كتاب السلام
 1* كتاب السلام
*2* باب يسلّم الراكب على الماشي، والقليل على الكثير
*حدثني عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ. حَدّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ مَرْزُوقٍ. حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ. أَخْبَرَنِي زِيَادٌ، أَنّ ثَابِتاً، مَوْلَىَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ أَخْبَرَهُ، أَنّهُ سَمِعَ أَبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "يُسَلّمُ الرّاكِبُ عَلَى المَاشِي، والمَاشِي عَلَى القَاعِدِ، وَالقَلِيلُ عَلَى الكَثِيرِ".
هذا أدب من آداب السلام. واعلم أن ابتداء السلام سنة ورده واجب، فإن كان المسلم جماعة فهو سنة كفاية في حقهم إذا سلم بعضهم حصلت سنة السلام في حق جميعهم، فإن كان المسلم عليه واحداً تعين عليه الرد، وإن كانوا جماعة كان الرد فرض كفاية في حقهم، فإذا رد واحد منهم سقط الحرج عن الباقين، والأفضل أن يبتدئ الجميع بالسلام وأن يرد الجميع. وعن أبي يوسف أنه لا بد أن يرد الجميع. ونقل ابن عبد البر وغيره إجماع المسلمين على أن ابتداء السلام سنة وأن رده فرض، وأقل السلام أن يقول: السلام عليكم، فإن كان المسلم عليه واحداً فأقله السلام عليك والأفضل أن يقول: السلام عليكم ليتناوله وملكيه، وأكمل منه أن يزيد ورحمة الله، وأيضاً وبركاته. ولو قال: سلام عليكم أجزأه. واستدل العلماء لزيادة ورحمة الله وبركاته بقوله تعالى إخباراً عن سلام الملائكة بعد ذكر السلام رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت. وبقول المسلمين كلهم في التشهد: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. ويكره أن يقول المبتدئ: عليكم السلام، فإن قاله استحق الجواب على الصحيح المشهور، وقيل لا يستحقه، وقد صح أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: لا تقل عليك السلام فإن عليك السلام تحية الموتى والله أعلم. وأما صفة الرد فالأفضل والأكمل أن يقول: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته فيأتي بالواو فلو حذفها جاز وكان تاركاً للأفضل، ولو اقتصر على وعليكم السلام أو على عليكم السلام أجزأه، ولو اقتصر على عليكم لم يجزه بلا خلاف، ولو قال وعليكم بالواو ففي إجزائه وجهان لأصحابنا، قالوا: وإذا قال المبتدئ سلام عليكم أو السلام عليكم فقال المجيب مثله سلام عليكم أو السلام عليكم كان جواباً وأجزأه، قال الله تعالى: {قالوا سلاماً قال سلام} ولكن بالألف واللام أفضل، وأقل السلام ابتداء ورداً أن يسمع صاحبه ولا يجزئه دون ذلك، ويشترط كون الرد على الفور، ولو أتاه سلام من غائب مع رسول أو في ورقة وجب الرد على الفور، وقد جمعت في كتاب الأذكار نحو كراستين في الفوائد المتعلقة بالسلام، وهذا الذي جاء به الحديث من تسليم الراكب على الماشي والقائم على القاعد والقليل على الكثير. وفي كتاب البخاري: والصغير على الكبير كله للاستحباب فلو عكسوا جاز وكان خلاف الأفضل، وأما معنى السلام فقيل هو اسم الله تعالى، فقوله: السلام عليك أي اسم السلام عليك ومعناه اسم الله عليك أي أنت في حفظه، كما يقال: الله معك والله يصحبك، وقيل السلام بمعنى السلامة أي السلامة ملازمة لك.
*2* باب من حق الجلوس على الطريق ردّ السلام
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَفّانُ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ. حَدّثَنَا عُثْمَان بْنُ حَكِيمٍ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ: كُنّا قُعُوداً بِالأَفْنِيَةِ نَتَحَدّثُ. فَجَاءَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ عَلَيْنَا. فَقَالَ: "مَا لَكُمْ وَلِمَجَالِسِ الصّعُدَاتِ؟ اجْتَنِبُوا مَجَالِسَ الصّعُدَاتِ" فَقُلْنَا: إِنّمَا قَعَدْنَا لِغَيْرِ مَا بَأْسٍ. قَعَدْنَا نَتَذَاكَرُ وَنَتَحَدّثُ. قَالَ: "إِمّا لاَ. فَأَدّوا حَقّهَا: غَضّ الْبَصَرِ، وَرَدّ السّلاَمِ، وَحُسْنُ الْكَلاَمِ".
حدّثنا سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيّاكُمْ وَالْجُلُوسَ بِالطّرُقَاتِ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ مَا لَنَا بُدّ مِنْ مَجَالِسِنَا نَتَحَدّثُ فِيهَا. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا أَبَيْتُمْ إِلا الْمَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطّرِيقَ حَقّهُ". قَالُوا: وَمَا حَقّهُ؟ قَالَ: "غَضّ الْبَصَرِ، وَكَفّ الأَذَىَ، وَرَدّ السّلاَمِ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ".
حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمّدٍ الْمَدَنِيّ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ رافِعٍ. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ عَنْ هِشَامٍ (يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ). كِلاَهُمَا عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، بِهَذَا الاْسْنَادِ.
قوله: "كنا قعوداً بالأفنية نتحدث" هي جمع فناء بكسر الفاء والمد وهو حريم الدار ونحوها وما كان في جوانبها وقريباً منها. قوله صلى الله عليه وسلم: "اجتنبوا مجالس الصعدات فقلنا إنما قعدنا لغير ما بأس فقعدنا نتذاكر ونتحدث قال إما لا فأدوا حقها غض البصر ورد السلام وحسن الكلام" وفي الرواية الأخرى: "غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر". أما الصعدات فبضم الصاد والعين وهي الطرقات واحدها صعيد كطريق، يقال صعيد وصعد وصعدان كطريق وطرق وطرقات على وزنه ومعناه وقد صرح به في الرواية الثانية. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إما لا" فبكسر الهمزة وبالإمالة ومعناه إن لم تتركوها فأدوا حقها، وقد سبق بيان هذه اللفظة مبسوطاً في كتاب الحج. وقوله: قعدنا لغير ما بأس لفظة ما زائدة، وقد سبق شرح هذا الحديث، والمقصود منه أنه يكره الجلوس على الطرقات للحديث ونحوه. وقد أشار النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى علة النهي من التعرض للفتن والإثم بمرور النساء وغيرهن، وقد يمتد نظر إليهن أو فكر فيهن، أو ظن سوء فيهن أو في غيرهن من المارين ومن أذى الناس باحتقار من يمر أو غيبة أو غيرها أو إهمال رد السلام في بعض الأوقات، أو إهمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحو ذلك من الأسباب التي لو خلا في بيته سلم منها ويدخل في الأذى أن يضيق الطريق على المارين، أو يمتنع النساء ونحوهن من الخروج في أشغالهن بسبب قعود القاعدين في الطريق، أو يجلس بقرب باب دار إنسان يتأذى بذلك، أو حيث يكشف من أحوال الناس شيئاً يكرهونه. وأما حسن الكلام فيدخل فيه حسن كلامهم في حديثهم بعضهم لبعض فلا يكون فيه غيبة ولا نميمة ولا كذب ولا كلام ينقص المروءة ونحو ذلك من الكلام المذموم، ويدخل فيه كلامهم للمار من رد السلام ولطف جوابهم له وهدايته للطريق وإرشاده لمصلحته ونحو ذلك.
*2* باب من حق المسلم للمسلم ردّ السلام
*حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيّبِ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "حَقّ الْمُسْلِمِ عَلَىَ الْمُسْلِمِ خَمْسٌ" ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمسْلِمِ عَلَىَ أَخِيهِ: رَدّ السّلاَمِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِجَابَةُ الدّعْوَةِ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ، وَاتّبَاعُ الْجَنَائِزِ".
قَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ: كَانَ مَعْمَرٌ يُرْسِلُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ الزّهْرِيّ. وَأَسْنَدَهُ مَرّةً عَنِ ابْنِ الْمُسَيّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ حُجْرٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ) عَنِ الْعَلاءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "حَقّ الْمُسْلِمِ عَلَىَ الْمُسْلِمِ سِتّ". قِيلَ: مَا هُنّ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلّمْ عَلَيْهِ. وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ. وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ. وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللّهَ فَسَمّتْهُ. وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ. وَإِذَا مَاتَ فَاتّبِعْهُ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "خمس تجب للمسلم على أخيه: رد السلام وتشميت العاطس وإجابة الدعوة وعيادة المريض واتباع الجنائز". وفي الرواية الأخرى: "حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيته فسلم عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك فانصح له، وإذا عطس فحمد الله فشمته، وإذا مرض فعده، وإذا مات فاتبعه". وقد سبق شرح هذا الحديث مستوفى في كتاب اللباس وذكرنا هناك أن التشميت بالشين المعجمة والمهملة وبيان اشتقاقه، وأما رد السلام وابتداؤه فقد سبقا في الباب الماضي. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا استنصحك" فمعناه طلب منك النصيحة فعليك أن تنصحه ولا تداهنه ولا تغشه ولا تمسك عن بيان النصيحة والله أعلم.
*2* باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ. قَالَ: سَمِعْتُ أَنَساً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ. حَدّثَنَا هُشَيْمٌ. أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ جَدّهِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا سَلّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ".
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ. حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ. حَدّثَنَا خَالِدٌ (يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ). قَالاَ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لَهُمَا) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ. قَالَ: سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدّثُ عَنْ أَنَسٍ أَنّ أَصْحَابَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالُوا لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم: إِنّ أَهْلَ الْكِتَابِ يُسَلّمُونَ عَلَيْنَا. فَكَيْفَ نَرُدّ عَلَيْهِمْ؟ قَالَ "قُولُوا: وَعَلَيْكُمْ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ حُجْرٍ وَاللّفْظُ لِيَحْيَى بْنِ يَحْيَىَ (قَالَ يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرُونَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (وَهُوَ ابْنُ جَعْفَرٍ) عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ أَنّهُ سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنّ الْيَهُودَ إِذَا سَلّمُوا عَلَيْكُمْ، يَقُولُ أَحَدُهُمْ: السّامُ عَلَيْكُمْ. فَقُلْ: عَلَيْكَ".
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ "فَقُولُوا: وَعَلَيكَ".
وحدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ (وَاللّفْظُ لِزُهَيْرٍ). قَالاَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتِ: اسْتأْذنَ رَهْطٌ مِنَ الْيَهُودِ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا: السّامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السّامُ وَاللّعْنَةُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "يَا عَائِشَةُ إِنّ اللّهَ يُحِبّ الرّفْقَ فِي الأَمْرِ كُلّهِ" قَالَتْ: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ "قَدْ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ".
حدّثناه حَسَنُ بْنُ عَلِيَ الْحُلْوَانِيّ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. جَمِيعاً عَنْ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. كِلاَهُمَا عَنِ الزّهْرِيّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَفِي حَدِيثِهِمَا جَمِيعاً: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قُلْتُ: عَلَيْكُمْ" وَلَمْ يَذْكُرُوا الْوَاوَ.
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: أَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أُنَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ. فَقَالُوا: السّامُ عَلَيْكَ. يَا أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ "وَعَلَيْكُمْ" قَالَتْ عَائِشَةُ: قُلْتُ: بَلْ عَلَيْكُمُ السّامُ وَالذّامُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "يَا عَائِشَةُ لاَ تَكُونِي فَاحِشَةً" فَقَالَتْ: مَا سَمِعْتَ مَا قَالُوا؟ فَقَالَ "أَوَ لَيْسَ قَدْ رَدَدْتُ عَلَيْهِمُ الّذِي قَالُوا؟ قُلْتُ: وَعَلَيْكُمْ".
حدّثناه إِسْحَقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: فَفَطِنَتْ بِهِمْ عَائِشَةُ فَسَبّتْهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "مَهْ. يَا عَائِشَةُ فَإِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ الْفُحْشَ وَالتّفَحّشَ". وَزَادَ: فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {وَإِذَا جَاؤوكَ حَيّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ اللّهُ} (المجادلة 8) إلَىَ آخِرِ الاَيَة.
حدّثني هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَ حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ. قَالاَ: حَدّثَنَا حَجّاجُ بْنُ مُحَمّدٍ. قَالَ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ: سَلّمَ نَاسٌ مِنْ يَهُودَ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: السّامُ عَلَيْكَ. يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَقَالَ: "وَعَلَيْكُمْ" فَقَالَتْ عَائِشَةُ، وَغَضِبَتْ: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: "بَلَىَ. قَدْ سَمِعْتُ. فَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ. وَإِنّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ وَلاَ يُجَابُونَ عَلَيْنَا".
حَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ (يَعْنِي الدّرَاوَرْدِيّ) عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لاَ تَبْدَؤُا الْيَهُودَ وَلاَ النّصَارَىَ بِالسّلاَمِ. فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرّوهُ إِلَىَ أَضْيَقِهِ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ. حوَحَدّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ. كُلّهُمْ عَنْ سُهَيْلٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَفِي حَدِيثِ وَكِيعٍ "إِذَا لَقِيتُمُ الْيَهُودَ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ: فِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَفِي حَدِيثِ جَرِيرٍ "إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ" وَلَمْ يُسَمّ أَحَداً مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا سلم أهل الكتاب فقولوا وعليكم". وفي رواية: (إن أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم؟ قال: قولوا وعليكم).
وفي رواية: (أن اليهود إذا سلموا عليكم يقول أحدهم السام عليكم فقل عليك) وفي رواية: (فقل وعليك).
وفي رواية: (إن رهطاً من اليهود استأذنوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم فقالت عائشة بل عليكم السام واللعنة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله قالت: ألم تسمع ما قالوا قال: قد قلت وعليكم) وفي رواية: (قد قلت عليكم) بحذف الواو.
وفي الحديث الاَخر: (لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه) اتفق العلماء على الرد على أهل الكتاب إذا سلموا، لكن لا يقال لهم وعليكم السلام بل يقال عليكم فقط أو وعليكم، وقد جاءت الأحاديث التي ذكرها مسلم عليكم وعليكم بإثبات الواو وحذفها وأكثر الروايات بإثباتها، وعلى هذا في معناه وجهان: أحدهما أنه على ظاهره فقالوا عليكم الموت فقال وعليكم أيضاً أي نحن وأنتم فيه سواء وكلنا نموت. والثاني أن الواو هنا للاستئناف لا للعطف والتشريك وتقديره وعليكم ما تستحقونه من الذم، وأما من حذف الواو فتقديره بل عليكم السام. قال القاضي: اختار بعض العلماء منهم ابن حبيب المالكي حذف الواو لئلا يقتضي التشريك، وقال غيره بإثباتها كما هو في أكثر الروايات، قال: وقال بعضهم يقول عليكم السلام بكسر السين أي الحجارة وهذا ضعيف. وقال الخطابي: عامة المحدثين يروون هذا الحرف وعليكم بالواو وكان ابن عيينة يرويه بغير واو. قال الخطابي: وهذا هو الصواب لأنه إذا حذف الواو صار كلامهم بعينه مردوداً عليهم خاصة، وإذا ثبت الواو اقتضى المشاركة معهم فيما قالوه هذا كلام الخطابي، والصواب أن إثبات الواو وحذفها جائزان كما صحت به الروايات وأن الواو أجود كما هو في أكثر الروايات ولا مفسدة فيه لأن السام الموت وهو علينا وعليهم ولا ضرر في قوله بالواو. واختلف العلماء في رد السلام على الكفار وابتدائهم به، فمذهبنا تحريم ابتدائهم به ووجوب رده عليهم بأن يقول وعليكم أو عليكم فقط، ودليلنا في الابتداء قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام" وفي الرد قوله صلى الله عليه وسلم: "فقولوا وعليكم" وبهذا الذي ذكرناه عن مذهبنا قال أكثر العلماء وعامة السلف، وذهبت طائفة إلى جواز ابتدائنا لهم بالسلام، روي ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة وابن أبي محيريز وهو وجه لبعض أصحابنا، حكاه الماوردي لكنه قال: يقول السلام عليك ولا يقول عليكم بالجمع، واحتج هؤلاء بعموم الأحاديث وبإفشاء السلام وهي حجة باطلة لأنه عام مخصوص بحديث "لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام". وقال بعض أصحابنا: يكره ابتداؤهم بالسلام ولا يحرم وهذا ضعيف أيضاً لأن النهي للتحريم فالصواب تحريم ابتدائهم. وحكى القاضي عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم به للضرورة والحاجة أو سبب وهو قول علقمة والنخعي. وعن الأوزاعي أنه قال: إن سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون. وقالت طائفة من العلماء: لا يرد عليهم السلام ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك، وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يقول في الرد عليهم وعليكم السلام ولكن لا يقول ورحمة الله حكاه الماوردي وهو ضعيف مخالف للأحاديث والله أعلم. ويجوز الابتداء بالسلام على جمع فيهم مسلمون وكفار أو مسلم وكفار، ويقصد المسلمين للحديث السابق أنه صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين. قوله صلى الله عليه وسلم: "يا عائشة إن الله يحب الرفق في الأمر كله" هذا من عظيم خلقه صلى الله عليه وسلم وكمال حلمه، وفيه حث على الرفق والصبر والحلم وملاطفة الناس ما لم تدع حاجة إلى المخاشنة. قولها: (عليكم السام والذام) هو بالذال المعجمة وتخفيف الميم وهو الذم ويقال بالهمز أيضاً والأشهر ترك الهمز وألفه منقلبة عن واو، والذام والذيم والذم بمعنى العيب، وروي الدام بالدال المهملة ومعناه الدائم، وممن ذكر أنه روي بالمهملة ابن الأثير، ونقل القاضي الاتفاق على أنه بالمعجمة قال: ولو روي بالمهملة لكان له وجه والله أعلم. قوله: (ففطنت بهم عائشة فسبتهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مه يا عائشة فإن الله لا يحب الفحش والتفحش) مه كلمة زجر عن الشيء، وقوله ففطنت هو بالفاء وبالنون بعد الطاء من الفطنة هكذا هو في جميع النسخ وكذا نقله القاضي عن الجمهور، قال: ورواه بعضهم فقطبت بالقاف وتشديد الطاء وبالباء الموحدة وقد تخفف الطاء في هذا اللفظ وهو بمعنى قوله في الرواية الأخرى غضبت ولكن الصحيح الأول، وأما سبها لهم ففيه الانتصار من الظالم، وفيه الانتصار لأهل الفضل ممن يؤذيهم، وأما الفحش فهو القبيح من القول والفعل، وقيل الفحش مجاوزة الحد، وفي هذا الحديث استحباب تغافل أهل الفضل عن سفه المبطلين إذا لم تترتب عليه مفسدة. قال الشافعي رحمه الله: الكيس العاقل هو الفطن المتغافل. قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه" قال أصحابنا: لا يترك للذمي صدر الطريق بل يضطر إلى أضيقه إذا كان المسلمون يطرقون، فإن خلت الطريق عن الزحمة فلا حرج، قالوا: وليكن التضييق بحيث لا يقع في وهدة ولا يصدمه جدار ونحوه والله أعلم.
*2* باب استحباب السلام على الصبيان
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ سَيّارٍ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَرّ عَلَىَ غِلْمَانٍ فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ.
وحدّثنيهِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ سَالِمٍ. أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ. أَخْبَرَنَا سَيّارٌ، بِهَذَا الإِسْنَادِ.
وحدّثني عَمْرُو بْنُ عَلِيَ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْوَلِيدِ. قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَيّارٍ. قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ. فَمَرّ بِصِبْيَانٍ فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ. وَحَدّثَ ثَابِتٌ أَنّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ أَنَسٍ. فَمَرّ بِصِبْيَانٍ فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ. وَحَدّثَ أَنَسٌ أَنّهُ كَانَ يَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَمَرّ بِصِبْيَانٍ فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ.
قوله: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على غلمان فسلم عليهم). وفي رواية: (مر بصبيان فسلم عليهم) الغلمان هم الصبيان بكسر الصاد على المشهور وبضمها، ففيه استحباب السلام على الصبيان المميزين والندب إلى التواضع وبذل السلام للناس كلهم، وبيان تواضعه صلى الله عليه وسلم وكمال شفقته على العالمين. واتفق العلماء على استحباب السلام على الصبيان، ولو سلم على رجال وصبيان فرد السلام صبي منهم هل يسقط فرض الرد عن الرجال؟ ففيه وجهان لأصحابنا أصحهما يسقط. ومثله الخلاف في صلاة الجنازة هل يسقط فرضها بصلاة الصبي؟ الأصح سقوطه ونص عليه الشافعي، ولو سلم الصبي على رجل لزم الرجل رد السلام هذا هو الصواب الذي أطبق عليه الجمهور، وقال بعض أصحابنا لا يجب وهو ضعيف أو غلط. وأما النساء فإن كن جميعاً سلم عليهن، وإن كانت واحدة سلم عليها النساء وزوجها وسيدها ومحرمها سواء كانت جميلة أو غيرها. وأما الأجنبي فإن كانت عجوزاً لا تشتهى استحب له السلام عليها واستحب لها السلام عليه، ومن سلم منهما لزم الاَخر رد السلام عليه، وإن كانت شابة أو عجوزاً تشتهى لم يسلم عليها الأجنبي ولم تسلم عليه، ومن سلم منهما لم يستحق جواباً ويكره رد جوابه هذا مذهبنا ومذهب الجمهور. وقال: ربيعة لا يسلم الرجال على النساء ولا النساء على الرجال وهذا غلط. وقال الكوفيون: لا يسلم الرجال على النساء إذا لم يكن فيهن محرم والله أعلم.
