كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات
 *1* كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات
*2* باب القسامة
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَحْيَىَ (وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ)، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ (قَالَ يَحْيَىَ: وَحَسِبْتُ قَالَ) وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنّهُمَا قالا: خَرَجَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ زَيْدٍ وَمُحَيّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ، حَتّىَ إذَا كَانَا بِخَيْبَرَ تَفَرّقَا فِي بَعْضِ مَا هُنَالِكَ، ثُمّ إذَا مُحَيّصَةُ يجِدُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ سَهْلٍ قَتِيلاً، فَدَفَنَهُ، ثُمّ أَقْبَلَ إلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَحُوَيّصَةُ بْنُ مَسْعُودٍ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، وَكَانَ أَصْغَرَ الْقَوْمِ، فَذَهَبَ عَبْدُ الرّحْمَنِ لِيَتَكَلّمَ قَبْلَ صَاحِبَيْهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "كَبّرْ" (الْكُبْرَ فِي السّنّ) فَصَمَتَ، فَتَكَلّمَ صَاحِبَاهُ، وَتَكَلّمَ مَعَهُمَا، فَذَكَرُوا لِرَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مَقْتَلَ عَبْدِالله بْنِ سَهْلٍ، فَقَالَ لَهُمْ "أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ صَاحِبَكُمْ؟" (أَوْ قَتِلَكُمْ) قَالُوا: وَكَيْفَ نَحْلِفُ وَلَمْ نَشْهَدْ؟ "فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِيناً؟" قَالُوا: وَكَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفّارٍ؟ فَلَمّا رَأَىَ ذَلِكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَعْطَىَ عَقْلَهُ.
وحدّثني عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيّ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ وَ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنّ مُحَيّصَةَ بْنَ مَسْعُودٍ وَعَبْدَ اللّهِ بْنَ سَهْلٍ انْطَلَقَا قِبَلَ خَيْبَرَ، فَتَفَرّقَا فِي النّخْلِ، فَقُتِلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَهْلٍ، فَاتّهَمُوا الْيَهُودَ، فَجَاءَ أَخُوهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ وَابْنَا عَمّهِ حُوَيّصةُ وَمُحَيّصَةُ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَتَكَلّمَ عَبْدُ الرّحْمَنِ فِي أَمْرِ أَخِيهِ، وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَبّرِ الْكُبْرَ" أَوْ قَالَ "لِيَبْدإِ الأَكْبَرُ" فَتَكَلّمَا فِي أَمْرِ صَاحِبِهِمَا، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْكُمْ عَلَىَ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَيُدْفَعُ بِرُمّتِهِ؟" قَالُوا: أَمْرٌ لَمْ نَشْهَدْهُ كَيْفَ نَحْلِفُ؟ قَالَ: "فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْهُمُ؟" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ قَوْمٌ كُفّارٌ، قَالَ: فَوَدَاهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنده،
قَالَ سَهْلٌ: فَدَخَلْتُ مِرْبَداً لَهُمْ يَوْماً، فَرَكَضَتْنِي نَاقَةٌ مِنْ تِلْكَ الإِبِلِ رَكْضَةً بِرِجْلِهَا، قَالَ حَمّادٌ: هَذَا أَوْ نَحْوَهُ.
وحدّثنا الْقَوَارِيرِيّ: حَدّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضّلِ: حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَهُ، وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَعَقَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ، وَلَمْ يَقُلْ فِي حَدِيثِهِ فَرَكَضَتْنِي نَاقَةٌ.
حدّثنا عَمْرٌو النّاقِدُ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ (يَعْنِي الثّقَفِيّ) جَمِيعاً، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ.
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ: حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ سَهْلِ بْنِ زَيْدٍ وَمُحَيّصَةَ بْنَ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ الأَنْصَارِيّيْنِ، ثُمّ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ، خَرَجَا إلَىَ خَيْبَرَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ يَوْمَئِذٍ صُلْحٌ، وَأَهْلُهَا يَهُودُ، فَتَفَرّقَا لِحَاجَتِهِمَا، فَقُتِلَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَهْلٍ، فَوُجِدَ فِي شَرَبَةٍ مَقْتُولاً، فَدَفَنَهُ صَاحِبُهُ، ثُمّ أَقْبَلَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَمَشَىَ أَخُو الْمَقْتُولِ، عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ وَمُحَيّصَةُ وَحُوَيّصَةُ، فَذَكَرُوا (لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم شَأْنَ عَبْدِ اللّهِ، وَحَيْثُ قُتِلَ، فَزَعَمَ بُشَيْرٌ وَهُوَ يُحَدّثُ عَمّنْ أَدْرَكَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ لَهُمْ "تَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِيناً وَتَسْتَحِقّونَ قَاتِلَكُمْ؟" (أَوْ صَاحِبَكُمْ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا شَهِدْنَا وَلاَ حَضَرْنَا، فَزَعَمَ أَنّهُ قَالَ: "فَتُبْرِئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ؟" فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ نَقْبَلُ أَيْمَانَ قَوْمٍ كُفّارٍ؟ فَزَعَمَ بُشَيْرٌ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَقَلَهُ مِنْ عِنْدِهِ.
وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ، أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ أَنّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ سَهْلِ بْنِ زَيْدٍ، انْطَلَقَ هُوَ وَابْنُ عَمّ لَهُ يُقَالُ لَهُ مُحَيّصَةُ بْنُ مَسْعُودِ بْنِ زَيْدٍ وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ اللّيْثِ، إِلَىَ قوله: فَوادَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ،
قَالَ يَحْيَىَ: فَحَدّثَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، قَالَ: لَقَدْ رَكَضَتْنِي فَرِيضَةٌ مِنْ تِلْكَ الْفَرَائِضِ بِالْمِرْبَدِ.
م حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ: حَدّثَنَا بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ الأَنْصَارِيّ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الأَنْصَارِيّ، أَنّهُ أَخْبَرَهُ أَنّ نَفَراً مِنْهُمُ انْطَلَقُوا إِلَىَ خَيْبَرَ، فَتَفَرّقُوا فِيهَا، فَوَجَدُوا أَحَدَهُمْ قَتِيلاً، وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَقَالَ فِيهِ: فَكَرِهَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ، فَوَدَاهُ مِائَةً مِنْ إِبِلِ الصّدَقَةِ.
حدّثني إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ: أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: حَدّثَنِي أَبُو لَيْلَىَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ أَنّهُ أَخْبَرَهُ عَنْ رِجَالٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيّصَةَ خَرَجَا إِلَىَ خَيْبَرَ، مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ، فَأَتَىَ مُحَيّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ فَقِيرٍ، فَأَتَىَ يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ، وَاللّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاللّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، ثُمّ أَقْبَلَ حَتّىَ قَدِمَ عَلَىَ قَوْمِهِ، فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ، ثُمّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيّصَةُ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ، فَذَهَبَ مُحَيّصَةُ لِيَتَكَلّمَ، وَهُوَ الّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِمُحَيّصَةَ "كَبّرْ، كَبّرْ" (يُرِيدُ السّنّ) فَتَكَلّمَ حُوَيّصَةُ، ثُمّ تَكَلّمَ مُحَيّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "إمّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمّا أَنْ يُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ؟" فَكَتَبَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ، فَكَتَبُوا: إِنّا، وَالله مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم لِحَوْلّصَةَ وَمُحَيّصَةَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ "أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟" قَالُوا: لا، قَالَ: "فَتَحْلِفُ لَكُمُ يَهُودُ؟" قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم مِائَةَ نَاقَةٍ حَتّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمُ الدّارَ،
فَقَاَ سَهْلٌ: فَلَقَدْ رَكَضَتْنِي مِنْهَا نَاقَةٌ حَمْرَاءُ.
حدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ (قَالَ أَبُو الطّاهِرِ: حَدّثَنَا، وَقَالَ حَرْمَلَةُ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ) أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَ سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ، مَوْلَىَ مَيْمُونَةَ، زَوْجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَنْصَارِ أَنّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَقَرّ الْقَسَامَةَ عَلَىَ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيّةِ،
م وحدّثنا مُحمّدُ بْنُ رَافِعً: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، حَدّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ، وَزَادَ: وَقَضَىَ بهَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم بَيْنَ نَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فِي قَتِيلٍ ادّعَوْهُ عَلَى الْيَهُودِ.
م 2 وحدّثنا حَسَنُ بْنُ عَلِيّ الْحُلْوَانِيّ: حَدّثَنَا يَعْقُوُبُ (وَهُوَ ابْنُ إِبْراهِيمَ بْنِ سَعْدٍ)، حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ أَنّ أَبَا سَلْمَةَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَاهُ عَنْ نَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
ذكر مسلم حديث حويصة ومحيصة باختلاف ألفاظه وطرقه حين وجد محيصة ابن عمه عبد الله بن سهل قتيلاً بخيبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأوليائه: "تحلفون خمسين يميناً وتستحقون صاحبكم أو قاتلكم" وفي رواية: (تستحقون قاتلكم أو صاحبكم) أما حويصة ومحيصة فبتشديد الياء فيهما وبتخفيفها لغتان مشهورتان وقد ذكرهما القاضي أشهرهما التشديد. قال القاضي: حديث القسامة أصل من أصول الشرع، وقاعدة من قواعد الأحكام، وركن من أركان مصالح العباد، وبه أخذ العلماء كافة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من علماء الأمصار الحجازيين والشاميين والكوفيين وغيرهم رحمهم الله تعالى وإن اختلفوا في كيفية الأخذ به. وروي عن جماعة إبطال القسامة وأنه لا حكم لها ولا عمل بها، وممن قال بهذا سالم بن عبد الله وسليمان بن يسار والحكم بن عيينة وقتادة وأبو قلابة ومسلم بن خالد وابن علية والبخاري وغيرهم. وعن عمر بن عبد العزيز روايتان كالمذهبين، واختلف القائلون بها فيما إذا كان القتل عمداً هل يجب القصاص بها؟ فقال معظم الحجازيين يجب وهو قول الزهري وربيعة وأبي الزناد ومالك وأصحابه والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وداود وهو قول الشافعي في القديم. وروي عن ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز قال أبو الزناد: قلنا بها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون أني لأرى أنهم ألف رجل فما اختلف منهم اثنان. وقال الكوفيون والشافعي رضي الله عنه في أصح قوليه: لا يجب بها القصاص وإنما تجب الدية وهو مروي عن الحسن البصري والشعبي والنخعي وعثمان الليثي والحسن بن صالح، وروي أيضاً عن أبي بكر وعمر وابن عباس ومعاوية رضي الله عنهم، واختلفوا فيمن يحلف في القسامة فقال مالك والشافعي والجمهور: يحلف الورثة ويجب الحق بحلفهم خمسين يميناً واحتجوا بهذا الحديث الصحيح وفيه التصريح بإِلابتداء بيمين المدعي وهو ثابت من طرق كثيرة صحاح لا تندفع، قال مالك: الذي أجمعت عليه الأئمة قديماً وحديثاً أن المدعين يبدؤون في القسامة ولأن جنبه المدعي صارت قوية باللوث. قال القاضي: وضعف هؤلاء رواية من روى إِلابتداء بيمين المدعى عليهم قال أهل الحديث: هذه الرواية وهم من الراوين لأنه أسقط إِلابتداء بيمين المدعي ولم يذكر رد اليمين، ولأن من روى إِلابتداء بالمدعين معه زيادة ورواياتها صحاح من طرق كثيرة مشهورة فوجب العمل بها ولا تعارضها رواية من نسي، وقال: كل من لم يوجب القصاص واقتصر على الدية يبدأ بيمين المدعى عليهم إلا الشافعي وأحمد فقالا بقول الجمهور أنه يبدأ بيمين المدعي فإن نكل ردت على المدعى عليه، وأجمع العلماء على أنه لا يجب قصاص ولا دية بمجرد الدعوى حتى تقترن بها شبهة يغلب الظن بها، واختلفوا في هذه الشبهة المعتبرة الموجبة للقسامة ولها سبع صور، الأولى: أن يقول المقتول في حياته دمي عند فلان وهو قتلني أو ضربني وإن لم يكن به أثر أو فعل بي هذا من إنفاذ مقاتلي أو جرحني ويذكر العمد فهذا موجب للقسامة عند مالك والليث، وادعى مالك رضي الله عنه أنه مما أجمع عليه الأئمة قديماً وحديثاً، قال القاضي: ولم يقل بهذا من فقهاء الأمصار غيرهما ولا روي عن غيرهما، وخالف في ذلك العلماء كافة فلم ير أحد غيرهما في هذا قسامة، واشترط بعض المالكية وجود الأثر والجرح في كونه قسامة، واحتج مالك في ذلك بقضية بني إسرائيل. وقوله تعالى: {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى} قالوا: فحي الرجل فأخبر بقاتله. واحتج أصحاب مالك أيضاً بأن تلك حالة يطلب بها غفلة الناس، فلو شرطنا الشهادة وأبطلنا قول المجروح أدى ذلك إلى إبطال الدماء غالباً، قالوا: ولأنها حالة يتحرى فيها المجروح الصدق ويتجنب الكذب والمعاصي ويتزود البر والتقوى فوجب قبول قوله. واختلف المالكية في أنه هل يكتفي في الشهادة على قوله بشاهد أم لا بد من اثنين؟ الثانية: اللوث من غير بينة على معاينة القتل، وبهذا قال مالك والليث والشافعي، ومن اللوث شهادة العدل وحده، وكذا قول جماعة ليسوا عدولاً. الثالثة: إذا شهد عدلان بالجرح فعاش بعده أياماً ثم مات قبل أن يفيق منه قال مالك والليث: هو لوث، وقال الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنه: لا قسامة هنا بل يجب القصاص بشهادة العدلين. الرابعة: يوجب المتهم عند المقتول أو قريباً منه أو آتياً من جهته ومعه آلة القتل وعليه أثره من لطخ دم وغيره وليس هناك سبع ولا غيره مما يمكن إحالة القتل عليه أو تفرق جماعة عن قتيل فهذا لوث موجب للقسامة عند مالك والشافعي. الخامسة: أن يقتتل طائفتان فيوجد بينهما قتيل ففيه القسامة عند مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وعن مالك رواية لا قسامة بل فيه دية على الطائفة الأخرى إن كان من أحد الطائفتين وإن كان من غيرهما فعلى الطائفتين ديته. السادسة: يوجد الميت في زحمة الناس قال الشافعي: تثبت فيه القسامة وتجب بها الدية، وقال مالك: هو هدر، وقال الثوري وإسحاق: تجب دية في بيت المال، وروي مثله عن عمر وعلي.
