كتاب الوصية
 *1* كتاب الوصية
*2* باب
*حدّثنا أَبُو خَيْثَمَةَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى الْعَنَزِيّ (وَاللّفْظُ لاِبْنَ الْمُثَنّى) قَالاَ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ (وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ الْقَطّانُ) عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا حَقّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، لَهُ شَيْءٌ يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ، إلاّ وَوَصِيّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ و عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنِي أَبِي، كِلاَهُمَا عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنّهُمَا قَالاَ "وَلَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ" وَلَمْ يَقُولاَ "يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ".
وحدّثنا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيّ: حَدّثَنَا حَمّادٌ (يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ)، ح وَحَدّثَنِي زُهَيْرُ ابْنُ حَرْبٍ، حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (يَعْنِي ابْنَ عُلَيّةَ) كِلاَهُمَا عَنْ أَيّوبَ: ح وَحَدّثَنِي أَبُو الطّاهِرِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أخْبَرَنِي يُونُسُ، ح وَحَدَثّنِي هَارُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبِ: أخْبَرَنِي أسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ اللّيْثِيّ، ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ، حَدّثَنَا ابْنُ أبِي فُدَيْكِ، أخْبَرَنَا هِشَامٌ (يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ)، كُلّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللّهِ، وَقَالُوا جَمِيعاً: "لَهُ شَيءٌ يُوصِي فِيهِ" إِلاّ فِي حَدِيثِ أَيّوبَ فَإِنّهُ قَالَ: "يُرِيدُ أَنْ يُوصِيَ فِيهِ" كَرِوَايَةِ يَحْيَىَ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ.
حدّثنا هَرُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو (وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "مَا حَقّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ، يَبِيتُ ثَلاَثَ لَيَالٍ إلاّ وَوَصِيّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ"،
قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ: مَا مَرّتْ عَلَيّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ ذَلِكَ، إلاّ وَعِنْدِي وَصِيّتِي.
وحدّثنيهِ أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرمْلَةُ قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، ح وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللّيْثِ: حَدّثَنِي أَبِي عَنْ جَدّي: حَدّثَنِي عُقَيْلٌ، ح وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلّهُمْ عَنِ الزّهْرِيّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ.
قال الأزهري: هي مشتقة من وصيت الشيء أوصيه إذا وصلته، وسميت وصية لأنه وصل ما كان في حياته بما بعده، ويقال وصى وأوصى إيصاء والاسم الوصية والوصاة. واعلم أن أول كتاب الوصية هو ابتداء الفوات الثاني من المواضع الثلاثة التي فاتت إبراهيم بن محمد بن سفيان صاحب مسلم فلم يسمعها من مسلم، وقد سبق بيان هذه المواضع في الفصول التي في أول هذا الشرح، وسبق أحد المواضع في كتاب الحج وهذا أول الثاني وهو قول مسلم: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب ومحمد بن المثنى العنزي واللفظ لابن مثنى قالا: حدثنا يحيى وهو ابن سعيد القطان عن عبيد الله قال: أخبرني نافع عن ابن عمر. قوله صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئ مسلم له شيء يري أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده". وفي رواية: (ثلاث ليال) فيه الحث على الوصية، وقد أجمع المسلمون على الأمر بها لكن مذهبنا ومذهب الجماهير أنها مندوبة لا واجبة. وقال داود وغيره من أهل الظاهر: هي واجبة لهذا الحديث ولا دلالة لهم فيه فليس فيه تصريح بإيجابها، لكن إن كان على الإنسان دين أو حق أو عنده وديعة ونحوها لزمه الإيصاء بذلك، قال الشافعي رحمه الله: معنى الحديث ما الحزم وإِلاحتياط للمسلم إلا أن تكون وصيته مكتوبة عنده، ويستحب تعجيلها وأن يكتبها في صحته ويشهد عليه فيها ويكتب فيها ما يحتاج إليه، فإن تجدد له أمر يحتاج إلى الوصية به ألحقه بها، قالوا: ولا يكلف أن يكتب كل يوم محقرات المعاملات وجزئيات الأمور المتكررة، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ووصيته مكتوبة عنده" فمعناه مكتوبة وقد أشهد عليه بها لا أنه يقتصر على الكتاب بل لا يعمل بها ولا تنفع إلا إذا كان أشهد عليه بها، هذا مذهبنا ومذهب الجمهور، وقال الإمام محمد بن نصر المروزي من أصحابنا: يكفي الكتاب من غير إشهاد لظاهر الحديث والله أعلم
*2* باب الوصية بالثلث
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التّمِيمِيّ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: عَادَنِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي حَجّةِ الْوَدَاعِ، مِنْ وَجَعٍ أَشْفَيْتُ مِنْهُ عَلَىَ الْمَوْتِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ بَلَغَنِي مَا تَرَىَ مِنَ الْوَجَعِ، وَأَنَا ذُو مَالٍ، وَلاَ يَرِثُنِي إِلاّ بنت لِي وَاحِدَةٌ، أَفَأَتَصَدّقُ بِثُلُثَيْ مَالِي؟ قَالَ "لاَ"قَالَ قُلْتُ: أَفأَ تَصَدّقُ بِشَطْرِهِ؟ قَالَ "لاَ، الثّلُثُ، وَالثّلُثُ كَثِيرٌ، إنّكَ إنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفّفُونَ النّاسَ، وَلَسْتَ تُنْفِقُ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللّهِ، إلاّ أُجِرْتَ بِهَا، حَتّى اللّقْمَةُ تَجْعَلُهَا فِي فيّ امْرَأَتِكَ" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أُخَلّفُ بَعْدَ أَصْحَابِي؟ قَالَ: "إنّكَ لَنْ تُخَلّفَ فَتَعْمَلَ عَمَلاً تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللّهِ، إلاّ ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً، وَلَعَلّكَ تُخَلّفُ حَتّىَ يُنْفَعَ بِكَ أَقْوَامٌ وَيُضَرّ بِكَ آخَرُونَ، اللّهُمّ أَمْضِ لأَصْحَابِي هِجْرَتَهُمْ وَلاَ تَرُدّهُمْ عَلَىَ أَعْقَابِهِمْ، لَكِنِ الْبَائِسُ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ"،
قَالَ: رَثَى لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ تُوُفّيَ بِمَكّةَ.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالاَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، ح وَحَدّثَنِي أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ و عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، كُلّهُمْ عَنِ الزّهْرِيّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ.
وحدّثني إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدٍ قَالَ: دَخَلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَيّ يَعُودُنِي، فَذَكَرَ بِمَعْنَىَ حَدِيثِ الزّهْرِيّ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي سَعْدِ بْنِ خَوْلَةَ، غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَمُوتَ بِالأَرْضِ الّتِي هَاجَرَ مِنْهَا.
