أفقر إليه مني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذه وما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه ومالاً فلا تتبعه نفسك) هذا الحديث فيه منقبة لعمر رضي الله عنه وبيان فضله وزهده وإيثاره، والمشرف إلى الشيء هو المتطلع إليه الحريص عليه ومالاً فلا تتبعه نفسك معناه ما لم يوجد فيه هذا الشرط لا تعلق النفس به، واختلف العلماء فيمن جاءه مال هل يجب قبوله أم يندب على ثلاثة مذاهب حكاها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وآخرون، والصحيح المشهور الذي عليه الجمهور أنه يستحب في غير عطية السلطان، وأما عطية السلطان فحرمها قوم وأباحها قوم وكرهها قوم، والصحيح إنه إن غلب الحرام فيما في يد السلطان حرمت وكذا إن أعطى من لا يستحق، وإن لم يغلب الحرام فمباح إن لم يكن في القابض مانع يمنعه من استحقاق الأخذ، وقالت طائفة: الأخذ واجب من السلطان وغيره. وقال آخرون: هو مندوب في عطية السلطان دون غيره والله أعلم. قوله: (وحدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب قال عمرو وحدثني ابن شهاب بمثل ذلك عن السائب بن يزيد عن عبد الله بن السعدي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا وقع هذا الحديث، وقوله قال عمرو معناه قال: قال: عمرو فحذف كتابة قال، ولا بد للقارئ من النطق بقال مرتين، وإنما حذفوا إحداهما في الكتاب اختصاراً. وأما قوله قال عمرو وحدثني فهكذا هو في النسخ وحدثني بالواو وهو صحيح مليح، ومعناه أن عمراً حدث عن ابن شهاب بأحاديث عطف بعضها على بعض فسمعها ابن وهب كذلك، فلما أراد ابن وهب رواية غير الأول أتى بالواو العاطفة لأنه سمع غير الأول من عمرو معطوفاً بالواو فأتى به كما سمعه، وقد سبق بيان هذه المسألة في أول الكتاب والله أعلم. واعلم أن هذا الحديث مما استدرك على مسلم قال القاضي عياض: قال أبو علي بن السكن بين السائب بن يزيد وعبد الله بن السعدي رجل وهو حويطب بن عبد العزى، قال النسائي: لم يسمعه السائب من ابن السعدي بل إنما رواه عن حويطب عنه، قال غيره: هو محفوظ من طريق عمرو بن الحارث رواه أصحاب شعيب والزبيدي وغيرهما عن الزهري قال: أخبرني السائب بن يزيد أن حويطباً أخبره أن عبد الله بن السعدي أخبره أن عمراً أخبره، وكذلك رواه يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب، هذا كلام القاضي، قلت: وقد رواه النسائي في سننه كما ذكر عن ابن عيينة عن الزهري عن السائب عن حويطب عن ابن السعدي عن عمر رضي الله عنه، ورويناه عن الحافظ عبد القادر الرهاوي في كتابه الرباعيات قال: وقد رواه هكذا عن الزهري محمد بن الوليد والزبيدي وشعيب بن أبي حمزة الحمصيان وعقيل بن خالد ويونس بن يزيد الأيليان وعمرو بن الحارث المصري والحكم بن عبد الله الحمصي، ثم ذكر طرقهم بأسانيدها مطولة مطرقة كلهم عن الزهري عن السائب عن حويطب عن ابن السعدي عن عمر، وكذا رواه البخاري من طريق شعيب، قال عبد القادر: ورواه النعمان بن راشد عن الزهري فأسقط حويطباً، ورواه معمر عن الزهري واختلف عنه فيه فرواه عنه سفيان بن عيينة وموسى بن أعين كما رواه الجماعة عن الزهري ورواه ابن المبارك عن معمر فأسقط حويطباً، كما رواه النعمان بن راشد عن الزهري ورواه عبد الرزاق عن معمر فأسقط حويطباً وابن السعدي، ثم ذكر الحافظ عبد القادر طرقهم كذلك، قال: فهذا ما انتهى من طرق هذا الحديث، قال: والصحيح ما اتفق عليه الجماعة يعني عن الزهري عن السائب عن حويطب عن ابن السعدي عن عمر، وهذا الحديث فيه أربعة صحابيون يروي بعضهم عن بعض وهم. عمر وابن السعدي وحويطب والسائب رضي الله عنهم، وقد جاءت جملة من الأحاديث فيها أربعة صحابيون يروي بعضهم عن بعض وأربعة تابعيون بضعهم عن بعض. وأما ابن السعدي فهو أبو محمد عبد الله بن وقدان بن عبد شمس بن عبدود بن نضر بن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي بن غالب، قالوا: واسم وقدان عمرو ويقال عمرو بن وقدان، وقال مصعب: هو عبد الله بن عمرو بن وقدان ويقال له ابن السعدي لأن أباه استرضع في بني سعد بن بكر بن هوازن صحب ابن السعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قديماً وقال: وفدت في نفر من بني سعد بن بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سكن الشام، روى عنه السائب بن يزيد وروى عنه جماعات من كبار التابعين، وأما حويطب فهو بضم الحاء المهملة أبو محمد ويقال أبو الأصبع حويطب بن عبد العزى بن أبي قيس بن عبدود بن نضر ابن مالك بن حنبل بن عامر بن لؤي القرشي العامري أسلم يوم فتح مكة ولا تحفظ له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا شيء ذكره الواقدي والله أعلم. وقد وقع في مسلم بعد هذا من رواية قتيبة قال عن ابن الساعدي المالكي، فقوله المالكي صحيح منسوب إلى مالك بن حنبل بن عامر، وأما قوله الساعدي فأنكروه قالوا: وصوابه السعدي كما رواه الجمهور منسوب إلى بني سعد بن بكر كما سبق والله أعلم.
قوله: (أمر لي بعمالة) هي بضم العين وهي المال الذي يعطاه العامل على عمله. قوله: (عملت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فعملني) هو بتشديد الميم أي أعطاني أجرة عملي، وفي هذا الحديث جواز أخذ العوض على أعمال المسلمين سواء كانت لدين أو لدنيا كالقضاء والحسبة وغيرهما والله أعلم
*2* باب كراهة الحرص على الدنيا
*حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَبْلُغُ بِهِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "قَلْبُ الشّيْخِ شَابّ عَلَىَ حُبّ اثْنَتَيْنِ: حُبّ الْعَيْشِ، وَالْمَالِ"
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرَمْلَةُ قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "قَلْبُ الشّيْخِ شَابّ عَلَىَ حُبّ اثْنَتَيْنِ: طُولُ الْحَيَاةِ، وَحُبّ الْمَالِ".
وحدّثني يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ، و سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. كُلّهُمْ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ. قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبّ مِنْهُ اثْنَتَانِ: الْحِرْصُ علَىَ الْمَالِ، وَالْحِرْصُ عَلَىَ الْعُمُرِ".
وحدّثني أَبُو غَسّانَ الْمِسْمَعِيّ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. قَالاَ: حَدّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ. حَدّثَنَي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ بِمِثْلِهِ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى و ابْنُ بَشّارٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ. قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ.
قوله: (قلب الشيخ شاب على حب اثنتين حب العيش والمال) هذا مجاز واستعارة، ومعناه أن قلب الشيخ كامل الحب للمال محتكم في ذلك كاحتكام قوة الشاب في شبابه هذا صوابه، وقيل تفسيره غير هذا مما لا يرتضي.
قوله: (وتشب منه اثنتان) بفتح التاء وكسر الشين وهو بمعنى قلب الشيخ شاب على حب اثنتين
*2* باب لو أن لابن آدم واديين لابتغى ثالثا
*حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. وَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ (قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ) عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَىَ وَادِياً ثَالِثاً. وَلاَ يَمْلأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاّ التّرَابُ. وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَىَ مَنْ تَابَ".
وحدّثنا ابْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ. قَالَ ابْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ (فَلاَ أَدْرِي أَشَيْءٌ أُنْزِلَ أَمْ شَيْءٌ كَانَ يَقُولُهُ) بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ.
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ "لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ أَحَبّ أَنّ لَهُ وَادِياً آخَرَ. وَلَنْ يَمْلأَ فَاهُ إِلاّ التّرَابُ. وَاللّهُ يَتُوبُ عَلَىَ مَنْ تَابَ".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. قَالاَ: حَدّثَنَا حَجّاجُ بْنُ مُحَمّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَوْ أَنّ لاِبْنِ آدَمَ مِلْءَ وَادٍ مَالاً لأَحَبّ أَنْ يَكُونَ إِلَيهِ مِثْلُهُ. وَلاَ يَمْلأُ نَفْسَ ابْنِ آدَمَ إِلاّ التّرَاب. وَاللّهُ يَتُوبُ عَلَىَ مَنْ تَابَ".
حدّثني سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ دَاوُدَ، عَنْ أَبِي حَرْبِ بْنِ أَبِي الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: بَعَثَ أَبُو مُوسَىَ الأَشْعَرِيّ إِلَىَ قُرّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. فَدَخَلَ عَلَيْهِ ثَلاَثُمِائَةِ رَجُلٍ قَدْ قَرَأُوا الْقُرْآنَ. فَقَالَ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرّاؤُهُمْ. فَاتْلُوهُ. وَلاَ يَطُولَنّ عَلَيْكُمُ الأَمَدُ فَتَقْسُوَ قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. وَإِنّا كُنّا نَقْرَأُ سُورَةً. كُنّا نُشَبّهُهَا فِي الطّولِ وَالشّدّةِ بِسُورَةِ بَرَاءَةَ. فَأُنْسِيتُهَا. غَيْرَ أَنّي قَدْ حَفِظْتُ مِنْهَا: لَوْ كَانَ لاِبْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لاَبْتَغَىَ وَادِياً ثَالِثاً. وَلاَ يَمْلأَ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاّ التّرَابُ. وَكُنّا نَقْرَأُ سُورَةً كُنّا نُشَبّهُهَا بِإِحْدَىَ الْمُسَبّحَاتِ. فَأُنْسِيتُهَا. غَيْرَ أَنّي حَفِظْتُ مِنْهَا: يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ. فَتُكْتَبُ شَهَادَةً فِي أَعْنَاقِكُمْ. فَتُسْأَلُونَ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قوله: (لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب) وفي رواية: (ولن يملأ فاه إلا التراب).
وفي رواية: (ولا يملأ نفس ابن آدم إلا التراب) فيه ذم الحرص على الدنيا وحب المكاثرة بها والرغبة فيها.
ومعنى: (لا يملأ جوفه إلا التراب) أنه لا يزال حريصاً على الدنيا حتى يموت ويمتلئ جوفه من تراب قبره، وهذا الحديث خرج على حكم غالب بني آدم في الحرص على الدنيا. ويؤيده قوله: (ويتوب الله على من تاب) وهو متعلق بما قبله، ومعناه أن الله يقبل التوبة من الحرص المذموم وغيره من المذمومات
*2* باب ليس الغنى عن كثرة العرض
*حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ الْغِنَىَ عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ. وَلَكِنّ الْغِنَىَ غِنَىَ النّفْسِ".
قوله: (ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس) العرض هنا بفتح العين والراء جميعاً وهو متاع الدنيا، ومعنى الحديث الغنى المحمود غنى النفس وشبعها وقلة حرصها، لا كثرة المال مع الحرص على الزيادة، لأن من كان طالباً للزيادة لم يستغن بما معه فليس له غنى
*2* باب تخوّف ما يخرج من زهرة الدنيا
*وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ بْنُ سَعْدٍ. ح وَحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ (وَتَقَارَبَا فِي اللّفْظِ) قال: حَدّثَنَا لَيْثٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ، عَنْ عَيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَعْدٍ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولُ: قَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَ النّاسَ فَقَالَ: "لاَ وَاللّهِ مَا أَخْشَىَ عَليْكُمْ، أَيّهَا النّاسُ إِلاّ مَا يُخْرِجُ اللّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدّنْيَا". فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَيَأْتِي الْخَيْرُ بِالشّرّ؟. فَصَمَتَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَاعَةً. ثُمّ قَالَ "كَيْفَ قُلْتَ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَيَأَتِي الْخَيْرُ بِالشّرّ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الْخَيْرَ لاَ يَأْتِي إِلاّ بِخَيْرٍ. أَوَ خَيْرٌ هُوَ. إِنّ كُلّ مَا يُنْبِتُ الرّبِيعُ يَقْتُلُ حَبَطاً أَوْ يُلِمّ. إِلاّ آكِلَةَ الْخَضِرِ. أَكَلَتْ، حَتّىَ إِذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشّمْسَ. ثَلَطَتْ أَوْ بَالَتْ. ثُمّ اجْتَرّتْ. فَعَادَتْ. فَأَكَلَتْ. فَمَنْ يَأْخُذْ مَالاً بِحَقّهِ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ. وَمَنْ يَأْخُذْ مَالاً بِغَيْرِ حَقّهِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ".
حدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَخْوَفُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ مَا يُخْرِجُ اللّهُ لَكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدّنْيَا" قَالُوا: وَمَا زَهْرَةُ الدّنْيَا؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "بَرَكَاتُ الأَرْضِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ وَهَلْ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشّرّ؟ قَالَ: "لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ إِلاّ بِالْخَيْرِ. لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ إِلاّ بِالْخَيْرِ. لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ إِلاّ بِالْخَيْرِ. إِنّ كُلّ مَا أَنْبَتَ الرّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمّ، إِلاّ آكِلَةَ الْخَضِرِ. فَإِنّهَا تَأْكُلُ. حَتّىَ إِذَا امْتَدّتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتِ الشّمْسَ. ثُمّ اجْتَرّتْ وَبَالَتْ وَثَلَطَتْ. ثُمّ عَادَتْ فَأَكَلَتْ. إِنّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ. فَمَنْ أَخَذَهُ بِحَقّهِ، وَوَضَعَهُ فِي حَقّهِ، فَنِعْمَ الْمَعُونَةُ هُوَ. وَمَنْ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقّهِ، كَانَ كَالّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ".