السابعة: أن يوجد في محلة قوم أو قبيلتهم أو مسجدهم فقال مالك والليث والشافعي وأحمد وداود وغيرهم: لا يثبت بمجرد هذا قسامة بل القتل هدر لأنه قد يقتل الرجل الرجل ويلقيه في محلة طائفة ليسنب إليهم، قال الشافعي: إلا أن يكون في محلة أعدائه لا يخالطهم غيرهم فيكون كالقصة التي جرت بخيبر فحكم النبي صلى الله عليه وسلم بالقسامة لورثة القتيل لما كان بين الأنصار وبين اليهود من العداوة ولم يكن هناك سواهم، وعن أحمد نحو قول الشافعي. وقال أبو حنيفة والثوري ومعظم الكوفيين: وجود القتيل في المحلة والقرية يوجب القسامة، ولا تثبت القسامة عندهم في شيء من الصور السبع السابقة إلا هنا لأنها عندهم هي الصورة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم فيها بالقسامة، ولا قسامة عندهم إلا إذا وجد القتيل وبه أثر، قالوا: فإن وجد القتيل في المسجد حلف أهل المحلة ووجبت الدية في بيت المال وذلك إذا ادعوا على أهل المحلة. وقال الأوزاعي: وجود القتيل في المحلة يوجب القسامة وإن لم يكن عليه أثر، ونحوه عن داود، هذا آخر كلم القاضي والله أعلم. قوله: (فذهب عبد الرحمن يتكلم قبل صاحبه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: كبر الكبر في السن فصمت وتكلم صاحباه وتكلم معهما) معنى هذا أن المقتول هو عبد الله وله أخ اسمه عبد الرحمن ولهما ابنا عم وهما محيصة وحويصة وهما أكبر سناً من عبد الرحمن، فلما أراد عبد الرحمن أخو القتيل أن يتكلم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: كبر أي يتكلم أكبر منك، واعلم أن حقيقة الدعوى إنما هي لأخيه عبد الرحمن لا حق فيها لابني عمه، وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتكلم الأكبر وهو حويصة لأنه لم يكن المراد بكلامه حقيقة الدعوى بل سماع صورة القصة وكيف جرت، فإذا أراد حقيقة الدعوى تكلم صاحبها، ويحتمل أن عبد الرحمن وكل حويصة في الدعوى ومساعدته أو أمر بتوكيله، وفي هذا فضيلة السن عند التساوي في الفضائل، ولهذا نظائر فإنه يقدم بها في الإمامة وفي ولاية النكاح ندباً وغير ذلك. وقوله الكبر في السن معناه يريد الكبر في السن، والكبر منصوب بإضمار يريد ونحوها، وفي بعض النسخ للكبر باللام وهو صحيح. قوله: (أتحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم أو قاتلكم) قد يقال: كيف عرضت اليمين على الثلاثة وإنما يكون اليمين للوارث خاصة والوارث عبد الرحمن خاصة وهو أخو القتيل وأما الاَخران فابنا عم لا ميراث لهما مع الأخ؟ والجواب أنه كان معلوماً عندهم أن اليمين تختص بالوارث فأطلق الخطاب لهم والمراد من تختص به اليمين، واحتمل ذلك لكونه معلوماً للمخاطبين كما سمع كلام الجميع في صورة قتله وكيفية ما جرى له وإن كانت حقيقة الدعوى وقت الحاجة مختصة بالوارث. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: فتستحقون قاتلكم أو صاحبكم فمعناه يثبت حقكم على من حلفتم عليه، وهل ذلك الحق قصاص أو دية؟ فيه الخلاف السابق بين العلماء، واعلم أنهم إنما يجوز لهم الحلف إذا علموا أو ظنوا ذلك، وإنما عرض عليهم النبي صلى الله عليه وسلم اليمين إن وجد فيهم هذا الشرط، وليس المراد الإذن لهم في الحلف من غير ظن ولهذا قالوا: كيف نحلف ولم نشهد. قوله صلى الله عليه وسلم: "فتبرئكم يهود بخمسين يميناً" أي تبرأ إليكم من دعواكم بخمسين يميناً، وقيل معناه يخلصونكم من اليمين بأن يحلفوا فإذا حلفوا انتهت الخصومة ولم يثبت عليهم شيء وخلصتم أنتم من اليمين، وفي هذا دليل لصحة يمين الكافر والفاسق، ويهود مرفوع غير منون لا ينصرف لأنه اسم للقبيلة والطائفة ففيه التأنيث والعلمية. قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى عقله) أي ديته. وفي الرواية الأخرى: (فوداه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبله). وفي رواية: (من عنده) فقوله وداه بتخفيف الدال أي دفع ديته. وفي رواية: "فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة" إنما وداه رسول الله صلى الله عليه وسلم قطعاً للنزاع وإصلاحاً لذات البين، فإن أهل القتيل لا يستحقون إلا أن يحلفوا أو يستحلفوا المدعى عليهم وقد امتنعوا من الأمرين وهم مكسورون بقتل صاحبهم فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم جبرهم وقطع المنازعة وإصلاح ذات البين بدفع ديته من عنده. وقوله: فوداه من عنده يحتمل أن يكون من خالص ماله في بعض الأحوال صادف ذلك عنده، ويحتمل أنه من مال بيت المال ومصالح المسلمين. وأما قوله في الرواية الأخيرة: (من إبل الصدقة) فقد قال بعض العلماء إنها غلط من الرواة لأن الصدقة المفروضة لا تصرف هذا المصرف بل هي لأصناف سماهم الله تعالى. وقال الإمام أبو إسحاق المروزي من أصحابنا: يجوز صرفها من إبل الزكاة لهذا الحديث فأخذ بظاهره. وقال جمهور أصحابنا وغيرهم: معناه اشتراه من أهل الصدقات بعد أن ملكوها ثم دفعها تبرعاً إلى أهل القتيل.