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَىَ: حَدّثَنَا زُهَيْرٌ، حَدّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، حَدّثَنِي مُصْعَبُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرِضْتُ فَأَرْسَلْتُ إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: دَعْنِي أَقْسِمْ مَالِي حَيْثُ شِئْتُ، فَأَبىَ، قُلْتُ: فَالنّصْفُ؟ فَأَبىَ، قُلْتُ: فَالثّلُثُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ بَعْدَ الثّلُثِ،
قَالَ: فَكَانَ، بَعْدُ، الثّلُثُ جَائِزاً.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى و ابْنُ بَشّارٍ قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ: فَكَانَ، بَعْدُ، الثّلُثُ جَائِزاً.
وحدّثني الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيّاءَ: حَدّثَنَا حُسَيْن بْنُ عَلِيّ عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ ابْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ أَبِيهِ قَالَ: عَادَنِي النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: أُوصِي بِمَالِي كُلّهِ، قَالَ "لاَ"، قُلْتُ: فَالنّصْفِ، قَالَ "لاَ" فَقُلْتُ: أَبِالثّلُثِ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ، وَالثّلُثُ كَثِيرٌ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكّيّ: حَدّثَنَا الثّقَفِيّ، عَنْ أَيّوبَ السّخْتِيَانِيّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِمْيَرِيّ، عَنْ ثَلاَثَةٍ مِنْ وَلَدِ سَعْدٍ، كُلّهُمْ يُحَدّثُهُ عَنْ أَبِيهِ: أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَىَ سَعْدٍ يَعُودُهُ بِمَكّةَ، فَبَكَىَ، قَالَ: "مَا يُبْكِيكَ؟" فَقَالَ: قَدْ خَشِيتُ أَنْ أَمُوتَ بِالأَرْضِ الّتِي هَاجَرْتُ مِنْهَا، كَمَا مَاتَ سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ، فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "اللّهُمّ اشْفِ سَعْداً، اللّهُمّ اشْفِ سَعْداً" ثَلاَثَ مِرَارٍ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ لِي مَالاً كَثِيراً، وَإنّمَا يَرِثُنِي ابْنَتِي، أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلّهِ؟ قَالَ: "لاَ" قَالَ: فَبِالثّلُثَيْنِ؟ قَالَ: "لاَ" قَالَ: فَالنّصْفُ؟ قَالَ: "لاَ" قَالَ: فَالثّلُثِ؟ قَالَ: "الثّلُثُ وَالثّلُثُ كَثِيرٌ، إنّ صَدَقَتَكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ، وَإنّ نَفَقَتَكَ عَلَىَ عِيَالِكَ صَدَقَةٌ وَإنّ مَا تَأْكُلُ امْرَأَتُكَ مِنْ مَالِكَ صَدَقَةٌ، وَإنّكَ أَنْ تَدَعَ أَهْلَكَ بِخَيْرٍ (أَوْ قَالَ بِعَيْشٍ)، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ يَتَكَفّفُونَ النّاسَ" وَقَالَ بِيَدِهِ.
وحدّثني أَبُو الرّبِيعِ الْعَتَكِيّ: حَدّثَنَا حَمّادٌ: حَدّثَنَا أَيّوبُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِمْيَرِي، عَنْ ثَلاَثَةٍ مِنْ وَلَدَ سَعْدٍ قَالُوا: مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكّةَ، فَأَتَاهُ النبي صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، بِنَحْوِ حَدِيثِ الثّقَفِيّ.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَىَ: حَدّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ مُحَمّدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ: حَدّثَنِي ثَلاَثَةٌ مِنْ وَلَدِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ، كُلّهُمْ يُحَدّثُنِيهِ بِمِثْلِ حَدِيثِ صَاحِبِهِ فَقَالَ: مَرِضَ سَعْدٌ بِمَكّةَ، فَأَتَاهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَعُودُهُ، بِمِثْلِ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ عَنْ حُمَيْدٍ الْحِمْيَرِيّ.
حدّثني إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى الرّازِيّ: أَخْبَرَنَا عِيسَىَ (يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ)، ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ قَالاَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، كُلّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: لَوْ أَنّ النّاسَ غَضّوا مِنَ الثّلُثِ إلَى الرّبُعِ، فَإنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الثّلُثُ، وَالثّلُثُ كَثِير"،
وَفِي حَدِيثِ وَكِيعٍ "كَبِيرٌ أَوْ كَثِيرٌ"،
قوله في حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: (عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجع أشفيت منه على الموت) فيه استحباب عيادة المريض وأنها مستحبة للإمام كاستحبابها لاَحاد الناس، ومعنى أشفيت على الموت أي قاربته وأشرفت عليه، يقال أشفى عليه وأشاف قاله الهروي، وقال ابن قتيبة: لا يقال أشفى إلا في الشر، قال إبراهيم الحربي: الوجع اسم لكل مرض، وفيه جواز ذكر المريض ما يجده لغرض صحيح من مداواة أو دعاء صالح أو وصية أو استفتاء عن حاله ونحو ذلك، وإنما يكره من ذلك ما كان على سبيل التسخط ونحوه فإنه قادح في أجر مرضه. قوله: (وأنا ذو مال) دليل على إباحة جمع المال لأن هذه الصيغة لا تستعمل في العرف إلا لمال كثير. قوله: (ولا يرثني إلا ابنة لي) أي ولا يرثني من الولد وخواص الورثة وإلا فقد كان له عصبة، وقيل معناه لا يرثني من أصحاب الفروض. قوله: (أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: أفأتصدق بشطره؟ قال: لا الثلث والثلث كثير) بالمثلثة، وفي بعض بالموحدة وكلاهما صحيح، قال القاضي: يجوز نصب الثلث الأول ورفعه، أما النصب فعلى الإغراء أو على تقدير فعل أي أعط الثلث، وأما الرفع فعلى أنه فاعل أي يكفيك الثلث أو أنه مبتدأ وحذف خبره أو خبر محذوف المبتدأ، وفي هذا الحديث مراعاة العدل بين الورثة والوصية، قال أصحابنا وغيرهم من العلماء: إن كانت الورثة أغنياء استحب أن يوصي بالثلث تبرعاً، وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص من الثلث، وأجمع العلماء في هذه الأعصار على أن من له وارث لا تنفذ وصيته بزيادة على الثلث إلا بإجازته وأجمعوا على نفوذها بإجازته في جميع المال، وأما من لا وارث له فمذهبنا ومذهب الجمهور أنه لا تصح وصيته فيما زاد على الثلث، وجوزه أبو حنيفة وأصحابه وإسحاق وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وأما قوله: أفأتصدق بثلثي مالي؟ يحتمل أنه أراد بالصدقة الوصية، ويحتمل أنه أراد الصدقة المنجزة وهما عندنا وعند العلماء كافة سواء لا ينفذ ما زاد على الثلث إلا برضا الوارث، وخالف أهل الظاهر فقالوا للمريض مرض الموت أن يتصدق بكل ماله ويتبرع به كالصحيح، ودليل الجمهور ظاهر حديث الثلث كثير مع حديث الذي أعتق ستة أعبد في مرضه فأعتق النبي صلى الله عليه وسلم اثنين وأرق أربعة. قوله صلى الله عليه وسلم: "إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس" العالة الفقراء ويتكففون يسألون الناس في أكفهم، قال القاضي رحمه الله: روينا قوله إن تذر ورثتك بفتح الهمزة وكسرها وكلاهما صحيح، وفي هذا الحديث حث على صلة الأرحام والإحسان إلى الأقارب والشفقة على الورثة، وأن صلة القريب الأقرب والإحسان إليه أفضل من الأبعد، واستدل به بعضهم على ترجيح الغني على الفقير. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولست تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله تعالى إلا أجرت بها حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك" فيه استحباب الإنفاق في وجوه الخير، وفيه أن الأعمال بالنيات، وأنه إنما يثاب على عمله بنيته، وفيه أن الإنفاق على العيال يثاب عليه إذا قصد به وجه الله تعالى، وفيه أن المباح إذا قصد به وجه الله تعالى صار طاعة ويثاب عليه وقد نبه صلى الله عليه وسلم على هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: حتى اللقمة تجعلها في في امرأتك لأن زوجة الإنسان هي من أخص حظوظه الدنيوية وشهواته وملاذه المباحة، وإذا وضع اللقمة في فيها فإنما يكون ذلك في العادة عند الملاعبة والملاطفة والتلذذ بالمباح، فهذه الحالة أبعد الأشياء عن الطاعة وأمور الاَخرة، ومع هذا فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه إذا قصد بهذه اللقمة وجه الله تعالى حصل له الأجر بذلك، فغير هذه الحالة أولى بحصول الأجر إذا أراد وجه الله تعالى، ويتضمن ذلك أن الإنسان إذا فعل شيئاً أصله على الإباحة وقصد به وجه الله تعالى يثاب عليه وذلك كالأكل بنية التقوى على طاعة الله تعالى والنوم للاستراحة ليقوم إلى العبادة نشيطاً والاستمتاع بزوجته وجاريته ليكف نفسه وبصره ونحوهما عن الحرام وليقضي حقها وليحصل ولداً صالحاً، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: وفي بضع أحدكم صدقة والله أعلم.
قوله: (قلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابي؟ قال: إنك لن تخلف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله تعالى إلا ازددت به درجة ورفعة) فقال القاضي معناه أخلف بمكة بعد أصحابي فقاله إما إشفاقاً من موته بمكة لكونه هاجر منها وتركها لله تعالى فخشي أن يقدح ذلك في هجرته أو في ثوابه عليها، أو خشي بقاءه بمكة بعد انصراف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة وتخلفه عنهم بسبب المرض وكانوا يكرهون الرجوع فيما تركوه لله تعالى، ولهذا جاء في رواية أخرى: أخلف عن هجرته، قال القاضي: قيل كان حكم الهجرة باقياً بعد الفتح لهذا الحديث، وقيل إنما كان ذلك لمن كان هاجر قبل الفتح فأما من هاجر بعده فلا، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إنك لن تخلف فتعمل عملاً" فالمراد بالتخلف طول العمر والبقاء في الحياة بعد جماعات من أصحابه، وفي هذا الحديث فضيلة طول العمر للازدياد من العمل الصالح والحث على إرادة وجه الله تعالى بالأعمال والله تعالى أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولعلك تخلف حتى ينفع بك أقوام ويضر بك آخرون" وفي بعض النسخ ينتفع بزيادة التاء وهذا الحديث من المعجزات، فإن سعداً رضي الله عنه عاش حتى فتح العراق وغيره وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم وتضرر به الكفار في دينهم ودنياهم فإنهم قتلوا وصاروا إلى جهنم وسبيت نساؤهم وأولادهم وغنمت أموالهم وديارهم وولي العراق فاهتدى على يديه خلائق وتضرر به خلائق بإقامته الحق فيهم من الكفار ونحوهم. قال القاضي: قيل لا يحبط أجر هجرة المهاجر بقاؤه بمكة وموته بها إذا كان لضرورة وإنما كان يحبطه ما كان بالاختيار. قال: وقال قوم موت المهاجر بمكة محبط هجرته كيفما ما كان، قال: وقيل لم تفرض الهجرة إلا على أهل مكة خاصة. قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم امض لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم" قال القاضي: استدل به بعضهم على أن بقاء المهاجر بمكة كيف كان قادح في هجرته، قال: ولا دليل فيه عندي لأنه يحتمل أنه دعا لهم دعاء عاماً، ومعنى امض لأصحابي هجرتهم أي أتممها ولا تبطلها ولا تردهم على أعقابهم بترك هجرتهم ورجوعهم عن مستقيم حالهم المرضية. قوله صلى الله عليه وسلم: (لكن البائس سعد بن خولة) البائس هو الذي عليه أثر البؤس وهو الفقر والقلة. قوله: "يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة" قال العلماء: هذا من كلام الراوي وليس هو من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل انتهى كلامه صلى الله عليه وسلم بقوله: لكن البائس سعد بن خولة، فقال الراوي تفسيراً لمعنى هذا الكلام أنه يرثيه النبي صلى الله عليه وسلم ويتوجع له ويرق عليه لكونه مات بمكة، واختلفوا في قائل هذا الكلام من هو فقيل هو سعد بن أبي وقاص وقد جاء مفسراً في بعض الروايات، قال القاضي: وأكثر ما جاء أنه من كلام الزهري، قال: واختلفوا في قصة سعد بن خولة فقيل لم يهاجر من مكة حتى مات بها، قال عيسى بن دينار وغيره وذكر البخاري أنه هاجر وشهد بدراً ثم انصرف إلى مكة وات بها، وقال ابن هشام: أنه هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية وشهد بدراً وغيرها وتوفي بمكة في حجة الوداع سنة عشر، وقيل توفي بها سنة سبع في الهدنة خرج مجتازاً من المدينة، فعلى هذا وعلى قول عيسى بن دينار سبب بؤسه سقوط هجرته لرجوعه مختاراً وموته بها، وعلى قول الاَخرين سبب بؤسه موته بمكة على أي حال كان وإن لم يكن باختياره لما فاته من الأجر والثواب الكامل بالموت في دار هجرته والغربة عن وطنه إلى هجرة الله تعالى، قال القاضي: وقد روي في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خلف مع سعد بن أبي وقاص رجلاً وقال له إن توفي بمكة فلا تدفنه بها، وقد ذكر مسلم في الرواية الأخرى أنه كان يكره أن يموت في الأرض التي هاجر منها. وفي رواية أخرى لمسلم قال سعد بن أبي وقاص: خشيت أن أموت بالأرض التي هاجرت منها كما مات سعد بن خولة، وسعد بن خولة هذا هو زوج سبيعة الأسلمية، وفي حديث سعد هذا جواز تخصيص عموم الوصية المذكورة في القرآن بالسنة وهو قول جمهور الأصوليين وهو الصحيح. قوله: (حدثنا أبو داود الحفري) هو بحاء مهملة ثم فاء مفتوحتين منسوب إلى الحفر بفتح الحاء والفاء وهي محلة بالكوفة كان أبو داود يسكنها، هكذا ذكره أبو حاتم بن حبان وأبو سعد السمعاني وغيرهما، واسم أبي داود هذا عمرو بن سعد الثقة الزاهد الصالح العابد، قال علي المديني: ما أعلم أني رأيت بالكوفة أعبد من أبي داود الحفري، وقال وكيع: إن كان يدفع بأحد في زماننا يعني البلاء والنوازل فبأبي داود توفي سنة ثلاث وقيل سنة ست ومائتين رحمه الله. قوله: (عن حميد بن عبد الرحمن الحميري عن ثلاثة من ولد سعد كلهم يحدثه عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على سعد يعوده بمكة).
