كتاب الجهاد والسير
 *1* كتاب الجهاد والسير
*2* باب جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم دعوة الإسلام، من غير تقدم الإعلام بالإغارة
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّمِيمِيّ: حَدّثَنَا سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ قَالَ: كَتَبْتُ إلَىَ نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ الدّعَاءِ قَبْلَ الْقِتَالِ؟ قَالَ: فَكَتَبَ إلَيّ: إنّمَا كَانَ ذَلِكَ فِي أَوّلِ الإِسْلاَمِ، قَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارّونَ، وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَىَ عَلَى الْمَاءِ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَىَ سَبْيَهُمْ وَأَصَابَ يَوْمَئِذٍ. (قَالَ يَحْيَىَ: أَحْسِبُهُ قَالَ) جُوَيْرِيَةَ. (أَوْ قَالَ الْبَتّةَ) ابْنَةَ الْحَارِثِ.
وحدّثني هَذَا الْحَدِيثَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ، وَكَانَ فِي ذَاكَ الْجَيْشِ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ. وَقَالَ: جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ. وَلَمْ يَشُكّ.
قوله: (حدثنا يحيى بن يحيى التميمي قال: حدثنا سليم بن أخضر عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع أسأله عن الدعاء قبل القتال قال: فكتب إلي إنما كان في أول الإسلام قد أغار رسول الله صلى الله عليه وسلم على بني المصطلق وهم غارون وأنعامهم تسقى على الماء فقتل مقاتلتهم وسبي سبيهم وأصاب يومئذ، قال يحيى بن يحيى: أحسبه قال جويرية أو البتة ابنة الحارث، وحدثني هذا الحديث عبد الله بن عمر وكان في ذلك الجيش) قال: وقال في الرواية الأخرى جويرية بنت الحارث ولم يشك. أما قوله أو البتة فمعناه أن يحيى بن يحيى قال: أصاب يومئذ بنت الحارث، وأظن شيخي سليم بن أخضر سماها في روايته جويرية أو أعلم ذلك وأجزم به وأقواله البتة وحاصله أنها جويرية فيما أحفظه إما ظناً وإما علماً. وفي الرواية الثانية قال: هي جويرية بنت الحارث بلا شك. قوله: وهم غارون هو بالغين المعجمة وتشديد الراء أي غافلون، وفي هذا الحديث جواز الإغارة على الكفار الذين بلغتهم الدعوة من غير إنذار بإِلاغارة. وفي هذه المسألة ثلاثة مذاهب حكاها المازري والقاضي أحدها: يجب الإنذار مطلقاً قال مالك وغيرها وهذا ضعيف. والثاني: لا يجب مطلقاً وهذا أضعف منه أو باطل. والثالث: يجب إن لم تبلغهم الدعوة ولا يجب إن بلغتهم لكن يستحب وهذا هو الصحيح، وبه قال نافع مولى ابن عمر والحسن البصري والثوري والليث والشافعي وأبو ثور وابن المنذر والجمهور. قال ابن المنذر وهو قول أكثر أهل العلم: وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة على معناه فمنها هذا الحديث وحديث قتل كعب بن الأشرف، وحديث قتل أبي الحقيق، وفي هذا الحديث جواز استرقاق العرب لأن بني المصطلق عرب من خزاعة، وهذا قول الشافعي في الجديد وهو الصحيح، وبه قال مالك وجمهور أصحابه وأبو حنيفة والأوزاعي وجمهور العلماء. وقال جماعة من العلماء: لا يسترقون وهذا قول الشافعي في القديم
*2* باب تأمير الإمام الأمراء على البعوث، ووصيته إياهم بآداب الغزو وغيرها
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرّاحِ، عَنْ سُفْيَانَ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَىَ بْنُ آدَمَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: أَمْلاَهُ عَلَيْنَا إِمْلاَءً.
وحدّثني حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ: حَدّثَنِي عَبْدُ الصّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ: حَدّثَنِي عَلْقَمَةُ بْنُ مَرْثَدٍ أَنّ سُلَيْمَانَ بْنَ بُرَيْدَةَ حَدّثَهُ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إذَا بَعَثَ أَمِيراً أَوْ سَرِيّةً دَعَاهُ فَأَوْصَاهُ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَىَ حَدِيثِ سُفْيَانَ.
حدّثنا إِبْرَاهِيمُ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهّابِ الْفَرّاءُ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا.
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً على جيش أو سرية أوصاه في خاصته بتقوى الله تعالى ومن معه من المسلمين خيراً ثم قال: "اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليداً") أما السرية فهي قطعة من الجيش تخرج منه تغير وترجع إليه، قال إبراهيم الحربي: هي الخيل تبلغ أربعمائة ونحوها، قالوا: سميت سرية لأنها تسري في الليل ويخفي ذهابها وهي فعيلة بمعنى فاعلة، يقال سرى وأسرى إذا ذهب ليلاً. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا تغدروا" بكسر الدال والوليد الصبي، وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي تحريم الغدر وتحريم الغلول وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا وكراهة المثلة، واستحباب وصية الإمام أمراءه وجيوشه بتقوى الله تعالى والرفق باتباعهم، وتعريفهم ما يحتاجون في غزوهم وما يجب عليهم وما يحل لهم وما يحرم عليهم وما يكره وما يستحب. قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال فأيتهم ما أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم" قوله: "ثم ادعهم إلى الإسلام" هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم ثم ادعهم، قال القاضي عياض رضي الله عنه: صواب الرواية ادعهم بإسقاط ثم، وقد جاء بإسقاطها على الصواب في كتاب أبي عبيد وفي سنن أبي داود وغيرهما لأنه تفسير للخصال الثلاث وليست غيرها. وقال المازري: ليست ثم هنا زائدة بل دخلت لاستفتاح الكلام والأخذ. قوله صلى الله عليه وسلم: "ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين" معنى هذا الحديث أنهم إذا أسلموا استحب لهم أن يهاجروا إلى المدينة، فإن فعلوا ذلك كانوا كالمهاجرين قبلهم في استحقاق الفيء والغنيمة وغير ذلك، وإلا فهم أعراب كسائر أعراب المسلمين الساكنين في البادية من غير هجرة ولا غزو فتجري عليهم أحكام الإسلام، ولا حق لهم في الغنيمة والفيء، وإنما يكون لهم نصيب من الزكاة إن كانوا بصفة استحقاقها. قال الشافعي: الصدقات للمساكين ونحوهم ممن لا حق له في الفيء والفيء للأجناد، قال: ولا يعطي أهل الفيء من الصدقات ولا أهل الصدقات من الفيء واحتج بهذا الحديث. وقال مالك وأبو حنيفة: المالان سواء ويجوز صرف كل واحد منهما إلى النوعين. وقال أبو عبيد: هذا الحديث منسوخ قال: وإنما كان هذا الحكم في أول الإسلام لمن لم يهاجر ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض} وهذا الذي ادعاه أبو عبيد لا يسلم له. قوله صلى الله عليه وسلم: "فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم" هذا مما يستدل به مالك والأوزاعي وموافقوهما في جواز أخذ الجزية من كل كافر عربياً كان أو عجمياً كتابياً أو مجوسياً أو غيرهما. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: تؤخذ الجزية من جميع الكفار إلا مشركي العرب ومجوسهم. وقال الشافعي: لا يقبل إلا من أهل الكتاب والمجوس عرباً كانوا أو عجماً، ويحتج بمفهوم آية الجزية وبحديث: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" ويتأول هذا الحديث، على أن المراد بأخذ الجزية أهل الكتاب لأن اسم المشرك يطلق على أهل الكتاب وغيرهم وكان تخصيصهم معلوماً عند الصحابة، واختلفوا في قدر الجزية فقال الشافعي: أقلها دينار على الغني ودينار على الفقير أيضاً في كل سنة، وأكثرها ما يقع به التراضي. وقال مالك: هي أربعة دنانير على أهل الذهب وأربعون درهماً على أهل الفضة. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وغيره من الكوفيين وأحمد رضي الله تعالى عنه: على الغني ثمانية وأربعون درهماً والمتوسط أربعة وعشرون والفقير اثنا عشر. قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه فلا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم" قال العلماء: الذمة هنا العهد، وتخفروا بضم التاء أخفرت الرجل إذا نقضت عبده وخفرته أمنته وحميته، قالوا: وهذا نهي تنزيه أي لا تجعل لهم ذمة الله فإنه قد ينقضها من لا يعرف حقها وينتهك حرمتها بعض الأعراب وسواد الجيش.
قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا" هذا النهي أيضاً على التنزيه وإِلاحتياط، وفيه حجة لمن يقول ليس كل مجتهد مصيباً بل المصيب واحد وهو الموافق لحكم الله تعالى في نفس الأمر، وقد يجيب عنه القائلون بأن كل مجتهد مصيب بأن المراد أنك لا تأمن أن ينزل على وحي بخلاف ما حكمت، وهذا المعنى منتف بعد النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (حدثنا مسلم بن هيصم) بفتح الهاء والصاد المهملة
*2* باب في الأمر بالتيسير وترك التنفير
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ (وَاللّفْظُ لأَبِي بَكْرٍ) قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ بُرَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، إذَا بَعَثَ أَحَداً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ، قَالَ: "بَشّرُوا وَلاَ تُنَفّرِوا، وَيَسّرُوا وَلاَ تُعَسّرُوا".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَهُ وَمُعَاذاً إلَى الْيَمَنِ، فَقَالَ: "يَسّرَا وَلاَ تُعَسّرَا، وَبَشّرَا وَلاَ تُنَفّرَا، وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبّادٍ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ ابْنُ أَبِي خَلَفٍ، عَنْ زَكَرِيّاءَ بْنِ عَدِيّ. أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللّهِ، عَنْ زيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدّهِ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ حَدِيثِ شُعْبَةَ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ "وَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا".
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي التّيّاحِ، عَنْ أَنَسٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْوَلِيدِ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، كِلاَهُمَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي التّيّاحِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَسّرُوا وَلاَ تُعَسّرُوا، وَسَكّنُوا وَلاَ تُنَفّرُوا".
قوله صلى الله عليه وسلم: "بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا".
وفي الحديث الاَخر: "أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنهما: يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا".
وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه: (يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا) إنما جمع في هذا الألفاظ بين الشيء وضده لأنه قد يفعلهما في وقتين فاقتصر على يسروا لصدق ذلك على من يسر مرة أو مرات وعسر في معظم الحالات، فإذا قال: ولا تعسروا انتفى التعسير في جميع الأحوال من جميع وجوهه وهذا هو المطلوب، وكذا يقال في يسرا ولا تنفرا وتطاوعا ولا تختلفا لأنهما قد يتطاوعان في وقت ويختلفان في وقت، وقد يتطاوعان في شيء ويختلفان في شيء. وفي هذا الحديث الأمر بالتبشير بفضل الله وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته والنهي عن التنفير بذكر التخويف وأنواع الوعيد محضة من غير ضمها إلى التبشير، وفيه تأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليهم، وكذلك من قارب البلوغ من الصبيان ومن بلغ ومن تاب من المعاصي كلهم يتلطف بهم ويدرجون في أنواع الطاعة قليلاً قليلاً، وقد كانت أمور الإسلام في التكليف على التدريج، فمتى يسر على الداخل في الطاعة أو المريد للدخول فيها سهلت عليه وكانت عاقبته غالباً التزايد منها، ومتى عسرت عليه أو شك أن لا يدخل فيها وإن دخل أو شك أن لا يدوم أو لا يستحليها، وفيه أمر الولاة بالرفق واتفاق المتشاركين في ولاية ونحوها وهذا من المهمات، فإن غالب المصالح لا يتم إلا بالإتفاق ومتى حصل الاختلاف فات، وفيه وصية الإمام الولاة وإن كانوا أهل فضل وصلاح كمعاذ وأبي موسى فإن الذكرى تنفع المؤمنين. قوله: (حدثنا محمد بن عباد حدثنا سفيان عن عمرو عن سعيد بن أبي بردة) هذا ما استدركه الدارقطني وقال: لم يتابع ابن عباد عن سفيان عن عمرو عن سعيد، وقد روي عن سفيان عن مسعر عن سعيد ولا يثبت ولم يخرجه البخاري من طريق سفيان، هذا كلام الدارقطني، ولا إنكار على مسلم لأن ابن عباد ثقة، وقد جزم بروايته عن سفيان عن عمرو عن سعيد ولو لم يثبت لم يضر مسلماً فإن المتن ثابت من الطرق.
*2* باب تحريم الغدر
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ وَ أَبُو أُسَامَةَ. ح وَحَدّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ (يَعْنِي أَبَا قُدَامَةَ السّرَخْسِيّ) قَالاَ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ (وَهُوَ الْقَطّان)، كُلّهُمْ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ (وَاللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ، عَنِ نَافِعِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إذَا جَمَعَ اللّهُ الأَوّلِينَ وَالاَخرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْفَعُ لِكُلّ غَادِرٍ لِوَاءٌ، فَقِيلَ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنِ بْنِ فُلاَنٍ".
حدّثنا أَبُو الرّبِيعِ الْعَتَكِيّ: حَدّثَنَا حَمّادٌ: حَدّثَنَا أَيّوبُ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ: حَدّثَنَا عَفّانُ: حَدّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ، كِلاَهُمَا، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا الْحَدِيثِ.
وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ حُجْرٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنّ الْغَادِرَ يَنْصِبُ اللّهُ لَهُ لِوَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ. فَيُقَالُ: أَلاَ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ".
حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حَمْزَةَ وَ سَالِمٍ ابْنَيْ عَبْدِ اللّهِ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لِكُلّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ ابْنُ بَشّارٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيّ. ح وَحَدّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ: أَخْبَرَنَا مُحَمّدٌ (يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ) كِلاَهُمَا، عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ".
وحدّثناه إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا النّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. ح وَحَدّثَنِي عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ، جَمِيعاً، عَنْ شُعْبَةَ فِي هَذَا الإِسْنَادِ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ الرّحْمَنِ "يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ آدَمَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ. يُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلاَنٍ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ المُثَنّىَ وَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُلَيْدٍ، عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِكُلّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ: حَدّثَنَا الْمُسْتَمِرّ بْنُ الرّيّانِ: حَدّثَنَا أَبُو نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِكُلّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْفَعُ لَهُ بِقَدْرِ غَدْرِهِ، أَلاَ وَلاَ غَادِرَ أَعْظَمُ غَدْراً مِنْ أَمِيرِ عَامّةٍ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل غادر لواء يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان".
وفي رواية: "يعرف به".
وفي رواية: "لكل غادر لواء عند إسته يوم القيامة". وفي رواية: "لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة" قال أهل اللغة: اللواء الراية العظيمة لا يمسكها إلا صاحب جيش الحرب أو صاحب دعوة الجيش ويكون الناس تبعاً له، قالوا: فمعنى لكل غادر لواء أي علامة يشهر بها في الناس لأن موضوع اللواء الشهرة مكان الرئيس علامة له، وكانت العرب تنصب الألوية في الأسواق الحفلة لغدرة الغادر لتشهيره بذلك، وأما الغادر فهو الذي يواعد على أمر ولا يفي به، يقال غدر يغدر بكسر الدال في المضارع، وفي هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثيرين، وقيل لأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء كما جاء في الحديث الصحيح في تعظيم كذب الملك، والمشهور أن هذا الحديث وارد في ذم الإمام الغادر. وذكر القاضي عياض احتمالين: أحدهما هذا وهو نهي الإمام أن يغدر في عهوده لرعيته وللكفار وغيرهم، أو غدره للأمانة التي قلدها لرعيته والتزم القيام بها والمحافظة عليها، ومتى خانهم أو ترك الشفقة عليهم أو الرفق بهم فقد غدر بعهده. والاحتمال الثاني أن يكون المراد نهي الرعية عن الغدر بالإمام فلا يشقوا عليه العصا ولا يتعرضوا لما يخاف حصول فتنة بسببه والصحيح الأول والله أعلم
*2* باب جواز الخداع في الحرب
*وحدّثنا عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ السّعْدِيّ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ (وَاللّفْظ لِعَلِيَ وَزُهَيْرٍ) (قَالَ عَلِيّ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ) قَالَ: سَمِعَ عَمْرٌو جَابِراً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَرْبُ خَدْعَةٌ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُبَارَك: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "الْحَرْبُ خُدْعَةٌ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "الحرب خدعة" فيها ثلاث لغات مشهورات اتفقوا على أن أفصحهن خدعة بفتح الخاء وإسكان الدال، قال ثعلب وغيره: وهي لغة النبي صلى الله عليه وسلم. والثانية بضم الخاء وإسكان الدال والثالثة بضم الخاء وفتح الدال. واتفق العلماء على جواز خداع الكفار في الحرب وكيف أمكن الخداع إلا أن يكون فيه نقض عهد أو أمان فلا يحل، وقد صح في الحديث جواز الكذب في ثلاثة أشياء: أحدها في الحرب قال الطبري إنما يجوز من الكذب في الحرب المعاريض دون حقيقة الكذب فإنه لا يحل، هذا كلامه، والظاهر إباحة حقيقة نفس الكذب لكن إِلاقتصار على التعريض أفضل والله أعلم
*2* باب كراهة تمني لقاء العدوّ، والأمر بالصبر عند اللقاء
*حدّثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيّ الْحُلْوَانِيّ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيّ عَنِ المُغِيرَةِ (وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِزَامِيّ)، عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ تَمَنّوْا لِقَاءَ الْعَدُوّ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، عَنْ أَبِي النّضْرِ، عَنْ كِتَابِ رَجُلٍ مِنْ أَسْلَمَ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، يُقَالُ لَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَىَ. فَكَتَبَ إِلَىَ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ، حِينَ سَارَ إِلَى الْحَرُورِيّةِ، يُخْبِرُهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ، فِي بَعْضِ أَيّامِهِ الّتِي لَقِيَ فِيهَا الْعَدُوّ، يَنْتَظِرُ حَتّىَ إِذَا مَالَتِ الشّمْسُ قَامَ فِيهِمْ فَقَالَ: "يَا أَيّهَا النّاسُ لاَ تَتَمَنّوْا لِقَاءَ الْعَدُوّ وَاسْأَلُوا اللّهَ الْعَافِيَةَ، فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَنّ الْجَنّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السّيُوفِ". ثُمّ قَامَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "اللّهُمّ مُنْزِلَ الْكِتَابِ، وَمُجْرِيَ السّحَابِ، وَهَازِمَ الأَحْزَابِ، اهْزِمْهُمْ وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تمنوا لقاء العدو وإذا لقيتموهم فاصبروا".
وفي الرواية الأخرى: "لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف". إنما نهى عن تمني لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والإتكال على النفس والوثوق بالقوة وهو نوع بغي، وقد ضمن الله تعالى لمن بغى عليه أن ينصره ولأنه يتضمن قلة الإهتمام بالعدو واحتقاره، وهذا يخالف الاحتياط والحزم، وتأوله بعضهم على النهي عن التمني في صورة خاصة، وهي إذا شك في المصلحة فيه وحصول ضرر وإلا فالقتال كله فضيلة وطاعة والصحيح الأول، ولهذا تممه صلى الله عليه وسلم بقوله صلى الله عليه وسلم: "واسألوا الله العافية". وقد كثرت الأحاديث في الأمر بسؤال العافية، وهي من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات في البدن والباطن في الدين والدنيا والاَخرة، اللهم إني أسألك العافية العامة لي ولأحبائي ولجميع المسلمين. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا لقيتموهم فاصبوا" فهذا حث على الصبر في القتال وهو آكد أركانه، وقد جمع الله سبحانه آداب القتال في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيراً لعلكم تفلحون، وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين، ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورآء الناس ويصدون عن سبيل الله}. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف" فمعناه ثواب الله والسبب الموصل إلى الجنة عند الضرب بالسيوف في سبيل الله ومشي المجاهدين في سبيل الله فاحضروا فيه بصدق واثبتوا. قوله في هذا الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم انتظر حتى مالت الشمس قام فيهم فقال: يا أيها الناس إلى آخره) وقد جاء في غير هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تزول الشمس، قال العلماء: سببه أنه أمكن للقتال فإنه وقت هبوب الريح ونشاط النفوس وكلما طال ازدادوا نشاطاً وإقداماً على عدوهم، وقد جاء في صحيح البخاري: أخر حتى تهب الأرواح وتحضر الصلاة، قالوا: وسببه فضيلة أوقات الصلوات والدعاء عندها. قوله: "ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب وهازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم" فيه استحباب الدعاء عند اللقاء والاستنصار والله أعلم. قوله: عن أبي النضر عن كتاب رجل من الصحابة قال الدارقطني: هو حديث صحيح، قال: واتفاق البخاري ومسلم على روايته حجة في جواز العمل بالمكاتبة والإجازة، وقد جوزوا العمل بالمكاتبة والإجازة، وبه قال جماهير العلماء من أهل الحديث والأصول والفقه، ومنعت طائفة الرواية بها وهذا غلط والله أعلم.
*2* باب استحباب الدعاء بالنصر عند لقاء العدو
*حدّثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَىَ قَالَ: دَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الأَحْزَابِ فَقَالَ: "اللّهُمّ! مُنْزِلَ الْكِتَابِ، سَرِيعَ الْحِسَابِ، اهْزِمِ الأَحْزَابَ، اللّهُمّ! اهْزِمْهُمْ وَزَلْزِلْهُمْ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعُ بْنُ الجَرّاحِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَىَ يَقُولُ: دَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ حَدِيثِ خَالِدٍ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: "هَازِمَ الأَحْزَابِ" وَلَمْ يَذْكُرْ قوله: "اللّهُمّ".
وحدّثناه إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعاً، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَزَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي رِوَايَتِهِ: "مُجْرِيَ السّحَابِ".
وحدّثني حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ: حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ: حَدّثَنَا حَمّادٌ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ يَوْمَ أُحُدٍ: اللّهُمّ إنّكَ إنْ تَشَأْ، لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ".
ذكر في الباب دعاءه صلى الله عليه وسلم عند لقاء العدو وقد اتفقوا استحبابه. قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهزمهم وزلزلهم" أي ازعجهم وحركهم بالشدائد، قال أهل اللغة: الزلزال والزلزلة الشدائد التي تحرك الناس.
قوله: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول يوم أحد: اللهم إنك إن تشأ لا تعبد في الأرض" قال العلماء: فيه التسليم لقدر الله تعالى والرد على غلاة القدرية الزاعمين أن الشر غير مراد ولا مقدر تعالى الله عن قولهم، وهذا الكلام متضمن أيضاً لطلب النصر، وجاء في هذه الرواية أنه صلى الله عليه وسلم قال: (هذا يوم أحد) وجاء بعده أنه قاله (يوم بدر) وهو المشهور في كتب السير والمغازي ولا معارضة بينهما فقاله في اليومين والله أعلم
*2* باب تحريم قتل النساء والصبيان في الحرب
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ مُحَمّدُ بْنُ رُمْحٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا اللّيْثُ. ح وَحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ أَنّ امْرَأَةً وُجِدَتْ فِي بَعْضِ مَغَازِي رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَقْتُولَةً، فَأَنْكَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَتْلَ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ وَ أَبُو أُسَامَةَ قَالاَ حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: وُجِدَتِ امْرَأَةٌ مَقْتُولَةً فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَغَازِي، فَنَهَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النّسَاءِ وَالصّبْيَانِ.
قوله: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان" أجمع العلماء على العمل بهذا الحديث وتحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا، فإن قاتلوا قال جماهير العلماء: يقتلون. وأما شيوخ الكفار فإن كان فيهم رأي قتلوا وإلا ففيهم، وفي الرهبان خلاف قال مالك وأبو حنيفة: لا يقتلون والأصح في مذهب الشافعي قتلهم
*2* باب جواز قتل النساء والصبيان في البيات من غير تعمد
*وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ، جَمِيعاً، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنِ الصّعْبِ بْنِ جَثّامَةَ قَالَ: سُئِلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الذّرَارِيّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ؟ يُبَيّتُونَ فَيُصِيبُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ وَذَرَارِيّهِمْ. فَقَالَ: "هُمْ مِنْهُمْ".
حدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنِ الصّعْبِ بْنِ جَثّامَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّا نُصِيبُ فِي الْبَيَاتِ مِنْ ذَرَارِيّ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: "هُمْ مِنْهُمْ".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنِ الصّعْبِ بْنِ جَثّامَةَ أَنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قِيلَ لَهُ: لَوْ أَنّ خَيْلاً أَغَارَتْ مِنَ اللّيْلِ فَأَصَابَتْ مِنْ أَبْنَاءِ الْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: "هُمْ مِنْ آبَائِهِمْ".
قوله: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يبيتون فيصيرون من نسائهم وذراريهم فقال هم منهم) هكذا هو في أكثر نسخ بلادنا سئل عن الذراري، وفي رواية عن أهل الدار من المشركين، ونقل القاضي هذه عن رواية جمهور رواة صحيح مسلم قال: وهي الصواب. فأما الرواية الأولى فقال ليست بشيء بل هي تصحيف، قال: وما بعده هو تبيين الغلط فيه. قلت: وليست باطلة كما ادعى القاضي بل لها وجه وتقديره سئل عن حكم صبيان المشركين الذين يبيتون فيصاب من نسائهم وصبيانهم بالقتل فقال: هم من آبائهم أي لا بأس بذلك لأن أحكام آبائهم جارية عليهم في الميراث وفي النكاح وفي القصاص والديات وغير ذلك، والمراد إذا لم يتعمدوا من غير ضرورة. وأما الحديث السابق في النهي عن قتل النساء والصبيان فالمراد به إذا تميزوا، وهذا الحديث الذي ذكرناه من جواز بياتهم، وقتل النساء والصبيان في البيات هو مذهبنا ومذهب مالك وأبي حنيفة والجمهور، ومعنى البيات ويبيتون أن يغار عليهم بالليل بحيث لا يعرف الرجل من المرأة والصبي، وأما الذراري فبتشديد الياء وتخفيفها لغتان التشديد أفصح وأشهر، والمراد بالذراري هنا النساء والصبيان، وفي هذا الحديث دليل لجواز البيات وجواز الإغارة على من بلغتهم الدعوة من غير إعلامهم بذلك، وفيه أن أولاد الكفار حكمهم في الدنيا حكم آبائهم، وأما في الاَخرة ففيهم إذا ماتوا قبل البلوغ ثلاثة مذاهب الصحيح أنهم في الجنة، والثاني في النار، والثالث لا يجزم فيهم بشيء والله أعلم
*2* باب جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ مُحَمّدُ بْنُ رُمْحٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا اللّيْثُ. ح وَحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَرّقَ نَخْلَ بَنِي النّضِيرِ وَقَطَعَ، وَهِيَ الْبُوَيْرَةُ.
زَادَ قُتَيْبَةُ وَابْنُ رُمْحٍ فِي حَدِيثِهِمَا: فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىَ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} (الحشر الاَية: 5).
حدّثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَ هَنّادُ بْنُ السّرِيّ قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ نَخْلَ بَنِي النّضِيرِ، وَحَرّقَ، وَلَهَا يَقُولُ حَسّانُ:
وَهَانَ عَلَىَ سَرَاةِ بَنِي لُؤَيّحَرِيْقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرُ
وَفِي ذَلِكَ نَزَلَتْ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَىَ أُصُولِهَا} الاَيَةَ.
وحدّثنا سَهْلُ بْنُ عُثْمَانَ: أَخْبَرَنِي عُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ السّكُونِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: حَرّقَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم نَخْلَ بَنِي النّضِيرِ.
قوله: "حرق صلى الله عليه وسلم نخل بني النضير وقطع وهي البويرة فأنزل الله تعالى: {ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين}" قوله: حرق بتشديد الراء والبويرة بضم الباء الموحدة وهي موضع نخل بني النضير، واللينة المذكورة في القرآن هي أنواع الثمر كلها إلا العجوة، وقيل كرام النخل، وقيل كل النخل، وقيل كل الأشجار للينها، وقد ذكرنا قبل هذا أن أنواع نخل المدينة مائة وعشرون نوعاً، وفي هذا الحديث جواز قطع شجر الكفار وإحراقه، وبه قال عبد الرحمن بن القاسم ونافع مولى ابن عمر ومالك والثوري وأبو حنيفة والشافعي وأحمد وإسحاق والجمهور، وقال أبو بكر الصديق والليث بن سعد وأبو ثور والأوزاعي رضي الله عنه في رواية عنهم لا يجوز.
قوله:
وهان على سراة بني لؤيحريق بالبويرة مستطير
المستطير: المنتشر والسراة بفتح السين أشراف القوم ورؤساؤهم والله أعلم
*2* باب تحليل الغنائم لهذه الأمة خاصة
*وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ: حَدّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مَعْمَرٍ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ (وَاللّفْظُ لَهُ): حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "غَزَا نَبِيّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ، فَقَالَ لِقَوْمِهِ: لاَ يَتْبَعْنِي رَجُلٌ قَدْ مَلَكَ بُضْعَ امْرَأَةٍ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بِهَا، وَلَمّا يَبْنِ، وَلاَ آخَرُ قَدْ بَنَىَ بُنْيَاناً، وَلَمّا يَرْفَعْ سُقُفَهَا، وَلاَ آخَرُ قَدِ اشْتَرَىَ غَنَماً أَوْ خَلِفَاتٍ، وَهُوَ مُنْتَظِرٌ وِلاَدَهَا. قَالَ: فَغَزَا، فَأَدْنَىَ لِلْقَرْيَةِ حِينَ صَلاَةِ الْعَصْرِ، أَوْ قَرِيباً مِنْ ذَلِكَ. فَقَالَ لِلشّمْسِ: أَنْتِ مَأْمُورَةٌ وَأَنَا مَأْمُورٌ. اللّهُمّ احْبِسْهَا عَلَيّ شَيْئاً فَحُبِسَتْ عَلَيْهِ حَتّىَ فَتَحَ اللّهُ عَلَيْهِ. قَالَ: فَجَمَعُوا مَا غَنِمُوا، فَأَقْبَلَتِ النّارُ لِتَأْكُلَهُ، فَأَبَتْ أَنْ تَطْعَمَهُ. فَقَالَ: فِيكُمْ غُلُولٌ، فَلْيُبَايِعْنِي مِنْ كُلّ قَبِيلَةٍ رَجُلٌ، فَبَايَعُوهُ، فَلَصِقَتْ يَدُ رَجُلٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: فِيكُمُ الْغُلُولُ، فَلْتُبَايِعْنِي قَبِيلَتُكَ. فَبَايَعَتْهُ. قَالَ: فَلَصِقَتْ بِيَدِ رَجُلَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ، فَقَالَ: فِيكُمُ الغُلُولُ. أَنْتُمْ غَلَلْتُمْ، قَالَ: فَأَخْرَجُوا لَهُ مِثْلَ رَأْسِ بَقَرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: فَوَضَعُوهُ فِي المَالِ وَهُوَ بِالصّعِيدِ، فَأَقْبَلَتِ النّارُ فَأَكَلَتْهُ، فَلَمْ تَحِلّ الْغَنَائِمُ لأَحَدٍ مِنْ قَبْلِنَا، ذَلِكَ بِأَنّ اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ رَأَىَ ضَعْفَنَا وَعَجْزَنَا، فَطَيّبَهَا لَنَا".
قوله صلى الله عليه وسلم: "غزا نبي من الأنبياء عليهم السلام فقال لقومه: لا يتبعني رجل قد ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن ولا آخر قد بنى بنياناً ولما يرفع سقفها ولا آخر قد اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر ولادها" أما البضع فهو بضم الباء وهو فرج المرأة، وأما الخلفات فبفتح الخاء المعجمة وكسر اللام وهي الحوامل، وفي هذا الحديث أن الأمور المهمة ينبغي أن لا تفوض إلا إلى أولي الحزم وفراع البال لها، ولا تفوض إلى متعلق القلب بغيرها، لأن ذلك يضعف عزمه ويفوت كمال بذل وسعه فيه. قوله صلى الله عليه وسلم: "فغزا فأدنى للقرية حين صلاها العصر" هكذا هو في جميع النسخ فأدنى بهمز قطع، قال القاضي: كذا هو في جميع النسخ فأدنى رباعي، إما أن يكون تعدية لدني أي قرب فمعناه أدنى جيوشه وجموعه للقرية، وإما أن يكون أدنى بمعنى حان أي قرب فتحها من قولهم أدنت الناقة إذا حان نتاجها ولم يقولوه في غير الناقة. قوله صلى الله عليه وسلم: "فقال للشمس أنت مأمورة وأنا مأمور اللهم احبسها على شيئاً فحبست عليه حتى فتح الله القرية" قال القاضي: اختلف في حبس الشمس المذكور هنا فقيل ردت على أدراجها، وقيل وقفت ولم ترد، وقيل أبطئ بحركتها وكل ذلك من معجزات النبوة، قال: ويقال أن الذي حبست عليه الشمس يوشع بن نون، قال القاضي رضي الله عنه: وقد روي أن نبينا صلى الله عليه وسلم حبست له الشمس مرتين: إحداهما يوم الخندق حين شغلوا عن صلاة العصر حتى غربت فردها الله عليه حتى صلى العصر ذكر ذلك الطحاوي وقال رواته ثقاة. والثانية صبيحة الإسراء حين انتظر العير التي أخبر بوصولها مع شروق الشمس، ذكره يونس بن بكير في زيادته على سيرة ابن إسحاق. قوله صلى الله عليه وسلم: "فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار لتأكله فأبت أن تطعمه فقال فيكم غلول" هذه كانت عادة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في الغنائم أن يجمعوها فتجيء نار من السماء فتأكلها فيكون ذلك علامة لقبولها وعدم الغلول، فلما جاءت في هذه المرة فأبت أن تأكلها علم أن فيهم غلولاً فلما ردوه جاءت فأكلتها، وكذلك كان أمر قربانهم إذا تقبل جاءت نار من السماء فأكلته. قوله صلى الله عليه وسلم: "فوضعوه في المال وهو بالصعيد" يعني وجه الأرض، وفي هذا الحديث إباحة الغنائم لهذه الأمة زادها الله شرفاً وأنها مختصة بذلك والله أعلم
*2* باب الأنفال
*وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَخَذَ أَبِي مِنَ الْخُمْسِ سَيْفاً: فَأَتَىَ بِهِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: هَبْ لِي هَذَا. فَأَبَىَ، فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ} (8 الأنفال الاَية: 1).
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ ابْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لابْنِ الْمُثَنّىَ) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: نَزَلَتْ فِيّ أَرْبَعُ آيَاتٍ. أَصَبْتُ سَيْفاً فَأَتَىَ بِهِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! نَفّلْنِيهِ. فَقَالَ: "ضَعْهُ" ثُمّ قَامَ. فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ". ثُمّ قَامَ فَقَالَ: نَفّلْنِيهِ. يَا رَسُولَ اللّهِ! فَقَالَ: "ضَعْهُ" فَقَامَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ نَفّلْنِيهِ. أَأُجْعَلُ كَمَنْ لاَ غَنَاءَ لَهُ؟ فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "ضَعْهُ مِنْ حَيْثُ أَخَذْتَهُ" قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الاَيَةُ: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للّهِ وَالرّسُولِ}.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ قَالَ: قَرَأْتُ عَلىَ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَرِيّةً، وَأَنَا فِيهِمْ، قِبَلَ نَجْدٍ، فَغَنِمُوا إبِلاً كَثِيرَةً، فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمْ اثْنَا عَشَرَ بَعِيراً، أَوْ أَحَدَ عَشَرَ بَعِيراً وَنُفّلُوا بَعِيراً بَعِيراً.
وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ رُمْحٍ: أَخْبَرَنَا اللّيْثُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ سَرِيّةً قِبَلَ نَجْدٍ، وَفِيهِمُ ابْنُ عُمَرَ. وَأَنّ سُهْمَانَهُمْ بَلَغَتِ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً، وَنُفّلُوا، سِوَىَ ذَلِكَ، بَعِيراً، فَلَمْ يُغَيّرْهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ وَ عَبْدُ الرّحِيمِ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيّةً إِلَىَ نَجْدٍ، فَخَرَجْتُ فِيهَا، فَأَصَبْنَا إِبِلاً وَغَنَماً، فَبَلَغَتْ سُهْمَانُنَا اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً، اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيراً، وَنَفّلَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَعِيراً، بَعِيراً.
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ قَالاَ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ (وَهُوَ القَطّانُ) عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
وحدّثناه أَبُو الرّبِيعِ وَ أَبُو كَامِلٍ قَالاَ: حَدّثَنَا حَمّادٌ، عَنْ أَيّوبَ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ الْمُثَنّىَ: حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ. قَالَ: كَتَبْتُ إِلَىَ نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنِ النّفَلِ؟ فَكَتَبَ إِلَيّ: أَنّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ فِي سَرِيّةٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي مُوسَى. ح وَحَدّثَنَا هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، كُلّهُمْ، عَنْ نَافِعٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِهِمْ.
وحدّثنا سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ (وَاللّفْظُ لِسُرَيْجٍ) قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَجَاءٍ، عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَفّلَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم نَفَلاً سِوَىَ نَصِيبِنَا مِنَ الْخُمْسِ، فَأَصَابَنِي شَارِفٌ (وَالشّارِفُ الْمُسِنّ الْكَبِيرُ).
وحدّثنا هَنّادُ بْنُ السّرِيّ: حَدّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ. ح وَحَدّثَنِي حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، كِلاَهُمَا، عَنْ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: بَلَغَنِي، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: نَفّلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَرِيّةً. بِنَحْوِ حَديثِ ابْنِ رَجَاءٍ.
وحدّثنا عَبْدُ المَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللّيْثِ: حَدّثَنِي أَبِي، عَنْ جَدّي قَالَ: حَدّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَانَ يُنَفّلُ بَعْضَ مَنْ يَبْعَثُ مِنَ السّرَايَا، لأَنْفُسِهِمْ خَاصّةً، سِوَىَ قَسْمِ عَامّةِ الْجَيْشِ، وَالْخُمْسُ فِي ذَلِكَ، وَاجِبٌ، كُلّهِ.
قوله: "عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: أخذ أبي من الخمس سيفاً فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هب لي هذا فأبى، قال: فأنزل الله تعالى: {يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول}" فقوله عن أبيه قال أخذ أبي هو من تلوين الخطابي وتقديره عن مصعب بن سعد أنه حدث عن أبيه بحديث قال فيه قال أبي أخذت حكم الغنائم من الخمس سيفاً إلى آخره. قال القاضي: يحتمل أن يكون هذا الحديث قبل نزول الاَية وإباحتها، قال: وهذا هو الصواب وعليه يدل الحديث، وقد روي في تمامه ما بينه من كلام النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بعد نزول الاَية: خذ سيفك إنك سألتنيه وليس لي ولا لك وقد جعله الله لي وجعلته لك، قال: واختلفوا في هذه الاَية فقيل هي منسوخة بقوله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول} وأن مقتضى آية الأنفال والمراد بها أن الغنائم كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة كلها ثم جعل الله أربعة أخماسها للغانمين بالاَية الأخرى، وهذا قول ابن عباس وجماعة، وقيل هي محكمة وأن التنفيل من الخمس، وقيل هي محكمة وللإمام أن ينفل من الغنائم ما شاء لمن شاء بحسب ما يراه، وقيل محكمة مخصوصة والمراد أنفال السرايا. قوله: (عن سعد قال نزلت في أربع آيات أصبت سيفاً) لم يذكر هنا من الأربع إلا هذه الواحدة. وقد ذكر مسلم الأربع بعد هذا في كتاب الفضائل وهي: بر الوالدين وتحريم الخمر ولا تطرد الذين يدعون ربهم وآية الأنفال. قوله: "أأجعل كمن لا غناء له" هو بفتح الغين وبالمد وهو الكفاية. قوله: "فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيراً" هكذا هو في أكثر النسخ اثنا عشر، وفي بعضها اثني عشر وهذا ظاهر والأول أصح على لغة من يجعل المثنى بالألف سواء كان مرفوعاً أو منصوباً أو مجروراً وهي لغة أربع قبائل من العرب وقد كثرت في كلام العرب. ومنها قوله تعالى: {إن هذان لساحران}.
قوله: (فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيراً أو أحد عشر بعيراً ونفلوا بعيراً) بعيراً. وفي رواية: (ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً) فيه إثبات النفل وهو مجمع عليه، واختلفوا في محل النفل هل هو من أصل الغنيمة أو من أربعة أخماسها أو من خمس الخمس؟ وهي ثلاثة أقوال للشافعي وبكل منها قال جماعة من العلماء، والأصح عندنا أنه من خمس الخمس، وبه قال ابن المسيب ومالك وأبو حنيفة رضي الله عنهم وآخرون، وممن قال أنه من أصل الغنيمة الحسن البصري والأوزاعي وأحمد وأبو ثور وآخرون، وأجاز النخعي أن تنفل السرية جميع ما غنمت دون باقي الجيش وهو خلاف ما قاله العلماء كافة، قال أصحابنا: ولو نفلهم الإمام من أموال بيت المال العتيد دون الغنيمة جاز، والتنفيل إنما يكون لمن صنع صنعاً جميلاً في الحرب انفرد به. وأما قول ابن عمر رضي الله عنه: نفلوا بعيراً بعيراً معناه أن الذين استحقوا النفل نفلوا بعيراً بعيراً إلا أن كل واحد من السرية نفل، قال أهل اللغة والفقهاء: الأنفال هي العطايا من الغنيمة غير السهم المستحق بالقسمة واحدها نفل بفتح الفاء على المشهور وحكى إسكانها. وأما قوله: فكانت سهمانهم اثنا عشر بعيراً فمعناه سهم كل واحد منهم، وقد قيل معناه سهمان جميع الغانمين اثنا عشر، وهذا غلط فقد جاء في بعض روايات أبي داود وغيره أن الإثني عشر بعيراً كانت سهمان كل واحد من الجيش والسرية ونفل السرية سوى هذا بعيراً بعيراً. قوله: "ونفلوا بعيراً بعيراً" وفي رواية: "نفلوا بعيراً فلم يغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم" وفي رواية: "ونفلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيراً بعيراً" والجمع بين هذه الروايات أن أمير السرية نفلهم فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجوز نسبته إلى كل واحد منهما، وفي هذا الحديث استحباب بعث السرايا وما غنمت تشترك فيه هي والجيش إن انفردت عن الجيش في بعض الطريق، وأما إذا خرجت من البلد وأقام الجيش في البلد فتختص هي بالغنيمة ولا يشاركها الجيش، وفيه إثبات التنفيل للترغيب في تحصيل مصالح القتال ثم الجمهور، على أن التنفيل يكون في كل غنيمة سواء الأولى وغيرها، وسواء غنيمة الذهب والفضة وغيرهما، وقال الأوزاعي وجماعة من الشاميين: لا ينفل في أول غنيمة ولا ينفل ذهباً ولا فضة.
قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان ينفل بعض من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة سوى قسم عامة الجيش والخمس في ذلك واجب كله) قوله كله مجرور تأكيد لقوله في ذلك، وهذا تصريح بوجوب الخمس في كل الغنائم، ورد على من جهل فزعم أنه لا يجب فاغتر به بعض الناس وهذا مخالف للإجماع، وقد أوضحت هذا في جزء جمعته في قسمة الغنائم حين دعت الضرورة إليه في أول سنة أربع وسبعين وستمائة والله أعلم
*2* باب استحقاق القاتل سلب القتيل
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّمِيمِيّ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي مُحَمّدٍ الأَنْصَارِيّ وَكَانَ جَلِيساً لأَبِي قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو قَتَادَةَ. وَاقْتَصّ الْحَدِيثَ.
وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي مُحَمّدٍ مَوْلَىَ أَبِي قَتَادَةَ أَنّ أَبَا قَتَادَةَ قَالَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ.
وحدّثنا أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ (وَاللّفْظُ لَهُ): أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: حَدّثَنِي يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُمَرَ بْنِ كَثِيرِ بْنِ أَفْلَحَ، عَنْ أَبِي مُحَمّدٍ مَوْلَىَ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي قَتَادَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ حُنَيْنٍ، فَلَمّا الْتَقَيْنَا كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ جَوْلَةٌ. قَالَ: فَرَأَيْتُ رَجُلاً مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلاَ رَجُلاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَدَرْتُ إلَيْهِ حَتّىَ أَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ، فَضَرَبْتُهُ عَلَىَ حَبْلِ عَاتِقِهِ، وَأَقْبَلَ عَلَيّ فَضَمّنِي ضَمّةً وَجَدْتُ مِنْهَا رِيحَ الْمَوْتِ، ثُمّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ. فَأَرْسَلَنِي، فَلَحِقْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَقَالَ: مَا لِلنّاسِ؟ فَقُلْتُ: أَمْرُ اللّهِ، ثُمّ إنّ النّاسَ رَجَعُوا، وَجَلَسَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَنْ قَتَلَ قَتِيلاً، لَهُ عَلَيْهِ بَيّنَةٌ، فَلَهُ سَلَبُهُ" قَالَ: فَقُمْتُ. فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمّ جَلَسْتُ، ثُمّ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ. فَقَالَ فَقُمْتُ فَقُلْتُ: مَنْ يَشْهَدُ لِي؟ ثُمّ جَلَسْتُ. ثُمّ قَالَ ذَلِكَ، الثّالِثَةَ. فَقُمْتُ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا لَكَ؟ يَا أَبَا قَتَادَةَ" فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْقِصّةَ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: صَدَقَ. يَا رَسُولَ اللّهِ! سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي. فَأَرْضِهِ مِنْ حَقّهِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ: لاَ هَا اللّهِ إذاً لاَ يَعْمِدُ إِلَىَ أَسَدٍ مِنْ أُسدِ اللّهِ يُقَاتِلُ عَنِ اللّهِ وَعَنْ رَسُولِهِ فَيُعْطِيكَ سَلَبَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ، فَأَعْطِهِ إيّاهُ" فَأَعْطَانِي. قَالَ: فَبِعْتُ الدّرْعَ فَابْتَعْتُ بِهِ مَخْرَفاً فِي بَنِي سَلِمَةَ، فَإنّهُ لأَوّلُ مَالٍ تَأَثّلْتُهُ فِي الإِسْلاَمِ.
وَفِي حَدِيثِ اللّيْثِ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَلاّ لاَ يُعْطِيهِ أُضَيْبِعَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَدَعُ أَسَداً مِنْ أُسدِ اللّهِ.
وَفِي حَدِيثِ اللّيْثِ: لأَوّلُ مَالٍ تَأَثّلْتُهُ.
حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التّمِيمِيّ: أَخْبَرَنَا يُوسُفُ بْنُ الْمَاجِشُونِ، عَنْ صَالِحِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ أَنّهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا وَاقِفٌ فِي الصّفّ يَوْمَ بَدْرٍ، نَظَرْتُ عَنْ يَمِينِي وَشِمَالِي، فَإِذَا أَنَا بَيْنَ غُلاَمَيْنِ مِنَ الأَنْصَارِ، حَدِيثَةٍ أَسْنَانُهُمَا، تَمَنّيْتُ لَوْ كُنْتُ بَيْنَ أَضْلَعَ مِنْهُمَا، فَغَمَزَنِي أَحَدُهُمَا. فَقَالَ: يَا عَمّ هَلْ تَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. وَمَا حَاجَتُكَ إلَيْهِ؟ يَا ابْنَ أَخِي قَالَ: أُخْبِرْتُ أَنّهُ يَسُبّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ رَأَيْتُهُ لاَ يُفَارِقُ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتّىَ يَمُوتَ الأَعْجَلُ مِنّا. قَالَ: فَتَعَجّبْتُ لِذَلِكَ. فَغَمَزَنِي الاَخَرُ فَقَالَ مِثْلَهَا. قَالَ: فَلَمْ أَنْشَبْ أَنْ نَظَرْتُ إلَىَ أَبِي جَهْلٍ يَزُولُ فِي النّاسِ. فَقُلْتُ: أَلاَ تَرَيَانِ؟ هَذَا صَاحِبُكُمَا الّذِي تَسْأَلاَنِ عَنْهُ. قَالَ: فَابْتَدَرَاهُ، فَضَرَبَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا، حَتّىَ قَتَلاَهُ. ثُمّ انْصَرَفَا إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَخْبَرَاهُ. فَقَالَ: "أَيّكُمَا قَتَلَهُ؟" فَقَالَ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أَنَا قَتَلْتُ. فَقَالَ: "هَلْ مَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا؟" قَالاَ: لاَ. فَنَظَرَ فِي السّيْفَيْنِ فَقَالَ: "كِلاَكُمَا قَتَلَهُ" وَقَضَىَ بِسَلَبِهِ لِمُعَاذِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ. (وَالرّجُلاَنِ: مُعَاذُ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ وَمُعَاذُ بْنُ عَفْرَاءَ).
وحدّثني أَبو الطّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمَرِو بْنِ سَرْحٍ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ: عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَتَلَ رَجُلٌ مِنْ حِمْيَرَ رَجُلاً مِنَ الْعَدُوّ، فَأَرَادَ سَلَبَهُ، فَمَنَعَهُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وَكَانَ وَالِياً عَلَيْهِمْ. فَأَتَىَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ، فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ لِخَالِدٍ: "مَا مَنَعَكَ أَنْ تُعْطِيَهُ سَلَبَهُ؟" قَالَ: اسْتَكْثَرْتُهُ، يَا رَسُولَ اللّهِ! قَالَ: "ادْفَعْهُ إلَيْهِ" فَمَرّ خَالِدٌ بِعَوْفٍ فَجَرّ بِرِدَائِهِ. ثُمّ قَالَ: هَلْ أَنْجَزْتُ لَكَ مَا ذَكَرْتُ لَكَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتُغْضِبَ. فَقَالَ: "لاَ تُعْطِهِ. يَا خَالِدُ لاَ تُعْطِهِ، يَا خَالِدُ هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُونَ لِي أُمَرَائِي؟ إنّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتُرْعِيَ إِبِلاً أَوْ غَنَماً فَرَعَاهَا، ثُمّ تَحَيّنَ سَقْيَهَا، فَأَوْرَدَهَا حَوْضاً، فَشَرَعَتْ فِيهِ فَشَرِبَتْ صَفْوَهُ وَتَرَكَتْ كَدْرَهُ، فَصَفْوُهُ لَكُمْ وَكَدْرُهُ عَلَيْهِمْ".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ: حَدّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ مَنْ خَرَجَ مَعَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ، وَرَافَقَنِي مَدَدِيّ مِنَ الْيَمَنِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِهِ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: قَالَ عَوْفٌ: فَقُلْتُ: يَا خَالِدُ! أَمَا عَلِمْتَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَضَىَ بِالسّلَبِ لِلْقَاتِلِ؟ قَالَ: بَلَىَ، وَلَكِنّي اسْتَكْثَرْتُهُ.
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيّ: حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ: حَدّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدّثَنِي أَبِي، سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم هَوَازِنَ، فَبَيْنَا نَحْنُ نَتَضَحّىَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إذْ جَاءَ رَجُلٌ عَلَىَ جَمَلٍ أَحْمَرَ، فَأَنَاخَهُ، ثُمّ انْتَزَعَ طَلَقاً مِنْ حَقَبِهِ فَقَيّدَ بِهِ الْجَمَلَ، ثُمّ تَقَدّمَ يَتَغَدّىَ مَعَ الْقَوْمِ، وَجَعَلَ يَنْظُرُ، وَفِينَا ضَعْفَةٌ وَرِقّةٌ فِي الظّهْرِ، وَبَعْضُنَا مُشَاةٌ، إذْ خَرَجَ يَشْتَدّ، فَأَتَىَ جَمَلَهُ فَأَطْلَقَ قَيْدَهُ، ثُمّ أَنَاخَهُ وَقَعَدَ عَلَيْهِ، فَأَثَارَهُ، فَاشْتَدّ بِهِ الْجَمَلُ، فَاتّبَعَهُ رَجُلٌ عَلَىَ نَاقَةٍ وَرْقَاءَ.
قَالَ سَلَمَةُ: وَخَرَجْتُ أَشْتَدّ، فَكُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ النّاقَةِ، ثُمّ تَقَدّمْتُ، حَتّىَ كُنْتُ عِنْدَ وَرِكِ الْجَمَلِ، ثُمّ تَقَدّمْتُ حَتّىَ أَخَذْتُ بِخِطَامِ الْجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ، فَلَمّا وَضَعَ رُكْبَتَهُ فِي الأَرْضِ اخْتَرَطْتُ سَيْفِي فَضَرَبْتُ رَأْسَ الرّجُلِ، فَنَدَرَ، ثُمّ جِئْتُ بِالْجَمَلِ أَقُودُهُ، عَلَيْهِ رَحْلُهُ وَسِلاَحُهُ، فَاسْتَقْبَلَنِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَالنّاسُ مَعَهُ. فَقَالَ: "مَنْ قَتَلَ الرّجُلَ؟" قَالُوا: ابْنُ الأَكْوَعِ. قَالَ: "لَهُ سَلَبُهُ أَجْمَعُ".