حدّثني عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ. أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هِشَامٍ صَاحِبِ الدّسْتَوَائِيّ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: جَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ الْمِنْبَرِ. وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ. فَقَالَ: "إِنّ مِمّا أَخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي، مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدّنْيَا وَزِينَتِهَا". فَقَالَ رَجُلٌ: أَوَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشّرّ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقِيلَ لَهُ: مَا شَأْنُكَ؟ تُكَلّمُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَلاَ يُكَلّمُكَ؟ قَالَ: وَرَأَيْنَا أَنّهُ يُنْزَلُ عَلَيْهِ. فَأَفَاقَ يَمْسَحُ عَنْهُ الرّحَضَاءَ. وَقَالَ: "إنَ هَذَا السّائِلَ" (وَكَأَنّهُ حَمِدَهُ) فَقَالَ: "إِنّهُ لاَ يَأْتِي الْخَيْرُ بِالشّرّ. وَإِنّ يُنْبِتُ الرّبِيعُ يَقْتُلُ أَوْ يُلِمّ. إِلاّ آكِلَةَ الْخَضِرِ. فَإِنّهَا أَكَلَتْ. حَتّىَ إِذَا امْتَلأَتْ خَاصِرَتَاهَا اسْتَقْبَلَتْ عَيْنَ الشّمْسِ فَثَلَطَتْ وَبَالَتْ. ثُمّ رَتَعَتْ. وَإِنّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَ حُلْوَةٌ. وَنِعْمَ صَاحِبُ الْمُسْلِمِ هُوَ لِمَنْ أَعْطَىَ مِنْهُ الْمِسْكِينَ وَالْيَتِيمَ وَابْنَ السّبِيلَ (أَوْ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم) وَإِنّهُ مَنْ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ حَقّهِ كَانَ كَالّذِي يَأْكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ. وَيَكُونُ عَلَيْهِ شَهِيداً يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
قوله: (لا والله ما أخشى عليكم أيها الناس إلا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا) فيه التحذير من الاغترار بالدنيا والنظر إليها والمفاخرة بها، وفيه استحباب الحلف من غير استحلاف إذا كان فيه زيادة في التوكيد والتفخيم ليكون أوقع في النفوس. قوله: (يا رسول الله أيأتي الخير بالشر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الخير لا يأتي إلا بخير أو خير هو إن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر أكلت حتى امتلات خاصرتاها استقبلت الشمس ثلطت أو بالت ثم اجترت فعادت فأكلت فمن يأخذ مالاً بحقه يبارك له فيه ومن يأخذ مالاً بغير حقه فمثله كمثل الذي يأكل ولا يشبع) أما قوله صلى الله عليه وسلم: أو خير هو فهو بفتح الواو، والحبط بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة التخمة. وقوله صلى الله عليه وسلم: أو يلم معناه أو يقارب القتل. وقوله صلى الله عليه وسلم: إلا آكلة الخضر هو بكسر الهمزة من إلا وتشديد اللام على الاستثناء هذا هو المشهور الذي قاله الجمهور من أهل الحديث واللغة وغيرهم، قال القاضي: ورواه بعضهم ألا بفتح الهمزة وتخفيف اللام على الاستفتاح، وآكلة الخضر بهمزة ممدودة، والخضر بفتح الخاء وكسر الضاد هكذا رواه الجمهور، قال القاضي: وضبطه بعضهم الخضر بضم الخاء وفتح الضاد. وقوله: ثلطت هو بفتح الثاء المثلثة أي ألقت الثلط وهو الرجيع الرقيق وأكثر ما يقال للإبل والبقر والفيلة. قوله: اجترت أي مضغت جرتها. قال أهل اللغة: الجرة بكسر الجيم ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه، والقصع شدة المضغ. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أخشى عليكم أيها الناس إلا ما يخرج الله لكم من زهرة الدنيا فقال رجل: يا رسول الله أيأتي الخير بالشر؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الخير لا يأتي إلا بخير أو خير هو" فمعناه أنه صلى الله عليه وسلم حذرهم من زهرة الدنيا وخاف عليهم منها فقال هذا الرجل إنما يحصل ذلك لنا من جهة مباحة كغنيمة وغيرها وذلك خير، وهل يأتي الخير بالشر؟ وهو استفهام إنكار واستبعاد أي يبعد أن يكون الشيء خيراً ثم يترتب عليه شر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أما الخير الحقيقي فلا يأتي إلا بخير أي لا يترتب عليه إلا خير، ثم قال: أو خير هو معناه أن هذا الذي يحصل لكم من زهرة الدنيا ليس بخير وإنما هو فتنة وتقديره الخير لا يأتي إلا بخير، ولكن ليست هذه الزهرة بخير لما تؤدي إليه من الفتنة والمنافسة والاشتغال بها عن كمال الإقبال على الاَخرة، ثم ضرب لذلك مثلاً فقال صلى الله عليه وسلم: إن كل ما ينبت الربيع يقتل حبطاً أو يلم إلا آكلة الخضر إلى آخره، ومعناه أن نبات الربيع وخضره يقتل حبطاً بالتخمة لكثرة الأكل أو يقارب القتل، إلا إذا اقتصر منه على اليسير الذي تدعو إليه الحاجة وتحصل به الكفاية المقتصدة فإنه لا يضر، وهكذا المال هو كنبات الربيع مستحسن تطلبه النفوس وتميل إليه، فمنهم من يستكثر منه ويستغرق فيه غير صارف له في وجوهه فهذا يهلكه أو يقارب إهلاكه، ومنهم من يقتصد فيه فلا يأخذ إلا يسيراً وإن أخذ كثيراً فرقه في وجوهه كما تثلطه الدابة فهذا لا يضره، هذا مختصر معنى الحديث. قال الأزهري: فيه مثلان: أحدهما للمكثر من الجمع المانع من الحق وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: إن مما ينبت الربيع ما يقتل لأن الربيع ينبت إجرار البقول فتستكثر منه الدابة حتى تهلك. والثاني للمقتصد وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: إلا آكلة الخضر لأن الخضر ليس من إجرار البقول. وقال القاضي عياض: ضرب صلى الله عليه وسلم لهم مثلاً بحالتي المقتصد والمكثر، فقال صلى الله عليه وسلم: أنتم تقولون إن نبات الربيع خير وبه قوام الحيوان وليس هو كذلك مطلقاً بل منه ما يقتل أو يقارب القتل، فحالة المبطون المتخوم كحالة من يجمع المال ولا يصرفه في وجوهه، فأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الاعتدال والتوسط في الجمع أحسن، ثم ضرب مثلاً لمن ينفعه إكثاره وهو التشبيه بآكلة الخضر وهذا التشبيه لمن صرفه في وجوهه الشرعية، ووجه الشبه أن هذه الدابة تأكل من الخضر حتى تمتلئ خاصرتها ثم تثلط، وهكذا من يجمعه ثم يصرفه والله أعلم. قوله: (فأفاق يمسح الرحضاء) هو بضم الراء وفتح الحاء المهملة وبضاد معجمة ممدودة أي العرق من الشدة وأكثر ما يسمى به عرق الحمى. قوله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا السائل" هكذا هو بعض النسخ، وفي بعضها أين، وفي بعضها أنى، وفي بعضها أي وكله صحيح، فمن قال أني أو أين فهما بمعنى، ومن قال إن فمعناه والله أعلم أن هذا هو السائل الممدوح الحاذق الفطن ولهذا قال وكأنه حمده، ومن قال أي فمعناه أيكم فحذف الكاف والميم والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن مما ينبت الربيع" ووقع في الروايتين السابقتين إن كل ما ينبت الربيع أو أنبت الربيع، ورواية كل محمولة على رواية مما وهو من باب تدمر كل شيء وأوتيت من كل شيء.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن هذا المال خضر حلو ونعم صاحب المسلم" هو لمن أعطى منه المسكين واليتيم وابن السبيل فيه فضيلة المال لمن أخذه. بحقه وصرفه في وجوه الخير، وفيه حجة لمن يرجح الغني علي الفقير والله أعلم
*2* باب فضل التعفف والصبر
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَطَاء بْنِ يَزِيدَ اللّيْثِيّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ نَاساً مِنَ الأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَعْطَاهُمْ. ثُمّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ. حَتّىَ إِذَا نَفِذَ مَا عِنْدَهُ قَالَ: "مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدّخِرَهُ عَنْكُمْ. وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفّهُ اللّهِ. وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللّهُ. وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبّرْهُ اللّهُ. وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصّبْرِ".
حدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ بِهَذَا الاْسْنَادِ، نَحْوَهُ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وما أعطي أحد من عطاء خير وأوسع من الصبر" هكذا هو في جميع نسخ مسلم خير مرفوع وهو صحيح وتقديره وهو خير كما وقع في رواية البخاري، وفي هذا الحديث الحث على التعفف والقناعة والصبر على ضيق العيش وغيره من مكاره الدنيا
*2* باب في الكفاف والقناعة
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرّحْمَنِ الْمُقْرِئ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيّوبَ. حَدّثَنِي شُرَحْبِيلُ (وَهُوَ ابْنُ شَرِيكٍ) عَنُ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحُبُلِيّ، عَنْ عَبْدِاللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنّعَهُ اللّهُ بِمَا آتَاهُ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ وَ أَبُو سَعِيدٍ الأَشْجّ. قَالُوا: حَدّثَنَا وَكِيعٌ. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ. ح وَحَدّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ. كِلاَهُمَا عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقُعْقَاعِ، عَنْ أَبِي زُرْعَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللّهُمّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمّدٍ قُوتاً".
قوله: (عن أبي عبد الرحمن الحبلي) هو منسوب إلى بني الحبل، والمشهور في استعمال المحدثين ضم الباء منه، والمشهور عند أهل العربية فتحها ومنهم من سكنها. قوله صلى الله عليه وسلم: "قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه" الكفاف الكفاية بلا زيادة ولا نقص، وفيه فضيلة هذه الأوصاف، وقد يحتج به لمذهب من يقول الكفاف أفضل من الفقر ومن الغنى.
قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً" قال أهل اللغة والعربية: القوت ما يسد الرمق، وفيه فضيلة التقلل من الدنيا والاقتصار على القوت منها والدعاء بذلك.
*2* باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة
*حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ: الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ) عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ سَلْمَانَ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ: قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْماً. فَقُلْتُ: وَاللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ لَغَيْرُ هَؤُلاَءِ كَانَ أَحَقّ بِهِ مِنْهُمْ. قَالَ: "إِنّهُمْ خَيّرُونِي أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ أَوْ يُبَخّلُونِي. فَلَسْتُ بِبَاخِلٍ".
حدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ سُلَيْمَانَ الرّازِيّ. قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكاً. ح وَحَدّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ (وَاللّفْظُ لَهُ) أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. حَدّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وعَلَيْهِ رِدَاءٌ نَجْرَانِيّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ. فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيّ. فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً. نَظَرْتُ إِلَىَ صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ أَثّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الرّدَاءِ. مِنْ شِدّةِ جَبْذَتِهِ. ثُمّ قَالَ: يَا مُحَمّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللّهِ الّذِي عِنْدَكَ. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَضَحِكَ. ثُمّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ.
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ. حَدّثَنَا هَمّامٌ. ح وَحَدّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ. حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ. ح وَحَدّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ. حَدّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ. حَدّثَنَا الأَوّزَاعِيّ. كُلّهُمْ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وَفِي حَدِيثِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمّارٍ مِنَ الزّيَادَةِ: قَالَ: ثُمّ جَبَذَهُ إِلَيْهِ جَبْذَةً. رَجَعَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَحْرِ الأَعْرَابِيّ.
وَفِي حَدِيثِ هَمّامٍ: فَجَاذَبَهُ حَتّى انْشَقّ الْبُرْدُ. وَحَتّى بَقِيتْ حَاشِيَتُهُ فِي عُنُقِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثٌ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنّهُ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةً وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ شَيْئاً. فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَيّ انْطَلِقْ بِنَا إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ. قَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِي. قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْهَا. فَقَالَ: "خَبَأْتُ هَذَا لَكَ". قَالَ: فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ: "رَضِيَ مَخْرَمَةُ".
حدّثنا أَبُو الْخَطّابِ زِيَادُ بْنُ يَحْيَى الْحَسّانِيّ. حَدّثَنَا حَاتِمُ بْنُ وَرْدَانَ أَبُو صَالِحٍ. حَدّثَنَا أَيّوبُ السّخْتِيَانِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ المِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: قَدِمَتْ عَلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَقْبِيَةٌ. فَقَالَ لِي أَبِي، مَخْرَمَةُ: انْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ عَسَىَ أَنْ يُعْطِيَنَا مِنْهَا شَيْئَاً. قَالَ: فَقَامَ أَبِي عَلَىَ الْبَابِ فَتَكَلّمَ. فَعَرَفَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَوْتَهُ فَخَرَجَ وَمَعَهُ قَبَاءٌ. وَهُوَ يُريهِ مَحَاسِنَهُ. وَهُوَ يَقُولُ: "خَبَأْتُ هَذَا لَكَ. خَبَأْتُ هَذَا لَكَ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "خيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل" معناه أنهم ألحوا في المسألة لضعف إيمانهم، وألجأوني بمقتضى حالهم إلى السؤال بالفحش أو نسبتي إلى البخل ولست بباخل، ولا ينبغي احتمال واحد من الأمرين. ففيه مداراة: أهل الجهالة والقسوة وتألفهم إذا كان فيهم مصلحة وجواز دفع المال إليهم لهذه المصلحة.
قوله: (فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال: يا محمد مرلي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك ثم أمر له بعطاء) فيه احتمال الجاهلين والإعرّاض عن مقابلتهم، ودفع السيئة بالحسنة، وإعطاء من يتألف قلبه، والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها بجهله، وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة، وفيه كمال خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه وصفحه الجميل. قوله: (فجاذبه) هو بمعنى جبذه في الرواية السابقة فيقال: جبذ وجذب لغتان مشهورتان. قوله: (حتى انشق البرد وحتى بقيت حاشيته في عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم) قال القاضي: يحتمل أنه على ظاهره وأن الحاشية انقطعت وبقيت في العنق، ويحتمل أن يكون معناه بقي أثرها لقوله في الرواية الأخرى أثرت بها حاشية الرداء.
قوله صلى الله عليه وسلم لمخرمة: "خبأت هذا لك" هو من باب التألف
*2* باب إعطاء من يخاف على إيمانه
*حدّثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيَ الْحُلْوَانِيّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ سَعْدٍ أَنّهُ أَعْطَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رَهْطاً وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ. قَالَ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْهُمْ رَجُلاً لَمْ يُعْطِهِ. وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيّ. فَقُمْتُ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَسَارَرْتُهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَالَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ وَاللّهِ إِنّي لأَرَاهُ مُؤْمِناً. قَالَ: "أَوْ مُسْلِماً" فَسَكَتّ قَلِيلاً. ثُمّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَالَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللّهِ إِنّي لأَرَاهُ مُؤْمِناً. قَالَ: "أَوْ مُسْلِماً" فَسَكَتّ قَلِيلاً. ثُمّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَالَكَ عَنْ فُلاَنٍ؟ فَوَاللّهِ إِنّي لأَرَاهُ مُؤْمِناً. قَالَ: "أَوْ مُسْلِماً" قَالَ: "إِنّي لأُعْطِي الرّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبّ إِلَيّ مِنْهُ. خَشْيَةَ أَنْ يَكُبّ فِي النّارِ عَلَىَ وَجْهِهِ".
وَفِي حَدِيثِ الْحُلوَانِيّ تَكْرَارُ القَوْلِ مَرّتَيْنِ.
حدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ. ح وَحَدّثَنِيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. حَدّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ. ح وَحَدّثَنَاهُ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. كُلّهُمْ عَنِ الزّهْرِيّ بِهَذَا الاْسْنَادِ، عَلَىَ مَعْنَىَ حَدِيثِ صَالِحٍ عَنِ الزّهْرِيّ.
حدّثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيَ الْحُلْوَانِيّ. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمّدُ بْنَ سعْدٍ يُحَدّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ. يَعْنِي حَدِيثَ الزّهْرِيّ الّذِي ذَكَرْنَا. فَقَالَ: فِي حَدِيثِهِ: فَضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ بَيْنَ عُنُقِي وَكَتِفِي. ثُمّ قَالَ: "أَقِتَالاً؟ أَيْ سَعْدُ إِنّي لأُعْطي الرّجُلَ..".