وفي الرواية الأخرى: (عن حميد عن ثلاثة ممن ولد سعد قالوا مرض سعد بمكة فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده) فهذه الرواية مرسلة والأولى متصلة لأن أولاد سعد تابعيون، وإنما ذكر مسلم هذه الروايات المختلفة في وصله وإرساله ليبين اختلاف الرواة في ذلك، قال القاضي: وهذا وشبهه من العلل التي وعد مسلم في خطبة كتابه أنه يذكرها في مواضعها فظن ظانون أنه يأتي بها مفردة وأنه توفي قبل ذكرها، والصواب أنه ذكرها في تضاعيف كتابه كما أوضحناه في أول هذا الشرح، ولا يقدح هذا الخلاف في صحة هذه الرواية ولا في صحة أصل الحديث، لأن أصل الحديث ثابت من طرق من غير جهة حميد عن أولاد سعد، وثبت وصله عنهم في بعض الطرق التي ذكرها مسلم، وقد قدمنا في أول هذا الشرح أن الحديث إذا روي متصلاً ومرسلاً فالصحيح الذي عليه المحققون أنه محكوم باتصاله لأنها زيادة ثقة، وقد عرض الدارقطني بتضعيف هذه الرواية وقد سبق الجواب عن اعتراضه الاَن وفي مواضع نحو هذا والله أعلم.
قوله: "عن ابن عباس قال: لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الثلث والثلث كثير" قوله غضوا بالغين والضاد المعجمتين أي نقصوا، وفيه استحباب النقص عن الثلث، وبه قال جمهور العلماء مطلقاً، ومذهبنا أنه إن كان ورثته أغنياء استحب الإيصاء بالثلث وإلا فيستحب النقص منه. وعن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أوصى بالخمس. وعن علي رضي الله عنه نحوه. وعن ابن عمر وإسحاق بالربع، وقال آخرون بالسدس، وآخرون بدونه، وقال آخرون بالعشر، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله تعالى: كانوا يكرهون الوصية بمثل نصيب أحد الورثة. وروي عن علي وابن عباس وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم أنه يستحب لمن له ورثة وماله قليل ترك الوصية. قوله في إسناد هذا الحديث. وحدثنا أبو كريب قال حدثنا ابن نمير كلهم عن هشام بن عروة عن أبيه عن ابن عباس هكذا هو في نسخ بلادنا وهي من رواية الجلودي ففي جميعها أبو كريب، وذكر القاضي أنه وقع في نسخة ابن ماهان أبو كريب كما ذكرناه وفي نسخة الجلودي أبو بكر بن أبي شيبة بدل أبي كريب والصواب ما قدمناه والله أعلم
*2* باب وصول ثواب الصدقات إلى الميت
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ قَالُوا: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ) عَنِ الْعَلاَءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَجُلاً قَالَ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ أَبِي مَاتَ وَتَرَكَ مَالاً وَلَمْ يُوصِ، فَهَلْ يُكَفّرُ عَنْهُ أَنْ أَتَصَدّقَ عَنْهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ".
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَجُلاً قَالَ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إنّ أُمّيَ افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا، وَإنّي أَظُنّهَا لَوْ تَكَلّمَتْ تَصَدّقَتْ، فَلِيَ أَجْرٌ أَنْ أَتَصَدّقَ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الله بْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ: حَدّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَجُلاً أَتى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله إِنّ أُمّي افْتُلِتَتْ نَفْسَهَا، وَلَمْ تُوصِ، وَأَظُنَها لَوْ تَكَلّمَتْ تَصَدّقَتْ، أَفَلَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ "نَعَمْ".
وحدّثناه أَبُو كُرَيْبٍ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، ح وَحَدّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مُوسَىَ، حَدّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِسْحَقَ، ح وَحَدّثَنِي أُمَيّةُ بْنُ بِسْطَامَ: حَدّثَنَا يَزِيدُ (يَعْنِي ابْنِ زُرَيْعٍ)، حَدّثَنَا رَوْحٌ (وَهُوَ ابنُ الْقَاسِمِ)، ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ، كُلّهُمْ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، أَمّا أَبُو أُسَامَةَ وَرَوْحٌ فَفِي حَدِيثِهِمَا: فَهَلْ لِي أَجْرٌ؟ كَمَا قَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، وَأَمّا شُعَيْبٌ وَجَعْفَر فَفِي حَدِيثِهِمَا: أَفَلَهَا أَجْرٌ؟ كَرِوَايَةِ ابْنِ بِشْرٍ.