*2* باب جواز جعل الإذن رفع حجاب، أو نحوه من العلامات
*حَدّثَنَا أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيّ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. كِلاَهُمَا عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ (وَاللّفْظُ لِقُتَيْبَةَ). حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ. حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ. حَدّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ. قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ. قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ: قَالَ لِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذْنُكَ عَلَيّ أَنْ يُرْفَعَ الْحِجَابُ، وَأَنْ تَسْتَمِعَ سِوَادِي، حَتّىَ أَنْهَاكَ".
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ إِدْرِيسَ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.
قوله: (عن ابن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: آذنك على أن ترفع الحجاب وأن تسمع سوادي حتى أنهاك) السواد بكسر السين المهملة وبالدال واتفق العلماء على أن المراد به السرار بكسر السين وبالراء المكررة وهو السر والمسارر، يقال: ساودت الرجل مساودة إذا ساررته، قالوا: وهو مأخوذ من إدناء سوادك من سواده عند المساررة أي شخصك من شخصه، والسواد اسم لكل شخص، وفيه دليل لجواز اعتماد العلامة في الأذن في الدخول، فإذا جعل الأمير والقاضي ونحوهما وغيرهم رفع الستر الذي على بابه علامة في الأذن في الدخول عليه للناس عامة أو لطائفة خاصة أو لشخص أو جعل علامة غير ذلك جاز اعتمادها والدخول إذا وجدت بغير استئذان، وكذا إذا جعل الرجل ذلك علامة بينه وبين خدمه ومماليكه وكبار أولاده وأهله فمتى أرخى حجابه فلا دخول عليه إلا باستئذان فإذا رفعه جاز بلا استئذان والله أعلم.
*2* باب إباحة الخروج للنساء لقضاء حاجة الإنسان
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: خَرَجَتْ سَوْدَةُ، بَعْدَ مَا ضُرِبَ عَلَيْهَا الْحِجَابُ، لِتَقْضِيَ حَاجَتَهَا. وَكَانَتِ امْرَأَةً جَسِيمَةً تَفْرَعُ النّسَاءَ جِسْماً. لاَ تَخْفَىَ عَلَىَ مَنْ يَعْرِفُهَا. فَرَآهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ. فَقَالَ: يَا سَوْدَةُ وَاللّهِ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا. فَانْظُرِي كَيْفَ تَخْرُجِينَ. قَالَتْ: فَانْكَفَأَتْ رَاجِعَةً وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَيْتِي. وَإِنّهُ لَيَتَعَشّىَ وَفِي يَدِهِ عَرْقٌ. فَدَخَلَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي خَرَجْتُ. فَقَالَ لِي عُمَرُ: كَذَا وَكَذَا. قَالَتْ: فَأُوحِيَ إِلَيْهِ. ثُمّ رُفِعَ عَنْهُ وَإِنّ الْعَرْقَ فِي يَدِهِ مَا وَضَعَهُ. فَقَالَ: "إِنّهُ قَدْ أُذِنَ لَكُنّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَاجَتِكُنّ".
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: يَفْرَعُ النّسَاءَ جِسْمُهَا. زَادَ أَبُو بَكْرٍ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ هِشَامٌ: يَعْنِي الْبَرَازَ.
وحدّثناه أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الإِسْنَاد، وَقَالَ: وَكَانَتِ امْرَأَة يَفْرَعُ النّاسَ جِسْمُهَا. قَالَ: وَإِنّهُ لَيَتَعَشّىَ.
وحدّثنيهِ سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ.
حدّثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللّيْثِ. حَدّثَنِي أَبِي عَنْ جَدّي. حَدّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ أَزْوَاجَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كُنّ يَخْرُجْنَ بِاللّيْلِ، إِذَا تَبَرّزْنَ، إِلَى الْمَنَاصِعِ. وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ. وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ يَقُولُ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: احْجُبْ نِسَاءَكَ. فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَفْعَلُ. فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ، زَوْجُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ اللّيَالِي، عِشَاءً. وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً. فَنَادَاهَا عُمَرُ: أَلاَ قَدْ عَرَفْنَاكِ. يَا سَوْدَةُ حِرْصاً عَلَىَ أَنْ يُنْزِلَ الْحِجَابَ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ الْحِجَابِ.
حدّثنا عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنْ ابْنِ شِهَابٍ ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ.
قوله: (وكانت امرأة جسيمة تفرع النساء جسماً لا تخفى على من يعرفها) فقوله جسيمة أي عظيمة الجسم. وقوله: (تفرع) هو بفتح التاء وإسكان الفاء وفتح الراء وبالعين المهملة أي تطولهن فتكون أطول منهن والفارع المرتفع العالي. وقوله: (لا تخفى على من يعرفها) يعني لا تخفى إذا كانت متلففة في ثيابها ومرطها في ظلمة الليل ونحوها على من قد سبقت له معرفة طولها لانفرادها بذلك. قولها: (وأنه ليتعشى وفي يده عرق) هو بفتح العين وإسكان الراء وهو العظم الذي عليه بقية لحم هذا هو المشهور، وقيل هو القذرة من اللحم وهو شاذ ضعيف. قوله: (قال هشام يعني البراز) هكذا المشهور في الرواية البراز بفتح الباء وهو الموضع الواسع البارز الظاهر، وقد قال الجوهري في الصحاح البراز بكسر الباء هو الغائط وهذا أشبه أن يكون هو المراد هنا، فإن مراد هشام بقوله يعني البراز تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: (قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن) فقال هشام: المراد بحاجتهن الخروج للغائط لا لكل حاجة من أمور المعايش والله أعلم. قوله: (كن يخرجن إذا تبرزن إلى المناصع) وهو صعيد أفيح، معنى تبرزن أردن الخروج لقضاء الحاجة، والمناصع بفتح الميم وبالصاد المهملة المكسورة وهو جمع منصع وهذه المناصع مواضع قال الأزهري: أراها مواضع خارج المدينة وهو مقتضى قوله في الحديث وهو صعيد أفيح أي أرض متسعة والأفيح بالفاء المكان الواسع، وفي هذا الحديث منقبة ظاهرة لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفيه تنبيه أهل الفضل والكبار على مصالحهم ونصيحتهم وتكرار ذلك عليهم، وفيه جواز تعرق العظم وجواز خروج المرأة من بيت زوجها لقضاء حاجة الإنسان إلى الموضع المعتاد لذلك بغير استئذان الزوج لأنه مما أذن فيه الشرع. قال القاضي عياض: فرض الحجاب مما اختص به أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا غيرها، ولا يجوز لهن إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز، قال الله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب} وقد كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب وإذا خرجن حجبن وسترن أشخاصهن كما جاء في حديث حفصة يوم وفاة عمر ولما توفيت زينب رضي الله عنها جعلوا لها قبة فوق نعشها تستر شخصها، هذا آخر كلام القاضي.
*2* باب تحريم الخلوة بالأجنبية والدخول عليها
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ وَ عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ (قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ ابْنُ حُجْرٍ: حَدّثَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الصّبّاحِ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا هُشَيْمٌ. أَخْبَرَنَا أَبُو الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ لاَ يَبِيتَنّ رَجُلٌ عِنْدَ امْرَأَةٍ ثَيّبٍ. إِلاّ أَنْ يَكُونَ نَاكِحاً أَوْ ذَا مَحْرَمٍ".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ رُمْحٍ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِيّاكُمْ وَالدّخُولَ عَلَىَ النّسَاءِ" فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَرَأَيْتَ الْحَمْوَ؟ قَالَ: "الْحَمْوُ الْمَوْتُ".
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ وَ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وَ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ وَغَيْرِهِمْ، أَنّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ حَدّثَهُمْ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. قَالَ: وَسَمِعْتُ اللّيْثَ بْنَ سَعْدٍ يَقُولُ: الْحَمْوُ أَخُ الزّوْجِ. وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ أَقَارِبِ الزّوْجِ. ابْنِ الْعَمّ وَنَحْوِهِ.