في حديث سعد: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً) إلى آخره. معنى هذا الحديث أن سعداً رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي ناساً ويترك من هو أفضل منهم في الدين، وظن أن العطاء يكون بحسب الفضائل في الدين، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلم حال هذا الإنسان المتروك فأعلمه به وحلف أنه يعلمه مؤمناً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أو مسلماً فلم يفهم منه النهي عن الشفاعة فيه مرة أخرى فسكت ثم رآه يعطي من هو دونه بكثير فغلبه ما يعلم من حسن حال ذلك الإنسان فقال: يا رسول الله مالك عن فلان تذكيراً، وجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هم بعطائه من المرة الأولى ثم نسيه فأراد تذكيره، وهكذا المرة الثالثة إلى أن أعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أن العطاء ليس هو على حسب الفضائل في الدين، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه مخافة أن يكبه الله في النار" معناه إني أعطي ناساً مؤلفة في إيمانهم ضعف لو لم أعطهم كفروا فيكبهم الله في النار، وأترك أقواماً هم أحب إلي من الذين أعطيتهم، ولا أتركهم احتقاراً لهم ولا لنقص دينهم ولا إهمالاً لجانبهم، بل أكلهم إلى ما جعل الله في قلوبهم من النور والإيمان التام، وأثق بأنهم لا يتزلزل إيمانهم لكماله، وقد ثبت هذا المعنى في صحيح البخاري عن عمرو بن تغلب: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بمال أوسي فقسمه فأعطى رجالاً وترك رجالاً فبلغه أن الذين ترك عتبوا فحمد الله تعالى ثم أثنى عليه ثم قال: أما بعد فوالله إني لأعطي الرجل وأدع الرجل والذي أدع أحب إلي من الذي أعطي، ولكني أعطي أقواماً لما أرى في قلوبهم من الجزع والهلع، وأكل أقواماً إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغني والخير). قوله: (أخبرني عامر بن سعد عن أبيه أنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً) هكذا هو في النسخ وهو صحيح وتقديره قال أعطى فحذف لفظة قال: قوله: (وهو أعجبهم إلي) أي أفضلهم عندي. قوله: (فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فساررته فقلت: مالك عن فلان) فيه التأدب مع الكبار، وأنهم يسارون بما كان من باب التذكير لهم والتنبيه ونحوه ولا يجاهرون به فقد يكون في المجاهرة به مفسدة. قوله: (إني لأراه مؤمناً، قال أو مسلماً) هو بفتح الهمزة لأراه وإسكان واو أو مسلماً. وقد سبق شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب الإيمان
*2* باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام وتصبر من قوي إيمانه
*حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التّجِيبِيّ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ أُنَاسَاً مِنَ الأَنْصَارِ قَالُوا، يَوْمَ حُنَيْنٍ، حِينَ أَفَاءَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ مَا أَفَاءَ. فَطَفِقَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي رِجَالاً مِنْ قُرَيْشٍ. الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ. فَقَالُوا: يَغْفِرُ اللّهُ لِرَسُولِ اللّهِ. يُعْطِي قُرَيْشاً وَيَتْرُكُنَا وَسُيْوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ.
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَحُدّثُ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنْ قَوْلِهِمْ. فَأَرْسَلَ إِلَى الأَنْصَارِ. فَجَمَعَهُمْ فِي قُبّةٍ مِنْ أَدَمٍ. فَلَمّا اجْتَمَعُوا جَاءَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُم؟" فَقَالَ لَهُ فُقَهَاءُ الأَنْصَارِ: أَمّا ذَوُو رَأْيِنَا، يَا رَسُولَ اللّهِ فَلَمْ يَقُولُوا شَيْئاً. وَأَمّا أُنَاسٌ مِنّا حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ، قَالُوا: يَغْفِرُ اللّهُ لِرَسُولِهِ. يُعْطِي قُرَيْشاً وَيَتْرُكُنَا، وَسُيُوفُنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنّي أُعْطِي رِجَالاً حَدِيثِي عَهْدٍ بِكُفْرٍ. أَتَأَلّفُهُمْ. أَفَلاَ تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالأَمْوَالِ، وَتَرْجِعُونَ إِلَىَ رِحَالِكُمْ بِرَسُولِ اللّهِ؟ فَوَاللّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ" فَقَالُوا: بَلَىَ. يَا رَسُولَ اللّهِ قَدْ رَضِينَا. قَالَ: "فَإِنّكُمْ سَتَجِدُونَ أُثْرَةً شَدِيدَةً. فَاصْبِرُوا حَتّىَ تَلْقَوُا اللّهَ وَرَسُولَهُ. فَإِنّي عَلَىَ الْحَوْضِ". قَالُوا: سَنَصْبِرُ.
حدّثنا حَسَنٌ الْحُلْوَانِيّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ) حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، حَدّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّهُ قَالَ: لَمّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مَا أَفَاءَ مِنْ أَمْوَالِ هَوَازِنَ. وَاقْتَصّ الْحَدِيثَ بِمِثْلِه. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: فَلَمْ نَصْبِرْ. وَقَالَ: فَأَمّا أُنَاسٌ حَدِيثَةٌ أَسْنَانُهُمْ.
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. حَدّثَنَا ابْنُ أَخِي ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَمّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ. إِلاّ أَنّهُ قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: قَالُوا: نَصْبِرُ. كَرِوَايَةِ يُونُسَ عَنُ الزّهْرِيّ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَابْنُ بَشّارٍ. قَالَ ابْنُ الْمُثَنّىَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ. قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: جَمَعَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الأَنْصارَ. فَقَالَ: "أَفِيكُمْ أَحَدٌ مِنْ غَيْرِكُمْ؟" فَقَالُوا: لاَ. إِلاّ ابْنُ أُخْتٍ لَنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ ابْنَ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ" فَقَالَ: "إِنّ قُرَيْشاً حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيّةٍ وَمُصِيبَةٍ. وَإِنّي أَرَدْتُ أَنْ أَجْبُرَهُمْ وَأَتَأَلّفَهُمْ. أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرْجِعَ النّاسُ بِالدّنْيَا، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولِ اللّهِ إِلَىَ بُيُوتِكُمْ؟ لَوْ سَلَكَ النّاسُ وَادِياً، وَسَلَكَ الأَنْصَارُ شِعْباً، لَسَلَكْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْوَلِيدِ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي التّيّاحِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: لَمّا فُتِحَتْ مَكّةُ قَسَمَ الْغَنَائِمَ فِي قُرَيشٍ فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: إِنّ هَذَا لَهُوَ الْعَجَبُ. إِنّ سُيُوفَنَا تَقْطُرُ مِنْ دِمَائِهِمْ. وَإِنّ غنَائِمَنَا تُرَدّ عَلَيْهِمْ فَبَلَغَ ذِلِكَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَجَمَعَهُمْ. فَقَالَ: "مَا الّذِي بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟" قَالُوا: هُوَ الّذِي بَلَغَكَ. وَكَانُوا لاَ يَكْذِبُونَ. قَالَ "أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَرِجِع النّاسُ بالدّنْيَا إِلَىَ بُيُوتِهِمْ، وَتَرْجِعُونَ بِرَسُولُ اللّهِ إِلَىَ بُيُوتِكُمْ؟ لَوْ سَلَكَ النّاسُ وَادِياً أَوْ شِعْباً، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ وَادِياً أَوْ شِعْباً، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأَنْصَارِ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَإِبْرَاهِيم بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ (يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الاَخَرِ الْحَرْفَ بَعْدَ الْحَرْفِ) قَالاَ: حَدّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ. حَدّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ أَقْبَلَتْ هَوَازِنُ وَغَطفَانُ، بِذَرَاريّهِمْ وَنَعَمِهِمْ. وَمَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ عَشَرَةُ آلاَفٍ. وَمَعَهُ الطّلَقَاءُ. فَأَدْبَرَوا عَنْهُ. حَتّىَ بَقِيَ وَحْدَهُ. قَالَ: فَنَادَىَ يَوْمَئِذٍ نِدَاءَيْنِ. لَمْ يَخْلِطْ بَيْنَهُمَا شَيْئاً. قَالَ: فَالْتَفَتَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ" فَقَالُوا: لَبّيكَ، يَارَسُولَ اللّهِ أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ. قَالَ: ثُمّ الْتَفَتَ عَنْ يَسَارِهِ فَقَالَ "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ" قَالُوا: لَبّيْكَ، يَا رَسُولُ اللّهِ أَبْشِرْ نَحْنُ مَعَكَ. قَالَ: وَهُوَ عَلَىَ بَغْلَةٍ بَيْضَاءَ. فَنَزَلَ فَقَالَ: أَنَا عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ. فَانْهَزَمَ الْمُشْرِكُونَ. وَأَصَابَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَ كَثِيرَةً. فَقَسَمَ فِي الْمُهَاجِرينَ وَالطّلَقَاءِ. وَلَمْ يُعْطِ الأَنْصَارَ شَيْئاً. فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: إِذَا كَانَتِ الشّدَةُ فَنَحْنُ نُدْعَىَ. وَتُعْطَى الْغَنَائِمُ غَيْرَنَا فَبَلَغَهُ ذَلِكَ. فَجَمَعَهُمْ فِي قُبّةٍ. فَقَالَ "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكُمْ؟" فَسَكَتُوا. فَقَالَ "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَمَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالدّنْيَا وَتَذْهَبُونَ بِمُحَمّدٍ تَحُوزُونَهُ إِلَىَ بُيُوتِكُمْ؟" قَالُوا: بَلَىَ: يَا رَسُولَ اللّهِ رَضِينَا. قَالَ: فَقَالَ "لَوْ سَلَكَ النّاسُ وَادِياً، وَسَلَكَتِ الأَنْصَارُ شِعْبَاً، لأَخَذْتُ شِعْبَ الأَنْصَارِ".
قَالَ هِشَامٌ: فَقُلْتُ: يَا أَبَا حَمْزَةَ أَنْتَ شَاهِدٌ؟ قَالَ وَأَيْنَ أَغِيبُ عَنْهُ؟.
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ وَحَامِدُ بْنُ عُمَرَ وَمُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ. قَالَ ابْنُ مُعَاذٍ: حَدّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: حَدّثَنِي السّمَيْط عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: افْتَتَحْنَا مَكّةَ. ثُمّ إِنّا غَزَوْنَا حُنَيْناً. فَجَاءَ الْمُشْرِكُونَ بِأَحْسَنِ صُفُوفٍ رَأَيْتُ. قَالَ: فَصُفّتِ الْخَيْلُ. ثُمّ صُفّتِ المُقَاتِلَةُ. ثُمّ صُفّتِ النّسَاءُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ. ثُمّ صُفّتِ الغَنَمُ. ثُمّ صُفّتِ النّعَمُ. قَالَ: وَنَحْنُ بَشَرٌ كَثِيرٌ. قَدْ بَلَغْنَا سِتّةَ آلاَفٍ. وَعَلَىَ مُجَنّبَةِ خَيْلِنَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قَالَ: فَجَعَلَتْ خَيْلُنَا تَلْوِي خَلْفَ ظُهُورِنَا. فَلَمْ نَلْبَثْ أَنِ انْكَشَفَتْ خَيْلُنَا، وَفَرّتِ الأَعْرَابُ، وَمَنْ نَعْلَمُ مِنَ النّاسِ. قَالَ: فَنَادَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَآلَ الْمُهَاجِرِينَ، يَآلَ الْمُهَاجِرِينَ". ثُمّ قَالَ: "يَآلَ الأَنْصَارِ يَآلَ الأَنْصَارِ". قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: هَذَا حَدِيثُ عِمّيّةٍ. قَالَ: قُلْنَا: لَبّيْكَ. يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: فَتَقَدّمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَأَيْمُ اللّهِ مَا أَتَيْنَاهُم حَتّىَ هَزَمَهُمُ اللّهُ. قَالَ: فَقَبَضْنَا ذَلِكَ الْمَالَ. ثُمّ انْطَلَقْنَا إِلَىَ الطّائِفِ فَحَاصَرْنَاهُمْ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً. ثُمّ رَجَعْنَا إِلَىَ مَكّةَ فَنَزَلْنَا. قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِي الرّجُلَ الْمِائَةَ مِنَ الإِبِلِ.
ثِمّ ذَكَرَ بَاقِي الْحَدِيثِ. كَنَحْوِ حَدِيثِ قَتَادَةَ، وَأَبِي التّيّاحِ، وهِشَامِ بْنِ زَيْدٍ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكّيّ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: أَعْطَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، وَصَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ، وَعُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ، والأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، كُلّ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ، مِائَةً مِنَ الإِبُلِ. وَأَعْطَىَ عَبّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ دُونَ ذَلِكَ. فَقَالَ عَبّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ:
أَتَجْعَلُ نَهْبِي وَنَهْبَ الْعُبَيْدِ بَيْنَ عُيَيْنَةَ وَالأَقْرَعِ؟
فَمَا كَانَ بَدْرٌ وَلاَ حَابِسٌيَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي الْمَجْمَعِ
وَمَا كُنْتُ دُونَ امْرِئٍ مِنْهُمَاوَمَنْ تَخْفِضِ الْيَوْمَ لاَ يُرْفَعِ
قَالَ: فَأَتَمّ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِائَةً.
وحدّثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ الضّبّيّ. أَخْبَرَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ بِهَذَا الاْسْنَادِ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ. فَأَعْطَىَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ مِائَةً مِنَ الاْبِلِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِهِ. وَزَادَ: وَأَعْطَىَ عَلْقَمَةَ بْنَ عُلاَثَةَ مِائَةً.
م 2 حع...) وحدّثنا مَخْلَدُ بْنُ خَالِدٍ الشّعِيرِيّ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ. حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ سَعِيدٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ عَلْقَمَةَ بْنَ عُلاَثَةَ، وَلاَ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ. وَلَمْ يَذْكُرِ الشّعْرَ فِي حَدِيثِهِ.
حدّثنا سُرَيْجُ بْنِ يُونُسَ. حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَىَ بْنِ عُمَارَةَ، عَنْ عَبّادِ بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَمّا فَتَحَ حُنَيْنَاً قَسَمَ الْغَنَائِمَ. فَأَعْطَىَ الْمُؤَلّفَةَ قُلُوبُهُمْ. فَبَلَغَهُ أَنّ الأَنْصَارَ يُحِبّونَ أَنْ يُصيِبُوا مَا أَصَابَ النّاسُ. فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَخَطَبَهُمْ. فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ. ثُمّ قَالَ "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلاّلاً، فَهَدَاكُمُ اللّهُ بِي؟ وَعَالَةً، فَأَغْنَاكُمُ اللّهُ بِي؟ وَمُتَفَرّقِينَ، فَجَمَعَكُمُ اللّهُ بِي" وَيَقُولُونَ: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ. فَقَالَ "أَلاَ تُجِيبُونِي؟" فَقَالُوا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنّ. فَقَالَ: أَمَا إِنّكُمْ لَوْ شِئْتُمْ أَنْ تَقُولُوا كَذَا وَكَذَا. وَكَانَ مِنَ الأَمْرِ كَذَا وَكَذَا". لاِءَشَيْاءَ عَدّدَهَا. زَعَمَ عَمْرٌو أَنْ لاَ يَحْفَظُهَا. فَقَال "أَلاَ تَرْضَونَ أَنْ يَذْهَبَ النّاسُ بِالشّاءِ وَالإِبْلِ، وَتَذُهبُونَ بِرَسُولِ اللّهِ إِلَى رِحَالِكُمْ؟ "الأَنْصَارُ شِعَارٌ وَالنّاسُ دِثَارٌ. وَلَوْلاَ الْهِجْرَةُ لَكُنْتُ امْرَأً مِنَ الأَنْصَارِ. وَلَوْ سَلَكَ النّاسُ وَادِياً وَشِعْباً، لَسَلَكْتُ وَادِيَ الأَنْصَارِ وَشِعْبَهُمْ. إِنّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتّىَ تَلْقَوْنِي عَلَىَ الْحَوْضِ".