وحكى القاضي عن بعض العلماء أنه يجوز صرف الزكاة في مصالح العامة، وتأول هذا الحديث عليه وتأوله بعضهم، على أن أولياء القتيل كانوا محتاجين ممن تباح لهم الزكاة وهذا تأويل باطل لأن هذا قدر كثير لا يدفع إلى الواحد الحامل من الزكاة بخلاف أشراف القبائل ولأنه سماه دية، وتأوله بعضهم على أنه دفعه من سهم المؤلفة من الزكاة استئلافاً لليهود لعلهم يسلمون وهذا ضعيف لأن الزكاة لا يجوز صرفها إلى كافر، فالمختار ما حكيناه عن الجمهور أنه اشتراها من إبل الصدقة، وفي هذا الحديث أنه ينبغي للإمام مراعاة المصالح العامة والاهتمام بإصلاح ذات البين، وفيه إثبات القسامة، وفيه إِلابتداء بيمين المدعي في القسامة، وفيه رد اليمين على المدعى عليه إذا نكل المدعي في القسامة، وفيه جواز الحكم على الغائب وسماع الدعوى في الدماء من غير حضور الخصم، وفيه جواز اليمين بالظن وإن لم يتيقن، وفيه أن الحكم بين المسلم والكافر يكون بحكم الإسلام. قوله صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم" هذا مما يجب تأويله لأن اليمين إنما تكون على الوارث خاصة لا على غيره من القبيلة، وتأويله عند أصحابنا أن معناه يؤخذ منكم خمسون يميناً والحالف هم الورثة فلا يحلف أحد من الأقارب غير الورثة يحلف كل الورثة ذكوراً كانوا أو إناثاً سواء كان القتل عمداً أو خطأ، هذا مذهب الشافعي وبه قال أبو ثور وابن المنذر، ووافقنا مالك فيما إذا كان القتل خطأ، وأما في العمد فقال: يحلف الأقارب خمسين يميناً ولا تحلف النساء ولا الصبيان، ووافقه ربيعة والليث والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر، واحتج الشافعي بقوله صلى الله عليه وسلم: "تحلفون خمسين يميناً فتستحقون صاحبكم" فجعل الحالف هو المستحق للدية والقصاص، ومعلوم أن غير الوارث لا يستحق شيئاً، فدل أن المراد على حلف من يستحق الدية. قوله صلى الله عليه وسلم: "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته" الرمة بضم الراء الحبل والمراد هنا الحبل الذي يربط في رقبة القاتل ويسلم فيه إلى ولي القتيل، وفي هذا دليل لمن قال أن القسامة يثبت فيها القصاص، وقد سبق بيان مذهب العلماء فيه وتأوله القائلون لا قصاص بأن المراد أن يسلم ليستوفي منه الدية لكونها ثبتت عليه، وفيه أن القسامة إنما تكون على واحد وبه قال مالك وأحمد، وقال أشهب وغيره: يحلف الأولياء على ما شاء وأولا يقتلوا إلا واحداً. وقال الشافعي رضي الله عنه: إن ادعوا على جماعة حلفوا عليهم وثبتت عليهم الدية على الصحيح عند الشافعي وعلى قول أنه يجب القصاص عليهم وإن حلفوا على واحد استحقوا عليه وحده. قوله: (فدخلت مربداً لهم يوماً فركضتني ناقة من تلك الإبل ركضة برجلها) المربد بكسر الميم وفتح الباء هو الموضع الذي يجتمع فيه الإبل وتحبس، والربد الحبس، ومثنى ركضتني رفستني، وأراد بهذا الكلام أنه ضبط الحديث وحفظه حفظاً بليغاً. قوله: (فوجد في شربة) بفتح الشين المعجمة والراء وهو حوض يكون في أصل النخلة وجمعه شرب كثمرة وثمر. قوله: (لقد ركضتني فريضة من تلك الفرائض) المراد بالفريضة هنا الناقة من تلك النوق المفروضة في الدية، وتسمى المدفوعة في الزكاة، أو في الدية فريضة لأنها مفروضة أي مقدرة بالسن والعدد. وأما قول المازري أن المراد بالفريضة هنا الناقة الهرمة فقد غلط فيه والله أعلم. قوله: (فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه فوداه مائة من إبل الصدقة) هذا آخر الفوات الذي لم يسمعه إبراهيم بن سفيان من مسلم، وقد قدمنا بيان أوله وقوله عقيب هذا حدثني إسحاق بن منصور قال أخبرنا بشر بن عمر قال سمعت مالك بن أنس يقول حدثني أبو ليلى هو أول سماع إبراهيم بن سفيان من مسلم من هذا الموضع هكذا هو في معظم النسخ. وفي نسخة الحافظ ابن عساكر أن آخر الفوات آخر حديث إسحاق بن منصور هذا الذي ذكرناه، وأول السماع قوله عقبه حدثني أبو الطاهر وحرملة بن يحيى والأول أصح. قوله: (وطرح في عين أو فقير) الفقير هنا على لفظ الفقير في الاَدميين، والفقير هنا البئر القريبة القعر الواسعة الفم، وقيل هو الحفيرة التي تكون حول النخل. قوله صلى الله عليه وسلم: "إما أن يدوا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب" معناه إن ثبت القتل عليهم بقسامتكم فإما أن يدوا صاحبكم أي يدفعوا إليكم ديته، وإما أن يعلمونا أنهم ممتنعون من التزام أحكامنا فينتقض عهدهم ويصيرون حرباً لنا، وفيه دليل لمن يقول الواجب بالقسامة الدية دون القصاص. قوله: (خرجا إلى خيبر من جهد أصابهم) هو بفتح الجيم وهو الشدة والمشقة والله أعلم.
*2* باب حكم المحاربين والمرتدين
*وحدّثنا يَحْيَى يْنُ يَحْيَى التّمِيمِيّ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، كِلاَهُمَا عَنْ هُشَيْمِ، (وَالّفْظُ لِيِحْيَىَ) قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ وَ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسِ ابْنِ مَالِكٍ أَنّ نَاساً مِنْ عُرَيْنَةَ قَدِمُوا عَلَىَ رَسُولِ الله، صلى الله عليه وسلم، الْمَدِينَةَ، فَاجْتَوَوْهَا، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "إِنْ شِئْتُمْ أَنْ تَخْرِجُوا إِلَىَ إِبِلِ الصّدَقَةِ فَتَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا" فَفَعَلُوا، فَصَحّوا، ثُمّ مَالُوا عَلَى الرّعَاةِ فَقَتَلُوهُمْ، وَارْتَدّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، وَسَاقُوا ذَوْدَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ فِي أَثْرِهِمْ، فَأَتِيَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ، وَسَمَلَ أَعْيُنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ فِي الْحَرّةِ حَتّىَ مَاتُوا.
حدّثنا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمّدُ بْنُ الصّبّاحِ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ (وَاللّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ) قَالَ: حَدّثَنَا ابْنُ عُلَيّةَ عَنْ حَجّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ، حَدّثَنِي أَبُو رَجَاءٍ مَوْلَىَ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ حَدّثَنِي أَنَسٌ أَنّ نَفَراً مِنْ عُكْلٍ، ثَمَانِيَةً، قَدِمُوا عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِسْلاَمِ، فَاسْتَوْخَمُوا الأَرْضَ وَسَقُمَتْ أَجْسَامُهُمْ، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ "أَلاَ تَخْرُجُونَ مَعَ رَاعِينَا فِي إِبِلِهِ فَتُصِيبُونَ مِنْ أَبْوَالِهَا وأَلْبَانِهَا؟ فَقَالُوا: بَلَىَ، فَخَرَجُوا فَشَرِبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَصَحّوا، فَقَتَلُوا الرّاعِيَ وَطَرَدُوا الإِبِلَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ، فَأُدْرِكُوا، فَجِيءَ بِهِمْ، فَأَمَرَ بِهِمْ فَقُطِعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ وَسُمِرَ أَعْيُنُهُمْ، ثُمّ نُبِذُوا فِي الشّمْسِ حَتّىَ مَاتُوا،
وَقَالَ ابْنُ الصّبّاحِ فِي رِوَايَتِهِ: وَاطّرَدُوا النّعَمَ، وَقَالَ: وَسُمّرَتْ أَعْيُنُهُمْ.
وحدّثنا هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ: حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيّوبَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ مَوْلَىَ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ، فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِلِقَاحٍ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، بِمَعْنَىَ حَدِيثِ حَجّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ،
قَالَ: وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ وَأُلْقُوا فِي الْحَرّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ، ح وَحَدّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النّوْفَلِيّ: حَدّثَنَا أَزْهَرُ السّمّانُ قالا: حَدّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ: حَدّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ، مَوْلَىَ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ قَالَ: كُنْتُ جَالِساً خَلْفَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ لِلنّاسِ: مَا تَقُولُونَ فِي الْقَسَامَةِ؟ فَقَالَ عَنْبَسَةُ: قَدْ حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ كَذَا وَكَذَا، فَقُلْتُ: إِيّايَ حَدّثَ أَنَسٌ، قَدِمَ عَلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَوْمٌ، وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِنَحْوِ حَدِيثِ أَيّوبَ وَحَجّاجٍ، قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: فَلَمّا فَرَغْتُ، قَالَ عَنْبَسَةُ سُبْحَانَ اللّهِ قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: فَقُلْتُ: أَتِتّهِمُنِي يَا عَنْبَسَةُ؟ قَالَ: لاَ هَكَذَا حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، لَنْ تَزَالُوا بِخَيْرٍ، يَا أَهْلَ الشّامِ مَا دَامَ فِيكمْ هَذَا أَوْ مِثْلُ هَذَا.
وحدّثنا الْحَسْنُ بْنُ أَبِي شُعَيْبٍ الْحَرّانِيّ، حَدّثَنَا مِسْكِينٌ (وَهُوَ ابْنُ بُكَيْرٍ الْحَرّانِيّ): أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيّ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ: أَخْبَرَنَا مُحَمّدُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ الأَوْزَاعِيّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَدِمَ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ مِنْ عُكْلٍ، بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ، وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: وَلَمْ يَحْسِمْهُمْ.
وحدّثنا هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ: حَدّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: حَدّثَنَا زُهَيْرٌ: حَدّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرّةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: أَتَىَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَرٌ مِنْ عُرَيْنَةَ، فَأَسْلَمُوا وَبَايَعُوهُ، وَقَدْ وَقَعَ بِالْمَدِينَةِ الْمُومُ (وَهُوَ الْبِرْسَامُ)، ثُمّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمْ، وَزَادَ: وَعِنْدَهُ شَبَابٌ مِنَ الأَنْصَارِ قَرِيبٌ مِنْ عِشْرِينَ، فَأَرْسَلَهُمْ إلَيْهِمْ، وَبَعَثَ مَعَهُمْ قَائِفاً يَقْتَصُ أَثَرَهُمْ.
حدّثنا هَدّابُ بْنُ خَالِدٍ: حَدّثَنَا هَمّامٌ: حَدّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَىَ: حَدّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ وَفِي حَدِيثِ هَمّامٍ: قَدِمَ عَلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَهْطٌ مِنْ عُرَيْنَةَ، وَفِي حَدِيثِ سَعِيدٍ: مِنْ عُكْلٍ وَعُرَيْنَةَ، بِنَحْوِ حَدِيِثِهِمْ.
وحدّثني الْفَضْلُ بْنُ سَهْلٍ الأَعْرَجُ: حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ غَيْلاَنَ: حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: إنّمَا سَمَلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَعْيُنَ أُولَئِكَ، لأَنّهُمْ سَمَلُوا أَعْيُنَ الرّعَاءِ.