حدّثنا هَرُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي عَمْرٌو. ح وَحَدّثَنِي أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ أَنّ بَكْرَ بْنَ سَوَادَةَ حَدّثَهُ أَنّ عَبْدَ الرّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرٍ حَدّثَهُ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ حَدّثَهُ أَنّ نَفَراً مِنْ بَنِي هَاشِمٍ دَخَلُوا عَلَىَ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ. فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، وَهِيَ تَحْتَهُ يَوْمَئِذٍ، فَرَآهُمْ. فَكَرِهَ ذَلِكَ. فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: لَمْ أَرَ إِلاّ خَيْراً. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ اللّهَ قَدْ بَرّأَهَا مِنْ ذَلِكَ". ثُمّ قَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ الْمِنْبَرِ فَقَالَ: "لاَ يَدْخُلَنّ رَجُلٌ، بَعْدَ يَوْمِي هَذَا، عَلَىَ مُغِيبَةٍ، إِلاّ وَمَعَهُ رَجُلٌ أَوِ اثْنَانِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبيتن رجل عند امرأة إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم" هكذا هو في نسخ بلادنا إلا أن يكون بالياء المثناة من تحت أي يكون الداخل زوجاً أو ذا محرم. وذكره القاضي فقال: إلا أن تكون ناكحاً أو ذات محرم بالتاء المثناة فوق وقال ذات بدل ذا، قال: والمراد بالناكح المرأة المزوجة وزوجها حاضر فيكون مبيت الغريب في بيتها بحضرة زوجها، وهذه الرواية التي اقتصر عليها والتفسير غريبان مردودان، والصواب الرواية الأولى التي ذكرتها عن نسخ بلادنا ومعناه: لا يبيتن رجل عند امرأة إلا زوجها أو محرم لها. قال العلماء: إنما خص الثيب لكونها التي يدخل إليها غالباً. وأما البكر فمصونة متصونة في العادة مجانبة للرجال أشد مجانبة فلم يحتج إلى ذكرها ولأنه من من باب التنبيه، لأنه إذا نهى عن الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها في العادة فالبكر أولى. وفي هذا الحديث والأحاديث بعده تحريم الخلوة بالأجنبية وإباحة الخلوة بمحارمها وهذان الأمران مجمع عليهما، وقد قدمنا أن المحرم هو كل من حرم عليه نكاحها على التأبيد لسبب مباح لحرمتها، فقولنا على التأبيد احتراز من أخت امرأته وعمتها وخالتها ونحوهن ومن بنتها قبل الدخول بالأم، وقولنا لسبب مباح احتراز من أم الموطوءة بشبهة وبنتها فإنه حرام على التأبيد لكن لا لسبب مباح، فإن وطء الشبهة لا يوصف بأنه مباح ولا محرم ولا بغيرهما من أحكام الشرع الخمسة لأنه ليس فعل مكلف، وقولنا لحرمتها احتراز من الملاعنة فهي حرام على التأبيد لا لحرمتها بل تغليظاً عليهما والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "الحمو الموت" قال الليث بن سعد: الحمو أخو الزوج وما أشبهه من أقارب الزوج ابن العم ونحوه. اتفق أهل اللغة على أن الأحماء أقارب زوج المرأة كأبيه وعمه وأخيه وابن أخيه وابن عمه ونحوهم، والأختان أقارب زوجة الرجل والأصهار يقع على النوعين. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الحمو الموت" فمعناه أن الخوف منه أكثر من غيره والشر يتوقع منه والفتنة أكثر لتمكنه من الوصول إلى المرأة والخلوة من غير أن ينكر عليه بخلاف الأجنبي، والمراد بالحمو هنا أقارب الزوج غير آبائه وأبنائه، فأما الاَباء والأبناء فمحارم لزوجته تجوز لهم الخلوة بها ولا يوصفون بالموت وإنما المراد الأخ وابن الأخ والعم وابنه ونحوهم ممن ليس بمحرم وعادة الناس المساهلة فيه ويخلو بامرأة أخيه فهذا هو الموت وهو أولى بالمنع من الأجنبي لما ذكرناه، فهذا الذي ذكرته هو صواب معنى الحديث. وأما ما ذكره المازري وحكاه أن المراد بالحمو أبو الزوج وقال إذا نهى عن أبي الزوج وهو محرم فكيف بالغريب؟ فهذا كلام فاسد مردود ولا يجوز حمل الحديث عليه، فكذا ما نقله القاضي عن أبي عبيد أن معنى الحمو الموت فليمت ولا يفعل هذا هو أيضاً كلام فاسد بل الصواب ما قدمناه. وقال ابن الأعرابي: هي كلمة تقولها العرب كما يقال الأسد الموت أي لقاؤه مثل الموت. وقال القاضي: معناه الخلوة بالأحماء مؤدية إلى الفتنة والهلاك في الدين فجعله كهلاك الموت فورد الكلام مورد التغليظ. قال: وفي الحم أربع لغات إحداها هذا حمؤك بضم الميم في الرفع، ورأيت حماك ومررت بحميك. والثانية: هذا حموك بإسكان الميم وهمزة مرفوعة ورأيت حمأك ومررت بحمئك. والثالثة: حما هذا حماك ورأيت حماك ومررت بحماك كقفا وقفاك. والرابعة: حم كأب وأصله حمو بفتح الحاء والميم وحماة المرأة أم زوجها لا يقال فيها غير هذا.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخلن رجل بعد يومي هذا على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان" المغيبة بضم الميم وكسر الغين المعجمة وإسكان الياء وهي التي غاب عنها زوجها، والمراد غاب زوجها عن منزلها سواء غاب عن البلد بأن سافر أو غاب عن المنزل وإن كان في البلد، هكذا ذكره القاضي وغيره وهذا ظاهر متعين. قال القاضي: ودليله هذا الحديث، وأن القصة التي قيل الحديث بسببها وأبو بكر رضي الله عنه غائب عن منزله لا عن البلد والله أعلم. ثم إن ظاهر هذا الحديث جواز خلوة الرجلين أو الثلاثة بالأجنبية والمشهور عند أصحابنا تحريمه فيتأول الحديث على جماعة يبعد وقوع المواطأة منهم على الفاحشة لصلاحهم أو مروءتهم أو غير ذلك، وقد أشار القاضي إلى نحو هذا التأويل.
*2* باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خالياً بامرأة، وكانت زوجة أو محرماً له، أن يقول: هذه فلانة. ليدفع ظن السوء به
*حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ مَعَ إِحْدَىَ نِسَائِهِ. فَمَرّ بِهِ رَجُلٌ فَدَعَاهُ. فَجَاءَ. فَقَالَ: "يَا فُلاَنُ هَذِهِ زَوْجَتِي فُلاَنَةُ". فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ كُنْتُ أَظُنّ بِهِ، فَلَمْ أَكُنْ أَظُنّ بِكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الشّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدّمِ".
وحدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (وَتَقَارَبَا فِي اللّفْظِ) قَالاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عَلِيّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ صَفِيّةَ بِنْتِ حُيَيَ . قَالَتْ: كَانَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم مُعْتَكِفاً. فَأَتَيْتُهُ أَزُورُهُ لَيْلاً. فَحَدّثْتُهُ. ثُمّ قُمْتُ لأَنْقَلِبَ. فَقَامَ مَعِيَ لِيَقْلِبَنِي. وَكَانَ مَسْكَنُهَا فِي دَارِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. فَمَرّ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ. فَلَمّا رَأَيَا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَسْرَعَا. فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "عَلَىَ رِسْلِكُمَا. إِنّهَا صَفِيّةُ بِنْتُ حُيَيَ" فَقَالاَ: سُبْحَانَ اللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "إِنّ الشّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَىَ الدّمِ. وَإِنّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَرّاً" أَوْ قَالَ "شَيْئاً".
وحدّثنيهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ. أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزّهْرِيّ. أَخْبَرَنَا عَلِيّ بْنُ حُسَيْنٍ، أَنّ صَفِيّةَ زَوْجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَتْهُ أَنّهَا جَاءَتْ إِلَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم تَزُورُهُ، فِي اعْتِكَافِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ. فَتَحَدّثَتْ عِنْدَهُ سَاعَةً. ثُمّ قَامَتْ تَنْقَلِبُ. وَقَامَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقْلِبُهَا. ثُمّ ذَكَرَ بِمَعْنَىَ حَدِيثِ مَعْمَرٍ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ الشّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدّمِ" وَلَمْ يَقُلْ "يَجْرِي".
قوله: (في حديث صفية رضي الله عنها وزيارتها للنبي صلى الله عليه وسلم في اعتكافه عشاء فرأى الرجلين فقال: إنها صفية فقالا سبحان الله فقال إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم) الحديث فيه فوائد منها بيان كمال شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته ومراعاته لمصالحهم وصيانة قلوبهم وجوارحهم وكان بالمؤمنين رحيماً فخاف صلى الله عليه وسلم أن يلقي الشيطان في قلوبهما فيهلكا، فإن ظن السوء بالأنبياء كفر بالإجماع والكبائر غير جائزة عليهم، وفيه أن من ظن شيئاً من نحو هذا بالنبي صلى الله عليه وسلم كفر، وفيه جواز زيارة المرأة لزوجها المعتكف في ليل أو نهار وأنه لا يضر اعتكافه لكن يكره الإكثار من مجالستها والاستلذاذ بحديثها لئلا يكون ذريعة إلى الوقاع أو إلى القبلة أو نحوها مما يفسد الاعتكاف، وفيه استحباب التحرز من التعرض لسوء ظن الناس في الإنسان وطلب السلامة والاعتذار بالأعذار الصحيحة، وأنه متى فعل ما قد ينكر ظاهره مما هو حق وقد يخفى أن يبين حاله ليدفع ظن السوء، وفيه الاستعداد للتحفظ من مكايد الشيطان فإنه يجري من الإنسان مجرى الدم فيتأهب الإنسان للاحتراز من وساوسه وشره والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم" قال القاضي وغيره: قيل هو على ظاهره وأن الله تعالى جعل له قوة وقدرة على الجري في باطن الإنسان مجاري دمه، وقيل هو على الاستعارة لكثرة إغوائه ووسوسته فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه، وقيل يلقى وسوسته في مسام لطيفة من البدن فتصل الوسوسة إلى القلب والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "يا فلان هذه زوجتي فلانة" هكذا هو في جميع النسخ بالتاء قبل الياء وهي لغة صحيحة وإن كان الأشهر حذفها وبالحذف جاءت آيات القرآن والإثبات كثير أيضاً. قولها: (فقام معي ليقلبني) هو بفتح الياء أي ليردني إلى منزلي فيه جواز تمشي المعتكف معها ما لم يخرج من المسجد، وليس في الحديث أنه خرج من المسجد. قوله صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما" هو بكسر الراء وفتحها لغتان والكسر أفصح وأشهر أي على هينتكما في المشي فما هنا شيء تكرهانه. قوله: (فقال سبحان الله) فيه جواز التسبيح تعظيماً للشيء وتعجباً منه وقد كثر في الأحاديث وجاء به القرآن في قوله تعالى: {لولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك}.
*2* باب من أتى مجلساً فوجد فرجة فجلس فيها، وإلا وراءهم
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ أَنّ أَبَا مُرّةَ، مَوْلَىَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللّيْثِيّ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنّاسُ مَعَهُ. إِذْ أَقْبَلَ نَفَرٌ ثَلاَثَةٌ. فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَذَهَبَ وَاحِدٌ. قَالَ فَوَقَفَا عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَمّا أَحَدُهُمَا فَرَأَىَ فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا. وَأَمّا الاَخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ. وَأَمّا الثّالَثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِباً. فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النّفَرِ الثّلاَثَةِ؟ أَمّا أَحَدُهُمْ فَأَوَىَ إِلَىَ اللّهِ، فَآوَاهُ اللّهُ. وَأَمّا الاَخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللّهُ مِنْهُ. وَأَمّا الاَخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللّهُ عَنْهُ".