قوله: (إن أبي مات وترك مالاً ولم يوص فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم). وفي رواية: (إن أميت افتلتت نفسها وإني أظنها لو تكلمت تصدقت فلي أجر أن أتصدق عنها؟ قال: نعم). قوله: (افتلتت) بالفاء وضم التاء أي ماتت بغتة وفجأة، والفلتة وإِلافتلات ما كان بغتة، وقوله نفسها برفع السين ونصبها هكذا ضبطوه وهما صحيحان الرفع على ما لم يسم فاعله والنصب على المفعول الثاني، وأما قوله أظنها لو تكلمت تصدقت معناه لما علمه من حرصها على الخير أو لما علمه من رغبتها في الوصية، وفي هذا الحديث جواز الصدقة عن الميت واستحبابها وأن ثوابها يصله وينفعه وينفع المتصدق أيضاً، وهذا كله أجمع عليه المسلمون، وسبقت المسألة في أول هذا الشرح في شرح مقدمة صحيح مسلم، وهذه الأحاديث مخصصة لعموم قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} وأجمع المسلمون على أنه لا يجب على الوارث التصدق عن ميتة صدقة التطوع بل هي مستحبة، وأما الحقوق المالية الثابتة على الميت فإن كان له تركه وجب قضاؤها منها سواء أوصى بها الميت أم لا، ويكون ذلك من رأس الماء، سواء ديون الله تعالى كالزكاة والحج والنذر والكفارة وبدل الصوم ونحو ذلك ودين الاَدمي، فإن لم يكن للميت تركة لم يلزم الوارث قضاء دينه لكن يستحب له ولغيره قضاؤه. قوله: فهل يكفر عنه أن أتصدق عنه أي هل تكفر صدقتي عنه سيئاته والله أعلم
*2* باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَة (يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ) وَ ابْنُ حُجْرٍ قَالُوا: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (هُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ) عَنِ الْعَلاَءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إذَا مَاتَ الإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلاّ مِنْ ثَلاَثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة: إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" قال العلماء: معنى الحديث أن عمل الميت ينقطع بموته وينقطع تجدد الثواب له إلا في هذه الأشياء الثلاثة لكونه كان سببها، فإن الولد من كسبه، وكذلك العلم الذي خلفه من تعليم أو تصنيف، وكذلك الصدقة الجارية وهي الوقف وفيه فضيلة الزواج لرجاء ولد صالح، وقد سبق بيان اختلاف أحوال الناس فيه وأوضحنا ذلك في كتاب النكاح، وفيه دليل لصحة أصل الوقف وعظيم ثوابه وبيان فضيلة العلم والحث على الاستكثار منه والترغيب في توريثه بالتعليم والتصنيف والإيضاح، وأنه ينبغي أن يختار من العلوم الأنفع فالأنفع، وفيه أن الدعاء يصل ثوابه إلى الميت وكذلك الصدقة وهما مجمع عليهما وكذلك قضاء الدين كما سبق، وأما الحج فيجزي عن الميت عند الشافعي وموافقيه وهذا داخل في قضاء الدين إن كان حجاً واجباً وإن كان تطوعاً وصى به فهو من باب الوصايا، وأما إذا مات وعليه صيام فالصحيح أن الولي يصوم عنه وسبقت المسألة في كتاب الصيام. وأما قراءة القرآن وجعل ثوابها للميت والصلاة عنه ونحوهما فمذهب الشافعي والجمهور أنها لا تلحق الميت وفيها خلاف وسبق إيضاحه في أول هذا الشرح في شرح مقدمة صحيح مسلم
*2* باب الوقف
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التّمِيمِيّ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنِ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: أَصَابَ عُمَرُ أَرْضاً بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّي أَصَبْتُ أَرْضاً بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالاً قَطّ هُوَ أَنْفَسُ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُنِي بِهِ؟ قَالَ: "إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدّقْتَ بِهَا"، قَالَ: فَتَصَدّقَ بِهَا عُمَرُ أَنّهُ لاَ يُبَاعُ أَصْلُهَا، وَلاَ يُبْتَاعُ، وَلاَ يُورَثُ، وَلاَ يُوهَبُ، قَالَ: فَتَصَدّقَ عُمَرُ فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَىَ، وَفِي الرّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللّهِ، وَابْنِ السّبِيلِ، وَالضّيْفِ، لاَ جُنَاحَ عَلَىَ مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقاً، غَيْرَ مُتَمَوّلٍ فِيهِ.
قَالَ: فَحَدّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمّداً، فَلَمّا بَلَغْتُ هَذَا الْمَكَانَ: غَيْرَ مُتَمَوّلٍ فِيهِ، قَالَ مُحَمّدٌ: غَيْرَ مُتَأَثّلٍ مَالاً.
قَالَ ابْنُ عوْنٍ: وَأَنْبَأَنِي مَنْ قَرَأَ هَذَا الْكِتَابَ أَنّ فِيهِ: غَيْرَ مُتَأَثّلٍ مَالاً.
حدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ، أَخْبَرَنَا أَزْهَرُ السّمّانُ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمَثَنّى: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيّ، كُلّهُمْ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنّ حَدِيثَ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ وَأَزْهَرَ انْتَهَىَ عِنْدَ قَوْلِهِ "أَوْ يُطْعِمَ صَدِيقاً غَيْرَ مُتَمَوّلِ فِيهِ" وَلَمْ يُذْكَرْ مَا بَعْدَهُ، وَحَدِيثُ ابْنِ أَبِي عَدِيّ فِيهِ مَا ذَكَرَ سُلَيْمٌ قوله: فَحَدّثْتُ بِهَذَا الْحَدِيثِ مُحَمّداً إِلَى آخِرِهِ.
وحدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَهِيمَ: حَدّثَنَا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيّ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: أَصَبْتُ أَرْضاً مِنْ أَرْضِ خَيْبَرَ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: أَصَبْتُ أَرْضاً لَمْ أُصِبْ مَالاً أَحَبّ إلَيّ وَلاَ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهَا، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ، وَلَمْ يَذْكُرْ: فَحَدّثْتُ مُحَمّداً وَمَا بَعْدَهُ.
قوله: "أصاب عمر أرضاً بخيبر فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها فقال يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي منه فما تأمرني به؟ قال: إن شئت حبست أصلها وتصدقت بها فتصدق بها عمر أنه لا يباع أصلها ولا يورث ولا يوهب، قال: فتصدق عمر في الفقراء وفي القربى وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل والضعيف لا جناح على من وليها أن يأكل منها بالمعروف أو يطعم صديقاً غير متمول فيه". وفي رواية: (غير متأثل مالاً) أما قوله هو أنفس معناه أجود والنفيس الجيد وقد نفس بفتح النون وضم الفاء نفاسة، واسم هذا المال الذي وقفه عمر ثمغ بثاء مثلثة مفتوحة ثم ميم ساكنة ثم غين معجمة، وأما قوله غير متأثل فمعناه غير جامع، وكل شيء له أصل قديم أو جمع حتى يصير له أصل فهو مؤثل، ومنه مجد مؤثل أي قديم واثلة الشيء أصله. وفي هذا الحديث دليل على صحة أصل الوقف وأنه مخالف لشوائب الجاهلية وهذا مذهبنا ومذهب الجماهير، ويدل عليه أيضاً إجماع المسلمين على صحة وقف المساجد والسقايات، وفيه أن الوقف لا يباع ولا يوهب ولا يورث إنما يتبع فيه شرط الواقف، وفيه صحة شروط الواقف، وفيه فضيلة الوقف وهي الصدقة الجارية، وفيه فضيلة الإنفاق مما يحب، وفيه فضيلة ظاهرة لعمر رضي الله عنه، وفيه مشاورة أهل الفضل والصلاح في الأمور وطرق الخير، وفيه أن خيبر فتحت عنوة وأن الغانمين ملكوها واقتسموها واستقرت أملاكهم على حصصهم ونفذت تصرفاتهم فيها، وفيه فضيلة صلة الأرحام والوقف عليهم. وأما قوله يأكل منها بالمعروف فمعناه يأكل المعتاد ولا يتجاوزه والله أعلم
*2* باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التّمِيمِيّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيَ، عَنْ مَالِكِ ابْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرّفٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَىَ: هَلْ أَوْصَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لاَ، قُلْتُ: فَلِمَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيّةُ، أَوْ فَلِمَ أُمِرُوا بِالْوَصِيّةِ؟ قَالَ: أَوْصَىَ بِكِتَابِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ.