قوله: (حدثنا يحيى بن يحيى التميمي أخبرنا هشيم عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد الأنصاري وكان جليساً لأبي قتادة قال: قال أبو قتادة واقتص الحديث، قال مسلم: وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن يحيى عن عمر بن كثير عن أبي محمد مولى أبي قتادة أبا قتادة قال وساق الحديث. قال مسلم: وحدثنا أبو الطاهر واللفظ له أخبرنا عبد الله بن وهب قال: سمعت مالك بن أنس يقول: حدثني يحيى بن سعيد عن عمر بن كثير بن أفلح عن أبي محمد مولى أبي قتادة عن أبي قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام حنين إلى آخره) اعلم أن قوله في الطريق الأول واقتص الحديث، وقوله في الثاني وساق الحديث يعني بهما الحديث المذكور في الطريق الثالث المذكور بعدهما وهو قوله: وحدثنا أبو الطاهر وهذا غريب من عادة مسلم فاحفظ ما حققته لك، فقد رأيت بعض الكتاب غلط فيه وتوهم أنه متعلق بالحديث السابق قبلهما كما هو الغالب المعروف من عادة مسلم، حتى أن المشار إليه ترجم له باباً مستقلاً، وترجم للطريق الثالث باباً آخر وهذا غلط فاح 5 فاحذره، وإذا تدبرت الطرق المذكورة تيقنت ما حققته لك والله أعلم. واسم أبي محمد هذا نافع بن عباس الأقرع المدني الأنصاري مولاهم، وفي هذا الحديث ثلاثة تابعيون بعضهم عن بعض وهم: يحيى بن سعيد وعمر وأبو محمد. قوله: (كانت للمسلمين جولة) بفتح الجيم أي انهزام وخيفة ذهبوا فيها، وهذا إنما كان في بعض الجيش. وأما رسول الله صلى الله عليه وسلم وطائفة معه فلم يولوا، والأحاديث الصحيحة بذلك مشهورة وسيأتي بيانها في مواضعها، وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يقال انهزم النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يرو أحد قط أنه انهزم بنفسه صلى الله عليه وسلم في موطن من المواطن، بل ثبتت الأحاديث الصحيحة بإقدامه وثباته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن. قوله: (فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين) يعني ظهر عليه وأشرف على قتله أو صرعه وجلس عليه لقتله. قوله: (فضربته على حبل عاتقه) هو ما بين العنق والكتف. قوله: (فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت) يحتمل أنه أراد شدة كشدة الموت، ويحتمل قاربت الموت. قوله: "ثم إن الناس رجعوا وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه" اختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال الشافعي ومالك والأوزاعي والليث والثوري وأبو ثور وأحمد وإسحاق وابن جرير وغيرهم: يستحق القاتل سلب القتيل في جميع الحروب سواء قال أمير الجيش قبل ذلك من قتل قتيلاً فله سلبه أم لم يقل ذلك، قالوا: وهذه فتوى من النبي صلى الله عليه وسلم وإخبار عن حكم الشرع فلا يتوقف على قول أحد. وقال أبو حنيفة ومالك ومن تابعهما رحمهم الله تعالى: لا يستحق القاتل بمجرد القتل سلب القتيل بل هو لجميع الغانمين كسائر الغنيمة إلا أن يقول الأمير قبل القتال، من قتل قتيلاً فله سلبه، وحملوا الحديث على هذا وجعلوا هذا إطلاقاً من النبي صلى الله عليه وسلم وليس بفتوى وإخبار عام، وهذا الذي قالوه ضعيف لأنه صرح في هذا الحديث بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال هذا بعد الفراغ من القتال واجتماع الغنائم والله أعلم. ثم إن الشافعي رضي الله عنه يشترط في استحقاقه أن يغزو بنفسه في قتل كافر ممتنع في حال القتال، والأصح أن القاتل لو كان ممن له رضخ ولا سهم له كالمرأة والصبي والعبد استحق السلب. وقال مالك رضي الله عنه: لا يستحقه إلا المقاتل. وقال الأوزاعي والشاميون: لا يستحق السلب إلا في قتيل قتله قبل التحام الحرب، فأما من قتل في التحام الحرب فلا يستحقه، واختلفوا في تخميس السلب وللشافعي فيه قولان: الصحيح منهما عند أصحابه لا يخمس وهو ظاهر الأحاديث، وبه قال أحمد وابن جرير وابن المنذر وآخرون. وقال مكحول ومالك والأوزاعي: يخمس وهو قول ضعيف للشافعي. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإسحاق وابن راهويه: يخمس إذا كثر. وعن مالك رواية اختارها إسماعيل القاضي أن الإمام بالخيار إن شاء خمسه وإلا فلا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه" ففيه تصريح بالدلالة لمذهب الشافعي والليث ومن وافقهما من المالكية وغيرهم أن السلب لا يعطى إلا لمن له بينة بأنه قتله ولا يقبل قوله بغير بينة. وقال مالك والأوزاعي: يعطى بقوله بلا بينة، قالا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه السلب في هذا الحديث بقول واحد ولم يحلفه. والجواب أن هذا محمول على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أنه القاتل بطريق من الطرق، وقد صرح صلى الله عليه وسلم بالبينة فلا تلغى. وقد يقول المالكي: هذا مفهوم وليس هو بحجة عنده، ويجاب بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعواهم لادعى الحديث". فهذا الذي قدمناه هو المعتمد في دليل الشافعي رضي الله عنه.
وأما ما يحتج به بعضهم أن أبا قتادة إنا يستحق السلب بإقرار من هو في يده فضعيف، لأن الإقرار إنما ينفع إذا كان المال منسوباً إلى من هو في يده فيؤخذ بإقراره، والمال هنا منسوب إلى جميع الجيش ولا يقبل إقرار بعضهم على الباقين والله أعلم. قوله: "قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لا ها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم فيعطيك سلبه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق" هكذا في جميع روايات المحدثين في الصحيحين وغيرهما لاها الله إذا بالألف، وأنكر الخطابي هذا وأهل العربية وقالوا: هو تغيير من الرواة وصوابها لاها الله ذا بغير ألف في أوله، وقالوا: وها بمعنى الواو التي يقسم بها فكأنه قال: لا والله ذا، قال أبو عثمان المازري رضي الله عنه: معناه لاها الله ذا يمين أو ذا قسمي. وقال أبو زيد: ذا زائدة وفيها لغتان المد والقصر، قالوا: ويلزم الجر بعدها كما يلزم بعد الواو، قالوا: ولا يجوز الجمع بينهما فلا يقال لاها والله. وفي هذا الحديث دليل على أن هذه اللفظة تكون يميناً. قال أصحابنا: إن نوى بها اليمين كانت يميناً وإلا فلا لأنها ليست متعارفة في الأيمان والله أعلم. وأما قوله: (لا يعمد فضبطوه) بالياء والنون، وكذا قوله بعده فيعطيك بالياء والنون وكلاهما ظاهر. وقوله: (يقاتل عن الله ورسوله أي يقاتل في سبيل الله نصرة لدين الله وشريعة رسوله صلى الله عليه وسلم ولتكون كلمة الله هي العليا) وفي هذا الحديث فضيلة ظاهرة لأبي بكر الصديق في إفتائه بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم واستدلاله لذلك وتصديق النبي صلى الله عليه وسلم. وفيه منقبة ظاهرة لأبي قتادة فإنه سماه أسداً من أسد الله تعالى يقاتل عن الله ورسوله وصدقه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه منقبة جليلة من مناقبه، وفيه أن السلب للقاتل لأنه أضافه إليه فقال: يعطيك سلبه والله أعلم. قوله: (فابتعت به مخرفاً في بني سلمة) أما بنو سلمة فبكسر اللام، وأما المخرف فبفتح الميم والراء وهذا هو المشهور. وقال القاضي: رويناه بفتح الميم وكسر الراء كالمسجد والمسكن بكسر الكاف، والمراد بالمخرف هنا البستان، وقيل السكة من النخل تكون صفين يخرف من أيها شاء أي يجتنى. وقال ابن وهب: هي الجنينة الصغيرة. وقال غيره: هي نخلات يسيرة. وأما المخرف بكسر الميم وفتح الراء فهو الوعاء الذي يجعل فيه ما يجتنى من الثمار، ويقال اخترف الثمر إذا جناه وهو ثمر مخروف. قوله: (فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام) هو بالثاء المثلثة بعد الألف أي اقتنيته وتأصلته وثلة الشيء أصله. قوله: (لا تعطه أضيبع من قريش) قال القاضي: اختلف رواة كتاب مسلم في هذا الحرف على وجهين: أحدهما رواية السمرقندي أصيبغ بالصاد المهملة والغين المعجمة. والثاني رواية سائر الرواة أضيبع بالضاد المعجمة والعين المهملة، قال: وكذلك اختلف فيه رواة البخاري فعلى الثاني هو تصغير ضبع على غير قياس كأنه لما وصف أبا قتادة بأنه أسد صغير هذا بالإضافة إليه وشبهه بالضبيع لضعف افتراسها وما توصف به من العجز والحمق. وأما على الوجه الأول فوصفه به لتغير لونه، وقيل حقره وذمه بسواد لونه، وقيل معناه أنه صاحب لون غير محمود، وقيل وصفه بالمهانة والضعف. قال الخطابي: الأصيبغ نوع من الطير، قال: ويجوز أنه شبهه بنبات ضعيف يقال له الصيبغا أول ما يطلع من الأرض يكون مما يلي الشمس منه أصفر والله أعلم.
قوله: (تمنيت لو كنت بين أضلع منهما) هكذا هو في جميع النسخ أضلغ بالضاد المعجمة وبالعين، وكذا حكاه القاضي عن جميع نسخ صحيح مسلم وهو الأصوب، قال: ووقع في بعض روايات البخاري أصلح بالصاد والحاء المهملتين، قال: وكذا رواه مسدد. قلت: وكذا وقع في حاشية بعض نسخ صحيح مسلم ولكن الأول أصح وأجود مع أن الاثنين صحيحان ولعله قالهما جميعاً، ومعنى أضلع أقوى. قوله: (لا يفارق سوادي سواده) أي شخصي شخصه. قوله: (حتى يموت الأعجل منا) أي لا أفارقه حتى يموت أحدنا وهو الأقرب أجلاً. قوله: (فلم أنشب أن نظرت إلى أن أبي جهل يزول في الناس) معناه ألم ألبث، قوله يزول هو بالزاي والواو هكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وكذا رواه القاضي عن جماهير شيوخهم، قال: ووقع عند بعضهم عن ابن ماهان يرفل بالراء والفاء، قال: والأول أظهر وأوجه ومعناه يتحرك ويزعج ولا يستقر على حالة ولا في مكان والزوال القلق، قال: فإن صحت الرواية الثانية فمعناه يسبل ثيابه ودرعه ويجره. قوله صلى الله عليه وسلم: "أيكما قتله؟ فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا، فنظر في السيفين فقال: كلاكما قتله، وقضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموع والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء" اختلف العلماء في معنى هذا الحديث فقال أصحابنا اشترك هذان الرجلان في جراحته لكن معاذ بن عمرو بن الجموح ثخنه أولاً فاستحق السلب، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم: كلاكما قتله تطييباً لقلب الاَخر من حيث أن له مشاركة في قتله، وإلا فالقتل الشرعي الذي يتعلق به استحقاق السلب وهو الإثخان وإخراجه عن كونه متمنعاً إنما وجد من معاذ بن عمرو بن الجموح فلهذا قضى له بالسلب، قالوا: وإنما أخذ السيفين ليستدل بهما على حقيقة كيفية قتلهما فعلم أن ابن الجموح أثخنه ثم شاركه الثاني بعد ذلك وبعد استحقاقه السلب فلم يكن له حق في السلب، هذا مذهب أصحابنا في معنى هذا الحديث. وقال أصحاب مالك: إنما أعطاه لأحدهما لأن الإمام مخير في السلب يفعل فيه ما شاء، وقد سبق الرد على مذهبهم هذا والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: والرجلان معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء فهكذا رواه البخاري ومسلم من رواية يوسف بن الماجشون، وجاء في صحيح البخاري أيضاً من حديث إبراهيم بن سعد أن الذي ضربه ابنا عفراء، وذكره أيضاً من رواية ابن مسعود وأن ابني عفرا ضرباه حتى برد، وذكر ذلك مسلم بعد هذا، وذكر غيرهما أن ابن مسعود رضي الله عنه هو الذي أجهز عليه وأخذ رأسه وكان وجده وبه رمق وله معه خبر معروف. قال القاضي: هذا قول أكثر أهل السير. قلت: يحمل أن الثلاثة اشتركوا في قتله وكان الإثخان من معاذ بن عمرو بن الجموح وجاء ابن مسعود بعد ذلك وفيه رمق فحز رقبته. وفي هذا الحديث من الفوائد المبادرة إلى الخيرات والاشتياق إلى الفضائل، وفيه الغضب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه أنه ينبغي أن لا يحتقر أحد فقد يكون بعض من يستصغر عن القيام بأمر أكبر مما في النفوس وأحق ذلك الأمر كما جرى لهذين الغلامين، واحتجت به المالكية في أن استحقاق القاتل السلب يكفي فيه قوله بلا بينة، وجواب أصحابنا عنه لعله صلى الله عليه وسلم علم ذلك ببينة أو غيرها.
قوله: "عن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قتل رجل من حمير رجلاً من العدول فأراد سلبه فمنع خالد بن الوليد وكان والياً عليهم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم عوف بن مالك فأخبره فقال لخالد: ما منعك أن تعطيه سلبه؟ قال: استكثرته يا رسول الله، قال: ادفعه إليه، فمر خالد بعوف فجر بردائه فقال: هل أنجزت لك ما ذكرت لك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستغضب فقال: لا تعطه يا خالد لا تعطه يا خالد، هل أنتم تاركوا لي أمرائي إلى آخره" هذه القضية جرت في غزوة مؤتة سنة ثمان كما بينه في الرواية التي بعد هذه، وهذا الحديث قد يستشكل من حيث أن القاتل قد استحق السلب فكيف منعه إياه؟ ويجاب عنه بوجهين: أحدهما لعله أعطاه بعد ذلك للقاتل وإنما أخره تعزيراً له ولعود بن مالك لكونهما أطلقا ألسنتهما في خالد رضي الله عنه وانتهكا حرمة الوالي ومن ولاه. الوجه الثاني لعله استطاب قلب صاحبه فتركه صاحبه باختياره وجعله للمسلمين وكان المقصود بذلك استطابة قلب خالد رضي الله عنه للمصلحة في إكرام الأمراء. قوله: (فاستغضب فقال لا تعطه يا خالد) فيه جواز القضاء في حال الغضب ونفوذه، وأن النهي للتنزيه لا للتحريم، وقد سبقت المسألة في كتاب الأقضية قريباً واضحة. قوله صلى الله عليه وسلم: "هل أنتم تاركوا لي أمرائي" هكذا هو في بعض النسخ تاركوا بغير نون، وفي بعضها تاركون بالنون وهذا هو الأصل والأول صحيح أيضاً وهي لغة معروفة، وقد جاءت بها أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا" وقد سبق بيانه في كتاب الإيمان. قوله صلى الله عليه وسلم في صفة الأمراء والرعية: "فصفوه لكم "يعني الرعية" وكدره عليهم" يعني على الأمراء، قال أهل اللغة: الصفو هنا بفتح الصاد لا غير وهو الخالص، فإذا ألحقوه الهاء فقالوا الصفوة كانت الصاد مضمومة ومفتوحة ومكسورة ثلاث لغات، ومعنى الحديث أن الرعية يأخذون صفو الأمور فتصلهم أعطياتهم بغير نكد، وتبتلى الولاة بمقاساة الأمور وجمع الأموال على وجوهها وصرفها في وجوهها وحفظ الرعية والشفقة عليهم والذب عنهم وإنصاف بعضهم من بعض، ثم متى وقع علقة أو عتب في بعض ذلك توجه على الأمراء دون الناس. قوله: (غزوة مؤتة) هي بضم الميم ثم همزة ساكنة ويجوز ترك الهمز كما في نظائره وهي قرية معروفة في طرف الشام عند الكرك. قوله: (ورافقني مددي) يعني رجل من المدد والذين جاؤوا يمدون جيش مؤتة ويساعدونهم.
قوله: (فبينا نحن نتضحى) أي نتغذى مأخوذ من الضحاء بالمد وفتح الضاد وهو بعد امتداد النهار وفوق الضحى بالضم والقصر. قوله: (ثم انتزع طلقاً من حقيه) أما الطلق فبفتح الطاء واللام وبالقاف وهو العقال من جلد، وأما قوله من حقبه فهو بفتح الحاء والقاف وهو حبل الشد على حقو البعير، وقال القاضي: لم يرو هذا الحرف إلا بفتح القاف، قال: وكان بعض شيوخنا يقول صوابه بإسكانها أي مما احتقب خلفه وجعله في حقيبته وهي الرفادة في مؤخر القتب، ووقع هذا الحرف في سنن أبي داود حقوه وفسره مؤخره، قال القاضي: والأشبه عندي أن يكون حقوه في هذه الرواية حجزته وحزامه، والحقو معقد الإزار من الرجل وبه سمي الإزار حقواً، ووقع في رواية السمرقندي رضي الله عنه في مسلم من جعبته بالجيم والعين فإن صح ولم يكن تصحيفاً فله وجه بأن علقه بجعبه سهامه وأدخله فيها. قوله: (وفينا ضعفة ورقة) ضبطوه على وجهين الصحيح المشهور ورواية الأكثرين بفتح الضاد وإسكان العين أي حالة ضعف وهزال، قال القاضي: وهذا الوجه هو الصواب، والثاني بفتح العين جمع ضعيف، وفي بعض النسخ وفينا ضعف بحذف الهاء. قوله: (خرج يشتد) أي يعدو. وقوله: (ثم أناخه فقعد عليه ثم أثاره) أي ركبه ثم بعثه قائماً. قوله: (ناقة ورقاء) أي في لونها سواد كالغبرة. قوله: (فاخترطت سيفي) أي سللته. قوله: (فضربت رأس الرجل فندر) هو بالنون أي سقط. قوله: (فاستقبلني رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس معه فقال من قتل الرجل قالوا ابن الأكوع قال له سلبه أجمع) فيه استقبال السرايا والثناء على من فعل جميلاً، وفيه قتل الجاسوس الكافر الحربي وهو كذلك بإجماع المسلمين. وفي رواية النسائي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمرهم بطلبه وقتله. وأما الجاسوس المعاهد والذمي فقال مالك والأوزاعي: يصير ناقضاً للعهد فإن رأى استرقاقه أرقه ويجوز قتله. وقال جماهير العلماء: لا ينتقض عهده بذلك، قال أصحابنا: إلا أن يكون قد شرط عليه انتقاض العهد بذلك. وأما الجاسوس المسلم فقال الشافعي والأوزاعي وأبو حنيفة وبعض المالكية وجماهير العلماء رحمهم الله تعالى: يعزره الإمام بما يرى من ضرب حبس ونحوهما ولا يجوز قتله. وقال مالك رحمه الله تعالى: يجتهد فيه الإمام ولم يفسر الاجتهاد. وقال القاضي عياض رحمه الله: قال كبار أصحابه يقتل، قال: واختلفوا في تركه بالتوبة، قال الماجشون: إن عرف بذلك قتل وإلا عزر، وفي هذا الحديث دلالة ظاهرة لمذهب الشافعي وموافقيه أن القاتل يستحق السلب وأنه لا يخمس وقد سبق إيضاح هذا كله وفيه استحباب مجانسة الكلام إذا لم يكن فيه تكلف ولا فوات مصلحة والله أعلم
*2* باب التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى
*حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ: حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ: حَدّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدّثَنِي أَبِي قَالَ: غَزَوْنَا فَزَارَةَ وَعَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ أَمّرَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَيْنَا، فَلَمّا كَانَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَاءِ سَاعَةً، أَمَرَنَا أَبُو بَكْرٍ فَعَرّسْنَا. ثُمّ شَنّ الْغَارَةَ، فَوَرَدَ الْمَاءَ فَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ عَلَيْهِ، وَسَبَىَ، وَأَنْظُرُ إلَىَ عُنُقٍ مِنَ النّاسِ. فِيهِمُ الذّرَارِيّ. فَخَشِيتُ أَنْ يَسْبِقُونِي إلَى الْجَبَلِ، فَرَمَيْتُ بِسَهْمٍ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْجَبَلِ. فَلَمّا رَأَوُا السّهْمَ وَقَفُوا. فَجِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ، وَفِيهِمُ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ. عَلَيْهَا قَشْعٌ مِنْ أَدَمٍ. (قَالَ: الْقَشْعُ النّطَعُ) مَعَهَا ابْنَةٌ لَهَا مِنْ أَحْسَنِ الْعَرَبِ. فَسُقْتُهُمْ حَتّىَ أَتَيْتُ بِهِمْ أَبَا بَكْرٍ. فَنَفّلَنِي أَبُو بَكْرٍ ابْنَتَهَا، فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْباً، فَلَقِيَنِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السّوقِ. فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةِ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَاللّهِ لَقَدْ أَعْجَبَتْنِي، وَمَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْباً. ثُمّ لَقِيَنِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَدِ فِي السّوقِ. فَقَالَ لِي: "يَا سَلَمَةُ هَبْ لِي الْمَرْأَةَ، للّهِ أَبُوكَ" فَقُلْتُ: هِيَ لَكَ، يَا رَسُولَ اللّهِ فَوَاللّهِ مَا كَشَفْتُ لَهَا ثَوْباً، فَبَعَثَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلَىَ أَهْلِ مَكّةَ. فَفَدَىَ بِهَا نَاساً مِنَ الْمُسْلِمِينَ، كَانُوا أُسِرُوا بِمَكّةَ.
قوله: (فلما كان بيننا وبين الماء ساعة) هكذا رواه جمهور رواة صحيح مسلم. وفي رواية بعضهم: بيننا وبين الماء ساعة والصواب الأول. قوله: (أمرنا أبو بكر رضي الله فعرسنا ثم شن الغارة) التعريس النزول آخر الليل وشن الغارة فرقها. قوله: (وانظر إلى عنق من الناس) أي جماعة. قوله: (فيهم الذراري) يعني النساء والصبيان. قوله: (وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من أدم) هو بقاف ثم شين معجمة ساكنة ثم عين مهملة، وفي القاف لغتان فتحها وكسرها وهما مشهورتان وفسره في الكتاب بالنطع وهو صحيح. قوله: (فنفلني أبو بكر رضي الله عنه ابنتها) فيه جواز التنفيل وقد يحتج به من يقول التنفيل من أصل الغنيمة، وقد يجيب عنه الاَخرون بأنه حسب قيمتها ليعوض أهل الخمس عن حصتهم. قوله: (وما كشفت لها ثوباً) فيه استحباب الكناية عن الوقاع بما يفهمه. قوله صلى الله عليه وسلم: "يا سلمة هب لي المرأة لله أبوك فقلت هي لك يا رسول الله فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ففدى بها ناساً من المسلمين كانوا أسروا بمكة" فيه جواز المفاداة وجواز فداء الرجال بالنساء الكافرات، وفيه جواز التفريق بين الأم وولدها البالغ، ولا خلاف في جوازه عندنا، وفيه جواز استيهاب الإمام أهل جيشه بعض ما غنموه ليفادي به مسلماً أو يصرفه في مصالح المسلمين أو يتألف به من في تألفه مصلحة كما فعل صلى الله عليه وسلم هنا، وفي غنائم حنين وفيه جواز قول الإنسان للاَخر: لله أبوك ولله درك، وقد سبق تفسير معناه واضحاً في أول الكتاب في كتاب الإيمان في حديث حذيفة في الفتنة التي تموج موج البحر
*2* باب حكم الفيء
*حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ، قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ: قال رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "أَيّمَا قَرْيَةٍ أَتَيْتُمُوهَا، وَأَقَمْتُمْ فِيهَا، فَسَهْمُكُمْ فِيهَا، وَأَيّمَا قَرْيَةٍ عَصَتِ اللّهَ وَرَسُولَهُ، فَإنّ خُمُسَهَا للّهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمّ هِيَ لَكُمْ".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، وَ مُحَمّدُ بْنُ عَبّادٍ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ أَبِي شَيْبةَ) (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرُونَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ) عَنْ عَمْرٍو، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عُمَرَ قَالَ: كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النّضِيرِ مِمّا أَفَاءَ اللّهِ عَلَىَ رَسُولِهِ، مِمّا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ. فَكَانَتْ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم خَاصّةً، فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَىَ أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَمَا بَقِيَ يَجْعَلُهُ فِي الْكُرَاعِ وَالسّلاَحِ، عُدّةً فِي سَبِيلِ اللّهِ.
حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزّهْرِيّ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
وحدّثني عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضّبَعِيّ: حَدّثَنَا جُوَيْرِيَةُ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزّهْرِيّأَنّ مَالِكَ بْنَ أَوْسٍ حَدّثَهُ. قَالَ: أَرْسَلَ إلَيّ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَجِئْتُهُ حِينَ تَعَالَى النّهَارُ. قَالَ: فَوَجَدْتُهُ فِي بَيْتِهِ جَالِساً عَلَى سَرِيرٍ، مُفْضِياً إلَىَ رِمَالِهِ مُتّكِئاً عَلَىَ وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ. فَقَالَ لِي: يَا مَالُ! إنّهُ قَدْ دَفّ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ قَوْمِكَ، وَقَدْ أَمَرْتُ فِيهِمْ بِرَضْخٍ، فَخُذْهُ فَاقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ. قَالَ: قُلْتُ: لَوْ أَمَرْتَ بِهَذَا غَيْرِي؟ قَالَ: خُذْهُ. يَا مَالُ! قَالَ: فَجَاءَ يَرْفَا. فَقَالَ: هَلْ لَكَ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَالزّبَيْرِ وَسَعْدٍ؟ فَقَالَ عُمَرُ: نَعَمْ. فَأَذِنَ لَهُمْ، فَدَخَلُوا. ثُمّ جَاءَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَبّاسٍ وَعَلِيّ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَذِنَ لَهُمَا. فَقَالَ عَبّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا الْكَاذِبِ الاَثِمِ الْغَادِرِ الْخَائِنِ. فَقَالَ الْقَوْمُ: أَجَلْ. يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَاقْضِ بَيْنَهُمْ وَأَرِحْهُمْ. (فَقَالَ مَالِكُ بْنُ أَوْسٍ: يُخَيّلُ إلَيّ أَنّهُمْ قَدْ كَانُوا قَدّمُوهُمْ لِذَلِكَ) فَقَالَ عُمَرُ: اتّئِدَا، أَنْشُدُكُمْ بِاللّهِ الّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السّمَاءُ وَالأَرْضُ أَتَعْلَمُونَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" قَالُوا: نَعَمْ. ثُمّ أَقْبَلَ عَلَى الْعَبّاسِ وَعَلِيّ فَقَالَ: أَنْشُدُكُمَا بِاللّهِ الّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السّمَاءُ وَالأَرْضُ أَتَعْلَمَانِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ" قَالاَ: نَعَمْ. فَقَالَ عُمَرُ: إنّ اللّهِ جَلّ وَعَزّ كَانَ خَصّ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم بخَاصّةٍ لَمْ يُخَصّصْ بِهَا أَحَداً غَيْرَهُ. قَالَ: {مَا أَفَاءَ اللّهُ عَلَىَ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَىَ فَلِلّهِ وَلِلرّسُولِ} (الحشر الاَية: 7) (مَا أَدْرِي هَلْ قَرَأَ الاَيَةَ الّتِي قَبْلَهَا أَمْ لاَ) قَالَ: فَقَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَكُمْ أَمْوَالَ بَنِي النّضِيرِ، فَوَاللّهِ مَا اسْتَأْثَرَ عَلَيْكُمْ، وَلاَ أَخَذَهَا دُونَكُمْ، حَتّىَ بَقِيَ هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْخُذُ مِنْهُ نَفَقَةَ سَنَةٍ، ثُمّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ أُسْوَةَ الْمَالِ. ثُمّ قَالَ: أَنْشُدُكُمْ بِاللّهِ الّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السّمَاءُ وَالأَرْضُ أَتَعْلَمُونَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. ثُمّ نَشَدَ عَبّاساً وَعَلِيّاً بِمِثْلِ مَا نَشَدَ بِهِ الْقَوْمَ: أَتَعْلَمَانِ ذَلِكَ؟ قَالاَ: نَعَمْ. قَالَ: فَلَمّا تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيّ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَجِئْتُمَا، تَطْلُبُ مِيرَاثَكَ مِنَ ابْنِ أَخِيكَ، وَيَطْلُبُ هَذَا مِيرَاثَ امْرَأَتِهِ مِنْ أَبِيهَا. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ" فَرَأَيْتُمَاهُ كَاذِباً آثِماً غَادِراً خَائِناً، وَاللّهُ يَعْلَمُ إنّهُ لَصَادِقٌ بَارّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقّ، ثُمّ تُوُفّيَ أَبُو بَكْرٍ، وَأَنَا وَلِيّ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَوَلِيّ أَبِي بَكْرٍ. فَرَأَيْتُمَانِي كَاذِباً آثِماً غَادِراً خَائِناً، وَاللّه يَعْلَمُ إنّي لَصَادِقٌ بَارّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقّ، فَوَلِيتُهَا. ثُمّ جِئْتَنِي أَنْتَ وَهَذَا، وَأَنْتُمَا جَمِيعٌ، وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ. فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إلَيْنَا. فَقُلْتُ: إنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُهَا إلَيْكُمَا عَلَىَ أَنّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللّهِ أَنْ تَعْمَلاَ فِيهَا بِالّذِي كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذْتُمَاهَا بِذَلِكَ. قَالَ: أَكَذَلِكَ؟ قَالاَ: نَعَمْ. قَالَ: ثُمّ جِئْتُمَانِي لأَقْضِيَ بَيْنَكُمَا. وَلاَ، وَاللّهِ لاَ أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ حَتّىَ تَقُومَ السّاعَةُ، فَإنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَرُدّاهَا إلَيّ.
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا. وَقالَ الاَخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ). أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ قَالَ: أَرْسَلَ إِلَيّ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ. فَقَالَ: إِنّهُ قَدْ حَضَرَ أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْ قَوْمِكَ. بِنَحْوِ حَدِيثِ مَالِكٍ. غَيْرَ أَنّ فِيهِ: فَكَانَ يُنْفِقُ عَلَىَ أَهْلِهِ مِنْهُ سَنَةً. وَرُبّمَا قَالَ مَعْمَرٌ: يَحْبِسُ قُوتَ أَهْلِهِ مِنْهُ سَنَةً، ثُمّ يَجْعَلُ مَا بَقِيَ مِنْهُ مَجْعَلَ مَالِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما قرية أتيتموها أقمتم فيها فسهمكم فيها، وأيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله ولرسوله ثم هي لكم" قال القاضي: يحتمل أن يكون المراد بالأولى الفيء الذي لم يوجب المسلمون عليه بخيل ولا ركاب بل جلا عنه أهله أو صالحوا عليه فيكون سهمهم فيها أي حقهم من العطايا كما يصرف الفيء، ويكون المراد بالثانية ما أخذ عنوة، فيكون غنيمة يخرج منه الخمس وباقيه للغانمين وهو معنى قوله: ثم هي لكم أي باقيها، وقد يحتج من لم يوجب الخمس في الفيء بهذا الحديث، وقد أوجب الشافعي الخمس في الفيء كما أوجبوه كلهم في الغنيمة، وقال جميع العلماء سواه لا خمس في الفيء، قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً قبل الشافعي قال بالخمس في الفيء والله أعلم.
قوله: (حدثنا قتيبة بن سعيد ومحمد بن عباد وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، حدثنا سفيان عن عمرو عن الزهري عن مالك بن أوس عن عمر ثم قال بعده: وحدثنا يحيى بن يحيى أخبرنا سفيان بن عيينة عن معمر عن الزهري بهذا الإسناد) وهكذا هو في كثير من النسخ، وأكثرها عن عمرو عن الزهري عن مالك بن أوس، وكذا ذكره خلف الواسطي في الأطراف وغيره وهو الصواب، وسقط في كثير من النسخ ذكر الزهري في الإسناد الأول فقال عن عمرو عن مالك بن أوس وهذا غلط من بعض الناقلين عن مسلم قطعاً لأنه قد قال في الإسناد الثاني عن الزهري بهذا الإسناد فدل على أنه قد ذكره في الإسناد الأول فالصواب إثباته. قوله: (كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة فكان ينفق على أهله نفقة سنة وما بقي جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله) أما الكراع فهو الخيل، وقوله: ينفق على أهله نفق سنة أي يعزل لهم نفقة سنة ولكنه كان ينفقه قبل انقضاء السنة في وجوه الخير فلا تتم عليه السنة، ولهذا توفي صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة على شعير استدانه لأهله ولم يشبع ثلاثة أيام تباعاً، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بكثرة جوعه صلى الله عليه وسلم وجوع عياله. وقوله: كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة هذا يؤيد مذهب الجمهور أنه لا خمس في الفيء كما سبق، وقد ذكرنا أن الشافعي أوجبه. ومذهب الشافعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له من الفيء أربعة أخماسه وخمس خمس الباقي فكان له أحد وعشرون سهماً من خمسة وعشرين، والأربعة الباقي لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، ويتأول هذا الحديث على هذا فنقول: قوله كانت أموال بني النضير أي معظمها، وفي هذا الحديث جواز ادخال قوت سنة وجواز إِلادخار للعيال وأن هذا لا يقدح في التوكل، وأجمع العلماء على جواز إِلادخار فيما يستغله الإنسان من قريته كما جرى للنبي صلى الله عليه وسلم، وأما إذا أراد أن يشتري من السوق ويدخره لقوت عياله فإن كان في وقت ضيق الطعام لم يجز بل يشتري ما لا يضيق على المسلمين كقوت أيام أو شهر، وإن كان في وقت سعة اشترى قوت سنة وأكثر، هكذا نقل القاضي هذا التفصيل عن أكثر العلماء وعن قوم أباحته مطلقاً، وأما ما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب فالإيجاف الإسراع. قوله: (فجئته حين تعالى النهار) أي ارتفع وهو بمعنى متع النهار بفتح المثناة فوق كما وقع في رواية البخاري قوله: (فوجدته في بيته جالساً على سريره مفضياً إلى رماله) هو بضم الراء وكسرها وهو ما ينسج من سعف النخل ونحوه ليضطجع عليه. وقوله: مفضياً إلى رماله يعني ليس بينه وبين رماله شيء، وإنما قال هذا لأن العادة أن يكون فوق الرمال فراش أو غيره. قوله: (فقال لي يا مال) هكذا هو في جميع النسخ يا مال وهو ترخيم مالك بحذف الكاف، ويجوز كسر اللام وضمها وجهان مشهوران لأهل العربية، فمن كسرها تركها على ما كانت، ومن ضمها جعله اسماً مستقلاً. قوله: (دف أهل أبيات من قومك) الدف الشمي بسرعة كأنهم جاؤوا مسرعين للضر الذي نزل بهم، وقيل السير اليسير. قوله: (وقد أمرت فيهم برضخ) هو بإسكان الضاد وبالخاء المعجمتين وهي العطية القليلة. قوله: (فجاء يرفا) هو بفتح المثناة تحت وإسكان الراء وبالفاء غير مهموز هكذا ذكره الجمهور، ومنهم من همزه، وفي سنن البيهقي في باب الفيء تسمية اليرفا بالألف واللام وهو حاجب عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قوله: (اقض بيني وبين هذا الكاذب إلى آخره) قال جماعة من العلماء: معناه هذا الكاذب إن لم ينصف فحذف الجواب. قال القاضي عياض: قال المازري هذا اللفظ الذي وقع لا يليق ظاهره بالعباس، وحاش لعلي أن يكون فيه بعض هذه الأوصاف فضلاً عن كلها، ولسنا نقطع بالعصمة إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ولمن شهد له بها لكنا مأمورون بحسن الظن بالصحابة رضي الله عنهم أجمعين ونفي كل رذيلة عنهم، وإذا انسدت طرق تأويلها نسبنا الكذب إلى رواتها، قال: وقد حل هذا المعنى بعض الناس على أن أزال هذا اللفظ من نسخته تورعاً عن إثبات مثل هذا، ولعله حمل الوهم على رواته.
قال المازري: وإذا كان هذا اللفظ لا بد من إثباته ولم نضف الوهم إلى رواته فأجود ما حمل عليه أنه صدر من العباس على جهة الإدلال على ابن أخيه لأنه بمنزلة ابنه وقال ما لا يعتقده وما يعلم براءة ذمة ابن أخيه منه، ولعله قصد بذلك ردعه عما يعتقد أنه مخطئ فيه، وأن هذه الأوصاف يتصف بها لو كان يفعل ما يفعله عن قصد، وأن علياً كان لا يراها إلا موجبة لذلك في اعتقاده، وهذا كما يقول المالكي: شارب النبيذ ناقص الدين، والحنفي يعتقد أنه ليس بناقص فكل واحد محق في اعتقاده، ولا بد من هذا التأويل، لأن هذه القضية جرت في مجلس فيه عمر رضي الله عنه وهو الخليفة وعثمان وسعد وزبير وعبد الرحمن رضي الله عنهم، ولم ينكر أحد منهم هذا الكلام مع تشددهم في إنكار المنكر، وما ذلك إلا لأنهم فهموا بقرينة الحال أنه تكلم بما لا يعتقد ظاهره مبالغة في الزجر، قال المازري: وكذلك قول عمر رضي الله عنه: إنكما جئتما أبا بكر فرأيتماه كاذباً آثماً غادراً خائناً، وكذلك ذكر عن نفسه أنهما رأياه كذلك، وتأويل هذا على نحو ما سبق وهو أن المراد أنكما تعتقدان أن الواجب أن نفعل في هذه القضية خلاف ما فعلته أنا وأبو بكر فنحن على مقتضى رأيكما لو أتينا ما أتينا ونحن معتقدان ما تعتقدانه لكنا بهذه الأوصاف، أو يكون معناه أن الإمام إنما يخالف إذا كان على هذه الأوصاف ويتهم في قضاياه، فكان مخالفتكما لنا تشعر من رآها أنكم تعتقدان ذلك فينا والله أعلم. قال المازري: وأما الإعتذار عن علي والعباس رضي الله عنهما في أنهما ترددا إلى الخليفتين مع قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركناه فهو صدقة"، وتقرير عمر رضي الله عنه أنهما يعلمان ذلك، فأمثل ما في ما قاله بعض العلماء أنهما طلبا أن يقسماها بينهما نصفين ينفقان بها على حسب ما ينفعهما الإمام بها لو وليها بنفسه، فكره عمر أن يوقع عليها اسم القسمة لئلا يظن لذلك مع تطاول الأزمان أنها ميراث وأنهما ورثاه، لا سيما وقسمة الميراث بين البنت والعم نصفان فيلتبس ذلك ويظن أنهم تملكوا ذلك، ومما يؤيد ما قلناه ما قاله أبو داود أنه لما صارت الخلافة إلى علي رضي الله عنه لم يغيرها عن كونها صدقة، وبنحو هذا احتج السفاح فإنه لما خطب أول خطبة قام بها إليه رجل معلق في عنقه المصحف فقال: أنشدك الله إلا ما حكمت بيني وبين خصمي بهذا المصحف، فقال: من هو خصمك؟ قال: أبو بكر في منعه فدك، قال: أظلمك؟ قال: نعم، قال: فمن بعده؟ قال: عمر، قال: أظلمك؟ قال: نعم، وقال في عثمان كذلك، قال: فعلي ظلمك؟ فسكت الرجل فأغلظ له السفاح، قال القاضي عياض: وقد تأول قوم طلب فاطمة رضي الله عنها ميراثها من أبيها على أنها تأولت الحديث إن كان بلغها قوله صلى الله عليه وسلم: لا نورث على الأموال التي لها بال فهي التي لا تورث لا ما يتركون من طعام وأثاث وسلاح، وهذا التأويل خلاف ما ذهب إليه أبو بكر وعمر وسائر الصحابة رضي الله عنهم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي" فليس معناه إرثهن منه بل لكونهن محبوسات عن الأزواج بسببه أو لعظم حقهن في بيت المال لفضلهن وقدم هجرتهن وكونهن أمهات المؤمنين، وكذلك اختصصن بمساكنهن لم يرثها ورثتهن. قال القاضي عياض: وفي ترك فاطمة منازعة أبي بكر بعد احتجاجه عليها بالحديث التسليم للإجماع على قضية، وأنها لما بلغها الحديث وبين لها التأويل تركت رأيها، ثم لم يكن منها ولا من ذريتها بعد ذلك طلب ميراث، ثم ولي علي الخلافة فلم يعدل بها عما فعله أبو بكر وعمر رضي الله عنه، فدل على أن طلب علي والعباس إنما كان طلب تولي القيام بها بأنفسهما وقسمتها بينهما كما سبق، قال: وأما ما ذكر من هجران فاطمة أبا بكر رضي الله عنه فمعناه انقباضها عن لقائه وليس هذا من الهجران المحرم الذي هو ترك السلام والإعراض عند اللقاء. قوله في هذا الحديث: (فلم تكلمه) يعني في هذا الأمر أو لانقباضها لم تطلب منه حاجة ولا اضطرت إلى لقائه فتكلمه، ولم ينقله قط أنهما التقيا فلم تسلم عليه ولا كلمته. قال: وأما قول عمر جئتماني تكلماني وكلمتكما في واحدة جئت يا عباس تسألني نصيبك من ابن أخيك وجاءني هذا يسألني نصيب امرأته من أبيها. فيه إشكال مع إعلام أبي بكر لهم قبل هذا الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث، وجوابه أن كل واحد إنما طلب القيام وحده على ذلك ويحتج هذا بقربه بالعمومة وذلك بقرب امرأته بالبنوة، وليس المراد أنهما طلبا ما علما منع النبي صلى الله عليه وسلم ومنعهما منه أبو بكر وبين لهما دليل المنع واحترفا له بذلك.
قال العلماء: وفي هذا الحديث أنه ينبغي أن يولي أمر كل قبيلة سيّدهم وتفوض إليه مصلحتهم لأنه أعرف بهم وأرفق بهم وأبعد من أن يأنفوا من الإنقياد له، ولهذا قال الله تعالى: {فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها} وفيه جواز نداء الرجل باسمه من غير كنية، وفيه جواز احتجاب المتولي في وقت الحاجة لطعامه أو وضوئه أو نحو ذلك، وفيه جواز قبول خبر الواحد، وفيه استشهاد الإمام على ما يقوله بحضرة الخصمين العدول لتقوى حجته في إقامة الحق وقمع الخصم والله أعلم. قوله: (فقال عمر رضي الله عنه اتئدا) أي اصبرا وأمهلا. قوله: (أنشدكم بالله) أي أسألكم بالله مأخوذ من النشيد وهو رفع الصوت، يقال أنشدتك ونشدتك بالله. قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نورث ما تركناه صدقة" هو برفع صدقة وما بمعنى الذي أي الذي تركناه فهو صدقة، وقد ذكر مسلم بعد حديث يحيى بن يحيى عن مالك من حديث عائشة رفعته: "لا نورث ما تركناه فهو صدقة" وإنما نبهت على هذا لأن بعض جهلة الشيعة يصحفه، قال العلماء: والحكمة في أن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يورثون أنه لا يؤمن أن يكون في الورثة من يتمنى موته فيهلك، ولئلا يظن بهم الرغبة في الدنيا لوارثهم فيهلك الظان وينفر الناس عنهم. قوله: (إن الله كان خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بخاصة لم يخصص بها أحداً غيره قال الله تعالى: {ما أفاء الله على رسوله} الاَية) ذكر القاضي في معنى هذا احتمالين: أحدهما تحليل الغنيمة له ولأمته. والثاني تخصيصه بالفيء إما كله أو بعضه كما سبق من اختلاف العلماء، قال: وهذا الثاني أظهر للاستشهاد عمر على هذا بالاَية
*2* باب قول النبيّ صلى الله عليه وسلم "لا نورث ما تركنا فهو صدقة"
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا قَالَتْ: إنّ أَزْوَاجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، حِينَ تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، أَرَدْنَ أَنْ يَبْعَثْنَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ إلَىَ أَبِي بَكْرٍ، فَيَسْأَلْنَهُ مِيرَاثَهُنّ مِنَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَتْ عَائِشَةُ لَهُنّ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا فَهُوَ صَدَقَةٌ؟".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ: أَخْبَرَنَا حُجَيْنٌ: حَدّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَرْسَلَتْ إلَىَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. مِمّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ وَفَدَكٍ، وَمَا بَقِيَ مِنْ خُمُسِ خَيْبَرَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، إنّمَا يَأْكُلُ آلُ مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي هَذَا الْمَالِ". وَإنّي، وَاللّهِ لاَ أُغَيّرُ شَيْئاً مِنْ صَدَقَةِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، عَنْ حَالِهَا الّتِي كَانَتْ عَلَيْهَا، فِي عَهْدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلأَعْمَلَنّ فِيهَا، بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَبَىَ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَدْفَعَ إلَىَ فَاطِمَةَ شَيْئاً، فَوَجَدَتْ فَاطِمَةُ عَلَىَ أَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ. قَالَ: فَهَجَرَتْهُ. فَلَمْ تُكَلّمْهُ حَتّىَ تُوُفّيَتْ، وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سِتّةَ أَشْهُرٍ. فَلَمّا تُوُفّيَتْ دَفَنَهَا زَوْجُهَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ لَيْلاً، وَلَمْ يُؤْذِنْ بِهَا أَبَا بَكْرٍ، وَصَلّىَ عَلَيْهَا عَلِيّ، وَكَانَ لِعَلِيَ مِنَ النّاسِ وِجْهَةٌ، حَيَاةَ فَاطِمَةَ. فَلَمّا تُوُفّيَتِ اسْتَنْكَرَ عَلِيّ وُجُوهَ النّاسَ، فَالْتَمَسَ مُصَالَحَةَ أَبِي بَكْرٍ وَمُبَايَعَتَهُ. وَلَمْ يَكُنْ بَايَعَ تِلْكَ الأَشْهُرَ. فَأَرْسَلَ إلَىَ أَبِي بَكْرٍ: أَنِ ائْتِنَا، وَلاَ يَأْتِنَا مَعَكَ أَحَدٌ (كَرَاهِيَةَ مَحْضَرِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ) فَقَالَ عُمَرُ، لأَبِي بَكْرٍ: وَاللّهِ لاَ تَدْخُلْ عَلَيْهِمْ وَحْدَكَ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَمَا عَسَاهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا بِي. إنّي، وَاللّهِ لاَتِيَنّهُمْ. فَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَبُو بَكْرٍ. فَتَشَهّدَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. ثُمّ قَالَ: إنّا قَدْ عَرَفْنَا، يَا أَبَا بَكْرٍ فَضِيلَتَكَ وَمَا أَعْطَاكَ اللّهُ. وَلَمْ نَنْفَسْ عَلَيْكَ خَيْراً سَاقَهُ اللّهُ إلَيْكَ، وَلَكِنّكَ اسْتَبْدَدْتَ عَلَيْنَا بِالأَمْرِ، وَكُنّا نَحْنُ نَرَىَ لَنَا حَقّاً لِقَرَابَتِنَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَلَمْ يَزَلْ يُكَلّمُ أَبَا بَكْرٍ حَتّىَ فَاضَتْ عَيْنَا أَبِي بَكْرٍ. فَلَمّا تَكَلّمَ أَبُو بَكْرٍ قَالَ: وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَرَابَةُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَحَبّ إلَيّ أَنْ أَصِلَ مِنْ قَرَابَتِي، وَأَمّا الّذِي شَجَرَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَمْوَالِ، فَإِنّي لَمْ آلُ فِيهَا عَنِ الْحَقّ، وَلَمْ أَتْرُكْ أَمْراً رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُهُ فِيهَا إلاّ صَنَعْتُهُ. فَقَالَ عَلِيّ لأَبِي بَكْرٍ: مَوْعِدُكَ الْعَشِيّةُ لِلْبَيْعَةِ. فَلَمّا صَلّىَ أَبُو بَكْرٍ صَلاَةَ الظّهْرِ، رَقِيَ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَتَشَهّدَ، وَذَكَرَ شَأْنَ عَلِيّ وَتَخَلّفَهُ عَنِ الْبَيْعَةِ، وَعُذْرَهُ بِالّذِي اعْتَذَرَ إِلَيْهِ، ثُمّ اسْتَغْفَرَ، وَتَشَهّدَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَعَظّمَ حَقّ أَبِي بَكْرٍ، وَأَنّهُ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى الّذِي صَنَعَ نَفَاسَةً عَلَىَ أَبِي بَكْرٍ، وَلاَ إنْكَاراً لِلّذِي فَضّلَهُ اللّهُ بِهِ، وَلَكِنّا كُنّا نَرَى لَنَا فِي الأَمْرِ نَصِيباً، فَاسْتُبِدّ عَلَيْنَا بِهِ، فَوَجَدْنَا فِي أَنْفُسِنَا، فَسُرّ بِذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ. وَقَالُوا: أَصَبْتَ. فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ إلَىَ عَلِيّ قَرِيباً، حِينَ رَاجَعَ الأَمْرَ الْمَعْرُوفَ.
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا. وَقَال الاَخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ). أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ فَاطِمَةَ والْعَبّاسَ أَتَيَا أَبَا بَكْرٍ يَلْتَمِسَانِ مِيرَاثَهُمَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَهُمَا حِينئَذٍ يَطْلُبَانِ أَرْضَهُ مِنْ فَدَكٍ وَسَهْمَهُ مِنْ خَيْبَرَ. فَقَالَ لَهُمَا أَبُو بَكْرٍ: إِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ مَعْنَىَ حَدِيثِ عُقَيْلٍ، عَنِ الزّهْرِيّ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: ثُمّ قَامَ عَلِيّ فَعَظّمَ مِنْ حَقّ أَبِي بَكْرٍ، وَذَكَرَ فَضِيلَتَهُ وَسَابِقَتَهُ، ثُمّ مَضَىَ إلَىَ أَبِي بَكْرٍ فَبَايَعَهُ، فَأَقْبَلَ النّاسُ إلَىَ عَلِيّ فَقَالُوا: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ. فَكَانَ النّاسُ قَرِيباً إلَىَ عَلِيّ حِينَ قَارَبَ الأَمْرَ الْمَعْرُوفَ.
وحدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ الحَسَنُ بْنُ عَلِي الْحُلْوَانِيّ، قَالاَ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ): حَدّثَنَا أَبِي، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ أَنّ عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَتْ أَبَا بَكْرٍ، بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، أَنْ يَقْسِمَ لَهَا مِيرَاثَهَا، مِمّا تَرَكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، مِمّا أَفَاءَ اللّهُ عَلَيْهِ. فَقَالَ لَها أَبُو بَكْرٍ: إنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ".
قَالَ: وَعَاشَتْ بَعْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سِتّةَ أَشْهُرٍ. وَكَانَتْ فَاطِمَةُ تَسْأَلُ أَبَا بَكْرٍ نَصِيبَهَا مِمّا تَرَكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ وَفَدَكٍ، وَصَدَقَتِهِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَبَىَ أَبُو بَكْرٍ عَلَيْهَا ذَلِكَ. وَقَالَ: لَسْتُ تَارِكاً شَيْئاً كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْمَلُ بِهِ إلاّ عَمِلْتُ بِهِ، إنّي أَخْشَىَ إنْ تَرَكْتُ شَيْئاً مِنْ أَمْرِهِ أَنْ أَزِيغَ، فَأَمّا صَدَقَتُهُ بِالْمَدِينَةِ فَدَفَعَهَا عُمَرُ إلَىَ عَلِيّ وَعَبّاسٍ، فَغَلَبَهُ عَلَيْهَا عَلِيّ، وَأَمّا خَيْبَرُ وَفَدَكُ فَأَمْسَكَهُمَا عُمَرُ وَقَالَ: هُمَا صَدَقَةُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. كَانَتَا لِحُقُوقِهِ الّتِي تَعْرُوهُ وَنَوَائِبِهِ، وَأَمْرُهُمَا إلَىَ مَنْ وَلِيَ الأَمْرَ. قَالَ: فَهُمَا عَلَىَ ذَلِكَ إلَىَ الْيَوْمِ.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلىَ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَقْتَسِمُ وَرَثَتِي دِينَاراً، مَا تَرَكْتُ، بَعْدَ نَفَقَةِ نِسَائِي وَمَؤُونَةِ عَامِلِي، فَهُوَ صَدَقَةٌ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَىَ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكِيّ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي الزّنَادِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ.