وحدّثنا أَحْمَدُ بْنُ الْمُنْذِرِ. حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ. حَدّثَنَا حَرْبٌ (وَهُوَ ابْنُ شَدّادٍ). ح وَحَدّثَنِي إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ. أَخْبَرَنَا حَبّانُ. حَدّثَنَا أَبَانٌ. قَالاَ جَمِيعاً: حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنّ إِسْحَقَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ حَدّثَهُ فِي هَذَا الاْسْنَادِ. بِمِثْلِهِ. فِي الْمَعْنَىَ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر فأقبل اثنان" إلى آخره، فيه استحباب جلوس العالم لأصحابه وغيرهم في موضع بارز ظاهر للناس والمسجد أفضل فيذاكرهم العلم والخير، وفيه جواز حلق العلم والذكر في المسجد واستحباب دخولها ومجالسة أهلها وكراهة الانصراف عنها من غير عذر واستحباب القرب من كبير الحلقة ليسمع كلامه سماعاً بيناً ويتأدب بأدبه وأن قاصد الحلقة إن رأى فرجة دخل فيها وإلا جلس وراءهم، وفيه الثناء على من فعل جميلاً فإنه صلى الله عليه وسلم أثنى على الاثنين في هذا الحديث، وأن الإنسان إذا فعل قبيحاً ومذموماً وباح به جاز أن ينسب إليه والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "فرأى فرجة في الحلقة فدخل فيها" الفرجة بضم الفاء وفتحها لغتان وهي الخلل بين الشيئين ويقال لها أيضاً فرج ومنه قوله تعالى: {ومالها من فروج} جمع فرج، وأما الفرجة بمعنى الراحة من الغم فذكر الأزهري فيها فتح الفاء وضمها وكسرها، وقد فرج له في الحلقة والصف ونحوهما بتخفيف الراء يفرج بضمها، وأما الحلقة فبإسكان اللام على المشهور وحكى الجوهري فتحها وهي لغة رديئة. قوله صلى الله عليه وسلم: "أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله" لفظة أوى بالقصر وآواه بالمد هكذا الرواية وهذه هي اللغة الفصيحة وبها جاء القرآن أنه إذا كان لازماً كان مقصوراً وإن كان متعدياً كان ممدوداً، قال الله تعالى: {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة} وقال تعالى: {إذ أوى الفتية إلى الكهف} وقال في المتعدي: {وآويناهما إلى ربوة} وقال تعالى: {ألم يجدك يتيماً فآوى} قال القاضي: وحكى بعض أهل اللغة فيهما جميعاً لغتين القصر والمد فيقال أويت إلى الرجل بالقصر والمد وآويته بالمد والقصر والمشهور الفرق كما سبق. قال العلماء: معنى أوى إلى الله أي لجأ إليه. قال القاضي: وعندي أن معناه هنا دخل مجلس ذكر الله تعالى أو دخل مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومجمع أوليائه وانضم إليه، ومعنى آواه الله أي قبله وقربه، وقيل معناه رحمه أو آواه إلى جنته أي كتبها له. قوله صلى الله عليه وسلم: "وأما الاَخر فاستحى فاستحى الله منه" أي ترك المزاحمة والتخطي حياء من الله تعالى ومن النبيّ صلى الله عليه وسلم والحاضرين، أو استحياء منهم أن يعرض ذاهباً كما فعل الثالث فاستحى الله منه أي رحمه ولم يعذبه بل غفر ذنوبه، وقيل جازاه بالثواب. ولم يلحقه بدرجة صاحبه الأول في الفضيلة الذي آواه وبسط له اللطف وقربه. وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه أي لم يرحمه وقيل سخط عليه وهذا محمول على أنه ذهب معرضاً لا لعذر وضرورة. قوله صلى الله عليه وسلم في الثاني وأما الاَخر فاستحى هذا دليل اللغة الفصيحة الصحيحة أنه يجوز في الجماعة أن يقال في غير الأخير منهم الاَخر فيقال حضرني ثلاثة: أما أحدهم فقرشي، وأما الاَخر فأنصاري، وأما الاَخر فتيمي، وقد زعم بعضهم أنه لا يستعمل الاَخر إلا في الاَخر خاصة، وهذا الحديث صريح في الرد عليه والله أعلم.
*2* باب تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه
*وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يُقِيمَنّ أَحَدُكُمُ الرّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ، ثُمّ يَجْلِسُ فِيهِ".
حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ (وَهُوَ الْقَطّانُ). ح وَحَدّثَنَا ابْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ (يعْنِي الثّقَفِيّ). كُلّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ (وَاللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ وَ أَبُو أُسَامَةَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ قَالُوا: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يُقِيمُ الرّجُلُ الرّجُلَ مِنْ مَقْعَدِهِ ثُمّ يَجْلِسُ فِيهِ. وَلَكِنْ تَفَسّحُوا وَتَوَسّعُوا".
وحدّثنا أَبُو الرّبِيعِ وَ أَبُو كَامِلٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا حَمّادٌ. حَدّثَنَا أَيّوبُ. ح وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ. حَدّثَنَا رَوْحٌ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. كِلاَهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ. أَخْبَرَنَا الضّحّاكُ (يَعْنِي ابْنَ عُثْمَانَ). كُلّهُمْ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِ حَدِيثِ اللّيْثِ. وَلَمْ يَذْكُرُوا فِي الْحَدِيثِ "وَلَكِنْ تَفَسّحُوا وَتَوَسّعُوا" وَزَادَ فِي حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ. قُلْتُ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ؟ قَالَ: فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَىَ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يُقِيمَنّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ ثُمّ يَجْلِسُ فِي مَجْلِسِهِ". وكَانَ ابْنُ عُمَرَ، إِذَا قَامَ لَهُ رَجُلٌ عَنْ مَجْلِسِهِ، لَمْ يَجْلِسْ فِيهِ.
وحدّثناه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. بِهَذَا الاْسنَادِ، مِثْلَهُ.
وحدّثنا سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ. حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ. حَدّثَنَا مَعْقِلٌ (وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللّهِ) عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يُقِيمَنّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. ثُمّ لْيُخَالِفْ إِلَىَ مَقْعَدِهِ فَيَقْعُدَ فِيهِ. وَلَكِنْ يَقُولُ: افْسَحُوا".
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقيمن أحدكم الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه" وفي رواية: "ولكن تفسحوا وتوسعوا". وفي رواية: "وكان ابن عمر إذا قام له رجل عن مجلسه لم يجلس فيه". هذا النهي للتحريم فمن سبق إلى موضع مباح في المسجد وغيره يوم الجمعة أو غيره لصلاة أو غيرها فهو أحق به ويحرم على غيره إقامته لهذا الحديث، إلا أن أصحابنا استثنوا منه ما إذا ألف من المسجد موضعاً يفتي فيه أو يقرأ قرآناً أو غيره من العلوم الشرعية فهو أحق به، وإذا حضر لم يكن لغيره أن يقعد فيه، وفي معناه من سبق إلى موضع من الشوارع ومقاعد الأسواق لمعاملة. وأما قوله: (وكان ابن عمر إذا قام له رجل عن مجلسه لم يجلس فيه) فهذا ورع منه، وليس قعوده فيه حراماً إذا قام برضاه لكنه تورع عنه لوجهين: أحدهما أنه ربما استحى منه إنسان فقام له من مجلسه من غير طيب قلبه فسد ابن عمر الباب ليسلم من هذا. والثاني أن الإيثار بالقرب مكروه أو خلاف الأولى فكان ابن عمر يمتنع من ذلك لئلا يرتكب أحد بسببه مكروهاً أو خلاف الأولى بأن يتأخر عن موضعه من الصف الأول ويؤثره به وشبه ذلك، قال أصحابنا: وإنما يحمد الإيثار بحظوظ النفوس وأمور الدنيا دون القرب والله أعلم.
*2* باب إذا قام من مجلسه ثم عاد، فهو أحق به
*وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ. وَقَالَ قُتَيْبَةُ أَيْضاً. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ (يَعْنِي ابْنَ مُحَمّدٍ). كِلاَهُمَا عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا قَامَ أَحَدُكُمْ". وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ "مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمّ رَجَعَ إِلَيْهِ، فَهُوَ أَحَقّ بِهِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به" قال أصحابنا: هذا الحديث فيمن جلس في موضع من المسجد أو غيره لصلاة مثلاً ثم فارقه ليعود بأن فارقه ليتوضأ أو يقضي شغلاً يسيراً ثم يعود لم يبطل اختصاصه بل إذا رجع فهو أحق به في تلك الصلاة، فإن كان قد قعد فيه غيره فله أن يقيمه، وعلى القاعد أن يفارقه لهذا الحديث، هذا هو الصحيح عند أصحابنا، وأنه يجب على من قعد فيه مفارقته إذا رجع الأول، وقال بعض العلماء: هذا مستحب ولا يجب وهو مذهب مالك والصواب الأول، قال أصحابنا: ولا فرق بين أن يقوم منه ويترك فيه سجادة ونحوها أم لا فهذا أحق به في الحالين، قال أصحابنا: وإنما يكون أحق به في تلك الصلاة وحدها دون غيرها والله أعلم.
*2* باب منع المخنث من الدخول على النساء الأجانب
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. كُلّهُمْ عَنْ هِشَامٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ أَيْضاً (وَاللّفْظُ هَذَا). حَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ أَنّ مُخَنّثاً كَانَ عِنْدَهَا وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْبَيْتِ. فَقَالَ لأَخِي أُمّ سَلَمَةَ: يَا عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي أُمَيّةَ إِنْ فَتَحَ الله عَلَيْكُمُ الطّائِفَ غَداً، فَإِنّي أَدُلّكَ عَلَىَ بِنْتِ غَيْلاَنَ. فَإِنّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ. قَالَ فَسَمِعَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لاَ يَدْخُلْ هَؤُلاَءِ عَلَيْكُمْ".
وحدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: كَانَ يَدْخُلُ عَلَىَ أَزْوَاجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم مُخَنّثٌ. فَكَانُوا يَعُدّونَهُ مِنْ غَيْرِ أُولِي الإِرْبَةِ. قَالَ فَدَخَلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَوْماً وَهُوَ عِنْدَ بَعْضِ نِسَائِهِ. وَهُوَ يَنْعَتُ امْرَأَةً. قَالَ: إِذَا أَقْبَلَتْ أَقْبَلَتْ بِأَرْبَعٍ. وَإِذَا أَدْبَرَتْ أَدْبَرَتْ بِثَمَانٍ. فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أَلاَ أَرَىَ هَذَا يَعْرِفُ مَا هَهُنَا. لاَ يَدْخُلَنّ عَلَيْكُن" قَالَتْ فَحَجَبُوهُ.