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَعُثْمَان بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَإِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ) عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ آثَرَ، رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم نَاساً فِي الْقِسْمَةِ. فَأَعْطَىَ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ. وَأَعْطَىَ عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ. وَأَعْطَىَ أُنَاساً مِنْ أَشْرَافِ الْعَرَبِ. وَآثَرَهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْقِسْمَةِ. فَقَالَ رَجُلٌ: وَاللّهِ إِنّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا عُدِلَ فِيهَا، وَمَا أُرِيدَ فِيهَا وَجْهُ اللّهِ. قَالَ فَقُلْتُ: وَاللّهِ لأُخْبِرَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا قَالَ. قَالَ: فَتَغَيّرَ وَجْهُهُ حَتّىَ كَانَ كَالصّرْفِ. ثُمّ قَالَ: فَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ يَعْدِلِ اللّهُ وَرَسُولُهُ" قَالَ: ثُمّ قَالَ: "يَرْحَمُ اللّهُ مُوسَىَ. قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ".
قَالَ قُلْتُ: لاَ جَرَمَ لاَ أَرْفَعُ إِلَيْهِ بَعْدَها حَدِيثاً.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا حَفْصُ بْنِ غَيَاثٍ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَسْماً. فَقَالَ رَجُلٌ: إِنّهَا لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللّهِ. قَالَ: فَأَتَيْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَسَارَرْتُهُ. فَغَضِبَ مِنْ ذَلِكَ غَضَباً شَدِيداً. وَاحْمَرّ وَجْهُهُ حَتّىَ تَمَنّيْتُ أَنّي لَمْ أَذْكُرْهُ لَهُ. قَالَ: ثُمّ قَالَ: "قَدْ أُوذِيَ مُوسَىَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ".
قوله في حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى يوم حنين من غنائم هوازن رجالاً من قريش المائة من الإبل فعتب ناس من الأنصار) إلى آخره. قال القاضي عياض: ليس في هذا تصريح بأنه صلى الله عليه وسلم أعطاهم قبل إخراج الخمس وأنه لم يحسب ما أعطاهم من الخمس، قال: والمعروف في باقي الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم إنما أعطاهم من الخمس، ففيه أن للإمام صرف الخمس وتفضيل الناس فيه على ما يراه، وأن يعطى الواحد منه الكثير، وأنه يصرفه في مصالح المسلمين، وله أن يعطي الغني منه لمصلحة قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنكم ستجدون أثرة شديدة" فيها لغتان: إحداهما ضم الهمزة وإسكان الثاء وأصحهما وأشهرهما بفتحهما جميعاً، والأثرة الاستئثار بالمشترك أي يستأثر عليكم ويفضل عليكم غيركم بغير حق. قوله صلى الله عليه وسلم: "ابن أخت القوم منهم" استدل به من يورث ذوي الأرحام وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وآخرين، ومذهب مالك والشافعي وآخرين أنهم لا يرثون، وأجابوا بأنه ليس في هذا اللفظ ما يقتضي توريثه، وإنما معناه أن بينه وبينهم ارتباطاً وقرابة ولم يتعرض للإرث، وسياق الحديث يقتضي أن المراد أنه كالواحد منهم في إفشاء سرهم بحضرته ونحو ذلك والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "لسلكت شعب الأنصار" قال الخليل: هو ما انفرج بين جبلين. وقال ابن السكيت: هو الطريق في الجبل، وفيه فضيلة الأنصار ورجحانهم. قوله: (وإبراهيم بن محمد بن عرعرة) هو بعينين مهملتين مفتوحتين. قوله: (ومعه الطلقاء) هو بضم الطاء وفتح اللام وبالمد، وهم الذين أسلموا يوم فتح مكة وهو جمع طليق، يقال ذاك لمن أطلق من أسار أو وثاق، قال القاضي في المشارق: قيل لمسلمي الفتح الطلقاء لمن النبي صلى الله عليه وسلم عليهم. قوله: (ومع النبي صلى الله عليه وسلم يومئذٍ عشرة آلاف ومعه الطلقاء) وقال في الرواية التي بعد هذه: نحن بشر كثير قد بلغنا ستة آلاف. الرواية الأولى أصح لأن المشهور في كتب المغازي أن المسلمين كانوا يومئذٍ اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف شهدوا الفتح وألفان من أهل مكة ومن أنضاف إليهم، وهذا معنى قوله معه عشرة آلاف ومعه الطلقاء. قال القاضي: قوله ستة آلاف وهم من الراوي عن أنس والله أعلم. قوله: (حدثني السميط عن أنس) هو بضم السين المهملة تصغير سمط. قوله: (وعلى مجنبة خيلنا خالد) المجنبة بضم الميم وفتح الجيم وكسر النون قال شمر: المجنبة هي الكتيبة من الخيل التي تأخذ جانب الطريق الأيمن وهما مجنبتان ميمنة وميسرة بجانبي الطريق والقلب بينهما. قوله: (فجعلت خيلنا تلوي خلف ظهورنا) هكذا هو في أكثر النسخ، وفي بعضها تلوذ وكلاهما صحيح. قوله صلى الله عليه وسلم: "يال المهاجرين يال المهاجرين ثم قال يال الأنصار يال الأنصار" هكذا في جميع النسخ في المواضع الأربعة يال بلام مفصولة مفتوحة والمعروف وصلها بلام التعريف التي بعدها. قوله: (قال أنس هذا حديث عمية) هذه اللفظة ضبطوها في صحيح مسلم على أوجه: أحدها عمية بكسر العين والميم وتشديد الميم والياء قال القاضي: كذا روينا هذا الحرف عن عامة شيوخنا قال وفسر بالشدة. والثاني: عمية كذلك إلا أنه بضم العين. والثالث: عمية بفتح العين وكسر الميم المشددة وتخفيف الياء وبعدها هاء السكت أي حدثني به عمي، وقال القاضي على هذا الوجه معناه عندي جماعتي أي هذا حديثهم، قال صاحب العين: العم الجماعة وأنشد عليه بن دريد في الجمهرة: أفنيت عما وجبرت عما. قال القاضي: وهذا أشبه بالحديث. والوجه الرابع كذلك إلا أنه بتشديد الياء وهو الذي ذكره الحميدي صاحب الجمع بين الصحيحين وفسره بعمومتي أي هذا حديث فضل أعمامي، أو هذا الحديث الذي حدثني به أعمامي، كأنه حدث بأول الحديث عن مشاهدة، ثم لعله لم يضبط هذا الموضع لتفرق الناس فحدثه به من شهده من أعمامه أو جماعته الذين شهدوه ولهذا قال بعده قال: قلنا لبيك يا رسول الله والله أعلم.
قوله: (أتجعل نهبي ونهب العبيد) العبيد اسم فرسه. قوله: (يفوقان مرداس في المجمع) هكذا هو في جميع الروايات مرداس غير مصروف وهو حجة لمن جوز ترك الصرف بعلة واحدة، وأجاب الجمهور بأنه في ضرورة الشعر. قوله: (وعلقمة بن علاثة) هو بضم العين المهملة وتخفيف اللام وبثاء مثلثة. قوله: (وحدثنا مخلد بن خالد الشعيري) هو بفتح الشين المعجمة وكسر العين منسوب إلى الشعير الحب المعروف وهو مخلد بن خالد بن يزيد أبو محمد بغدادي سكن طرسوس، روى عن عبد الرزاق بن همام وإبراهيم بن خالد الصنعانيين وسفيان، روى عنه مسلم وأبو داود وابن عوف البزدوي وابنه أحمد بن أبي عوف والمنذر بن شاذان، قال أبو داود: وهو ثقة، وذكر هذه الجملة من أحواله الحافظ عبد الغني المقدسي، وذكره أبو محمد ابن أبي حاتم في كتابه المشهور في الجرح والتعديل مختصراً، وذكره الحافظ أبو الفضل محمد بن طاهر بن علي بن أحمد المقدسي في كتابه رجال الصحيحين فقال: مخلد بن خالد الشعيري سمع سفيان بن عيينة في الزكاة، وإنما ذكرت هذا كله لأن القاضي عياض قال: لم أجد أحداً ذكر مخلد بن خالد الشعيري في رجال الصحيح ولا في غيرهم، قال: ولم يذكره الحاكم ولا الباجي ولا الجياني ومن تكلم على رجال الصحيح ولا أحد من أصحاب المؤتلف والمختلف ولا من أصحاب التقييد، ولا ذكروا مخلد بن خالد غير منسوب أصلاً، وبسط القاضي الكلام في إنكار هذا الاسم وأنه ليس في الرواة أحد يسمى مخلد بن خالد لا في الصحيح ولا في غيره وضم إليه كلاماً عجيباً، وهذا الذي ذكره من العجائب، فمخلد بن خالد مشهور كما ذكرناه أولاً وبالله التوفيق.
قوله صلى الله عليه وسلم: "الأنصار شعار والناس دثار" قال أهل اللغة: الشعار الثوب الذي يلي الجسد، والدثار فوقه، ومعنى الحديث الأنصارهم البطانة والخاصة والأصفياء وألصق بي من سائر الناس، وهذا من مناقبهم الظاهرة وفضائلهم الباهرة.
قوله: (فتغير وجهه حتى كان كالصرف) هو بكسر الصاد المهملة وهو صبغ أحمر تصبغ به الجلود، قال ابن دريد: وقد يسمى الدم أيضاً صرفاً. قوله: (فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله) قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: حكم الشرع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم كفر وقتل، ولم يذكر في هذا الحديث أن هذا الرجل قتل، قال المازري: يحتمل أن يكون لم يفهم منه الطعن في النبوة وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة، والمعاصي ضربان كبائر وصغائر، فهو صلى الله عليه وسلم معصوم من الكبائر بالإجماع، واختلفوا في إمكان وقوع الصغائر، ومن جوزها منع من إضافتها إلى الأنبياء على طريق التنقيص، وحينئذٍ فلعله صلى الله عليه وسلم لم يعاقب هذا القائل لأنه لم يثبت عليه ذلك، وإنما نقله عنه واحد وشهادة الواحد لا يراق بها الدم. قال القاضي: هذا التأويل باطل يدفعه قوله: اعدل يا محمد، واتق الله يا محمد، وخاطبه خطاب المواجهة بحضرة الملأ، حتى استأذن عمر وخالد النبي صلى الله عليه وسلم في قتله فقال معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه، فهذه هي العلة وسلك معه مسلكه مع غيره من المنافقين الذين آذوه وسمع منهم في غير موطن ما كرهه، لكنه صبر استبقاء لانقيادهم وتأليفاً لغيرهم لئلا يتحدث الناس أنه يقتل أصحابه فينفروا، وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعتهم وعدوه من جملتهم
*2* باب ذكر الخوارج وصفاتهم
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: أَتَىَ رَجُلٌ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْجِعْرَانَةِ. مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ. وَفِي ثَوْبِ بِلاَلٍ فِضّةٌ. وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْبِضُ مِنْهَا. يُعْطِي النّاسَ. فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ اعْدِلْ. قَالَ: "وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ" فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ دَعْنِي. يَا رَسُولَ اللّهِ فَأَقْتُلَ هَذَا الْمُنَافِقَ. فَقَالَ: "مَعَاذَ اللّهِ أَنْ يَتَحَدّثَ النّاسُ أَنّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي. إِنّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ. لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ. يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ الثّقَفِيّ. قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْن عَبْدِ اللّهِ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ الْحُبَابِ. حَدّثَنِي قُرّةُ بْنُ خَالِدٍ. حَدّثَنِي أَبُو الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْسِمُ مَغَانِمَ وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
حدّثنا هَنّادُ بْنُ السّرِيّ. حَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي نُعْمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: بَعَثَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ وَهُوَ بِالْيَمَنِ، بِذَهَبَةٍ فِي تُرْبَتِهَا، إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيّ، وَعُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيّ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ الْعَامِرِيّ، ثُمّ أَحَدُ بَنِي كِلاَبٍ، وَزَيْدُ الْخَيْرِ الطّائِيّ، ثُمّ أَحَدِ بَنِي نَبْهانَ. قَالَ: فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ. فَقَالُوا: أَيعْطِي صَنادِيدَ نَجْدٍ وَيدَعُنَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّي إِنّما فَعَلْتُ ذَلِكَ لأَتَأَلفَهُمْ" فَجَاءَ رَجُلٌ كَثّ اللّحْيَة. مُشْرِفُ الوَجْنَتَيْنِ. غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ. نَاتِئُ الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرّأْسِ. فَقَالَ: اتّقِ اللّهَ. يَا مُحَمّدُ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَمَنْ يُطِعِ اللّهَ إِنْ عَصَيْتُهُ أَيَأْمَنُنِي عَلَىَ أَهْلِ الأَرْضِ وَلاَ تَأْمَنُونِي؟" قَالَ: ثُمّ أَدْبَرَ الرّجُلُ. فَاسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ فِي قَتْلِهِ. (يرَوْنَ أَنّهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ) فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ مِنْ ضِئْضِئْ هَذَا قَوْماً يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ. يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ. وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ. يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ. لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنّهُمْ قَتْلَ عَادٍ".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي نُعْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولُ: بَعَثَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، مِنَ الْيَمَنِ، بِذَهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ. لَمْ تُحَصّلْ مِنْ تُرَابِهَا. قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: بَيْنَ عُييْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرّابِعُ إِمّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ وأَمّا عَامِرُ بْنُ الطّفَيْلِ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنّا نَحْنُ أَحَقّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاءِ. قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ "أَلاَ تَأْمَنُونِي؟ وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السّمَاءِ صَبَاحاً وَمَسَاءً" قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ. مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ. نَاشِزُ الْجَبْهَةِ. كَثّ اللّحْيَةِ. مَحْلُوقُ الرّأْسِ. مُشَمّرُ الإِزَارِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اتّقِ اللّهِ. فَقَالَ "وَيْلَكَ أَوَ لَسْتُأَحَقّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتّقِيَ اللّهَ" قَالَ: ثُمّ وَلّى الرّجُلُ. فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: "لاَ. لَعَلّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلّي". قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلَ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النّاسِ. وَلاَ أَشُقّ بُطُونَهُمْ" قَالَ: ثُمّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفَ، فَقَالَ: "إِنّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتابَ اللّهِ. رَطْباً لاَ يُجَاوزُ حَنَاجِرَهُمْ. يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ". قَالَ: أَظنّهُ قَالَ: "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ".
حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بِهَذَا الإِسْنَادِ قَالَ: وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ. وَلَمْ يَذْكُرْ عَامِرَ بْنَ الطّفَيْلِ. وَقَالَ: نَاتِيءُ الْجَبْهَةِ. وَلَمْ يَقُلْ: نَاشِز. وَزَادَ: فَقَامَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ "لاَ". قَالَ: ثُمّ أَدْبَرَ فَقَامَ إِلَيْهِ خَالِدٌ، سَيْفُ اللّهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ "لاَ"، فَقَالَ "إِنّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتَابَ اللّهِ لياً رَطباً". وَقَالَ: قَالَ عُمَارَةُ: حَسِبْتُهُ قَالَ "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ".
وحدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ الْقَعْقَاعِ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَقَالَ: بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: زَيْدُ الْخَيْرِ، والأَقْرَعِ بْنُ حَابِسٍ، وَعُيَيْنَةَ بْنُ حِصْنٍ، وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ أَوْ عَامِرُ بْنِ الطّفَيْلِ. وَقَالَ: نَاشِزُ الْجَبْهَةِ. كَرِوَايَةِ عَبْدِ الْوَاحِدِ. وَقَالَ: إِنّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمٌ وَلَمْ يَذْكُرْ "لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنّهُمْ قَتْلَ ثَمُودَ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ. قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي مُحَمّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ وَعَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنّهُمَا أَتَيَا أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ فَسَأَلاَهُ عَنِ الحَرُورِيّةِ؟ هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُهَا؟ قَالَ: لاَ أَدْرِي مَنِ الْحَرُورِيّةُ. وَلَكِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَخْرُجُ فِي هَذِهِ الأُمّةِ (وَلَمْ يَقُلْ: مِنْها) قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ. فَيَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ. لاَ يُجَاوِزُ حُلُوقَهُمْ (أَو حَنَاجِرَهُمْ) يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ مُرُوقَ السّهْمِ مِنَ الرّمِيّةِ. فَيَنْظُرُ الرّامِي إِلَىَ سَهْمِهِ. إِلَىَ نَصْلِهِ. إِلىَ رِصَافِهِ فَيَتَمَارَىَ في الْفُوقَةِ. هَلْ عَلِقَ بِهَا مِنَ الدّمِ شَيْءٌ".
حدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ. ح وَحَدّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ وَأَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْفِهْرِيّ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَالضّحّاكُ الْهَمْدَانِيّ أَنّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْماً. أَتَاهُ ذُو الخُوَيْصِرَةِ. وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اعْدِلْ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضي اللّهِ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِئْذَنْ لِي فيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "دَعْهُ. فَإِنّ لَهُ أَصْحَاباً يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ. وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ. يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ. لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ. يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ. يُنْظَرُ إِلَىَ نَصْلِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ. ثُمّ يُنْظَرُ إِلَىَ رِصَافِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ. ثُمّ يُنْظَرُ إِلَىَ نَضِيّهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ (وَهُوَ الْقِدْحُ) ثُمّ يُنْظَرُ إِلَىَ قُذَذِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ. سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدّمَ. آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ. إِحْدَىَ عَضُدَيْهِ مِثْلَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ. أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ. يَخْرُجُونَ عَلَىَ حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النّاسِ". قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنّي سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَشْهَدُ أَنّ عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ. فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرّجُلِ فَالْتُمِسَ. فَوُجِدَ. فَأُتِيَ بِهِ. حَتّىَ نَظَرْتُ إِلَيْهِ، عَلَىَ نَعْتِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الّذِي نَعَتَ.
وحدّثنى مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم ذَكَرَ قَوْماً يَكُونُونَ فِي أُمّتِهِ. يَخْرُجُونَ فِي فُرْقَةٍ مِنَ النّاسِ. سِيمَاهُمُ التّحَالُقُ. قَالَ: "هُمْ شَرّ الْخَلْقِ (أَوْ مِنْ أَشَرّ الْخَلْقِ) يَقْتُلُهُمْ أَدْنَىَ الطّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقّ". قَالَ: فَضَرَبَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ مَثَلاً. أَوْ قَالَ قَوْلاً: "الرّجُلُ يَرْمِي الرّمِيّةَ (أَوْ قَالَ الغَرَضَ) فَيَنْظُرُ فِي النّصْلِ فَلاَ يَرَىَ بَصِيرَةً. وَيَنْظُرُ فِي النّضِيّ فَلاَ يَرَىَ بَصِيرَةً. وَيَنْظُرُ فِي الفُوقِ فَلاَ يَرَىَ بَصِيرَةً". قَالَ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَأَنْتُمْ قَتَلْتُمُوهُمْ. يَا أَهْلَ الْعِرَاقِ.
حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ حَدّثَنَا الْقَاسِمُ (وَهُوَ ابْنُ الْفَضْلِ الْحُدّانِيّ) حَدّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَال: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: تَمْرُقُ مَارِقَةٌ عِنْدَ فُرْقَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. يَقْتُلُهَا أَوْلَىَ الطّائِفَتَيْنِ بِالْحَقّ".
حدّثنا أَبُو الرّبِيعِ الزّهْرَانِيّ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. قَالَ قُتَيْبَةُ: حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "يَكُونُ فِي أُمّتِي فِرْقَتَانِ فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ. يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلاَهُمَا بِالْحَقّ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَىَ. حَدّثَنَا دَاوُدُ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "تَمْرُقُ مَارِقَةٌ فِي فُرْقَةٍ مِنَ النّاسِ. فَيَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلَى الطّائِفَتَيْنِ بِالْحَقّ".
حدّثني عُبَيْدُ اللّهِ الْقَوَارِيرِيّ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الزّبَيْرِ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنِ الضّحّاكِ الْمِشْرَقِيّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيّ، عَن النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي حَدِيثٍ ذَكَرَ فِيهِ قَوْماً يَخْرُجُونَ عَلَىَ فِرْقَةٍ مُخْتَلِفَةٍ. يَقْتُلُهُمْ أَقْرَبُ الطّائِفَتَيْنِ مِنَ الْحَقّ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن يعدل إذا لم أكن أعدل لقد خبت وخسرت" روي بفتح التاء في خبت وخسرت وبضمهما فيهما، ومعنى الضم ظاهر وتقدير الفتح خبت أنت أيها التابع إذا كنت لا أعدل لكونك تابعاً ومقتدياً بمن لا يعدل والفتح أشهر والله أعلم. قوله: (فقال عمر بن الخطاب دعني يا رسول الله فأقتل هذا المنافق) وفي روايات أخر: أن خالد بن الوليد استأذن في قتله، ليس فيهما تعارض بل كل واحد منهما استأذن فيه. قوله صلى الله عليه وسلم: "يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم" قال القاضي: فيه تأويلان أحدهما معناه لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما تلوا منه ولا لهم حظ سوى تلاوة الفم والحنجرة والحلق إذ بهما تقطيع الحروف. والثاني معناه لا يصعد لهم عمل ولا تلاوة ولا يتقبل. قوله صلى الله عليه وسلم: "يمرقون منه كما يمرق السهم من الرمية" وفي الرواية الأخرى: "يمرقون من الإسلام" وفي الرواية الأخرى: "يمرقون من الدين" قال القاضي: معناه يخرجون منه خروج السهم إذا نفذ الصيد من جهة أخرى ولم يتعلق به شيء منه، والرمية هي الصيد المرمى وهي فعيلة بمعنى مفعولة، قال: والدين هنا هو الإسلام كما قال سبحانه وتعالى: {إن الدين عند الله الإسلام) وقال الخطابي: هو هنا الطاعة أي من طاعة الإمام. وفي هذه الأحاديث دليل لمن يكفر الخوارج. قال القاضي عياض رحمه الله تعالى: قال المازري اختلف العلماء في تكفير الخوارج قال: وقد كادت هذه المسألة تكون أشد إشكالاً من سائر المسائل، ولقد رأيت أبا المعالي وقد رغب إليه الفقيه عبد الحق رحمهما الله تعالى في الكلام عليها فرهب له من ذلك واعتذر بأن الغلط فيها يصعب موقعه لأن إدخال كافر في الملة وإخراج مسلم منها عظيم في الدين، وقد اضطرب فيها قول القاضي أبي بكر الباقلاني. وناهيك به في علم الأصول، وأشار ابن الباقلاني إلى أنها من المعوصات لأن القوم لم يصرحوا بالكفر وإنما قالوا أقوالاً تؤدي إليه، وأنا أكشف لك نكتة الخلاف وسبب الإشكال، وذلك أن المعتزلي مثلاً يقول: إن الله تعالى عالم ولكن لا علم له وحي ولا حياة له، يوقع الالتباس في تكفيره لأن علمنا من دين الأمة ضرورة أن من قال ان الله تعالى ليس يجي ولا عالم كان كافراً وقامت الحجة على استحالة كون العالم لا علم له، فهل نقول أن المعتزلي إذا نفى العلم نفى أن يكون الله تعالى عالماً وذلك كفر بالإجماع، ولا ينفعه اعترافه بأنه عالم مع نفيه أصل العلم، أو نقول قد اعترف بأن الله تعالى عالم وإنكاره العلم لا يكفره، وإن كان يؤدي إلى أنه ليس بعالم فهذا موضع الإشكال، هذا كلام المازري ومذهب الشافعي وجماهير أصحابه العلماء أن الخوارج لا يكفرون وكذلك القدرية وجماهير المعتزلة وسائر أهل الأهواء، قال الشافعي رحمه الله تعالى: أقبل شهادة أهل الأهواء إلا الخطابية وهم طائفة من الرافضة يشهدون لموافقيهم في المذهب بمجرد قولهم فرد شهادتهم لهذا لا لبدعتهم والله أعلم.
قوله: (بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن بذهبة في تربتها) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا بذهبة بفتح الذال، وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم عن الجلودي، قال: وفي رواية ابن ماهان بذهيبة على التصغير. قوله في هذه الرواية: (عيينة بن بدر الفزاري) وكذا في الرواية التي بعد هذه رواية قتيبة قال فيها عيينة بن بدر، وفي بعض النسخ في الثانية عيينة بن حصن، وفي معظمها عيينة بن بدر، ووقع في الرواية التي قبل هذه وهي الرواية التي فيها الشعر عيينة بن حصن في جميع النسخ وكله صحيح، فحصن أبوه وبدر جد أبيه، فنسب تارة إلى أبيه وتارة إلى جد أبيه لشهرته، ولهذا نسبه إليه الشاعر في قوله:
فما كان بدر ولا حابس
وهو عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جويرية بن لوذان بن ثعلبة بن عدي بن فزارة بن دينار الفزاري. قوله في هذه الرواية: (وزيد الحير الطائي) كذا هو في جميع النسخ الخير بالراء، وفي الرواية التي بعدها زيد الخيل باللام وكلاهما صحيح يقال بالوجهين، كان يقال له في الجاهلية زيد الخيل فسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام زيد الخير. قوله: (أيعطي صناديد نجد) أي ساداتها وأحدهم صنديد بكسر الصاد. قوله: (فجاء رجل كث اللحية مشرف الوجنتين) أما كث اللحية فبفتح الكاف وهو كثيرها، والوجنة بفتح الواو وضمها وكسرها، ويقال أيضاً أجنة وهي لحم الخد. قوله: (ناتئ الجبين) هو بهمز ناتئ، وأما الجبين فهو جانب الجبهة، ولكل إنسان جبينان يكتنفان الجبهة. قوله صلى الله عليه وسلم: (إن من ضئضيء هذا قوماً) هو بضادين معجمتين مكسورتين وآخره مهموز وهو أصل الشيء، وهكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وحكاه القاضي عن الجمهور وعن بعضهم أنه ضبطه بالمعجمتين والمهملتين جميعاً وهذا صحيح في اللغة، قالوا: ولأصل الشيء أسماء كثيرة منها الضئضيء بالمعجمتين والمهملتين، والنجار بكسر النون، والنحاس والسنخ بكسر السين وإسكان النون وبخاء معجمة، والعنصر والعنض والأرومة. قوله صلى الله عليه وسلم: "لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد" أي قتلاً عاماً مستأصلاً كما قال تعالى: {فهل ترى لهم من باقية} وفيه الحث على قتالهم وفضيلة لعلي رضي الله عنه في قتالهم. قوله: (في أديم مقروظ) أي مدبوغ بالقرظ. قوله: (لم تحصل من ترابها) أي لم تميز. قوله في هذه الرواية: (والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل) قال العلماء: ذكر عامر هنا غلط ظاهر لأنه توفي قبل هذا بسنين، والصواب الجزم بأنه علقمة بن علاثة كما هو مجزوم باقي الروايات والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" معناه أني أمرت بالحكم بالظاهر والله يتولى السرائر كما قال صلى الله عليه وسلم: "فإذا قالوا ذلك فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" وفي الحديث: "هلا شققت عن قلبه". قوله: (وهو مقف) أي مولى قد أعطانا قفاه. قوله صلى الله عليه وسلم: "يتلون كتاب الله تعالى ليناً رطباً" هكذا هو في أكثر النسخ ليناً بالنون أي سهلاً، وفي كثير من النسخ ليا بحذف النون، وأشار القاضي إلى أنه رواية أكثر شيوخهم، قال: ومعناه سهلاً لكثرة حفظهم، قال: وقيل ليا أي يلوون ألسنتهم به أي يحرفون معانيه وتأويله؟ قال: وقد يكون من اللي في الشهادة وهو الميل قاله ابن قتيبة. قوله: (فسألاه عن الحرورية) هم الخوارج سموا حرورية لأنهم نزلوا حروراء، وتعاقدوا عندها على قتال أهل العدل، وحروراء بفتح الحاء وبالمد قرية بالعراق قريبة من الكوفة، وسموا خوارج لخروجهم على الجماعة، وقيل لخروجهم عن طريق الجماعة، وقيل لقوله صلى الله عليه وسلم: "يخرج من ضئضيء هذا" قوله: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج في هذه الأمة ولم يقل منها) قال المازري: هذا من أدل الدلائل على سعة علم الصحابة رضي الله عنهم ودقيق نظرهم وتحريرهم الألفاظ وفرقهم بين مدلولاتها الخفية، لأن لفظة من تقتضي كونهم من الأمة لا كفاراً بخلاف في، ومع هذا فقد جاء بعد هذا من رواية علي رضي الله عنه: (يخرج من أمتي قوم) وفي رواية أبي ذر: (أن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي) وقد سبق الخلاف في تكفيرهم وأن الصحيح عدم تكفيرهم. قوله صلى الله عليه وسلم: "فينظر الرامي إلى نصله إلى رصافه فيتمارى في الفوقة" وفي الرواية الأخرى: "ينظر إلى نضيه" وفيها: "ثم ينظر إلى قذذه" وفي الرواية الأخرى: "فينظر في النضي فلا يرى بصيرة وينظر في الفوق فلا يرى بصيرة" أما الرصاف فبكسر الراء وبالصاد المهملة وهو مدخل النصل من السهم، والنصل هو حديدة السهم، والقدح عوده، والقذذ بضم القاف وبذالين معجمتين وهو ريش السهم، والفوق والفوقة بضم الفاء الفاء هو الحز الذي يجعل فيه الوتر، والنضي بفتح النون وكسر الضاد المعجمة وتشديد الياء وهو القدح، كذا جاء في كتاب مسلم مفسراً، وكذا قاله الأصمعي. وأما البصير فبفتح الباء الموحدة وكسر الصاد المهملة وهي الشيء من الدم أي لا يرى شيئاً من الدم يستدل به على إصابة الرمية. قوله صلى الله عليه وسلم: "قد خبت وخسرت إن لم أعدل" قد سبق الخلاف في فتح التاء وضمها في هذا الباب. قوله صلى الله عليه وسلم: "ومثل البضعة تدردر" البضعة بفتح الباء لا غير وهي القطعة من اللحم، وتدردر معناه تضطرب وتذهب وتجيء. قوله صلى الله عليه وسلم: "يخرجون على حين فرقة من الناس" ضبطوه في الصحيح بوجهين: أحدهما حين فرقة بحاء مهملة مكسورة ونون، وفرقة بضم الفاء أي في وقت افتراق الناس أي افتراق يقع بين المسلمين وهو الافتراق الذي كان بين علي ومعاوية رضي الله عنهما.
والثاني خير فرقة بخاء معجمة مفتوحة وراء وفرقة بكسر الفاء أي أفضل الفرقتين والأول أشهر وأكثر، ويؤيده الرواية التي بعد هذه: (يخرجون في فرقة من الناس) فإنه بضم الفاء بلا خلاف ومعناه ظاهر، وقال القاضي على رواية الخاء المعجمة المراد وخير القرون وهم الصدر الأول، قال: أو يكون المراد علياً وأصحابه فعليه كان خروجهم حقيقة لأنه كان الإمام حينئذٍ، وفيه حجة لأهل السنة أن علياً كان مصيباً في قتاله والاَخرون بغاة لا سيما مع قوله صلى الله عليه وسلم: "يقتلهم أولي الطائفتين بالحق" وعلي وأصحابه الذين قتلوهم. وفي هذا الحديث معجزات ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أخبر بهذا وجرى كله كفلق الصبح، ويتضمن بقاء الأمة بعده صلى الله عليه وسلم وأن لهم شوكة وقوة خلاف ما كان المبطلون يشيعونه، وأنهم يفترقون فرقتين، وأنه يخرج عليه طائفة مارقة، وأنهم يشددون في الدين في غير موضع التشديد، ويبالغون في الصلاة والقراءة، ولا يقيمون بحقوق الإسلام بل يمرقون منه، وأنهم يقاتلون أهل الحق وأن أهل الحق يقتلونهم، وأن فيهم رجلاً صفة يده كذا وكذا، فهذه أنواع من المعجزات جرت كلها ولله الحمد.