وحدّثني ابْنُ أَبِي خَلَفٍ: حَدّثَنَا زَكَرِيّاءُ بْنُ عَدِيّ. أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يُونُسَ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صَدَقَةً".
قوله: (فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر) أما هجرانها فسبق تأويله، وأما كونها وعاشت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة أشهر فهو الصحيح المشهور، وقيل ثمانية أشهر، وقيل ثلاثة، وقيل شهرين، وقيل سبعين يوماً، فعلى الصحيح قالوا: توفيت لثلاث مضين من شهر رمضان سنة إحدى عشرة. قوله: (إن علياً دفن فاطمة رضي الله عنها ليلاً) فيه جواز الدفن ليلاً وهو مجمع عليه لكن النهار أفضل إذا لم يكن عذر. قوله: (وكان لعلي من الناس وجهة حياة فاطمة رضي الله عنها فلما توفيت استنكر على وجوه الناس فالتمس مصالحة أبي بكر ومبايعته رضي الله عنهما ولم يكن بايع تلك الأشهر) أما تأخر علي رضي الله عنه عن البيعة فقد ذكره علي في هذا الحديث واعتذر أبو بكر رضي الله عنه ومع هذا فتأخره ليس بقادح في البيعة ولا فيه، أما البيعة فقد اتفق العلماء على أنه لا يشترط لصحتها مبايعة كل الناس ولا كل أهل الحل والعقد، وإنما يشترط مبايعة من تيسر إجماعهم من العلماء والرؤساء ووجوه الناس، وأما عدم القدح فيه فلأنه لا يجب على كل واحد أن يأتي إلى الإمام فيضع يده في يده ويبايعه، وإنما يلزمه إذا عقد أهل الحل والعقد للإمام إِلانقياد له وأن لا يظهر خلافاً ولا يشق لعصا، وهكذا كان شأن علي رضي الله عنه في تلك المدة التي قبل بيعته فإنه لم يظهر على أبي بكر خلافاً ولا شق العصا، ولكنه تأخر عن الحضور عنده للعذر المذكور في الحديث، ولم يكن انعقاد البيعة وانبرامها متوقفاً على حضوره فلم يجب عليه الحضور لذلك ولا لغيره، فلما لم يجب لم يحضر، وما نقل عنه قدح في البيعة ولا مخالفة ولكن بقي في نفسه عتب فتأخر حضوره إلى أن زال العتب، وكان سبب العتب أنه مع وجاهته وفضيلته في نفسه في كل شيء وقربه من النبي صلى الله عليه وسلم وغير ذلك رأى أنه لا يستبد بأمر إلا بمشورته وحضوره، وكان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً لأنهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتب عليه مفاسد عظيمة، ولهذا أخروا دفن النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقدوا البيعة لكونها كانت أهم الأمور كيلا يقع نزاع في مدفنه أو كفنه أو غسله أو الصلاة عليه أو غير ذلك وليس لهم من يفصل الأمور فرأوا تقدم البيعة أهم الأشياء والله أعلم. قوله: (فأرسل إلى أبي بكر رضي الله عنه أن ائتنا ولا يأتنا معك أحد كراهة محضر عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال عمر لأبي بكر رضي الله عنه: والله لا تدخل عليهم وحدك) أما كراهتهم لمحضر عمر فلما علموا من شدته وصدعه بما يظهر له فخافوا أن ينتصر لأبي بكر رضي الله عنه فيتكلم بكلام يوحش قلوبهم على أبي بكر وكانت قلوبهم قد طابت عليه وانشرحت له فخافوا أن يكون حضور عمر سبباً لتغيرها. وأما قول عمر لا تدخل عليهم وحدك فمعناه أنه خاف أن يغلظوا عليه في المعاتبة ويحملهم على الإكثار من ذلك لين أبي بكر وصبره عن الجواب عن نفسه، وربما رأى من كلامهم ما غير قلبه فيترتب على ذلك مفسدة خاصة أو عامة، وإذا حضر عمر امتنعوا من ذلك، وأما كون عمر حلف أن لا يدخل عليهم أبو بكر وحده فحنثه أبو بكر ودخل وحده ففيه دليل على أن إبرار القسم إنما يؤمر به الإنسان إذا أمكن احتماله بلا مشقة ولا تكون فيه مفسدة، وعلى هذا يحمل الحديث بإبرار القسم. قوله: (ولم ننفس عليك خيراً ساقه الله إليك) هو بفتح الفاء يقال: نفست عليه بكسر الفاء أنفس بفتحها نفاسة وهو قريب من معنى الحسد. قوله: (وأما الذي شجر بيني وبينكم من هذه الأموال فإني لم آل فيها عن الحق) معنى شجر إِلاختلاف والمنازعة، وقوله لم آل أي لم أقصر. قوله: (فقال لأبي بكر موعدك العشية للبيعة فلما صلى أبو بكر صلاة الظهر رقي على المنبر) هو بكسر القاف، يقال رقي يرقى كعلم يعلم والعشي بحذف الهاء هو من زال الشمس ومنه الحديث: "صلى إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر" وفي هذا الحديث بيان صحة خلافة أبي بكر وانعقاد الإجماع عليها. قوله: (كانتا لحقوقه التي تعروه ونوائبه) معناه ما يطرأ عليه من الحقوق الواجبة والمندوبة ويقال عروته واعتريته وعررته واعتررته إذا أتيته تطلب منه حاجة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تقسم ورثتي ديناراً ما تركت بعد نفقة نسائي ومؤنة عاملي فهو صدقة" قال العلماء: هذا التقييد بالدينار هو من باب التنبيه على ما سواه كما قال الله تعالى: {فمن يمل مثقال ذرة خيراً يره} وقال تعالى: {ومنهم من أن تأمنه بدينار لا يؤده إليك}. قالوا: وليس المراد بهذا اللفظ النهي لأنه إنما ينهى عما يمكن وقوعه وارثه صلى الله عليه وسلم غير ممكن وإنما هو بمعنى الإخبار ومعنى لا يقتسمون شيئاً لأني لا أورث، هذا هو الصحيح المشهور من مذاهب العلماء في معنى الحديث وبه قال جماهيرهم. وحكى القاضي عن ابن علية وبعض أهل البصرة أنهم قالوا: إنما لم يورث لأن الله تعالى خصه أن جعل ماله كله صدقة، والصواب الأول وهو الذي يقتضيه سياق الحديث، ثم أن جمهور العلماء على أن جميع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين لا يورثون. وحكى القاضي عن الحسن البصري أنه قال: عدم الإرث بينهم مختص بنينا صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى عن زكريا: {يرثني ويرث من آل يعقوب} وزعم أن المراد وراثة المال وقال: ولو أراد وراثة النبوة لم يقل: {وإني خفت الموالي من ورائي} إذ لا يخاف الموالي على النبوة. ولقوله تعالى: {وورث سليمان داود} والصواب ما حكيناه عن الجمهور أن جميع الأنبياء لا يورثون، والمراد بقصة زكريا وداود وراثة النبوة وليس المراد حقيقة الإرث بل قيامه مقامه وحلوله مكانه والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ومؤنة عاملي) فقيل هو القائم على هذه الصدقات والناظر فيها، وقيل كل عامل للمسلمين من خليفة وغيره لأنه عامل النبي صلى الله عليه وسلم ونائب عنه في أمته. وأما مؤنة نسائه صلى الله عليه وسلم فسبق بيانها قريباً والله أعلم قال القاضي عياض رضي الله عنه في تفسير صدقات النبي صلى الله عليه وسلم المذكورة في هذه الأحاديث قال: صارت إليه بثلاثة حقوق: أحدها ما وهب له صلى الله عليه وسلم وذلك وصي مخيريق اليهودي له عند إسلامه يوم أحد وكانت سبع حوائط في بني النضير، وما أعطاه الأنصار من أرضهم وهو ما لا يبلغه الماء وكان هذا ملكاً له صلى الله عليه وسلم. الثاني حقه من الفيء من أرض بني النضير حين أجلاهم كانت له خاصة لأنها لم يوجب عليها المسلمون بخيل ولا ركاب، وأما منقولات بني النضير فحملوا منها ما حملته الإبل غير السلاح كما صالحهم ثم قسم صلى الله عليه وسلم الباقي بين السملمين وكانت الأرض لنفسه ويخرجها في نوائب المسلمين، وكذلك نصف أرض فدك صالح أهلها بعد فتح خيبر على نصف أرضها وكان خالصاً له، وكذلك ثلث أرض وادي القرى أخذه في الصلح حين صالح أهلها اليهود، وكذلك حصنان من حصون خيبر وهما الوطيخ والسلالم أخذهما صلحاً. الثالث سهمه من خمس خيبر وما افتتح فيها عنوة فكانت هذه كلها ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة لا حق فيها لأحد غيره لكنه صلى الله عليه وسلم كان لا يستأثر بها بل ينفقها على أهله والمسلمين وللمصالح العامة، وكل هذه صدقات محرمات التملك بعده والله أعلم
*2* باب كيفية قسمة الغنيمة بين الحاضرين
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ كِلاَهُمَا، عَنْ سُلَيْمٍ. قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا سُلَيْمُ بْنُ أَخْضَرَ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ: حَدّثَنَا نَافِعٌ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ فِي النّفَلِ: لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ وَلِلرّجُلِ سَهْماً.
حدّثناه ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ. وَلَمْ يَذْكُرْ: فِي النّفَلِ.
قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم في النفل للفرس سهمين) هكذا هو في أكثر الروايات للفرس سهمين وللرجل سهماً، وفي بعضها للفرس سهمين وللراجل سهماً بالألف في الراجل وفي بعضها للفارس سهمين، والمراد بالنفل هنا الغنيمة، وأطلق عليها اسم النفل لكونها تسمى نفلاً لغة، فإن النفل في اللغة الزيادة والعطية وهذه عطية من الله تعالى فإنها أحلت لهذه الأمة دون غيرها. واختلف العلماء في سهم الفارس والراجل من الغنيمة فقال الجمهور: يكون للراجل سهم واحد وللفارس ثلاثة أسهم سهمان بسبب فرسه وسهم بسبب نفسه. ممن قال بهذا ابن عباس ومجاهد والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز ومالك والأوزاعي والثوري والليث والشافعي وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وابن جرير وآخرون. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان فقط سهم لها وسهم له. قالوا: ولم يقل بقوله هذا أحد إلا ما روي عن علي وأبي موسى وحجة الجمهور هذا الحديث، وهو صريح على رواية من روى للفرس سهمين وللرجل سهماً بغير ألف في الرجل وهي رواية الأكثرين، ومن روى وللراجل روايته محتملة فيتعين حملها على موافقة الأولى جمعاً بين الروايتين، قال أصحابنا وغيرهم: ويرفع هذا إِلاحتمال ما ورد مفسراً في غير هذه الرواية في حديث ابن عمر هذا من رواية أبي معاوية وعبد الله بن نمير وأبي أسامة وغيرهم بإسنادهم عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم لرجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه، ومثله من رواية ابن عباس وأبي عمرة الأنصاري رضي الله عنه والله أعلم ولو حضر بأفراس لم يسهم إلا لفرس واحد، هذا مذهب الجمهور منهم الحسن ومالك وأبو حنيفة والشافعي ومحمد بن الحسن رضي الله عنهم. وقال الأوزاعي والثوري والليث وأبو يوسف رضي الله عنهم: يسهم لفرسين. ويروى مثله أيضاً عن الحسن ومكحول ويحيى الأنصاري وابن وهب وغيره من المالكين، قالوا: ولم يقل أحدأنه يسهم لأكثر من فرسين إلا شيئاً روي عن سليمان بن موسى أنه يسهم والله أعلم
*2* باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر، وإباحة الغنائم
*حدّثنا هَنّادُ بْنُ السّرِيّ: حَدّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمّارٍ: حَدّثَنِي سِمَاكٌ الْحَنَفِيّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ. قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ. ح وَحَدّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ (وَاللّفْظُ لَهُ): حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيّ: حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ. حَدّثَنِي أَبُو زُمَيْلٍ (هُوَ سِمَاكٌ الْحَنَفِيّ): حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبّاسٍ قَالَ: حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ، نَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلَىَ الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلاَثُمِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلاً، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْقِبْلَةَ، ثُمّ مَدّ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ: "اللّهُمّ! أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللّهُمّ! آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللّهُمّ! إنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ مِنْ أَهْلِ الإِسْلاَمِ لاَ تُعْبَدْ فِي الأَرْضِ" فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبّهِ، مَادّاً يَدَيْهِ، مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتّىَ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَلْقَاهُ عَلَىَ مَنْكِبَيْهِ. ثُمّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ. وَقَالَ: يَا نَبِيّ اللّهِ كَذَاكَ مُنَاشَدَتَكَ رَبّكَ، فَإنّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ. فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنّي مُمِدّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ مُرْدِفِينَ}. (8 الأنفال الاَية: 9) فَأَمَدّهُ اللّهُ بِالْمَلاَئِكَةِ.
قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: فَحَدّثَنِي ابْنُ عَبّاسٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسّوْطِ فَوْقَهُ، وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ. فَنَظَرَ إلَىَ الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرّ مُسْتَلْقِياً. فَنَظَرَ إلَيْهِ فَإذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقّ وَجْهُهُ كَضَرْبَةِ السّوْطِ، فَاخْضَرّ ذَلِكَ أَجْمَعُ. فَجَاءَ الأَنْصَارِيّ فَحَدّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "صَدَقْتَ. ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السّمَاءِ الثّالِثَةِ" فَقَتَلُوا يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ، وَأَسَرُوا سَبْعِينَ.
قَالَ أَبُو زُمَيْلٍ: قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: فَلَمّا أَسَرُوا الأُسَارَىَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: "مَا تَرَوْنَ فِي هَؤُلاَءِ الأُسَارَىَ؟" فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا نَبِيّ اللّهِ هُمْ بَنُو الْعَمّ وَالْعَشِيرَةِ، أَرَىَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُمْ فِدْيَةً، فَتَكُونُ لَنَا قُوّةً عَلَى الْكُفّارِ، فَعَسَىَ اللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمْ لِلإِسْلاَمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا تَرَىَ؟ يَا ابْنَ الْخَطّابِ!" قُلْتُ: لاَ. وَاللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ! مَا أَرَى الّذِي رَأَىَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَكِنّي أَرَىَ أَنْ تُمَكّنّا فَنَضْرِبَ أَعْنَاقَهُمْ، فَتُمَكّنَ عَلِيّاً مِنْ عَقِيلٍ فَيَضْرِبَ عُنُقَهُ، وَتُمَكّنّي مِنْ فُلاَنٍ (نَسِيباً لِعُمَرَ) فَأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَإنّ هَؤُلاَءِ أَئِمّةُ الْكُفْرِ وَصَنَادِيدُهَا. فَهَوِيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَلَمْ يَهْوَ مَا قُلْتُ. فَلَمّا كَانَ مِنَ الْغَدِ جِئْتُ فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ قَاعِدَيْنِ يَبْكِيَانِ. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَخْبِرْنِي مِنْ أَيّ شَيْءٍ تَبْكِي أَنْتَ وَصَاحِبُكَ، فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ بُكَاءً تَبَاكَيْتُ لِبُكَائِكُمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَبْكِي لِلّذِي عَرَضَ عَلَيّ أَصْحَابُكَ مِنْ أَخْذِهِمُ الْفِدَاءَ. لَقَدْ عُرِضَ عَلَيّ عَذَابُهُمْ أَدْنَىَ منْ هَذِهِ الشّجَرَةِ" (شَجَرَةٍ قَرِيبَةٍ مِنْ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم) وَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {مَا كَانَ لِنَبِيّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتّىَ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ}. إِلَىَ قوله: {فَكُلُوا مِمّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيّباً} (8 الأنفال الاَيات: ) فَأَحَلّ اللّهُ الْغَنِيمَةَ لَهُمْ.
قوله: (لما كان يوم بدر) اعلم أن بدراً هو موضع الغزوة العظمى المشهورة وهو ماء معروف وقرية عامرة على نحو أربع مراحل من المدينة بينها وبين مكة. قال ابن قتيبة: بدر بئر كانت لرجل يسمى بدراً فسميت باسمه. قال أبو اليقظان: كانت لرجل من بني غفار، وكانت غزوة بدر يوم الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة. وروى الحافظ أبو القاسم بإسناده في تاريخ دمشق فيه ضعفاء أنها كانت يوم الاثنين، قال الحافظ: والمحفوظ أنها كانت يوم الجمعة، وثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أن يوم بدر كان يوماً حاراً. قوله: (فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه اللهم انجز لي ما وعدتني) أما يهتف فبفتح أوله وكسر التاء المثناة فوق بعد الهاء ومعناه يصيح ويستغيث بالله بالدعاء، وفيه استحباب استقبال القبلة في الدعاء ورفع اليدين فيه، وأنه لا بأس برفع الصوت في الدعاء. قوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض" ضبطوه تهلك بفتح التاء وضمها، فعلى الأول ترفع العصابة على أنها فاعل، وعلى الثاني تنصب وتكون مفعولة والعصابة الجماعة. قوله: (كذاك مناشدتك ربك) المناشدة السؤال مأخوذة من النشيد وهو رفع الصوت هكذا وقع لجماهير رواة مسلم كذاك بالذال ولبعضهم كفاك بالفاء. وفي رواية البخاري: "حسبك مناشدتك ربك" وكل بمعنى، وضبطوا مناشدتك بالرفع والنصب وهو الأشهر. قال القاضي: من رفعه جعله فاعلاً بكفاك، ومن نصبه فعلى المفعول بما في حسبك وكفاك وكذاك من معنى الفعل من الكف. قال العلماء: هذه المناشدة إنما فعلها النبي صلى الله عليه وسلم ليراه أصحابه بتلك الحال فتقوى قلوبهم بدعائه وتضرعه مع أن الدعاء عبادة، وقد كان وعده الله تعالى إحدى الطائفتين أما العير وأما الجيش وكانت العير قد ذهبت وفاتت فكان على ثقة من حصول الأخرى ولكن سأل تعجيل ذلك وتنجيزه من غير أذى يلحق المسلمين قوله تعالى: {إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين} أي معينكم والإمداد الإعانة ومردفين متتابعين وقيل غير ذلك. قوله: (أقدم حيزوم) هو بحاء مهملة مفتوحة ثم مثناة تحت ساكنة ثم زاي مضمومة ثم واو ثم ميم، قال القاضي: وقع في رواية العذري حيزون بالنون والصواب الأول وهو المعروف لسائر الرواة والمحفوظ وهو اسم فرس الملك وهو منادى بحذف حرف النداء أي يا حيزوم، وأما أقدم فضبطوه بوجهين أصحهما وأشهرهما ولم يذكر ابن دريد وكثيرون أو الأكثرون غيره أنه بهمزة قطع مفتوحة وبكسر الدال من الإقدام قالوا وهي كلمة زجر للفرس معلومة في كلامهم. والثاني بضم الدال وبهمزة وصل مضمومة من التقدم. قوله: (فإذا هو قد خطم أنفه) الخطم الأثر على الأنف وهو بالخاء المعجمة. قوله: (هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها) يعني أشرافها الواحد صنديد بكسر الصاد والضمير في صناديدها يعود على أئمة الكفر أو مكة. قوله: (فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر) هو بكسر الواو أي أحب ذلك واستحسنه يقال هوي الشيء بكسر الواو يهوي بفتحها هوى والهوى المحبة. قوله: ولم يهو ما قلت هكذا هو في بعض النسخ ولم يهو وفي كثير منها ولم يهوى بالياء وهي لغة قليلة بإثبات الياء مع الجازم، ومنه قراءة من قرأ أنه من يتقى ويصبر بالياء، ومنه قول الشاعر: ألم يأتيك والأنباء تنمي. وقوله تعالى: {حتى يثخن في الأرض} أي يكثر القتل والقهر في العدو.
*2* باب ربط الأسير وحبسه، وجواز المنّ عليه
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلاً قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ، سَيّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ، فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَاذَا عِنْدَكَ؟ يَا ثُمَامَةُ"! فَقَالَ: عِنْدِي، يَا مُحَمّدُ! خَيْرٌ إنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ. وَإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَىَ شَاكِرٍ. وَإنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. حَتّىَ كَانَ بَعْدَ الْغَدِ. فَقَالَ: "مَا عِنْدَكَ؟ يَا ثُمَامَةُ!" قَالَ: مَا قُلْتُ لَكَ. إنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَىَ شَاكِرٍ. وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ. فَتَرَكَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَتّىَ كَانَ مِنَ الْغَدِ. فَقَالَ: "مَاذَا عِنْدَكَ؟ يَا ثُمَامَةُ!" فَقَالَ: عِنْدِي مَا قُلْتُ لَكَ، إنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ عَلَىَ شَاكِرٍ، وَإِنْ تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذَا دَمٍ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْمَالَ فَسَلْ تُعْطَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ" فَانْطَلَقَ إلَىَ نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ. فَاغْتَسَلَ. ثُمّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاّ اللّهُ وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. يَا مُحَمّدُ! وَاللّهِ مَا كَانَ عَلَى الأَرْضِ وَجْهٌ أَبْغَضَ إِلَيّ مِنْ وَجْهِكَ، فَقَدْ أَصْبَحَ وَجْهُكَ أَحَبّ الْوُجُوهِ كُلّهَا إلَيّ، وَاللّهِ مَا كَانَ مِنْ دِينٍ أَبْغَضَ إِلَيّ مِنْ دِينِكَ، فَأَصْبَحَ دِينُكَ أَحَبّ الدّينِ كُلّهِ إلَيّ، وَاللّهِ مَا كَانَ مِنْ بَلَدٍ أَبْغَضَ إلَيّ مِنْ بَلَدِكَ، فَأَصْبَحَ بَلَدُكَ أَحَبّ الْبِلاَدِ كُلّهَا إِلَيّ، وَإنّ خَيْلَكَ أَخَذَتْنِي وَأَنَا أُرِيدُ الْعُمْرَةَ، فَمَاذَا تَرَىَ؟ فَبَشّرَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْتَمِرَ. فَلَمّا قَدِمَ مَكّةَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ: أَصَبَوْتَ؟ فَقَالَ: لاَ. وَلَكِنّي أَسْلَمْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلاَ، وَاللّهِ! لاَ يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَامَةِ حَبّةُ حِنْطَةٍ حَتّىَ يَأْذَنَ فِيهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ: حَدّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيّ: حَدّثَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيّ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْلاً لَهُ نَحْوَ أَرْضِ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ الْحَنَفِيّ. سَيّدُ أَهْلِ الْيَمَامَةِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمِثْلِ حَدِيثِ اللّيْثِ، إلاّ أَنّهُ قَالَ: إنْ تَقْتُلْنِي تَقْتُلْ ذَا دَمٍ.
قوله: (فجاء رجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد) أما أثال فبضم الهمزة وبثاء مثلثة وهو مصروف، وفي هذا جواز ربط الأسير وحبسه وجواز إدخال المسجد الكافر، ومذهب الشافعي جوازه بإذن مسلم سواء كان الكافر كتابياً أو غيره، وقال عمر بن عبد العزيز وقتادة ومالك: لا يجوز، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجوز لكتابي دون غيره ودليلنا على الجميع هذا الحديث. وأما قوله تعالى: {إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام} فهو خاص بالحرم ونحن نقول لا يجوز إدخاله الحرم والله أعلم. قوله: (إن تقتل تقتل ذا دم) اختلفوا في معناه فقال القاضي عياض في المشارق وأشار إليه في شرح مسلم معناه إن تقتل صاحب دم لدمه موقع يشتفي بقتله قاتله ويدرك قاتله به ثأره أي لرياسته وفضيلته وحذف هذا لأنهم يفهمونه في عرفهم. وقال آخرون معناه تقتل من عليه دم ومطلوب به وهو مستحق عليه فلا عتب عليك في قتله. ورواه بعضهم في سنن أبي داود وغيره ذا ذم بالذال المعجمة وتشديد الميم أي ذا ذمام وحرمة في قومه ومن إذا عقد ذمة وفي بها. قال القاضي: هذه الرواية ضعيفة لأنها تقلب المعنى فإن من له حرمة لا يستوجب القتل. قلت: ويمكن تصحيحها على معنى التفسير الأول أي تقتل رجلاً جليلاً يحتفل قاتله بقتله، بخلاف ما إذا قتل ضعيفاً مهيناً فإنه لا فضيلة في قتله ولا يدرك به قاتله ثأره. قوله صلى الله عليه وسلم: "أطلقوا ثمامة" فيه جواز المن على الأسير وهو مذهبنا ومذهب الجمهور. قوله: (فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل) قال أصحابنا: إذا أراد الكافر الإسلام بادر به ولا يؤخره للاغتسال ولا يحل لأحد أن يأذن له في تأخيره بل يبادر به ثم يغتسل، ومذهبنا أن اغتساله واجب إن كان عليه جنابة في الشرك سواء كان اغتسل منها أم لا. وقال بعض أصحابنا: إن كان اغتسل أجزأه وإلا وجب. وقال بعض أصحابنا وبعض المالكية: لا غسل عليه ويسقط حكم الجنابة بالإسلام كما تسقط الذنوب، وضعفوا هذا بالوضوء فإن يلزمه بالإجماع ولا يقال يسقط أثر الحدث بالإسلام هذا كله إذا كان أجنب في الكفر، أما إذا لم يجنب أصلاً ثم أسلم فالغسل مستحب له وليس بواجب هذا مذهبنا ومذهب مالك وآخرين. وقال أحمد وآخرون: يلزمه الغسل. قوله: (فانطلق إلى نخل قريب من المسجد) هكذا هو في البخاري ومسلم وغيرهما نخل بالخاء المعجمة وتقديره انطلق إلى نخل فيه ماء فاغتسل منه. قال القاضي: قال بعضهم صوابه نجل بالجيم وهو الماء القليل المنبعث وقيل الجاري. قلت: بل الصواب الأول لأن الروايات صحت به ولم يروا إلا هكذا وهو صحيح ولا يجوز العدول عنه. قوله صلى الله عليه وسلم: "ما عندك يا ثمامة" وكرر ذلك ثلاثة أيام. هذا من تأليف القلوب وملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأشراف الذين يتبعهم على إسلامهم خلق كثير. قوله: (وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر) يعني بشره بما حصل له من الخير العظيم بالإسلام وأن الإسلام يهدم ما كان قبله وأما أمره بالعمرة فاستحباب لأن العمرة مستحبة في كل وقت لا سيما من هذا الشريف المطاع إذا أسلم وجاء مراغماً لأهل مكة فطاف وسعى وأظهر إسلامه. وأغاظهم بذلك والله أعلم. قوله: (قال له قائل أصبوت) هكذا هو في الأصول أصبوت وهي لغة، والمشهور أصبأت بالهمز، وعلى الأول جاء قولهم الصباة كقاض وقضاة. قوله في حديث ابن المثنى: (إلا أنه قال إن تقتلني تقتل ذا دم) هكذا في النسخ المحققة إن تقتلني بالنون والياء في آخرها وفي بعضها بحذفها وهو فاسد لأنه يكون حينئذ مثل الأول فلا يصح استثناؤه
*2* باب إجلاء اليهود من الحجاز
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّهُ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ فِي الْمَسْجِدِ، إذْ خَرَجَ إلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "انْطَلِقُوا إِلَىَ يَهُودَ" فَخَرَجْنَا مَعَهُ، حَتّىَ جِئْنَاهُمْ. فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَنَادَاهُمْ. فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ يَهُودَ أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا". فَقَالُوا: قَدْ بَلّغْتَ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ! فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ أُرِيدُ، أَسْلِمُوا تَسْلَمُوا" فَقَالُوا: قَدْ بَلّغْتَ، يَا أَبَا الْقَاسِمِ! فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَلِكَ أُرِيدُ" فَقَالَ لَهُمُ الثّالِثَةَ. فَقَالَ: "اعْلَمُوا أَنّمَا الأَرْضُ لِلّهِ وَرَسُولِهِ، وَأَنّي أُرِيدُ أَنْ أُجْلِيَكُمْ مِنْ هَذِهِ الأَرْضِ فَمَنْ وَجَدَ مِنْكُمْ بِمَالِهِ شَيْئاً فَلْيَبِعْهُ، وَإِلاّ فَاعْلَمُوا أَنّ الأَرْضَ لِلّهِ وَرَسُولِهِ".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ (قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا. وَقَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ). أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوسَىَ بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ يَهُودَ بَنِي النّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ حَارَبُوا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَجْلَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَنِي النّضِيرِ، وَأَقَرّ قُرَيْظَةَ وَمَنّ عَلَيْهِمْ، حَتّىَ حَارَبَتْ قُرَيْظَةُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَقَتَلَ رِجَالَهُمْ، وَقَسَمَ نِسَاءَهُمْ وَأَوْلاَدَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ. إلاّ أَنّ بَعْضَهُمْ لَحِقُوا بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَآمَنَهُمْ وَأَسْلَمُوا. وَأَجْلَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَهُودَ الْمَدِينَةِ كُلّهُمْ: بَنِي قَيْنُقَاعَ (وَهُمْ قَوْمُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَلاَمٍ). وَيَهُودَ بَنِي حَارِثَةَ، وَكُلّ يَهُودِي كَانَ بِالْمَدِينَةِ.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ مُوسَىَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، هَذَا الْحَدِيثَ. وَحَدِيثُ ابْنُ جُرَيْجٍ أَكْثَرُ وَأَتَمّ.
قوله صلى الله عليه وسلم لليهود: "أسلموا تسلموا، فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذلك أريد" معناه أريد أن تعترفوا أني بلغت. وفي هذا الحديث استحباب تجنيس الكلام وهو من بديع الكلام وأنواع الفصاحة. وأما إخراجه صلى الله عليه وسلم اليهود من المدينة فقد سبق بيانه واضحاً في آخر كتاب الوصايا. قوله صلى الله عليه وسلم: "الأرض لله ورسوله" معناه ملكها والحكم فيها، وإنما قال لهم هذا لأنهم حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ذكره ابن عمر في روايته التي ذكرها مسلم بعد هذه.
قوله: (عن ابن عمر أن يهود بني النضير وقريظة حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم وقسم نساؤهم وأولادهم وأموالهم بين المسلمين) في هذا أن المعاهد والذمي إذا نقض العهد صار حربياً وجرت عليه أحكام أهل الحرب، وللإمام سبي من أراد منهم وله المن على من أراد، وفيه أنه إذا من عليه ثم ظهرت منه محاربة انتقض عهده، وإنما ينفع المن فيما مضى لا فيما يستقبل وكانت قريظة في أمان ثم حاربوا النبي صلى الله عليه وسلم ونقضوا العهد وظاهروا قريشاً على قتال النبي صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً} إلى آخر الاَية الأخرى. قوله: (يهود بني قينقاع) هو بفتح القاف ويقال بضم النون وفتحها وكسرها ثلاث لغات مشهورات
*2* باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب
*وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا الضّحّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ (وَاللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ : أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لأُخْرِجَنّ الْيَهُودَ وَالنّصَارَىَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، حَتّىَ لاَ أَدَعَ إِلاّ مُسْلِماً".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ الثّوْرِيّ. ح وَحَدّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ: حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ: حَدّثَنَا مَعْقِلٌ (وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللّهِ)، كِلاَهُمَا، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.
*2* باب جواز قتال من نقض العهد، وجواز إنزال أهل الحصن على حكم حاكم عدل أهل للحكم
*وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ ابْنُ بَشّارٍ (وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ) (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدّثَنَا غُنْدَرٌ، عَنْ شُعْبَةَ. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ) عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا أُمَامَةَ بْنَ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: نَزَلَ أَهْلُ قُرَيْظَةَ عَلَىَ حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلَىَ سَعْدٍ. فَأَتَاهُ عَلَىَ حِمَارٍ. فَلَمّا دَنَا قَرِيباً مِنَ الْمَسْجِدِ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِلأَنْصَارِ: "قُومُوا إِلَىَ سَيّدِكُمْ" (أَوْ خَيْرِكُمْ). ثُمّ قَالَ: "إنّ هَؤُلاَءِ نَزَلُوا عَلَىَ حُكْمِكَ" قَالَ: تَقْتُلُ مُقَاتِلَتَهُمْ، وَتَسْبِي ذُرّيّتَهُمْ. قَالَ: فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "قَضَيْتَ بِحُكْمِ اللّهِ" وَرُبّمَا قَالَ: "قَضَيْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ" وَلَمْ يَذْكُرِ ابْنُ الْمُثَنّىَ: وَرُبّمَا قَالَ: "قَضَيْتَ بِحُكْمِ الْمَلِك".
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ، عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللّهِ". وَقَالَ مَرّةً: "لَقَدْ حَكَمْتَ بِحُكْمِ الْمَلِكِ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ الْهَمْدَانِيّ، كِلاَهُمَا، عَنِ ابْنِ نُمَيْرٍ. قَالَ ابْنُ الْعَلاَءِ: حَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ، رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ، رَمَاهُ فِي الأَكْحَلِ. فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ يَعُودُهُ مِنْ قَرِيبٍ. فَلَمّا رَجَعَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْخَنْدَقِ، وَضَعَ السّلاَحَ، فَاغْتَسَلَ، فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ يَنْفُضُ رَأْسَهُ مِنَ الْغُبَارِ. فَقَالَ: وَضَعْتَ السّلاَحَ؟ وَاللّهِ مَا وَضَعْنَاهُ، اخْرُجْ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَأَيْنَ؟" فَأَشَارَ إلَىَ بَنِي قُرَيْظَةَ، فَقَاتَلَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَنَزَلُوا عَلَى حُكْمِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَرَدّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْحُكْمَ فِيهِمْ إِلَىَ سَعْدٍ. قَالَ: فَإنّي أَحْكُمُ فِيهِمْ أَنْ تُقْتَلَ الْمُقَاتِلَةُ، وَأَنْ تُسْبَى الذّرّيّةُ وَالنّسَاءُ، وَتُقْسَمَ أَمْوَالُهُمْ.
وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ: حَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا هِشَامٌ قَالَ: قَالَ أَبِي: فَأُخْبِرْتُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ".
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ: حَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ: أَخْبَرَنِي أَبِي، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ سَعْدَاً قَالَ، وَتَحَجّرَ كَلْمُهُ لِلْبُرْءِ، فَقَالَ: اللّهُمّ! إِنّكَ تَعْلَمُ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبّ إلَيّ أَنْ أُجَاهِدَ فِيكَ، مِنْ قَوْمٍ كَذّبُوا رَسُولَكَ صلى الله عليه وسلم وَأَخْرَجُوهُ. اللّهُمّ! فَإِنْ كَانَ بَقِيَ مِنْ حَرْبِ قُرَيْشٍ شَيءٌ فَأَبْقِنِي أُجَاهِدْهُمْ فِيكَ، اللّهُمّ! فَإِنّي أَظُنّ أَنّكَ قَدْ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ، فَإنْ كُنْتَ وَضَعْتَ الْحَرْبَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فَافْجُرْهَا وَاجْعَلْ مَوْتِي فِيهَا، فَانْفَجَرَتْ مِنْ لَبّتِهِ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ (وَفِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ خَيْمَةٌ مِنْ بَنِي غِفَارٍ) إِلاّ وَالدّمُ يَسِيلُ إلَيْهِمْ. فَقَالُوا: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ مَا هَذَا الّذِي يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ فَإِذَا سَعْدٌ جُرْحُهُ يَغِذّ دَماً. فَمَاتَ مِنْهَا.
وحدّثنا عَلِيّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ سُلَيْمَانَ الْكُوفِيّ: حَدّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ هِشَامٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: فَانْفَجَرَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَمَا زَالَ يَسِيلُ حَتّىَ مَاتَ. وَزَادَ فِي الحَدِيثِ قَالَ: فَذَاكَ حِينَ يَقُولُ الشّاعِرُ:
أَلاّ يَا سَعْدُ سَعْدَ بَنِي مُعَاذٍفَمَا فَعَلَتْ قُرَيْظَةُ وَالنّضِيرُ لَعَمْرُكَ إِنّ سَعْدَ بَنِي مُعَاذٍ غَدَاةَ تَحَمّلُوا لَهُوَ الصّبُورُ تَرَكْتُمْ قِدْرَكُمْ لاَ شَيء فِيهَا وَقِدْرُ الْقَوْمِ حَامِيَةٌ تَفُورُ وَقَدْ قَالَ الْكَرِيمُ أَبُو حُبَابٍأَ قِيمُوا، قَيْنُقَاعُ، وَلاَ تَسِيرُوا وَقَدْ كَانُوا بِبَلْدَتِهِمْ ثِقَالاًكَمَا ثَقُلَتْ بِمَيْطَانُ الصّخُورُ
قوله: (نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ) فيه جواز التحكيم في أمور المسلمين وفي مهماتهم العظام، وقد أجمع العلماء عليه ولم يخالف فيه إلا الخوارج فإنهم أنكروا على علي التحكيم وأقام الحجة عليهم، وفيه جواز مصالحة أهل قرية أو حصن على حكم حاكم مسلم عدل صالح للحكم أمين على هذا الأمر وعليه الحكم بما فيه مصلحة للمسلمين وإذا حكم بشيء لزم حكمه، ولا يجوز للإمام ولا لهم الرجوع عنه ولهم الرجوع قبل الحكم والله أعلم. قوله: (فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتاه على حمار فلما دنا قريباً من المسجد) قال القاضي عياض: قال بعضهم: قوله دنا من المسجد كذا هو في البخاري ومسلم من رواية شعبة أراه وهماً إن كان أراد مسجد النبي صلى الله عليه وسلم لأن سعد بن معاذ جاء منه فإنه كان فيه كما صرح به في الرواية الثانية، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم حين أرسل إلى سعد نازلاً على بني قريظة ومن هناك أرسل إلى سعد ليأتيه، فإن كان الراوي أراد مسجداً اختطه النبي صلى الله عليه وسلم هناك كان يصلي فيه مدة مقامه لم يكن وهماً، قال: والصحيح ما جاء في غير صحيح مسلم، قال: فلما دنا من النبي صلى الله عليه وسلم أو فلما طلع على النبي صلى الله عليه وسلم، كذا وقع في كتاب ابن أبي شيبة وسنن أبي داود، فيحتمل أن المسجد تصحيف من لفظ الراوي والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "قوموا إلى سيدكم أو خيركم" فيه إكرام أهل الفضل وتلقيهم بالقيام لهم إذا أقبلوا، هكذا احتج به جماهير العلماء لاستحباب القيام. قال القاضي: وليس هذا من القيام المنهي عنه وإنما ذلك فيمن يقومون عليه وهو جالس ويمثلون قياماً طول جلوسه. قلت: القيام للقادم من أهل الفضل مستحب وقد جاء فيه أحاديث ولم يصح في النهي عنه شيء صريح، وقد جمعت كل ذلك مع كلام العلماء عليه في جزء وأجبت فيه عما توهم النهي عنه والله أعلم. قال القاضي: واختلفوا في الذين عناهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: قوموا إلى سيدكم هل هم الأنصار خاصة أم جميع من حضر من المهاجرين معهم. قوله صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ: "إن هؤلاء نزلوا على حكمك". وفي الرواية الأخرى قال: (فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد) قال القاضي: يجمع بين الروايتين بأنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرضوا برد الحكم إلى سعد فنسب إليه، قال: والأشهر أن الأوس طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم العفو عنهم لأنهم كانوا حلفاءهم فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: أما ترضون أن يحكم فيهم رجل منكم يعني من الأوس يرضيهم بذلك فرضوا به فرده إلى سعد بن معاذ الأوسي. قوله: (وسبى ذريتهم) سبق أن الذرية تطلق على النساء والصبيان معاً. قوله صلى الله عليه وسلم: "لقد حكمت بحكم الملك" الرواية المشهور الملك بكسر اللام وهو الله سبحانه وتعالى، وتؤيدها الروايات التي قال فيها: لقد حكمت فيهم بحكم الله. قال القاضي: روينا في صحيح مسلم بكسر اللام بغير خلاف، قال: وضبطه بعضهم في صحيح البخاري بكسرها وفتحها، فإن صح الفتح فالمراد به جبريل عليه السلام وتقديره بالحكم الذي جاء به الملك عن الله تعالى.
قوله: (رماه رجل من قريش يقال له ابن العرقة) هو بعين مهملة مفتوحة ومكسورة ثم قاف، قال القاضي: قال أبو عبيد هي أمه، قال ابن الكلبي: اسم هذا الرجل حبان بكسر الحاء بن أبي قيس بن علقمة بن عبد مناف بن الحارث بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب، قال: واسم العرقة قلابة بقاف مكسورة وباء موحدة بنت سعد بن سهل بن عبد مناف بن الحارث، وسميت بالعرقة لطيب ريحها وكنيتها أم فاطمة والله أعلم. قوله: (رماه في الأكحل) قال العلماء: هو عرق معروف، قال الخليل: إذا قطع في اليد لم يرقأ الدم وهو عرق الحياة في كل عضو منه شعبة له اسم. قوله: (فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة في المسجد) فيه جواز النوم في المسجد وجواز مكث المريض فيه وإن كان جريحاً. قوله: (أن سعداً تحجر كلمه للبرء) الكلم بفتح الكاف الجرح وتحجر أي يبس. قوله: (فإن كنت وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجرها واجعل موتي فيها) هذا ليس من تمني الموت المنهي عنه لأن ذلك فيمن تمناه لضر نزل به، وهذا إنما تمناه انفجارها ليكون شهيداً. قوله: (فانفجرت من لبته) هكذا هو في أكثر الأصول المعتمدة لبته بفتح اللام وبعدها باء موحدة مشددة مفتوحة وهي النحر، وفي بعض الأصول من ليته بكسر اللام وبعدها ياء مثناة من تحت ساكنة والليث صفحة العنق وفي بعضها من ليلته، قال القاضي: قالوا وهو الصواب كما اتفقوا عليه في الرواية التي بعد هذه. قوله: (فلم يرعهم) أي لم يفجأهم ويأتيهم بغتة. قوله: (فإذا سعد جرحه يغذ دماً) هكذا هو في معظم الأصول المعتمدة يغذ بكسر الغين المعجمة وتشديد الذال المعجمة أيضاً، ونقله القاضي عن جمهور الرواة، وفي بعضها يغذ بإسكان الغين وضم الذال المعجمة وكلاهما صحيح ومعناه يسيل، يقال غذ الجرح يغذ إذا دام سيلانه، وغذا يغذو سال كما قال في الرواية الأخرى فما زال يسيل حتى مات. قوله في الشعر:
ألا يا سعد سعد بني معاذفما فعلت قريظة والنضير
هكذا في معظم النسخ، وكذا حكاه القاضي عن المعظم، وفي بعضها لما فعلت باللام بدل الفاء وقال وهو الصواب والمعروف في السير. قوله:
تركتم قدركم لا شيء فيهاوقدر القوم حامية تفور
هذا مثل لعدم الناصر، وأراد بقوله تركتم قدركم الأوس لقلة حلفائهم فإن حلفاءهم قريظة وقد قتلوا، وأراد بقوله وقدر القوم حامية تفور الخروج لشفاعتهم في حلفائهم بني قينقاع حتى من عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وتركهم بعبد الله بن أبي سلول وهو أبو حياب المذكور في البيت الاَخر. قوله: (كما ثقلت بميطان الصخور) هو اسم جبل من أرض أجاز في ديار بني مزينة وهو بفتح الميم على المشهور، وقال أبو عبيد البكري وجماعة: هو بكسرها وبعدها ياء مثناة تحت وآخره نون هذا هو الصحيح المشهور، ووقع في بعض نسخ مسلم بميطار بالراء، قال القاضي: وفي رواية ابن ماهان بحيطان بالحاء مكان الميم والصواب الأول، قال: وإنما قصد هذا الشاعر تحريض سعد على استبقاء بني قريظة حلفائه ويلومه على حكمه فيهم ويذكره بفعل عبد الله بن أبي ويمدحه بشفاعته في حلفائهم بني قينقاع
*2* باب المبادرة بالغزو، وتقديم أهم الأمرين المتعارضين
*وحدّثني عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضّبَعِيّ: حَدّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: نَادَىَ فِينَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ انْصَرَفَ عَنِ الأَحْزَابِ "أَنْ لاَ يُصَلّيَنّ أَحَدٌ الظّهْرَ إلاّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ" فَتَخَوّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ، فَصَلّوْا دُونَ بَنِي قُرَيْظَةَ. وَقَالَ آخَرُونَ: لاَ نُصَلّي إلاّ حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَإنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ. قَالَ: فَمَا عَنّفَ وَاحِداً مِنَ الْفَرِيقَيْنِ.
قوله: (نادى فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم انصرف عن الأحزاب: أن لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة فتخوف ناس فوت الوقت فصلوا دون بني قريظة وقال آخرون: لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن فاتنا الوقت فما عنف واحداً من الفريقين) هكذا رواه مسلم لا يصلين أحد الظهر، ورواه البخاري في باب صلاة الخوف من رواية ابن عمر أيضاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا لما رجع من الأحزاب: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة فأدر بعضهم العصر في الطريق وقال بعضهم لا نصلي حتى نأتيها وقال بعضهم بل نصلي ولم يرد ذلك منا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فلم يعنف واحداً منهم" أما جميعهم بين الروايتين في كونها الظهر والعصر فمحمول على أن هذا الأمر كان بعد دخول وقت الظهر، وقد صلى الظهر بالمدينة بعضهم دون بعض، فقيل للذين لم يصلوا الظهر: لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة، وللذين صلوا بالمدينة لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة، ويحتمل أنه قيل للجميع: ولا تصلوا العصر ولا الظهر إلا في بني قريظة، ويحتمل أنه قيل للذين ذهبوا أولا: لا تصلوا الظهر إلا في بني قريظة، وللذين ذهبوا بعضهم لا تصلوا العصر إلا في بني قريظة والله أعلم وأما اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في المبادرة بالصلاة عند ضيق وقتها وتأخيرها فسببه أن أدلة الشرع تعارضت عندهم بأن الصلاة مأمور بها في الوقت، مع أن المفهوم من قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلين أحد الظهر أو العصر إلا في بني قريظة المبادرة بالذهاب إليهم وأن لا يشتغل عنه بشيء، لا أن تأخير الصلاة مقصود في نفسه من حيث أنه تأخير، فأخذ بعض الصحابة بهذا المفهوم نظراً إلى المعنى لا إلى اللفظ، فصلوا حين خافوا فوت الوقت وأخذ آخرون بظاهر اللفظ وحقيقته فأخروها، ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من الفريقين لأنهم مجتهدون، ففيه دلالة لمن يقول بالمفهوم والقياس ومراعاة المعنى ولمن يقول بالظاهر أيضاً، وفيه أنه لا يعنف المجتهد فيما فعله باجتهاده إذا بذل وسعه في إِلاجتهاد، وقد يستدل به على أن كل مجتهد مصيب وللقائل الاَخر أن يقول لم يصرح بإصابة الطائفتين بل ترك تعنيفهم، ولا خلاف في ترك تعنيف المجتهد وإن أخطأ إذا بذل وسعه في الاجتهاد والله أعلم
*2* باب ردّ المهاجرين إلى الأنصار منائحهم من الشجر والثمر حين استغنوا عنها بالفتوح
*وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ، مِنْ مَكّةَ، الْمَدِينَةَ قَدِمُوا وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ، وَكَانَ الأَنْصَارُ أَهْلَ الأَرْضِ وَالْعَقَارِ، فَقَاسَمَهُمُ الأَنْصَارُ عَلَىَ أَنْ أَعْطَوْهُمْ أَنْصَافَ ثِمَارِ أَمْوَالِهِمْ، كُلّ عَامٍ، وَيَكْفُونَهُمُ الْعَمَلَ وَالْمَؤُونَةَ، وَكَانَتْ أُمّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَهْيَ تُدْعَىَ أُمّ سُلَيْمَ، وَكَانَتْ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، كَانَ أَخاً لأَنَسٍ لأُمّهِ، وَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمّ أَنَسٍ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عِذَاقاً لَهَا. فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أُمّ أَيْمَنَ، مَوْلاَتَهُ، أُمّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَمّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ خَيْبَرَ، وَانْصَرَفَ إلَىَ الْمَدِينةِ. رَدّ الْمُهَاجِرُونَ إلَىَ الأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمُ الّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ. قَالَ: فَرَدّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلَىَ أُمّي عِذَاقَهَا، وَأَعْطَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أُمّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنّ مِنْ حَائِطِهِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أُمّ أَيْمَنَ، أُمّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنّهَا كَانَتْ وَصِيَفَةً لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَكَانَتْ مِنَ الْحَبَشَةِ. فَلَمّا وَلَدَتْ آمِنَةُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، بَعْدَمَا تُوُفّيَ أَبُوهُ، فَكَانَتْ أُمّ أَيْمَنَ تَحْضُنُهُ، حَتّىَ كَبِرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَعْتَقَهَا، ثُمّ أَنْكَحَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ، ثُمّ تُوُفّيَتْ بَعْدَ مَا تُوُفّيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكْرَاوِيّ وَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيّ، كُلّهُمْ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ (وَاللّفْظِ لاِبْنِ أَبِي شَيْبَةَ): حَدّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَجُلاً (وَقَالَ حَامِدٌ وَابْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ: أَنّ الرّجُلَ) كَانَ يَجْعَلُ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم النّخَلاَتِ مِنْ أَرْضِهِ، حَتّىَ فُتِحَتْ عَلَيْهِ قُرَيْظَةُ وَالنّضِيرُ، فَجَعَلَ، بَعْدَ ذَلِكَ، يَرُدّ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَعْطَاهُ.
قَالَ أَنَسٌ: وَإِنّ أَهْلِي أَمَرُونِي أَنْ آتِيَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَأَسْأَلَهُ مَا كَانَ أَهْلُهُ أَعْطَوْهُ أَوْ بَعْضَهُ. وَكَانَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَعْطَاهُ أُمّ أَيْمَنَ، فَأَتَيْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَأَعْطَانِيهِنّ. فَجَاءَتْ أُمّ أَيْمَنَ فَجَعَلَتِ الثّوْبَ فِي عُنُقِي وَقَالَتْ: وَاللّهِ لاَ نُعْطِيكَاهُنّ وَقَدْ أَعْطَانِيهِنّ. فَقَالَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أُمّ أَيْمَنَ اتْرُكِيهِ وَلَكِ كَذَا وَكَذَا". وَتَقُولُ: كَلاّ. وَالّذِي لاَ إلَهَ إلاّ هُوَ فَجَعَلَ يَقُولُ كَذَا حَتّىَ أَعْطَاهَا عَشْرَةَ أَمْثَالِهِ، أَوْ قَرِيباً مِنْ عَشْرَةِ أَمْثَالِهِ.