قولها: (كان يدخل على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولي الأربة فدخل النبي صلى الله عليه وسلم يوماً وهو عند بعض نسائه وهو ينعت امرأة قال إذا أقبلت أقبلت بأربع وإذا أدبرت أدبرت بثمان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أرى هذا يعرف ما ههنا لا يدخل عليكن فحجبوه) قال أهل اللغة: المخنث هو بكسر النون وفتحها وهو الذي يشبه النساء في أخلاقه وكلامه وحركاته، وتارة يكون هذا خلقه من الأصل، وتارة بتكلف وسنوضحهما. قال أبو عبيد وسائر العلماء: معنى قوله تقبل بأربع وتدبر بثمان أي أربع عكن وثمان عكن قالوا ومعناه أن لها أربع عكن تقبل بهن من كل ناحية ثنتان ولكل واحدة طرفان فإذا أدبرت صارت الأطراف ثمانية، قالوا: وإنما ذكر فقال بثمان وكان أصله أن يقول بثمانية فإن المراد الأطراف وهي مذكرة لأنه لم يذكر لفظ المذكر ومتى لم يذكره جاز حذف الهاء كقوله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال" سبقت المسألة هناك واضحة. وأما دخول هذا المخنث أولاً على أمهات المؤمنين فقد بين سببه في هذا الحديث بأنهم كانوا يعتقدونه من غير أولي الإربة وأنه مباح دخوله عليهن، فلما سمع منه هذا الكلام علم أنه من أولي الإربة فمنعه صلى الله عليه وسلم الدخول، ففيه منع المخنث من الدخول على النساء ومنعهن من الظهور عليه وبيان أن له حكم الرجال الفحول الراغبين في النساء في هذا المعنى، وكذا حكم الخصي والمجبوب ذكره والله أعلم. واختلف في اسم هذا المخنث قال القاضي: الأشهر أن اسمه هيت بكسر الهاء ومثناة تحت ساكنة ثم مثناة فوق، قال: وقيل صوابه هنب بالنون والباء الموحدة قاله ابن درستويه وقال: إنما سواه تصحيف، قال: والهنب الأحمق، وقيل ماتع بالمثناة فوق مولى فاختة المخزومية، وجاء هذا في حديث آخر ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم غرب ماتعاً هذا وهيتاً إلى الحمى ذكره الواقدي، وذكر أبو منصور البادردي نحو الحكاية عن مخنث كان بالمدينة يقال له أنه وذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم نفاه إلى حمراء الأسد والمحفوظ أنه هيت. قال العلماء: وإخراجه ونفيه كان لثلاثة معان: أحدها: المعنى المذكور في الحديث أنه كان يظن أنه من غير أولي الإربة وكان منهم ويتكتم بذلك. والثاني: وصفه النساء ومحاسنهن وعوراتهن بحضرة الرجال وقد نهى أن تصف المرأة المرأة لزوجها فكيف إذا وصفها الرجل للرجال. والثالث: أنه ظهر له منه أنه كان يطلع من النساء وأجسامهن وعوراتهن على ما لا يطلع عليه كثير من النساء فكيف الرجال لا سيما على ما جاء في غير مسلم أنه وصفها حتى وصف ما بين رجليها أي فرجها وحواليه والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل هؤلاء عليكم" إشارة إلى جميع المخنثين لما رأى من وصفهم للنساء ومعرفتهم ما يعرفه للرجال منهن. قال العلماء: المخنث ضربان أحدهما من خلق كذلك ولم يتكلف التخلق بأخلاق النساء وزيهن وكلامهن وحركاتهن بل هو خلقة خلقه الله عليها هذا لاذم عليه ولا عتب ولا إثم ولا عقوبة لأنه معذور لا صنع له في ذلك ولهذا لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم أولاً دخوله على النساء ولا خلقه الذي هو عليه حين كان من أصل خلقته وإنما أنكر عليه بعد ذلك معرفته لأوصاف النساء ولم ينكر صفته وكونه مخنثاً. الضرب الثاني من المخنث هو من لم يكن له ذلك خلقة بل يتكلف أخلاق النساء وحركاتهن وهيآتهن وكلامهن ويتزيا بزيهن، فهذا هو المذموم الذي جاء في الأحاديث الصحيحة لعنه وهو بمعنى الحديث الاَخر: (لعن الله المتشبهات من النساء بالرجال والمتشبهين بالنساء من الرجال) وأما الضرب الأول فليس بملعون ولو كان ملعوناً لما أقره أولاً والله أعلم.
*2* باب جواز إرداف المرأة الأجنبية، إذا أعيت، في الطريق
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ، أَبُو كُرَيْبٍ الْهَمْدَانِيّ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ. أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ أَسمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ. قَالَتْ: تَزَوّجَنِي الزّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلاَ مَمْلُوكٍ وَلاَ شَيْءٍ، غَيْرَ فَرَسِهِ. قَالَتْ: فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ. وَأَكْفِيهِ مَؤُنَتَهُ، وَأَسُوسُهُ، وَأَدُقّ النّوَىَ لِنَاضِحِهِ، وَأَعْلِفُهُ، وَأَسْتَقِي الْمَاءَ. وَأَخْرِزُ غَرْبَهُ، وَأَعْجِنُ. وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ. وَكَانَ يَخْبِزُ لِي جَارَاتٌ مِنَ الأَنْصَارِ. وَكُنّ نِسْوَةَ صِدْقٍ. قَالَتْ: وَكُنْتُ أَنْقُلُ النّوَىَ، مِنْ أَرْضِ الزّبَيْرِ الّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَىَ رَأْسِي. وَهِيَ عَلَىَ ثُلُثَيْ فَرْسَخٍ. قَالَتْ: فَجِئْتُ يَوْماً وَالنّوَىَ عَلَىَ رَأْسِي. فَلَقِيتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ. فَدَعَانِي ثُمّ قَالَ: "إخ إخ" لِيَحْمِلَنِي خَلْفَهُ. قَالَتْ: فَاسْتَحْيَيْتُ وَعَرَفْتُ غَيْرَتَكَ. فَقَالَ: وَاللّهِ لَحْمْلُكِ النّوَىَ عَلَىَ رَأْسِكِ أَشَدّ مِنْ رُكُوبِكِ مَعَهُ. قَالَتْ: حَتّىَ أَرْسَلَ إِلَيّ أَبُو بَكْرٍ، بَعْدَ ذَلِكَ، بِخَادِمٍ، فَكَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ. فَكَأَنّمَا أَعْتَقَتْنِي.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْغُبَرِيّ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيّوبَ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنّ أَسْمَاءَ قَالَتْ: كُنْتُ أَخْدُمُ الزّبَيْرَ خِدْمَةَ الْبَيْتِ. وَكَانَ لَهُ فَرَسٌ. وَكُنْتُ أَسُوسُهُ. فَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْخِدْمَةِ شَيْءٌ أَشَدّ عَلَيّ مِنْ سِيَاسَةِ الْفَرَسِ. كُنْتُ أَحْتَشّ لَهُ وَأَقُومُ عَلَيْهِ وَأَسُوسُهُ. قَالَ ثُمّ إِنّهَا أَصَابَتْ خَادِماً. جَاءَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم سَبْيٌ فَأَعْطَاهَا خَادِماً. قَالَتْ: كَفَتْنِي سِيَاسَةَ الْفَرَسِ. فَأَلْقَتْ عَنّي مَؤُنَتَهُ.
فَجَاءَنِي رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أُمّ عَبْدِ اللّهِ إِنّي رَجُلٌ فَقِيرٌ. أَرَدْتُ أَنْ أَبِيعَ فِي ظِلّ دَارِكِ. قَالَتْ: إِنّي إِنْ رَخّصْتُ لَكَ أَبَىَ ذَاكَ الزّبَيْرُ. فَتَعَالَ فَاطْلُبْ إِلَيّ، وَالزّبَيْرُ شَاهِدٌ. فَجَاءَ فَقَالَ: يَا أُمّ عَبْدِ اللّهِ إِنّي رَجُلٌ فَقِيرٌ أَرَدْتُ أَنْ أَبِيِعَ فِي ظِلّ دَارِكِ. فَقَالَتْ: مَا لَكَ بِالْمَدِينَةِ إِلاّ دَارِي؟ فَقَالَ لَهَا الزّبَيْرُ: مَا لَكِ أَنْ تَمْنَعِي رَجُلاً فَقِيراً يَبِيعُ؟ فَكَانَ يَبِيعُ إِلَىَ أَنْ كَسَبَ. فَبِعْتُهُ الْجَارِيَةَ. فَدَخَلَ عَلَيّ الزّبَيْرُ وَثَمَنُهَا فِي حَجْرِي. فَقَالَ: هَبِيهَا لِي. قَالَتْ: إِنّي قَدْ تَصَدّقْتُ بِهَا.