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي، كِلاَهُمَا عَنْ مَالِكِ بْنِ مَغْوَلٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، غَيْرَ أَنّ فِي حَدِيثِ وَكِيعٍ: قُلْتُ: فَكَيْفَ أُمِرَ النّاسُ بِالْوَصِيّةِ؟ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ: قُلْتُ: كَيْفَ كُتِبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْوَصِيّةُ؟.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي وَ أَبُو مُعَاوِيَةَ قَالاَ: حَدّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا تَرَكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم دِينَاراً، وَلاَ دِرْهَماً، وَلاَ شَاةً، وَلاَ بَعِيراً، وَلاَ أَوْصَىَ بِشَيْءٍ.
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، كُلّهُمْ عَنْ جَرِيرٍ، ح وَحَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ خَشْرَمٍ: أَخْبَرَنَا عِيسَىَ (وَهُوَ ابْنُ يُونُسَ) جَمِيعاً عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.
وحدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ (وَاللّفْظُ لِيَحْيَىَ)، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُلَيّةَ: عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: ذَكَرُوا عِنْدَ عَائِشَةَ أَنّ عَلِيّاً كَانَ وَصِيّاً، فَقَالَتْ: مَتَىَ أَوْصَى إلَيْهِ؟ فَقَدْ كُنْتُ مُسْنِدَتَهُ إلَىَ صَدْرِي (أَوْ قَالَتْ حَجْرِي) فَدَعَا بِالطّسْتِ، فَلَقَدِ انْخَنَثَ فِي حَجْرِي، وَمَا شَعَرْتُ أَنّهُ مَاتَ، فَمَتَىَ أَوْصَىَ إلَيْهِ؟.
حدّثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو الناقِدُ (وَاللّفْظُ لِسَعِيدٍ) قَالُوا: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ رضي اللّهِ عنهما: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمّ بَكَىَ حَتّىَ بَلّ دَمْعُهُ الْحَصَىَ، فَقُلْتُ: يَا ابْنَ عَبّاسٍ وَمَا يَوْمُ الْخِمِيسِ؟ قَالَ: اشْتَدّ بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعُهُ، فَقَالَ: "ائْتُونِي أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لاَ تَضِلّوا بَعْدِي" فَتَنَازَعُوا، وَمَا يَنْبَغِي عِنْدَ نَبِيَ تَنَازُعٌ، وَقَالُوا: مَا شَأْنُهُ؟ أَهَجَرَ؟ اسْتَفْهِمُوهُ، قَالَ: "دَعُونِي، فَالّذِي أَنَا فِيهِ خَيْرٌ، أُوصِيكُمْ بِثَلاَثٍ: أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ"، قَالَ: وَسَكَتَ عَنِ الثّالِثَةِ أَوْ قَالَهَا فَأُنْسِيتهَا.
قَالَ أَبُو إِسْحَقَ إِبْرَاهِيمُ: حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بشْرٍ قَالَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، بِهَذِا الْحَدِيثِ.
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرّفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ قَالَ: يَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ ثُمّ جَعَلَ تَسِيلُ دُمُوعُهُ، حَتّىَ رَأَيْتُ عَلَىَ خَدّيْهِ كَأَنّهَا نِظَامُ اللّؤْلُؤِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "ائْتُونِي بِالْكَتِفِ وَالدّوَاةِ (أَوِ اللّوْحِ وَالدّوَاةِ) أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لَنْ تَضِلّوا بَعْدَهُ أَبَداً" فَقَالُوا: إِنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَهْجُرُ.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ "قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا، وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخُبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيدِ الله بْنِ عَبْدِ الله بْنُ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ) قَالَ: لَمّا حُضِرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "هَلُمّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَاباً لاَ تَضِلّونَ بَعْدَهُ"، فَقَالَ عُمَرُ: إنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ، حَسْبُنَا كِتَابُ اللّهِ، فَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ، فَاخْتَصَمُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَاباً لَنْ تَضِلّوا بَعْدَهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ مَا قَالَ عُمَرُ: فَلَمّا أَكْثَرُوا اللّغْوَ وَالاخْتِلاَفَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "قُومُوا"،
قَالَ عُبَيْدُ اللّهِ: فَكَانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَقُولُ: إنّ الرّزِيّةَ كُلّ الرّزِيّةَ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ، مِنِ اخْتِلاَفِهِمْ وَلَغَطِهِمْ.
قوله: (عن طلحة بن مصرف) هو بضم الميم وفتح الصاد وكسر الراء المشددة وحكى فتح الراء والصواب المشهور كسرها. قوله: (سألت عبد الله بن أبي أوفى هل أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، قلت: فلم كتب على المسلمين الوصية أو فلم أمروا بالوصية؟ قال: أوصى بكتاب الله تعالى).
وفي رواية عائشة رضي الله عنها: "ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ديناراً ولا درهماً ولا شاة ولا بعيراً ولا أوصى به").
وفي رواية قال: "ذكروا عند عائشة رضي الله عنها أن علياً رضي الله عنه كان وصياً فقالت متى أوصى إليه فقد كنت مسندته إلى صدري أو قالت حجري فدعا بالطست فلقد انخنث في حجري وما شعرت أنه مات فمتى أوصى". أما قولها انخنث فمعناه مال وسقط، وأما حجر الإنسان وهو حجر ثوبه فبفتح الحاء وكسرها، وأما قوله لم يوص فمعناه لم يوص بثلث ماله ولا غيره إذ لم يكن له مال ولا أوصى إلى علي رضي الله عنه ولا إلى غيره بخلاف ما يزعمه الشيعة، وأما الأرض التي كانت له صلى الله عليه وسلم بخيبر وفدك فقد سبلها صلى الله عليه وسلم في حياته ونجز الصدقة بها على المسلمين. وأما الأحاديث الصحيحة في وصيته صلى الله عليه وسلم بكتاب الله ووصيته بأهل بيته ووصيته بإخراج المشركين من جزيرة العرب وبإجازة الوفد فليست مرادة بقوله لم يوص إنما المراد به ما قدمناه وهو مقصود السائل عن الوصية فلا مناقضة بين الأحاديث. وقوله أوصى بكتاب الله أي بالعمل بما فيه وقد قال الله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} ومعناه أن من الأشياء ما يعلم منه نصاً ومنها ما يحصل بالاستنباط. وأما قول السائل فلم كتب على المسلمين الوصية فمراده قوله تعالى: {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية} وهذه الاَية منسوخة عند الجمهور، ويحتمل أن السائل أراد بكتب الوصية الندب إليها والله أعلم.