قوله: (لما قدم المهاجرون من مكة المدينة قدموا وليس بأيديهم شيء وكان الأنصار أهل الأرض والعقار، فقاسمهم الأنصار على أن أعطوهم أنصاف ثمار أموالهم كل عام ويكفوهم العمل والمؤنة، ثم ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من قتال أهل خيبر وانصرف إلى المدينة رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم) قال العلماء: لما قدم المهاجرون آثرهم الأنصار بمنائح من أشجارهم فمنهم من قبلها منيحة محضة، ومنهم من قبلها بشرط أن يعمل في الشجر والأرض وله نصف الثمار ولم تطب نفسه أن يقبلها منيحة محضة هذا لشرف نفوسهم وكراهتهم أن يكونوا كلا وكان هذا مساقاه، وفي معنى المساقاة فلما فتحت عليهم خيبر استغنى المهاجرون بأنصبائهم فيها عن تلك المنائح فردوها إلى الأنصار، ففيه فضيلة ظاهرة للأنصار في مواساتهم وإيثارهم وما كانوا عليه من حب الإسلام وإكرام أهله وأخلاقهم الجميلة ونفوسهم الطاهرة، وقد شهد الله تعالى لهم بذلك فقال تعالى: {والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم} الاَية. قوله: (وكان الأنصار أهل الأرض والعقار) أراد بالعقار هنا النخل، قال الزجاج: العقار كل ماله أصل، قال: وقيل أن النخل خاصة يقال له العقار. قوله: (وكانت أعطت أم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم عذاقاً لها) هو بكسر العين جمع عذق بفتحها وهي النخلة ككلب وكلاب وبئر وبئار. قوله: (فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم أيمن) هذا دليل لما قدمنا عن العلماء أنه لم يكن كل ما أعطت الأنصار على المساقاة بل كان فيه ما هو منيحة ومواساة وهذا منه، وهو محمول على أنها أعطته صلى الله عليه وسلم ثمارها يفعل فيها ما شاء من أكله بنفسه وعياله وضيفه وإيثاره بذلك لمن شاء فلهذا آثر بها أم أيمن، ولو كانت إباحة له خاصة لما أباحها لغيره، لأن المباح له بنفسه لا يجوز له أن يبيح ذلك الشيء لغيره، بخلاف الموهوب له نفس رقية الشيء فإنه يتصرف فيه كيف شاء. قوله: (رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم) هذا دليل على أنها كانت منائح ثمار أي إباحة للثمار لا تمليك لأرقاب النخل فإنها لو كانت هبة لرقبة النخل لم يرجعوا فيها، فإن الرجوع في الهباة بعد القبض لا يجوز، وإنما كانت إباحة كما ذكرنا، والإباحة يجوز الرجوع فيها متى شاء، ومع هذا لم يرجعوا فيها حتى اتسعت الحال على المهاجرين بفتح خيبر واستغنوا عنها فردوها على الأنصار فقبلوها، وقد جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم ذلك. قوله: (قال ابن شهاب وكان من شأن أم أيمن أم أسامة بن زيد أنها كانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب وكانت من الحبشة) هذا تصريح من ابن شهاب أن أم أيمن أم أسامة بن زيد حبشية، وكذا قاله الواقدي وغيره، ويؤيده ما ذكره بعض المؤرخين أنها كانت من سبي الحبشة أصحاب الفيل، وقيل أنها لم تكن حبشية وإنما الحبشية امرأة أخرى، واسم أم أيمن التي هي أم أسامة بركة كنيت بابنها أيمن بن عبيد الحبشي صحابي استشهد يوم خيبر، قاله الشافعي وغيره، وقد سبق ذكر قطعة من أحوال أم أيمن في باب القافة. قوله في قصة أم أيمن: أنها امتنعت من رد تلك المنائح حتى عوضها عشرة أمثاله. إنما فعلت هذا لأنها ظنت أنها كانت هبة مؤبدة وتمليكاً لأصل الرقبة وأراد النبي صلى الله عليه وسلم استطابة قلبها في استرداد ذلك، فما زال يزيدها في العوض حتى رضىت، وكل هذا تبرع منه صلى الله عليه وسلم وإكرام لها لما لها من حق الحضانة والتربية. قوله: (والله لا نعطيكاهن) هكذا هو في معظم النسخ نعطيكاهن بالألف بعد الكاف وهو صحيح، فكأنه أشبع فتحة الكاف فتولدت منها ألف، وفي بعض النسخ: والله ما نعطاكهن، وفي بعضها لا نعطيكهن والله أعلم
*2* باب جواز الأكل من طعام الغنيمة في دار الحرب
* حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ: حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ (يَعْنِي ابْنَ الْمُغِيرَةِ): حَدّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُغَفّلٍ قَالَ: أَصَبْتُ جِرَاباً مِنْ شَحْمٍ، يَوْمَ خَيْبَرَ. قَالَ: فَالْتَزَمْتُهُ. فَقُلْتُ: لاَ أُعْطِي الْيَوْمَ أَحَداً مِنْ هَذَا شَيْئاً. قَالَ: فَالْتَفَتّ فَإذَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مُتَبَسّماً.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ الْعَبْدِيّ: حَدّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ: حَدّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ هِلاَلٍ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مُغَفّلٍ يَقُولُ: رُمِيَ إلَيْنَا جِرَابٌ فِيهِ طَعَامٌ وَشَحْمٌ، يَوْمَ خَيْبَرَ، فَوَثَبْتُ لاَِخُذَهُ. قَالَ: فَالْتَفَتّ فَإذَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَاسْتَحْيَيْتُ مِنْهُ.
وحدّثناه مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الإِسْنَادِ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ، وَلَمْ يَذْكُرِ الطّعَامَ.
فيه حديث عبد الله بن مغفل (أنه أصاب جراباً من شحم يوم خيبر) وفي رواية قال: (رمي إلينا جراب فيه طعام وشحم). أما الجراب فبكسر الجيم وفتحها لغتان الكسر أفصح وأشهر وهو وعاء من جلد، وفي هذا إباحة أكل طعام الغنيمة في دار الحرب. قال القاضي: أجمع العلماء على جواز أكل طعام الحربيين ما دام المسلمون في دار الحرب فيأكلون منه قدر حاجتهم، ويجوز بإذن الإمام وبغير إذنه، ولم يشترط أحد من العلماء استئذانه إلا الزهري وجمهورهم على أنه لا يجوز أن يخرج معه منه شيئاً إلى عمارة دار الإسلام، فإن أخرجه لزمه رده إلى المغنم، وقال الأوزاعي لا يلزمه، وأجمعوا على أنه لا يجوز بيع شيء منه في دار الحرب ولا غيرها، فإن بيع منه شيء لغير الغانمين كان بدله غنيمته، ويجوز أن يركب دوابهم ويلبس ثيابهم ويستعمل سلاحهم في حال الحرب بالإجماع ولا يفتقر إلى إذن الإمام، وشرط الأوزاعي إذنه وخالف الباقين، وفي هذا الحديث دليل لجواز أكل شحوم ذبائح اليهود وإن كانت شحومها محرمة عليهم وهو مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وجماهير العلماء. قال الشافعي وأبو حنيفة والجمهور: لا كراهة فيها. وقال مالك: هي مكروهة. وقال أشهب وابن القاسم المالكيان وبعض أصحاب أحمد: هي محرمة. وحكي هذا عن مالك. واحتج الشافعي والجمهور بقوله تعالى: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} قال المفسرون: المراد به الذبائح ولم يستثن منها شيئاً لا لحماً ولا شحماً ولا غيره، وفيه حل ذبائح أهل الكتاب وهو مجمع عليه ولم يخالف إلا الشيعة، ومذهبنا ومذهب الجمهور إباحتها سواء سموا الله تعالى عليها أم لا. وقال قوم: لا يحل إلا أن يسموا الله تعالى. فأما إذا ذبحوا على اسم المسيح أو كنيسة ونحوها فلا تحل تلك الذبيحة عندنا وبه قال جماهير العلماء والله أعلم. قوله: (فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستحببت منه) يعني لما رآه من حرصه على أخذه أو لقوله لا أعطي اليوم أحداً من هذا شيئاً والله أعلم.
*2* باب كتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام
* حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ وَ مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ رَافِعٍ) (قَالَ ابْنُ رَافِعٍ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدّثَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ) أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ أَبَا سُفْيَانَ أَخْبَرَهُ، مِنْ فِيهِ إِلَىَ فِيهِ. قَالَ: انْطَلَقْتُ فِي الْمُدّةِ الّتِي كَانَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَبَيْنَا أَنَا بِالشّأْمِ، إِذْ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلَىَ هِرَقْلَ. يَعْنِي عَظِيمَ الرّومِ. قَالَ: وَكَانَ دِحْيَةُ الْكَلْبِيّ جَاءَ بِهِ. فَدَفَعَهُ إلَىَ عَظِيمِ بُصْرَىَ. فَدَفَعَهُ عَظِيمُ بُصْرَىَ إلَىَ هِرَقْلَ. فَقَالَ هِرَقْلُ: هَلْ هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ قَوْمِ هَذَا الرّجُلِ الّذِي يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَدُعِيتُ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَدَخَلْنَا عَلَىَ هِرَقْلَ، فَأَجْلَسَنَا بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ: أَيّكُمْ أَقْرَبُ نَسَباً مِنْ هَذَا الرّجُلِ الّذِي يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: فَقُلْتُ: أَنَا، فَأَجْلَسُونِي بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَجْلَسُوا أَصْحَابِي خَلْفِي، ثُمّ دَعَا بِتَرْجُمَانِهِ فَقَالَ لهُ: قُلْ لَهُمْ: إنّي سَائِلٌ هَذَا عَنِ الرّجُلِ الّذِي يَزْعُمُ أَنّهُ نَبِيّ، فَإنْ كَذَبَنِي فَكَذّبُوهُ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: وَايْمُ اللّهِ! لَوْلاَ مَخَافَةُ أَنْ يُؤْثَرَ عَلَيّ الْكَذِبُ لَكَذَبْتُ. ثُمّ قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: سَلْهُ، كَيْفَ حَسَبُهُ فِيكُمْ؟ قَالَ قُلْتُ: هُوَ فِينَا ذُو حَسَبٍ. قَالَ: فَهَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ كُنْتُمْ تَتّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: وَمَنْ يَتّبِعُهُ؟ أَشْرَافُ النّاسِ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ. قَالَ: أَيَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ؟ قَالَ قُلْتُ: لاَ. بَلْ يَزِيدُونَ. قَالَ: هَلْ يَرْتَدّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ، بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، سَخْطَةً لَهُ؟ قَالَ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَهَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَكَيْفَ كَانَ قِتَالُكُمْ إِيّاهُ؟ قَالَ قُلْتُ: تَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ سِجَالاً، يُصِيبُ مِنّا وَنُصِيبُ مِنْهُ. قَالَ: فَهَلْ يَغْدِرُ؟ قُلْتُ: لاَ. وَنَحْنُ مِنْهُ فِي مُدّةٍ لاَ نَدْرِي مَا هُوَ صَانِعٌ فِيهَا.
قَالَ: فَوَاللّهِ مَا أَمْكَنَنِي مِنْ كَلِمَةٍ أُدْخِلُ فِيهَا شَيْئاً غَيْرَ هَذِهِ.
قَالَ: فَهَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ قَالَ قُلْتُ: لاَ. قَالَ لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُ: إنّي سَأَلْتُكَ عَنْ حَسَبِهِ فَزَعَمْتَ أَنّهُ فِيكُمْ ذُو حَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرّسُلُ تُبْعَثُ فِي أَحْسَابِ قَوْمِهَا. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مَلِكٌ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ. فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ قُلْتُ رَجُلٌ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ. وَسَأَلْتُكَ عَنْ أَتْبَاعِهِ، أَضُعَفَاؤُهُمْ أَمْ أَشْرَافُهُمْ؟ فَقُلْتَ: بَلْ ضُعَفَاؤُهُمْ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرّسُلِ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ. فَقَدْ عَرَفْتُ أَنّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الْكَذِبَ عَلَى النّاسِ ثُمّ يَذْهَبَ فَيَكْذِبَ عَلَى اللّهِ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَرْتَدّ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَهُ سَخْطَةً لَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ. وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ إذَا خَالَطَ بَشَاشَةَ الْقُلُوبِ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ؟ فَزَعَمْتَ أَنّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتّىَ يَتِمّ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَاتَلْتُمُوهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنّكُمْ قَدْ قَاتَلْتُمُوهُ. فَتَكُونُ الْحَرْبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ سِجَالاً، يَنَالُ مِنْكُمْ وَتَنَالُونَ مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الرّسُلُ تُبْتَلَىَ ثُمّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَغْدِرُ؟ فَزَعَمْتَ أَنّهُ لاَ يَغْدِرُ، وَكَذَلِكَ الرّسُلُ لاَ تَغْدِرُ. وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ؟ فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ. فَقُلْتُ: لَوْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ أَحَدٌ قَبْلَهُ، قُلْتُ رَجُلٌ ائْتَمّ بِقَوْلٍ قِيلَ قَبْلَهُ. قَالَ: ثُمّ قَالَ: بِمَ يَأْمُرُكُمْ؟ قُلْتُ: يَأْمُرُنَا بِالصّلاَةِ وَالزّكَاةِ وَالصّلَةِ وَالْعَفَافِ. قَالَ: إنْ يَكُنْ مَا تَقُولُ فِيهِ حَقّاً، فَإِنّهُ نَبِيّ. وَقَدْ كُنْتُ أَعْلَمُ أَنّهُ خَارِجٌ، وَلَمْ أَكُنْ أَظُنّهُ مِنْكُمْ، وَلَوْ أَنّي أَعْلَمُ أَنّي أَخْلُصُ إِلَيْهِ، لأَحْبَبْتُ لِقَاءَهُ، وَلَوْ كُنْتُ عِنْدَهُ لَغَسَلْتُ عَنْ قَدَمَيْهِ، وَلَيَبْلُغَنّ مُلْكُهُ مَا تَحْتَ قَدَمَيّ.
قَالَ: ثُمّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَهُ، فَإذَا فِيهِ: "بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ إلَىَ هِرَقْلَ عَظِيمِ الرّومِ. سَلاَمٌ عَلَىَ مَنِ اتّبَعَ الْهُدَىَ، أَمّا بَعْدُ، فَإنّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الإِسْلاَمِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللّهِ أَجْرَكَ مَرّتَيْنِ. وَإنْ تَوَلّيْتَ فَإِنّ عَلَيْكَ إثْمَ الأَرِيسِيّينَ. {وَيَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىَ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لاَ نَعْبُدَ إِلاّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللّهِ فَإِنْ تَوَلّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ} (3 آل عمران الاَية: ). فَلَمّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَةِ الْكِتَابِ ارْتَفَعَتِ الأَصْوَاتُ عِنْدَهُ وَكَثُرَ اللّغْطُ، وَأَمَرَ بِنَا فَأُخْرِجْنَا. قَالَ: فَقُلْتُ لأَصْحَابِي حِينَ خَرَجْنَا: لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ. إنّهُ لَيَخَافُهُ مَلِكُ بَنِي الأَصْفَرِ.
قَالَ: فَمَا زِلْتُ مُوقِناً بِأَمْرِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ سَيَظْهَرُ، حَتّىَ أَدْخَلَ اللّهُ عَلَيّ الإِسْلاَمَ.
وحدّثناه حَسَنٌ الْحُلْوَانِيّ وَ عبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالاَ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ): حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: وَكَانَ قَيْصَرُ لَمّا كَشَفَ اللّهُ عَنْهُ جُنُودَ فَارِسَ مَشَىَ مِنْ حِمْصَ إلَىَ إيلِيَاءَ. شُكْراً لِمَا أَبْلاَهُ اللّهِ. وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: "مِنْ مُحَمّدٍ عَبْدِ اللّهِ وَرَسُولِهِ". وَقَالَ: "إثْمَ الْيَرِيسِيّينَ". وَقَالَ: "بِدَاعِيَةِ الإِسْلاَمِ".
قوله: (هرقل) بكسر الهاء وفتح الراء وإسكان القاف هذا هو المشهور، ويقال هرقك بكسر الهاء وإسكان الراء وكسر القاف حكاه الجوهري في صحاحه وهو اسم علم له ولقبه قصير، وكذا كل من ملك الروم يقال له قصير. قوله: (عن أبي سفيان انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم) يعني الصلح يوم الحديبية وكانت الحديبية في أواخر سنة ست من الهجرة. قوله: (دحية الكلبية) هو بكسر الدال وفتحها لغتان مشهورتان اختلف في الراجحة منهما وادعى ابن السكيت أنه بالكسر لا غير وأبو حاتم السجستاني أنه بالفتح لا غير. قوله: (عظيم بصري) هي بضم الباء وهي مدينة حوران ذات قلعة وأعمال قريبة من طرف البرية التي بين الشام والحجاز، والمراد بعظيم بصرى أميرها. قوله عن هرقل: (أنه سأل أيهم أقرب نسباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسأله عنه) قال العلماء: إنما سأل قريب النسب لأنه أعلم بحاله وأبعد من أن يكذب في نسبه وغيره، ثم أكد ذلك فقال لأصحابه إن كذبني فكذبوه أي لا تستحيوا منه فتسكتوا عن تكذيبه إن كذب. قوله: (وأجلسوا أصحابي خلفي) قال بعض العلماء: إنما فعل ذلك ليكون عليهم أهون في تكذيبه إن كذب لأن مقابلته بالكذب في وجهه صعبة بخلاف ما إذا لم يستقبله. قوله: (دعا بترجمانه) هو بضم التاء وفتحها والفتح أفصح وهو المعبر عن لغة بلغة أخرى والتاء فيه أصلية، وأنكروا على الجوهري كونه جعلها زائدة. قوله: (لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت) معناه لولا خفت أن رفقتي ينقلون عني الكذب إلى قومي ويتحدثونه في بلادي لكذبت عليه لبغضي إياه ومحبتي نقصه، وفي هذا بيان أن الكذب قبيح في الجاهلية كما هو قبيح في الإسلام. ووقع في رواية البخاري: "لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه" وهو بضم الثاء وكسرها وقوله: (كيف حسبه فيكم) أي نسبه. قوله: (فهل كان من آبائه ملك) هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم، ووقع في صحيح البخاري: "فهل كان في آبائه من مالك" وروي هذا اللفظ على وجهين: أحدهما من بكسر الميم وملك بفتحها مع كسر اللام. والثاني من بفتح الميم وملك بفتحها على أنه فعل ماضي وكلاهما صحيح والأول أشهر وأصح وتؤيده رواية مسلم بحذف من. قوله: (وممن يتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم) يعني بأشرافهم كبارهم وأهل الأحساب فيهم. قوله: (سخطة له) هو بفتح السين والسخط كراهة الشيء وعدم الرضى به. قوله: (يكون الحرب بيننا وبينه سجالاً) هو بكسر السين أي نوباً نوبة لنا ونوبة له، قالوا: وأصله من المستقيين بالسجل وهي الدلو الملأى يكون لكل واحد منهما سجل. قوله: (فهل يغدر) يعني مدة الهدنة والصلح الذي جرى يوم الحديبية. قوله: (وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها) يعني في أفضل أنسابهم وأشرفها، قيل الحكمة في ذلك أنه أبعد من انتحاله الباطل وأقرب إلى انقياد الناس له. وأما قوله: أن الضعفاء هم أتباع الرسل فلكون الأشراف يأنفون من تقدم مثلهم عليهم، والضعفاء لا يأنفون فيسرعون إلى الإنقياد واتباع الحق. وأما سؤاله عن الردة فلأن من دخل على بصيرة في أمر محقق لا يرجع عنه بخلاف من دخل في أباطيل. وأما سؤاله عن الغدر فلأن من طلب حظ الدنيا لا يبالي بالغدر وغيره مما يتوصل به إلى ذلك، ومن طلب الاَخرة لم يرتكب غدراً ولا غيره من القبائح. قوله: (وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب) يعني انشراح الصدور وأصلها اللطف بالإنسان عند قدومه وإظهار السرور برؤيته، يقال: بش به وتبشبش . قوله: (وكذلك الرسل تبتلى ثم تكون لهم العاقبة) معناه يبتليهم الله بذلك ليعظم أجرهم بكثرة صبرهم وبذلهم وسعيهم في طاعة الله تعالى. قوله: (قلت يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف) أما الصلة فصلة الأرحام وكل ما أمر الله به أن يوصل وذلك بالبر والإكرام وحسن المراعاة، وأما العفاف الكف عن المحارم وخوارم المروءة. قال صاحب المحكم: العفة الكف عما لا يحل ولا يحمل، يقال: عف يعف عفة وعفافاً وعفافة وتعفف واستعف ورجل عف وعفيف والأنثى عفيفة وجمع العفيف أعفة وأعفاء. قوله: (إن يكن ما يقول حقاً أنه نبي) قال العلماء: هذا الذي قاله هرقل أخذه من الكتب القديمة، ففي التوراة هذا أو نحوه من علامات رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفه بالعلامات. وأما الدليل القاطع على النبوة فهو المعجزة الظاهرة الخارقة للعادة، فهكذا قاله المازري والله أعلم. قوله: (ولو أعلم أني أخلص إليه لأحببت لقاءه). هكذا هو في مسلم، ووقع في البخاري لتجشمت لقاءه وهو أصح في المعنى، ومعناه لتكلفت الوصول إليه وارتكبت المشقة في ذلك ولكن أخاف أن أقتطع دونه، ولا عذر له في هذا لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شح في الملك ورغب في الرياسة فآثرها على الإسلام، وقد جاء ذلك مصرحاً به في صحيح البخاري، ولو أراد الله هدايته لوفقه كما وفق النجاشي وما زالت عنه الرياسة ونسأل الله توفيقه.
قوله: "ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم وأَسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" الاَية، في هذا الكتاب جمل من القواعد وأنواع من الفوائد: منها دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم وهذا الدعاء واجب والقتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم دعوة الإسلام وإن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب هذا مذهبنا، وفيه خلاف للسلف سبق بيانه في أول كتاب الجهاد. ومنها وجوب العمل بخبر الواحد وإلا فلم يكن في بعثه مع دحية فائدة وهذا إجماع من يعتد به ومنها استحباب تصدير الكتاب ببسم الله الرحمن الرحيم وإن كان المبعوث إليه كافراً. ومنها أن قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الاَخر: قوله: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجزم" المراد بالحمد لله ذكر الله تعالى، وقد جاء في رواية بذكر الله تعالى، وهذا الكتاب كان ذا بال بل من المهمات العظام وبدأ فيه بالبسملة دون الحمد. ومنها أنه يجوز أن يسافر إلى أرض العدو بالاَية والاَيتين ونحوهما وأن يبعث بذلك إلى الكفار، وإنما نهى عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو أي بكله أو يجملة منه، وذلك أيضاً محمول على ما إذا خيف وقوعه في أيدي الكفار. ومنها أنه يجوز للمحدث والكافر مس آية أو آيات يسيرة مع غير القرآن. ومنها أن السنة في المكاتبة والرسائل بين الناس أن يبدأ الكاتب بنفسه فيقول من زيد إلى عمرو، وهذه مسألة مختلف فيها، قال الإمام أبو جعفر في كتابه صناعة الكتاب: قال أكثر العلماء: يستحب أن يبدأ بنفسه كما ذكرنا، ثم روى فيه أحاديث كثيرة وآثاراً قال: وهذا هو الصحيح عند أكثر العلماء لأنه إجماع الصحابة، قال: وسواء في هذا تصدير الكتاب والعنوان، قال: ورخص جماعة في أن يبدأ بالمكتوب إليه فيقول في التصدير والعنوان إلى فلان من فلان، ثم روي بإسناده أن زيد بن ثابت كتب إلى معاوية فبدأ باسم معاوية، وعن محمد بن الحنفية وبكر بن عبد الله وأيوب السختياني أنه لا بأس بذلك، قال: وأما العنوان فالصواب أن يكتب عليه إلا فلان ولا يكتب لفلان لأنه إليه لا له إلا على مجاز، قال: هذا هو الصواب الذي عليه أكثر العلماء من الصحابة والتابعين. ومنها التوقي في المكاتبة واستعمال الورع فيها فلا يفرط ولا يفرط ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: إلى هرقل عظيم الروم، فلم يقل ملك الروم لأنه لا ملك له ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام، ولا سلطان لأحد إلا لمن ولاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو ولاه من أذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط، وإنما ينفذ من تصرفات الكفار ما تنفذه الضرورة، ولم يقل إلى هرقل فقط بل أتى بنوع من الملاطفة فقال عظيم الروم أي الذي يعظمونه ويقدمونه، وقد أمر الله تعالى بإِلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام فقال تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة} وقال تعالى: {فقولا له قولاً ليناً} وغير ذلك. ومنها استحباب البلاغة والإيجاز وتحري الألفاظ الجزلة في المكاتبة فإن قوله صلى الله عليه وسلم: أسلم تسلم في نهاية من إِلاختصار وغاية من الإيجاز والبلاغة وجمع المعاني مع ما فيه من بديع التجنيس وشموله لسلامته من خزي الدنيا بالحرب والسبي والقتل وأخذ الديار والأموال ومن عذاب الاَخرة. ومنها أن من أدرك من أهل الكتاب نبينا صلى الله عليه وسلم فآمن به فله أجران كما صرح به هنا. وفي الحديث الاَخر في الصحيح: "ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين منهم رجل من أهل الكتاب" الحديث، ومنها البيان الواضح أن من كان سبباً لضلالة أو سبب منع من هداية كان آثماً لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين" ومن هذا المعنى قول الله تعالى: {وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم}. ومنها استحباب أما بعد في الخطب والمكاتبات، وقد ترجم البخاري لهذه باباً في كتاب الجمعة ذكر فيه أحاديث كثيرة. قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين" هكذا وقع في هذه الرواية الأولى في مسلم الأريسيين وهو الأشهر في روايات الحديث وفي كتب أهل اللغة، وعلى هذا اختلف في ضبطه على أوجه: أحدها بياءين بعد السين. والثاني بياء واحدة بعد السين، وعلى هذين الوجهين الهمزة مفتوحة والراء مكسورة مخففة.
والثالث الأريسيين بكسر الهمزة وتشديد الراء وبياء واحدة بعد السين، ووقع في الرواية الثانية في مسلم وفي أول صحيح البخاري إثم اليريسيين بياء مفتوحة في أوله وبياءين بعد السين، واختلفوا في المراد بهم على أقوال أصحها وأشهرها أنهم الأكارون أي الفلاحون والزراعون، ومعناه أن عليك إثم رعاياك الذين يتبعونك وينقادون بانقيادك، ونبه بهؤلاء على جميع الرعايا لأنهم الأغلب ولأنهم أسرع انقياءاً، فإذا أسلم أسلموا وإذا امتنع امتنعوا وهذا القول هو الصحيح، وقد جاء مصرحاً به في رواية رويناها في كتاب دلائل النبوة للبيهقي وفي غيره: "فإن عليك إثم الأكارين" وفي رواية ذكرها أبو عبيد في كتاب الأموال وإلا فلا يحل بين الفلاحين وبين الإسلام. وفي رواية ابن وهب: وإثمهم عليك، قال أبو عبيد: ليس المراد بالفلاحين الزراعين خاصة بل المراد بهم جميع أهل مملكته. الثاني أنهم اليهود والنصارى وهم أتباع عبد الله بن أريس الذي تنسب إليه الأروسية من النصارى وهم أتباع عبد الله بن أريس الذي تنسب إليه الْاروسية من النصارى ولهم مقالة في كتب المقالات ويقال لهم الأروسيون. الثالث أنهم الملوك الذين يقودون الناس إلى المذاهب الفاسدة ويأمرونهم بها. قوله صلى الله عليه وسلم: "أدعوك بدعاية الإسلام" وهو بكسر الدال أي بدعوته وهي كلمة التوحيد. وقال في الرواية الأخرى التي ذكرها مسلم بعد هذا: "أدعوك بداعية الإسلام" وهو بمعنى الأولى ومعناه الكلامة الداعية إلى الإسلام. قال القاضي: ويجوز أن تكون داعية هنا بمعنى دعوة كما في قوله تعالى: {ليس لها من دون الله كاشفة} أي كشف. قوله صلى الله عليه وسلم: "سلام على من اتبع الهدى" هذا دليل لمن يقول: لا يبتدأ الكافر بالسلام، وفي المسألة خلاف فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه وأكثر العلماء أنه لا يجوز للمسلم أن يبتدئ كافراً بالسلام وأجازه كثيرون من السلف، وهذا مردود بالأحاديث الصحيحة في النهي عن ذلك وستأتي في موضعها إن شاء الله تعالى، وجوزه آخرون لاستئلاف أو لحاجة إليه أو نحو ذلك. قوله: (وكثر اللغط) هو بفتح الغين وإسكانها وهي الأصوات المختلفة. قوله: (لقد أمر أمر ابن أبي كبشة) أما أمر فبفتح الهمزة وكسر الميم أي عظم. وأما قوله ابن أبي كبشة فقيل هو رجل من خزاعة كان يعبد الشعرى ولم يوافقه أحد من العرب في عبادتها فشبهوا النبي صلى الله عليه وسلم به لمخالفته إياهم في دينهم كما خالفهم أبو كبشة، روينا عن الزبير بن بكار في كتاب الأنساب قال: ليس مرادهم بذلك عيب النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرادوا بذلك مجرد التشبيه، وقيل: إن أبا كبشة جد النبي صلى الله عليه وسلم من قبل أمه. قال ابن قتيبة وكثيرون: وقيل هو أبوه من الرضاعة وهو الحارث بن عبد العزى السعدي حكاه ابن بطال وآخرون. وقال القاضي عياض: قال أبو الحسن الجرجاني التشابه إنما قالوا ابن أبي كبشة عداوة له صلى الله عليه وسلم فنسبوه إلى نسب له غير نسبه المشهور، إذ لم يمكنهم الطعن في نسبه المعلوم المشهور، قال: وقد كان وهب بن عبد مناف بن زهرة جده أبو آمنة يكنى أبا كبشة، وكذلك عمرو بن زيد بن أسد الأنصاري النجاري أبو سلمى أم عبد المطلب كان يدعى أبا كبشة، قال: وكان في أجداده أيضاً من قبل أمه أبو كبشة وهو أبو قبيلة أم وهب بن عبد مناف أبو آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم وهو خزاعي وهو الذي كان يعبد الشعرى، وكان أبوه من الرضاعة يدعى أبا كبشة وهو الحارث بن عبد العزى السعدي، قال القاضي: وقال مثل هذا كله محمد بن حبيب البغدادي، وزاد ابن ماكولا فقال وقيل أبو كبشة عم والد حليمة مرضعته صلى الله عليه وسلم. قوله: (إنه ليخافه ملك بني الأصفر) بنو الأصفر هم الروم قال ابن الأنباري: سموا به لأن جيشاً من الحبشة غلب على بلادهم في وقت فوطئ نساءهم فولدن أولاداً صفراً من سواد الحبشة وبياض الروم، وقال أبو إسحاق بن إبراهيم الحربي: نسبوا إلى الأصفر بن الروم بن عيصو بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم. قال القاضي: هذا أشبه من قول ابن الأنباري. قوله: (مشى من حمص إلى إيلياء شكراً لما أبلاه الله) أما حمص فغير مصروفة لأنها مؤنثة علم عجمية، وأما إيلياء فهو بيت المقدس وفيه ثلاث لغات أشهرها إيلياء بكسر الهمزة واللام وإسكان الياء بينهما وبالمد، والثانية كذلك إلا أنها بالقصر، والثالثة الياء بحذف الياء الأولى وإسكان اللام وبالمد حكاهن صاحب المطالع وآخرون، وفي رواية لأبي يعلى الموصلي في سند ابن عباس الإيلياء بالألف واللام، قال صاحب المطالع: قيل معناه بيت الله والله أعلم. وأما قوله شكراً لما أبلاه الله فمعناه شكراً لما أنعم الله به عليه وأناله إياه ويستعمل ذلك في الخير والشر، قال الله تعالى: {ونبلوكم بالشر والخير فتنة} والله أعلم
*2* باب كتب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى ملوك الكفار يدعوهم إلى اللّهِ عزّ وجل
*حدّثني يُوسُفُ بْنُ حَمّادٍ الْمَعْنِيّ: حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَىَ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَتَبَ إلَىَ كِسْرَىَ، وَإِلَىَ قَيْصَرَ، وَإلَى النّجَاشِي، وَإلَى كُلّ جَبّارٍ، يَدْعُوهُمْ إلَى اللّهِ تَعَالَىَ. وَلَيْسَ بِالنّجَاشِي الّذِي صَلّىَ عَلَيْهِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
وحدّثناه مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الرّزّيّ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ بْنُ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ. حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ. وَلَمْ يَقُلْ: وَلَيْسَ بِالنّجَاشِي الّذِي صَلّىَ عَلَيْهِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
وحدّثنيهِ نَصْرُ بْنُ عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ: أَخْبَرَنِي أَبِي: حَدّثَنِي خَالِدُ بْنُ قَيْسٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ وَلَمْ يَذْكُرْ: وَلَيْسَ بالنّجَاشِي الّذِي صَلّىَ عَلَيْهِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
قوله: (حدثني يوسف بن حماد المعني) هو بكسر النون وتشديد الياء منسوب إلى معن، وقال السمعاني: هو من ولد معن بن زائدة. قوله: (حدثني يوسف بن حماد المعني حدثنا عبد الأعلى عن سعيد عن قتادة عن أنس قال مسلم: وحدثنا محمد بن عبد الله الرازي حدثنا عبد الوهاب بن عطاء عن سعد بن قتادة حدثنا أنس قال مسلم حدثنيه نصر بن علي الجهضمي أخبرني خالد بن قيس عن قتادة عن أنس) هذه الأسانيد الثلاثة كلهم بصريون، ومحمد بن عبد الرازي بصري بغدادي ولا ينقض هذا ما ذكرته، وفي الإسناد الثاني تصريح قتادة بالسماع من أنس فزال ما يخاف من لبسه لو اقتصر على الطريق الأول. قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى وليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم) أما كسرى فبفتح الكاف وكسرها وهو لقب لكل من ملك من ملوك الفرس، وقيصر لقب من ملك الروم، والنجاشي لكل من ملك الحبشة، وخاقان لكل من ملك الترك، وفرعون لكل من ملك القبط، والعزيز لكل من ملك مصر، وتبع لكل من ملك حمير، وفي هذا الحديث جواز مكاتبة الكفار ودعاؤهم إلى الإسلام والعمل بالكتاب وبخبر الواحد والله أعلم.
*2* باب في غزوة حنين
*وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ: حَدّثَنِي كَثِيرُ بْنُ عَبّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ قَالَ: قَالَ عَبّاسٌ: شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ. فَلَزِمْتُ أَنَا وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ نُفَارِقْهُ، وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ بَغْلَةٍ لَهُ، بَيْضَاءَ، أَهْدَاهَا لَهُ فَرْوَةُ بْنُ نُفَاثَةَ الْجُذَامِيّ، فَلَمّا الْتَقَىَ الْمُسْلِمُونَ وَالْكُفّارُ، وَلّى الْمُسْلِمُونَ مُدْبِرِينَ، فَطَفِقَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ بَغْلَتَهُ قِبَلَ الْكُفّارِ. قَالَ عَبّاسٌ: وَأَنَا آخِذٌ بِلِجَامِ بَغْلَةِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. أَكُفّهَا إرَادَةَ أَنْ لاَ تُسْرِعَ، وَأَبُو سُفْيَانَ آخِذٌ بِرِكَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيْ عَبّاسُ! نَادِ أَصْحَابَ السّمُرَةِ". فَقَالَ عَبّاسٌ (وَكَانَ رَجُلاً صَيّتاً): فَقُلْتُ بِأَعْلَىَ صَوْتِي: أَيْنَ أَصْحَابُ السّمُرَةِ؟ قَالَ: فَوَاللّهِ لَكَأَنّ عَطْفَتَهُمْ، حِينَ سَمِعُوا صَوْتِي، عَطْفَةُ الْبَقَرِ عَلَىَ أَوْلاَدِهَا. فَقَالُوا: يَا لَبّيْكَ! يَا لَبّيْكَ! قَالَ: فَاقْتَتَلُوا وَالْكُفّارَ، وَالدّعْوَةُ فِي الأَنْصَارِ، يَقُولُونَ: يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ! قَالَ: ثُمّ قُصِرَتِ الدّعْوَةُ عَلَىَ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. فَقَالُوا: يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ! يَا بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ! فَنَظَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَىَ بَغْلَتِهِ، كَالْمُتَطَاوِلِ عَلَيْهَا، إلَىَ قِتَالِهِمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذَا حِينَ حَمِيَ الْوَطِيسُ". قَالَ: ثُمّ أَخَذَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَصَيَاتٍ فَرَمَىَ بِهِنّ وُجُوهَ الْكُفّارِ، ثُمّ قَالَ: "انْهَزَمُوا، وَرَبّ مُحَمّدٍ" قَالَ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ فَإذَا الْقِتَالُ عَلَىَ هَيْئَتِهِ فِيمَا أَرَىَ. قَالَ: فَوَاللّهِ مَا هُوَ إلاّ أَنْ رَمَاهُمْ بِحَصَيَاتِهِ، فَمَا زِلْتُ أَرَىَ حَدّهُمْ كَلِيلاً وَأَمْرَهُمْ مُدْبِراً.
وحدّثناه إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، جَمِيعاً، عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزّهْرِيّ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: فَرْوَةُ بْنُ نُعَامَةَ الْجُذَامِيّ. وَقَالَ "انْهَزَمُوا، وَرَبّ الْكَعْبَةِ! انْهَزَمُوا، وَرَبّ الْكَعْبَةِ!" وَزَادَ فِي الْحَدِيثِ: حَتّىَ هَزَمَهُمُ اللّهُ.
قَالَ: وَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَرْكُضُ خَلْفَهُمْ عَلَىَ بَغْلَتِهِ.
وحدّثناه ابْنُ أَبِي عُمَرَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزّهْرِيّ. قَالَ: أَخْبَرَنِي كَثِيرُ بْنُ الْعَبّاسِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ. غَيْرَ أَنّ حَدِيثَ يُونُسَ وَحَدِيثَ مَعْمَرٍ أَكْثَرُ مِنْهُ وَأَتَمّ.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِلْبَرَاءِ: يَا أَبَا عُمَارَةَ! أَفَرَرْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ قَالَ: لاَ، وَاللّهِ! مَا وَلّىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَكِنّهُ خَرَجَ شُبّانُ أَصْحَابِهِ وَأَخِفّاؤُهُمْ حُسّراً لَيْسَ عَلَيْهِمْ سِلاَحٌ، أَوْ كَثِيرُ سِلاَحٍ، فَلَقُوا قَوْماً رُمَاةً لاَ يَكَادُ يَسْقُطُ لَهُمْ سَهْمٌ. جَمْعُ هَوَازِنَ وَبَنِي نَصْرٍ. فَرَشَقُوهُمْ رَشْقاً مَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ، فَأَقْبَلُوا هُنَاكَ إلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ. وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ يَقُودُ بِهِ، فَنَزَلَ فَاسْتَنْصَرَ. وَقَالَ:
"أَنَا النّبِيّ لاَ كَذِبْأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ"
ثُمّ صَفّهُمْ.
حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصّيصِيّ: حَدّثَنَا عَيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ زَكَرِيّاءَ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى الْبَرَاءِ. فَقَالَ: أَكُنْتُمْ وَلّيْتُمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ يَا أَبَا عُمَارَةَ! فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَىَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَا وَلّىَ، وَلَكِنّهُ انْطَلَقَ أَخِفّاءُ مِنَ النّاسِ، وَحُسّرٌ إلَىَ هَذَا الْحَيّ مِنْ هَوَازِنَ، وَهُمْ قَوْمٌ رُمَاةٌ، فَرَمَوْهُمْ بِرِشْقٍ مِنْ نَبْلٍ، كَأَنّهَا رِجْلٌ مِنْ جَرَادٍ، فَانْكَشَفُوا. فَأَقْبَلَ الْقَوْمُ إلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ الْحَارِثِ يَقُودُ بِهِ بَغْلَتَهُ. فَنَزَلَ، وَدَعَا، وَاسْتَنْصَرَ، وَهُوَ يَقُولُ:
"أَنَا النّبِيّ لاَ أكَذِبْأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ"
اللّهُمّ نَزّلْ نَصْرَكَ".
قَالَ الْبَرَاءُ: كُنّا، وَاللّهِ إِذَا احْمَرّ الْبأْسُ نَتّقِيِ بِهِ، وَإِنّ الشّجَاعَ مِنّا لَلّذِي يُحَاذِي بِهِ، يَعْنِي النّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظِ لاِبْنِ الْمُثَنّى) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ: أَفَرَرْتُمْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ؟ فَقَالَ الْبَرَاءُ: وَلَكِنْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَفِرّ. وَكَانَتْ هَوَازِنُ يَوْمَئِذٍ رُمَاةً، وَإنّا لَمّا حَمَلْنَا عَلَيْهِمُ انْكَشَفُوا، فَأَكْبَبْنَا عَلَى الْغَنَائِمِ، فَاسْتَقْبَلُونَا بِالسّهَامِ. وَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ بَغْلَتِهِ الْبَيْضَاءِ. وَإنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ الْحَارِثِ آخِذٌ بِلِجَامِهَا، وَهُوَ يَقُولُ:
"أَنَا النّبِيّ لاَ كَذِبْأَنَا ابْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبْ"
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلاّدٍ قَالُوا: حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدّثَنِي أَبُو إِسْحَقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: قَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا عُمَارَةَ! فَذَكَرَ الْحَدِيثَ وَهُوَ أَقَلّ مِنْ حَدِيِثِهِمْ. وَهَؤُلاَءِ أَتَمّ حَدِيثاً.
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ الْحَنَفِيّ: حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ: حَدّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدّثَنِي أَبِي قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حُنَيْناً. فَلَمّا وَاجَهْنَا الْعَدُوّ تَقَدّمْتُ. فَأَعْلُو ثَنِيّةً. فَاسْتَقْبَلَنِي رَجُلٌ مِنَ الْعَدُوّ. فَأَرْمِيهِ بِسَهْمٍ. فَتَوَارَىَ عَنّي. فَمَا دَرَيْتُ مَا صَنَعَ. وَنَظَرْتُ إلَى الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ قَدْ طَلَعُوا مِنْ ثَنِيّةٍ أُخْرَىَ، فَالْتَقَوْا هُمْ وَصَحَابَةُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، فَوَلّىَ صَحَابَةُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وَأَرْجِعُ مُنْهَزِماً، وَعَلَيّ بُرْدَتَانِ، مُتّزِراً بِإحْدَاهُمَا، مُرْتَدِياً بِالأُخْرَىَ فَاسْتَطْلَقَ إزَارِي. فَجَمَعْتُهُمَا جَمِيعاً وَمَرَرْتُ، عَلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، مُنْهَزِماً وَهُوَ عَلَىَ بَغْلَتِهِ الشّهْبَاءِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ رَأَىَ ابْنُ الأَكْوَعِ فَزَعاً" فَلَمّا غَشُوا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَنِ الْبَغْلَةِ، ثُمّ قَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ مِنَ الأَرْضِ، ثُمّ اسْتَقْبَلَ بِهِ وُجُوهَهُمْ. فَقَالَ: "شَاهَتِ الْوُجُوهُ" فَمَا خَلَقَ اللّهِ مِنْهُمْ إنْساناً إلاّ مَلأَ عَيْنَيْهِ تُرَاباً، بِتِلْكَ الْقَبْضَةِ. فَوَلّوْا مُدْبِرِينَ، فَهَزَمَهُمُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ، وَقَسَمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم غَنَائِمَهُمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
حنين واد بين مكة والطائف وراء عرفات بينه وبين مكة بضعة عشر ميلاً وهو مصروف كما جاء به القرآن العزيز. قوله: (قال ابن عباس شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين فلزمت أنا وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم نفارقه) أبو سفيان هذا هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال جماعة من العلماء: اسمه هو كنيته، وقال آخرون: اسمه المغيرة وممن قاله هشام بن الكلبي وإبراهيم بن المنر والزبير بن بكار وغيرهم، وفي هذا عطف الأقارب بعضهم على بعض عند الشدائد وذب بعضهم عن بعض. قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء أهداها له فروة بن نفاثة الجذامي) أما قوله بغلة بيضاء فكذا قال في هذه الرواية، ورواية أخرى بعدها أنها بغلة بيضاء، وقال في آخر الباب: على بغلته الشهباء وهي واحدة، قال العلماء: لا يعرف له صلى الله عليه وسلم بغلة سواها وهي التي يقال لها دلال. وأما قوله: أهداها له فروة بن نفاثة فهو بنون مضمومة ثم فاء مخففة ثم ألف ثم ثاء مثلثة. وفي الرواية التي بعدها رواية إسحاق بن إبراهيم. قال فروة بن عامة بالعين والميم والصحيح المعروف الأول. قال القاضي: واختلفوا في إسلامه فقال الطبري: أسلم وعمر عمراً طويلاً، وقال غيرهم: لم يسلم. وفي صحيح البخاري: أن الذي أهداها له ملك أيلة، واسم ملك أيلة فيما ذكره ابن إسحاق يحنة بن روبة والله أعلم. فإن قيل: ففي هذا الحديث قبوله صلى الله عليه وسلم هدية الكافر. وفي الحديث الاَخر هدايا العمال غلول مع حديثي ابن اللتبية عامل الصدقات. وفي الحديث الاَخر أنه رد بعض هدايا المشركين وقال: إنا لا نقبل زيد المشركين أي رفدهم، فكيف يجمع بين هذه الأحاديث، قال القاضي رضي الله تعالى عنه: قال بعض العلماء إن هذه الأحاديث ناسخة لقبول الهدية، قال: وقال الجمهور لا نسخ بل سبب القبول أن النبي صلى الله عليه وسلم مخصوص بالفيء الحاصل بلا قتال بخلاف غيره فقبل النبي صلى الله عليه وسلم ممن طمع في إسلامه وتأليفه لمصلحة يرجوها للمسلمين وكافأ بعضه ورد هدية من لم يطمع في إسلامه ولم يكن في قبولها مصلحة لأن الهدية توجب المحبة والمودة. وأما غير النبي صلى الله عليه وسلم من العمال والولاة فلا يحل له قبولها لنفسه عند جمهور العلماء، فإن قبلها كانت فيئاً للمسلمين، فإنه لم يهدها إليه إلا لكونه إمامهم، وإن كانت من قوم هو محاصرهم فهي غنيمة. قال القاضي: وهذا قول الأوزاعي ومحمد بن الحسن وابن القاسم وابن حبيب، وحكاه ابن حبيب عمن لقيه من أهل العلم، وقال آخرون: هي للإمام خالصة به، قال أبو يوسف وأشهب وسحنون وقال الطبري: إنما رد النبي صلى الله عليه وسلم من هدايا المشركين ما علم أنه أهدي له في خاصة نفسه، وقيل ما كان خلاف ذلك مما فيه استئلاف المسلمين، قال: ولا يصح قول من ادعى النسخ، قال: وحكم الأئمة بعد إجراؤها مجرى مال الكفار من الفيء أو الغنيمة بحسب اختلاف الحال وهذا معنى هدايا العمال غلول أي إذا خصوا بها أنفسهم لأنها لجماعة المسلمين بحكم الفيء والغنيمة. قال القاضي: وقيل إنما قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا كفار أهل الكتاب ممن كان على النصرانية كالمقوقس وملوك الشام، فلا معارضة بينه وبين قوله صلى الله عليه وسلم: لا يقبل زبد المشركين وقد أبيح لنا ذبائح أهل الكتاب ومناكحتهم بخلاف المشركين عبدة الأوثان، هذا آخر كلام القاضي عياض. وقال أصحابنا: متى أخذ القاضي أو العامل هدية محرمة لزمه ردها إلى مهديها، فإن لم يعرفه وجب عليه أن يجعلها في بيت المال والله أعلم. قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة له بيضاء) قال العلماء: ركوبه صلى الله عليه وسلم البغلة في موطن الحرب وعند اشتداد الناس هو النهاية في الشجاعة والثبات، ولأنه أيضاً يكون معتمداً يرجع المسلمون إليه وتطمئن قلوبهم به وبمكانهم، وإنما فعل هذا عمداً وإلا فقد كانت له صلى الله عليه وسلم أفراس معروفة، ومما ذكره في هذا الحديث من شجاعته صلى الله عليه وسلم تقدمه يركض بغلته إلى جميع المشركين وقد فر الناس عنه. وفي الرواية الأخرى: أنه نزل إلى الأرض حين غشوه، وهذه مبالغة في الثبات والشجاعة والصبر، وقيل فعل ذلك مواساة لمن كان نازلاً على الأرض من المسلمين، وقد أخبرت الصحابة رضي الله تعالى عنهم بشجاعته صلى الله عليه وسلم في جميع المواطن، وفي صحيح مسلم قال: إن الشجاع منا الذي يحاذي به وإنهم كانوا يتقون به. قوله صلى الله عليه وسلم: "أي عباس ناد أصحاب السمرة" هي الشجرة التي بايعوا تحتها بيعة الرضوان ومعناه ناد أهل بيعة الرضوان يوم الحديبية. قوله: (فقال عباس وكان رجلاً صيتاً) ذكر الحازمي في المؤتلف أن العباس رضي الله عنه كان يقف على سلع فينادي غلمانه في آخر الليل وهم في الغابة فيسمعهم، قال: وبين سلع والغابة ثمانية أميال.
قوله: "فوالله لكان عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها فقالوا: يا لبيك يا لبيك" قال العلماء: في هذا الحديث دليل على أن فرارهم لم يكن بعيداً وأنه لم يحصل الفرار من جميعم، وإنما فتحه عليهم من في قلبه مرض من مسلمة أهل مكة المؤلفة ومشركيها الذين لم يكونوا أسلموا، وإنما كانت هزيمتهم فجأة لانصبابهم عليهم دفعة واحدة ورشقهم بالسهام، ولاختلاط أهل مكة معهم ممن لم يستقر الإيمان في قلبه، وممن يتربص بالمسلمين الدوائر، وفيهم نساء وصبيان خرجوا للغنيمة فتقدم إخفاؤهم فلما رشقوهم بالنبل ولوا فانقلبت أولاهم على أخراهم إلى أن أنزل الله تعالى سكينته على المؤمنين كما ذكر الله تعالى في القرآن. قوله: (فاقتتلوا والكفار) هكذا هو في النسخ وهو بنصب الكفار أي مع الكفار. قوله: (والدعوة في الأنصار) هي بفتح الدال يعني الاستغاثة والمناداة إليهم. قوله صلى الله عليه وسلم: "هذا حين حمي الوطيس" هو بفتح الواو وسكر الطاء المهملة وبالسين المهملة، قال الأكثرون: هو شبه التنور يسجر فيه ويضرب مثلاً لشدة الحرب التي يبه حرها حره، وقد قال آخرون: الوطي هو التنور نفسه، وقال الأصمعي: هي حجارة مدورة إذا حميت لم يقدر أحد يطأ عليها فيقال الاَن حمي الوطيس، وقيل هو الضرب في الحرب، وقيل هو الحرب الذي يطيس الناس أي يدقهم، قالوا: وهذه اللفظة من فصيح الكلام وبديعه الذي لم يسمع من أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: "فرماهم بالحصيات ثم قال انهزموا ورب محمد فما هو إلا أن رماهم بحصياته فما زلت أرى حدهم كليلاً وأمرهم مدبراً" هذا فيه معجزتان ظاهرتان لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إحداهما فعلية والأخرى خبرية، فإنه صلى الله عليه وسلم أخبر بهزيمتهم ورماهم بالحصيات فولوا مدبرين. وذكر مسلم في الرواية الأخرى في آخر هذا الباب: (أنه صلى الله عليه وسلم قبض قبضة من تراب من الأرض ثم استقبل بها وجوههم فقال شاهت الوجوه فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً من تلك القبضة) وهذا أيضاً فيه معجزتان خبرية وفعليه، ويحتمل أنه أخذ قبضة من حصى وقبضة من تراب فرمى بذا مرة وبذا مرة، ويحتمل أنه أخذ قبضة واحدة مخلوطة من حصى وتراب. قوله: (فما زلت أرى حدهم كليلاً) هو بفتح الحاء المهملة أي ما زلت أرى قوتهم ضعيفة.