فيه حديث العرنيين أنهم قدموا المدينة وأسلموا واستوخموها وسقمت أجسامهم فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخروج إلى إبل الصدقة فخرجوا فصحوا فقتلوا الراعي وارتدوا عن الإسلام وساقوا الذود فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في آثارهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستسقون فلا يسقون حتى ماتوا. هذا الحديث أصل في عقوبة المحاربين وهو موافق لقول الله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} واختلف العلماء في المراد بهذه الاَية الكريمة فقال مالك: هي على التخيير فيخير الإمام بين هذه الأمور إلا أن يكون المحارب قد قتل فيتحتم قتله. وقال أبو حنيفة وأبو مصعب المالكي الإمام بالخيار وإن قتلوا. وقال الشافعي وآخرون: هي على التقسيم فإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا، وإن قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا، فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، فإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا شيئاً ولم يقتلوا طلبوا حتى يعزروا وهو المراد بالنفي عندنا، قال أصحابنا: لأن ضرر هذه الأفعال مختلف فكانت عقوباتها مختلفة ولم تكن للتخيير وتثبت أحكام المحاربة في الصحراء، وهل تثبت في الأمصار؟ فيه خلاف، قال أبو حنيفة: لا تثبت، وقال مالك والشافعي: تثبت. قال القاضي عياض رضي الله عنه: واختلف العلماء في معنى حديث العرنيين هذا فقال بعض السلف: كان هذا قبل نزول الحدود وآيتي المحاربة والنهي عن المثلثة فهو منسوخ وقيل ليس منسوخاً وفيهم نزلت آية المحاربة، وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بهم ما فعله قصاصاً لأنهم فعلوا بالرعاة مثل ذلك، وقد رواه مسل في بعض طرقه، ورواه ابن إسحاق وموسى بن عقبة وأهل السير والترمذي، وقال بعضهم: النهي عن المثلة نهي تنزيه ليس بحرام. وأما قوله: يستسقون فلا يسقون فليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك ولا نهى عن سقيهم. قال القاضي: وقد أجمع المسلمون على أن من وجب عليه القتل فاستسقى لا يمنع الماء قصداً فيجمع عليه عذابان. قلت: قد ذكر في هذا الحديث الصحيح أنهم قتلوا الرعاة وارتدوا عن الإسلام وحينئذٍ لا يبقى لهم حرمة في سقي الماء ولا غيره، وقد قال أصحابنا: لا يجوز لمن معه من الماء ما يحتاج إليه للطهارة أن يسقيه لمرتد يخاف الموت من العط 5 ويتيم، ولو كان ذمياً أو بهيمة وجب سقيه ولم يجز الوضوء به حينئذٍ والله أعلم. قوله: (أن ناساً من عرينة) هي بضم العين المهملة وفتح الراء وآخرها نون ثم هاء وهي قبيلة معروفة. قوله: (قدموا المدينة فاجتووها) هي بالجيم والمثناة فوق ومعناه استوخموها كما فسره في الرواية الأخرى أي لم توافقهم وكرهوها لسقم أصابهم، قالوا: وهو مشتق من الجوى وهو داء في الجوف. قوله صلى الله عليه وسلم: "إن شئتم أن تخرجوا إلى إبل الصدقة فتشربوا من ألبانها وأبوالها ففعلوا فصحوا" في هذا الحديث أنها إبل الصدقة، وفي غير مسلم أنها لقاح النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما صحيح، فكان بعض الإبل للصدقة وبعضها للنبي صلى الله عليه وسلم. واستدل أصحاب مالك وأحمد بهذا الحديث أن بول ما يؤكل لحمه وورثه طاهران، وأجاب أصحابنا وغيرهم من القائلين بنجاستهما بأن شربهم الأبوال كان للتداوي وهو جائز بكل النجاسات سوى الخمر والمسكرات، فإن قيل: كيف أذن لهم في شرب لبن الصدقة؟ فالجواب أن ألبانها للمحتاجين من المسلمين وهؤلاء إذ ذاك منهم. قوله: "ثم مالوا على الرعاة فقتلوهم" وفي بعض الأصول المعتمدة الرعاء وهما لغتان يقال راع ورعاة كقاض وقضاة وراع وزعاء بكسر الراء وبالمد مثل صاحب وصحاب. قوله: (وسمل أعينهم) هكذا هو في معظم النسخ سمل باللام، وفي بعضها سمر بالراء والميم مخففة، وضبطناه في بضع المواضع في البخاري سمر بتشديد الميم، ومعنى سمل باللام نقاها وأذهب ما فيها، ومعنى سمر بالراء كحلها بمسامير محمية وقيل هما بمعنى. قوله: (لهم بلقاح) هي جمع لقحة بكسر اللام وفتحها وهي الناقة ذات الدار. قوله: (ولم يحسمهم) أي ولم يكوهم والحسم في اللغة كي العرق بالنار لينقطع الدم. قوله: (وقع بالمدينة الموم وهو البرسام) الموم بضم الميم وإسكان الواو، وأما البرسام فبكسر الباء وهو نوع من اختلال العقل، ويطلق على ورم الرأس وورم الصدر وهو معرب وأصل اللفظة سريانية. قوله: (وبعث معهم قائفاً يقتص أثرهم) القائف هو الذي يتتبع الاَثار وغيرها
*2* باب ثبوت القصاص في القتل بالحجر وغيره، من المحددات والمثقلات، وقتل الرجل بالمرأة
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنّى) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ بْنِ مَالِكٍ أَنّ يَهُودِيّاً قَتَلَ جَارِيَةً عَلَىَ أَوْضَاحٍ لَهَا، فَقَتَلَهَا بِحَجَرٍ، قَالَ: فَجِيءَ بِهَا إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَبِهَا رَمَقٌ، فَقَالَ لَهَا: "أَقَتَلَكِ فُلاَنٌ؟" فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لاَ، ثُمّ قَالَ لَهَا الثّانِيَةَ، فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ لاَ، ثُمّ سَأَلَهَا الثّالِثَةَ، فَقَالَتْ: نَعَمْ. وَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا فَقَتَلَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ حَجَرَيْنِ.
وحدّثني يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ: حَدّثَنَا خَالِدٌ (يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ)، ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ: حَدّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، كِلاَهُمَا عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الإِسْنَاد، نَحْوَهُ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ إِدْرِيسَ فَرَضَخَ رَأْسَهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ.
حدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيّوبَ، عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَس أَنّ رَجُلاً مِنَ الْيَهُودِ قَتَلَ جَارِيَةً مِنَ الأَنْصَارِ عَلَىَ حُلِيّ لَهَا، ثُمّ أَلْقَاهَا فِي الْقَلِيبِ، وَرَضَخَ رَأْسَهَا بِالْحِجَارَةِ، فَأُخِذَ فَأُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَرَ بِهِ أَنْ يُرْجَمَ، حَتّىَ يَمُوتَ، فَرُجِمَ حَتّىَ مَاتَ.
وحدّثني إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمّدُ بْنُ بَكْرٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ، عَنْ أَيّوبَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.
وحدّثنا هَدّابُ بْنُ خَالِدٍ: حَدّثَنَا هَمّامٌ: حَدّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ جَارِيَةً وُجِدَ رَأْسُهَا قَدْ رُضّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، فَسَأَلُوهَا: مَنْ صَنَعَ هَذَا بِكِ؟ فُلاَنٌ؟ فُلاَنٌ؟ حَتّىَ ذَكَرُوا يَهُودِيّاً، فَأَوْمَتْ بِرَأْسِهَا، فَأُخِذَ الْيَهُودِيّ فَأَقَرّ، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَضّ رَأْسُهُ بِالْحِجَارَةِ.
قوله: "أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها فقتلها بحجر فجيء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها رمق فقيل لها: أقتلك فلان؟ فأشارت برأسها أن لا، ثم قال لها الثانية فأشارت برأسها أن لا، ثم سألها الثالثة فقالت نعم وأشارت برأسها فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين". وفي رواية: (قتل جارية من الأنصار على حلي لها ثم ألقاها في قليب ورضخ رأسها بالحجارة فأمر به صلى الله عليه وسلم أن يرجم حتى يموت فرجم حتى مات). وفي رواية: "أن جارية وجد رأسها قد رض بين حجرين فسألوها من صنع هذا بك فلان فلان حتى ذكروا اليهودي فأومت برأسها فأخذ اليهودي فأقر فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرض رأسه بالحجارة". أما الأوضاح بالضاد المعجمة فهي قطع فضة كما فسره في الرواية الأخرى. قوله: (وبها رمق) هو بقية الحياة والروح والقليب البئر، وقوله: رضخه بين حجرين ورضه بالحجارة ورجمه بالحجارة هذه الألفاظ معناها واحد لأنه إذا وضع رأسه على حجر ورمى بحجر آخر فقد رجم وقد رض وقد رضخ، وقد يحتمل أنه رجمها الرجم المعروف مع الرضخ لقوله: ثم ألقاها في قليب. وفي هذا الحديث فوائد: منها قتل الرجل بالمرأة وهو إجماع من يعتد به. ومنها أن الجاني عمداً يقتل قصاصاً على الصفة التي قتل، فإن قتل بسيف قتل هو بالسيف، وإن قتل بحجر أو خشف أو نحوهما قتل بمثله لأن اليهودي رضخها فرضخ هو. ومنها ثبوت القصاص في القتل بالمثقلات ولا يختص بالمحددات وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وجماهير العلماء، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا قصاص إلا في القتل بمحدد من حديد أو حجر أو خشب أو كان معروفاً بقتل الناس بالمنجنيق أو بالإلقاء في النار، واختلفت الرواية عنه في مثقل الحديد كالدبوس، أما إذا كانت الجناية شبه عمد بأن قتل بما لا يقصد به القتل غالباً فتعمد القتل به كالعصا والسوط واللطمة والقضيب والبندقة ونحوها فقال مالك والليث: يجب فيه القود، وقال الشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق وأبو ثور وجماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم: لا قصاص فيه والله أعلم. ومنها وجوب القصاص على الذي يقتل المسلم. ومنها جواز سؤال الجريح من جرحك؟ وفائدة السؤال أن يعرف المتهم ليطالب فإن أر ثبت عليه القتل وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه ولا يلزمه شيء بمجرد قول المجروح، هذا مذهبنا ومذهب الجماهير وقد سبق في باب القسامة، وأن مذهب مالك ثبوت القتل على المتهم بمجرد قول المجروح وتعلقوا بهذا الحديث وهذا تعلق باطل لأن اليهودي اعترف كما صرح به مسلم في أحد رواياته التي ذكرناها فإنما قتل باعترافه والله أعلم
*2* باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه، إذا دفعه المصول عليه، فأتلف نفسه أو عضوه، لا ضمان عليه
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَاتَلَ يَعْلَى بْنُ مُنْيَةَ أَوِ ابْنُ أُمَيّةَ رَجُلاً، فَعَضّ أَحَدُهُمَا الاَخر ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ، فَنَزَعَ ثَنِيّتَهُ، (وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنّى: ثَنِيّتَيْهِ) فَاخْتَصَمَا إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ "أَيَعَضّ أَحَدُكُمْ كَمَا يَعَضّ الْفَحْلُ؟ لاَ دِيَةَ لَهُ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَطاءٍ، عَن ابْنِ يَعْلَى، عَنْ يَعْلَىَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.
حدّثني أَبُو غَسّانَ الْمِسْمَعِيّ، حَدّثَنَا مُعَاذٌ (يَعْنِي ابْنَ هِشَامٍ)، حَدّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَوْفَىَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنِ أَنّ رَجُلاً عَضّ ذِرَاعَ رَجُلٍ، فَجَذَبَهُ فَسَقَطَتْ ثَنِيّتُهُ، فَرُفِعَ إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَأَبْطَلَهُ، وَقَالَ: "أَرَدْتَ أَنْ تَأْكُلَ لَحْمَهُ؟".
حدّثني أَبُو غَسّانَ الْمِسْمَعِيّ: حَدّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ بُدَيْلٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَىَ أَنّ أَجِيراً لِيَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ، عَضّ رَجُلٌ ذِرَاعَهُ، فَجَذَبَهَا فَسَقَطَتْ ثَنِيّتُهُ، فَرُفِعَ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَأَبْطَلَهَا وَقَالَ "أَرَدْتَ أَنْ تَقْضَمَهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ؟".
حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النّوْفَليّ: حَدّثَنَا قُرَيْشُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنّ رَجُلاً عَضّ يَدَ رَجُلٍ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ فَسَقَطَتْ ثَنِيّتُهُ أَوْ ثَنَايَاهُ، فَاسْتَعْدَىَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَأْمُرُنِي؟ تَأْمُرُنِي أَنْ آمُرَهُ أَنْ يَدَعَ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ؟ ادْفَعْ يَدَكَ حَتّىَ يَعَضّهَا ثُمّ انْتَزِعْهَا".
حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ: حَدّثَنَا هَمّامٌ: حَدّثَنَا عَطَاءٌ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ مُنْيَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ، وَقَدْ عَضّ يَدَ رَجُلٍ، فَانْتَزَعَ يَدَهُ فَسَقَطَتْ ثَنِيّتَاهُ (يَعْنِي الّذِي عَضّهُ)، قَالَ: فَأَبْطَلَهَا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ "أَرَدْتَ أَنْ تَقْضَمَهُ كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ؟".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرِنِي عَطَاءٌ: أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أَميّةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ، قَالَ: وَكَانَ يَعْلَىَ يَقُولُ: تِلْكَ الْغَزْوَةُ أَوْثَقُ عَمَلِي عِنْدِي، فَقَالَ عَطَاءٌ: قَالَ صَفْوَانَ: قَالَ يَعْلَىَ: كَانَ لِي أَجِيرٌ، فَقَاتَلَ إنْسَاناً فَعَضّ أَحَدُهُمَا يَدَ الاَخَرِ(قَالَ: لَقدْ أَخْبَرَنِي صفْوَانُ أَيّهُمَا عَضّ الاَخَرَ) فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِي الْعَاضّ، فَانْتَزَعَ إحْدَىَ ثَنِيّتَيْهِ، فَأَتَيَا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَأَهْدَرَ ثَنِيّتَهُ.