قوله صلى الله عليه وسلم: "سيماهم التحالق" السيما العلامة وفيها ثلاث لغات القصر وهو الأفصح وبه جاء القرآن والمد والثالثة السيمياء بزيادة ياء مع المد لا غير، والمراد بالتحالق حلق الرؤوس، وفي الرواية الأخرى التحلق، واستدل به بعض الناس على كراهة حلق الرأس ولا دلالة فيه وإنما هو علامة لهم، والعلامة قد تكون بحرام وقد تكون بمباح كما قال صلى الله عليه وسلم: "آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة" ومعلوم أن هذا ليس بحرام، وقد ثبت في سنن أبي داود بإسناد على شرط البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم (رأى صبياً قد حلق بعض رأسه فقال احلقوه كله أو اتركوه كله) وهذا صريح في إباحة حلق الرأس لا يحتمل تأويلاً، قال أصحابنا: حلق الرأس جائز بكل حال، لكن إن شق عليه تعهده بالدهن والتسريح استحب حلقه وإن لم يشق استحب تركه. قوله صلى الله عليه وسلم: "هم شر الخلق أو من أشر الخلق" هكذا هو في كل النسخ أو من أشر بالألف وهي لغة قليلة والمشهور شر بغير ألف، وفي هذا اللفظ دلالة لمن قال بتكفيرهم، وتأوله الجمهور أي شر المسلمين ونحو ذلك. قوله صلى الله عليه وسلم: "يقتلهم أولي الطائفتين إلى الحق" وفي رواية: "أولي الطائفتين بالحق" وفي رواية: "تكون أمتي فرقتين فتخرج من بينهما مارقة تلي قتلهم أولاهما بالحق". هذه الروايات صريحة في أن علياً رضي الله عنه كان هو المصيب المحق، والطائفة الأخرى أصحاب معاوية رضي الله عنه كانوا بغاة متأولين، وفيه التصريح بأن الطائفتين مؤمنون لا يخرجون بالقتال عن الإيمان ولا يفسقون، وهذا مذهبنا ومذهب موافقينا. قوله: (حدثنا القاسم وهو ابن الفضل الحداني) هم بضم الحاء المهملة وتشديد الدال بعد الألف نون. قوله: (عن الضحاك المشرقي) هو بكسر الميم وإسكان الشين المعجمة وفتح الراء وكسر القاف وهذا هو الصواب الذي ذكره جميع أصحاب المؤتلف والمختلف وأصحاب الأسماء والتواريخ، ونقل القاضي عياض عن بعضهم أنه ضبطه بفتح الميم وكسر الراء قال: وهو تصحيف، كما قال: واتفقوا على أنه منسوب إلى مشرق بكسر الميم وفتح الراء بطن من همدان وهو الضحاك الهمداني المذكور في الرواية السابقة من رواية حرملة وأحمد بن عبد الرحمن. قوله: (في حديث ذكر فيه قوماً يخرجون على فرقة مختلفة) ضبطوه بكسر الفاء وضمها
*2* باب التحريض على قتل الخوارج
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ الأَشَجُ. جَمِيعاً عَنْ وَكِيعٍ. قَالَ الأَشَجّ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ خَيْثَمَةَ، عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفَلَةَ قَالَ: قَالَ عَلِيّ: إِذَا حَدّثْتُكُمْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلأَنْ أَخِرّ مِنَ السّمَاءِ أَحَبّ إِلَيّ مِنْ أَنْ أَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَقُلْ. وَإِذَا حَدّثْتُكُمْ فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ فَإِنّ الْحَرْبَ خَدْعَةٌ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "سَيَخْرُجُ فِي آخِرِ الزّمَانِ قَوْمٌ أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلاَمِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيّةِ. يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ. يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ. فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ. فَإِنّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْراً، لِمَنْ قَتَلَهُمْ، عِنْدَ اللّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
حَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدّمِيّ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ. كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.
حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا "يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدّمِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ عُلَيّةَ وَ حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ. ح وَحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ (وَاللّفْظُ لَهُمَا) قَالاَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيّةَ عَنْ أَيّوبَ، عَنْ مُحَمّدٍ، عَنْ عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيَ قَالَ: ذَكَرَ الْخَوَارِجَ فَقَالَ: فِيهِمْ رَجُلٌ مُخْدَجُ الْيَدِ، أَوْ مُودَنُ الْيدِ، أَوْ مَثْدُونُ الْيَدِ، لَوْلاَ أَنْ تَبْطَرُوا لَحَدّثْتُكُمْ بِمَا وَعَدَ اللّهُ الّذينَ يَقْتُلُونَهُمْ، عَلَىَ لِسَانِ مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم. قَالَ قُلْتُ: آنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِي. وَرَبّ الْكَعْبَةِ إِي. وَرَبّ الْكَعْبَةِ إِي. وَرَبّ الْكَعْبَةِ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمّدٍ عَنْ عَبِيدَةَ قَالَ: لاَ أُحَدّثكُمْ إِلاّ مَا سَمِعْتُ مِنْهُ. فَذَكَرَ عَنْ عَلِيَ، نَحْوَ حَدِيثِ أَيّوبَ، مَرْفُوعاً.
حدّثنا عَبْدُ بْنُ حُميْدٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ بْنُ هَمّامٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ. حَدّثَنَا سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ. حَدّثَنَي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ الْجُهَنِيّ أَنّهُ كانَ فِي الْجَيْشِ الّذِينَ كَانُوا مَعَ عَلِيَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ. الّذِينَ سَارُوا إِلَىَ الْخَوَارِجِ. فَقَالَ عَلِيّ أَيّهَا النّاسُ إِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ أُمّتِي يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ. لَيسَ قِرَاءَتُكُمْ إِلَىَ قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ. وَلاَ صَلاَتُكُمْ إِلَىَ صَلاَتِهِمْ بِشَيْءٍ. وَلاَ صِيَامُكُمْ إِلَىَ صِيَامِهِمْ بِشَيْءٍ. يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ. يَحْسِبُونَ أَنّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ. لاَ تُجَاوِزُ صَلاَتهُمْ تَرَاقِيَهُم. يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ". لَوْ يَعْلَمُ الْجَيْشُ الّذِينَ يُصيبُونَهُمْ، مَا قُضِيَ لَهُمْ عَلَىَ لِسَانِ نَبِيّهِمْ صلى الله عليه وسلم، لاَتّكَلُوا عَنِ الْعَمَلِ. وَآيَةُ ذَلِكَ أَنّ فِيهِمْ رَجُلاً لَهُ عَضُدٌ. وَلَيْسَ لَهُ ذِرَاعٌ. عَلَىَ رَأْسِ عَضُدِهِ مِثْلُ حَلَمَةِ الثّدْيِ. عَلَيْهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ فَتَذْهَبُونَ إِلَىَ مُعَاوِيَةَ وَأَهْلِ الشّامِ وَتَتْرُكُونَ هَؤُلاءِ يَخْلُفُونَكُمْ فِي ذَرَارِيّكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَاللّهِ إِنِي لأَرْجُو أَنْ يَكُونُوا هَؤُلاَءِ الْقَوْمَ فَإِنّهُمْ قَدْ سَفَكُوا الدّمَ الْحَرامَ. وَأَغَارُوا فِي سَرْحِ النّاسِ. فَسِيرُوا عَلَى اسْمِ اللّهِ.
قَالَ سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ: فَنَزّلَنِي زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ مَنْزِلاً. حَتّىَ قَالَ: مَرَرْنَا عَلَىَ قَنْطَرَةٍ. فَلَمّا الْتَقَيْنَا وَعَلَى الْخَوَارِجِ يَوْمَئِذٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ الرّاسِبِيّ. فَقَالَ لَهُمْ: أَلْقُوا الرّمَاحَ. وَسُلّوا سُيُوفَكُمْ مِنْ جُفُونِهَا. فَإِنّي أَخَافُ أَنْ يُنَاشِدُوكُمْ كَمَا نَاشَدُوكُمْ يَوْمَ حَرُورَاءَ. فَرَجَعُوا فَوَحّشُوا بِرِمَاحِهِمْ وَسَلّوا السّيُوفَ. وَشَجَرَهُمُ النّاسُ بِرِمَاحِهِمْ. قَالَ: وَقُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ. وَمَا أُصِيبَ مِنَ النّاسَ يَوْمَئِذٍ إِلاّ رَجُلاَنِ. فَقَالَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ: الْتَمِسُوا فِيهِمُ الْمُخْدَجَ. فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ. فَقَامَ عَلِيّ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ بِنَفْسِهِ حَتّىَ أَتَىَ نَاساً قَدْ قُتِلَ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ. قَالَ: أَخّرُوهُمْ. فَوَجَدُوهُ مِمّا يَلِي الأَرْضَ. فَكَبّرَ. ثُمّ قَالَ: صَدَقَ اللّهُ. وَبَلّغَ رَسُولُهُ. قَالَ: فَقَامَ إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ عَبِيدَةُ السّلْمَانِيّ. فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَللّهَ الّذِي لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ لَسَمِعْتَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: إِي. وَاللّهِ الّذِي لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ حَتّىَ اسْتَحْلَفَهُ ثَلاَثاً. وَهُوَ يَحْلِفُ لَهُ.
حدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ الأَشَجّ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ، مَوْلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّ الْحَرُورِيّةَ لَمّا خَرَجَتْ، وَهُوَ مَعَ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضي اللّهِ عَنْهُ، قَالُوا: لاَ حُكْمَ إِلاّ لِلّهِ. فَقَالَ عَلِيّ: كَلِمَةُ حَقَ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ. إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَفَ نَاساً. إِنّي لأَعْرِفُ صِفَتَهُمْ فِي هَؤُلاَءِ. "يَقُولُونَ الْحَقّ بِأَلْسِنَتِهِمْ لاَ يَجُوزُ هَذَا، مِنْهُمْ. (وَأَشَارَ إِلَىَ حَلْقِهِ) مِنْ أَبْغَضِ خَلْقِ اللّهِ إِلَيْهِ مِنْهُمْ أَسْوَدُ. إِحْدَىَ يَدَيْهِ طُبْيُ شَاةٍ أَوْ حَلَمَةُ ثَدْيٍ". فَلَمّا قَتَلَهُمْ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَالَ: انْظُرُوا. فَنَظَرُوا فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئاً. فَقَالَ: ارْجِعُوا. فَوَاللّهِ مَا كَذَبْتُ وَلاَ كُذِبْتُ. مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً. ثُمّ وَجَدُوهُ فِي خَرِبَةٍ. فَأَتَوْا بِهِ حَتّىَ وَضَعُوهُ بَيْنَ يَدَيْهِ. قَالَ عُبَيْدُ اللّهِ: وَأَنَا حَاضِرُ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ. وَقَوْلِ عَلِيَ فِيهِمْ.
زَادَ يُونُسُ فِي رِوَايَتِهِ: قَالَ بُكَيْرٌ: وَحَدّثَنِي رَجُلٌ عَنِ ابْنِ حُنَيْنٍ أَنّهُ قَالَ: رَأَيْتُ ذَلِكَ الأَسْوَدَ.
عن سويد بن غفلة) هو بفتح الغين المعجمة والفاء. قوله: (وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإن الحرب خدعة) معناه اجتهد رأيي، وقال القاضي: فيه جواز التورية والتعريض في الحرب فكأنه تأول الحديث على هذا، وقوله خدعة بفتح الخاء وإسكان الدال على الأفصح ويقال بضم الخاء، ويقال خدعة بضم الخاء وفتح الدال ثلاث لغات مشهورات. قوله صلى الله عليه وسلم: "أحداث الأسنان سفهاء الأحلام" معناه صغار الأسنان صغار العقول. قوله صلى الله عليه وسلم: "يقولون من خير قول البرية" معناه في ظاهر الأمر كقولهم: لا حكم إلا لله، ونظائره من دعائهم إلى كتاب الله تعالى والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً" هذا تصريح بوجوب قتال الخوارج والبغاة وهو إجماع العلماء. قال القاضي: أجمع العلماء على أن الخوارج وأشباههم من أهل البدع والبغي متى خرجوا على الإمام وخالفوا رأي الجماعة وشقوا العصا وجب قتالهم بعد إنذارهم والاعتذار إليهم، قال الله تعالى: {فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} لكن لا يجهز على جريحهم ولا يتبع منهزمهم ولا يقتل أسيرهم ولا تباح أموالهم، وما لم يخرجوا عن الطاعة وينتصبوا للحرب لا يقاتلون بل يوعظون ويستتابون من بدعتهم وباطلهم، وهذا كله ما لم يكفروا ببدعتهم، فإن كانت بدعة مما يكفرون به جرت عليهم أحكام المرتدين. وأما البغاة الذين لا يكفرون فيرثون ويورثون ودمهم في حال القتال هدر، وكذا أموالهم التي تتلف في القتال، والأصح أنهم لا يضمنون أيضاً ما أتلفوه على أهل العدل في حال القتال من نفس ومال، وما أتلفوه في غير حال القتال من نفس ومال ضمنوه، ولا يحل الانتفاع بشيء من دوابهم وسلاحهم في حال الحرب عندنا وعند الجمهور وجوزه أبو حنيفة والله أعلم. قوله عن محمد عن عبيدة هو بفتح العين وهو عبيدة السلماني. قوله: (فيهم رجل مخدج اليد أو مودن اليد أو مثدون اليد) أما المخدج فبضم الميم وإسكان الخاء المعجمة وفتح الدال أي ناقص اليد، والمودن بضم الميم وإسكان الواو وفتح الدال ويقال بالهمز وبتركه وهو ناقص اليد، ويقال أيضاً ودين، والمثدون بفتح الميم وثاء مثلثة ساكنة وهو صغير اليد مجتمعها كثندوة الثدي وهي بفتح الثاء بلا همز وبضمها مع الهمز وكان أصله مثنود فقدمت الدال على النون كما قالوا: جبذ وجذب وعاث في الأرض وعثا. قوله: (فنزلني زيد بن وهب منزلاً حتى قال مررنا على قنطرة) هكذا هو في معظم النسخ مرة واحدة، وفي نادر منها منزلاً منزلاً مرتين، وكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين وهو وجه الكلام أي ذكر لي مراحلهم بالجيش منزلاً منزلاً حتى بلغ القنطرة التي كان القتال عندها وهي قنطرة الدبرجان كذا جاء مبيناً في سنن النسائي، وهناك خطبهم علي رضي الله عنه وروى لهم هذه الأحاديث، والقنطرة بفتح القاف قولهم: (فوحشوا برماحهم) أي رموا بها عن بعد. قوله: (وشجرهم الناس برماحهم) هو بفتح الشين المعجمة والجيم المخففة أي مددوها إليهم وطاعنوهم بها ومنه التشاجر في الخصومة. قوله: (وما أصيب من الناس يومئذٍ رجلان) يعني من أصحاب علي، وأما الخوارج فقتلوا بعضهم على بعض. قوله: (فقام إليه عبيدة السلماني) إلى آخره، وحاصله أنه استحلف علياً ثلاثاً، وإنما استحلفه ليسمع الحاضرين ويؤكد ذلك عندهم ويظهر لهم المعجزة التي أخبر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويظهر لهم أن علياً وأصحابه أولى الطائفتين بالحق، وأنهم محقون في قتالهم، وغير ذلك مما في هذه الأحاديث من الفوائد. وقوله السلماني هو بإسكان اللام منسوب إلى سلمان جد قبيلة معروفة وهم بطن من مراد، قاله ابن أبي داود السجستاني، أسلم عبيدة قبل وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين ولم يره، وسمع عمر وعلياً وابن مسعود وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. قوله: (قالوا لا حكم إلا لله، قال علي: كلمة حق أريد بها باطل) معناه أن الكلمة أصلها صدق، قال الله تعالى: {ان الحكم إلا لله} لكنهم أرادوا بها الإنكار على علي رضي الله عنه في تحكيمه. قوله صلى الله عليه وسلم: "إحدى يديه طبي شاة" هو بطاء مهملة مضمومة ثم باء موحدة ساكنة، والمراد به ضرع الشاة وهو فيها مجاز واستعارة إنما أصله للكلبة والسباع قال أبو عبيد: ويقال أيضاً لذوات الحافر، ويقال للشاة ضرع وكذا للبقرة، ويقال للناقة خلف، وقال أبو عبيد: لا خلاف لذوات الأخفاف والأظلاف، وقال الهروي: يقال في ذات الخف والظلف خلف وضرع
*2* باب الخوارج شر الخلق والخليفة
*حَدّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ. حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ. حَدّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الصّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ بَعْدِي مِنْ أُمّتِي (أَوْ سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمّتِي) قَوْمٌ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ. لاَ يُجَاوِزُ حَلاَقِيمَهُمْ. يَخْرُجُونَ مِنَ الدّينِ كَمَا يَخْرُجُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ. ثُمّ لاَ يَعُودُونَ فِيهِ. هُمْ شَرّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ".