قوله: (قال رجل للبراء يا أبا عمارة فررتم يوم حنين قال لا والله ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنه خرج شبان أصحابه أخفاؤهم حسراً ليس عليهم سلاح) هذا الجواب الذي أجاب به البراء رضي الله تعالى عنه من بديع الأدب لأن تقدير الكلام فررتم كلكم فيقتضي أن النبي صلى الله عليه وسلم وافقهم في ذلك فقال البراء: لا والله ما فر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن جماعة من الصحابة جرى لهم كذا وكذا. وأما قوله: شبان أصحابه فهو بالشين وآخره نون جمع شاب. وقوله: أخفاؤهم جمع خفيف وهم المسارعون المستعجلون، ووقع هذا الحرف في رواية إبراهيم الحربي والهروي وغيرهم جفاء بجيم مضمومة وبالمد وفسره بسرعانهم قالوا تشبيهاً بجفاء السيل وهو غثاؤه. قال القاضي رضي الله تعالى عنه: إن صحت هذه الرواية فمعناها ما سبق من خروج من خرج معهم من أهل مكة ومن انضاف إليهم ممن لم يستعدوا، وإنما خرج للغنيمة من النساء والصبيان ومن في قلبه مرض فشبهه بغثاء السيل. وأما قوله حسراً فهو بضم الحاء وتشديد السين المفتوحة أي بغير دروع، وقد فسره بقوله: ليس عليهم سلاح والحاسر من لا درع عليه. قوله: (فرشقوهم رشقاً) هو بفتح الراء وهو مصدر، وأما الرشق بالكسر فهو اسم للسهام التي ترميها الجماعة دفعة واحدة، وضبط القاضي الرواية هنا بالكسر وضبطه غيره بالفتح كما ذكرنا أولاً وهو الأجود وإن كانا جيدين. وأما قوله في الرواية التي بعد هذه: (فرموه برشق من نبل) فهو بالكسر لا غير والله أعلم. قال أهل اللغة: يقال رشقه يرشقه وأرشقه ثلاثي ورباعي والثلاثي أشهر وأفصح. قوله: (فنزل واستنصر) أي دعا ففيه استحباب الدعاء عند قيام الحرب. قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" قال القاضي عياض: قال المازري أنكر بعض الناس كون الرجز شعراً لوقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم مع قوله تعالى: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له} وهذا مذهب الأخف 5، واحتج به على فساد مذهب الخليل في أنه شعر، وأجابوا عن هذا بأن الشعر هو ما قصد إليه واعتمد الإنسان أن يوقعه موزوناً مقفى يقصده إلى القافية، ويقع في ألفاظ العامة كثير من الألفاظ الموزونة ولا يقول أحد أنها شعر ولا صاحبها شاعر، وهكذا الجواب عما في القرآن من الموزون كقوله تعالى: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} وقوله تعالى: {نصر من الله وفتح قريب} ولا شك أن هذا لا يسميه أحد من العرب شعراً لأنه لم تقصد تقفيته وجعله شعراً، قال: وقد غفل بعض الناس عن هذا القول فأوقعه ذلك في أن قال الرواية أنا النبي لا كذب بفتح الباء حرصاً منه على أن يفسد الروي فيستغني عن إِلاعتذار وإنما الرواية بإسكان الباء، هذا كلام القاضي عن المازري. قلت: وقد قال الإمام أبو القاسم علي بن أبي جعفر بن علي السعدي الصقلي المعروف بابن القطاع في كتابه الشافي في علم القوافي: قد رأى قوم منهم الأخف 5 وهو شيخ هذه الصناعة بعد الخليل أن مشطور الرجز ومنهوكه ليس بشعر كقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الله مولانا ولا مولى لكم" وقوله صلى الله عليه وسلم: "هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" وأشباه هذا. قال ابن القطاع: وهذا الذي زعمه الأخف 5 وغيره غلط بين وذلك لأن الشاعر إنما سمي شاعراً لوجوه: منها أنه شعر القول وقصده وأراده واهتدى إليه وأتى به كلاماً موزوناً على طريقة العرب مقفى، فإن خلا من هذه الأوصاف أو بعضها لم يكن شعراً ولا يكون قائله شاعراً، بدليل أنه لو قال كلاماً موزوناً على طريقة العرب وقصد الشعر أو أراده ولم يقفه لم يسم ذلك الكلام شعراً ولا قائله شاعراً بإجماع العلماء والشعراء، وكذا لو قفاه وقصد به الشعر ولكن لم يأت به موزوناً لم يكن شعراً، وكذا لو أتى به موزوناً مقفى لكن لم يقصد به الشعر لا يكون شعراً، ويدل عليه أن كثيراً من الناس يأتون بكلام موزون مقفى غير أنهم ما قصدوه ولا أرادوه ولا يسمى شعراً، وإذا تفقد ذلك وجد كثيراً في كلام الناس كما قال بعض السؤال: اختموا صلاتكم بالدعاء والصدقة، وأمثال هذا كثيرة، فدل على أن الكلام الموزون لا يكون شعراً إلا بالشروط المذكورة وهي القصد وغيره مما سبق، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد بكلامه ذلك الشعر ولا أراده فلا يعد شعراً وإن كان موزوناً والله أعلم.
فإن قيل: كيف قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا ابن عبد المطلب فانتسب إلى جد دون أبيه وافتخر بذلك مع أن إِلافتخار في حق أكثر الناس من عمل الجاهلية، فالجواب أنه صلى الله عليه وسلم كانت شهرته بجده أكثر لأن أباه عبد الله توفي شاباً في حياة أبيه عبد المطلب قبل اشتهار عبد الله، وكان عبد المطلب مشهوراً شهرة ظاهرة شائعة وكان سيد أهل مكة، وكان كثير من الناس يدعون النبي صلى الله عليه وسلم ابن عبد المطلب ينسبوه إلى جده لشهرته، ومنه حديث همام بن ثعلبة في قوله: أيكم ابن عبد المطالب؟ وقد كان مشتهراً عندهم أن عبد المطلب بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم وأنه سيظهر وسيكون شأنه عظيماً وكان قد أخبره بذلك سيف بن ذي يزن، وقيل: إن عبد المطلب رأى رؤيا تدل على ظهور النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك مشهوراً عندهم، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم تذكيرهم بذلك وتنبيههم بأنه صلى الله عليه وسلم لا بد من ظهوره على الأعداء، وأن العاقبة له لتقوى نفوسهم، وأعلمهم أيضاً بأنه ثابت ملازم للحرب لم يول مع من ولى، وعرفهم موضعه ليرجع إليه الراجعون والله أعلم. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: أنا النبي لا كذب أي أنا النبي حقاً فلا أفر ولا أزول، وفي هذا دليل على جواز قول الإنسان في الحرب: أنا فلان وأنا ابن فلان، ومثله قول سلمة: أنا ابن الأكوع. وقول علي رضي الله عنه: أنا الذي سمتني أمي حيدره، وأشباه ذلك. وقد صرح بجوازه علماء السلف، وفيه حديث صحيح، قالوا: وإنما يكره قول ذلك على وجه إِلافتخار كفعل الجاهلية والله أعلم. قوله: (حدثنا أحمد بن جناب المصيصي) هو بالجيم والنون، والمصيصي بكسر الميم وتشديد الصاد الأولى هذا هو المشهور، ويقال أيضاً بفتح الميم وتخفيف الصاد. قوله: (فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد) يعني كأنها قطعة من جراد وكأنها شبهت برجل الحيوان لكونها قطعة منه. قوله: (برشق) هو بكسر الراء وسبق بيانه قريباً. قوله: (فانكشفوا) أي انهزموا وفارقوا مواضعهم وكشفوها. قوله: (كنا والله إذا احمر البأس نتقي به وإن الشجاع منا للذي يحاذي به) احمرار البأس كناية عن شدة الحرب، واستعير ذلك لحمرة الدماء الحاصلة فيها في العادة أو لاستعار الحرب واشتعالها كاحمرار الجمر كما في الرواية السابقة حمي الوطيس، وفيه بيان شجاعته وعظم وثوقه بالله تعالى.
قوله: (عن سلمة بن الأكوع وأرجع منهزماً إلى قوله: مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم منهزماً فقال لقد رجع ابن الأكوع فزعاً) قال العلماء: قوله منهزماً حال من ابن الأكوع كما صرح أولاً بانهزامه ولم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم انهزم، وقد قالت الصحابة كلهم رضي الله عنهم أنه صلى الله عليه وسلم ما انهزم، ولم ينقل أحد قط أنه انهزم صلى الله عليه وسلم في موطن من المواطن، وقد نقلوا إجماع المسلمين على أنه لا يجوز أن يعتقد انهزامه صلى الله عليه وسلم ولا يجوز ذلك عليه بل كان العباس وأبو سفيان بن الحارث آخذين بلجام بغلته يكفانها عن إسراع التقدم إلى العدو، وقد صرح بذلك البراء في حديثه السابق والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "شاهت الوجوه" أي قبحت والله أعلم
*2* باب غزوة الطائف
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ، جَمِيعاً، عَنْ سُفْيَانَ قَالَ زُهَيْرٌ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي الْعَبّاسِ الشّاعِرِ الأَعْمَىَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمْرٍو قَالَ: حَاصَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الطّائِفِ، فَلَمْ يَنَلْ مِنْهُمْ شَيْئاً. فَقَالَ: "إنّا قَافِلُونَ، إنْ شَاءَ اللّهُ" قَالَ أَصْحَابُهُ: نَرْجِعُ وَلَمْ نَفْتَتِحْهُ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "اغْدُوا عَلَى الْقِتَالِ" فَغَدَوْا عَلَيْهِ فَأَصَابَهُمْ جِرَاحٌ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنّا قَافِلُونَ غَداً" قَالَ: فَأَعْجَبَهُمْ ذَلِكَ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
شس قوله: (حدثنا سفيان بن عيينة عن عمرو عن أبي العباس الأعمى الشاعر عن عبد الله بن عمرو قال: حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف) هكذا هو في نسخ صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بفتح العين وهو ابن عمرو بن العاص، قال القاضي: كذا هو في رواية الجلودي وأكثر أهل الأصول عن ابن ماهان، قال: وقال القاضي الشهيد أبو علي: صوابه ابن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كذا ذكره البخاري وكذا صوبه الدارقطني، وذكر ابن أبي شيبة الحديث في مسنده عن سفيان فقال عبد الله بن عمرو بن العاص، ثم قال: إن ابن عقبة حدث به مرة أخرى عن عبد الله بن عمر هذا ما ذكره القاضي عياض، وقد ذكر خلف الواسطي هذا الحديث في كتاب الأطراف في مسند ابن عمر ثم في مسند ابن عمرو، وأضافه في الموضعين إلى البخاري ومسلم جميعاً وأنكروا هذا على خلف، وذكره أبو مسعود الدمشقي في الأطراف عن ابن عمر بن الخطاب، قال البخاري ومسلم: وذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين في مسند ابن عمر ثم قال: هكذا أخرجه البخاري ومسلم في كتب الأدب عن قتيبة، وأخرجه هو ومسلم جميعاً في المغازي عن ابن عمرو بن العاص، قال: والحديث من حديث ابن عيينة وقد اختلف فيه عليه، فمنهم ممن رواه عنه هكذا، ومنهم من رواه بالشك، قال الحميدي: قال أبو بكر البرقاني الأصح ابن عمر بن الخطاب، قال: وكذا أخرجه ابن مسعود في مسند ابن عمر بن الخطاب، قال الحميدي: وليس لأبي العباس هذا في مسند ابن عمر بن الخطاب غير هذا الحديث المختلف فيه، وقد ذكره النسائي في سننه في كتاب السير عن ابن عمرو بن العاص فقط. قوله: (حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف فلم ينل منهم شيئاً فقال: إنا قافلون إن شاء الله، قال أصحابه: نرجع ولم نفتتحه فقال: اغدوا على القتال فغدوا عليه فأصابهم جراح فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قافلون غداً فأعجبهم ذلك فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم) معنى الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قصد الشفقة على أصحابه والرفق بهم بالرحيل عن الطائف لصعوبة أمره وشدة الكفار الذين فيه وتقويتهم بحصنهم، مع أنه صلى الله عليه وسلم علم أو رجى أنه سيفتحه بعد هذا بلا مشقة كما جرى، فلما رأى حرص أصحابه على المقام والجهاد أقام وجد في القتال فلما أصابتهم الجراح رجع إلى ما كان قصده أولاً من الرفق بهم ففرحوا بذلك لما رأوا من المشقة الظاهرة، ولعلهم نظروا فعلموا أن رأي النبي صلى الله عليه وسلم أبرك وأنفع وأحمد عاقبة وأصوب من رأيهم فوافقوا على الرحيل وفرحوا فضحك النبي صلى الله عليه وسلم تعجباً من سرعة تغير رأيهم والله أعلم.
*2* باب غزوة بدر
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَفّانُ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم شَاوَرَ، حِينَ بَلَغَهُ إقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ: فَتَكَلّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمّ تَكَلّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: إيّانَا تُرِيدُ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ! وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إلَىَ بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا. قَالَ: فَنَدَبَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم النّاسَ، فَانْطَلَقُوا حَتّىَ نَزَلُوا بَدْراً، وَوَرَدَتْ عَلَيْهِمْ رَوَايَا قُرَيْشٍ، وَفِيهِمْ غُلاَمٌ أَسْوَدُ لِبَنِي الْحَجّاجِ، فَأَخَذُوهُ. فَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَهُ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَصْحَابِهِ؟ فَيَقُولُ: مَا لِي عِلْمٌ بِأَبِي سُفْيَانَ. وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلٍ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ، ضَرَبُوهُ. فَقَالَ: نَعَمْ، أَنَا أُخْبِرُكُمْ، هَذَا أَبُو سُفْيَانَ. فَإذَا تَرَكُوهُ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: مَا لِي بِأَبِي سُفْيَانَ عِلْمٌ. وَلَكِنْ هَذَا أَبُو جَهْلٍ وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ فِي النّاسِ، فَإِذَا قَالَ هَذَا أَيْضاً ضَرَبُوهُ، وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ يُصَلّي، فَلَمّا رَأَىَ ذَلِكَ انْصَرَفَ. قَالَ: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَضْرِبُوهُ إذَا صَدَقَكُمْ، وَتَتْرُكُوهُ إذَا كَذَبَكُمْ".
قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَذَا مَصْرَعُ فُلاَنٍ" قَالَ: وَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى الأَرْضِ، هَهُنَا وَهَهُنَا. قَالَ: فَمَا مَاطَ أَحَدُهُمْ، عَنْ مَوْضِعِ يَدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور أصحابه حين بلغه إقبال أبي سفيان فتكلم أبو بكر فأعرض عنه ثم تكلم عمر فأعرض عنه فقال سعد بن عبادة فقال: إيانا تريد يا رسول الله والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نخيضها لأخضناها) قال العلماء: إنما قصد صلى الله عليه وسلم اختبار الأنصار لأنه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال وطلب العدو، وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن يقصده، فلما عرض الخروج لعير أبي سفيان أراد أن يعلم أنهم يوافقون على ذلك فأجابوه أحسن جواب بالموافقة التامة في هذه المرة وغيرها، وفيه استشارة اوصحاب وأهل الرأي والخبرة. قوله: أن نخيضها يعني الخيل. وقوله: برك الغماد أما برك فهو بفتح الباء وإسكان الراء هذا هو المعروف المشهور في كتب الحديث وروايات المحدثين، وكذا نقله القاضي عن رواية المحدثين، قال: وقال بعض أهل اللغة صوابه كسر الراء، قال: وكذا قيده شيوخ أبي ذر في البخاري، كذا ذكره القاضي في شرح مسلم، وقال في المشارق: هو بالفتح لأكثر الرواة، قال: ووقع الأصيلي والمستملي وأبي محمد الحموي بالكسر، قلت: وذكره جماعة من أهل اللغة بالكسر لا غير، واتفق الجميع على أن الراء ساكنة إلا ما حكاه القاضي عن الأصيلي أنه ضبطه بإسكانها وفتحها وهذا غريب ضعيف، وأما الغماد فبغين معجمة مكسورة ومضمومة لغتان مشهورتان لكن الكسر أفصح وهو المشهور في روايات المحدثين والضم هو المشهور في كتب اللغة. وحكى صاحب المشارق والمطالع الوجهين عن ابن دريد. وقال القاضي عياض في الشرح: ضبطناه في الصحيحين بالكسر، قال: وحكى ابن دريد فيه الضم والكسر. وقال الحازمي في كتابه المؤتلف والمختلف في أسماء الأماكن: هو بكسر الغين ويقال بضمها، قال: وقد ضبطه ابن الفرات في أكثر المواضع بالضم لكن أكثر ما سمعته من المشايخ بالكسر، قال: وقد ضبطه ابن الفرات في أكثر المواضع بالضم لكن أكثر ما سمعته من المشايخ بالكسر، قال: وهو موضع من وراء مكة بخمس ليال بناحية الساحل وقيل بلدتان هذا قول الحازمي، وقال القاضي وغيره: هو موضع بأقاصي هجر، وقال إبراهيم الحربي: برك الغماد وسعفات هجر كناية يقال فيما تباعد. قوله: (ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي فلما رأى ذلك انصرف قال: والذي نفسي بيده لتضربوه إذا صدقكم وتتركوه إذا كذبكم) معنى انصرف سلم من صلاته، فهي استحباب تخفيفها إذا عرض أمر في أثنائها، وهكذا وقع في النسخ تضربوه وتتركوه بغير نون وهي لغة سبق بيانها مرات أعني حذف النون بغير ناصب ولا جازم، وفيه جواز ضرب الكافر الذي لا عهد له وإن كان أسيراً، وفيه معجزتان من أعلام النبوة إحداهما إخباره صلى الله عليه وسلم بمصلاع جبابرتهم فلم ينفذ أحد مصرعه. الثانية إخباره صلى الله عليه وسلم بأن الغلام الذي كان يضربونه يصدق إذا تركوه ويكذب إذا ضربوه وكان كذلك في نفس الأمر والله أعلم. قوله: (فماط أحدهم) أي تباعد.
*2* باب فتح مكة
*حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ: حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَة: حَدّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيّ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبَاحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: وَفَدَتْ وُفُودٌ إلَىَ مُعَاوِيَةَ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ، فَكَانَ يَصْنَعُ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ الطّعَامَ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ مِمّا يُكْثِرُ أَنْ يَدْعُونَا إلَىَ رَحْلِهِ. فَقُلْتُ: أَلاَ أَصْنَعُ طَعَاماً فَأَدْعُوَهُمْ إلَىَ رَحْلِي؟ فَأَمَرْتُ بِطَعَامٍ يُصْنَعُ، ثُمّ لَقِيتُ أَبَا هُرَيْرَةَ مِنَ الْعَشِيّ، فَقُلْتُ: الدّعْوَةُ عِنْدِي اللّيْلَةَ، فَقَالَ: سَبَقْتَنِي. قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَوْتُهُمْ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَلاَ أُعْلِمُكُمْ بِحَدِيثٍ مِنْ حَدِيثِكُمْ؟ يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ ثُمّ ذَكَرَ فَتْحَ مَكّةَ فَقَالَ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَتّىَ قَدِمَ مَكّةَ، فَبَعَثَ الزّبَيْرَ عَلَىَ إحْدَىَ الْمُجَنّبَتَيْنِ، وَبَعَثَ خَالِداً عَلَى الْمُجَنّبَةِ الأُخْرَىَ، وَبَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسّرِ، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي، وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كَتِيبَةٍ. قَالَ: فَنَظَرَ فَرَآنِي. فَقَالَ "أَبُو هُرَيْرَةَ" قُلْتُ: لَبّيْكَ. يَا رَسُولَ اللّهِ! فَقَالَ: "لاَ يَأْتِينِي إلاّ أَنْصَارِيّ".
زَادَ غَيْرُ شَيْبَانَ: فَقَالَ "اهْتِفْ لِي بِالأَنْصَارِ" قَالَ: فَأَطَافُوا بِهِ، وَوَبّشَتْ قُرَيْشٌ أَوْبَاشاً لَهَا وَأَتْبَاعاً. فَقَالُوا: نُقَدّمُ هَؤُلاَءِ، فَإنْ كَانَ لَهُمْ شَيْءٌ كُنّا مَعَهُمْ، وَإنْ أُصِيبُوا أَعْطَيْنَا الّذِي سُئِلْنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "تَرَوْنَ إلَىَ أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ وَأَتْبَاعِهِمْ" ثُمّ قَالَ بِيَدَيْهِ، إحْدَاهُمَا عَلَىَ الأُخْرَىَ. ثُمّ قَالَ: "حَتّىَ تُوَافُونِي بِالصّفَا" قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَمَا شَاءَ أَحَدٌ مِنّا أَنْ يَقْتُلَ أَحَداً إلاّ قَتَلَهُ، وَمَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يُوَجّهُ إلَيْنَا شَيْئاً. قَالَ: فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أُبِيحَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لاَ قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. ثُمّ قَالَ: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ" فَقَالَتِ الأَنْصَارُ، بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَمّا الرّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَرَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَجَاءَ الْوَحْيُ، وَكَانَ إذَا جَاءَ الْوَحْيُ لاَ يَخْفَى عَلَيْنَا، فَإذَا جَاءَ فَلَيْسَ أَحَدٌ يَرْفَعُ طَرْفَهُ إلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَتّىَ يَنْقَضِيَ الْوَحْيُ، فَلَمّا انْقَضَى الْوَحْيُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ" قَالُوا: لَبّيْكَ، يَا رَسُولَ اللّهِ! قَالَ: "قُلْتُمْ: أَمّا الرّجُلُ فَأَدْرَكَتْهُ رَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ". قَالُوا: قَدْ كَانَ ذَاكَ. قَالَ: "كَلاّ. إنّي عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إلَى الله وَإلَيْكُمْ، وَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ، وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ". فَأَقْبَلُوا إلَيْهِ يَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: وَاللّهِ! مَا قُلْنَا الّذِي قُلْنَا إلاّ الضّنّ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إنّ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُصَدّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ" قَالَ: فَأَقْبَلَ النّاسُ إلَىَ دَارِ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَغْلَقَ النّاسُ أَبْوَابَهُمْ. قَالَ: وَأَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَتّىَ أَقْبَلَ إلَى الْحَجَرِ، فَاسْتَلَمَهُ، ثُمّ طَافَ بِالْبَيْتِ. قَالَ: فَأَتَىَ عَلَىَ صَنَمٍ إلَىَ جَنْبِ الْبَيْتِ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ. قَالَ: وَفِي يَدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَوْسٌ، وَهُوَ آخِذٌ بِسِيَةِ الْقَوْسِ. فَلَمّا أَتَىَ عَلَى الصّنَمِ جَعَلَ يَطْعُنُهُ فِي عَيْنِهِ وَيَقُولُ: "جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ". فَلَمّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَىَ الصّفَا فَعَلاَ عَلَيْهِ، حَتّىَ نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَحْمَدُ اللّهَ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ أَنْ يَدْعُوَ.
حدّثني عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ: حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسّانَ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ: أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَبَاحٍ قَالَ: وَفَدْنَا إلَىَ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، وَفِينَا أَبُو هُرَيْرَةَ، فَكَانَ كُلّ رَجُلٍ مِنّا يَصْنَعُ طَعَاماً يَوْماً لأَصْحَابِهِ، فَكَانَتْ نَوْبَتِي. فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ الْيَوْمُ نَوْبَتِي. فَجَاؤُا إِلَىَ الْمَنْزِلِ، وَلَمْ يُدْرِكْ طَعَامُنَا. فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ لَوْ حَدّثْتَنَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَتّىَ يُدْرِكَ طَعَامُنَا. فَقَالَ: كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْفَتْحِ. فَجَعَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْيُمْنَىَ، وَجَعَلَ الزّبَيْرَ عَلَى الْمُجَنّبَةِ الْيُسْرَىَ، وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْبَيَاذِقَةِ وَبَطْنِ الْوَادِي. فَقَالَ: "يَا أَبَا هُرَيْرَةَ! ادْعُ لِي الأَنْصَارَ" فَدَعَوْتُهُمْ فَجَاؤا يُهَرْوِلُونَ. فَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، هَلْ تَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ؟" قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: "انْظُرُوا. إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ غَداً أَنْ تَحْصِدُوهُمْ حَصْداً" وَأَخْفَىَ بِيَدِهِ. وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَىَ شِمَالِهِ. وَقَالَ: "مَوْعِدُكُمُ الصّفَا" قَالَ: فَمَا أَشْرَفَ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ أَحَدٌ إلاّ أَنَامُوهُ. قَالَ: وَصَعِدَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الصّفَا. وَجَاءَتِ الأَنْصَارُ، فَأَطَافُوا بِالصّفَا. فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ، لاَ قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ. قَالَ أَبُو سُفْيَانَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السّلاَحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ". فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: أَمّا الرّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ، وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، وَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "قُلْتُمْ: أَمّا الرّجُلُ فَقَدْ أَخَذَتْهُ رَأْفَةٌ بِعَشِيرَتِهِ وَرَغْبَةٌ فِي قَرْيَتِهِ، أَلاَ فَمَا اسْمِي إِذاً! (ثَلاَثَ مَرّاتٍ) أَنَا مُحَمّدٌ عَبْدُ اللّهِ وَرَسُولُهُ، هَاجَرْتُ إِلَىَ اللّهِ وَإِلَيْكُمْ. فَالْمَحْيَا مَحْيَاكُمْ وَالْمَمَاتُ مَمَاتُكُمْ". قَالُوا: وَاللّهِ! مَا قُلْنَا إِلاّ ضِنّا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ. قَالَ: "فَإِنّ اللّهِ وَرَسُولَهُ يُصَدّقَانِكُمْ وَيَعْذِرَانِكُمْ".
قوله: (فبعث الزبير على إحدى المجنبتين) هي بضم الميم وفتح الجيم وكسر النون وهما الميمنة والميسرة ويكون القلب بينهما، وبعث أبا عبيدة على الحسر هو بضم الحاء وتشديد السين المهملتين أي الذين لا دروع عليهم. قوله: (فأخذوا بطن الوادي) أي جعلوا طريقهم في بطن الوادي. قوله صلى الله عليه وسلم: "اهتف لي بالأنصار" أي ادعهم لي. قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يأتيني إلا أنصاري" ثم قال: فأطافوا إنما خصهم لثقته بهم ورفعاً لمراتبهم وإظهاراً لجلالتهم وخصوصيتهم. قوله: (ووبشت قريش أوباشاً لها) أي جمعت جموعاً من قبائل شتى وهو بالباء الموحدة المشددة والشين المعجمة. قوله: "فما شاء أحد منا أن يقتل أحداً إلا قتله وما أحد منهم يوجه إلينا شيئاً" أي لا يدفع أحد عن نفسه. قوله: (قال أبو سفيان أبيحت خضراء قريش لا قريش بعد اليوم) كذا في هذه الرواية أبيحت، وفي التي بعدها أبيدت وهما متقاربان، أي استؤصلت قريش بالقتل وأفنيت، وخضراؤهم بمعنى جماعتهم، ويعبر عن الجماعة المجتمعة بالسواد والخضرة ومنه السواد الأعظم. قوله صلى الله عليه وسلم: "من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" استدل به الشافعي وموافقوه على أن دور مكة مملوكة يصح بيعها وإجارتها لأن أصل الإضافة إلى الاَدميين تقتضي الملك وما سوى ذلك مجاز، وفيه تأليف لأبي سفيان وإظهار لشرفه. قوله: (فقالت الأنصار بعضهم لبعض: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته وذكر نزول الوحي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار قالوا لبيك يا رسول الله قال قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته قالوا قد كان ذلك قال كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم المحيا محياكم والممات مماتكم فأقبلوا إليه يبكون ويقولون: والله ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بالله وبرسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ورسوله يصدقانكم ويعذرانكم" معنى هذه الجملة أنهم رأوا رأفة النبي صلى الله عليه وسلم بأهل مكة كف القتل عنهم فظنوا أن يرجع إلى سكنى مكة والمقام فيها دائماً ويرحل عنهم ويهجر المدينة فشق ذلك عليهم فأوحى الله تعالى إليه صلى الله عليه وسلم فأعلمهم بذلك فقال لهم صلى الله عليه وسلم: قلتم كذا وكذا؟ قالوا نعم قد قلنا هذا فهذه معجزة من معجزات النبوة فقال كلا إني عبد الله ورسوله، معنى كلا هنا حقاً ولها معنيان أحدهما حقاً والاَخر النفي. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إني عبد الله ورسوله" فيحتمل وجهين: أحدهما إني رسول الله حقاً فيأتيني الوحي وأخبر بالمغيبات كهذه القضية وشبهها فثقوا بما أقول لكم وأخبركم به في جميع الأحوال، والاَخر لا تفتتنوا بإخباري إياكم بالمغيبات وتطروني كما أطرت النصارى عيسى صلوات الله عليه فإني عبد الله ورسوله. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "هاجرت إلى الله وإليكم المحيا محياكم والممات مماتكم" فمعناه أني هاجرت إلى الله وإلى دياركم لاستيطانها فلا أتركها ولا أرجع عن هجرتي الواقعة لله تعالى، بل أنا ملازم لكم المحيا محياكم والممات مماتكم أي لا أحيى إلا عندكم ولا أموت إلا عندكم وهذا أيضاً من المعجزات، فلما قال لهم هذا بكوا واعتذروا وقالوا: والله ما قلنا كلامنا السابق إلا حرصاً عليك وعلى مصاحبتك ودوامك عندنا لنستفيد منك ونتبرك بك وتهدينا الصراط المستقيم كما قال الله تعالى: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم} وهذا معنى قولهم ما قلنا الذي قلنا إلا الضن بك هو بكسر الضاد أي شحاً بك أن تفارقنا ويختص بك غيرنا، وكان بكاؤهم فرحاً بما قال لهم وحياء مما خافوا أن يكون بلغه عنهم ما يستحيي منه. قوله: (فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبل إلى الحجر فاستلمه ثم طاف بالبيت) فيه إِلابتداء بالطواف في أول دخول مكة سواء كان محرماً بحج أو عمرة أو غير محرم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم دخلها في هذا اليوم وهو يوم الفتح غير محرم بإجماع المسلمين وكان على رأسه المغفر والأحاديث متظاهرة على ذلك والإجماع منعقد عليه وأما قول القاضي عياض رضي الله عنه: أجمع العلماء على تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولم يختلفوا في أن من دخلها بعده لحرب أو بغي أنه لا يحل له دخولها حلالاً فليس كما نقل، بل مذهب الشافعي وأصحابه وآخرين أنه يجوز دخولها حلالاً للمحارب بلا خلاف، وكذا لمن يخاف من ظالم لو ظهر للطواف وغيره، وأما من لا عذر له أصلاً فللشافعي رضي الله عنه فيه قولان مشهوران أصحهما أنه يجوز له دخولها بغير إحرام لكن يستحب له الإحرام. والثاني لا يجوز، وقد سبقت المسألة في أول كتاب الحج. قوله: (فأتى على صنم إلى جنب البيت كانوا يعبدونه فجعل يطعنه بسية قوسه) السية بكسر السين وتخفيف الياء المفتوحة المنعطف من طرفي القوس، وقوله يطعن بضم العين على المشهور ويجوز فتحها في لغة، وهذا الفعل إذلال للأصنام ولعابديها وإظهار لكونها لا تضر ولا تنفع ولا تدفع عن نفسها كما قال الله تعالى: {وأن يسبلهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه}.
قوله: (جعل يطعن في عينه ويقول جاء الحق وزهق الباطل) وقال في الرواية التي بعد هذه: (وحول الكعبة ثلثمائة وستون نصباً فجعل يطعنها بعود كان في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد). النصب الصنم وفي هذا استحباب قراءة هاتين الاَيتين عند إزالة المنكر. قوله: (ثم قال بيديه إحداهما على الأخرى احصدوهم حصداً) هو بضم الصاد وكسرها، وقد استدل بهذا من يقول أن مكة فتحت عنوة، وقد اختلف العلماء فيها فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وجماهير العلماء وأهل السير: فتحت عنوة. وقال الشافعي: فتحت صلحاً. وادعى المازري أن الشافعي انفرد بهذا القول، واحتج الجمهور بهذا الحديث وبقوله أبيدت خضراء قريش، قالوا: وقال صلى الله عليه وسلم: "من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن" فلو كانوا كلهم آمنين لم يحتج إلى هذا وبحديث أم هانئ رضي الله عنها حين أجارت رجلين أراد علي رضي الله عنه قتلهما فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت فكيف يدخلها صلحاً ويخفى ذلك على علي رضي الله عنه حتى يريد قتل رجلين دخلا في الأمان، وكيف يحتاج إلى أمان أم هانئ بعد الصلح، واحتج الشافعي بالأحاديث المشهورة أنه صلى الله عليه وسلم صالحهم بمر الظهران قبل دخول مكة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "احصدوهم" وقتل خالد من قتل فهو محمول على من أظهر من كفار مكة قتالاً. وأما أمان من دخل دار أبي سفيان ومن ألقى سلاحه وأمان أم هانئ فكله محمول على زيادة إِلاحتياط لهم بالأمان، وأما هم علي رضي الله عنه بقتل الرجلين فلعله تأول منهما شيئاً أو جرى منهما قتال أو نحو ذلك. وأما قوله في الرواية الأخرى: (فما أشرف أحد يومئذ لهم إلا أناموه) فمحمول على من أشرف مظهراً للقتال والله أعلم. قوله: (قلنا ذاك يا رسول الله قال فما إسمي إذاً كلاً إني عبد الله ورسوله) قال القاضي: يحتمل هذا وجهين: أحدهما أنه أراد صلى الله عليه وسلم أني نبي لإعلامي إياكم بما تحدثتم به سراً والثاني لو فعلت هذا الذي خفتم منه وفارقتكم ورجعت إلى استيطان مكة لكنت ناقضاً لعهدكم في ملازمتكم، ولكان هذا غير مطالب لما اشتق منه اسمي وهو الحمد فإني كنت أوصف حينئذ بغير الحمد. قوله: (وفدنا إلى معاوية رضي الله عنه وفينا أبو هريرة فكان كل رجل منا يصنع طعاماً يوماً لأصحابه فكانت نوبتي) فيه دليل على استحباب اشتراك المسافرين في الأكل واستعمالهم مكارم الأخلاق، وليس هذا من باب المعارضة حتى يشترط فيه المساواة في الطعام وأن لا يأكل بعضهم أكثر من بعض، بل هو من باب المروءات ومكارم الأخلاق وهو بمعنى الإباحة فيجوز وإن تفاضل الطعام واختلفت أنواعه، ويجوز وإن أكل بعضهم أكثر من بعض، لكن يستحب أن يكون شأنهم إيثار بعضهم بعضاً. قوله: (فجاؤوا إلى المنزل ولم يدرك طعامنا فقلت يا أبا هريرة لو حدثتنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدرك طعامنا فقال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الفتح إلى آخره) فيه استحباب الإجتماع على الطعام وجواز دعائهم إليه قبل إدراكه واستحباب حديثهم في حال الإجتماع بما فيه بيان أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وغزواتهم ونحوها مما تنشط النفوس لسماعه، وكذلك غيرها من الحروب ونحوها مما لا إثم فيه ولا يتولد منه في العادة ضر في دين ولا دنيا ولا أذى لأحد لتنقطع بذلك مدة الإنتظار ولا يضجروا، ولئلا يشتغل بعضهم مع بعض في غيبة أو نحوها من الكلام المذموم، وفيه أنه يستحب إذا كان في الجمع مشهور بالفضل أو بالصلاح أن يطلب منه الحديث، فإن لم يطلبوا استحب له الإبتداء بالحديث كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبتديهم بالتحديث من غير طلب منهم. قوله: (وجعل أبا عبيدة على البياذقة وبطن الوادي) البياذقة بباء موحدة ثم مثناة تحت وبذال معجمة وقاف وهم الرجالة، قالوا: وهو فارسي معرب وأصله بالفارسية أصحاب ركاب الملك ومن يتصرف في أموره، قيل: سموا بذلك لخفتهم وسرعة حركتهم، هكذا الرواية في هذا الحرف هنا وفي غير مسلم أيضاً، قال القاضي: هكذا روايتنا فيه، قال: ووقع في بعض الروايات الساقة وهم الذين يكونون آخر العسكر، وقد يجمع بينه وبين البياذقة بأنهم رجالة وساقة، ورواه بعضهم الشارفة وفسروه بالذين يشرفون على مكة، قال القاضي: وهذا ليس بشيء لأنهم أخذوا في بطن الوادي، والبياذقة هنا هم الحسر في الرواية السابقة وهم رجالة لا دروع عليهم. قوله: (وقال موعدكم الصفا) يعني قال هذا لخالد ومن معه الذين أخذوا أسفل من بطن الوادي وأخذ هو صلى الله عليه وسلم ومن معه أعلى مكة. قوله: (فما أشرف لهم أحد إلا أناموه) أي ما ظهر لهم أحد إلا قتلوه فوقع إلى الأرض أو يكون بمعنى أسكنوه بالقتل كالنائم، يقال نامت الريح إذا سكنت، وضربه حتى سكن أي مات، ونامت الشاة وغيرها ماتت، قال الفراء: النائمة الميتة، هكذا تأول هذه اللفظة القائلون بأن مكة فتحت عنوة، ومن قال فتحت صلحاً يقول أناموه ألقوه إلى الأرض من غير قتل إلا من قاتل والله أعلم.
*2* باب إزالة الأصنام من حول الكعبة
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ و عَمْرٌو النّاقِدُ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ أَبِي شَيْبَةَ) قَالُوا: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: دَخَلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَكّةَ، وَحَوْلَ الْكَعْبَةِ ثَلاَثُمِائَةٍ وَسِتّونَ نُصُباً، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ كَانَ بِيَدِهِ. وَيَقُولُ {جَاءَ الْحَقّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ، إِنّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} (الإسراء الاَية: ). {جَاءَ الْحَقّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}" (سبأ الاَية: ). زَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ: يَوْمَ الْفَتْحِ.
وحدّثناه حَسَنُ بْنُ عَلِيّ الْحُلْوَانِيّ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، كِلاَهُمَا، عَنْ عَبْدِ الرّزّاقِ: أَخْبَرَنَا الثّوْرِيّ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، إِلَى قوله: زَهُوقاً وَلَمْ يَذْكُرِ الاَيَةَ الأُخْرَىَ. وَقَالَ: (بَدَلَ نُصُباً) صَنَمَاً.
*2* باب لا يقتل قرشيّ صبرا بعد الفتح
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ وَ وَكِيعٌ، عَنْ زَكَرِيّاءَ، عَنِ الشّعْبِيّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، يَوْمَ فَتْحِ مَكّةَ "لاَ يُقْتَلُ قُرَشِيّ صَبْراً بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ، إلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ".
حدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا زَكَرِيّاءُ بِهَذَا الإِسْنَادِ، وَزَادَ: قَالَ: وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ أَحَدٌ مِنْ عُصَاةِ قُرَيْشٍ، غَيْرَ مُطِيعٍ، كَانَ اسْمُهُ الْعَاصِي. فَسَمّاهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مُطِيعاً.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقتل قرشي صبراً بعد هذا اليوم إلى يوم القيامة" قال العلماء: معناه الإعلام بأن قريشاً يسلمون كلهم ولا يرتد أحد منهم كما ارتد غيرهم بعده صلى الله عليه وسلم ممن حورب وقتل صبراً، وليس المراد أنهم لا يقتلون ظلماً صبراً فقد جرى على قريش بعد ذلك ما هو معلوم والله أعلم. قوله: (ولم يكن أسلم من عصاة قريش غير مطيع كان اسمه العاصي فسماه النبي صلى الله عليه وسلم مطيعاً) قال القاضي عياض: عصاة هنا جمع العاص من أسماء الأعلام لا من الصفات أي ما أسلم ممن كان اسمه العاص مثل العاص بن وائل السهمي، والعاص بن هشام أبو البختري، والعاص بن سعيد بن العاص بن أمية، والعاص بن هشام بن المغيرة المخزومي، والعاص بن منبه بن الحجاج وغيرهم سوى العاص بن الأسود العذري فغير النبي صلى الله عليه وسلم اسمه فسماه مطيعاً وإلا فقد أسلمت عصاة قريش وعتاتهم كلهم بحمد الله تعالى، ولكنه ترك أبا جندل بن سهيل بن عمرو وهو ممن أسلم واسمه أيضاً العاص، فإذا صح هذا فيحتمل أن هذا لما غلبت عليه كنيته وجهل اسمه لم يعرفه المخبر باسمه فلم يستثنه كما استثنى مطيع بن الأسود والله أعلم.
*2* باب صلح الحديبية في الحديبية
*حدّثني عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ: حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: كَتَبَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ الصّلْحَ بَيْنَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ، يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ. فَكَتَبَ: "هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ" فَقَالُوا: لاَ تَكْتُبْ: رَسُولُ اللّهِ. فَلَوْ نَعْلَمُ أَنّكَ رَسُولُ اللّهِ لَمْ نُقَاتِلْكَ. فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيّ "امْحُهُ" فَقَالَ: مَا أَنَا بِالّذِي أَمْحَاهُ. فَمَحَاهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ. قَالَ: وَكَانَ فِيمَا اشْتَرَطُوا، أَنْ يَدْخُلُوا مَكّةَ فَيُقِيمُوا بِهَا ثَلاثاً، وَلاَ يَدْخُلُهَا بِسِلاَحٍ، إلاّ جُلُبّانَ السّلاَحِ.
قُلْتُ لأَبِي إسْحَقَ: وَمَا جُلُبّانُ السّلاَحِ؟ قَالَ: الْقِرَابُ وَمَا فِيهِ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يَقُولُ: لَمّا صَالَحَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ، كَتَبَ عَلِيّ كِتَاباً بَيْنَهُمْ. قَالَ: فَكَتَبَ "مْحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ". ثُمّ ذَكَرَ بِنَحْوِ حَدِيثِ مُعَاذٍ. غَيْرَ أَنّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ "هَذَا مَا كَاتَبَ عَلَيْهِ".
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ وَ أَحْمَدُ بْنُ جَنَابٍ الْمِصّيِصيّ جَمِيعاً عَن عَيسَى بْنِ يُونُسَ: (وَاللّفْظُ لإِسْحَقَ). أَخْبَرَنَا عِيسَىَ بْنُ يُونُسَ. أَخْبَرَنَا زَكَرِيّاءُ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: لَمّا أُحْصِرَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ الْبَيْتِ، صَالَحَهُ أَهْلُ مَكّةَ عَلَىَ أَنْ يَدْخُلَهَا فَيُقِيمَ بِهَا ثَلاَثاً، وَلاَ يَدْخُلَهَا إلاّ بِجُلُبّانِ السّلاَحِ، السّيْفِ وَقِرَابِهِ. وَلاَ يَخْرُجَ بِأَحَدٍ مَعَهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَلاَ يَمْنَعَ أَحَداً يَمْكُثُ بِهَا مِمّنْ كَانَ مَعَهُ. قَالَ لِعَلِيّ: "اكْتُبِ الشّرْطَ بَيْنَنَا. بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ. هَذَا مَا قَاضَىَ عَلَيْهِ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللّهِ" فَقَالَ لَهُ الْمُشْرِكُونَ: لَوْ نَعْلَمُ أَنّكَ رَسُولُ اللّهِ تَابَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. فَأَمَرَ عَلِيّاً أَنْ يَمْحَاهَا. فَقَالَ عَلِيّ: لاَ، وَاللّهِ! لاَ أَمْحَاهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرِنِي مَكَانَهَا" فَأَرَاهُ مَكَانَهَا، فَمَحَاهَا. وَكَتَبَ "ابْنُ عَبْدِ اللّهِ" فَأَقَامَ بِهَا ثَلاَثَةَ أَيّامٍ. فَلَمّا أَنْ كَانَ يَوْمُ الثّالِثِ قَالُوا لِعَلِيّ: هَذَا آخِرُ يَوْمٍ مِنْ شَرْطِ صَاحِبِكَ، فَأْمُرْهُ فَلْيَخْرُجْ. فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ. فَقَالَ: "نَعَمْ" فَخَرَجَ.
وَقَالَ ابْنُ جَنَابٍ فِي رِوَايَتِهِ: (مَكَانَ تَابَعْنَاكَ) بَايَعْنَاكَ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَفّانُ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ قُرَيْشاً صَالَحُوا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو. فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم لِعَلِيّ: "اكْتُبْ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ". قَالَ سُهَيْلٌ: أَمّا بِاسْمِ اللّهِ، فَمَا نَدْرِي مَا بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ. وَلَكِنِ اكْتُبْ مَا نَعْرِفُ: بِاسْمِكَ اللّهُمّ. فَقَالَ: "اكْتُبْ مِنْ مُحَمّدٍ رَسُولِ اللّهِ" قَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أَنّكَ رَسُولُ اللّهِ لاَتّبَعْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ اسْمَكَ وَاسْمَ أَبِيكَ. فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "اكْتُبْ مِنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ" فَاشْتَرَطُوا عَلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّ مَنْ جَاءَ مِنْكُمْ لَمْ نَرُدّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا. فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ أَنَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ، إنّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنّا إِلَيْهِمْ، فَأَبْعَدَهُ اللّهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ، سَيَجْعَلُ اللّهُ لَهُ فَرَجاً وَمَخْرَجاً".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ (وَتَقَارَبَا فِي اللّفْظِ): حَدّثَنَا أَبِي: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ سِيَاهٍ: حَدّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَامَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ يَوْمَ صِفّينَ فَقَالَ: أَيّهَا النّاسُ اتّهِمُوا أَنْفُسَكُمْ، لَقَدْ كُنّا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَلَوْ نَرَىَ قِتَالاً لَقَاتَلْنَا، وَذَلِكَ فِي الصّلْحِ الّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ. فَجَاءَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، فَأَتَىَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَلَسْنَا عَلَىَ حَقّ وَهُمْ عَلَىَ بَاطِلٍ؟ قَالَ: "بَلَىَ" قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النّارِ؟ قَالَ: "بَلَىَ" قَالَ: فَفِيمَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمّا يَحْكُمِ اللّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: "يَا ابْنَ الْخَطّابِ! إنّي رَسُولُ اللّهِ، وَلَنْ يُضَيّعَنِي اللّهُ أَبَداً" قَالَ: فَانْطَلَقَ عُمَرُ فَلَمْ يَصْبِرْ مُتَغَيّظاً، فَأَتَىَ أَبَا بَكْرٍ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَسْنَا عَلَىَ حَقّ وَهُمْ عَلَى بَاطِلٍ؟ قَالَ: بَلَىَ، قَالَ: أَلَيْسَ قَتْلاَنَا فِي الْجَنّةِ وَقَتْلاَهُمْ فِي النّارِ؟ قَالَ: بَلَىَ، قَالَ: فَعَلاَمَ نُعْطِي الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا، وَنَرْجِعُ وَلَمّا يَحْكُمِ اللّهُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ؟ فَقَالَ: يَا ابْنَ الْخَطّابِ! إنّهُ رَسُولُ اللّهِ وَلَنْ يُضَيّعَهُ اللّهُ أَبَداً. قَالَ: فَنَزَلَ الْقُرْآنُ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْفَتْحِ، فَأَرْسَلَ إلَىَ عُمَرَ فَأَقْرَأَهُ إيّاهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَوَ فَتْحٌ هُوَ؟ قَالَ: "نَعَمْ" فَطَابَتْ نَفْسُهُ وَرَجَعَ.
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ وَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ يَقُولُ، بِصِفّينَ: أَيّهَا النّاسُ اتّهِمُوا رَأْيَكُمْ، وَاللّهِ! لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَنّي أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدّ أَمْرَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَرَدَدْتُهُ. وَاللّهِ مَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَىَ عَوَاتِقِنَا إِلَىَ أَمْرٍ قَطّ، إِلاّ أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَىَ أَمْرٍ نَعْرِفُهُ. إِلاّ أَمْرَكُمْ هَذَا.
لَمْ يَذْكُرِ ابْنُ نُمَيْرٍ: إِلَىَ أَمْرٍ قَطّ.
وحدّثناه عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ، جَمِيعاً، عَنْ جَرِيرٍ. ح وَحَدّثَنِي أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجّ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ، كِلاَهُمَا، عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَفِي حَدِيثِهِمَا: إِلَىَ أَمْرٍ يُفْظِعُنَا.
وحدّثني إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعِيدٍ الجَوْهَرِيّ: حَدّثَنَا أَبُو أَسَامَةَ، عَنْ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ، عَنْ أَبِي حَصِينٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ بِصِفّينَ يَقُولُ: اتّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَىَ دِينِكُمْ، فَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدّ أَمْرَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، مَا فَتَحْنَا مِنْهُ فِي خُصْمٍ، إِلاّ انْفَجَرَ عَلَيْنَا مِنْهُ خُصْمٌ.
وحدّثنا نَصْرُ بْنُ عَلِيّ الْجهْضَمِيّ: حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ: حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَة، عَنْ قَتَادَةَ أَنّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدّثَهُمْ قَالَ: لَمّا نَزَلَتْ: {إِنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ}. إلَىَ قوله: {فَوْزاً عَظِيماً} (الفتح الاَيات: ) مَرْجِعَهُ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُمْ يُخَالِطُهُمُ الْحُزْنُ وَالْكَآبَةُ، وَقَدْ نَحَرَ الْهَدْيَ بِالْحُدَيْبِيَةِ. فَقَالَ: "لَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيّ آيَةٌ هِيَ أَحَبّ إِلَيّ مِنَ الدّنْيَا جَمِيعاً".
وحدّثنا عَاصِمُ بْنُ النّضْرِ التّيْمِيّ: حَدّثَنَا مُعْتَمِرٌ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، حَدّثَنَا قَتَادَةُ. قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا أَبُو دَاوُدَ: حَدّثَنَا هَمّامٌ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمّدٍ: حَدّثَنَا شَيْبَانُ، جَمِيعاً، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي عَرُوبَةَ.
في الحديبية والجعرانة لغتان التخفيف وهو الأفصح والتشديد وسبق بينهما في كتاب الحج. قوله: (هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله) وفي الرواية الأخرى: (هذا ما قاضى عليه محمد) قال العلماء: معنى قاضي هنا فاصل وأمضى أمره عليه ومنه قضى القاضي أي فصل الحكم وأمضاه ولهذا سميت تلك السنة عام المقاضاة وعمرة القضية وعمرة القضاء كله من هذا، وغلطوا من قال إنها سميت عمرة القضاء لقضاء العمرة التي صدعنها لأنه لا يجب قضاء المصدود عنها إذا تحلل بالاحصار كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في ذلك العام، وفي هذا الحديث دليل على أنه يجوز أن يكتب في أول الوثائق وكتب الأملاك والصداق والعتق والوقف والوصية ونحوها هذا ما اشترى فلان أو هذا ما أصدق أو وقف أو أعتق ونحوه. وهذا هو الصواب الذي عليه الجمهور من العلماء، وعليه عمل المسلمين في جميع الأزمان وجميع البلدان من غير إنكار. قال القاضي عياض رضي الله عنه: وفيه دليل على أنه يكتفي في ذلك بالإسم المشهور من غير زيادة خلافاً لمن قال لا بد من أربعة المذكور وأبيه وجده ونسبه، وفيه أن للإمام أن يعقد الصلح على ما رآه مصلحة للمسلمين وإن كان لا يظهر ذلك لبعض الناس في بادئ الرأي، وفيه احتمال المفسدة اليسيرة لدفع أعظم منها أو لتحصيل مصلحة أعظم منها إذا لم يمكن ذلك إلا بذلك. قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي امحه فقال ما أنا بالذي أمحاه) هكذا هو في جميع النسخ بالذي أمحاه وهي لغة في أمحوه، وهذا الذي فعله علي رضي الله عنه من باب الأدب المستحب لأنه لم يفهم من النبي صلى الله عليه وسلم تحتيم محو علي بنفسه ولهذا لم ينكر، ولو حتم محوه بنفسه لم يجز لعلي تركه ولما أقره النبي صلى الله عليه وسلم على المخالفة. قوله: (ض"ولا يدخلها بسلاح إلا جلبان السلاح)ض" قال أبو إسحاق السبيعي: جلبان السلاح هو القراب وما فيه والجلبان بضم الجيم، قال القاضي في المشارق: ضبطناه جلبان بضم الجيم واللام وتشديد الباء الموحدة، قال: وكذا رواه الأكثرون وصوبه ابن قتيبة وغيره ورواه بعضهم بإسكان اللام وكذا ذكره الهروي وصوبه وهو ثابت ولم يذكر ثابت سواه وهو ألطف من الجراب يكون من الأدم يوضع فيه السيف مغمداً ويطرح فيه الراكب سوطه وأداته ويعلقه في الرحل، قال العلماء: وإنما شرطوا هذا لوجهين: أحدهما أن لا يظهر منه دخول الغالبين القاهرين. والثاني أنه إن عرض فتنة أو نحوها يكون في الاستعداد بالسلاح صعوبة. قوله: (اشترطوا أن يدخلوا مكة فيقيموا بها ثلاثاً) قال العلماء: سبب هذا التقدير أن المهاجر من مكة لا يجوز له أن يقيم بها أكثر من ثلاثة أيام، وهذا أصل في أن الثلاثة ليس لها حكم الإقامة، وأما ما فوقها فله حكم الإقامة، وقد رتب الفقهاء على هذا قصر الصلاة فيمن نوى إقامة في بلد في طريقه وقاسوا على هذا الأصل مسائل كثيرة. قوله: (لما أحصر النبي صلى الله عليه وسلم عند البيت) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا أحصر عند البيت، وكذا نقله القاضي عن رواية جميع الرواة سوى ابن الحذاء فإن في روايته عن البيت وهو الوجه، وأما أحصر وحصر فسبق بيانهما في كتاب الحج.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أرني مكانها فأراه مكانها فمحاها وكتب ابن عبد الله" قال القاضي عياض رضي الله عنه: احتج بهذا اللفظ بعض الناس على أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب ذلك بيده على ظاهر هذا اللفظ، وقد ذكر البخاري نحوه من رواية إسرائيل عن أبي إسحاق وقال فيه: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب فكتب وزاد عنه في طريق آخر ولا يحسن أن يكتب فكتب، قال أصحاب هذا المذهب: إن الله تعالى أجرى ذلك على يده إما بأن كتب ذلك القلم بيده وهو غير عالم بما يكتب، أو أن الله تعالى علمه ذلك حينئذ حتى كتب وجعل هذا زيادة في معجزته فإنه كان أمياً، فكما علمه ما لم يعلم من العلم وجعله يقرأ ما لم يقرأ ويتلو ما لم يكن يتلو، كذلك علمه أن يكتب ما لم يكن يكتب وخط ما لم يكن يخط بعد النبوة أو جرى ذلك على يده، قالوا: وهذا لا يقدح في وصفه بالأمية، واحتجوا بآثار جاءت في هذا عن الشعبي بعض السلف وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى كتب، قال القاضي: وإلى جواز هذا ذهب الباجي وحكاه عن السمناني وأبي ذر وغيره وذهب الأكثرون إلى منع هذا كله قالوا: وهذا الذي زعمه الذاهبون إلى القول الأول يبطله وصف الله تعالى إياه بالنبي الأمي صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك} وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب" قالوا: وقوله في هذا الحديث كتب معناه أمر بالكتابة كما يقال رجم ماعزاً وقطع السارق وجلد الشارب أي أمر بذلك، واحتجوا بالرواية الاَخرى فقال لعلي رضي الله تعالى عنه: اكتب محمد بن عبد الله، قال القاضي: وأجاب الأولون عن قوله تعالى إنه لم يتل ولم يخط أي من قبل تعليمه كما قال الله تعالى من قبله فكما جاز أن يتلو جاز أن يكتب ولا يقدح هذا في كونه أمياً إذ ليست المعجزة مجرد كونه أمياً فإن المعجزة حاصلة بكونه صلى الله عليه وسلم كان أولاً كذلك ثم جاء بالقرآن وبعلوم لا يعلمها الأميون، قال القاضي: وهذا الذي قالوه ظاهر، قال: وقوله في الرواية التي ذكرناها ولا يحسن أن يكتب فكتب كالنص أنه كتب بنفسه، قال: والعدول إلى غيره مجاز ولا ضرورة إليه، قال: وقد طال كلام كل فرقة في هذه المسألة وشنعت كل فرقة على الأخرى في هذا والله أعلم. قوله: (فلما كان يوم الثالث) هكذا هو في النسخ كلها يوم الثالث بإضافة يوم إلى الثالث وهو من إضافة الموصوف إلى الصفة وقد سبق بيانه مرات، ومذهب الكوفيين جوازه على ظاهره، ومذهب البصريين تقدير محذوف منه أي يوم الزمان الثالث. قوله: (فأقام بها ثلاثة أيام فلما كان يوم الثالث قالوا لعلي هذا آخر يوم من شرط صاحبك فأمره أن يخرج فأخبره بذلك فقال نعم فخرج) هذا الحديث فيه حذف واختصار والمقصود أن هذا الكلام لم يقع في عام صلح الحديبية وإنما وقع في السنة الثانية وهي عمرة القضاء وكانوا شارطوا النبي صلى الله عليه وسلم في عام الحديبية أن يجيء بالعام المقبل فيعتمر ولا يقيم أكثر من ثلاثة أيام، فجاء في العام المقبل فأقام إلى أواخر اليوم الثالث فقالوا لعلي رضي الله تعالى عنه هذا الكلام فاختصر هذا الحديث، ولم يذكر أن الإقامة وهذا الكلام كان في العام المقبل واستغنى عن ذكره بكونه معلوماً وقد جاء مبيناً في روايات أخر، مع أنه قد علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل مكة عام الحديبية والله أعلم. فإن قيل: كيف أحوجوهم إلى أن يطلبوا منهم الخروج ويقوموا بالشرط؟ فالجواب أن هذا الطلب كان قبل انقضاء الأيام الثلاثة بيسير، وكان عزم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على الإرتحال عند انقضاء الثلاثة فاحتاط الكفار لأنفسهم وطلبوا إِلارتحال قبل انقضاء الثلاثة بيسير فخرجوا عند انقضائها وفاء بالشرط لا أنهم كانوا مقيمين لو لم يطلب ارتحالهم.
قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، قال سهيل: أما بسم الله فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ولكن اكتب ما نعرف باسمك اللهم) قال العلماء: وافقهم النبي صلى الله عليه وسلم في ترك كتابة بسم الله الرحمن الرحيم وأنه كتب باسمك اللهم، وكذا وافقهم في محمد بن عبد الله وترك كتابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا وافقهم في رد من جاء منهم إلينا دون من ذهب منا إليهم، وإنما وافقهم في هذه الأمور للمصلحة المهمة الحاصلة بالصلح مع أنه لا مفسدة في هذه الأمور، أما البسملة وباسمك اللهم فمعناهما واحد، وكذا قوله محمد بن عبد الله هو أيضاً رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في ترك وصف الله سبحانه وتعالى في هذا الموضع بالرحمن الرحيم ما ينفي ذلك ولا في ترك وصفه أيضاً صلى الله عليه وسلم هنا بالرسالة ما ينفيها فلا مفسدة فيما طلبوه، وإنما كانت المفسدة تكون لو طلبوا أن يكتب ما لا يحل من تعظيم آلهتهم ونحو ذلك، وأما شرط رد من جاء منهم ومنع من ذهب إليهم فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة فيهم في هذا الحديث بقوله: من ذهب منا إليهم فأبعده الله، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً، ثم كان كما قال صلى الله عليه وسلم: فجعل الله للذين جاؤونا منهم وردهم إليهم فرجاً ومخرجاً ولله الحمد وهذا من المعجزات. قال العلماء: والمصلحة المترتبة على إتمام هذا الصح ما ظهر من ثمراته الباهرة وفوائده المتظاهرة التي كانت عاقبتها فتح مكة وإسلام أهلها كلها ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وذلك أنهم قبل الصلح لم يكونوا يختلطون بالمسلمين ولا تتظاهر عندهم أمور النبي صلى الله عليه وسلم كما هي ولا يحلون بمن يعلمهم بها مفصلة، فلما حصل صلح الحديبيبة اختلطوا بالمسلمين وجاؤوا إلى المدينة وذهب المسلمون إلى مكة وحلوا بأهلهم وأصدقائهم وغيرهم ممن يستنصحونه وسمعوا منهم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مفصلة بجزئياتها ومعجزاته الظاهرة وأعلام نبوته المتظاهرة وحسن سيرته وجميل طريقته، وعاينوا بأنفسهم كثيراً من ذلك، فما زلت نفوسهم إلى الإيمان حتى بادر خلق منهم إلى الإسلام قبل فتح مكة فأسلموا بين صلح الحديبيبة وفتح مكة، وازداد الاَخرون ميلاً إلى الإسلام، فلما كان يوم الفتح أسلموا كلهم لما كان قد تمهد لهم من الميل، وكانت العرب من غير قريش في البوادي ينتظرون بإسلامهم إسلام قريش، فلما أسلمت قريش أسلمت العرب في البوادي. قال تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً}.
قوله: (حدثنا عبد العزيز بن سياه) هو بسين مهملة مكسورة ثم ياء مثناة من تحت مخففة ثم ألف ثم هاء في الوقف والدرج على وزني مياه وشياه. قوله: (قام سهل بن حنيف يوم صفين فقال: يا أيها الناس اتهموا أنفسكم إلى آخره) أراد بهذا تصبير الناس على الصلح وإعلامهم بما يرجى بعده من الخير فإنه يرجى مصيره إلى خير، وإن كان ظاهره في الإبتداء مما تكرهه النفوس كما كان شأن صلح الحديبية، وإنما قال سهل هذا القول حين ظهر من أصحاب علي رضي الله عنه كراهة التحكيم فأعلمهم بما جرى يوم الحديبية من كراهة أكثر الناس الصلح وأقوالهم في كراهته ومع هذا فأعقب خيراً عظيماً، فقررهم النبي صلى الله عليه وسلم على الصلح مع أن إرادتهم كانت مناجزة كفار مكة بالقتال، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: فعلام نعطي الدنية في ديننا والله أعلم. قوله: (ففيم نعطي الدنية في ديننا) هي بفتح الدال وكسر النون وتشديد الياء أي النقيصة والحالة الناقصة. قال العلماء: لم يكن سؤال عمر رضي الله عنه وكلامه المذكور شكاً بل طلباً لكشف ما خفي عليه وحثاً على إذلال الكفار وظهور الإسلام كما عرف من خلقه رضي الله عنه وقوته في نصرة الدين وإذلال المبطلين. وأما جواب أبي بكر رضي الله عنه لعمر بمثل جواب النبي صلى الله عليه وسلم فهو من الدلائل الظاهرة على عظيم فضله وبارع علمه وزيادة عرفانه ورسوخه في كل ذلك وزيادته فيه كله على غيره رضي الله عنه. قوله: (فنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفتح فأرسل إلى عمر فأقرأه إياه فقال: يا رسول الله أو فتح هو؟ قال نعم، فطابت نفسه ورجع) المراد أنه نزل قوله تعالى: {إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} وكان الفتح هو صلح يوم الحديبية، فقال عمر: أو فتح هو؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم لما فيه من الفوائد التي قدمنا ذكرها. وفيه إعلام الإمام والعالم كبار أصحابه بما يقع له من الأمور المهمة والبعث إليهم لإعلامهم بذلك والله أعلم. قوله: (يوم أبي جندل) هو يوم الحديبية، واسم أبي جندل العاص بن سهيل بن عمرو، وقوله: أمر يفظعنا أي يشق علينا ونخافه. قوله: (إلى أمركم) هذا يعني القتال الواقع بينهم وبين أهل الشام. قوله: (عن أبي حصين) بفتح الحاء وكسر الصاد. قوله: (عن سهل بن حنيف أنه قال: اتهموا رأيكم على دينكم فلقد رأيتني يوم أبي جندل ولو أستطيع أن أرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فتحنا منه في خصم إلا انفجر علينا من خصم) هكذا وقع هذا الحديث في نسخ صحيح مسلم كلها وفيه محذوف وهو جواب لو تقديره ولو أستطيع أن أرد أمره صلى الله عليه وسلم لرددته. ومنه قوله تعالى: {ولو ترى إذ المجرمون} {ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت} {ولو ترى إذ الظالمون موقوفون} ونظائره، فكله محذوف جواب لو لدلالة الكلام عليه. وأما قوله ما فتحنا منه خصماً فالضمير في منه عائد إلى قوله: اتهموا رأيكم ومعناه ما أصلحنا من رأيكم وأمركم هذا ناحية إلا انفتحت أخرى، ولا يصح إعادة الضمير إلى غير ما ذكرناه. وأما قوله: ما فتحنا منه خصماً فكذا هو في مسلم، قال القاضي: وهو غلط أو تغيير وصوابه ما سددنا منه خصماً، وكذا هو في رواية البخاري ما سددنا به ويستقيم الكلام ويتقابل سددنا بقوله إلا انفجر، وأما الخصم فبضم الخاء وخصم كل شيء طرفه وناحيته وشبهه بخصم الرواية وانفجار الماء من طرفها أو بخصم الغرارة والخرج وانصباب ما فيه بانفجاره، وفي هذه الأحاديث دليل لجواز مصالحة الكفار إذا كان فيها مصلحة وهو مجمع عليه عند الحاجة، ومذهبنا أن مدتها لا تزيد على عشر سنين إذا لم يكن الإمام مستظهراً عليهم، وإن كان مستظهراً لم يزد على أربعة أشهر، وفي قول يجوز دون سنة، وقال مالك: لا حد لذلك بل يجوز ذلك قل أم كثر بحسب رأي الإمام والله أعلم
*2* باب الوفاء بالعهد
*وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَة، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ جُمَيْعٍ: حَدّثَنَا أَبُو الطّفَيْلِ: حَدّثَنَا حُذَيْفَةُ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْراً إلاّ أَنّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي، حُسَيْلٌ. قَالَ: فَأَخَذَنَا كُفّارُ قُرَيْشٍ. قَالُوا: إِنّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمّداً؟ فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إلاّ الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنّا عَهْدَ اللّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنّ إلَىَ الْمَدِينَةِ وَلاَ نُقَاتِلُ مَعَهُ. فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ. فَقَالَ: "انْصَرِفَا. نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللّهَ عَلَيْهِمْ".
قوله عن حذيفة بن اليمان: (خرجت أنا وأبي حسيل) إلى آخره، هو حسيل بحاء مضمومة ثم سين مفتوحة مهملتين ثم ياء ثم لام، ويقال له أيضاً حسل بكسر الحاء وإسكان السين وهو والد حذيفة واليمان لقب له، والمشهور في استعمال المحدثين أنه اليمان بالنون من غير ياء بعدها وهي لغة قليلة والصحيح اليماني بالياء، وكذا عمرو بن العاص وعبد الرحمن بن أبي الموالي وشداد بن الهادي والمشهور للمحدثين حذف الياء والصحيح إثباتها. قوله: (فأخذنا كفار قريش فقالوا إنكم تريدون محمداً قلنا ما نريده ما نريد إلا المدينة فأخذوا علينا عهد الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتل معه فأتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال انصرفا نفي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم) في هذا الحديث جواز الكذب في الحرب، وإذا أمكن التعريض في الحرب فهو أولى، ومع هذا يجوز الكذب في الحرب وفي الإصلاح بين الناس وكذب الزوج لامرأته كما صرح به الحديث الصحيح، وفيه الوفاء بالعهد، وقد اختلف العلماء في الأسير يعاهد الكفار أن لا يهرب منهم فقال الشافعي وأبو حنيفة والكوفيون: لا يلزمه ذلك بل متى أمكنه الهرب هرب. وقال مالك: يلزمه، واتفقوا على أنه لو أكرهوه فحلف لا يهرب لا يمين عليه لأنه مكره. وأما قضية حذيفة وأبيه فإن الكفار استحلفوهما لا يقاتلان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة بدر فأمرهما النبي صلى الله عليه وسلم بالوفاء وهذا ليس للإيجاب، فإنه لا يجب الوفاء بترك الجهاد مع الإمام ونائبه، ولكن أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يشيع عن أصحابه نقض العهد وإن كان لا يلزمهم ذلك لأن المشيع عليهم لا يذكر تأويلاً
*2* باب غزوة الأحزاب
*حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعاً، عَنْ جَرِيرٍ، قَالَ زُهَيْرٌ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ التّيْمِيّ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنّا عِنْدَ حُذَيْفَةَ. فَقَالَ رَجُلٌ: لَوْ أَدْرَكْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَاتَلْتُ مَعَهُ وَأَبْلَيْتُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: أَنْتَ كُنْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ لَقَدْ رَأَيْتُنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الأَحْزَابِ، وَأَخَذَتْنَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ وَقُرّ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟" فَسَكَتْنَا. فَلَمْ يُجِبْهُ مِنّا أَحَدٌ. ثُمّ قَالَ: "أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟" فَسَكَتْنَا. فَلَمْ يُجِبْهُ مِنّا أَحَدٌ. ثُمّ قَالَ: "أَلاَ رَجُلٌ يَأْتِينَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ، جَعَلَهُ اللّهُ مَعِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟" فَسَكَتْنَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنّا أَحَدٌ. فَقَالَ: "قُمْ. يَا حُذَيْفَةُ! فَأْتِنَا بِخَبَرِ الْقَوْمِ" فَلَمْ أَجِدْ بُدّاً، إذْ دَعَانِي بِاسْمِي، أَنْ أَقُومَ. قَالَ: "اذْهَبْ. فَأْتِنِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَيّ" فَلَمّا وَلّيْتُ مِنْ عِنْدِهِ جَعَلْتُ كَأَنّمَا أَمْشِي فِي حَمّامٍ، حَتّىَ أَتَيْتُهُمْ. فَرَأَيْتُ أَبَا سُفْيَانَ يَصْلِي ظَهْرَهُ بِالنّارِ، فَوَضَعْتُ سَهْماً فِي كَبِدِ الْقَوْسِ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْمِيَهُ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَلاَ تَذْعَرْهُمْ عَلَيّ" وَلَوْ رَمَيْتُهُ لأَصَبْتُهُ. فَرَجَعْتُ وَأَنَا أَمْشِي فِي مِثْلِ الْحَمّامِ، فَلَمّا أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِخَبَرِ الْقَوْمِ، وَفَرَغْتُ، قُرِرْتُ. فَأَلْبَسَنِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ فَضْلِ عَبَاءَةٍ كَانَتْ عَلَيْهِ يُصَلّي فِيهَا، فَلَمْ أَزَلْ نَائِماً حَتّىَ أَصْبَحْتُ، فَلَمّا أَصْبَحْتُ قَالَ: "قُمْ. يَا نَوْمَانُ!".
قوله: (كنا عند حذيفة فقال رجل: لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت فقال له حذيفة ما قال) معناه أن حذيفة فهم منه أنه لو أدرك النبي صلى الله عليه وسلم لبالغ في نصرته ولزاد على الصحابة رضي الله عنهم فأخبره بخبره في ليلة الأحزاب وقصد زجره عن ظنه أنه يفعل أكثر من فعل الصحابة. قوله: (وأخذتنا ريح شديدة وقر) هو بضم القاف وهو البرد. وقوله بعد هذا: (قررت) هو بضم القاف وكسر الراء أي بردت. قوله صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأتني بخبر القوم ولا تذعرهم علي" هو بفتح التاء وبالذال المعجمة معناه لا تفزعهم علي ولا تحركهم علي وقيل معناه لا تنفردهم وهو قريب من المعنى الأول، والمراد لا تحركهم عليك فإنهم إن أخذوك كان ذلك ضرراً علي لأنك رسولي وصاحبي. قوله: (فلما وليت من عنده جعلت كأنما أمشي في حمام حتى أتيتهم) يعني أنه لم يجد البرد الذي يجده الناس ولا من تلك الريح الشديدة شيئاً، بل عافاه الله منه ببركة إجابته للنبي صلى الله عليه وسلم وذهابه فيما وجهه له ودعائه صلى الله عليه وسلم له، واستمر ذلك اللطف به ومعافاته من البرد حتى عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع ووصل عاد إليه البرد الذي يجده الناس، وهذه من معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظة الحمام عربية وهو مذكر مشتق من الحميم وهو الماء الحار. قوله: (فرأيت أبا سفيان يصلي ظهره) هو بفتح الياء وإسكان الصاد أي يدفئه ويدنيه منها وهو الصلا بفتح الصاد والقصر والصلا بكسرها والمد. قوله: (كبد القوس) هو مقبضها وكبد كل شيء وسطه. قوله: (فألبسني رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها) العباءة بالمد والعباية بزيادة ياء لغتان مشهورتان معروفتان، وفيه جواز الصلاة في الصوف وهو جائز بإجماع من يعتد به وسواء الصلاة عليه وفيه ولا كراهية في ذلك، قال العبدري من أصحابنا: وقالت الشيعة لا تجوز الصلاة على الصوف وتجوز فيه. وقال مالك: يكره كراهة تنزيه. قوله: (فلم أزل نائماً حتى أصبحت فلما أصبحت قال قم يا نومان) هو بفتح النون وإسكان الواو وهو كثير النوم، وأكثر ما يستعمل في النداء كما استعمله هنا. وقوله: (أصبحت) أي طلع الفجر، وفي هذا الحديث أنه ينبغي للإمام وأمير الجيش بعث الجواسيس والطلائع لكشف خبر العدو والله أعلم
*2* باب غزوة أُحد
*وحدّثنا هَدّابُ بْنُ خَالِدٍ الأَزْدِيّ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَلِيّ بْنِ زَيْدٍ وَ ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أُفْرِدَ يَوْمَ أُحُدٍ فِي سَبْعَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَرَجُلَيْنِ مِنْ قُريْشٍ. فَلَمّا رَهِقُوهُ قَالَ: "مَنْ يَرُدّهُمْ عَنّا وَلَهُ الْجَنّةُ، أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنّةِ؟" فَتَقَدّمَ رَجُلٌ، مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتّىَ قُتِلَ، ثُمّ رَهِقُوهُ أَيْضاً. فَقَالَ: "مَنْ يَرُدّهُمْ عَنّا وَلَهُ الْجَنّةُ، أَوْ هُوَ رَفِيقِي فِي الْجَنّةِ؟" فَتَقَدّمَ رَجُلٌ، مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَاتَلَ حَتّىَ قُتِلَ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتّىَ قُتِلَ السّبْعَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِصَاحِبَيْهِ: "مَا أَنْصَفْنَا أَصْحَابَنَا".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّمِيمِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ يُسْأَلُ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، يَوْمَ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: جُرِحَ وَجْهُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ، وَهُشِمَتِ الْبَيْضَةُ عَلَىَ رَأْسِهِ، فَكَانَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تَغْسِلُ الدّمَ، وَكَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ يَسْكُبُ عَلَيْهَا بِالْمِجَنّ. فَلَمّا رَأَتْ فَاطِمَةُ أَنّ الْمَاءَ لاَ يَزِيدُ الدّمَ إلاّ كَثْرَةً، أَخَذَتْ قِطْعَةَ حَصِيرٍ فَأَحْرَقَتْهُ حَتّىَ صَارَ رَمَاداً، ثُمّ أَلْصَقَتْهُ بِالْجُرْحِ، فَاسْتَمْسَكَ الدّمُ.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْقَارِيّ) عَنْ أَبِي حَازِمٍ أَنّهُ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ وَهُوَ يُسْأَلُ عَنْ جُرْحِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: أَمَ، وَاللّهِ! إِنّي لأَعْرِفُ مَنْ كَانَ يَغْسِلُ جُرْحَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمَنْ كَانَ يَسْكُبُ الْمَاءَ، وَبِمَاذَا دُووِيَ جُرْحُهُ. ثُمّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَبْدِ الْعَزِيزِ. غَيْرَ أَنّهُ زَادَ: وَجُرِحَ وَجْهُهُ. وَقَالَ (مَكَانَ هُشِمَتْ): كُسِرَتْ.
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيم وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ، جَمِيعاً، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ. ح وَحَدّثَنَا عَمْرُو بْنُ سَوّادٍ الْعَامِرِيّ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ سَهْلٍ التّمِيمِيّ. حَدّثَنِي ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ (يَعْنِي ابْنَ مُطَرّفٍ). كُلّهُمْ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فِي حَدِيثِ ابْنِ أَبِي هِلاَلٍ: أُصِيبَ وَجْهُهُ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مُطَرّفٍ: جُرِحَ وَجْهُهُ.
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كُسِرَتْ رَبَاعِيَتُهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَشُجّ فِي رَأْسِهِ، فَجَعَلَ يَسْلُتُ الدّمَ عَنْهُ وَيَقُولُ: "كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ شَجّوا نَبِيّهُمْ وَكَسَرُوا رَبَاعِيَتَهُ، وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلَىَ اللّهِ؟" فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} (3 آل عمران الاَية: 8).
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ: حَدّثَنَا الأَعْمَشُ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: كَأَنّي أَنْظُرُ إلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. يَحْكِي نَبِيّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: "رَبّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ وَمُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ عَنِ، الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: فَهُوَ يَنْضِحُ الدّمَ عَنْ جَبِينِهِ.
قوله: (حدثنا هداب بن خالد الأزدي) هكذا هو في جميع النسخ الأزدي، وكذا قاله البخاري في التاريخ وابن أبي حاتم في كتابه وغيرهما. وذكره ابن عدي والسمعاني فقالا: هو قيسي فقد ذكر البخاري أخاه أمية بن خالد فنسبه قيسياً. وذكره الباجي فقال: القيسي الأزدي. قال القاضي عياض: هذان نسبتان مختلفتان لأن الأزد من اليمن وقيس من معد، قال: ولكن قيس هنا ليس قيس غيلان بل قيس بن يونان من الأزد فتصح النسبتان، قال القاضي: وقد جاء مثل هذا في صحيح مسلم في زياد بن رباح القيسي ويقال رياح كذا نسبه مسلم في غير موضع القيسي، وقال في النذور التيمي قيل لعله من تيم بن قيس بن ثعلبة بن بكر بن وائل فيجتمع النسبتان، وإلا فتيم قريش لا تجتمع هي وقيس، هذا كلام القاضي، وقد سبق بيان ضبط هداب هذا مرات وأنه بفتح الهاء وتشديد الدال وأنه يقال له هدبة بضم الهاء قيل هدبة اسم وهداب لقب وقيل عكسه. قوله: (فلما رهقوه) هو بكسر الهاء أي غشوه وقربوا منه أرهقه أي غشيه، قال صاحب الأفعال: رهقته وأرهقته أي أدركته، قال القاضي في المشارق: قيل لا يستعمل ذلك إلا في المكروه، قال: وقال ثابت كل شيء دنوت منه فقد رهقته والله أعلم. قوله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان معه سبعة رجال من الأنصار ورجلان من قريش فقتلت السبعة فقال لصاحبيه صلى الله عليه وسلم: ما أنصفنا أصحابنا) الرواية المشهورة فيه ما أنصفنا بإسكان الفاء وأصحابنا منصوب مفعول به، هكذا ضبطه جماهير العلماء من المتقدمين والمتأخرين ومعناه ما أنصفت قريش الأنصار لكون القرشيين لم يخرجا للقتال بل خرجت الأنصار واحداً بعد واحد، وذكر القاضي وغيره أن بعضهم رواه ما أنصفنا بفتح الفاء والمراد على هذا الذين فروا من القتال فإنهم لم ينصفوا لفرارهم.
قوله: (حدثنا يحيى بن يحيى التميمي حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا وكذا ذكره أصحاب الأطراف، وذكر القاضي عن بعض رواة كتاب مسلم أنهم جعلوا أبا بكر بن أبي شيبة بدل يحيى بن يحيى قال والصواب الأول. قوله: (وكسرت رباعيته) هي بتخفيف الياء وهي السن التي تلي الثنية من كل جانب وللإنسان أربع رباعيات، وفي هذا وقوع إِلانتقام والإبتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لينالوا جزيل الأجر، ولتعرف أممهم وغيرهم ما أصابهم ويتأسوا بهم، قال القاضي: وليعلم أنهم من البشر تصيبهم محن الدنيا ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر ليتيقنوا أنهم مخلوقون مربوبون ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات وتلبس الشيطان من أمرهم ما لبسه على النصارى غيرهم. قوله: (وهشمت البيضة على رأسه) فيه استحباب لبس البيضة والدروع وغيرها من أسباب التحصن في الحرب وأنه ليس بقادح في التوكل. قوله: (يسكب عليها بالمجن) أي يصب عليها بالترس وهو بكسر الميم، وفي هذا الحديث إثبات المداواة ومعالجة الجراح وأنه لا يقدح في التوكل لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع قوله تعالى: {وتوكل على الحي الذي لا يموت} قوله: (دووي جرحه) هو بواوين ويقع في بعض النسخ بواو واحدة وتكون الأخرى محذوفة كما حذفت من داود في الخط.
قوله: "أن النبي صلى الله عليه وسلم حكى نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ضربه وقومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" فيه ما كانوا عليه صلوات الله وسلامه عليهم من الحلم والتصبر والعفو والشفقة على قومهم ودعائهم لهم بالهداية والغفران وعذرهم في جنايتهم على أنفسهم بأنهم لا يعلمون، وهذا النبي المشار إليه من المتقدمين وقد جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم مثل هذا يوم أحد. قوله: (وهو ينضح الدم عن جبينه) هو بكسر الضاد أي يغسله ويزيله
*2* باب اشتداد غضب اللّه على من قتله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ: حَدّثَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "اشْتَدّ غَضَبُ اللّهِ عَلَىَ قَوْمٍ فَعَلُوا هَذَا بِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم" وَهُوَ حِينَئِذٍ يُشِيرُ إلَىَ رَبَاعِيَتِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "اشْتَدّ غَضَبُ اللّهِ عَلَىَ رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللّهِ فِي سَبِيلِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ".
قوله: (اشتد غضب الله تعالى على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله) فقوله في سبيل الله احتراز ممن يقتله في حد أو قصاص، لأن من يقتله في سبيل الله كان قاصداً قتل النبي صلى الله عليه وسلم
*2* باب ما لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين والمنافقين
*وحدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبّانٍ الْجُعْفِيّ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحِيمِ (يَعْنِي ابْنَ سُلَيْمَانَ) عَنْ زَكَرِيّاءَ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الأَوْدِيّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُصَلّي عِنْدَ الْبَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بِالأَمْسِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيّكُمْ يَقُومُ إلَىَ سَلاَ جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَأْخُذُهُ، فَيَضَعُهُ فِي كَتِفَيْ مُحَمّدٍ إذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى الْقَوْمِ فَأَخَذَهُ، فَلَمّا سَجَدَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. قَالَ: فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ عَلَىَ بَعْضٍ، وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لَوْ كَانَتْ لِي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عَنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَالنّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ، مَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتّى انْطَلَقَ إنْسَانٌ فَأَخْبَرَ فَاطِمَةَ. فَجَاءَتْ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عَنْهُ. ثُمّ أَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَشْتِمُهُمْ، فَلَمّا قَضَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم صَلاَتَهُ رَفَعَ صَوْتَهُ ثُمّ دَعَا عَلَيْهِمْ، وَكَانَ إذَا دَعَا، دَعَا ثَلاَثاً. وَإِذَا سَأَلَ، سَأَلَ ثَلاَثاً. ثُمّ قَالَ: "اللّهُمّ! عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلاَثَ مَرّاتٍ. فَلَمّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عَنْهُمُ الضّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ. ثُمّ قَالَ: "اللّهُمّ! عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ" (وَذَكَرَ السّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ) فَوَالّذِي بَعَثَ مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم بِالْحَقّ لَقَدْ رَأَيْتُ الّذِينَ سَمّىَ صَرْعَىَ يَوْمَ بَدْرٍ. ثُمّ سُحِبُوا إلَىَ الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ.
قَالَ أَبُو إِسْحَقَ: الْوَلِيدُ بْنُ عُقْبَةَ غَلَطٌ فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لابْنِ الْمُثَنّىَ) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ ابْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَقَ يُحَدّثُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَاجِدٌ، وَحَوْلَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ، إِذْ جَاءَ عُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ بِسَلاَ جَزُورٍ، فَقَذَفَهُ عَلَىَ ظَهْرِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمْ يَرْفَعْ رَأْسَهُ. فَجَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَخَذَتْهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَدَعَتْ عَلَىَ مَنْ صَنَعَ ذَلِكَ. فَقَالَ: "اللّهُمّ! عَلَيْكَ الْمَلأَ مِنْ قُرَيْشٍ، أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ، وَشَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ، أَوْ أُبَيّ بْنَ خَلَفٍ (شُعْبَةُ الشّاكّ)" قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُمْ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِي بِئْرٍ، غَيْرَ أَنّ أُمَيّةَ أَوْ أُبَيّا تَقَطّعَتْ أَوْصَالُهُ، فَلَمْ يُلْقَ فِي البِئْرِ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ. وَزَادَ: وَكَانَ يَسْتَحِبّ ثَلاَثاً يَقُولُ "اللّهُمّ! عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ. اللّهُمّ! عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ، اللّهُمّ! عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ" ثَلاَثاً. وَذَكَرَ فِيهِمُ الْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ، وَأُمَيّةَ بْنَ خَلَفٍ، وَلَمْ يَشُكّ. قَالَ أَبُو إِسْحَقَ: وَنَسِيتُ السّابِعَ.
وحدّثني سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ: حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ: حَدّثَنَا زُهَيْرٌ: حَدّثَنَا أَبُو إِسْحَقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: اسْتَقْبَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ، فَدَعَا عَلَىَ سِتّةِ نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فِيهِمْ أَبُو جَهْلٍ وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ أَبِي مُعَيْطٍ، فَأُقْسِمُ بِاللّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَىَ عَلَىَ بَدْرٍ، قَدْ غَيّرَتْهُمُ الشّمْسُ، وَكَانَ يَوْماً حَارّاً.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ، وَ عَمْرُو بْنُ سَوّادٍ الْعَامِرِيّ (وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ) قَالُوا: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: حَدّثَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ أَنّ عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم حَدّثَتْهُ أَنّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا رَسُولَ اللّهِ! هَلْ أَتَىَ عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ فَقَالَ: "لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ، وَكَانَ أَشَدّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ، فَلَمْ يُجِبْنِي إلَىَ مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَىَ وَجْهِي، فَلَمْ أَسْتَفِقْ إلاّ بِقَرْنِ الثّعَالِبِ. فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإذَا فِيهَا جِبْرِيلُ، فَنَادَانِي. فَقَالَ: إنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. قَالَ: فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ وَسَلّمَ عَلَيّ. ثُمّ قَالَ: يَا مُحَمّدُ! إنّ اللّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ، وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَدْ بَعَثَنِي رَبّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِكَ. فَمَا شِئْتَ؟ إنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ". فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللّهَ وَحْدَهُ، لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: كِلاَهُمَا عَنْ أَبِي عَوَانَةَ. قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ جُنْدُبِ بْنِ سُفْيَانَ قَالَ: دَمِيَتْ إصْبَعُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ تِلْكَ الْمَشَاهِدِ. فَقَالَ:
"هَلْ أَنْتِ إلاّ إصْبَعٌ دَمِيتِوَفِي سَبِيلِ اللّهِ مَا لَقِيتِ"
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، جَمِيعاً، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ، فَنُكِبَتْ إصْبَعُهُ.
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ أَنّهُ سَمِعَ جُنْدُباً يَقُولُ: أَبْطَأَ جِبْرِيلُ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ وُدّعَ مُحَمّدٌ. فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {وَالضّحَىَ. وَاللّيْلِ إِذَا سَجَىَ. مَا وَدّعَكَ رَبّكَ وَمَا قَلَىَ} (الضحى الاَيات: 1، 2، 3).
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ (وَاللّفْظُ لابْنِ رَافِعٍ) (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ آدَمَ): حدّثَنَا زُهَيْرٌ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدُبَ ابْنَ سُفْيَانَ يَقُولُ: اشْتَكَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً، فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمّدُ! إنّي لأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ، لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلاَثٍ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {وَالضّحَىَ. وَاللّيْلِ إِذَا سَجَىَ. مَا وَدّعَكَ رَبّكَ وَمَا قَلَىَ}.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ، قَالُوا: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا الْمُلاَئِيّ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ، كِلاَهُمَا، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ قَيْسٍ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِهِمَا.
قوله: (أيكم يقوم إلى سلا جزور بني فلان إلى آخره) السلا بفتح السين المهملة وتخفيف اللام مقصور وهو اللفاقة التي يكون فيها الولد في بطن الناقة وسائر الحيوان وهي من الاَدمية المشيمة. قوله: (فانبعث أشقى القوم) هو عقبة بن أبي معيط كما صرح في الرواية الثانية، وفي هذا الحديث إشكال فإنه يقال كيف استمر في الصلاة مع وجود النجاسة على ظهره؟ وأجاب القاضي عياض بأن هذا ليس بنجس قال: لأن الفرث ورطوبة البدن طاهران والسلا من ذلك وإنما النجس الدم، وهذا الجواب يجيء على مذهب مالك ومن وافقه أن روث ما يؤكل لحمه طاهر، ومذهبنا ومذهب أبي حنيفة واخرين نجاسته، وهذا الجواب الذي ذكره القاضي ضعيف أو باطل، لأن هذا السلا يتضمن النجاسة من حيث أنه لا ينفك من الدم في العادة ولأنه ذبيحة عباد الأوثان فهو نجس، وكذلك اللحم وجميع أجزاء هذا الجزور. وأما الجواب المرضي أنه صلى الله عليه وسلم لم يعلم ما وضع على ظهره فاستمر في سجوده استصحاباً للطهارة، وما ندري هل كانت هذه الصلاة فريضة فتجب إعادتها على الصحيح عندنا أم غيرها فلا تجب، فإن وجبت الإعادة فالوقت موسع لها، فإن قيل يبعد أن لا يحس بما وقع على ظهره، قلنا: وإن أحس به فما يتحقق أنه نجاسة والله أعلم. قوله: (لو كانت لي منعة طرحته) هي بفتح النون وحكي إسكانها وهو شاذ ضعيف، ومعناه لو كان لي قوة تمنع أذاهم أو كان لي عشيرة بمكة تمنعني، وعلى هذا منعة جمع مانع ككتاب وكتبة. قوله: (وكان إذا دعا دعا ثلاثاً وإذا سأل سأل ثلاثاً) فيه استحباب تكرير الدعاء ثلاثاً. وقوله: وإذا سأل هو الدعاء لكن عطفه لاختلاف اللفظ توكيداً. قوله: (ثم قال اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عقبة) هكذا هو في جميع نسخ مسلم والوليد بن عقبة بالقاف، واتفق العلماء على أنه غلط وصوابه والوليد بن عتبة بالتاء كما ذكره مسلم في رواية أبي بكر بن أبي شيبة بعد هذا، وقد ذكره البخاري في صحيحه وغيره من أئمة الحديث على الصواب، وقد نبه عليه إبراهيم بن سفيان في آخر الحديث فقال الوليد بن عقبة في هذا الحديث غلط، قال العلماء: والوليد بن سفيان في آخر الحديث فقال الوليد بن عقبة في هذا الحديث غلط، قال العلماء: والوليد بن عقبة بالقاف هو ابن أبي معيط ولم يكن ذلك الوقت موجوداً أو كان طفلاً صغيراً جداً فقد أتى به النبي صلى الله عليهوسلم يوم الفتح وهو قد ناهز الإحتلام ليمسح على رأسه. قوله: (وذكر السابع ولم أحفظه) وقد وقع في رواية البخاري تسمية السابع أنه عمارة بن الوليد. قوله: "والذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق لقد رأيت الذين سمى صرعى يوم بدر ثم سحبوا إلى القليب قليب بدر" هذه إحدى دعواته صلى الله عليه وسلم المجابة، والقليب هي البئر التي لم تطو، وإنما وضعوا في القليب تحقيراً لهم ولئلا يتأذى الناس برائحتهم وليس هو دفناً لأن الحربي لا يجب دفنه، قال أصحابنا: بل يترك في الصحراء إلا أن يتأذى به، قال القاضي عياض: اعترض بعضهم على هذا الحديث في قوله: رأيتهم صرعى ببدر ومعلوم أن أهل السير قالوا أن عمارة بن الوليد وهو أحد السبعة كان عند النجاشي فاتهمه في حرمه وكان جميلاً فنفخ في إحليله سحراً فهام مع الوحوش في بعض جزائز الحبشة فهلك. قال القاضي: وجوابه أن المراد أنه رأى أكثرهم بدليل أن عقبة بن أبي معيط منهم ولم يقتل ببدر بل حمل منها أسيراً، وإنما قتله النبي صلى الله عليه وسلم صبراً بعد انصرافه من بدر بعرق الظبية، قلت: الظبية ظاء معجمة مضمومة ثم باء موحدة ساكنة ثم ياء مثناة تحت ثم هاء هكذا ضبطه الحازمي في كتابه المؤتلف في الأماكن، قال: قال الواقدي هو من الروحاء على ثلاثة أميال مما يلي المدينة. قوله: (أوصاله فلم يلق في البئر) الأوصال المفاصل. قوله: (فلم يلق) هكذا هو في بعض النسخ بالقاف فقط وفي أكثرها فلم يلقى بالألف هو جائز على لغة وقد سبق بيانه مرات وقريباً. قوله في رواية أبي بكر بن أبي شيبة. (وكان يستحب ثلاثاً) هكذا هو في نسخ بلادنا يستحب بالباء الموحدة في آخره، وذكر القاضي أنه روي بهاء وبالموحدة وبالمثلثة قال وهو الأظهر ومعناه الإلحاح.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فلم أستفق إلا بقرن الثعالب" أي لم أوطن لنفسي وأتنبه لحالي وللموضع الذي أنا ذاهب إليه وفيه إلا وأنا عند قرن الثعالب لكثرة همي الذي كنت فيه، قال القاضي: قرن الثعالب هو قرن المنازل وهو ميقات أهل نجد وهو على مرحلتين من مكة وأصل القرن كل جبل صغير ينقطع من جبل كبير. قوله: (إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين) هما بفتح الهمزة وبالخاء والشين المعجمتين وهما جبلا مكة أبو قبيس والجبل الذي يقابله. قوله صلى الله عليه وسلم: "هل أنت إلا أصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت" لفظ ما هنا بمعنى الذي أي الذي لقيته محسوب في سبيل الله، وقد سبق في باب غزوة حنين أن الرجز هل هو شعر وأن من قال هو شعر؟ قال: شرط الشعر أن يكون مقصوداً وهذا ليس مقصوداً، وأن الرواية المعروفة دميت ولقيت بكسر التاء وأن بعضهم أسكنها. قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم في غار فنكبت أصبعه) كذا هو في الأصول في غار، قال القاضي عياض: قال أبو الوليد الكناني لعله غازياً فتصحف كما قال في الرواية الأخرى في بعض المشاهد وكما جاء في رواية البخاري: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يمشي إذ أصابه حجر، قال القاضي: وقد يراد بالغار هنا الجيش والجمع لا الغار الذي هو الكهف فيوافق رواية بعض المشاهد، ومنه قول علي رضي الله عنه: ما ظنك بامرئ بين هذين الغارين أي العسركين والجمعين.
قوله: (واشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثاً فجاءته امرأة فقالت يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاث فأنزل الله تعالى: {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى}) قال ابن عباس رضي الله عنه: ما ودعك أي ما قطعك منذ أرسلك، وما قلى أي ما أبغضك، وسمى الوداع وداعاً لأنه فراق ومتاركة، وقوله: ما قربك هو بكسر الراء والمضارع يقربك بفتحها، وقوله ما ودعك هو بتشديد الدال على القراءات الصحيحة المشهورة التي قرأ بها القراء السبعة وقرئ في الشاذ بتخفيفها قال أبو عبيد: هو من ودعه يدعه معناه ما تركك، قال القاضي: النحويون ينكرون أن يأتي منه ماض أو مصدر، قالوا: وإنما جاء منه المستقبل والأمر لا غير وكذلك يذر، قال القاضي: وقد جاء الماضي والمستقبل منهما جميعاً كما قال الشاعر:
وكأن ما قدموا لأنفسهم أكثر نفعاً من الذي ودعوا
وقال: ما الذي غاله في الواد حتى يدعه. غاله بالغين المعجمة أي أخذه
*2* باب في دعاء النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصبره على أذى المنافقين
*حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الحَنْظَلِيّ وَ مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (وَاللّفْظُ لابْنِ رَافِعٍ) (قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ). أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ أَنّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَكِبَ حِمَاراً، عَلَيْهِ إكَافٌ، تَحْتَهُ قَطِيفَةٌ فَدَكِيّةٌ، وَأَرْدَفَ وَرَاءَهُ أُسَامَةَ، وَهُوَ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، وَذَاكَ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، حَتّىَ مَرّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلاَطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الأَوْثَانِ، والْيَهُودِ. فِيهِمْ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيَ، وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَلَمّا غَشِيَتِ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدّابّةِ، خَمّرَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ. ثُمّ قَالَ: لاَ تُغَبّرُوا عَلَيْنَا. فَسَلّمَ عَلَيْهِمُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ثُمّ وَقَفَ فَنَزَلَ. فَدَعَاهُمْ إلَىَ اللّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ. فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيّ: أَيّهَا الْمَرْءُ! لاَ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا، إنْ كَانَ مَا تَقُولُ حَقّاً، فَلاَ تُؤْذِنَا فِي مَجَالِسِنَا، وَارْجِعْ إلَىَ رَحْلِكَ، فَمَنْ جَاءَكَ مِنّا فَاقْصُصْ عَلَيْهِ. فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَوَاحَةَ: اغْشَنَا فِي مَجَالِسِنَا، فَإِنّا نُحِبّ ذَلِكَ. قَالَ: فَاسْتَبّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ. حَتّىَ هَمّوا أَنْ يَتَوَاثَبُوا، فَلَمْ يَزَلِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يُخَفّضُهُمْ، ثُمّ رَكِبَ دَابّتَهُ حَتّىَ دَخَلَ عَلَىَ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. فَقَالَ: "أَيْ سَعْدُ! أَلَمْ تَسْمَعْ إلَىَ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ؟ (يُرِيدُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ) قَالَ كَذَا وَكَذَا" قَالَ: اعْفُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! وَاصْفَحْ. فَوَاللّهِ! لَقَدْ أَعْطَاكَ اللّهُ الّذِي أَعْطَاكَ، وَلَقَدِ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ أَنْ يُتَوّجُوهُ، فَيُعَصّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ. فَلَمّا رَدّ اللّهُ ذَلِكَ بِالْحَقّ الّذي أَعْطَاكَهُ، شَرِقَ بِذَلِكَ. فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ، فَعَفَا عَنْهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا حُجَيْنٌ (يعْنِي ابْنَ الْمُثَنّىَ): حَدّثَنَا لَيْثٌ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ فِي هَذَا الإِسْنَادِ، بِمِثْلِهِ. وَزَادَ: وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللّهِ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيّ: حَدّثَنَا الْمُعْتَمِرُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قِيلَ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم: لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أُبَيّ؟ قَالَ: فَانْطَلَقَ إلَيْهِ، وَرَكِبَ حِمَاراً، وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ. فَلَمّا أَتَاهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إلَيْكَ عَنّي. فَوَاللّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتْنُ حِمَارِكَ. قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: وَاللّهِ! لَحِمَارُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَطْيَبُ رِيحاً مِنْكَ. قَالَ: فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ. قَالَ: فَغَضِبَ لِكُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ. قَالَ: فَكَانَ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَبِالأَيْدِي وَبِالنّعَالِ. قَالَ: فَبَلَغَنَا أَنّهَا نَزَلَتْ فِيهِمْ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} (الحجرات الاَية: 9).
قوله: "ركب حماراً عليه إكاف تحته قطيفة فدكية" الإكاف بكسر الهمزة ويقال وكاف أيضاً، والقطيفة دثار مجمل جمعها قطائف وقطف، والفدكية منسوبة إلى فدك بلدة معروفة على مرحلتين أو ثلاث من المدينة. قوله: (وأردف وراءه أسامة وهو يعود سعد بن عباد) فيه جواز الإرداف على الحمار وغيره من الدواب إذا كان مطيقاً، وفيه جواز العيادة راكباً، وفيه أن ركوب الحمار ليس بنقص في حق الكبار. قوله:(عجاجة الدابة هو ما ارتفع من غبار حوافرها). قوله: (خمر أنفه) أي غطاه. قوله: (فسلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم) فيه جواز إِلابتداء بالسلام على قوم فيهم مسلمون وكفار وهذا مجمع عليه. قوله: (أيها المرء لا أحسن من هذا) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا بألف في أحسن أي ليس شيء أحسن من هذا، وكذا حكاه القاضي عن جماهير رواة مسلم، قال: ووقع للقاضي أبي علي الأحسن من هذا بالقصر من غير ألف، قال القاضي: وهو عندي أظهر وتقديره أحسن من هذا أن تقعد في بيتك ولا تأتينا. قوله: (فلم يزل يخفضهم) أي يسكنهم ويسهل الأمر بينهم. قوله: (ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة) بضم الباء على التصغير، قال القاضي: وروينا في غير مسلم البحيرة مكبرة وكلاهما بمعنى وأصلها القرية، والمراد بها هنا مدينة النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة) معناه اتفقوا على أن يجعلوه ملكهم وكان من عادتهم إذا ملكوا إنساناً أن يتوجوه ويعصبوا. قوله: (شرق بذلك) بكسر الراء أي غص ومعناه حسد النبي صلى الله عليه وسلم وكان ذلك بسبب نفاقه عفانا الله الكريم. قوله: (وذلك قبل أن يسلم عبد الله) معناه قبل أن يظهر الإسلام وإلا فقد كان كافراً منافقاً ظاهر النفاق. قوله: (وهي أرض سبخة) هي بفتح السين والباء وهي الأرض التي لا تنبت لملوحة أرضها، وفي هذا الحديث بيان ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الحلم والصفح والصبر على الأذى في الله تعالى ودوام الدعاء إلى الله تعالى وتألف قلوبهم والله أعلم
*2* باب قتل أبي جهل
*حدّثنا عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ السّعْدِيّ: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ:(يَعْنِي ابْنَ عُلَيّةَ). حَدّثَنَا سُلَيْمَان التّيْمِيّ. حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَنْظُرُ لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟" فَانْطَلَقَ ابْنُ مَسْعُودٍ. فَوَجَدَهُ قَدْ ضَرَبَهُ ابْنَا عَفْرَاءَ حَتّىَ بَرَكَ. قَالَ: فَأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ. فَقَالَ: آنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟ فَقَالَ: وَهَلْ فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلْتُمُوهُ (أَوْ قَالَ) قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟.
قَالَ: وَقَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: فَلَوْ غَيْرُ أَكّارٍ قَتَلَنِي.
حدّثنا حَامِدُ بْنُ عُمَرَ البَكْرَاوِيّ: حَدّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: حَدّثَنَا أَنَسٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يَعْلَمُ لِي مَا فَعَلَ أَبُو جَهْلٍ؟" بِمِثْلِ حَدِيثِ ابْنِ عُلَيّةَ، وَقَوْلِ أَبِيِ مِجْلَزٍ. كَمَا ذَكَرَهُ إِسْمَاعِيلُ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من ينظر إلينا ما صنع أبو جهل" سبب السؤال عنه أن يعرف أنه مات ليستبشر المسلمون بذلك وينكف شره عنهم. قوله: "ضربه ابنا عفراء حتى برك" هكذا هو في بعض النسخ برك بالكاف وفي بعضها برد بالدال فمعناه بالكاف سقط إلى الأرض وبالدال مات يقال برد إذا مات، قال القاضي: رواية الجمهور برد، ورواه بعضهم بالكاف، قال: والأول هو المعروف، هذا كلام القاضي، واختار جماعة محققون الكاف وأن ابني عفراء تركاه عفيراً، وبهذا كلم ابن مسعود كما ذكره مسلم، وله معه كلام آخر كثير مذكور في غير مسلم وابن مسعود هو الذي أجهز عليه واحتز رأسه. قوله: (وهل فوق رجل قتلتموه) أي لا عار على في قتلكم إياي. قوله: "لو غير أكار قتلني" الأكار الزراع والفلاح وهو عند العرب ناقص، وأشار أبو جهل إلى ابن عفراء اللذين قتلاه وهما من الأنصار وهم أصحاب زرع ونخيل، ومعناه لو كان الذي قتلني غير أكار لكان أحب إلي وأعظم لشأني ولم يكن علي نقص في ذلك
*2* باب قتل كعب بن الأشرف طاغوت اليهود
*حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ، وَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الْمِسْوَرِ الزّهْرِيّ، كِلاَهُمَا، عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (وَاللّفْظُ للزّهْرِيّ) حَدّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ عَمْرٍو سَمِعْتُ جَابِراً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لِكَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ؟ فَإِنّهُ قَدْ آذَى اللّهَ وَرَسُولَهُ" فَقَالَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَتُحِبّ أَنْ أَقْتُلَهُ؟ قَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: ائْذَنْ لِي فَلأَقُلْ. قَالَ "قُلْ". فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ. وَذَكَرَ مَا بَيْنَهُمَا. وَقَالَ: إنّ هَذَا الرّجُلَ قَدْ أَرَادَ صَدَقَةً، وَقَدْ عَنّانَا. فَلَمّا سَمِعَهُ قَالَ: وَأَيْضاً. وَاللّهِ! لَتَمَلّنّهُ. قَالَ: إنّا قَدِ اتّبَعْنَاهُ الاَنَ، وَنَكْرَهُ أَنْ نَدَعَهُ حَتّىَ نَنْظُرَ إلَىَ أَيّ شَيْءٍ يَصِيرُ أَمْرُهُ. قَالَ: وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ تُسْلِفَنِي سَلَفاً. قَالَ: فَمَا تَرْهَنُنِي؟ قَالَ: مَا تُرِيدُ. قَالَ: تَرْهَنُنِي نِسَاءَكُمْ. قَالَ: أَنْتَ أَجْمَلُ الْعَرَبِ. أَنَرْهَنُكَ نِسَاءَنَا؟ قَالَ لَهُ: تَرْهَنُونِي أَوْلاَدَكُمْ. قَالَ: يُسَبّ ابْنُ أَحَدِنَا. فَيُقَالُ: رُهِنَ فِي وَسْقَيْنِ مِنْ تَمْرٍ. وَلَكِنْ نَرْهَنُكَ الّلأْمَةَ (يَعْنِي السّلاَحَ). قَالَ: فَنَعَمْ. وَوَاعَدَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ بِالْحَارِثِ وَأَبِي عَبْسِ بْنِ جَبْرٍ وَعَبّادِ بْنِ بِشْرٍ. قَالَ: فَجَاؤُوا فَدَعَوْهُ لَيْلاً. فَنَزَلَ إلَيْهِمْ. قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ غَيْرُ عَمْرٍو: قَالَتْ لَهُ امْرَأَتَهُ: إنّي لأَسْمَعُ صَوْتاً كَأَنّهُ صَوْتُ دَمٍ. قَالَ: إنّمَا هَذَا مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ وَرَضِيعُهُ وَأَبُو نَائِلَةَ. إنّ الْكَرِيمَ لَوْ دُعِيَ إلَىَ طَعْنَةٍ لَيْلاً لأَجَابَ. قَالَ مُحَمّدٌ: إنّي إذَا جَاءَ فَسَوْفَ أَمُدّ يَدِي إلَىَ رَأْسِهِ. فَإذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ فَدُونَكُمْ. قَالَ: فَلَمّا نَزَلَ، نَزَلَ وَهُوَ مُتَوَشّحٌ. فَقَالُوا: نَجِدُ مِنْكَ رِيحَ الطّيبِ. قَالَ: نَعَمْ. تَحْتِي فُلاَنَةُ. هِيَ أَعْطَرُ نِسَاءِ الْعَرَبِ. قَالَ: فَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَشُمّ مِنْهُ. قَالَ: نَعَمْ. فَشُمّ، فَتَنَاوَلَ فَشَمّ. ثُمّ قَالَ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أَعُودَ؟ قَالَ: فَاسْتَمْكَنَ مِنْ رَأْسِهِ. ثُمّ قَالَ: دُونَكُمْ. قَالَ: فَقَتَلُوهُ.