وحدّثناه عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ.
قوله: (قاتل يعلى بن منبه أو ابن أمية رجلاً فعض أحدهما صاحبه فانتزع يده من فيه فنزع ثنيته فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أيعض أحدكم كما يعض الفحل لا دية له) وفي رواية: (أن أجيراً ليعلى عض رجل ذراعه). أما منية فبضم الميم وإسكان النون وبعدها ياء مثناة تحت وهي أم يعلى وقيل جدته، وأما أمية فهو أبوه فيصح أن يقال يعلى بن أمية، ويعلى بن منبة، وأما قوله أن يعلى هو المعضوض، وفي الرواية الثانية والثالثة أن المعضوض هو أجير يعلى لا يعلى فقال الحفاظ: الصحيح المعروف أنه أجير يعلى لا يعلى، ويحتمل أنهما قضيتان جرتا ليعلى ولأجيره في وقت أو وقتين. وقوله صلى الله عليه وسلم: "كما يعض الفحل" هو بالحاء أي الفحل من الإبل وغيرها وهو إشارة إلى تحريم ذلك، وهذا الحديث دلالة لمن قال أنه إذا عض رجل يد غيره فنزع المعضوض يده فسقطت أسنان العاض أو فك لحيته لا ضمان عليه، وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وكثيرين أو الأكثيرين رضي الله عنهم، وقال مالك: يضمن.
قوله صلى الله عليه وسلم: "يقضمها كما يقضم الفحل" هو بفتح الضاد فيهما على اللغة الفصيحة ومعناه يعضها، قال أهل اللغة: القضم بأطراف الأسنان. قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تأمرني تأمرني أن آمره أن يضع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل ادفع يدك حتى يعضها ثم انتزعها" ليس المراد بهذا أمره بدفع يده ليعضها وإنما معناه الإنكار عليه أي إنك لا تدع يدك في فيه يعضها فكيف تنكر عليه أن ينتزع يده من فيك وتطالبه بما جنى في جذبه لذلك؟ قال القاضي: وهذا الباب مما تتبعه الدارقطني على مسلم لأنه ذكر أولاً حديث شعبة عن قتادة عن زرارة عن عمران بن حصين قال قاتل يعلى، وذكر مثله عن معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة، ثم عن شعبة عن قتادة عن عطاء عن ابن يعلى، ثم عن همام عن عطاء عن ابن يعلى، ثم حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن يعلى، ثم حديث معاذ عن أبيه عن قتادة عن بديل عن عطاء بن صفوان بن يعلى، وهذا اختلاف على عطاء، وذكر أيضاً حديث قريش بن يونس عن ابن عون عن ابن سيرين عن عمران ولم يذكر فيه سماعاً منه ولا من ابن سيرين من عمران، ولم يخرج البخاري لابن سيرين عن عمران شيئاً والله أعلم. قلت: الإنكار على مسلم في هذين الوجهين: أحدهما: لا يلزم من إِلاختلاف على عطاء ضعف الحديث ولا من كون ابن سيرين لم يصرح بالسماع من عمران ولا روى له البخاري عنه شيئاً أن لا يكون سمع منه بل هو معدود فيمن سمع منه. والثاني: لو ثبت ضعف هذا الطريق لم يلزم منه ضعف المتن فإنه صحيح بالطرق الباقية التي ذكرها مسلم، وقد سبق مرات أن مسلماً يذكر في المتابعات من هو دون شرط الصحيح والله أعلم
*2* باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَفّانُ بْنُ مُسْلَمٍ: حَدّثَنَا حَمّادٌ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ أُخْتَ الرّبَيّعِ، أُمّ حَارِثَةَ ، جَرَحَتْ إنْسَاناً ، فَاخْتَصَمُوا إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْقِصَاصَ، الْقِصَاصَ" فَقَالَتْ أُمّ الرّبِيعِ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَيُقْتَصّ مِنْ فُلاَنَةَ؟ وَاللّهِ لاَ يُقْتَصّ مِنْهَا، فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ اللّهِ يَا أُمّ الرّبِيعِ الْقِصَاصُ كِتَابُ اللّهِ" قَالَتْ: لاَ، واللّهِ لاَ يُقْتَصّ مِنْهَا أَبَداً، قَالَ: فَمَا زَالَتْ حَتّىَ قَبِلُوا الدّيَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنّ مِنْ عِبَادِ اللّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللّهِ لأَبَرّهُ".
قوله: "عن أنس أن أخت الربيع أم حارثة جرحت إنساناً فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القصاص القصاص، فقالت أم الربيع: يا رسول الله أيقتص من فلانة والله لا يقتص منها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سبحان الله يا أم الربيع القصاص كتاب الله، قالت: لا والله لا يقتص منها أبداً، قال: فما زالت حتى قبلوا الدية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" هذه رواية مسلم. وخالفه البخاري في روايته فقال عن أنس بن مالك: "أن عمته الربيع كسرت ثنية حارثة وطلبوا إليها العفو فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبوا إلا القصاص فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله القصاص فرضي القوم فعفوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" هذا لفظ رواية البخاري، فحصل الاختلاف في الروايتين من وجهين: أحدهما: أن في رواية مسلم أن الجارية أخت الربيع. وفي رواية البخاري أنها الربيع بنفسها. والثاني: أن في رواية مسلم أن الحالف لا تكسر ثنيتها هي أم الربيع بفتح الراء. وفي رواية البخاري أنه أنس بن النضر. قال العلماء: المعروف في الروايات رواية البخاري وقد ذكرها من طرقه الصحيحة كما ذكرنا عنه، وكذا رواه أصحاب كتب السنن، قلت: إنهما قضيتان، أما الربيع الجارحة في رواية البخاري وأخت الجارحة في رواية مسلم فهي بضم الراء وفتح الباء وتشديد الياء، وأما أم الربيع الحالفة في رواية مسلم فبفتح الراء وكسر الباء وتخفيف الياء. وقوله صلى الله عليه وسلم في الرواية الأولى: "القصاص القصاص" هما منصوب أي أدوا القصاص وسملوه إلى مستحقه. وقوله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" أي حكم كتاب الله وجوب القصاص في السن وهو قوله والسن بالسن. وأما قوله: والله لا يقتص منها فليس معناه رد حكم النبي صلى الله عليه وسلم بل المراد به الرغبة إلى مستحق القصاص أن يعفو، وإلى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة إليهم في العفو، وإنما حلف ثقة بهم أن لا يحنثوه أو ثقة بفضل الله ولطفه أن لا يحنثه بل يلهمهم العفو. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره" معناه لا يحنثه لكرامته عليه. وفي هذا الحديث فوائد: منها جواز الحلف فيما يظنه الإنسان. ومنها جواز الثناء على من لا يخاف الفتنة بذلك وقد سبق بيان هذا مرات. ومنها استحباب العفو عن القصاص. ومنها استحباب الشفاعة في العفو. ومنها أن الخيرة في القصاص والدية إلى مستحقه لا إلى المستحق عليه. ومنها إثبات القصاص بين الرجل والمرأة وفيه ثلاثة مذاهب: أحدها: مذهب عطاء والحسن أنه لا قصاص بينهما في نفس ولا طرف بل تتعين دية الجناية تعلقاً بقوله تعالى: {والأنثى بالأنثى}. الثاني: وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم ثبوت القصاص بينهما في النفس وفيما دونها مما يقبل القصاص واحتجوا بقوله تعالى: {النفس بالنفس} إلى آخرها، وهذا وإن كان شرعاً لمن قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف مشهور للأصوليين، فإنما الخلاف إذا لم يرد شرعنا بتقريره وموافقته، فإن ورد كان شرعاً لنا بلا خلاف، وقد ورد شرعنا بتقريره في حديث أنس هذا والله أعلم. والثالث: وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه يجب القصاص بين الرجال والنساء في النفس ولا يجب فيما دونها. ومنها وجوب القصاص في السن وهو مجمع عليه إذا أقلها كلها، فإن كسر بعضها ففيه، وفي كسر سائر العظام خلاف مشهور للعلماء والأكثرون على أنه لا قصاص والله أعلم
*2* باب ما يباح به دم المسلم
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ وَ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَ وَكِيعٌ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُرّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَحِلّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، يَشْهَدُ أَنْ لاَ إلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ، إلاّ بِإِحدَىَ ثَلاَثٍ: الثّيّبُ الزّانِ، وَالنّفْسُ بِالنّفْسِ، وَالتّارِكُ لِدِينِهِ، الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ".
حدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ. ح وحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ عَلِيّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، كُلّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.
حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى (وَاللّفْظ لأَحْمَدَ) قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرحْمَنِ بْنُ مهْدِيّ،عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُرّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَامَ فِينَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "وَالّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ لاَ يَحِلّ دَمُ رَجُلٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إلاّ اللّهُ، وَأَنّي رَسُولُ اللّهِ، إلاّ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ: التّارِكُ الإِسْلاَمَ، الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ أَوِ الْجَمَاعَةَ، (شَكّ فِيهِ أَحْمَدُ)، وَالثّيّبُ الزّانِي، وَالنّفْسُ بِالنّفْسِ".
قَالَ الأَعْمَشُ: فَحَدّثْتُ بِهِ إِبْرَاهِيمَ، فَحَدّثَنِي عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، بِمِثْلِهِ.
وحدّثني حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ وَ الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيّاءَ، قَالاَ: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُوسَىَ، عَنْ شَيْبَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ بَالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعاً، نَحْوَ حَدِيثِ سُفْيَانَ، وَلَمْ يَذْكُرَا فِي الْحَدِيثِ قَوْلَهُ "وَالّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ!".
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إلَه إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزان والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة" هكذا هو في النسخ الزان من غير ياء بعد النون وهي لغة صحيحة قرئ بها في السبع كما في قوله تعالى: {الكبير المتعال} وغيره، والأشهر في اللغة إثبات الياء في كل هذا، وفي هذا الحديث إثبات قتل الزاني المحصن والمراد رجمه بالحجارة حتى يموت وهذا بإجماع المسلمين، وسيأتي إيضاحه وبيان شروطه في بابه إن شاء الله تعالى. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "والنفس بالنفس" فالمراد به القصاص بشرطه، وقد يستدل به أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهم في قولهم: يقتل المسلم بالذمي، ويقتل الحر بالعبد، وجمهور العلماء على خلافه منهم مالك والشافعي والليث وأحمد. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "والتارك لدينه المفارق للجماعة" فهو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام. قال العلماء: ويتناول أيضاً كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغير أو غيرهما وكذا الخوارج والله أعلم. واعلم أن هذا عام يخص منه الصائل ونحوه فيباح قتله في الدفع، وقد يجاب عن هذا بأنه داخل في المفارق للجماعة، أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله قصداً إلا في هذه الثلاثة والله أعلم
*2* باب بيان إثم من سنّ القتل
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ أَبِي شَيْبَةَ) قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُرّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً، إلاّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لأَنّهُ كَانَ أَوّلَ مَنْ سَنّ الْقَتْلَ"،
وحدّثناه عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ وَ عِيسَى بْنُ يُونُسَ، ح وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، كُلّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ وَعِيسَى بْنِ يُونُسَ "لأَنّهُ سَنّ الْقَتْلَ" لَمْ يَذْكُرَا: أَوّلَ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل منها لأنه كان أول من سن القتل" الكفل بكسر الكاف الجزء والنصيب، وقال الخليل: هو الضعف، وهذا الحديث من قواعد الإسلام، وهو أن كل من ابتدع شيئاً من الشر كان عليه مثل وزر كل من اقتدى به في ذلك العمل مثل عمله إلى يوم القيامة، ومثله من ابتدع شيئاً من الخير كان له مثل أجر كل من يعمل به إلى يوم القيامة، وهو موافق للحديث الصحيح: "من سن سنة حسنة ومن سن سنة سيئة" وللحديث الصحيح: "من دل على خير فله مثل أجر فاعله" وللحديث الصحيح: "ما من داع يدعو إلى هدي وما من داع يدعو إلى ضلالة" والله أعلم
*2* باب المجازاة بالدماء في الاَخرة، وأنها أول ما يقضى فيه بين الناس يوم القيامة
*حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيرٍ، جَمِيعاً عَنْ وَكِيعٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَ وَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوّلُ مَا يُقْضَىَ بَيْنَ النّاسِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فِي الدّمَاءِ".