قوله: (عن أسماء أنها كانت تعلف فرس زوجها الزبير وتكفيه مؤنته وتسوسه وتدق النوى لناضحه وتعلفه وتستقي الماء وتعجن) هذا كله من المعروف والمروءات التي أطبق الناس عليها، وهو أن المرأة تخدم زوجها بهذه الأمور المذكورة ونحوها من الخبز والطبخ وغسل الثياب وغير ذلك وكله تبرع من المرأة وإحسان منها إلى زوجها وحسن معاشرة وفعل معروف معه ولا يجب عليها شيء من ذلك، بل لو امتنعت من جميع هذا لم تأثم ويلزمه هو تحصيل هذه الأمور لها، ولا يحل له إلزامها بشيء من هذا وإنما تفعله المرأة تبرعاً وهي عادة جميلة استمر عليها النساء من الزمن الأول إلى الاَن، وإنما الواجب على المرأة شيئان تمكينها زوجها من نفسها وملازمة بيته. قولها: (وأخرز غربه) هو بغين معجمة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم باء موحدة وهو الدلو الكبير. قولها: (وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي أقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهو على ثلثي فرسخ) قال أهل اللغة: يقال أقطعه إذا أعطاه قطيعة وهي قطعة أرض سميت قطيعة لأنها اقتطعها من جملة الأرض. وقوله: (على ثلثي فرسخ) أي من مسكنها بالمدينة، وأما الفرسخ فهو ثلاثة أميال والميل ستة آلاف ذراع والذراع أربع وعشرون أصبعاً معترضة معتدلة والأصبع ست شعيرات معترضات معتدلات، وفي هذا دليل لجواز إقطاع الإمام، فأما الأرض المملوكة لبيت المال فلا يملكها أحد إلا بإقطاع الإمام ثم تارة يقطع رقبتها ويملكها الإنسان يرى فيه مصلحة فيجوز ويملكها كما يملك ما يعطيه من الدراهم والدنانير وغيرها إذا رأى فيه مصلحة، وتارة يقطعه منفعتها فيستحق الانتفاع بها مدة الإقطاع، وأما الموات فيجوز لكل أحد إحياؤه ولا يفتقر إلى إذن الإمام، هذا مذهب مالك والشافعي والجمهور، وقال أبو حنيفة: لا يملك الموات بالإحياء إلا بإذن الإمام، وأما قولها: (وكنت أنقل النوى من أرض الزبير) فأشار القاضي إلى أن معناه أنها تلتقطه من النوى الساقط فيها مما أكله الناس وألقوه، قال: ففيه جواز التقاط المطروحات رغبة عنها كالنوى والسنابل وخرق المزابل وسقاطتها وما يطرحه الناس من رديء المتاع ورديء الخضر وغيرها مما يعرف أنهم تركوه رغبة عنه فكل هذا يحل التقاطه ويملكه الملتقط، وقد لقطه الصالحون وأهل الورع ورأوه من الحلال المحصن وارتضوه لأكلهم ولباسهم. قولها: (فجئت يوماً والنوى على رأسي فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر من أصحابه فدعاني وقال: إخ إخ ليحملني خلفه فاستحييت وعرفت غيرتك) أما لفظة إخ إخ فهي بكسر الهمزة وإسكان الخاء المعجمة وهي كلمة تقال للبعير ليبرك، وفي هذا الحديث جواز الإرداف على الدابة إذا كانت مطيقة، وله نظائر كثيرة في الصحيح سبق بيانها في مواضعها، وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على المؤمنين والمؤمنات ورحمتهم ومواساتهم فيما أمكنه، وفيه جواز إرداف المرأة التي ليست محرماً إذا وجدت في طريق قد أعيت لا سيما مع جماعة رجال صالحين ولا شك في جواز مثل هذا. وقال القاضي عياض: هذا خاص للنبي صلى الله عليه وسلم بخلاف غيره فقد أمرنا بالمباعدة من أنفاس الرجال والنساء وكانت عادته صلى الله عليه وسلم مباعدتهن ليقتدي به أمته، قال: وإنما كانت هذه خصوصية له لكونها بنت أبي بكر وأخت عائشة وامرأة للزبير فكانت كإحدى أهله ونسائه مع ما خص به صلى الله عليه وسلم أنه أملك لإربه، وأما إرداف المحارم فجائز بلا خلاف بكل حال. قولها: (أرسل إلي بخادم) أي جارية تخدمني يقال للذكر والأنثى خادم بلا هاء. قولها في الفقير الذي استأذنها في أن يبيع في ظل دارها: وذكرت الحيلة في استرضاء الزبير، هذا فيه حسن الملاطفة في تحصيل المصالح ومداراة أخلاق الناس في تتميم ذلك والله أعلم.
*2* باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث، بغير رضاه
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كَانَ ثَلاَثَة، فَلاَ يَتَنَاجَىَ اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ (وَهُوَ ابْنُ سَعِيدٍ) كُلّهُمْ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ. ح وَحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ رُمْحٍ عَنِ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو الرّبِيعِ و أَبُو كامِلٍ قَالاَ: حَدّثَنَا حَمّادٌ عَنْ أَيّوبَ، ح وَحَدّثَنَا ابْنُ المُثَنّى. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ. قَالَ: سَمِعْتُ أَيّوبَ بْنَ مُوسَىَ. كُلّ هَولاَءِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمَعْنىَ حَدِيثِ مَالِكٍ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ هَنّادُ بْنُ السّرِيّ قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ مَنْصُورٍ. ح وَحَدّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَاللّفْظُ لِزُهَيْرٍ (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الاَخَرِ. حَتّىَ تَخْتَلِطُوا بِالنّاسِ. مِنْ أَجْلِ أَنْ يَحْزِنَهُ".
وحدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ وَ أَبُو كُرَيْبٍ وَاللّفْظُ لِيَحْيَىَ (قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرُونَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا. فَإِنّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ".
وحدّثناه إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ. كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الاْسْنَادِ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون واحد". وفي رواية: "حتى يختلطوا بالناس من أجل أن يحزنه" قال أهل اللغة: يقال حزنه وأحزنه وقرئ بهما في السبع، والمناجاة المسارة وانتجى القوم وتناجوا أي سار بعضهم بعضاً. وفي هذه الأحاديث النهي عن تناجي اثنين بحضرة ثالث وكذا ثلاثة وأكثر بحضرة واحد وهو نهي تحريم، فيحرم على الجماعة المناجاة دون واحد منهم إلا أن يأذن، ومذهب ابن عمر رضي الله عنه ومالك وأصحابنا وجماهير العلماء أن النهي عام في كل الأزمان وفي الحضر والسفر، وقال بعض العلماء: إنما المنهى عنه المناجاة في السفر دون الحضر لأن السفر مظنة الخوف، وادعى بعضهم أن هذا الحديث منسوخ وإن كان هذا في أول الإسلام فلما فشا الإسلام وأمن الناس سقط النهي وكان المنافقون يفعلون ذلك بحضرة المؤمنين ليحزنوهم، أما إذا كانوا أربعة فتناجى اثنان دون اثنين فلا بأس بالإجماع والله أعلم.
*2* باب الطب والمرض والرقي
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكّيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الدّرَاوَرْدِيّ عَنْ يَزِيدَ (وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُسَامَةَ بْنِ الْهَادِ) عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهَا قَالَتْ: كَانَ إِذَا اشْتَكَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رَقَاهُ جِبْرِيلُ. قَالَ: بِاسْمِ اللّهِ يُبْرِيكَ. وَمِنْ كُلّ دَاءٍ يَشْفِيكَ. وَمِنْ شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ. وَشَرّ كُلّ ذِي عَيْنٍ.
حدّثنا بِشْرُ بْنُ هِلاَلٍ الصّوّافُ. حَدّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ عَنْ أَبِي نَضْرَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ أَنّ جِبْرِيلَ أَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: "نَعَمْ" قَالَ: بِاسْمِ اللّهِ أَرْقِيكَ. مِنْ كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ. مِنْ شَرّ كُلّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ حَاسِدٍ اللّهُ يَشْفِيكَ. بِاسْمِ اللّهِ أَرْقِيكَ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ. قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "الْعَيْنُ حَقّ".
وحدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِميّ وَ حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ وَ أَحْمَدُ بْنُ خِرَاشٍ (قَالَ عَبْدُ اللّهِ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: حَدّثَنَا وُهَيْبٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْعَيْنُ حَقّ، وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا".
قوله: (إن جبرئيل رقى النبي صلى الله عليه وسلم) وذكر الأحاديث بعده في الرقى، وفي الحديث الاَخر (في الذين يدخلون الجنة بغير حساب لا يرقون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون) فقد يظن مخالفاً لهذه الأحاديث ولا مخالفة بل المدح في ترك الرقى المراد بها الرقى التي هي من كلام الكفار والرقى المجهولة والتي بغير العربية وما لا يعرف معناها فهذه مذمومة لاحتمال أن معناها كفر أو قريب منه أو مكروه، وأما الرقي بآيات القرآن وبالأذكار المعروفة فلا نهي فيه بل هو سنة، ومنهم من قال في الجمع بين الحديثين أن المدح في ترك الرقى للأفضلية وبيان التوكل والذي فعل الرقى وأذن فيها لبيان الجواز مع أن تركها أفضل، وبهذا قال ابن عبد البر وحكاه عمن حكاه والمختار الأول، وقد نقلوا الإجماع على جواز الرقي بالاَيات وأذكار الله تعالى، قال المازري: جميع الرقى جائزة إذا كانت بكتاب الله أو بذكره، ومنهي عنها إذا كانت باللغة العجمية أو بما لا يدرى معناه لجواز أن يكون فيه كفر، قال: واختلفوا في رقية أهل الكتاب فجوزها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وكرهها مالك خوفاً أن يكون مما بدلوه، ومن جوزها قال الظاهر أنهم لم يبدلوا الرقي فإنهم لهم غرض في ذلك بخلاف غيرها مما بدلوه، وقد ذكر مسلم بعد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اعرضوا علي رقاكم لا بأس بالرقى ما لم يكن فيها شيء" وأما قوله في الرواية الأخرى: (يا رسول الله إنك نهيت عن الرقى) فأجاب العلماء عنه بأجوبة أحدها كان نهى أولاً ثم نسخ ذلك وأذن فيها وفعلها واستقر الشرع على الإذن. والثاني: أن النهي عن الرقى المجهولة كما سبق. والثالث: أن النهي لقوم كانوا يعتقدون منفعتها وتأثيرها بطبعها كما كانت الجاهلية تزعمه في أشياء كثيرة. أما قوله في الحديث الاَخر: (لا رقية إلا من عين أو حمة) فقال العلماء: لم يرد به حصر الرقية الجائزة فيهما ومنعها فيما عداهما وإنما المراد لا رقية أحق وأولى من رقية العين والحمة لشدة الضرر فيهما. قال القاضي: وجاء في حديث في غير مسلم سئل عن النشرة فأضافها إلى الشيطان، قال: والنشرة معروفة مشهورة عند أهل التعزيم وسميت بذلك لأنها تنشر عن صاحبها أي تخلى عنه، وقال الحسن: هي من السحر، قال القاضي: وهذا محمول على أنها أشياء خارجة عن كتاب الله تعالى وأذكاره وعن المداواة المعروفة التي هي من جنس المباح، وقد اختار بعض المتقدمين هذا فكره حل المعقود عن امرأته. وقد حكى البخاري في صحيحه عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن رجل به طب أي ضرب من الجنون أو يؤخذ عن امرأته أيخلى عنه أو ينشر؟ قال لا بأس به إنما يريدون به الصلاح فلم ينه عما ينفع، وممن أجاز النشرة الطبري وهو الصحيح، قال كثيرون أو الأكثرون: يجوز الاسترقاء للصحيح لما يخاف أن يغشاه من المكروهات والهوام ودليله أحاديث ومنها حديث عائشة في صحيح البخاري: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أوى إلى فراشه تفل في كفه ويقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين ثم يمسح بها وجهه وما بلغت يده من جسده والله أعلم.