قوله: (عن ابن عباس يوم الخميس وما يوم الخميس) معناه تفخيم أمره في الشدة والمكروه فيما يعتقده ابن عباس وهو امتناع الكتاب، ولهذا قال ابن عباس: الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب هذا الكتاب هذا مراد ابن عباس وإن كان الصواب ترك الكتاب كما سنذكره إن شاء الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم حين اشتد وجعه: "ائتوني بالكتف والدواة أو اللوح والدواة أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده أبداً، فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يهجر". وفي رواية: قوله: (فقال عمر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف أهل البيت فاختصموا) ثم ذكر أن بعضهم أراد الكتاب وبعضهم وافق عمر، وأنه لما أكثروا اللغو وإِلاختلاف قال النبي صلى الله عليه وسلم قوموا. اعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكذب ومن تغيير شيء من الأحكام الشرعية في حال صحته وحال مرضه، ومعصوم من ترك بيان ما أمر ببيانه وتبليغ ما أوجب الله عليه تبليغه، وليس معصوماً من الأمراض والأسقام العارضة للأجسام ونحوها مما لا نقص فيه لمنزلته ولا فساد لما تمهد من شريعته، وقد سحر صلى الله عليه وسلم حتى صار يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله ولم يصدر منه صلى الله عليه وسلم، وفي هذا الحال كلام في الأحكام مخالف لما سبق من الأحكام التي قررها، فإذا علمت ما ذكرناه فقد اختلف العلماء في الكتاب الذي هم النبي صلى الله عليه وسلم به فقيل أراد أن ينص على الخلافة في إنسان معين لئلا يقع نزاع وفتن، وقيل أراد كتاباً يبين فيه مهمات الأحكام ملخصة ليرتفع النزاع فيها ويحصل إِلاتفاق على المنصوص عليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم هم بالكتاب حين ظهر له أنه مصلحة أو أوحي إليه بذلك ثم ظهر أن المصلحة تركه أو أوحي إليه بذلك ونسخ ذلك الأمر الأول. وأما كلام عمر رضي الله عنه فقد اتفق العلماء المتكلمون في شرح الحديث على أنه من دلائل فقه عمر وفضائله ودقيق نظره لأنه خشي أن يكتب صلى الله عليه وسلم أموراً بما عجزوا عنها واستحقوا العقوبة عليها لأنها منصوصة لا مجال للاجتهاد فيها فقال عمر: حسبنا كتاب الله لقوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم} فعلم أن الله تعالى أكمل دينه فأمن الضلال على الأمة وأراد الترفيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان عمر أفقه من ابن عباس وموافقه. قال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في أواخر كتابه دلائل النبوة: إنما قصد عمر التخفيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين غلبه الوجه ولو كان مراده صلى الله عليه وسلم أن يكتب ما لا يستغنون عنه لم يتركه لاختلافهم ولا لغيره لقوله تعالى: {بلغ ما أنزل إليك} كما لم يترك تبليغ غير ذلك لمخالفة من خالفه ومعاداة من عاداه، وكما أمر في ذلك الحال بإخراج اليهود من جزيرة العرب وغير ذلك مما ذكره في الحديث. قال البيهقي: وقد حكى سفيان بن عيينة عن أهل العلم قبله أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب استخلاف أبي بكر رضي الله عنه ثم ترك ذلك اعتماداً على ما علمه من تقدير الله تعالى ذلك كما هم بالكتاب في أول مرضه حين قال وارأساه ثم ترك الكتاب وقال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر، ثم نبه أمته على استخلاف أبي بكر بتقديمه إياه في الصلاة. قال البيهقي: وإن كان المراد بيان أحكام الدين ورفع الخلاف فيها فقد علم عمر حصول ذلك لقوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} وعلم أنه لا تقع واقعة إلى يوم القيامة إلا وفي الكتاب أو السنة بيانها نصاً أو دلالة، وفي تكلف النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه مع شدة وجعه كتابة ذلك مشقة، ورأى عمر إِلاقتصار على ما سبق بيانه إياه نصاً أو دلالة تخفيفاً عليه، ولئلا ينسد باب إِلاجتهاد على أهل العلم والاستنباط وإلحاق الفروع بالأصول، وقد كان سبق قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر" وهذا دليل على أنه وكل بعض الأحكام إلى اجتهاد العلماء وجعل لهم الأجر على إِلاجتهاد فرأى عمر الصواب تركهم على هذه الجملة لما فيه من فضيلة العلماء بالاجتهاد مع التخفيف عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفي تركه صلى الله عليه وسلم الإنكار على عمر دليل على استصوابه.
قال الخطابي: ولا يجوز أن يحمل قول عمر على أنه توهم الغلط على رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ظن به غير ذلك مما لا يليق به بحال، لكنه لما رأى ما غلب على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوجع وقرب الوفاة مع ما اعتراه من الكرب خاف أن يكون ذلك القول مما يقوله المريض مما لا عزيمة له فيه فتجد المنافقون بذلك سبيلاً إلى الكلام في الدين، وقد كان أصحابه صلى الله عليه وسلم يراجعونه في بعض الأمور قبل أن يجزم فيها بتحتيم كما راجعوه يوم الحديبية في الخلاف وفي كتاب الصلح بينه وبين قري 5، فأما إذا أمر بالشيء أمر عزيمة فلا يراجعه فيه أحد منهم، قال: وأكثر العلماء على أنه يجوز عليه الخطأ فيما لم ينزل عليه وقد أجمعوا كلهم على أنه لا يقر عليه، قال: ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان الله تعالى قد رفع درجته فوق الخلق كلهم فلم ينزهه عن سمات الحدث والعوارض البشرية وقد سهى في الصلاة، فلا ينكر أن يظن به حدوث بعض هذه الأمور في مرضه فيتوقف في مثل هذا الحال حتى تتبين حقيقته، فلهذه المعاني وشبهها راجعه عمر رضي الله عنه. قال الخطابي: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اختلاف أمتي رحمة" فاستصوب عمر ما قاله. قال: وقد اعترض على حديث اختلاف أمتي رحمة رجلان أحدهما مغموض عليه في دينه وهو عمرو بن بحر الجاحظ، والاَخر معروف بالسخف والخلاعة وهو إسحاق بن إبراهيم الموصلي فإنه لما وضع كتابه في الأغاني وأمكن في تلك الأباطيل لم يرض بما تزود من إثمها حتى صدر كتابه بذم أصحاب الحديث وزعم أنهم يروون ما لا يدرون، وقال هو والجاحظ: لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذاباً، ثم زعم أنه إنما كان اختلاف الأمة رحمة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم خاصة فإذا اختلفوا سألوه فبين لهم، والجواب عن هذا الاعتراض الفاسد أنه لا يلزم من كون الشيء رحمة أن يكون ضده عذاباً ولا يلتزم هذا ويذكره الأجاهل أو متجاهل، وقد قال الله تعالى: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه} فسمى الليل رحمة ولم يلزم من ذلك أن يكون النهار عذاباً وهو ظاهر لا شك فيه. قال الخطابي: وإِلاختلاف في الدين ثلاثة أقسام: أحدها: في إثبات الصانع ووحدانيته وإنكار ذلك كفر. والثاني: في صفاته ومشيئته وإنكارها بدعة. والثالث: في أحكام الفروع المحتملة وجوهاً فهذا جعله الله تعالى رحمة وكرامة للعلماء، وهو المراد بحديث: "اختلاف أمتي رحمة" هذا آخر كلام الخطابي رحمه الله. وقال المازري: إن قيل كيف جاز للصحابة الاختلاف في هذا الكتاب مع قوله صلى الله عليه وسلم: "ائتوني أكتب" وكيف عصوه في أمره؟ فالجواب أنه لا خلاف أن الأوامر تقارنها قرائن تنقلها من الندب إلى الوجوب عند من قال أصلها للندب، ومن الوجوب إلى الندب عند من قال أصلها للوجوب، وتنقل القرائن أيضاً صيغة افعل إلى الإباحة وإلى التخيير وإلى غير ذلك من ضروب المعاني، فلعله ظهر منه صلى الله عليه وسلم من القرائن ما دل على أنه لم يوجب عليهم بل جعله إلى اختيارهم فاختلف اختيارهم بحسب اجتهادهم وهو دليل على رجوعهم إلى الاجتهاد في الشرعيات فأدى عمر رضي الله عنه اجتهاده إلى الامتناع من هذا، ولعله اعتقد أن ذلك صدر منه صلى الله عليه وسلم من غير قصد جازم وهو المراد بقولهم وبقول عمر غلب عليه الوجع، وما قارنه من القرائن الدالة على ذلك على نحو ما يعهدونه من أصوله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الشريعة وأنه يجري مجرى غيره من طرق التبليغ المعتادة منه صلى الله عليه وسلم فظهر ذلك لعمر دون غيره فخالفوه، ولعل عمر خاف أن المنافقين قد يتطرقون إلى القدح فيما اشتهر من قواعد الإسلام، وبلغه صلى الله عليه وسلم الناس بكتاب يكتب في خلوة وآحاد ويضيفون إليه شيئاً لشبهوا به على الذين في قلوبهم مرض ولهذا قال: عندكم القرآن حسبنا كتاب الله. وقال القاضي عياض: وقوله أهجر رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا هو في صحيح مسلم وغيره أهجر على الاستفهام وهو أصح من رواية من روى هجر ويهجر لأن هذا كله لا يصح منه صلى الله عليه وسلم لأن معنى هجر هذى، وإنما جاء هذا من قائله استفهاماً للإنكار على من قال لا تكتبوا أي لا تتركوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجعلوه كأمر من هجر في كلامه لأنه صلى الله عليه وسلم لا يهجر، وإن صحت الروايات الأخرى كانت خطأ من قائلها قالها بغير تحقيق بل لما أصابه من الحيرة والدهشة لعظيم ما شاهده من النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الحالة الدالة على وفاته وعظيم المصاب به وخوف الفتن والضلال بعده وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع. وقول عمر رضي الله عنه: حسبنا كتاب الله رد على من نازعه لا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "دعوني فالذي أنا فيه خير" معناه دعوني من النزاع واللغط الذي شرعتم فيه فالذي أنا فيهمن مراقبة الله تعالى والتأهب للقائه والفكر في ذلك ونحوه أفضل مما أنتم فيه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أخرجوا المشركين من جزيرة العرب" قال أبو عبيد: قال الأصمعي جزيرة العرب ما بين أقصى عدن اليمن إلى ريف العراق في الطول، وأما في العرض فمن جدة وما والاها إلى أطراف الشام. وقال أبو عبيدة: هي ما بين حفر أبي موسى إلى أقصى اليمن في الطول، وأما في العرض فما بين رمل يرين إلى منقطع السماوة. وقوله حفر أبي موسى هو بفتح الحاء المهملة وفتح الفاء أيضاً قالوا وسميت جزيرة لإحاطة البحار بها من نواحيها وانقطاعها عن المياه العظيمة، وأصل الجزر في اللغة القطع وأضيفت إلى العرب لأنها الأرض التي كانت بأيديهم قبل الإسلام وديارهم التي هي أوطانهم وأوطان أسلافهم. وحكى الهروي عن مالك أن جزيرة العرب هي المدينة، والصحيح المعروف عن مالك أنها مكة والمدينة واليمامة واليمن، وأخذ بهذا الحديث مالك والشافعي وغيرهما من العلماء فأوجبوا إخراج الكفار من جزيرة العرب وقالوا لا يجوز تمكينهم من سكناها، ولكن الشافعي خص هذا الحكم ببعض جزيرة العرب وهو الحجاز وهو عنده مكة والمدينة واليمامة وأعمالها دون اليمن وغيره مما هو من جزيرة العرب بدليل آخر مشهور في كتبه وكتب أصحابه، قال العلماء: ولا يمنع الكفار من التردد مسافرين في الحجاز، ولا يمكنون من الإقامة فيه أكثر من ثلاثة أيام، قال الشافعي وموافقوه: إلا مكة وحرمها فلا يجوز تمكين كافر من دخوله بحال، فإن دخله في خفية وجب إخراجه، فإن مات ودفن فيه ن وأخرج ما لم يتغير، هذا مذهب الشافعي وجماهير الفقهاء، وجوز أبو حنيفة دخولهم الحرم، وحجة الجماهير قول الله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا} والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "وأجيزوا الولد بنحو ما كنت أجيزهم" قال العلماء: هذا أمر منه صلى الله عليه وسلم بإجازة الوفود وضيافتهم وإكرامهم تطييباً لنفوسهم وترغيباً لغيرهم من المؤلفة قلوبهم ونحوهم وإعانة على سفرهم. قال القاضي عياض: قال العلماء سواء كان الوفد مسلمين أو كفاراً لأن الكافر إنما يفد غالباً فيما يتعلق بمصالحنا ومصالحهم. قوله: (وسكت عن الثالثة أو قالها فأنسيتها) الساكت عن ابن عباس والناسي سعيد بن جبير، قال المهلب: الثالثة: هي تجهيز جيش أسامة رضي الله عنه، قال القاضي عياض: ويحتمل أنها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري وثناً يعبد" فقد ذكر مالك في الموطأ معناه مع إجلاء اليهود من حديث عمر رضي الله عنه، وفي هذا الحديث فوائد سوى ما ذكرناه، منها جواز كتابة العلم وقد سبق بيان هذه المسألة مرات وذكرنا أنه جاء فيها حديثان مختلفان فإن السلف اختلفوا فيها ثم أجمع من بعدهم على جوازها وبينا تأويل حديث المنع، ومنها جواز استعمال المجاز لقوله صلى الله عليه وسلم: أكتب لكم أي آمر بالكتابة، ومنها أن الأمراض ونحوها لا تنافي النبوة ولا تدل على سوء الحال. قوله: (قال أبو إسحاق إبراهيم حدثنا الحسن بن بشر حدثنا سفيان بهذا الحديث) معناه أن أبا إسحاق صاحب مسلم ساوى مسلماً في رواية هذا الحديث عن واحد عن سفيان بن عيينة فعلا هذا الحديث لأبي إسحاق برجل. قوله: (من اختلافهم ولغطهم) هو بفتح الغين المعجمة وإسكانها والله أعلم.