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ: حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ، حَدّثَنَا خَالِدٌ : (يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ)، ح وَحَدّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ، حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، ح وَحَدّثَنَا ابْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيّ، كُلّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنّ بَعْضَهُمْ قَالَ: عَنْ شُعْبَةَ "يُقْضَىَ"، وَبَعْضُهُمْ قَالَ "يُحْكَمُ بَيْنَ النّاسِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء" فيه تغليظ أمر الدماء وأنها أول ما يقضي فيه بين الناس يوم القيامة، وهذا لعظم أمرها وكثير خطرها، وليس هذا الحديث مخالفاً للحديث المشهور في السنن أول ما يحاسب به العبد صلاته لأن هذا الحديث الثاني فيما بين العبد وبين الله تعالى، وأما حديث الباب فهو فيما بين العباد والله أعلم بالصواب
*2* باب تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ (وَتَقَارَبَا فِي اللّفْظِ) قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ الثّقَفِيّ، عَنْ أَيّوبَ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "إنّ الزّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللّهُ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، السّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحِجّةِ وَالْمُحَرّمُ، وَرَجَبٌ، شَهْرُ مُضَرَ، الّذِي بَيْنَ جُمَادَىَ وَشَعْبَانَ"، ثُمّ قَالَ: (أَيّ شَهْرٍ هَذَا؟" قُلْنَا: الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَسَكَتَ حَتّىَ ظَنَنّا سَيُسَمّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: "أَلَيْسَ ذَا الْحِجّةِ؟" قُلْنَا: بَلَىَ. قَالَ: "فَأَيّ بَلَدٍ هَذَا؟" قُلْنَا: اللّهُ ورَسُولُهُ أَعلَمُ. قالَ: فَسَكَتَ حَتّى ظَنَنّا أَنّهُ، سَيُسَمّيْهِ بغَيْرِ إسْمِهِ. قَالَ: "أَليْسَ الْبَلْدَةَ؟" قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: "فَأَيّ يَوْمٍ هَذَا؟" قُلْنَا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: فَسَكَتَ حَتّىَ ظَنَنّا أَنّهُ سَيُسَمّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: "أَلَيْسَ يَوْمَ النّحْرِ؟" قُلْنَا: بَلَىَ، يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ:"فَإِنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ (قَالَ مُحَمّدٌ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ) وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، وَسَتَلْقَوْنَ رَبّكُمْ فَيَسْأَلُكُمْ عَنْ أَعْمَالِكُمْ، فَلاَ تَرْجِعُنّ بَعْدِي كُفّاراً (أَوْ ضُلاّلاً) يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ، أَلاَ لِيُبَلّغِ الشّاهِدُ الْغَائِبَ، فَلَعَلّ بَعْضَ مَنْ يُبَلّغُهُ يَكُونُ أَوْعَىَ لَهُ مِنْ بَعْضِ مَنْ سَمِعَهُ"، ثُمّ قَالَ: "أَلاَ هَلْ بَلّغْتُ؟".
قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي رِوَايَتِهِ "وَرَجَبُ مُضَرَ"، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ "فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي"
حدّثنا نَصْرُ بْنُ عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ: حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَوْنٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، قَعَدَ عَلَى بَعِيرِهِ وَأَخَذَ إنْسَانٌ بِخِطَامِهِ، فَقَالَ: "أَتَدْرُونَ أَيّ يَوْمٍ هَذَا؟" قَالُوا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، حَتّىَ ظَنَنّا أَنّهُ سَيُسَمّيهِ سِوَى اسْمِهِ. فَقَالَ: "أَلَيْسَ بِيَوْمِ النّحْرِ؟" قُلْنَا: بَلَىَ. يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "فَأَيّ شَهْرٍ هَذَا؟" قُلْنَا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: "أَلَيْسَ بِذِي الْحِجّةَ؟" قُلْنَا: بَلَىَ. يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "فَأَيّ بَلَدٍ هَذَا؟" قُلْنَا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: حَتّىَ ظَنَنّا أَنّهُ سَيُسَمّيهِ سِوَى اسْمِهِ، قَالَ: "أَلَيْسَ بِالْبَلْدَةِ؟" قُلْنَا بَلَىَ، يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: "فَإِنّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فَلْيُبَلّغِ الشّاهِدُ الْغَائِبَ". قَالَ: ثُمّ انْكَفَأَ إلَىَ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ فَذَبَحَهُمَا، وَإلَىَ جُزَيْعَةٍ مِنَ الْغَنَمِ فَقَسَمَهَا بَيْنَنَا.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ مَسْعَدَةَ، عَنِ ابْنِ عَونٍ، قَالَ: قَالَ مُحَمّدٌ: قَالَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: لَمّا كَان ذَلِكَ الْيَوْمُ جَلَسَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ بَعِيرٍ، قَالَ: وَرَجُلٌ آخِذٌ بِزِمَامِهِ (أَوْ قَالَ بِخِطَامِهِ). فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ.
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ: حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا قُرّةُ بْنُ خَالدٍ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ سِيرِينَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ، وَعَنْ رَجُلٍ آخَرَ هُوَ فِي نَفْسِي أَفْضَلُ مِنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ جَبَلَةَ وَ أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو عَامِرٍ، عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو. حَدّثَنَا قُرّةُ بِإِسْنَادِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ (وَسَمّى الرّجُلَ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ) عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ النّحْرِ، فَقَالَ: "أَيّ يَوْمٍ هَذَا" وَسَاقُوا الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عَونٍ. غَيْرَ أَنّهُ لاَ يَذْكُرُ "وَأَعْرَاضَكُمْ" وَلاَ يَذْكُرُ: ثُمّ انْكَفَأَ إِلَىَ كَبْشَيْنِ، وَمَا بَعْدَهُ. وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ "كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إلَىَ يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبّكُمْ، أَلاَ هَلْ بَلّغْتُ؟" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "اللّهُمّ اشْهَدْ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثني عشر شهراً منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب شهر مضر الذين بين جمادى وشعبان" أما ذو القعدة فبفتح القاف وذو الحجة بكسر الحاء هذه اللغة المشهورة ويجوز في لغة قليلة كسر القاف وفتح الحاء، وقد أجمع المسلمون على أن الأشهر الحرم الأربعة هي هذه المذكورة في الحديث، ولكن اختلفوا في الأدب المستحب في كيفية عدها، فقالت طائفة من أهل الكوفة وأهل الأدب: يقال المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة ليكون الأربعة من سنة واحدة، وقال علماء المدينة والبصرة وجماهير العلماء: هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب ثلاثة سرد وواحد فرد، وهذا هو الصحيح الذي جاءت به الأحاديث الصحيحة منها هذا الحديث الذي نحن فيه، وعلى هذا الاستعمال أطبق الناس من الطوائف كلها. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان وإنما قيده هذا التقييد مبالغة في إيضاحه وإزالة اللبس عنه، قالوا: وقد كان بين بني مضر وبين ربيعة اختلاف في رجب، فكانت مضر تجعل رجباً هذا الشهر المعروف الاَن وهو الذي بين جمادى وشعبان، وكانت ربيعة تجعله رمضان، فلهذا أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى مضر، وقيل لأنهم كانوا يعظمونه أكثر من غيرهم، وقيل أن العرب كانت تسمي رجباً وشعبان الرجبين، وقيل كانت تسمي جمادى ورجباً جمادين، وتسمي شعبان رجباً. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض" فقال العلماء: معناه أنهم في الجاهلية يتمسكون بملة إبراهيم صلى الله عليه وسلم في تحريم الأشهر الحرم، وكان يشق عليهم تأخير القتال ثلاثة أشهر متواليات، فكانوا إذا احتاجوا إلى قتال أخروا تحريم المحرم إلى الشهر الذي بعده وهو صفر، ثم يؤخرونه في السنة الأخرى إلى شهر آخر، وهكذا يفعلون في سنة بعد سنة حتى اختلط عليهم الأمر وصادفت حجة النبي صلى الله عليه وسلم تحريمهم وقد تطابق الشرع وكانوا في تلك السنة قد حرموا ذا الحجة لموافقة الحساب الذي ذكرناه، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الاستدارة صادفت ما حكم الله تعالى به يوم خلق السموات والأرض. وقال أبو عبيد: كانوا ينسؤون أي يؤخرون وهو الذي قال الله تعالى فيه: {إنما النسيء زيادة في الكفر} فربما احتاجوا إلى الحرب في المحرم فيؤخرون تحريمه إلى صفر، ثم يؤخرون صفر في سنة أخرى، فصادف تلك السنة رجوع المحرم إلى موضعه. وذكر القاضي وجوهاً أخر في بيان معنى هذا الحدىث ليست بواضحة وينكر بعضها. قوله: (ثم قال أي شهر هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: أليس ذا الحجة؟ قلنا بلى، قال: فأي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم إلى آخره) هذا السؤال والسكوت والتفسير أراد به التفخيم والتقرير والتنبيه على عظم مرتبة هذا الشهر والبلد واليوم، وقولهم الله ورسوله أعلم هذا من حسن أدبهم، وأنهم علموا أنه صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه ما يعرفونه من الجواب فعرفوا أنه ليس المراد مطلق الإخبار بما يعرفون. قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا" المراد بهذا كله بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض والتحذير من ذلك. قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا ترجعن بعدي ضلالاً يضرب بعضكم رقاب بعض" هذا الحديث سبق شرحه في كتاب الإيمان في أول الكتاب وذكر بيان إعرابه، وأنه لا حجة فيه لمن يقول بالتكفير بالمعاصي بل المراد به كفران النعم، أو هو محمول على من استحل قتال المسلمين بلا شبهة. قوله صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ الشاهد الغائب" فيه وجوب تبليغ العلم وهو فرض كفاية فيجب تبليغه بحيث ينتشر. قوله صلى الله عليه وسلم: "فلعل بعض من يبلغه يكون أوعى له من بعض من سمعه" احتج به العلماء لجواز رواية الفضلاء وغيرهم من الشيوخ الذين لا علم لهم عندهم ولا فقه إذا ضبط ما يحدث به. قوله: (قعد على بعيره وأخذ إنسان بخطامه) إنما أخذ بخطامه ليصون البعير من الاضطراب على صاحبه والتهوي 5 على راكبه، وفيه دليل على استحباب الخطبة على موضع عال من منبر وغيره وسواء خطبة الجمعة والعيد وغيرهما، وحكمته أنه كلما ارتفع كان أبلغ في إسماعه الناس ورؤيتهم إياه ووقع كلامه في نفوسهم. قوله: (انكفأ إلى كبشين أملحين فذبحهما وإلى جزيعة من الغنم فقسمها بيننا) انكفأ بهمز آخره أي انقلب، والأملح هو الذي فيه بياض وسواد والبياض أكثر، وقوله: جزيعة بضم الجيم وفتح الزاي ورواه بعضهم جزيعة بفتح الجيم وكسر الزاي وكلاهما صحيح، والأول هو المشهور في رواية المحدثين، وهو الذي ضبطه الجوهري وغيره من أهل اللغة، وهي القطعة من الغنم تصغير جزعة بكسر الجيم وهي القليل من الشيء يقال جزع له من ماله أي قطع، وبالثاني ضبطه ابن فارس في المجمل قال: وهي القطعة من الغنم وكأنها فعيلة بمعنى مفعولة كضفيرة بمعنى مضفورة.