ذكر مسلم فيه قصة محمد بن مسلمة مع كعب بن الأشرف بالحيلة التي ذكرها من مخادعته، واختلف العلماء في سبب ذلك وجوابه فقال الإمام المازري: إنما قتله كذلك لأنه نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهجاه وسبه، وكان عاهده أن لا يعين عليه أحداً، ثم جاء مع أهل الحرب معيناً عليه، قال: وقد أشكر قتله على هذا الوجه على بعضهم ولم يعرف الجواب الذي ذكرناه. قال القاضي: قيل هذا الجواب، وقيل لأن محمد بن مسلمة لم يصرح له بأمان في شيء من كلامه وإنما كلمه في أمر البيع والشراء واشتكى إليه وليس في كلامه عهد ولا أمان، قال: ولا يحل لأحد أن يقول أن قتله كان غدراً، وقد قال ذلك إنسان في مجلس علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمر به علي فضرب عنقه، وإنما يكون الغدر بعد أمان موجود، وكان كعب قد نقض عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يؤمنه محمد بن مسلمة ورفقته ولكنه استأنس بهم فتمكنوا منه من غير عهد ولا أمان. وأما ترجمة البخاري على هذا الحديث بباب الفتك في الحرب فليس معناه الحرب بل الفتك هو القتل على غرة وغفلة والغيلة نحوه، وقد استدل بهذا الحديث بعضهم على جواز اغتيال من بلغته الدعوة من الكفار وتبييته من غير دعاء إلى الإسلام. قوله: (ائذن لي فلأقل) معناه ائذن لي أن أقول عني وعنك ما رأيته مصلحة من التعريض وغيره ففيه دليل على جواز التعريض وهو أن يأتي بكلام باطنه صحيح ويفهم منه المخاطب غير ذلك، فهذا جائز في الحرب وغيرها ما لم يمنع به حقاً شرعياً. قوله: (وقد عنانا) هذا من التعريض الجائز بل المستحب لأن معناه في الباطن أنه أدبنا بآداب الشرع التي فيها تعب لكنه تعب في مرضات الله تعالى فهو محبوب لنا، والذي فهم المخاطب منه العناء الذي ليس بمحبوب. قوله: (وأيضاً والله لتملنه) هو بفتح التاء والميم أي يتضجرن منه أكثر من هذا الضجر. قوله: (يسب ابن أحدنا فيقال رهن في وسقين من تمر) هكذا هو في الروايات المعروفة في مسلم وغيره يسب بضم الياء وفتح السين المهملة من السب، وحكى القاضي عن رواية بعض رواة كتاب مسلم يشب بفتح الياء وكسر الشين المعجمة من الشباب والصواب الأول، والوسق بفتح الواو وكسرها وأصله الحمل. قوله: (نرهنك اللأمة) هي بالهمز وفسرها في الكتاب بأنه السلاح وهو كما قال. قوله: (وواعده أن يأتيه بالحارث وأبو عبس بن جبر وعباد بن بشر) أما الحارث فهو الحارث بن أوس بن أخي سعد بن عبادة، وأما أبو عبس فاسمه عبد الرحمن وقيل عبد الله والصحيح الأول وهو جبر بفتح الجيم وإسكان الباء كما ذكره في الكتاب، ويقال ابن جابر وهو أنصاري من كبار الصحابة شهد بدراً وسائر المشاهد، وكان اسمه في الجاهلية عبد العزي وهو وقع في معظم النسخ وأبو عبس بالواو وفي بعضها وأبي عبس بالياء وهذا ظاهر والأول صحيح أيضاً ويكون معطوفاً على الضمير في يأتيه. قوله: (كأنه صوت دم أي صوت طالب أو سوط سافك دم) هكذا فسروه. قوله: (فقال إنما هذا محمد ورضيعه وأبو نائلة) هكذا هو في جميع النسخ، قال القاضي رحمه الله تعالى: قال لنا شيخنا القاضي الشهيد صوابه أن يقال إنما هو محمد ورضيعه أبو نائلة، وكذا ذكر أهل السير أن أبا نائلة كان رضيعاً لمحمد بن مسلمة، ووقع في صحيح البخاري ورضيعي أبو نائلة، قال: وهذا عندي له وجه إن صح أنه كان رضيعاً لمحمد والله أعلم.
*2* باب غزوة خيبر
*وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (يَعْنِي ابْنَ عُلَيّةَ)، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا خَيْبَرَ. قَالَ: فَصَلّيْنَا عِنْدَهَا صَلاَةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ، فَأَجْرَىَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإنّ رُكْبَتِي لَتَمَسّ فَخِذَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَانْحَسَرَ الإِزَارُ عَنْ فَخِذِ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَإنّي لأَرَىَ بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَلَمّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ: "اللّهُ أَكْبَرُ! خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إنّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ" قَالَهَا ثَلاَثَ مِرَارٍ. قَالَ: وَقَدْ خَرَجَ الْقَوْمُ إلَىَ أَعْمَالِهِمْ. فَقَالُوا: مُحَمّدٌ. قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَالْخَمِيسُ. قَالَ: وَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا عَفّانُ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ أَبِي طَلْحَةَ يَوْمَ خَيْبَرَ. وَقَدَمِي تَمَسّ قَدَمَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَأَتَيْنَاهُمْ حِينَ بَزَغَتِ الشّمْسُ، وَقَدْ أَخْرَجُوا مَوَاشِيَهُمْ، وَخَرَجُوا بِفُؤُوسِهِمْ وَمَكَاتِلِهِمْ وَمُرُورِهِمْ. فَقَالُوا: مُحَمّدٌ وَالْخَمِيسُ. قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَرِبَتْ خَيْبَرُ. إنّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ" قَالَ: فَهَزَمَهُمُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ.
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا النّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمّا أَتَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْبَرَ قالَ: "إِنّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ مُحَمّدُ بْن عَبّادٍ (وَاللّفْظُ لابْنِ عَبّادٍ). قَالاَ: حَدّثَنَا حَاتِمٌ (وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ) عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ، مَوْلَىَ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَىَ خَيْبَرَ. فَتَسَيّرْنَا لَيْلاً. فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ لِعَامِرِ بْنِ الأَكْوَعِ: أَلاَ تُسْمِعُنَا مِنْ هُنَيّاتِكَ؟ وَكَانَ عَامِرٌ رَجُلاً شَاعِراً. فَنَزَلَ يَحْدُو بِالقَوْمِ يَقُولُ:
اللّهُمّ! لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدّقْنَا وَلاَ صَلّيْنَا فَاغْفِرْ، فِدَاءً لَكَ، مَا اقْتَفَيْنَا وَثَبّتِ الأَقْدَامَ إنْ لاَقَيْنَا وَأَلْقِيَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا إنّا إذَا صِيحَ بِنَا أَتَيْنَا وَبِالصِيَاحِ عَوّلُوا عَلَيْنَا
فقالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا السّائِقُ؟" قَالُوا: عَامِرٌ. قَالَ: "يَرْحَمُهُ اللّهُ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: وَجَبَتْ. يَا رَسُولَ اللّهِ! لَوْلاَ أَمْتَعْتَنَا بِهِ. قَالَ: فَأَتَيْنَا خَيْبَرَ فَحَاصَرْنَاهُمْ، حَتّىَ أَصَابَتْنَا مَخْمَصَةٌ شَدِيدَةٌ. ثُمّ قَالَ: "إنّ اللّهَ فَتَحَهَا عَلَيْكُمْ" قَالَ: فَلَمّا أَمْسَى النّاسُ مَسَاءَ الْيَوْمِ الّذِي فُتِحَتْ عَلَيْهِمْ، أَوْقَدُوا نِيرَاناً كَثِيرَةً. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذِهِ النّيرَانُ؟ عَلَىَ أَيّ شَيْءٍ تُوقِدُونَ؟" فَقَالُوا: عَلَىَ لَحْمٍ. قَالَ: "أَيّ لَحْمٍ؟" قَالُوا: لَحْمُ حُمُرِ الإِنْسِيّةِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَهْرِيقُوهَا وَاكْسِرُوهَا" فَقَالَ رَجُلٌ: أَوْ يُهْرِيقُوهَا وَيَغْسِلُوهَا؟ فَقَالَ: "أَوْ ذَاكَ" قَالَ: فَلَمّا تَصَافّ الْقَوْمُ كَانَ سَيْفُ عَامِرٍ فِيهِ قِصَرٌ. فَتَنَاوَلَ بِهِ سَاقَ يَهُودِيّ لِيَضْرِبَهُ. وَيَرْجِعُ ذُبَابُ سَيْفِهِ فَأَصَابَ رُكْبَةَ عَامِرٍ، فَمَاتَ مِنْهُ. قَالَ: فَلَمّا قَفَلُوا قَالَ سَلَمَةُ، وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِي، قَالَ: فَلَمّا رَآنِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَاكِتاً قَالَ: "مَا لَكَ؟" قُلْتُ لَهُ: فَدَاكَ أَبِي وَأُمّي زَعَمُوا أَنّ عَامِراً حَبِطَ عَمَلُهُ. قَالَ: "مَنْ قَالَهُ؟" قُلْتُ: فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ الأَنْصَارِيّ. فَقَالَ: "كَذَبَ مَنْ قَالَهُ، إنّ لَهُ لأَجْرَانِ" وَجَمَعَ بَيْنَ إصْبَعَيْهِ "إنّهُ لَجَاهِدٌ مُجَاهِدٌ، قَلّ عَرَبِيّ مَشَىَ بِهَا مِثْلَهُ". وَخَالَفَ قُتَيْبَةُ مُحَمّداً فِي الْحَدِيثِ فِي حَرْفَيْنِ. وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبّادٍ: وَأَلْقِ سَكِينَةً عَلَيْنَا.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ (وَنَسَبَهُ غَيْرُ ابْنِ وَهْبٍ، فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ) أَنّ سَلَمَةَ ابْنَ الأَكْوَعِ قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ قَاتَلَ أَخِي قِتَالاً شَدِيداً مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَارْتَدّ عَلَيْهِ سَيْفُهُ فَقَتَلَهُ. فَقَالَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ. وَشَكّوا فِيهِ: رَجُلٌ مَاتَ فِي سِلاَحِه. وَشَكّوا فِي بَعْضِ أَمْرِهِ. قَالَ سَلَمَةُ: فَقَفَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ خَيْبَرَ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! ائْذَنْ لِي أَنْ أَرْجُزَ لَكَ. فَأَذِنَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: أَعْلَمُ مَا تَقُولُ. قَالَ فَقُلْتُ:
وَاللّهِ لَوْلاَ اللّهُ مَا اهْتَدَيْنَاوَلاَ تَصَدّقْنَا وَلاَ صَلّيْنَا
فقالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "صَدَقْتَ".
وَأَنْزِلَنّ سَكِينَةً عَلَيْنَاوَثَبّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
وَالْمُشْرِكُونَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
قَالَ: فَلَمّا قَضَيْتُ رَجَزِي قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ هَذَا؟" قُلْتُ: قَالَهُ أَخِي. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُهُ اللّهُ" قَالَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إنّ نَاساً لَيَهَابُونَ الصّلاَةَ عَلَيْهِ. يَقُولُونَ: رَجُلٌ مَاتَ بِسِلاَحِهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَاتَ جَاهِداً مُجَاهِداً".
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: ثُمّ سَأَلْتُ ابْنَاً لِسَلَمَةَ ابْنِ الأَكْوَعِ. فَحَدّثَنِي عَنْ أَبِيهِ مِثْلَ ذَلِكَ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ (حِينَ قُلْتُ: إِنّ نَاساً يَهَابُونَ الصّلاَةَ عَلَيْهِ) فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَذَبُوا، مَاتَ جَاهِداً مُجَاهِداً، فَلَهُ أَجْرُهُ مَرّتَيْنِ" وَأَشَارَ بِإِصْبَعَيْهِ.
قوله: (فصلينا عندها صلاة الغداة بغلس) فيه استحباب التبكير بالصلاة أول الوقت وأنه لا يكره تسمية صلاة الصبح غداة فيكون رداً على من قال من أصحابنا أنه مكروه، وقد سبق شرح حديث أنس هذا في كتاب المساقاة وذكرنا أن فيه جواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة، وأن إجراء الفرس والإغارة ليس بنقص ولا هادم للمروءة بل هو سنة وفضيلة وهو من مقاصد القتال. قوله: (وانحسر الإزار عن فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم فإني لأرى بياض فخذ نبي الله صلى الله عليه وسلم) هذا مما استدل به أصحاب مالك ومن وافقهم على أن الفخذ ليست عورة من الرجل، ومذهبنا ومذهب آخرين أنها عورة، وقد جاء بكونها عورة أحاديث كثيرة مشهورة، وتأول أصحابنا حديث أنس رضي الله تعالى عنه هذا على أنه انحسر بغير اختياره لضرورة الإغارة والإجراء، وليس فيه أنه استدام كشف الفخذ مع إمكان الستر. وأما قول أنس: فإني لأرى بياض فخذه صلى الله عليه وسلم فمحمول على أنه وقع بصره عليه فجأة لا أنه تعمده. وأما رواية البخاري عن أنس رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حسر الإزار فمحمولة على أنه انحسر كما في رواية مسلم، وأجاب بعض أصحاب مالك عن هذا فقال: هو صلى الله عليه وسلم أكرم على الله تعالى من أن يبتليه بانكشاف عورته، وأصحابنا يجيبون عن هذا بأنه إذا كان بغير اختيار الإنسان فلا نقص عليه فيه ولا يمتنع مثله. قوله: (الله أكبر خربت خيبر) فيه استحباب التكبير عند اللقاء، قال القاضي: قيل تفاءل بخرابها بما رآه في أيديهم من آلات الخراب من الفوس والمساحي وغيرها، وقيل أخذه من اسمها والأصل أنه أعلمه الله تعالى بذلك. قوله صلى الله عليه وسلم: (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين) الساحة الفناء وأصلها الفضاء بين المنازل ففيه جواز الاستشهاد في مثل هذا السياق بالقرآن في الأمور المحققة، وقد جاء لهذا نظائر كثيرة كما سبق قريباً في فتح مكة أنه صلى الله عليه وسلم جعل يطعن في الأصنام ويقول: جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد {جاء الحق وزهق الباطل} قال العلماء: يكره من ذلك ما كان على ضرب الأمثال في المحاورات والمزح ولغو الحديث فيكره في كل ذلك تعظيماً لكتاب الله تعالى. قوله: (محمد والخميس) هو الجيش وقد فسره بذلك في رواية البخاري قالوا: سمي خميساً لأنه خمسة أقسام: ميمنة وميسرة ومقدمة ومؤخرة وقلب، قال القاضي: ورويناه برفع الخميس عطفاً على قوله محمد، وبنصبها على أنه مفعول معه. قوله: (أصبناها عنوة) هي بفتح العين أي قهراً لا صلحاً، قال القاضي: قال المازري ظاهر هذا أنها كلها فتحت عنوة. وقد روى مالك عن ابن شهاب أن بعضها فتح عنوة وبعضها صلحاً، قال: وقد يشكل ما روي في سنن أبي داود أنه قسمها نصفين نصفاً لنوائبه وحاجته ونصفاً للمسلمين، قال: وجوابه ما قال بعضهم أنه كان حولها ضياع وقرى أجلى عنها أهلها فكانت خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم وما سواها للغانمين فكان قدر الذي خلوا عنه النصف فلهذا قسم نصفين. قال القاضي في هذا الحديث: أن الإغارة على العدو يستحب كونها أول النهار عند الصبح لأنه وقت غرتهم وغفلة أكثرهم ثم يضيء لهم النهار لما يحتاج إليه، بخلاف ملاقاة الجيوش ومصاففتهم ومناصبة الحصون فإن هذا يستحب كونه بعد الزوال ليدوم النشاط ببرد الوقت بخلاف ضده. قوله: (وخرجوا بفؤوسهم ومكاتلهم ومرورهم) الفؤس بالهمزة جمع فأس بالهمزة كرأس ورؤوس، والمكاتل جمع مكتل بكسر الميم وهو القفة يقال له مكتل وقفة وزيبل وزنبل وزنبيل وعرق وسفيفة بالسين المهملة وبفاءين، والمرور جمع مر بفتح الميم وهي المساحي، قال القاضي: قيل هي حبالهم التي يصعدون بها إلى النخل واحدها مر ومر وقيل مساحيهم واحدها مر لا غير.
قوله: (ألا تسمعنا من هنياتك) وفي بعض النسخ من هنيهاتك أي أراجيزك، والهنة يقع عل كل شيء، وفيه جواز إنشاء الأراجيز وغيرها من الشعر وسماعها ما لم يكن فيه كلام مذموم، والشعر كلام حسنه حسن وقبيحه قبيح. قوله: (فنزل يحدوه بالقوم) فيه استحباب الحدا في الأسفار لتنشط النفوس والدواب على قطع الطريق واشتغالها بسماعه عن الإحساس بألم السير. قوله: (اللهم لولا أنت ما اهتدينا) كذا الرواية، قالوا: وصوابه في الوزن لا هم أو تالله أو والله لولا أنت كما في الحديث الاَخر فوالله لولا الله. قوله: (فاغفر فداء لك ما اقتفينا) قال المازري: هذه اللفظة مشكلة فإنه لا يقال فدى الباري سبحانه وتعالى، ولا يقال له سبحانك فديتك لأن ذلك إنما يستعمل في مكروه يتوقع حلوله بالشخص فيختار شخص آخر أن يحل ذلك به ويفديه منه، قال: ولعل هذا وقع من غير قصد إلى حقيقة معناه كما يقال قاتله الله ولا يراد بذلك حقيقة الدعاء عليه، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "تربت يداك، وتربت يمينك، وويل أمه" وفيه كله ضرب من الاستعارة لأن الفادي مبالغ في طلب رضى المفدى حين بذل نفسه عن نفسه للمكروه، فكان مراد الشاعر أني أبذل نفسي في رضاك، وعلى كل حال فإن المعنى وإن أمكن صرفه إلى جهة صحيحة فإطلاق اللفظ واستعارته التجوز به يفتقر إلى ورود الشرع بالإذن فيه، قال: وقد يكون المراد بقوله فداً لك رجلاً يخاطبه وفصل بين الكلام فكأنه قال فاغفر ثم دعا إلى رجل ينبهه فقال فداً لك ثم عاد إلى تمام الكلام الأول فقال ما اقتفينا، قال: وهذا تأويل يصح معه اللفظ والمعنى لولا أن فيه تعسفاً اضطرنا إليه تصحيح الكلام، وقد يقع في كلام العرب من الفصل بين الجمل المعلق بعضها ببعض ما يسهل هذا التأويل. قوله: (إذا صحيح بنا أتينا) هكذا هو في نسخ بلادنا أتينا بالمثناة في أوله، وذكر القاضي أنه روي بالمثناة وبالموحدة، فمعنى المثناة إذا صيح بنا للقتال ونحوه من المكارم أتينا، ومعنى الموحدة أبينا الفرار والإمتناع. قال القاضي رحمه الله تعالى: قوله فداء لك بالمد والقصر والفاء مكسورة حكاه الأصمعي وغيره، فأما في المصدر فالمد لا غير. قال: وحكى الفراء فدى لك مفتوح مقصور، قال: وروينا هنا فداء لك بالرفع على أنه مبتدأ وخبره أي لك نفسي فداء أو نفسي فداء لك، وبالنصب على المصدر، ومعنى اقتفينا اكتسبنا وأصله الإتباع. قوله: (وبالصياح عولوا علينا) استغاثوا بنا واستفزعونا للقتال، قيل هي من التعويل على الشيء وهو الإعتماد عليه، وقيل من العويل وهو الصوت. قوله صلى الله عليه وسلم: "من هذا السائق؟ قالوا: عامر، قال: يرحمه الله، قال رجل من القوم: وجبت يا رسول الله لولا أمتعتنا به" معنى وجبت أي ثبتت له الشهادة وسيقع قريباً وكان هذا معلوماً عندهم أن من دعا له النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدعاء في هذا الموطن استشهد فقالوا هلا أمتعتنا به أي وددنا أنك لو أخرت الدعاء له بهذا إلى وقت آخر لنتمتع بمصاحبته ورؤيته مدة. قوله: (أصابتنا مخمصة شديدة) أي جوع شديد. قوله: (لحم حمر الإنسية) هكذا هو حمر الإنسية بإضافة حمر وهو من إضافة الموصوف إلى صفته وسبق بيانه مرات، فعلى هذا قول الكوفيين هو على ظاهره، وعند البصريين تقديره حمر الحيوانات الإنسية، وأما الإنسية ففيها لغتان وروايتان حكاهما القاضي عياض وآخرون أشهرهما كسر الهمزة وإسكان النون. قال القاضي: هذه رواية أكثر الشيوخ، والثانية فتحهما جميعاً، وهما جميعاً نسبة إلى الإنس وهم الناس لاختلاطها بالناس بخلاف حمر الوح 5. قوله صلى الله عليه وسلم: "أهريقوها واكسروها" هذا يدل على نجاسة لحوم الحمر الأهلية وهو مذهبنا ومذهب الجمهور، وقد سبق بيان هذا الحديث وشرحه مع بيان هذه المسألة في كتاب النكاح، ومختصر الأمر بإراقته أن السبب الصحيح فيه أنه أمر بإراقتها لأنها نجسة محرمة، والثاني أنه نهى للحاجة إليها، والثالث لأنها أخذوها قبل القسمة، وهذان التأويلان هما لأصحاب مالك القائلين بإباحة لحومها والصواب ما قدمناه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "اكسروها فقال رجل أو يهريقوها ويغسلوها قال أو ذاك" فهذا محمول على أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد في ذلك فرأى كسرها ثم تغير اجتهاده أو أوحي إليه بغسلها. قوله صلى الله عليه وسلم: "إن له لأجران" هكذا هو في معظم النسخ لأجران بالألف وفي بعضها لأجرين بالياء وهما صحيحان لكن الثاني هو الأشهر الأفصح والأول لغة أربع قبائل من العرب، ومنها قوله تعالى: {إن هذان لساحران} وقد سبق بيانها مرات، ويحتمل أن الأجرين ثبتا له لأنه جاهد مجاهد كما سنوضحه في شرحه فله أجر بكونه جاهداً أي مجتهداً في طاعة الله تعالى شديد الإعتناء بها، وله أجر آخر بكونه مجاهداً في سبيل الله فلما قام بوصفين كان له أجران.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إنه لجاهد مجاهد" هكذا رواه الجمهور من المتقدمين والمتأخرين لجاهد بكسر الهاء وتنوين الدال مجاهد بضم الميم وتنوين الدال أيضاً، وفسروا لجاهد بالجاد في علمه وعمله أي إنه لجاد في طاعة الله، والمجاهد هو المجاهد في سبيل الله وهو الغازي. وقال القاضي: فيه وجه آخر أنه جمع اللفظين توكيداً. قال ابن الأنباري: العرب إذا بالغت في تعظيم شيء اشتقت له من لفظه لفظاً آخر على غير بنائه زيادة في التوكيد وأعربوه بإعرابه فيقولون: جاد مجد، وليل لائل، وشعر شاعر، ونحو ذلك. قال القاضي: ورواه بعض رواة البخاري وبعض رواة مسلم لجاهد بفتح الهاء والدال على أنه فعل ماض مجاهد بفتح الميم ونصب الدال بلا تنوين، قال: والأول هو الصواب والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "قل عربي مشى بها مثله" ضبطنا هذه اللفظة هنا في مسلم بوجهين وذكرهما القاضي أيضاً الصحيح المشهور الذي عليه جماهير رواة البخاري ومسلم مشى بها بفتح الميم وبعد الشين ياء وهو فعل ماض من المشي وبها جار ومجرور ومعناه مشى بالأرض أو في الحرب، والثاني مشابهاً بضم الميم وتنوين الهاء من المشابهة أي مشابهاً لصفات الكمال في القتال أو غيره مثله ويكون مشابهاً منصوباً بفعل محذوف أي رأيته مشابهاً، ومعناه قل عربي يشبهه في جميع صفات الكمال، وضبطه بعض رواة البخاري نشأ بها بالنون والهمز أي شب وكبر والهاء عائدة إلى الحرب أو الأرض أو بلاد العرب، قال القاضي: هذه أوجه الروايات. قوله: (وحدثني أبو الطاهر أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب قال أخبرني عبد الرحمن ونسبه غير ابن وهب فقال ابن عبد الله بن كعب بن مالك أن سلمة بن الأكوع قال) هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم وهو صحيح، وهذا من فضائل مسلم ودقيق نظره وحسن خبرته وعظيم إتقانه، وسبب هذا أن أبا داود والنسائي وغيرهما من الأئمة رووا هذا الحديث بهذا الإسناد عن ابن شهاب قال: أخبرني عبد الرحمن وعبد الله بن كعب بن مالك عن سلمة قال أبو دود قال أحمد بن صالح الصواب عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب وأحمد بن صالح هذا هو شيخ أبي داود في هذا الحديث وغيره وهو رواية عن ابن وهب، قال الحفاظ: والوهم في هذا من ابن وهب فجعل عبد الله بن كعب راوياً عن سلمة وجعل عبد الرحمن راوياً عن عبد الله وليس هو كذلك بل عبد الرحمن يرويه عن سلمة وإنما عبد الله والده فذكر في نسبه لأن له رواية في هذا الحديث فاحتاط مسلم رضي الله تعالى عنه فلم يذكر في روايته عبد الرحمن وعبد الله كما رواه ابن وهب بل اقتصر على عبد الرحمن ولم ينسبه لأن ابن وهب لم ينسبه وأراد مسلم تعريفه فقال: قال غير ابن وهب هو عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب فحصل تعريفه من غير إضافة للتعريف إلى ابن وهب وحذف مسلم ذكر عبد الله من رواية ابن وهب وهذا جائز فقد اتفق العلماء على أنه إذا كان الحديث عن رجلين كان له حذف أحدهما وإِلاقتصار على الاَخر فأجازوا هذا الكلام إذا لم يكن عذر، فإذا كان عذر بأن كان ذكر ذلك المحذوف غلطاً كما في هذه الصورة كان الجواز أولى
*2* باب غزوة الأحزاب وهي الخندق
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ ابْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظ لابْنِ الْمُثَنّىَ)، قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَحْزَابِ يَنْقُلُ مَعَنَا التّرَابَ. وَلَقَدْ وَارَىَ التّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ وَهُوَ يَقُولُ:
"وَاللّهِ! لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدّقْنَا وَلاَ صَلّيْنَا فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا إنّ الأُلَىَ قَدْ أَبَوْا عَلَيْنَا"
قَالَ: وَرُبّمَا قَالَ:
"إنّ الْمَلاَ قَدْ أَبَوْا عَلَيْنَا إذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا"
وَيَرْفَعُ بِهَا صَوْتَهُ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيّ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ. فَذَكَرَ مِثْلَهُ. إِلاّ أَنّهُ قَالَ: "إِنّ الأُلَىَ قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا".
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ الْقَعْنَبِيّ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: جَاءَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نَحْفِرُ الْخَنْدَقَ، وَنَنْقُلُ التّرَابَ عَلَىَ أَكْتَافِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "اللّهُمّ! لاَ عَيْشَ إلاّ عَيْشُ الاَخِرَةِ فَاغْفِرْ لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ ابْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لابْنِ الْمُثَنّىَ): حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرّةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ:
"اللّهُمّ! لاَ عَيْشَ إلاّ عَيْشُ الاَخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ"
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ ابْن بَشّارٍ، قَالَ ابْنُ الْمُثَنّىَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ قَتَادَةَ: حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ اللّهُمّ إِنّ الْعَيْشَ عَيْشُ الاَخِرَةِ" قَالَ شُعْبَةُ: أَوْ قَالَ:
"اللّهُمّ! لاَ عَيْشَ إِلاّ عَيْشُ الاَخِرَهْ فَأَكْرِمِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ"
وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ شَيْبَان بْنُ فَرّوخَ (قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ شَيْبَانُ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ) عَنْ أَبِي التّيّاحِ. حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: كَانُوا يَرْتَجِزُونَ، وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُمْ، وَهُمْ يَقُولُونَ:
اللّهُمّ! لاَ خَيْرَ إلاّ خَيْرُ الاَخِرَهْ فَانْصُرِ الأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَهْ
وَفِي حَدِيثِ شَيْبَانَ (بَدَلَ فَانْصُرْ): فَاغْفِرْ.
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ: حَدّثَنَا بَهْزٌ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدّثَنَا ثَابِتٌ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ أَصْحَابَ مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم كَانُوا يَقُولُونَ يَوْمَ الْخَنْدَقِ:
نَحْنُ الّذِينَ بَايَعُوا مُحَمّداً عَلَى الإِسْلاَمِ مَا بَقِينَا أَبَداً
أَوْ قَالَ: عَلَى الْجِهَادِ. شَكّ حَمّادٌ. وَالنّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:
"اللّهُمّ! إنّ الْخَيْرَ خَيْرُ الاَخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ"
قوله: (الملأ قد أبوا علينا) هم أشراف القوم وقيل هم الرجال ليس فيهم نساء وهو مهموز مقصور كما جاء به القرآن، ومعنى أبوا علينا امتنعوا من إجابتنا إلى الإسلام، وفي هذا الحديث استحباب الرجز ونحوه من الكلام في حال البناء ونحوه، وفيه عمل الفضلاء في بناء المساجد ونحوها ومساعدتهم في أعمال البر.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا عيش إلا عيش الاَخرة" أي لا عيش باق أو لا عيش مطلوب والله أعلم
*2* باب غزوة ذي قرد وغيرها
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ: حَدّثَنَا حَاتِمٌ (يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ) عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ بْنَ الأَكْوَعِ يَقُولُ: خَرَجْتُ قَبْلَ أَنْ يُؤَذّنَ بِالأُولَىَ، وَكَانَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تَرْعَىَ بِذِي قَرَدٍ. قَالَ: فَلَقِينِي غُلاَمٌ لِعَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ فَقَالَ: أُخِذَتْ لِقَاحُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ. قَالَ: فَصَرَخْتُ ثَلاَثَ صَرَخَاتٍ: يَا صَبَاحَاهْ قَالَ: فَأَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيِ الْمَدِينَةِ، ثُمّ انْدَفَعْتُ عَلَىَ وَجْهِي حَتّىَ أَدْرَكْتُهُمْ بِذِي قَرَدٍ. وَقَدْ أَخَذُوا يَسْقُونَ مِنَ الْمَاءِ. فَجَعَلْتُ أَرْمِيهِمْ بِنَبْلِي، وَكُنْتُ رَامِياً. وَأَقُولُ:
أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرّضّعِ
فَأَرْتَجِزُ، حَتّى اسْتَنْقَذْتُ اللّقَاحَ مِنْهُمْ. وَاسْتَلَبْتُ مِنْهُمْ ثَلاَثِينَ بُرْدَةً. قَالَ: وَجَاءَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَالنّاسُ، فَقُلْتُ: يَا نَبِيّ اللّهِ! إنّي قَدْ حَمَيْتُ الْقَوْمَ الْمَاءَ. وَهُمْ عِطَاشٌ. فَابْعَثْ إلَيْهِمُ السّاعَةَ. فَقَالَ: "يَا ابْنَ الأَكْوَعِ مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ". قَالَ: ثُمّ رَجَعْنَا، وَيُرْدِفُنِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ نَاقَتِهِ حَتّىَ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيّ، كِلاَهُمَا، عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمّارٍ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. وَهَذَا حَدِيثُهُ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيّ الْحَنَفِيّ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ: حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ (وَهُوَ ابْنُ عَمّارٍ) حَدّثَنِي إِيَاسُ بْنُ سَلَمَةَ: حَدّثَنِي أَبِي قَالَ: قَدِمْنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَعَلَيْهَا خَمْسُونَ شَاةً لاَ تُرْوِيهَا. قَالَ: فَقَعَدَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ جَبَا الرّكِيّةِ، فَإمّا دَعَا وَإمّا بَسَقَ فِيهَا. قَالَ: فَجَاشَتْ، فَسَقَيْنَا وَاسْتَقَيْنَا. قَالَ: ثُمّ إنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم دَعَانَا لِلْبَيْعَةِ فِي أَصْلِ الشّجَرَةِ. قَالَ: فَبَايَعْتُهُ أَوّلَ النّاسِ. ثُمّ بَايَعَ وَبَايَعَ، حَتّىَ إذَا كَانَ فِي وَسَطٍ مِنَ النّاسِ قَالَ: "بَايِعْ، يَا سَلَمَةُ!" قَالَ قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ. يَا رَسُولَ اللّهِ! فِي أَوّلِ النّاسِ. قَالَ: "وَأَيْضاً" قَالَ: وَرَآنِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَزِلاً (يَعْنِي لَيْسَ مَعَهُ سِلاَحٌ). قَالَ: فَأَعْطَانِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَجَفَةً أَوْ دَرَقَةً، ثُمّ بَايَعَ. حَتّىَ إذَا كَانَ فِي آخِرِ النّاسِ قَالَ: "أَلاَ تُبَايِعُنِي؟ يَا سَلَمَةُ" قَالَ: قُلْتُ: قَدْ بَايَعْتُكَ، يَا رَسُولَ اللّهِ! فِي أَوّلِ النّاسِ، وَفِي أَوْسَطِ النّاسِ. قَالَ: "وَأَيْضاً" قَالَ: فَبَايَعْتُهُ الثّالِثَةَ. ثُمّ قَالَ لِي: "يَا سَلَمَةُ أَيْنَ حَجَفَتُكَ أَوْ دَرَقَتُكَ الّتِي أَعْطَيْتُكَ؟" قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ! لَقِيَنِي عَمّي عَامِرٌ عَزِلاً. فَأَعْطَيْتُهُ إِيّاها. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: "إنّكَ كَالّذِي قَالَ الأَوّلُ: اللّهُمّ أَبْغِنِي حَبِيباً هُوَ أَحَبّ إِلَيّ مِنْ نَفْسِي". ثُمّ إنّ الْمُشْرِكِينَ رَاسَلُونَا الصّلْحَ، حَتّىَ مَشَىَ بَعْضُنَا فِي بَعْضٍ. وَاصْطَلَحْنَا. قَالَ: وَكُنْتُ تَبِيعاً لِطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ. أَسْقِي فَرَسَهُ، وَأَحُسّهُ، وَأَخْدُمُهُ. وَآكُلُ مِنْ طَعَامِهِ. وَتَرَكْتُ أَهْلِي وَمَالِي، مُهَاجِراً إلى اللّهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَلَمّا اصْطَلَحْنَا نَحْنُ وَأَهْلُ مَكّةَ، وَاخْتَلَطَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ، أَتَيْتُ شَجَرَةً فَكَسَحْتُ شَوْكَهَا. فَاضْطَجَعْتُ فِي أَصْلِهَا. قَالَ: فَأَتَانِي أَرْبَعَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ مَكّةَ. فَجَعَلُوا يَقَعُونَ فِي رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَبْغَضْتُهُمْ. فَتَحَوّلْتُ إلَىَ شَجَرَةٍ أُخْرَىَ. وَعَلّقُوا سِلاَحَهُمْ. وَاضْطَجَعُوا. فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إذْ نَادَى مُنَادٍ مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ قُتِلَ ابْنُ زُنَيْمٍ. قَالَ: فَاخْتَرَطْتُ سَيْفِي. ثُمّ شَدَدْتُ عَلَى أُولَئِكَ الأَرْبَعَةِ وَهُمْ رُقُودٌ. فَأَخَذْتُ سِلاَحَهُمْ. فَجَعَلْتُهُ ضِغْثاً فِي يَدِي. قَالَ: ثُمّ قُلْتُ: وَالّذِي كَرّمَ وَجْهَ مُحَمّدٍ لاَ يَرْفَعُ أَحَدٌ مِنْكُمْ رَأْسَهُ إلاّ ضَرَبْتُ الّذِي فِيهِ عَيْنَاهُ. قَالَ: ثُمّ جِئْتُ بِهِمْ أَسُوقُهُمْ إلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وَجَاءَ عَمّي عَامِرٌ بِرَجُلٍ مِنَ الْعَبَلاَتِ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزٌ. يَقُودُهُ إلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. عَلَى فَرَسٍ مُجَفّفٍ. فِي سَبْعِينَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. فَنَظَرَ إلَيْهمِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "دَعُوهُمْ. يَكُنْ لَهُمْ بَدْءُ الْفُجُورِ وَثِنَاهُ" فَعَفَا عَنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَنْزَلَ اللّهُ: {وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} (الفتح الاَية: ) الاَيَةَ كُلّهَا.
قَالَ: ثُمّ خَرَجْنَا رَاجِعِينَ إلَىَ الْمَدِينَةِ. فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً. بَيْنَنَا وَبَيْنَ بَنِي لِحْيَانَ جَبَلٌ. وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ. فَاسْتَغْفَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِمَنْ رَقِيَ هَذَا الْجَبَلَ اللّيْلَةَ. كَأَنّهُ طَلِيعَةٌ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ. قَالَ سَلَمَةُ: فَرَقِيتُ تِلْكَ اللّيْلَةَ مَرّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً. ثُمّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. فَبَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِظَهْرِهِ مَعَ رَبَاحٍ غُلاَمِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَنَا مَعَهُ. وَخَرَجْتُ مَعَهُ بِفَرَسِ طَلْحَةَ. أُنَدّيهِ مَعَ الظّهْرِ. فَلَمّا أَصْبَحْنَا إذَا عَبْدُ الرّحْمَنِ الْفَزَارِيّ قَدْ أَغَارَ عَلَىَ ظَهْرِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَاسْتَاقَهُ أَجْمَعَ. وَقَتَلَ رَاعِيَهُ. قَالَ فَقُلْتُ: يَا رَبَاحُ خُذْ هَذَا الْفَرَسَ فَأَبْلِغْهُ طَلْحَةَ بْنَ عُبَيْدِ اللّهِ. وَأَخْبِرْ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّ الْمُشْرِكِينَ قَدْ أَغَارُوا عَلَىَ سَرْحِهِ. قَالَ: ثُمّ قُمْتُ عَلَىَ أَكَمَةٍ فَاسْتَقْبَلْتُ الْمَدِينَةَ. فَنَادَيْتُ ثَلاَثاً: يَا صَبَاحَاهُ ثُمّ خَرَجْتُ فِي آثَارِ الْقَوْمِ أَرْمِيهِمْ بِالنّبْلِ. وَأَرْتَجِزُ. أَقُولُ:
أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرّضّعِ
فَأَلْحَقُ رَجُلاً مِنْهُمْ. فَأَصُكّ سَهْماً فِي رَحْلِهِ. حَتّىَ خَلَصَ نَصْلُ السّهْمِ إلَىَ كَتِفِهِ. قَالَ قُلْتُ: خُذْهَا.
وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعُ والْيَوْمُ يَوْمُ الرّضّعِ
قَالَ: فَوَاللّهِ مَا زِلْتُ أَرْمِيهِمْ وَأَعْقِرُ بِهِمْ. فَإذَا رَجَعَ إلَيّ فَارِسٌ أَتَيْتُ شَجَرَةً فَجَلَسْتُ فِي أَصْلِهَا. ثُمّ رَمَيْتُهُ. فَعَقَرْتُ بِهِ. حَتّىَ إذَا تَضَايَقَ الْجَبَلُ فَدَخَلُوا فِي تَضَايُقِهِ، عَلَوْتُ الْجَبَلَ. فَجَعَلْتُ أُرَدّيهِمْ بِالْحِجَارَةِ. قَالَ: فَمَا زِلْتُ كَذَلِكَ أَتْبَعُهُمْ حَتّىَ مَا خَلَقَ اللّهِ مِنْ بَعِيرٍ مِنْ ظَهْرِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إلاّ خَلّفْتُهُ وَرَاءَ ظَهْرِي. وَخَلّوْا بَيْنِي وَبَيْنَهُ. ثُمّ اتّبَعْتُهُمْ أَرْمِيهِمْ. حَتّىَ أَلْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ ثَلاَثِينَ بُرْدَةً وَثَلاَثِينَ رُمْحاً. يَسْتَخِفّونَ. وَلاَ يَطْرَحُونَ شَيْئاً إِلاّ جَعَلْتُ عَلَيْهِ آرَاماً مِنَ الْحِجَارَةِ. يَعْرِفُهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ. حَتّىَ أَتَوْا مُتَضَايِقاً مِنْ ثَنِيّةٍ فَإذَا هُمْ قَدْ أَتَاهُمْ فُلاَنُ بْنُ بَدْرٍ الْفَزَارِيّ. فَجَلَسُوا يَتَضَحّوْنَ (يَعْنِي يَتَغَدّوْنَ). وَجَلَسْتُ عَلَىَ رَأْسِ قَرْنٍ. قَالَ الْفَزَارِيّ: مَا هَذَا الّذِي أَرَىَ؟ قَالُوا: لَقِينَا، مِنْ هَذَا، الْبَرْحَ. وَاللّهِ مَا فَارَقَنَا مُنْذُ غَلَسٍ. يَرْمِينَا حَتّى انْتَزَعَ كُلّ شَيْءٍ فِي أَيْدِينَا. قَالَ: فَلْيَقُمْ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْكُمْ، أَرْبَعَةٌ. قَالَ: فَصَعِدَ إليّ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ فِي الْجَبَلِ. قَالَ: فَلَمّا أَمْكَنُونِي مِنَ الْكَلاَمِ قَالَ قُلْتُ: هَلْ تَعْرِفُونِي؟ قَالُوا: لاَ. وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ قُلْتُ: أَنَا سَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ. وَالّذِي كَرّمَ وَجْهَ مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم لاَ أَطْلُبُ رَجُلاً مِنْكُمْ إلاّ أَدْرَكْتُهُ. وَلاَ يَطْلُبُنِي رَجُلٌ مِنْكُمْ فَيُدْرِكَنِي. قَالَ أَحَدُهُمْ: أَنَا أَظُنّ. قَالَ: فَرَجَعُوا. فَمَا بَرِحْتُ مَكَانِي حَتّىَ رَأَيْتُ فَوَارِسَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَخَلّلُونَ الشّجَرَ. قَالَ: فَإذَا أَوّلُهُمُ الأَخْرَمُ الأَسَدِيّ. عَلَىَ إثْرِهِ أَبُو قَتَادَةَ الأَنْصَارِيّ. وَعَلَىَ إثْرِهِ الْمِقْدَادُ بْنُ الأَسْوَدِ الْكِنْدِيّ. قَالَ: فَأَخَذْتُ بِعِنَانِ الأَخْرَمِ. قَالَ: فَوَلّوْا مُدْبِرِينَ. قُلْتُ: يَا أَخْرَمُ احْذَرْهُمْ. لاَ يَقْتَطِعُوكَ حَتّىَ يَلْحَقَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ. قَالَ: يَا سَلَمَةُ إنْ كُنْتَ تُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الاَخِرِ، وَتَعْلَمُ أَنّ الْجَنّةَ حَقّ وَالنّارُ حَقّ، فَلاَ تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الشّهَادَةِ. قَالَ: فَخَلّيْتُهُ. فَالْتَقَىَ هُوَ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ. قَالَ: فَعَقَرَ بِعَبْدِ الرّحْمَنِ فَرَسَهُ. وَطَعَنَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ فَقَتَلَهُ. وَتَحَوّلَ عَلَىَ فَرَسِهِ. وَلَحِقَ أَبُو قَتَادَةَ، فَارِسُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِعَبْدِ الرّحْمَنِ. فَطَعَنَهُ فَقَتَلَهُ. فَوَالّذِي كَرّمَ وَجْهَ مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم لَتَبِعْتُهُمْ أَعْدُو عَلَىَ رِجْلَيّ. حَتّىَ مَا أَرَىَ وَرَائِي، مِنْ أَصْحَابِ مُحَمّدٍ صلى الله عليه وسلم وَلاَ غُبَارِهِمْ، شَيْئاً. حَتّىَ يَعْدِلُوا قَبْلَ غُرُوبِ الشّمْسِ إلَىَ شِعْبٍ فِيهِ مَاءٌ. يُقَالُ لَهُ ذَا قَرَدٍ. لِيَشْرَبُوا مِنْهُ وَهُمْ عِطَاشٌ. قَالَ: فَنَظَرُوا إلَيّ أَعْدُو وَرَاءَهُمْ. فَحَلّيْتُهُمْ عَنْهُ (يَعْنِي أَجْلَيْتُهُمْ عَنْهُ) فَمَا ذَاقُوا مِنْهُ قَطْرَةً. قَالَ: وَيَخْرُجُونَ فَيَشْتَدّونَ فِي ثَنِيّةٍ. قَالَ: فَأَعْدُو فَأَلْحَقُ رَجُلاً مِنْهُمْ. فَأَصُكّهُ بِسَهْمٍ فِي نُغْضِ كَتِفِهِ. قَالَ قُلْتُ: خُذْهَا وَأَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ. وَالْيَوْمُ يَوْمُ الرّضّعِ. قَالَ: يَا ثَكِلَتْهُ أُمّهُ أَكْوَعُهُ بُكْرَةَ. قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ. يَا عَدُوّ نَفْسِهِ أَكْوَعُكَ بُكْرَةَ. قَالَ: وَأَرْدَوْا فَرَسَيْنِ عَلَىَ ثَنِيّةٍ. قَالَ: فَجِئْتُ بِهِمَا أَسُوقهُمَا إلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: وَلَحِقَنِي عَامِرٌ بِسَطِيحَةٍ فِيهَا مَذْقَةٌ مِنْ لَبَنٍ وَسَطِيحَةٍ فِيهَا مَاءٌ. فَتَوَضّأْتُ وَشَرِبْتُ. ثُمّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى الْمَاءِ الّذِي حَلاّتُهُمْ عَنْهُ. فَإذَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَخَذَ تِلْكَ الإِبِلَ. وَكُلّ شَيْءٍ اسْتَنْقَذْتُهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَكُلّ رُمْحٍ وَبُرْدَةٍ. وَإذَا بِلاَلٌ نَحَرَ نَاقةً مِنَ الإِبِلِ الّذِي اسْتَنْقَذْتُ مِنَ الْقَوْمِ. وَإذَا هُوَ يَشْوِي لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ كَبِدِهَا وَسَنَامِهَا. قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ خَلّنِي فَأَنْتَخِبُ مِنَ الْقَوْمِ مِائَةَ رَجُلٍ. فَأَتّبِعُ الْقَوْمَ فَلاَ يَبْقَىَ مِنْهُمْ مُخْبِرٌ إلاّ قَتَلْتُهُ.
قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَتّىَ بَدَتْ نَوَاجِذُهُ فِي ضَوْءِ النّارِ. فَقَالَ: "يَا سَلَمَةُ أَتُرَاكَ كُنْتَ فَاعِلاً؟" قُلْتُ: نَعَمْ. وَالّذِي أَكْرَمَكَ فَقَالَ: "إنّهُمُ الاَنَ لَيُقْرَوْنَ فِي أَرْضِ غَطَفَانَ" قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ. فَقَالَ: نَحَرَ لَهُمْ فُلاَنٌ جَزُوراً. فَلَمّا كَشَفُوا جِلْدَهَا رَأَوْا غُبَاراً. فَقَالُوا: أَتَاكُمُ الْقَوْمُ. فَخَرَجُوا هَارِبِينَ. فَلَمّا أَصْبَحْنَا قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَانَ خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَةَ. وَخَيْرَ رَجّالَتِنَا سَلَمَةُ" قَالَ: ثُمّ أَعْطَانِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَهْمَيْنِ: سَهْمُ الْفَارِسِ وَسَهْمُ الرّاجِلِ. فَجَمَعَهُمَا لِي جَمِيعاً. ثُمّ أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَرَاءَهُ عَلَى الْعَضْبَاءِ. رَاجِعِينَ إلَىَ الْمَدِينَةِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا نَحْنُ نَسِيرُ. قَالَ: وَكَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ لاَ يُسْبَقُ شَدّاً، قَالَ: فَجَعَلَ يَقُولُ: أَلاَ مُسَابِقٌ إلَىَ الْمَدِينَةِ؟ هَلْ مِنْ مُسَابِقٍ؟ فَجَعَلَ يُعِيدُ ذَلِكَ. قَالَ: فَلَمّا سَمِعْتُ كَلاَمَهُ قُلْتُ: أَمَا تُكْرِمُ كَرِيماً، وَلاَ تَهَابُ شَرِيفاً؟ قَالَ: لاَ. إلاّ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ بِأَبِي وَأُمّي ذَرْنِي فَلأِسَابِقَ الرّجُلَ. قَالَ: "إنْ شِئْتَ" قَالَ قُلْتُ: اذْهَبْ إلَيْكَ. وَثَنَيْتُ رِجلَيّ فَطَفَرْتُ فَعَدَوْتُ. قَالَ: فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفاً أَوْ شَرَفَيْنِ أَسْتَبْقِي نَفَسِي. ثُمّ عَدَوْتُ فِي إثْرِهِ. فَرَبَطْتُ عَلَيْهِ شَرَفاً أَوْ شَرَفَيْنِ. ثُمّ إِنّي رَفَعْتُ حَتّىَ أَلْحَقَهُ. قَالَ: فَأَصُكّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. قَالَ قُلْتُ: قَدْ سُبِقْتَ. وَاللّهِ قَالَ: أَنَا أَظُنّ قَالَ: فَسَبَقْتُهُ إِلَىَ الْمَدِينَةِ. قَالَ: فَوَاللّهِ مَا لَبِثْنَا إلاّ ثَلاَثَ لَيَالٍ حَتّىَ خَرَجْنَا إِلَىَ خَيْبَرَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَجَعَلَ عَمّي عَامِرٌ يَرْتَجِزُ بِالْقَوْمِ.
وَاللّهِ لَوْلاَ اللّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلاَ تَصَدّقْنَا وَلاَ صَلّيْنَاوَنَحْنُ عَنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا فَثَبّتِ الأَقْدَامَ إنْ لاَقَيْنَا وَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ هَذَا؟" قَالَ: أَنَا عَامِرٌ. قَالَ: "غَفَرَ لَكَ رَبّكَ" قَالَ: وَمَا اسْتَغْفَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لإِنْسَانٍ يَخُصّهُ إلاّ اسْتُشْهِدَ. قَالَ: فَنَادَىَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، وَهُوَ عَلَىَ جَمَلٍ لَهُ: يَا نَبِيّ اللّهِ لَوْلاَ مَا مَتّعْتَنَا بِعَامِرٍ. قَالَ: فَلَمّا قَدِمْنَا خَيْبَرَ قَالَ: خَرَجَ مَلِكُهُمْ مَرْحَبٌ يَخْطِرُ بِسَيْفِهِ وَيَقُولُ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَبُ شَاكِي السّلاَحِ بَطَلٌ مُجَرّبُإذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهّبُ قَالَ: وَبَرَزَ لَهُ عَمّي عَامِرٌ، فَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي عَامِرٌ شَاكِي السّلاَحِ بَطَلٌ مُغَامِرٌ
قَالَ: فَاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ. فَوَقَعَ سَيْفُ مَرْحَبٍ فِي تُرْسِ عَامِرٍ. وَذَهَبَ عَامِرٌ يَسْفُلُ لَهُ. فَرَجَعَ سَيْفُهُ عَلَىَ نَفْسِهِ. فَقَطَعَ أَكْحَلَهُ. فَكَانَتْ فِيهَا نَفْسُهُ.