فقالَ ابْنُ الصّامِتِ: فَلَقِيتُ رَافِعَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيّ، أَخَا الْحَكَمِ الْغِفَارِيّ. قُلْتُ: مَا حَدِيثٌ سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي ذَرَ: كَذَا وَكَذَا؟ فَذَكَرْتُ لَهُ هَذَا الْحَدِيثَ. فَقَالَ: وَأَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الشيْبَانِيّ، عَنْ يُسَيْرِ ابْنِ عَمْرٍو قَالَ: سَأَلْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ: هَلْ سَمِعْتَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ الْخَوَارِجَ فَقَالَ: سَمِعْتُهُ (وَأَشَارَ بِيَدِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ) "قَوْمٌ يَقْرَأُونَ الْقُرْآنَ بِأَلْسِنَتِهِمْ لاَ يَعْدُو تَرَاقِيَهُمْ. يَمْرُقُونَ مِنَ الدّينِ كَمَا يَمْرُقُ السّهْمُ مِنَ الرّمِيّةِ".
وحدّثناه أَبُو كَامِلٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ. حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ الشّيْبَانِيّ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَقَالَ: يَخْرُجُ مِنْهُ أَقْوامٌ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ. جَمِيعاً عَنْ يَزِيدَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَرُونَ عَنِ الْعَوّامِ بْنِ حَوْشَبٍ. حَدّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْشّيْبَانِيّ عَنْ أُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَتِيهُ قَوْمٌ قِبَلَ الْمَشْرِقِ مُحَلّقَةٌ رُؤُوسُهُمْ".
قوله: (عن يسير بن عمرو) وفي الرواية الأخرى: (أسير بن عمرو) وهو هو بضم الياء المثناة من تحت وفتح السين المهملة، والثاني مثله إلا أنه بهمزة مضمومة وكلاهما صحيح، يقال يسير وأسير. قوله صلى الله عليه وسلم: "يتيه قوم قبل المشرق" أي يذهبون عن الصواب وعن طريق الحق. يقال تاه إذا ذهب ولم يهتد لطريق الحق والله أعلم
*2* باب تحريم الزكاة على رسول اللّه صلّى اللّهُ تعالىَ عليه وسلّم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون غيرهم
*حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمّدُ (وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ) سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: أَخَذَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصّدَقَةِ. فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كخ كخ. ارْمِ بِها. أَمَا عَلِمْتَ أَنّا لاَ نَأْكُلُ الصّدَقَةَ؟".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ و أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. وَ زُهْيْرُ بْنُ حَرْبٍ. جَمِيعاً عَنْ وَكِيعٍ، عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَقَالَ "أَنّا لاَ تَحِلّ لَنَا الصّدَقَةُ؟".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ. كِلاَهُمَا عَنْ شُعْبَةَ فِي هَذَا الإِسْنَادِ. كَمَا قَالَ ابْنُ مُعَاذٍ "أَنّا لاَ نَأكُلُ الصّدَقَةَ؟".
حدّثني هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنّ أَبَا يُونُسَ مَوْلَىَ أَبِي هُرَيْرَةَ حَدّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "إِنّي لأَنْقَلِبُ إِلَىَ أَهْلِي فَأَجِدُ التّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَىَ فِرَاشِي. ثُمّ أَرْفَعُهَا لاَكُلَهَا. ثُمّ أَخْشَىَ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً. فَأُلْقِيهَا".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ بْنُ هَمّامِ. حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا. وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "وَاللّهِ إِنّي لأَنْقَلِبُ إِلَىَ أَهْلِي فَأَجِدُ التّمْرَةَ سَاقِطَةً عَلَىَ فِرَاشِي (أَوْ فِي بَيْتِي) فَأَرْفَعُهَا لاَِكُلَهَا. ثُمّ أَخْشَىَ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً (أَوْ مِنَ الصّدَقَةِ) فَأُلْقِيهَا".
حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرّفٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ تَمْرَةً. فَقَالَ: "لَوْلاَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا".
وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرّفٍ حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَرّ بِتَمْرَةٍ بِالطّرِيقِ فَقَالَ: "لَوْلاَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الصّدَقَةِ لأَكَلْتُهَا".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ ابْنُ بَشّارٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ. حَدّثَنَي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَجَدَ تَمْرَةً فَقَالَ "لَوْلاَ أَنْ تَكُونَ صَدَقَةً لأَكَلْتُهَا".
قوله: (أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة فجعلها في فيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كخ كخ إرم بها أما علمت أنا لا نأكل الصدقة") وفي رواية: "لا تحل لنا الصدقة" قال القاضي: يقال كخ كخ بفتح الكاف وكسرها وتسكين الخاء ويجوز كسرها مع التنوين وهي كلمة يزجر بها الصبيان عن المستقذرات فيقال له كخ أي اتركه وارم به، قال الداودي: هي عجمية معربة بمعنى بئس، وقد أشار إلى هذا البخاري بقوله في ترجمة (باب من تكلم بالفارسية والرطانة. وفي الحديث أن الصبيان يوقون ما يوقاه الكبار وتمنع من تعاطيه وهذا واجب على الولي. قوله صلى الله عليه وسلم: "أما علمت أنا لا نأكل الصدقة" هذه اللفظة تقال في الشيء الواضح التحريم ونحوه وإن لم يكن المخاطب عالماً به، وتقديره عجب كيف خفي عليك هذا مع ظهور تحريم الزكاة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى آله وهم بنو هاشم وبنو المطلب، هذا مذهب الشافعي وموافقيه أن آله صلى الله عليه وسلم هم بنو هاشم وبنو المطلب وبه قال بعض المالكية. وقال أبو حنيفة ومالك: هم بنو هاشم خاصة. قال القاضي: وقال بعض العلماء هم قريش كلها. وقال أصبغ المالكي: هم بنو قصي. دليل الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد وقسم بينهم سهم ذوي القربى، وأما صدقة التطوع فللشافعي فيها ثلاثة أقوال: أصحها أنها تحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحل لاَله. والثاني تحرم عليه وعليهم. والثالث تحل له ولهم. وأما موالي بني هاشم وبني المطلب فهل تحرم عليهم الزكاة؟ فيه وجهان: لأصحابنا أصحهما تحرم للحديث الذي ذكره مسلم بعد هذا حديث أبي رافع. والثاني تحل. وبالتحريم قال أبو حنيفة وسائر الكوفيين وبعض المالكية، وبالإباحة قال مالك. وادعى ابن بطال المالكي أن الخلاف إنما هو موالي بني هاشم، وأما موالي غيرهم فتباح لهم بالإجماع وليس كما قال، بل الأصح عند أصحابنا تحريمها على موالي بني هاشم وبني المطلب ولا فرق بينهما والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا لا تحل لنا الصدقة" ظاهره تحريم صدقة الفرض والنفل وفيهما الكلام السابق.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأنقلب إلى أهلي فأجد التمرة ساقطة على فراشي ثم أرفعها لاَكلها ثم أخشى أن تكون صدقة فألقيها" فيه تحريم الصدقة عليه صلى الله عليه وسلم، وأنه لا فرق بين صدقة الفرض والتطوع لقوله صلى الله عليه وسلم الصدقة بالألف واللام وهي تعم النوعين ولم يقل الزكاة. وفيه استعمال الورع لأن هذه التمرة لا تحرم بمجرد الاحتمال لكن الورع تركها.
قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بتمرة في الطريق فقال: "لولا أن تكون من الصدقة لأكلتها") فيه استعمال الورع كما سبق، وفيه أن التمرة ونحوها من محقرات الأموال لا يجب تعريفها بل يباح أكلها والتصرف فيها في الحال لأنه صلى الله عليه وسلم إنما تركها خشية أن تكون من الصدقة لا لكونها لقطة، وهذا الحكم متفق عليه، وعلله أصحابنا وغيرهم بأن صاحبها في العادة لا يطلبها ولا يبقى له فيها مطمع والله أعلم
*2* باب ترك استعمال آل النبي على الصدقة
*حدّثني عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضّبْعِيّ. حَدّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ حَدّثَهُ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ حَدّثَهُ قَالَ: اجْتَمَعَ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ وَالْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطّلِبِ. فَقَالاَ: وَاللّهِ لَوْ بَعَثْنَا هَذَيْن الْغُلاَمَيْنِ (قَالاَ لِي وَلِلفَضْلِ بْنِ عَبّاسٍ) إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَكَلّمَاهُ، فَأَمّرَهُمَا عَلَىَ هَذِهِ الصّدَقَاتِ، فَأَدّيَا مَا يُؤَدّي النّاسُ، وَأَصَابَا مِمّا يُصِيبُ النّاسُ قَالَ: فَبَيْنَمَا هُمَا فِي ذَلِكَ جَاءَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَوَقَفَ عَلَيْهِمَا. فَذَكَرَا لَهُ ذَلِكَ. فَقَالَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: لاَ تَفْعَلاَ. فَوَاللّهِ مَا هُوَ بِفَاعِلٍ. فَانْتَحَاهُ رَبِيعَةُ بْنُ الْحَارِثِ فَقَالَ: وَاللّهِ مَا تَصْنَعُ هَذَا إِلاّ نَفَاسَةً مِنْكَ عَلَيْنَا. فَوَاللّهِ لَقَدْ نِلْتَ صِهْرَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَا نَفِسْنَاهُ عَلَيْكَ. قَالَ عَلِيّ: أَرْسِلُوهُمَا. فَانْطَلَقَا. وَاضْطَجَعَ عَلِيّ. قَالَ: فَلَمّا صَلّىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الظّهْرَ سَبَقْنَاهُ إِلَىَ الْحُجْرَةِ. فَقُمْنَا عِنْدَها. حَتّىَ جَاءَ فَأَخَذَ بِآذَانِنَا. ثُمّ قَالَ "أَخْرِجَا مَا تُصرّرانِ" ثُمّ دَخَلَ وَدَخَلْنَا عَلَيْهِ. وَهُوَ يَوْمَئِذٍ عِنْذَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ. قَالَ: فَتَوَاكَلْنَا الْكَلاَمَ. ثُمّ تَكَلّمَ أَحَدُنَا فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْتَ أَبَرّ النّاسِ وَأَوْصَلُ النّاسِ. وَقَدْ بَلَغْنَا النّكَاحَ. فَجِئْنَا لِتُؤمّرَنَا عَلَىَ بَعْضِ هَذِهِ الصّدَقَاتِ. فَنُؤَدّيَ إِلَيْكَ كَمَا يُؤدّي النّاسُ. وَنُصِيبَ كَمَا يُصِيبُونَ. قَالَ: فَسَكَتَ طَوِيلاً حَتّىَ أَرَدْنَا أَنْ نُكَلّمَهُ. قَالَ: وَجَعَلَتْ زَيْنَبُ تُلْمِعُ عَلَيْنَا مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ أَنْ لاَ تُكَلّمَاهُ. قَالَ: ثُمّ قَالَ: "إِنّ الصّدَقَةَ لاَ تَنْبَغِي لاَلِ مُحَمّدٍ. إِنّما هِيَ أَوْسَاخُ النّاسِ. ادْعُوَا لِي مَحْمِيَةَ (وَكَانَ عَلَىَ الْخُمُسِ) وَنَوْفَلَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ". قَالَ: فَجَاءَاهُ. فَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: "أَنْكِحْ هَذَا الْغُلاَمَ ابْنَتَكَ" (لِلْفَضْلِ بْنِ عَبّاسٍ) فَأَنْكَحَهُ. وَقَالَ لِنَوْفَلِ بْنِ الْحَارِثِ: "أَنْكِحْ هَذَا الْغُلاَمَ ابْنَتَكَ" (لِي) فَأَنْكَحَنِي. وَقَالَ لِمَحْمِيَةَ: "أَصْدِقْ عَنْهُمَا مِنَ الْخُمُسِ كَذَا وَكَذَا).
قَالَ الزّهْرِيّ: وَلَمْ يُسَمّهِ لِي.
حدّثنا هَرُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ الْهَاشِميّ أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ أَخْبَرَهُ أَنّ أَبَاهُ رَبِيعَةَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ وَ العَبّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، قَالاَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ رِبِيعَةَ وَ للِفَضْلِ بْنِ عَبّاسٍ: ائْتِيَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ مَالِكٍ. وَقَالَ فِيهِ: فَأَلْقَىَ عَلَيّ رِدَاءَهُ ثُمّ اضْطَجَعَ عَلَيْهِ. وَقَالَ: أَنَا أَبُو حَسَنٍ الْقَرْمُ. وَاللّهِ لاَ أَرِيمُ مَكَانِي حَتّىَ يَرْجِعَ إِلَيْكُمَا أَبْنَاؤُكُمَا، بِحَوْرِ مَا بَعَثْتُمَا بِهِ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَقَالَ فِي الحَدِيثِ: ثُمّ قَالَ لَنَا "إِنّ هَذِهِ الصّدَقَاتِ إِنّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النّاسِ. وَإِنّها لاَ تَحِلّ لِمُحَمّدٍ وَلاَ لاَِلِ مُحَمّدٍ" وَقَالَ أَيْضاً: ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "ادْعُوَا لِي مَحْمِيَةَ بْنَ جَزْءٍ" وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَهُ عَلَىَ الأَخْمَاسِ.