قال القاضي: قال الدارقطني قوله ثم انكفأ إلى آخر الحديث وهم من ابن عون فيما قيل، وإنما رواه ابن سيرين عن أنس فأدرجه ابن عون هنا في هذا الحديث فرواه عن ابن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال القاضي: وقد روى البخاري هذا الحديث عن ابن عون فلم يذكر فيه هذا الكلام فلعله تركه عمداً، وقد رواه أيوب قرة عن ابن سيرين في كتاب مسلم في هذا الباب ولم يذكروا فيه هذه الزيادة، قال القاضي: والأشبه أن هذه الزيادة إنما هي في حديث آخر في خطبة عيد الأضحى فوهم فيها الراوي فذكرها مضمومة إلى خطبة الحجة. أو هما حديثان ضم أحدهما إلى الاَخر، وقد ذكر مسلم هذا بعد هذا في كتاب الضحايا من حديث أيوب وهشام عن ابن سيرين عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثم خطب فأمر من كان ذبح قبل الصلاة أن يعيد ثم قال في آخر الحديث: فانكفأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كبشين أملحين فذبحهما فقام الناس إلى غنيمة فتوزعوها فهذا هو الصحيح وهو دافع للإشكال
*2* باب صحة الإِقرار بالقتل وتمكين وليّ القتيل من القصاص، واستحباب طلب العفو منه
*حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا أَبُو يُونُسَ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ أَنّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَائِلٍ حَدّثَهُ أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ قَالَ: إنّي لَقَاعِدٌ مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم إذْ جَاءَ رَجُلٌ يَقُودُه آخَرَ بِنِسْعَةٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! هَذَا قَتَلَ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَقَتَلْتَهُ؟" (فَقَالَ: إنّهُ لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ أَقَمْتُ عَلَيْهِ الْبَيّنَةَ) قَالَ: نَعَمْ قَتَلْتُهُ. قَالَ: "كَيْفَ قَتَلْتَهُ؟" قَالَ: كُنْتُ أَنَا وَهُوَ نَخْتَبِطُ مِنْ شَجَرَةٍ، فَسَبّنِي فَأَغْضَبَنِي، فَضَرَبْتُهُ بِالْفَأْسِ عَلَىَ قَرْنِهِ فَقَتَلْتُهُ. فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ لَكَ مِنْ شَيْءٍ تُؤَدّيهِ عَنْ نَفْسِكَ؟" قَالَ: مَا لِي مَالٌ إلاّ كِسَائِي وَفَأْسِي. قَالَ: "فَتَرَىَ قَوْمَكَ يَشْتَرُونَكَ؟" قَالَ: أَنَا أَهْوَنُ عَلَىَ قَوْمِي مِنْ ذَاكَ، فَرَمَىَ إلَيْهِ بِنِسْعَتِهِ. وَقَالَ: "دُونَكَ صَاحِبَكَ". فَانْطَلَقَ بِهِ الرّجُلُ، فَلَمّا وَلّىَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ" فَرَجَعَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّهُ بَلَغَنِي أَنّكَ قُلْتَ: "إنْ قَتَلَهُ فَهُوَ مِثْلُهُ" وَأَخَذْتُهُ بِأَمْرِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا تُرِيدُ أَنْ يَبُوءَ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِ صَاحِبِكَ؟" قَالَ: يَا نَبِيّ اللّهِ (لَعَلّهُ قَالَ) بَلَىَ. قَالَ: "فَإنّ ذَاكَ كَذَاكَ". قَالَ: فَرَمَىَ بِنِسْعَتِهِ وَخَلّىَ سَبِيلَهُ.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ: حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدّثَنَا هُشَيْمٌ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِرَجُلٍ قَتَلَ رَجُلاً. فَأَقَادَ وَلِيّ الْمَقْتُولِ مِنْهُ، فَانْطَلَقَ بِهِ وَفِي عُنُقِهِ نِسْعَةٌ يَجُرّهَا. فَلَمّا أَدْبَرَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النّارِ" فَأَتَىَ رَجُلٌ الرّجُلَ فَقَالَ لَهُ مَقَالَةَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَخَلّىَ عَنْهُ.
قَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِحَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ فَقَالَ: حَدّثَنِي ابْنُ أَشْوَعَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم إنّمَا سَأَلَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ فَأَبَىَ.
قوله: (جاء رجل يقول آخر بنسعة فقال يا رسول الله هذا قتل أخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقتلته؟ فقال: إنه لو لم يعترف أقمت عليه البينة قال: نعم قتلته، قال: كيف قتلته؟ قال: كنت أنا وهو نختبط من شجرة فسبني فأغضبني فضربته بالفأس على قرنه فقتلته) أما النسعة فبنون مكسورة ثم سين ساكنة ثم عين مهملة وهي حبل من جلود مضفورة وقرنه جانب رأسه. وقوله: (يختبط) أي يجمع الخبط وهو ورق الثمر بأن يضرب الشجر بالعصا فيسقط ورقه فيجمعه علفاً. وفي هذا الحديث الإغلاظ على الجناة وربطهم وإحضارهم إلى ولي الأمر، وفيه سؤال المدعى عليه عن جواب الدعوى فلعله يقر فيستغني المدعي والقاضي عن التعب في إحضار الشهود وتعديلهم، ولأن الحكم بالإقرار حكم بيقين وبالبينة حكم بالظن، وفيه سؤال الحاكم وغيره الولي عن العفو عن الجاني، وفيه جواز العفو بعد بلوغ الأمر إلى الحاكم، وفيه جواز أخذ الدية في قتل العمد لقوله صلى الله عليه وسلم في تمام الحديث: "هل لك من شيء تؤديه عن نفسك" وفيه قبول الإقرار بقتل العمد. قوله: (فانطلق به الرجل فلما ولى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قتله فهو مثله فرجع فقال: يا رسول الله بلغني أنك قلت إن قتله فهو مثله وأخذته بأمرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما تريدأن يبوء بإثمك وإثم صاحبك؟ قال: يا نبي الله لعله قال بلى قال: فإن ذاك كذاك، قال: فرمى بنسعته وخلى سبيله). وفي الرواية الأخرى: "أنه انطلق به فلما أدبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القاتل والمقتول في النار". أما قوله صلى الله عليه وسلم: إن قتله فهو مثله فالصحيح في تأويله أنه مثله في أنه لا فضل ولا منة لأحدهما على الاَخر لأنه استوفى حقه منه، بخلاف ما لو عفى عنه فإنه كان له الفضل والمنة وجزيل ثواب الاَخرة وجميل الثناء في الدنيا، وقيل فهو مثله في أنه قاتل وإن اختلفا في التحريم والإباحة لكنهما استويا في طاعتهما الغضب ومتابعة الهوى لا سيما وقد طلب النبي صلى الله عليه وسلم منه العفو، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال بهذا اللفظ الذي هو صادق فيه لا يهام لمقصود صحيح وهو أن الولي ربما خاف فعفا والعفو مصلحة للولي والمقتول في ديتهما لقوله صلى الله عليه وسلم: يبوء بإثمك وإثم صاحبك، وفيه صحلة للجاني وهو إنقاذه من القتل، فلما كان العفو مصلحة توصل إليه بالتعريض، وقد قال الضمري وغيره من علماء أصحابنا وغيرهم: يستحب للمفتي إذا رأى مصلحة في التعريض للمستفتي أن يعرض تعريضاً يحصل به المقصود مع أنه صادق فيه، قالوا: ومثاله أن يسأله إنسان عن القاتل هل له توبة ويظهر للمفتي بقرينة أنه إن أفتى بأن له توبة ترتب عليه مفسدة وهي أن الصائل يستهون القتل لكونه يجد بعد ذلك منه مخرجاً فيقول المفتي الحالة هذه صح عن ابن عباس أنه قال لا توبة لقاتل فهو صادق في أنه صح عن ابن عباس، وإن كان المفتي لا يعتقد ذلك ولا يوافق ابن عباس في هذه المسألة لكن السائل إنما يفهم منه موافقتهم ابن عباس فيكون سبباً لزجره فهكذا وما أشبه ذلك كمن يسأل عن الغيبة في الصوم هل يفطر بها فيقول جاء في الحديث الغيبة تفطر الصائم والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "القاتل والمقتول في النار" فليس المراد به في هذين فكيف تصح إرادتهما مع أنه إنما أخذه ليقتله بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، بل المراد غيرهما وهو إذا التقى المسلمان بسيفيهما في المقاتلة المحرمة كالقتال عصبية ونحو ذلك فالقاتل والمقتول في النار، والمراد به التعريض كما ذكرناه، وسبب قوله ما قدمناه لكون الولي يفهم منه دخوله في معناه ولهذا ترك قتله فحصل المقصود والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أما تريد أن يبوء بإثمك وإثم صاحبك" فقيل معناه يتحمل إثم المقتول بإتلافه مهجته وإثم الولي لكون فجعه في أخيه، ويكون قد أوحى إليه صلى الله عليه وسلم بذلك في هذا الرجل خاصة، ويحتمل أن معناه يكون عفوك عنه سبباً لسقوط إثمك وإثم أخيك المقتول، والمراد إثمهما السابق بمعاص لهما متقدمة لا تعلق لها بهذا القاتل، فيكون معنى يبوء يسقط وأطلق هذا اللفظ عليه مجازاً. قال القاضي: وفي هذا الحديث أن قتل القصاص لا يكفر ذنب القاتل بالكلية، وإن كفرها بينه وبين الله تعالى كما جاء في الحديث الاَخر فهو كفارة له ويبقى حق المقتول والله أعلم
*2* باب دية الجنين، ووجوب الدية في قتل الخطأ وشبه العمد على عاقلة الجاني
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ، رَمَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَىَ، فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا. فَقَضَىَ فِيهِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بِغُرّةٍ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ.
وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ قَالَ: قَضَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ، سَقَطَ مَيّتاً، بِغُرّةٍ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، ثُمّ إنّ الْمَرْأَةَ الّتِي قُضِيَ عَلَيْهَا بِالْغُرّةِ تُوُفّيَتْ. فَقَضَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِأَنّ مِيرَاثَهَا لزوجها وَبنيها، وَأَنّ الْعَقْلَ عَلَىَ عَصَبَتِهَا.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. ح وَحَدّثَنَا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَى التّجِيِبِيّ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيّبِ وَ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيْلٍ. فَرَمَتْ إحْدَاهُمَا الأُخْرَىَ بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا، وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرّةٌ: عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ، وَقَضَىَ بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَىَ عَاقِلَتِهَا، وَوَرّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ، فَقَالَ حَمَلُ بْنُ النّابِغَةِ الْهُذَلِيّ: يَا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ أَغْرَمُ مَنْ لاَ شَرِبَ وَلاَ أَكَلَ، وَلاَ نَطَقَ وَلاَ اسْتَهَلّ؟ فَمِثْلُ ذَلِكَ يطَلّ، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "إِنّمَا هَذَا مِنْ إخْوَانِ الْكُهّانِ" مِنْ أَجْلِ سَجْعِهِ الّذِي سَجَعَ.
وحدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصّتِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ: وَوَرّثَهَا وَلَدَهَا وَمَنْ مَعَهُمْ. وَقَالَ: فَقَالَ قَائِلٌ: كَيْفَ نَعْقِلُ؟ وَلَمْ يُسَمّ حَمَلَ بْنَ مَالِكٍ.
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ: أَخْبَرَنَا جَريرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نُضَيْلَةَ الْخُزَاعِيّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: ضَرَبَتِ امْرَأَةٌ ضَرّتَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ وَهِيَ حُبْلَىَ. فَقَتَلَتْهَا. قَالَ: وَإِحْدَاهُمَا لَحْيَانِيّةٌ. قَالَ: فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم دِيَةَ الْمَقْتُولَةِ عَلَىَ عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ، وَغُرّةً لِمَا فِي بَطْنِهَا. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ عَصَبَةِ الْقَاتِلَةِ: أَنَغْرَمُ دِيَةَ مَنْ لاَ أَكَلَ وَلاَ شَرِبَ وَلاَ اسْتَهَلّ؟ فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلّ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الأَعْرَابِ؟".
قَالَ: وَجَعَلَ عَلَيْهِمُ الدّيَةَ.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا يَحْيى بْنُ آدَمَ: حَدّثَنَا مُفَضّلٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نُضَيْلَةَ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنّ امْرَأَةً قَتَلَتْ ضَرّتَهَا بَعَمُودِ فُسْطَاطٍ، فَأُتِيَ فِيهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَضَىَ عَلَىَ عَاقِلَتِهَا بِالدّيَةِ، وَكَانَتْ حَامِلاً، فَقَضَىَ فِي الْجَنِينِ بِغُرّةٍ. فَقَالَ بَعْضُ عَصَبَتِهَا "أَنَدِي مَنْ لاَ طَعِمَ وَلاَ شَرِبَ وَلاَ صَاحَ فَاسْتَهَلّ؟ وَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلّ؟ قَالَ: فَقَالَ "سَجْعٌ كسَجْعِ الأَعْرَابِ؟".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ، عَنْ سُفْيَان، عَنْ مَنْصُورٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَ مَعْنَىَ حَدِيثِ جَرِيرٍ ومُفَضّلٍ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ، قَالُوا: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادِهُم الْحَدِيثَ بِقِصّتِهِ. غَيْرَ أَنّ فِيهِ: فَأَسْقَطَتْ، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَضَىَ فِيهِ بِغُرّةٍ، وَجَعَلَهُ عَلَىَ أَوْلِيَاءِ الْمَرْأَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ: دِيَةَ الْمَرْأَةِ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (وَاللّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ) (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ) عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: اسْتَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ النّاسَ فِي مِلاَصِ الْمَرْأَةِ. فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: شَهِدْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَضَىَ فِيهِ بِغُرّةٍ: عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ. قَالَ فَقَالَ عُمَرُ: ائْتِنِي بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ. قَالَ: فَشَهِدَ لَهُ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ.
قوله: (أن امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى فطرحت جنينها فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة) وفي رواية: (أنها ضربتها بعمود فسطاط وهي حبلى فقتلتها). أما قوله بغرة عبد فضبطناه على شيوخنا في الحديث والفقه بغرة بالتنوين وهكذا قيده جماهير العلماء في كتبهم وفي مصنفاتهم في هذا وفي شروحهم. وقال القاضي عياض: الرواية فيه بغرة بالتنوين وما بعده بدل منه، قال: ورواه بعضهم بالإضافة، قال: والأول أوجه وأقيس. وذكر صاحب المطالع الوجهين ثم قال: الصواب رواية التنوين، قلنا: ومما يؤيده ويوضحه رواية البخاري في صحيحه في كتاب الديات في باب دية جنين المرأة عن المغيرة بن شعبة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغرة عبداً أو أمة وقد فسر الغرة في الحديث بعبد أو أمة. قال العلماء: وأو هنا للتقسيم لا للشك، والمراد بالغرة عبد أو أمة وهو اسم لكل واحد منهما. قال الجوهري: كأنه عقر بالغرة عن الجسم كله كما قالوا أعتق رقبة وأصل الغرة بياض في الوجه، ولهذا قال أبو عمرو: المراد بالغرة الأبيض منهما خاصة، قال: ولا يجزي الأسود، وقال: ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بالغرة معنى زائداً على شخص العبد والأمة لما ذكرها ولاقتصر على قوله عبد أو أمة، هذا قول أبي عمرو وهو خلاف ما اتفق عليه الفقهاء أنه تجزي فيها السوداء ولا تتعين البيضاء، وإنما المعتبر عندهم أن تكون قيمتها عشر دية الأم أو نصف عشر دية الأب. قال أهل اللغة: الغرة عند العرب أنفس الشيء، وأطلقت هنا على الإنسان لأن الله تعالى خلقه في أحسن تقويم. وأما ما جاء في بعض الروايات في غير الصحيح بغرة عبد أو أمة أو فرس أو بغل فرواية باطلة وقد أخذ بها بعض السلف. وحكي عن طاوس وعطاء ومجاهد أنها عبد أو أمة أو فرس. وقال داود: كل ما وقع عليه اسم الغرة يجزي. واتفق العلماء على أن دية الجنين هي الغرة سواء كان الجنين ذكراً أو أنثى. قال العلماء: وإنما كان كذلك لأنه قد يخفى فيكثر فيه النزاع فضبطه الشرع بضابط يقطع النزاع، وسواء كان خلقه كامل الأعضاء أم ناقصها أو كان مضغة تصور فيها خلق آدمي، ففي كل ذلك الغرة بالإجماع، ثم الغرة تكون لورثته على مواريثهم الشرعية، وهذا شخص يورث ولا يرث، ولا يعرف له نظير إلا من بعضه حر وبعضه رقيق فإنه رقيق لا يرث عندنا، وهل يورث؟ فيه قولان أصحهما يورث، وهذا مذهبنا ومذهب الجماهير. وحكى القاضي عن بعض العلماء أن الجنين كعضو من أعضاء الأم فتكون ديته لها خاصة. واعلم أن المراد بهذا كله إذا انفصل الجنين ميتاً، أما إذا انفصل حياً ثم مات فيجب فيه كمال دية الكبير، فإن كان ذكراً وجب مائة بعير، وإن كان أثنى فخمسون وهذا مجمع عليه وسواء في هذا كله العمد والخطأ، ومتى وجبت الغرة فهي على العاقلة لا على الجاني، هذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وسائر الكوفيين رضي الله عنهم. وقال مالك والبصريون: تجب على الجاني. وقال الشافعي وآخرون: يلزم الجاني الكفارة. وقال بعضهم: لا كفارة عليه وهو مذهب مالك وأبي حنيفة رضي الله عنهما والله أعلم. قوله: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتاً بغرة عبد أو أمة ثم أن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها" قال العلماء: هذا الكلام قد يوهم خلاف مراده، فالصواب أن المرأة التي مات هي المجني عليها أم الجنين لا الجانية، وقد صرح به في الحديث بعده بقوله فقتلتها وما في بطنها، فيون المراد بقوله: التي قضى عليها بالغرة أي التي قضى لها بالغرة فعبر بعليها عن لها. وأما قوله: والعقل على عصبتها فالمراد عصبة القاتلة. قوله: (فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها). وفي الرواية الأخرى: (أنها ضربتها بعمود فسطاط) هذا محمول على حجر صغير وعمود صغير لا يقصد به القتل غالباً فيكون شبه عمد تجب فيه الدية على العاقلة ولا يجب فيه قصاص ولا دية على الجاني، وهذا مذهب الشافعي والجماهير. قوله: "فقال حمل بن النابغة الهذلي يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك يطل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه الذي سجع" أما قوله: حمل بن النابغة فنسبه إلى جده وهو حمل بن مالك بن النابغة وحمل بفتح الحاء المهملة والميم. وأما قوله: فمثل ذلك يطل فروي في الصحيحين وغيرهما بوجهين: أحدهما: يطل بضم الياء المثناة وتشديد اللام ومعناه يهدر ويلغى ولا يضمن. والثاني: بطل بفتح الباء الموحدة وتخفيف اللام على أنه فعل ماض من البطلان وهو بمعنى الملغى أيضاً وأكثر نسخ بلادنا بالمثناة. ونقل القاضي أن جمهور الرواة في صحيح مسلم ضبطوه بالموحدة، قال أهل اللغة: يقال طل دمه بضم الطاء وأطل أي أهدر، وأطله الحاكم وطله أهدره، وجوز بعضهم طل دمه بفتح الطاء في اللازم وأباها الأكثرون.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هذا من إخوان الكهان من أجل سجعه" وفي الرواية الأخرى: (سجع كسجع الأعراب) فقال العلماء: إنما ذم سجعه لوجهين: أحدهما: أنه عارض به حكم الشرع ورام إبطاله. والثاني: أنه تكلفه في مخاطبته، وهذان الوجهان من السجع مذمومان، وأما السجع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله في بعض الأوقات وهو مشهور في الحديث فليس من هذا لأنه لا يعارض به حكم الشرع ولا يتكلفه فلا نهي فيه بل هو حسن، ويؤيد ما ذكرنا من التأويل قوله صلى الله عليه وسلم: كسجع الأعراب فأشار إلى أن بعض السجع هو المذموم والله أعلم. قوله: (إن امرأتين من هذيل) وفي رواية: (امرأة من بني لحيان) المشهور كسر اللام في لحيان وروى فتحها ولحيان بطن من هذيل.
قوله: (ضربت امرأة ضرتها) قال أهل اللغة: كل واحدة من زوجتي الرجل ضرة للأخرى، سميت بذلك لحصول المضارة بينهما في العادة وتضرر كل واحدة بالأخرى. قوله: (فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عصبة القاتلة) هذا دليل لما قاله الفقهاء أن دية الخطأ على العاقلة إنما تختص بعصبات القاتل سوى أبنائه وآبائه.
قوله: (استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس في ملاص المرأة) في جميع نسخ مسلم ملاص بكسر الميم وتخفيف اللام وبصاد مهملة وهو جنين المرأة، والمعروف في اللغة املاص المرأة بهمزة مكسورة، قال أهل اللغة: يقال أملصت به وأزلقت به وأمهلت به وأخطأت به كله بمعنى وهو إذا وضعته قبل أوانه، وكل ما زلق من اليد فقد ملص بفتح الميم وكسر اللام ملصاً بفتحها وأملص أيضاً لغتان وأملصته أنا، وقد ذكر الحميدي هذا الحديث في الجمع بين الصحيحين فقال املاص بالهمزة كما هو المعروف في اللغة، قال القاضي: قد جاء ملص الشيء إذا أفلت، فإن أريد به الجنين صح ملاص مثل لزم لزاماً والله أعلم. قوله: (حدثنا وكيع عن هشام بن عروة عن أبيه عن المسور بن مخرمة قال: استشار عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس في ملاص المرأة) هذا الحديث مما استدركه الدارقطني على مسلم فقال: وهم وكيع في هذا الحديث وخالفه أصحابه هشام فلم يذكروا فيه المسور وهو الصواب، ولم يذكر مسلم غير حديث وكيع، وذكر البخاري حديث من خالفه وهو الصواب هذا قول الدارقطني، وفي البخاري عن هشام عن أبيه عن المغيرة أن عمر رضي الله عنه سأل عن املاص المرأة ولا بد من ذكر المسور وعروة ليتصل الحديث فإن عروة لم يدرك عمر بن الخطاب رضي الله عنه.