قَالَ سَلَمَةُ: فَخَرَجْتُ فَإذَا نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ: بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ. قَتَلَ نَفْسَهُ. قَالَ: فَأَتَيْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ بَطَلَ عَمَلُ عَامِرٍ؟. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَالَ ذَلِكَ؟" قَالَ قُلْتُ: نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِكَ. قَالَ: "كَذَبَ مَنْ قَالَ ذَلِكَ. بَلْ لَهُ أَجْرُهُ مَرّتَيْنِ". ثُمّ أَرْسَلَنِي إلَىَ عَلِيّ، وَهُوَ أَرْمَدُ. فَقَالَ: "لأُعْطِيَنّ الرّايَةَ رَجُلاً يُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ، أَوْ يُحِبّهُ اللّهُ وَرَسُولُهُ" قَالَ: فَأَتَيْتُ عَلِيّاً فَجِئْتُ بِهِ أَقُودُهُ، وَهُوَ أَرْمَدُ. حَتّىَ أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَبَسَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ. وَأَعْطَاهُ الرّايَةَ. وَخَرَجَ مَرْحَبٌ فَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنّي مَرْحَبُ شَاكِي السّلاَحِ بَطَلٌ مُجَرّبُإذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهّبُ فَقَالَ عَلِيّ:
أَنَا الّذِي سَمّتْنِي أُمّي حَيْدَرَهْ كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ أُوفِيهمُ بِالصّاعِ كَيْلَ السّنْدَرَهْ قَالَ: فَضَرَبَ رَأْسَ مَرْحَبٍ فَقَتَلَهُ. ثُمّ كَانَ الْفَتْحُ عَلَىَ يَدَيْهِ.
قَالَ: إِبْرَاهِيمُ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَىَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمّارٍ، بِهَذَا الْحَدِيثِ بِطُولِهِ.
وحدّثنا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ الأَزْدِيّ السّلَمِيّ. حَدّثَنَا النَضرُ بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ بْنِ عَمّادٍ بِهَذَا.
قوله: (كانت لقاح النبي صلى الله عليه وسلم ترعى بذي قرد) هو بفتح القاف والراء وبالدال المهملة وهو ماء على نحو يوم من المدينة مما يلي بلاد غطفان، واللقاح جمع لقحة بكسر اللام وفتحها وهي ذات اللبن قريبة العهد بالولادة وسبق بيانها. قوله: (فصرخت ثلاث صرخات يا صباحاه) فيه جواز مثله للإنذار بالعدو ونحوه. قوله: (فجعلت أرميهم وأقول:
أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع
فيه جواز قول مثل هذا الكلام في القتال وتعريف الإنسان بنفسه إذا كان شجاعاً ليرعب خصمه. وأما قوله: اليوم يوم الرضع قالوا معناه اليوم يوم هلاك اللئام وهم الرضع من قولهم لئيم راضع أي رضع اللؤم في بطن أمه، وقيل لأنه يمص حلمة الشاة والناقة لئلا يسمع السؤال والضيفان صوت الحلاب فيقصدوه، وقيل لأنه يرضع طرف الخلال الذي يخلل به أسنانه ويمص ما يتعلق به، وقيل معناه اليوم يعرف من رضع كريمة فأنجبته أو لئيمة فهجنته. وقيل معناه اليوم يعرف من أرضعته الحرب من صغره وتدرب بها ويعرف غيره. قوله: (حميت القوم الماء) أي منعتهم إياه. قوله صلى الله عليه وسلم: "ملكت فأسجح" هو بهمز قطع ثم سين مهملة ساكنة ثم جيم مكسورة ثم حاء مهملة ومعناه فأحسن وأرفق والسجاحة السهولة أي لا تأخذ بالشدة بل أرفق فقد حصلت النكاية في العدو ولله الحمد.
قوله: (قدمنا المدينة ونحن أربع عشرة مائة) هذا هو الأشهر، وفي رواية ثلاث عشرة مائة، وفي رواية خمس عشرة مائة. قوله: (فقعد النبي صلى الله عليه وسلم على جبا الركية) الجبا بفتح الجيم وتخفيف الباء الموحدة مقصور وهي ما حول البئر، وأما الركى فهو البئر والمشهور في اللغة ركى بغير هاء ووقع هنا الركية بالهاء وهي لغة حكاها الأصمعي وغيره. قوله: (فإما دعا وإما بصق فيها فجاشت فسقينا واستقينا) هكذا هو في النسخ بسق بالسين وهي صحيحة، يقال بزق وبصق وبسق ثلاث لغات بمعنى والسين قليلة الاستعمال، وجاشت أي ارتفعت وفاضت يقال جاش الشيء يجيش جيشاناً إذا ارتفع، وفي هذا معجزة ظاهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سبق مراراً كثيرة التنبيه على نظائرها. قوله: (ورآني عزلاً) ضبطوه بوجهين: أحدهما فتح العين مع كسر الزاي، والثاني ضمهما، وقد فسره في الكتاب بالذي لا سلاح معه، ويقال له أيضاً أعزل وهو أشهر استعمالاً. قوله: (حجفة أو درقة) هما شبيهتان بالترس. قوله: (اللهم إبغني حبيباً) أي أعطني. قوله: (ثم إن المشركين راسلونا الصلح) هكذا هو في أكثر النسخ راسلونا من المراسلة، وفي بعضها راسونا بضم السين المهملة المشددة، وحكى القاضي فتحها أيضاً وهما بمعنى راسلونا مأخوذ من قولهم رس الحديث يرسه إذا ابتدأه، وقيل من رس بينهم أي أصلح، وقيل معناه فاتحونا من قولهم بلغني رس من الخبر أي أوله، ووقع في بعض النسخ واسونا بالواو أي اتفقنا نحن وهم على الصلح والواو فيه بدل من الهمزة وهو من الأسوة. قوله: (كنت تبعاً لطلحة) أي خادماً أتبعه. قوله: (أسقي فرسه وأحسه) أي أحك ظهره بالمحسة لأزيل عنه الغبار ونحوه. قوله: (أتيت شجرة فكسحت شوكها) أي كنست ما تحتها من الشوك. قوله: (قتل ابن زنيم) هو بضم الزاي وفتح النون. قوله: (فاخترطت سيفي) أي سللته. قوله: (وأخذت سلاحهم فجعلته ضغثاً في يدي) الضغث الحزمة. قوله: (جاء رجل من العبلات يقال له مكرز) هو بميم مكسورة ثم كاف ثم راء مكسورة ثم زاي، والعبلات بفتح العين المهملة والباء الموحدة، قال الجوهري في الصحاح: العبلات بفتح العين والباء من قريش وهم أمية الصغرى والنسبة إليهم عبلى ترده إلى الواحد قال لأن اسم أمهم عبلة، قال القاضي: أمية الأصغر وأخواه نوفل وعبد الله بن عبد شمس بن عبد مناف نسبوا إلى أم لهم من بني تميم اسمها عبلة بنت عبيد. قوله: (على فرس مجفف) هو بفتح الجيم وفتح الفاء الأولى المشددة أي عليه تجفاف بكسر التاء وهو ثوب كالجل يلبسه الفرس ليقيه من السلاح وجمعه تجافيف. قوله صلى الله عليه وسلم: "دعوهم يكن لهم بدء الفجور وثناه" أما البدء فبفتح الباء وإسكان الدال وبالهمز أي ابتداؤه، وأما ثناه فوقع في أكثر النسخ ثناه بثاء مثلثة مكسورة، وفي بعضها ثنياه بضم الثاء وبياء مثناة تحت بعد النون ورواهما جميعاً القاضي، وذكر الثاني عن رواية ابن ماهان والأول عن غيره قال: وهو الصواب أي عودة ثانية. قوله: (بني لحيان) بكسر اللام وفتحها لغتان. قوله: (لمن رقي الجبل) وقوله بعده: (فرقيت) كلاهما بكسر القاف. قوله: (فنزلنا منزلاً بيننا وبين بني لحيان جبل وهم المشركون) هذه اللفظة ضبطوها بوجهين ذكرهما القاضي وغيره: أحدهما وهم المشركون بضم الهاء على إِلابتداء والخبر، والثاني بفتح الهاء وتشديد الميم أي هموا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وخافوا عائلتهم، يقال: همني الأمر وأهمني، وقيل همني إذا بنى وأهمني أغمني. قوله: (وخرجت بفرس لطلحة أنديه) هكذا ضبطناه أنديه بهمزة مضمومة ثم نون مفتوحة ثم دال مكسورة مشددة، ولم يذكر القاضي في الشرح عن أحد من رواة مسلم غير هذا، ونقله في المشارق عن جماهير الرواة، قال: ورواه بعضهم عن أبي الحذاء في مسلم أبديه بالباء الموحدة بدل النون، وكذا قاله ابن قتيبة أي أخرجه إلى البادية وأبرزه إلى موضع الكلأ، وكل شيء أظهرته فقد أبديته، والصواب رواية الجمهور بالنون وهي رواية جميع المحدثين، وقول الأصمعي وأبي عبيد في غريبه والأزهري وجماهير أهل اللغة والغريب ومعناه أن يورد الماشية الماء فتسقى قليلاً ثم ترسل في المرعى ثم ترد الماء فترد قليلاً ثم ترد إلى المرعى، قال الأزهري: أنكر ابن قتيبة على أبي عبيد والأصمعي كونهما جعلاه بالنون وزعم أن الصواب بالباء، قال الأزهري: أخطأ ابن قتيبة والصواب قول الأصمعي. قوله: (فأصك سهماً في رحله حتى خلص نصل السهم إلى كتفه) هكذا هو في معظم الأصول المعتمدة رحله بالحاء وكتفه بالتاء بعدها فاء، وكذا نقله صاحب المشارق والمطالع، وكذا هو في أكثر الروايات والأول هو الأظهر، وفي بعضها رجله بالجيم وكعبه بالعين ثم الباء الموحدة، قالوا: والصحيح الأول لقوله في الرواية الأخرى: فأصكه بسهم في نغض كتفه. قال القاضي في الشرح: هذه رواية شيوخنا وهو أشبه بالمعنى لأنه يمكن أن يصيب أعلى مؤخرة الرحل فيصيب حينئذ إذا أنفذ كتفه، ومعنى أصك أضرب. قوله: (فما زلت أرميهم وأعقر بهم) أي أعقر خيلهم ومعنى أرميهم أي بالنبل، قال القاضي: ورواه بعضهم هنا أرديهم بالدال.
قوله: (فجعلت أرديهم بالحجارة) أي أرميهم بالحجارة التي تسقطهم وتنزلهم. قوله: (جعلت عليهم آراماً من الحجارة) هو بهمزة ممدودة ثم راء مفتوحة وهي الأعلام وهي حجارة تجمع وتنصب في المفازة يهتدى بها واحدها ارم كعنب وأعناب. قوله: (وجلست على رأس قرن) هو بفتح القاف وإسكان الراء وهو كل جبل صغير منقطع عن الجبل الكبير. قوله: (لقينا من هذا البرح) هو بفتح الباء وإسكان الراء أي شدة. قوله: (يتخللون الشجر) أي يدخلون من خلالها أي بينها. قوله: (ماء يقال له ذا قرد) كذا هو في أكثر النسخ المعتمدة ذا بألف، وفي بعضها ذو قرد بالواو وهو الوجه. قوله: (فحليتهم عنه) هو بحاء مهملة ولام مشددة غير مهموزة أي طردتهم عنه، وقد فسره في الحديث بقوله يعني أجليتهم عنه بالجيم، قال القاضي: كذا روايتنا فيه هنا غير مهموز، قال: وأصله الهمز فسهله، وقد جاء مهموزاً بعد هذا في هذا الحديث. قوله: (فأصكه بسهم في نغض كتفه) هو بنون مضمومة ثم غين معجمة ساكنة ثم ضاد معجمة وهو العظم الرقيق على طرف الكتف سمي بذلك لكثرة تحزكه وهو الناغض أيضاً. قوله: (يا ثكلته أمه أكوعه بكرة قلت نعم) معنى ثكلته أمه فقدته، وقوله أكوعه هو برفع العين أي أنت الأكوع الذي كنت بكرة هذا النهار؟ ولهذا قال نعم، وبكرة منصوب غير منون، قال أهل العربية: يقال أتيته بكرة بالتنوين إذا أردت أنك لقيته باكراً في يوم غير معين، قالوا: وإن أردت بكرة يوم بعينه قلت أتيته بكرة غير مصروف لأنها من الظروف غير المتمكنة. قوله: (وأردوا فرسين على ثنية) قال القاضي: رواية الجمهور بالدال المهملة ورواه بعضهم بالمعجمة قال وكلاهما متقارب المعنى، فبالمعجمة معناه خلفوهما والرذى الضعيف من كل شيء، وبالمهملة معناه أهلكوهما وأتعبوهما حتى أسقطوهما تركوهما، ومنه التردية، وأردت الفرس الفارس أسقطته. قوله: (ولحقني عامر بسطيحة فيها مذقة من لبن) السطيحة إناء من جلود سطح بعضها على بعض، والمذقة بفتح الميم وإسكان الذال المعجمة قليل من لبن ممزوج بماء. قوله: (وهو على الماء الذي حلأتهم عنه) كذا هو في أكثر النسخ حلأتهم بالحاء المهملة والهمز، وفي بعضها حليتهم عنه بلام مشددة غير مهموز وقد سبق بيانه قريباً. قوله: (نحر ناقة من الإبل الذي استنقذت من القوم) كذا في أكثر النسخ الذي وفي بعضها التي وهو أوجه لأن الإبل مؤنثة وكذا أسماء الجموع من غير الاَدميين والأول صحيح أيضاً وأعاد الضمير إلى الغنيمة لا إلى لفظ الإبل. قوله: (ضحك حتى بدت نواجذه) بالذال المعجمة أي أنيابه وقيل أضراسه والصحيح الأول وسبق بيانه في كتاب الصيام. قوله صلى الله عليه وسلم: "كان خير فرساننا اليوم أبو قتادة وخير رجالتنا سلمة" هذا فيه استحباب الثناء على الشجعان وسائر أهل الفضائل لا سيما عند صنيعهم الجميل لما فيه من الترغيب لهم ولغيرهم في الإكثار من ذلك الجميل، وهذا كله في حق من يأمن الفتنة عليه بإعجاب ونحوه. قوله: (ثم أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم سهمين سهم الفارس وسهم الراجل فجمعهما لي) هذا محمول على أن الزائد على سهم الراجل كان نفلاً وهو حقيق باستحقاق النفل رضي الله عنه لبديع صنعه في هذه الغزوة. قوله: (وكان رجل من الأنصار لا يسبق شداً) يعني عدواً على الرجلين. قوله: (فطفرت) أي وثبت وقفزت. قوله: (فربطت عليه شرفاً أو شرفين أستبقي نفسي) معنى ربطت حبست نفسي عن الجري الشديد، والشرف ما ارتفع من الأرض، وقوله أستبقي نفسي بفتح الفاء أي لئلا يقطعني البهر، وفي هذا دليل لجواز المسابقة على الأقدام وهو جائز بلا خلاف إذا تسابقا بلا عوض، فإن تسابقا على عوض ففي صحتها خلاف الأصح عند أصحابنا لا تصح. قوله: (فجعل عمي عامر يرتجز بالقوم) هكذا قال هنا عمي، وقد سبق في حديث أبي الطاهر عن ابن وهب أنه قال أخي فلعله كان أخاه من الرضاعة وكان عمه من النسب. قوله: (يخطر بسيفه) هو بكسر الطاء أي يرفعه مرة ويضعه أخرى، ومثله خطر البعير بذنبه يخطر بالكسر إذا رفعه مرة ووضعه مرة. قوله: (شاك السلاح) أي تام السلاح يقال رجل شاكي السلاح وشاك السلاح وشاك في السلاح من الشوكة وهي القوة والشوكة أيضاً السلاح، ومنه قوله تعالى: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم}. قوله: (بطل مجرب) هو بفتح الراء أي مجرب بالشجاعة وقهر الفرسان، والبطل الشجاع يقال بطل الرجل بضم الطاء يبطل بطالة وبطولة أي صار شجاعاً. قوله: (بطل مغامر) بالغين المعجمة أي يركب غمرات الحرب وشدائدها ويلقي نفسه فيها. قوله: (وذهب عامر يسفل له) أي يضربه من أسفله هو بفتح الياء وإسكان السين وضم الفاء. قوله: (وهو أرمد) قال أهل اللغة: يقال رمد الإنسان بكسر الميم يرمد بفتحها رمداً فهو رمد وأرمد. إذا هاجت عينه.
قوله: (أنا الذي سمتني أمي حيدره) حيدرة اسم للأسد وكان علي رضي الله عنه قد سمي أسداً في أول ولادته، وكان مرحب قد رأى في المنام أن أسداً يقتله فذكره علي رضي الله عنه ذلك ليخفيه ويضعف نفسه، قالوا: وكانت أم علي سمته أول ولادته أسداً باسم جده لأمه أسد بن هشام بن عبد مناف وكان أبو طالب غائباً فلما قدم سماه علياً وسمى الأسد حيدرة لغلظه، والحادر الغليظ القوي، ومراده أنا الأسد على جرأته وإقدامه وقوته. قوله: (أو فيهم بالصاع كيل السندره) معناه أقتل الأعداء قتلاً واسعاً ذريعاً، والسندرة مكيال واسع وقيل هي العجلة أي أقتلهم عاجلاً،وقيل مأخوذ من السندرة وهي شجرة الصنوبر يعمل منها النبل والقسي. قوله: (فضرب رأس مرحب) يعني علياً فقتله، هذا هو الأصح أن علياً هو قاتل مرحب، وقيل إن قاتل مرحب هو محمد بن مسلمة، قال ابن عبد البر في كتابه الدرر في مختصر السير: قال محمد بن إسحاق إن محمد بن مسلمة هو قاتله، قال: وقال غيره إنما كان قاتله علياً، قال ابن عبد البر: هذا هو الصحيح عندنا ثم روي ذلك بإسناده عن سلمة وبريدة، قال ابن الأثير: الصحيح الذي عليه أكثر أهل الحديث وأهل السير أن علياً هو قاتله والله أعلم وأعلم أن في هذا الحديث أنواعاً من العلم سوى ما سبق التنبيه عليه، منها أربع معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إحداها تكثير ماء الحديبية. والثانية إبراء عين علي رضي الله عنه. والثالثة الإخبار بأنه يفتح الله على يديه وقد جاء التصريح به في رواية غير مسلم هذه. والرابعة إخباره صلى الله عليه وسلم بأنهم يقرون في غطفان وكان كذلك. ومنها جواز الصلح مع العدو. ومنها بعث الطلائع وجواز المسابقة على الأرجل بلا عوض وفضيلة الشجاعة والقوة. ومنها مناقب سلمة بن الأكوع وأبي قتادة والأحزم الأسعدي رضي الله عنهم. ومنها جواز الثناء على من فعل جميلاً واستحباب ذلك إذا ترتب عليه مصلحة كما أوضحناه قريباً. ومنها جواز عقر خيل العدو في القتال واستحباب الرجز في الحرب، وجواز قول الرمي والطاعن والضارب خذها وأنا فلان أو ابن فلان. ومنها جواز الأكل من الغنيمة واستحباب التنفيل منها لمن صنع صنعاً جميلاً في الحرب وجواز إِلارداف على الدابة المطيقة وجواز المبارزة بغير إذن الإمام كما بارز عامر. ومنها ما كانت الصحابة رضي الله عنهم عليه من حب الشهادة والحرص عليها. ومنها إلقاء النفس في غمرات القتال، وقد اتفقوا على أواز التغرير بالنفس في الجهاد في المبارزة ونحوها. ومنها أن من مات في حرب الكفار بسبب القتال يكون شهيداً سواء مات بسلاحهم أو رمته دابة أو غيرها أو عاد عليه سلاحه كما جرى لعامر. ومنها تفقد الإمام الجيش ومن رآه بلا سلاح أعطاه سلاحاً
*2* باب قول اللّه تعالى: {وهو الذي كف أيديهم عنكم}. الاَية
*حدّثني عَمْرُو بْنُ مُحَمّدٍ النّاقِدُ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَرُونَ. أَخْبَرَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ ثَمَانِينَ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ مَكّةَ هَبَطُوا عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ جَبَلِ التّنْعِيمِ مُتَسَلّحِينَ. يُرِيدُونَ غِرّةَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ. فَأَخَذَهُمْ سَلْماً. فَاسْتَحْيَاهُمْ. فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {وَهُوَ الّذِي كَفّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} (الفتح الاَية: ).
قوله: (يريدون غرته) أي غفلته. قوله: (فأخذهم سلماً) ضبطوه بوجهين: أحدهما بفتح السين واللام، والثاني بإسكان اللام مع كسر السين وفتحها، قال الحميدي: ومعناه الصلح، قال القاضي في المشارق: هكذا ضبطه الأكثرون قال فيه وفي الشرح الرواية الأولى أظهر ومعناها أسرهم والسلم الأسر، وجزم الخطابي بفتح اللام والسين قال: والمراد به الاستسلام والإذعان كقوله تعالى: {وألقوا إليكم السلم} أي إِلانقياد وهو مصدر يقع على الواحد وإِلاثنين والجمع، قال ابن الأثير: هذا هو الأشبه بالقصة فإنهم لم يؤخذوا صلحاً وإنما أخذوا قهراً وأسلموا أنفسهم عجزاً، قال: وللقول الاَخر وجه وهو أنه لما لم يجر معهم قتال بل عجزوا عن دفعهم والنجاة منهم فرضوا بالأسر فكأنهم قد صولحوا على ذلك
*2* باب غزوة النساء مع الرجال
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَرُونَ. أَخْبَرَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ أُمّ سُلَيْمٍ اتّخَذَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ خَنْجَراً. فَكَانَ مَعَهَا. فَرَآهَا أَبُو طَلْحَةَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذِهِ أُمّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خَنْجَرٌ. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا هَذَا الْخِنْجَرُ؟" قَالَتِ: اتّخَذْتُهُ. إنْ دَنَا مِنّي أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَقَرْتُ بِهِ بَطْنَهُ. فَجَعَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَضْحَكُ. قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ اقْتُلْ مَنْ بَعْدَنَا مِنَ الطّلَقَاءِ انْهَزَمُوا بِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أُمّ سُلَيْمٍ إنّ اللّهَ قَدْ كَفَىَ وَأَحْسَنَ".
وحدّثنيهِ مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا بَهْزٌ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ. أَخْبَرَنَا إِسْحَقُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ فِي قِصّةِ أُمّ سُلَيْمٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. مِثْلَ حَدِيثِ ثَابِتٍ.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِأُمّ سُلَيْمٍ. وَنِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ مَعَهُ إذَا غَزَا. فَيَسْقِينَ الْمَاءَ وَيُدَاوِينَ الْجَرْحَىَ.
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرٍو (وَهُوَ أَبُو مَعْمَرٍ المِنْقَرِيّ). حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ. حَدّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ (وَهُوَ ابْنُ صُهَيْبٍ) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْهَزَمَ نَاسٌ مِنَ النّاسِ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وَأَبُو طَلْحَةَ بَيْنَ يَدَيِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم مُجَوّبٌ عَلَيْهِ بِحَجَفَةٍ. قَالَ: وَكَانَ أَبُو طَلْحَةَ رَجُلاً رَامِياً شَدِيدَ النّزْعِ. وَكَسَرَ يَوْمَئِذٍ قَوْسَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً. قَالَ: فَكَانَ الرّجُلُ يَمُرّ مَعَهُ الْجَعْبَةُ مِنَ النّبْلِ. فَيَقُولُ: انْثُرْهَا لأَبِي طَلْحَةَ. قَالَ: وَيُشْرِفُ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَنْظُرُ إلَىَ الْقَوْمِ. فَيَقُولُ أَبُو طَلْحَةَ: يَا نَبِيّ اللّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمّي لاَ تُشْرِفْ لاَ يُصِبْكَ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الْقَوْمِ. نَحْرِي دُونَ نَحْرِكَ. قَالَ: وَلَقَدْ رَأَيْتُ عَائِشَةَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ وَأُمّ سُلَيْمٍ وَإِنّهُمَا لَمُشَمّرَتَانِ. أَرَىَ خَدَمَ سُوقِهِمَا. تَنْقُلاَنِ الْقِرَبَ عَلَىَ مُتُونِهِمَا. ثُمّ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِهِمْ. ثُمّ تَرْجِعَانِ فَتَمْلاَنِهَا. ثُمّ تَجِيئَانِ تُفْرِغَانِهِ فِي أَفْوَاهِ الْقَوْمِ. وَلَقَدْ وَقَعَ السّيْفُ مِنْ يَدَيْ أَبِي طَلْحَةَ إمّا مَرّتَيْنِ وَإمّا ثَلاَثاً، مِنَ النّعَاسِ.
قوله: (أن أم سليم اتخذت يوم حنين خنجراً) هكذا هو في النسخ المعتمدة يوم حنين بضم الحاء المهملة وبالنونين، وفي بعضها يوم خيبر بفتح الخاء المعجمة والأول هو الصواب، والخنجر بكسر الخاء وفتحها ولم يذكر القاضي في الشرح إلا الفتح وذكرهما معاً في المشارق ورجح الفتح ولم يذكر الجوهري غير الكسر فهما لغتان وهي سكين كبيرة ذات حدين وفي هذا الغزو بالنساء وهو مجمع عليه. قولها: (بقرت بطنه) أي شققته. قولها: (أقتل من بعدنا من الطلقاء) هو بضم الطاء وفتح اللام وهم الذين أسلموا من أهل مكة يوم الفتح سموا بذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم من عليهم وأطلقهم وكان في إسلامهم ضعف فاعتقدت أم سليم أنهم منافقون وأنهم استحقوا القتل بانهزامهم وغيره وقولها من بعدنا أي من سوانا.
قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يغزو بالنساء فيسقين الماء ويداوين الجرحى) فيه خروج النساء في الغزو وإِلانتفاع بهن في السقي والمداواة ونحوهما، وهذه المداواة لمحارمهن وأزواجهن وما كان منها لغيرهم لا يكون فيه مس بشرة إلا في موضع الحاجة.
قوله: (أبو معمر المنقري) هو بكسر الميم وإسكان النون وفتح القاف منسوب إلى منقر بن عبيد بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد بن مناة بن تميم بن مرة بن أد بن طلحة بن إلياس بن مضر بن نذار بن معد بن عدنان. قوله: (مجوب عليه بحجفة) أي مترس عنه ليقيه سلاح الكفار. قوله: (كان أبو طلحة رامياً شديد النزع) أي شديد الرمي. قوله: (الجعبة) بفتح الجيم. قوله: (أرى خدم سوقها) هو بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة الواحدة خدمة وهي الخلخال، وأما السوق فجمع ساق، وهذه الرواية للخدم لم يكن فيها نهي لأن هذا كان يوم أحد قبل أمر النساء بالحجاب وتحريم النظر إليهن، ولأنه لم يذكر هنا أنه تعمد النظر إلى نفس الساق فهو محمول، على أنه حصلت تلك النظرة فجأة بغير قصد ولم يستدمها. قوله: "نحري دون نحرك" هذا من مناقب أبي طلحة الفاخرة. قوله: (على متونهما) أي على ظهورهما، وفي هذا الحديث اختلاط النساء في الغزو برجالهن في حال القتال لسقي الماء ونحوه
*2* باب النساء الغازيات يرضخ لهن ولا يسهم. والنهي عن قتل صبيان أهل الحرب
*حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ. حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ (يَعْنِي ابْنَ بِلاَلٍ) عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ أَنّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَىَ ابْنِ عَبّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ خَمْسِ خِلاَلٍ. فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لَوْلاَ أَنْ أَكْتُمَ عِلْماً مَا كَتَبْتُ إلَيْهِ. كَتَبَ إلَيْهِ نَجْدَةُ: أَمّا بَعْدُ. فَأَخْبِرْنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنّسَاءِ؟ وَهَلْ كَانَ يَضْرِبُ لَهُنّ بِسَهْمٍ؟ وَهَلْ كَانَ يَقْتُلُ الصّبْيَانَ؟ وَمَتَىَ يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ؟ وَعَنِ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَبّاسٍ: كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي هَلْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَغْزُو بِالنّسَاءِ؟ وَقَدْ كَانَ يَغْزُو بِهِنّ فَيُدَاوِينَ الْجَرْحَىَ وَيُحْذَيْنَ مِنَ الْغَنِيمَةِ. وَأَمّا بِسَهْمٍ، فَلَمْ يَضْرِبْ لَهُنّ. وَإِنّ رَسُولَاللّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصّبْيَانَ. فَلاَ تَقْتُلِ الصّبْيَانَ. وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي: مَتَىَ يَنْقَضِي يُتْمُ الْيَتِيمِ؟ فَلَعَمْرِي إنّ الرّجُلَ لَتَنْبُتُ لِحْيَتُهُ وَإنّهُ لَضَعِيفُ الأَخْذِ لِنَفْسِهِ. ضَعِيفُ الْعَطَاءِ مِنْهَا. فَإذَا أَخَذَ لِنَفْسِهِ مِنْ صَالِحِ مَا يَأْخُذُ النّاسُ، فَقَدْ ذَهَبَ عَنْهُ الْيُتْمُ. وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الْخُمْسِ لِمَنْ هُوَ؟ وَإنّا كُنّا نَقُولُ: هُوَ لَنَا. فَأَبَىَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا ذَاكَ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. كِلاَهُمَا عَنْ حَاتِمِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ أَنّ نَجْدَةَ كَتَبَ إِلَى ابْنِ عَبّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ خِلاَلٍ. بِمِثْلِ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ بِلاَلٍ. غَيْرَ أَنّ فِي حَدِيثِ حَاتِمٍ: وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الصّبْيَانَ. فَلاَ تَقْتُلِ الصّبْيَانَ. إِلاّ أَنْ تَكُونَ تَعْلَمُ مَا عَلِمَ الخِضرُ مِنَ الصّبِيّ الّذِي قَتَلَ.
وزادَ إِسْحَقُ فِي حَدِيثِهِ عَنْ حَاتِمٍ: وَتُمَيّزَ الْمُؤْمِنَ، فَتَقْتُلَ الْكَافِرَ وَتَدَعَ الْمُؤْمِنَ.
وحدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أُمَيّةَ، عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ الجَرُورِيّ إِلَى ابْنِ عَبّاسٍ يَسْأَلُهُ عَنْ العَبْدِ والمَرْأَةِ يَحْضُرَانِ الْمَغْنَمَ، هَلْ يُقْسَمُ لَهُمَا؟ وَعَنْ قَتْلِ الوِلْدَانِ؟ وَعَنِ اليَتِيمِ مَتىَ يَنْقَطِعُ عَنْهُ اليُتْمُ؟ وعَنْ ذَوِي القُرْبَىَ، مَنْ هُمْ؟ فَقَالَ لِيَزيدَ: اكْتُبْ إِلَيْهِ. فَلَوْلاَ أَنْ يَقَعَ فِي أُحْمُوقَةٍ مَا كَتَبْتُ إِلَيْهِ. اكْتُبْ: إِنّكَ كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ المَرْأَةِ والعَبْدِ يَحْضُرَانِ المَغْنَمَ، هَلْ يُقْسَمُ لَهُمَا شَيء؟ وَإِنّهُ لَيْسَ لَهُمَا شَيءٌ. إِلاّ أَنْ يُحْذَيَا. وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ قَتْلِ الوِلْدَانِ؟ وَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقْتُلْهُمْ. وَأَنْتَ فَلاَ تَقْتُلْهُمْ. إِلاّ أَنْ تَعْلَمَ مِنْهُمْ مَا عَلِمَ صَاحِبُ مُوسَىَ مِنَ الْغُلاَمِ الّذِي قَتَلَهُ. وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ اليَتِيمِ، مَتَىَ يَنْقَطِعُ عَنْهُ اسْمُ اليُتْمِ؟ وَإِنّهُ لاَ يَنْقَطِعُ عَنْهُ اسْمُ اليُتْمِ حَتّىَ يَبْلُغَ وَيُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدٌ. وَكَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ ذَوِي الْقُرْبَىَ، مَنْ هُمْ؟ وَإِنّا زَعَمْنَا أَنّا هُمْ. فَأَبَىَ ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا.
وحدّثناه عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ العَبْدِيّ. حَدّثَنَا سُفْيَان. حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ إِلَى ابْنِ عَبّاسٍ. وَسَاقَ الحَدِيثَ بِمِثْلِهِ.
قَالَ أَبُو إِسْحَقَ: حَدّثَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ، بِهَذَا الْحَدِيثِ، بِطُولِهِ.
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنِ حَازمٍ. حَدّثَنِي أَبِي. قَالَ: سَمِعْتُ قَيْساً يُحَدّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ (وَاللّفْظُ لَهُ). قَالَ: حَدّثَنَا بَهْزٌ. حَدّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ. حَدّثَنِي قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ بْنُ عَامِرٍ إِلَى ابْنِ عَبّاسٍ. قَالَ: فَشَهِدْتُ ابْنَ عَبّاسٍ حِينَ قَرَأَ كِتَابَهُ وَحِينَ كَتَبَ جَوَابَهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: وَاللّهِ لَوْلاَ أَنْ أَرُدّهُ عَنْ نَتْنٍ يَقَعُ فِيهِ مَا كَتَبْتُ إلَيْهِ. وَلاَ نُعْمَةَ عَيْنٍ. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنّكَ سَأَلْتَ عَنْ سَهْمِ ذِي القُرْبَى الّذِي ذَكَرَ اللّهُ، مَنْ هُمْ؟ وَإِنّا كُنّا نَرَىَ أَنّ قَرَابَةَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم هُمْ نَحْنُ. فَأَبَىَ ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا. وَسَأَلْتَ عَنِ الْيَتِيمِ، مَتَىَ يَنْقَضِي يُتْمُهُ؟ وَإِنّهُ إِذَا بَلَغَ النّكَاحَ وأُونِسَ مِنْهُ رُشْدٌ وَدُفِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ، فَقَدِ انْقَضَىَ يُتْمُهُ. وَسَأَلْتَ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقْتُلُ مِنْ صِبْيَانِ المُشْرِكِينَ أَحَداً؟ فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ مِنْهُمْ أَحَداً. وَأَنْتَ، فَلاَ تَقْتُلْ مِنْهُمْ أَحَداً. إِلاّ أَنْ تَكُونَ تَعْلَمُ مِنْهُمْ مَا عَلِمَ الْخَضِرُ مِنَ الغُلاَمِ حِينَ قَتَلَهُ. وَسَأَلْتَ عَنِ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ، هَلْ كَانَ لَهُمَا سَهْمٌ مَعْلُومٌ، إذَا حَضَرُوا الْبَأْسَ؟ فَإنّهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَهْمٌ مَعْلُومٌ. إلاّ أَنْ يُحْذَيَا مِنْ غَنَائِمِ الْقَوْمِ.
وحدّثني أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. حَدّثَنَا زَائِدَةُ. حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ الأَعْمَشُ عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ صَيْفِيَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ إِلَى ابْنِ عَبّاسٍ. فَذَكَرَ بَعْضَ الحَدِيثِ. وَلَمْ يُتِمّ القِصّةِ. كإِتْمَامِ مَنْ ذَكَرْنَا حَدِيثَهُمْ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحِيم بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ، عَنْ أُمّ عَطِيّةَ الأَنْصَارِيّةِ قَالَتْ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ. أَخْلُفُهُمْ فِي رِحَالِهِمْ. فَأَصْنَعُ لَهُمُ الطّعَامَ، وَأُدَاوِي الْجَرْحَىَ، وَأَقُومُ عَلَىَ الْمَرْضَىَ.
وحدّثنا عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَرُونَ. حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسّانَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ.
قوله: (فقال ابن عباس لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه) يعني إلى نجدة الحروري من الخوارج، معناه أن ابن عباس يكره نجدة لبدعته وهي كونه من الخوارج الذين يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، ولكن لما سأله عن العلم لم يمكنه كتمه فاضطر إلى جوابه وقال: لولا أن أكتم علماً ما كتبت إليه، أي لولا أني إذا تركت الكتابة أصير كاتماً للعلم مستحقاً لوعيد كاتمه لما كتبت إليه. قوله: (كان يغزو بالنساء فيداوين الجرحى ويحذين من الغنيمة) وأما بسهم فلم يضرب لهن فيه حضور النساء الغزو ومداواتهن الجرحى كما سبق في الباب قبله، وقوله يحذين هو بضم الياء وإسكان الحاء المهملة وفتح الذال المعجمة أي يعطين تلك العطية وتسمى الرضخ، وفي هذا أن المرأة تستحق الرضخ ولا تستحق السهم، وبهذا قال أبو حنيفة والثوري والليث والشافعي وجماهير العلماء وقال الأوزاعي: تستحق السهم إن كانت تقاتل أو تداوي الجرحى، وقال مالك: لا رضخ لها وهذا المذهبان مردودان بهذا الحديث الصحيح الصريح. قوله بعد هذا: (وسألت عن المرأة والعبد هل كان لهم سهم معلوم إذا حضروا البأس وأنهم لم يكن لهم سهم معلوم إلا أن يحذيا من غنائم القوم) فيه أن العبد يرضخ له ولا يسهم له وبهذا قال الشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء، وقال مالك: لا رضخ له كما قال في المرأة، وقال الحسن وابن سيرين والنخعي والحكم: إن قاتل أسهم له. قوله: (إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل الصبيان فلا تقتل الصبيان) فيه النهي عن قتل صبيان أهل الحرب وهو حرام إذا لم يقاتلوا وكذلك النساء فإن قاتلوا جاز قتلهم. قوله: (وكتبت تسألني متى ينقضي يتم اليتيم فلعمري أن الرجل لتنبت لحيته وإنه لضعيف الأخذ لنفسه ضعيف العطاء منها فإذا أخذ لنفسه من صالح ما يأخذ الناس فقد ذهب عنه اليتم) معنى هذا متى ينقضي حكم اليتم ويستقل بالتصرف في ماله، وأما نفس اليتم فينقضي بالبلوغ، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتم بعد الحلم" وفي هذا دليل للشافعي ومالك وجماهير العلماء أن حكم اليتم لا ينقطع بمجرد البلوغ ولا بعلو السن، بل لا بد أن يظهر منه الرشد في دينه وماله. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ خمساً وعشرين سنة زال عنه حكم الصبيان وصار رشيداً يتصرف في ماله ويجب تسليمه إليه وإن كان غير ضابط له. وأما الكبير إذا طرأ تبذيره فمذهب مالك وجماهير العلماء وجوب الحجر عليه، وقال أبو حنيفة: لا يحجر، قال ابن القصار وغيره: الصحيح الأول وكأنه إجماع. قوله: (وكتبت تسألني عن الخمس لمن هو وإنا كنا نقول هو لنا فأبى علينا قومنا ذاك) معناه خمس خمس الغنيمة الذي جعله الله لذوي القربى، وقد اختلف العلماء فيه فقال الشافعي مثل قول ابن عباس وهو أن خمس الخمس من الفيء والغنيمة يكون لذوي القربى وهم عند الشافعي والأكثرين بنو هاشم وبنو المطلب. قوله: (أبي علينا قومنا ذاك) أي رأوا أنه لا يتعين صرفه إلينا بل يصرفونه في المصالح، وأراد بقومه ولاة الأمر من بني أمية، وقد صرح في سنن أبي داود في رواية له بأن سؤال نجدة لابن عباس عن هذه المسائل كان في فتنة ابن الزبير، وكانت فتنة ابن الزبير بعد بضع وستين سنة من الهجرة، وقد قال الشافعي رحمه الله: يجوز أن ابن عباس أراد بقوله أبى ذاك علينا قومنا من بعد الصحابة وهم يزيد بن معاوية والله أعلم. قوله: (فلا تقتل الصبيان إلا أن تكون تعلم ما علمه الخضر من الصبي الذي قتل) معناه أن الصبيان لا يحل قتلهم ولا يحل لك أن تتعلق بقصة الخضر وقتله صبياً، فإن الخضر ما قتله إلا بأمر الله تعالى له على التعيين كما قال في آخر القصة: وما فعلته عن أمري، فإن كنت أنت تعلم من صبي ذلك فاقتله، ومعلوم أنه لا علم له بذلك فلا يجوز له القتل. قوله: (وتميز المؤمن فتقتل الكافر وتدع المؤمن) معناه من يكون إذا عاش إلى البلوغ مؤمناً ومن يكون إذا عاش كافراً، فمن علمت أنه يبلغ كافراً فاقتله كما علم الخضر أن ذلك الصبي لو بلغ لكان كافراً وأعلمه الله تعالى ذلك، ومعلوم أنك أنت لا تعلم ذلك فلا تقتل صبياً. قوله: (لولا أن يقع في أحموقة ما كتبت إليه) هي بضم الهمزة والميم يعني فعلاً من أفعال الحمقى ويرى رأياً كرأيهم، ومثله قوله في الرواية الأخرى: (والله لولا أن أرده عن نتن يقع فيه ما كتبت إليه) يعني بالنتن الفعل القبيح، وكل مستقبح يقال له النتن والخبيث والرجس والقذر والقاذورة. قوله: (لا ينقطع عنه اسم اليتم حتى يبلغ ويؤنس منه رشد) يعني لا ينقطع عنه حكم اليتم كما سبق وأراد بالاسم الحكم. قوله: (ولا نعمة عين) هو بضم النون وفتحها أي مسرة عين، ومعناه لا تسر عينه، يقال: نعمة عين ونعامة عين ونعمى عين نعماً ونعيم عين ونعام عين بمعنى وأنعم الله عينك أي أقرها فلا يعرض لك نكد في شيء من الأمور. قوله: (إذا حضروا البأس) بالباء الموحدة وهو الشدة والمراد هنا الحرب
*2* باب عدد غزوات النبيّ صلى الله عليه وسلم
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ ابْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لابْنِ الْمُثَنّىَ قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ يَزِيدَ خَرَجَ يَسْتَسْقِي بالنّاسِ. فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمّ اسْتَسْقَىَ. قَالَ: فَلَقِيتُ يَوْمَئِذٍ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ. وَقَالَ: لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ غَيْرُ رَجُلٍ، أَوْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ رَجُلٌ. قَالَ فَقُلْتُ لَهُ: كَمْ غَزَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: تِسْعَ عَشْرَةَ. فَقُلْتُ: كَمْ غَزَوْتَ أَنْتَ مَعَهُ؟ قَالَ: سَبْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً. قَالَ فَقُلْتُ: فَمَا أَوّلُ غَزْوَةٍ غَزَاهَا؟ قَالَ: ذَاتُ الْعُسَيْرِ أَوِ الْعُشَيْرِ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ آدَمَ. حَدّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ سَمِعَهُ مِنْهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم غَزَا تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً. وَحَجّ بَعْدَمَا هَاجَرَ حَجّةً لَمْ يَحُجّ غَيْرَهَا. حَجّةَ الْوَدَاعِ.
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ. حَدّثَنَا زَكَرِيّاءُ. أَخْبَرَنَا أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً.
قَالَ جَابِرٌ: لَمْ أَشْهَدْ بَدْراً وَلاَ أُحُداً. مَنَعَنِي أَبِي. فَلَمّا قُتِلَ عَبْدُ اللّهِ يَوْمَ أُحُدٍ، لَمْ أَتَخَلّفْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ قَطّ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا زَيْدُ بْنُ الحُبَابِ. ح وَحَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمّدٍ الْجَرْمِيّ. حَدّثَنَا أَبُو تُمَيْلَةَ. قَالاَ جَمِيعاً: حَدّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ وَاقِدٍ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ عَشْرَةَ غَزْوَةً. قَاتَلَ فِي ثَمَانٍ مِنْهُنّ.
وَلَمْ يَقُلْ أَبُو بَكْرٍ: مِنْهُنّ. وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ.
وحدّثني أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ. حَدّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ كَهْمَسٍ، عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ قَالَ: غَزَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سِتّ عَشْرَةَ غَزْوَةً.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبّادٍ. حَدّثَنَا حَاتِمٌ (يَعْنِي ابْنَ إِسْمَاعِيلَ) عَنْ يَزِيدَ (وَهُوَ ابْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) قَالَ: سَمِعْتُ سَلَمَةَ يَقُولُ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ. وَخَرَجْتُ، فِيمَا يَبْعَثُ مِنَ الْبُعُوثِ، تِسْعَ غَزَوَاتٍ. مَرّةً عَلَيْنَا أَبُو بَكْرٍ. وَمَرّةً عَلَيْنَا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ.
وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا حَاتِمٌ بِهَذَا الإِسْنَادِ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ، فِي كِلْتَيْهِمَا: سَبْعَ غَزَوَاتٍ.
ذكر في الباب من رواية زيد بن أرقم وجابر وبريدة: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا تسع عشرة غزوة) وفي رواية بريدة: (قاتل في ثمان منهن) قد اختلف أهل المغازي في عدد غزواته صلى الله عليه وسلم وسراياه، فذكر ابن سعد وغيره عددهن مفصلات على ترتيبهن فبلغت سبعاً وعشرين غزاة وستاً وخمسين سرية، قالوا: قاتل في تسع من غزواته وهي: بدر وأحد والمريسيع والخندق وقريظة وخيبر والفتح وحنين والطائف، هكذا عدوا الفتح فيها، وهذا على قول من يقول فتحت مكة عنوة وقد قدمنا بيان الخلاف فيها، ولعل بريدة أراد بقوله قاتل في ثمان إسقاط غزاة الفتح ويكون مذهبه أنها فتحت صلحاً كما قاله الشافعي وموافقوه. قوله: (قلت فما أول غزوة غزاها؟ قال ذات العسير أو العشير) هكذا في جميع نسخ صحيح مسلم العسير أو العشير العين مضمومة والأول بالسين المهملة والثاني بالمعجمة، وقال القاضي في المشارق: هي ذات العشيرة بضم العين وفتح الشين المعجمة، قال: وجاء في كتاب المغازي يعني من صحيح البخاري عسير بفتح العين وكسر السين المهملة بحذف الهاء، قال: والمعروف فيها العشيرة مصغرة بالشين المعجمة والهاء، قال: وكذا ذكرها أبو إسحاق وهي من أرض مذحج. قوله: (وحدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يحيى بن آدم حدثنا وهيب عن أبي إسحاق عن زيد بن أرقم) هكذا هو في أكثر نسخ بلادنا وهيب عن أبي إسحاق، وفي بعضها زهير عن أبي إسحاق، ونقل القاضي أيضاً إِلاختلاف فيه قال: وقال عبد الغني الصواب زهير، وأما وهيب فخطأ قال لأن وهيباً لم يلق أبا إسحاق وذكر خلف في الأطراف فقال زهير ولم يذكر وهيباً.
قوله: (عن جابر لم أشهد بدراً ولا أحداً) قال القاضي: كذا في رواية مسلم أن جابراً لم يشهدهما، وقد ذكر أبو عبيد أنه شهد بدراً، قال ابن عبد البر: الصحيح أنه لم يشهدهما، وقد ذكر ابن الكلبي أنه شهد أحداً. قوله: (عن جابر قال غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع عشرة غزوة ولم أشهد أحداً ولا بدراً) هذا صريح منه بأن غزوات رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن منحصرة في تسع عشرة بل زائدة، وإنما مراد زيد بن أرقم وبريدة بقولهما تسع عشرة أن منها تسع عشرة كما صرح به جابر، فقد أخبر جابر أنها إحدى وعشرون كما ترى وقد قدمنا أنها سبع وعشرون.
وأما قوله في الرواية الأخرى عن بريدة (ست عشرة غزوة) فليس فيه نفي الزيادة.
*2* باب غزوة ذات الرقاع
*حدّثنا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ اللّهِ بْنُ بَرّادٍ الأَشْعَرِيّ وَ مُحَمّدُ بْنُ العَلاَءِ الهَمْدَانِيّ (وَاللّفْظُ لأَبِي عَامِرٍ). قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزَاةٍ. وَنَحْنُ سِتّةُ نَفَرٍ. بَيْنَنَا بَعِيرٌ نَعْتَقِبُهُ. قَالَ: فَنَقِبَتْ أَقْدَامُنَا. فَنَقِبَتْ قَدَمَايَ وَسَقَطَتْ أَظْفَارِي. فَكُنّا نَلُفّ عَلَىَ أَرْجُلِنَا الْخِرَقَ. فَسُمّيَتْ غَزْوَةَ ذَاتِ الرّقَاعِ، لِمَا كُنّا نُعَصّبُ عَلَىَ أَرْجُلِنَا مِنَ الْخِرَقِ.
قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَحَدّثَ أَبُو مُوسَىَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. ثُمّ كَرِهَ ذَلِكَ. قَالَ: كَأَنّهُ كَرِهَ أَنْ يَكُونَ شَيْئاً مِنْ عَمَلِهِ أَفْشَاهُ.
قَالَ أَبُو أُسَامَةَ: وَزَادَنِي غَيْرُ بُرَيْدٍ: وَاللّهُ يَجْزِي بِهِ.
قوله: (ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه) أي يركبه كل واحد منا نوبة فيه جواز مثل هذا إذا لم يضر بالمركوب. قوله: (فنقبت أقدامنا) هو بفتح النون وكسر القاف أي قرحت من الحفاء قوله: (فسميت ذات الرقاع لذلك) هذا هو الصحيح في سبب تسميتها وقال: سميت بذلك بجبل هناك فيه بياض وسواد وحمرة، وقيل سميت باسم شجرة هناك، وقيل لأنه كان في ألويتهم رقاع، ويحتمل أنها سميت بالمجموع. قوله: (وكره أن يكون شيئاً من عمله أفشاه) فيه استحباب إخفاء الأعمال الصالحة وما يكابده العبد من المشاق في طاعة الله تعالى ولا يظهر شيئاً من ذلك إلا لمصلحة مثل بيان حكم ذلك الشيء والتنبيه على إِلاقتداء به فيه ونحو ذلك، وعلى هذا يحمل ما وجد للسلف من الأخبار بذلك
*2* باب كراهة الاستعانة في الغزو بكافر
*حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيَ عَنْ مَالِكٍ. ح وَحَدّثَنِيهِ أَبُو الطّاهِرِ (وَاللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الفُضَيْلِ بْنِ أَبِي عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نِيَارٍ الأَسْلَمِيّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهَا قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قِبَلَ بَدْرٍ. فَلَمّا كَانَ بِحَرّةِ الْوَبَرَةِ أَدْرَكَهُ رَجُلٌ. قَدْ كَانَ يُذْكَرُ مِنْهُ جُرْأَةٌ وَنَجْدَةٌ. فَفَرِحَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ رَأَوْهُ. فَلَمّا أَدْرَكَهُ قَالَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: جِئْتُ لأَتّبِعَكَ وَأُصِيبَ مَعَكَ. قَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "تُؤْمِنُ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ؟" قَالَ: لاَ. قَالَ: "فَارْجِعْ. فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ".
قَالَتْ: ثُمّ مَضَىَ. حَتّىَ إذَا كُنّا بِالشّجَرَةِ أَدْرَكَهُ الرّجُلُ. فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوّلَ مَرّةٍ. فَقَالَ لَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَمَا قَالَ أَوّلَ مَرّةٍ. قَالَ: "فَارْجِعْ فَلَنْ أَسْتَعِينَ بِمُشْرِكٍ". قَالَ: ثُمّ رَجَعَ فَأَدْرَكَهُ بِالْبَيْدَاءِ. فَقَالَ لَهُ كَمَا قَالَ أَوّلَ مَرّةٍ "تُؤْمِنُ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ؟" قَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَانْطَلِقْ".
قوله: (عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج قبل بدر فلما كان بحرة الوبرة) هكذا ضبطناه بفتح الباء وكذا نقله القاضي عن جميع رواة مسلم، قال: وضبطه بعضهم بإسكانها وهو موضع على نحو من أربعة أميال من المدينة. قوله صلى الله عليه وسلم: "فارجع فلن أستعين بمشرك" وقد جاء في الحديث الاَخر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بصفوان بن أمية قبل إسلامه) فأخذ طائفة من العلماء بالحديث الأول على إطلاقه، وقال الشافعي وآخرون: إن كان الكافر حسن الرأي في المسلمين ودعت الحاجة إلى الاستعانة به استعين به وإلا فيكره، وحمل الحديثين على هذين الحالين، وإذا حضر الكافر بالإذن رضخ له ولا يسهم له، هذا مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة والجمهور، وقال الزهري والأوزاعي: يسهم له والله أعلم. قوله: (عن عائشة قالت ثم مضى حتى إذا كنا بالشجرة أدركه الرجل) هكذا هو في النسخ حتى إذا كنا فيحتمل أن عائشة كانت مع المودعين فرأت ذلك، ويحتمل أنها أرادت بقولها كنا كان المسلمون والله أعلم.