قوله: (فانتحاه ربيعة بن الحارث) هو بالحاء ومعناه عرض له وقصده. قوله: (ما تفعل هذا إلا نفاسة منك علينا) معناه حسداً منك لنا. قوله: (فما نفسنا عليك) هو بكسر الفاء أي ما حسدناك ذلك. قوله صلى الله عليه وسلم: "أخرجا ما تصرران" هكذا هو في معظم الأصول ببلادنا، وهو الذي ذكره الهروي والمازري وغيرهما من أهل الضبط تصرران بضم التاء وفتح الصاد وكسر الراء وبعدها راء أخرى ومعناه تجمعانه في صدوركما من الكلام، وكل شيء جمعته فقد صررته، ووقع في بعض النسخ تسرران بالسين من السر أي ما تقولانه لي سراً. وذكر القاضي عياض فيه أربع روايات: هاتين الثنتين والثالثة تصدران بإسكان الصاد وبعدها دال مهملة معناه ماذا ترفعان إلي قال وهذه رواية السمرقندي، والرابعة تصوران بفتح الصاد وبواو مكسورة، قال: وهكذا ضبطه الحميدي، قال القاضي: وروايتنا عن أكثر شيوخنا بالسين واستبعد رواية الدال، والصحيح ما قدمناه عن معظم نسخ بلادنا، ورجحه أيضاً صاحب المطالع فقال: الأصواب تصرران بالصاد والرائين. قوله: (قد بلغنا النكاح) أي الحلم كقوله تعالى: {حتى إذا بلغوا النكاح}. قوله: (وجعلت زينب تلمع إلينا من وراء الحجاب) هو بضم التاء وإسكان اللام وكسر الميم ويجوز فتح التاء والميم، يقال ألمع ولمع إذا أشار بثوبه أو بيده. قوله صلى الله عليه وسلم لعبد المطلب بن ربيعة والفضل بن عباس وقد سألاه العمل على الصدقة بنصيب العامل: (إن الصدقة لا تنبغي لاَل محمد) دليل على أنها محرمة سواء كانت بسبب العمل أو بسبب الفقر والمسكنة وغيرهما من الأسباب الثمانية، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا، وجوز بعض أصحابنا لبني هاشم وبني المطلب العمل عليها بسهم العامل لأنه إجارة وهذا ضعيف أو باطل، وهذا الحديث صريح في رده. قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي أوساخ الناس" تنبيه على العلة في تحريمها على بني هاشم وبني المطلب وأنها لكرامتهم وتنزيههم عن الأوساخ، ومعنى أوساخ الناس أنها تطهير لأموالهم ونفوسهم كما قال تعالى: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها} فهي كغسالة الأوساخ. قوله: (حدثنا هارون بن معروف حدثنا ابن وهب أخبرني يونس بن يزيد عن ابن شهاب عن عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي أن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب أخبره) هكذا وقع في مسلم من رواية يونس عن ابن شهاب، وسبق في الرواية التي قبل هذه عن جويرية عن مالك عن الزهري أن عبد الله بن عبد الله بن نوفل وكلاهما صحيح، والأصل هو رواية مالك، ونسبه في رواية يونس إلى جده ولا يمتنع ذلك، قال النسائي: ولا نعلم أحداً روى هذا الحديث عن مالك إلا جويرية بن أسماء. قوله صلى الله عليه وسلم: "أصدق عنهما من الخمس" يحتمل أن يريد من سهم ذوي القربى من الخمس لأنهما من ذوي القربى، ويحتمل أن يريد من سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس. قوله عن علي رضي الله عنه: (وقال أنا أبو حسن القرم) هو بتنوين حسن، وأما القرم فبالراء مرفوع وهو السيد وأصله فحل الإبل، قال الخطابي: معناه المقدم في المعرفة بالأمور والرأي كالفحل، هذا أصح الأوجه في ضبطه وهو المعروف في نسخ بلادنا. والثاني حكاه القاضي أبو الحسن القوم بالواو بإضافة حسن إلى القوم ومعناه عالم القوم وذو رأيهم. والثالث حكاه القاضي أيضاً أبو حسن بالتنوين والقوم بالواو مرفوع أي أنا من علمتم رأيه أيها القوم وهذا ضعيف لأن حروف النداء لا تحذف في نداء القوم ونحوه. قوله: (لا أريم مكاني) هو بفتح الهمزة وكسر الراء أي لا أفارقه. قوله: (والله لا أريم مكاني حتى يرجع إليكما ابنا كما بحور ما بعثتما به) قوله بحور هو بفتح الحاء المهملة أي بجواب ذلك، قال الهروي في تفسيره: يقال كلمته فما رد علي حوراً ولا حويراً أي جواباً، قال: ويجوز أن يكون معناه الخيبة أي يرجعا بالخيبة، وأصل الحور الرجوع إلى النقص، قال القاضي: هذا أشبه بسياق الحديث. أما قوله ابنا كما فهكذا ضبطناه ابنا كما بالتثنية، ووقع في بعض الأصول أبناؤكما بالواو على الجمع، وحكاه القاضي أيضاً قال: وهو وهم والصواب الأول، وقال: وقد يصح الثاني على مذهب من جمع الاثنين. قوله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا لي محمية بن جزء وهو رجل من بني أسد" أما محمية فبميم مفتوحة ثم حاء مهملة ساكنة ثم ميم أخرى مكسورة ثم ياء مخففة، وأما جزء فبجيم مفتوحة ثم زاي ساكنة ثم همزة هذا هو الأصح، قال القاضي: هكذا تقوله عامة الحفاظ وأهل الإتفان ومعظم الرواة. وقال عبد الغني بن سعيد: يقال جزي بكسر الزاي يعني وبالياء، وكذا وقع في بعض النسخ في بلادنا، قال القاضي: وقال أبو عبيد هو عندنا جز مشدد الزاي وأما قوله وهو رجل من بني أسد فقال القاضي: كذا وقع والمحفوظ أنه من بني زبيد لا من بني أسد
*2* باب إِباحة الهدية للنبيّ صلى الله عليه وسلم ولبني هاشم وبني المطلب، وإن كان المهدي ملكها بطريق الصدقة. وبيان أن الصدقة، إذا قبضها المتصدّق عليه، زال عنها وصف الصدقة، وحلت لكل أحد ممن كانت الصدقة محرمة عليه
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنِ رُمْحٍ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنّ عُبَيْدَ بْنَ السّبّاقِ قَالَ: إِنّ جُوَيْرِيَةَ، زَوْجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ: "هَلْ مِنْ طَعَامٍ؟" قَالَتْ: لاَ وَاللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عِنْدَنَا طَعَامٌ إِلاّ عَظْمٌ مِنْ شَاةٍ أُعْطِيَتْهُ مَوْلاَتِي مِنَ الصّدَقَةِ. فَقَالَ: "قَرّبِيهِ. فَقَدْ بَلَغَتْ مَحِلّهَا".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. جَمِيعاً عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزّهْرِيّ بِهَذَا الاْسْنَادِ، نَحْوَهُ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ ابْنُ بَشّارٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعفَرٍ. كِلاَهُمَا عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ. ح وَحَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ (وَاللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: أَهْدَتْ بَرِيرَةُ إِلَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَحْماً تُصُدّقَ بِهِ عَلَيْهَا. فَقَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ. وَلَنَا هَدِيّةٌ".
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ ابْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنّىَ) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ: وَأُتِيَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِلَحْمِ بَقَرٍ. فَقِيلَ: هَذَا مَا تُصُدّقَ بِهِ عَلَىَ بَرِيرَةَ. فَقَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيّةٌ".
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتْ فِي بَرِيرَةَ ثَلاَثُ قَضِيّاتٍ. كَانَ النّاسُ يَتَصَدّقُونَ عَلَيْهَا، وَتُهْدَى لَنَا. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ "هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ وَلَكُمْ هَدِيّةٌ. فَكُلُوهُ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيّ عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ الْقَاسِمِ قَالَ: سَمِعْتُ الْقَاسِمَ يُحَدّثُ عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ ذَلِكَ.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ رَبِيعَةَ، عَنِ الْقَاسِمِ، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ ذَلِكَ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ "وَهُوَ لَنَا مِنْهَا هَدِيّةٌ".
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ خَالِدٍ، عَنْ حَفْصَةَ، عَنْ أُمّ عَطِيّةَ قَالَتْ: بَعَثَ إِلَيّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مِنَ الصّدَقَةِ. فَبَعَثْتُ إِلَىَ عَائِشَةَ مِنْهَا بِشَيْءٍ. فَلَمّا جَاءَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَىَ عَائِشَةَ قَالَ: "هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟" قَالَتْ: لاَ. إِلاّ أَنّ نُسَيْبَةَ بَعَثَتْ إِلَينا مِنَ الشّاةِ الّتِي بَعَثْتُمْ بِهَا إِلَيْهَا. قَالَ: "إِنّهَا قَدْ بَلَغَتْ مَحِلّهَا"".
قوله صلى الله عليه وسلم: "أن عبيد بن السباق" هو بفتح السين المهملة وتشديد الباء الموحدة. قوله صلى الله عليه وسلم في لحم الشاة الذي أعطيته مولاة جويرية من الصدقة "قربيه فقد بلغت محلها" هو بكسر الحاء أي زال عنها حكم الصدقة وصارت حلالاً لنا، وفيه دليل للشافعي وموافقيه أن لحم الأضحية إذا قبضه المتصدق عليه وسائر الصدقات يجوز لقابضها بيعها، ويحل لمن أهداها إليه أو ملكها منه بطريق آخر، وقال بعض المالكية، لا يجوز بيع لحم الأضحية لقابضها.
قوله: (كلاهما عن شعبة عن قتادة عن أنس) ثم قال في الطريق الاَخر: (حدثنا شعبة عن قتادة سمع أنس بن مالك) فيه التنبيه على انتفاء تدليس قتادة لأنه عنعن في الرواية الأولى وصرح بالسماع في الثانية، وقد سبق مرات أن المدلس لا يحتج بعنعنته إلا أن يثبت سماعه لذلك الحديث من ذلك الشيخ من طريق آخر فنبه مسلم رحمه الله تعالى على ذلك.
قوله: (عن الأسود عن عائشة وأتي النبي صلى الله عليه وسلم بلحم بقر) هكذا هو في كثير من الأصول المعتمدة أو أكثرها وأتي بالواو، وفي بعضها أتي بغير واو وكلاهما صحيح، والواو عاطفة على بعض من الحديث لم يذكره هنا. قوله: (كان في بريرة ثلاث قضيات) فذكر منها قوله صلى الله عليه وسلم: "هو عليها صدقة ولكم هدية" ولم يذكر هنا الثانية والثالثة وهما الولاء لمن أعتق وتخييرها في فسخ النكاح حين أعتقت تحت عبد، وسيأتي بيان الثلاث مشروحة إن شاء الله تعالى في كتاب النكاح.
قولها: (إلا أن نسيبة بعثت إلينا) هي نسيبة بضم النون وفتح السين المهملة وإسكان الياء، ويقال فيها أيضاً نسيبة بفتح النون وكسر السين وهي أم عطية
*2* باب قبول النبيّ الهدية وردّه الصدقة
*حدّثنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ سَلاّمٍ الْجُمَحِيّ. حَدّثَنَا الرّبِيعُ (يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ) عَنْ مُحَمّدٍ (وَهُوَ ابْنُ زِيَادٍ) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ، إِذَا أُتِيَ بِطَعَامٍ، سَأَلَ عَنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: هَدِيّةٌ. أَكَلَ مِنْهَا. وَإِنْ قِيلَ: صَدَقَةٌ. لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا.
قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أتي بطعام سأل عنه فإن قيل هدية أكل منها وإن قيل صدقة لم يأكل منها) فيه استعمال الورع والفحص عن أصل المآكل والمشارب
*2* باب الدّعاء لمن أَتَى بصَدَقة
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ، وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَ عَمْرٌو النّاقِدُ، وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ. قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَىَ. ح وَحَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ (وَاللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنَا أَبِي عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرٍو (وَهُوَ ابْنُ مُرّةَ). حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَىَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا أَتَاهُ قَوْمٌ بِصَدَقَتِهِمْ، قَالَ: "اللّهُمّ، صَلّ عَلَيْهِمْ". فَأَتَاهُ أَبِي، أَبُو أَوْفَىَ بِصَدَقَتِهِ، فَقَالَ: "اللّهُمّ صَلّ عَلَىَ آلِ أَبِي أَوْفَىَ".
وحدّثناه بْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الاْسْنَادِ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ "صَلّ عَلَيْهِمْ".
قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى) هذا الدعاء وهو الصلاة امتثال لقول الله عز وجل: وصل عليهم. ومذهبنا المشهور ومذهب العلماء كافة أن الدعاء لدافع الزكاة سنة مستحبة ليس بواجب. وقال أهل الظاهر: هو واجب، وبه قال بعض أصحابنا، حكاه أبو عبد الله الحناطي بالحاء المهملة واعتمدوا الأمر في الاَية، قال الجمهور: الأمر في حقنا للندب لأن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً وغيره لأخذ الزكاة ولم يأمرهم بالدعاء، وقد يجيب الاَخرون بأن وجوب الدعاء كان معلوماً لهم من الاَية الكريمة، وأجاب الجمهور أيضاً بأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصلاته سكن لهم بخلاف غيره، واستحب الشافعي في صفة الدعاء أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهوراً وبارك لك فيما أبقيت. وأما قول الساعي: اللهم صل على فلان فكرهه جمهور أصحابنا وهو مذهب ابن عباس ومالك وابن عيينة وجماعة من السلف، وقال جماعة من العلماء: ويجوز ذلك بلا كراهة لهذا الحديث، قال أصحابنا: لا يصلى على غير الأنبياء إلا تبعاً لأن الصلاة في لسان السلف مخصوصة بالأنبياء صلاة الله وسلامه عليهم، كما أن قولنا عز وجل مخصوص بالله سبحانه وتعالى، فكما لا يقال محمد عز وجل وإن كان عزيزاً جليلاً لا يقال أبو بكر صلى الله عليه وسلم وإن صح المعنى، واختلف أصحابنا في النهي عن ذلك هل هو نهي تنزيه أم محرم أو مجرد أدب؟ على ثلاثة أوجه الأصح الأشهر أنه مكروه كراهة تنزيه لأنه شعار لأهل البدع وقد نهينا عن شعارهم، والمكروه هو ما ورد فيه نهي مقصود، واتفقوا على أنه يجوز أن يجعل غير الأنبياء تبعاً لهم في ذلك فيقال: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأزواجه وذريته وأتباعه لأن السلف لم يمنعوا منه وقد أمرنا به في التشهد وغيره. قال الشيخ أبو محمد الجويني من أئمة أصحابنا: السلام في معنى الصلاة ولا يفرد به غير الأنبياء لأن الله تعالى قرن بينهما، ولا يفرد به غائب، ولا يقال قال فلان عليه السلام، وأما المخاطبة به لحي أو ميت فسنة فيقال: السلام عليكم أو عليك أو سلام عليك أو عليكم والله أعلم
*2* باب إرضاء الساعي ما لم يطلب حراما
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا حَفْصُ بْنُغِيَاثٍ وَ أَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ وَ ابْنُ أَبِي عَدِيَ وَ عَبْدُ الأَعْلَىَ. كُلّهُمْ عَنْ دَاوُدَ. ح وَحَدّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ (وَاللّفْظُ لَهُ) قال: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا دَاوُدُ عَنِ الشّعْبِيّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَتَاكُمُ الْمُصَدّقُ فَلْيَصْدُرْ عَنْكُمْ وَهُوَ عَنْكُمْ رَاضٍ".
قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتاكم المصدق فليصدر عنكم وهو عنكم راض) المصدق الساعي ومقصود الحديث الوصاية بالسعاة وطاعة ولاة الأمور وملاطفتهم وجمع كلمة المسلمين وصلاح ذات البين، وهذا كله ما لم يطلب جوراً، فإذا طلب جوراً فلا موافقة له ولا طاعة لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس في صحيح البخاري: "فمن سئلها على وجهها فليعطها ومن سئل فوقها فلا يعط" واختلف أصحابنا في معنى قوله صلى الله عليه وسلم فلا يعط فقال أكثرهم: لا يعطى الزيادة بل يعطى الواجب، وقال بعضهم: لا يعطيه شيئاً أصلاً لأنه يفسق بطلب الزيادة وينعزل فلا يعطى شيئاً والله أعلم.