قوله: (بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد) هذا تصريح بالرقى بأسماء الله تعالى، وفيه توكيد الرقية والدعاء وتكريره. وقوله: (من شر كل نفس) قيل يحتمل أن المراد بالنفس نفس الاَدمي، وقيل يحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق على العين، ويقال رجل نفوس إذا كان يصيب الناس بعينهف كما قال في الرواية الأخرى: (من شر كل ذي عين) ويكون قوله: (أو عين حاسد) من باب التوكيد بلفظ مختلف أو شكاً من الراوي في لفظه والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "العين حق ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين وإذا استغسلتم فاغسلوا" قال الإمام أبو عبد الله المازري أخذ جماهير العلماء بظاهر هذا الحديث وقالوا العين حق وأنكره طوائف من المبتدعة، والدليل على فساد قولهم أن كل معنى ليس مخالفاً في نفسه ولا يؤدي إلى قلب حقيقة ولا إفساد دليل، فإنه من مجوزات العقول إذا أخبر الشرع بوقوعه وجب اعتقاده ولا يجوز تكذيبه، وهل من فرق بين تكذيبهم بهذا وتكذيبهم بما يخبر به من أمور الاَخرة؟ قال: وقد زعم بعض الطبائعيين المثبتين للعين أن العائن تنبعث من عينه قوة سمية تتصل بالعين فيهلك أو يفسد، قالوا: ولا يمتنع هذا كما لا يمتنع انبعاث قوة سمية من الأفعى والعقرب تتصل باللديغ فيهلك وإن كان غير محسوس لنا فكذا العين، قال المازري: وهذا غير مسلم لأنا بينا في كتب علم الكلام أن لا فاعل إلا الله تعالى، وبينا فساد القول بالطبائع، وبينا أن المحدث لا يفعل في غيره شيئاً وإذا تقرر هذا بطل ما قالوه، ثم تقول: هذا المنبعث من العين إما جوهر وإما عرض، فباطل أن يكون عرضاً لأنه لا يقبل الانتقال، وباطل أن يكون جوهراً لأن الجواهر متجانسة، فليس بعضها بأن يكون مفسداً لبعضها بأولى من عكسه فبطل ما قالوه. قال: وأقرب طريقة قالها من ينتحل الإسلام منهم أن قالوا لا يبعد أن تنبعث جواهر لطيفة غير مرئية من العين فتتصل بالمعين وتتخلل مسام جسمه فيخلق الله سبحانه وتعالى الهلاك عندها كما يخلق الهلاك عند شرب السم عادة أجراها الله تعالى وليست ضرورة ولا طبيعة ألجأ العقل إليها، ومذهب أهل السنة أن العين إنما تفسد وتهلك عند نظر العائن بفعل الله تعالى أجرى الله سبحانه وتعالى العادة أن يخلق الضرر عند مقابلة هذا الشخص لشخص آخر، وهل ثم جواهر خفية أم لا؟ هذا من مجوزات العقول لا يقطع فيه بواحد من الأمرين وإنما يقطع بنفي الفعل عنها وبإضافته إلى الله تعالى، فمن قطع من أطباء الإسلام بانبعاث الجواهر فقد أخطأ في قطعه وإنما هو من الجائزات، هذا ما يتعلق بعلم الأصول.أما ما يتعلق بعلم الفقه فإن الشرع ورد بالوضوء لهذا الأمر في حديث سهل بن حنيف لما أصيب بالعين عند اغتساله "فأمر النبي صلى الله عليه وسلم عائنه أن يتوضأ" رواه مالك في الموطأ. وصفة وضوء العائن عند العلماء أن يؤتى بقدح ماء ولا يوضع القدح في الأرض فيأخذ منه غرفة فيتمضمض بها ثم يمجها في القدح ثم يأخذ منه ماء يغسل وجهه ثم يأخذ بشماله ماء يغسل به كفه اليمنى ثم بيمينه ماء يغسل به مرفقه الأيسر ولا يغسل ما بين المرفقين والكعبين ثم يغسل قدمه اليمنى ثم اليسرى على الصفة المتقدمة وكل ذلك في القدح ثم داخلة إزاره وهو الطرف المتدلي الذي يلي حقوه الأيمن، وقد ظن بعضهم أن داخلة الإزار كناية عن الفرج وجمهور العلماء على ما قدمناه، فإذا استكمل هذا صبه من خلفه على رأسه، وهذا المعنى لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه، وليس في قوة العقل الاطلاع على أسرار جميع المعلومات فلا يدفع هذا بأن لا يعقل معناه، قال: وقد اختلف العلماء في العائن هل يجبر على الوضوء للمعين أم لا؟ واحتج من أوجبه بقوله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم هذه: "وإذا استغسلتم فاغسلوا" وبرواية الموطأ التي ذكرناها أنه صلى الله عليه وسلم أمره بالوضوء والأمر للوجوب، قال المازري: والصحيح عندي الوجوب ويبعد الخلاف فيه إذا خشى على المعين الهلاك، وكان وضوء العائن مما جرت العادة بالبرء به أو كان الشرع أخبر به خبراً عاماً، ولم يكن زوال الهلاك إلا بوضوء العائن فإنه يصير من باب من تعين عليه إحياء نفس مشرفة على الهلاك، وقد تقرر أنه يجبر على بذل الطعام للمضطر فهذا أولى وبهذا التقرير يرتفع الخلاف فيه، هذا آخر كلام المازري. قال القاضي عياض بعد أن ذكر قول المازري الذي حكيته: بقي من تفسير هذا الغسل على قول الجمهور وما فسره به الزهري وأخبر أنه أدرك العلماء يصفونه واستحسنه علماؤنا ومضى به العمل أن غسل العائن وجهه إنما هو صبه وأخذه بيده اليمنى وكذلك باقي أعضائه إنما هو صبه صبة على ذلك الوضوء في القدح ليس على صفة غسل الأعضاء في الوضوء وغيره، وكذلك غسل داخلة الإزار إنما هو إدخاله وغمسه في القدح ثم يقوم الذي في يده القدح فيصبه على رأس المعين من ورائه على جميع جسده ثم يكفأ القدح وراءه على ظهر الأرض وقيل يستغفله بذلك عند صبه عليه هذه رواية ابن أبي ذئب. وقد جاء عن ابن شهاب من رواية عقيل مثل هذا إلا أن فيه الابتداء بغسل الوجه قبل المضمضة، وفيه في غسل القدمين أنه لا يغسل جميعهما وإنما قال: ثم يفعل مثل ذلك في طرف قدمه اليمنى من عند أصول أصابعه واليسرى كذلك وداخلة الإزار هنا المئزر والمراد بداخلته ما يلي الجسد منه، وقيل المراد موضعه من الجسد، وقيل المراد مذاكيره كما يقال عفيف الإزار أي الفرج، وقيل المراد وركه إذ هو معقد الإزار، وقد جاء في حديث سهل بن حنيف من رواية مالك في صفته أنه قال للعائن اغتسل له فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره.
وفي رواية: فغسل وجهه وظاهر كفيه ومرفقيه وغسل صدره وداخلة إزاره وركبتيه وأطراف قدميه ظاهرهما في الإناء، قال: وحسبته قال وأمر فحسا منه حسوات والله أعلم. قال القاضي في هذا الحديث من الفقه ما قاله بعض العلماء أنه ينبغي إذا عرف أحد بالإصابة بالعين أن يجتنب ويتحرز منه، وينبغي للإمام منعه من مداخلة الناس ويأمره بلزوم بيته، فإن كان فقيراً رزقه ما يكفيه ويكف أذاه عن الناس فضرره أشد من ضرر آكل الثوم والبصل الذي منعه النبي صلى الله عليه وسلم دخول المسجد لئلا يؤذي المسلمين، ومن ضرر المجذوم الذي منعه عمر رضي الله عنه والعلماء بعده الاختلاط بالناس، ومن ضرر المؤذيات من المواشي التي يؤمر بتغريبها إلى حيث لا يتأذى به أحد، وهذا الذي قاله هذا القائل صحيح متعين ولا يعرف عن غيره تصريح بخلافه والله أعلم. قال القاضي: وفي هذا الحديث دليل لجواز النشرة والتطبب بها وسبق بيان الخلاف فيها والله أعلم. قوله: "حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وحجاج بن الشاعر وأحمد بن خراش" هكذا هو في جميع النسخ أحمد بن خراش بالخاء المعجمة المكسورة وبالراء وبالشين المعجمة وهو الصواب ولا خلاف فيه في شيء من النسخ وهو أحمد بن الحسن بن خراش أبو جعفر البغدادي نسب إلى جده، وقال القاضي عياض: هكذا هو في الأصول بالخاء المعجمة، قال: قيل إنه وهم وصوابه أحمد بن جواس بفتح الجيم وبواو مشددة وسين مهملة، هذا كلام القاضي وهو غلط فاحش، ولا خلاف أن المذكور في مسلم إنما هو بالخاء المعجمة والراء والشين المعجمة كما سبق، وهو الراوي عن مسلم بن إبراهيم المذكور في صحيح مسلم هنا. وأما ابن جواس بالجيم فهو أبو عاصم الحنفي الكوفي روى عنه مسلم أيضاً في غير هذا الموضع ولكنه لا يروي عن مسلم بن إبراهيم ولا هو المراد هنا قطعاً، وكان سبب غلط من غلط كون أحمد بن خراش وقع منسوباً إلى جده كما ذكرنا. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين" فيه إثبات القدر وهو حق بالنصوص وإجماع أهل السنة، وسبقت المسألة في أول كتاب الإيمان، ومعناه أن الأشياء كلها بقدر الله تعالى ولا تقع إلا على حسب ما قدرها الله تعالى وسبق بها علمه، فلا يقع ضرر العين ولا غيره من الخير والشر إلا بقدر الله تعالى، وفيه صحة أمر العين وأنها قوية الضرر والله أعلم.
*2* باب السحر
*حع) حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَحَرَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَهُودِيّ مِنْ يَهُودِ بَنِي زُرَيْقٍ. يُقَالُ لَهُ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَتْ: حَتّىَ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَيّلُ إِلَيْهِ أَنّهُ يَفْعَلُ الشّيْءَ، وَمَا يَفْعَلُهُ. حَتّىَ إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ، أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ، دَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمّ دَعَا. ثُمّ دَعَا. ثُمّ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ أَشَعَرْتِ أَنّ اللّهَ أَفْتَانِي فِيمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيهِ؟ جَاءَنِي رَجُلاَنِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالاَخَرُ عِنْدَ رِجْلَيّ. فَقَالَ الّذِي عِنْدَ رَأْسِي لِلّذِي عِنْدَ رِجْلَيّ، أَوِ الّذِي عِنْدَ رِجْلَيّ لِلّذِي عِنْدَ رَأْسِي: مَا وَجَعُ الرّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ. قَالَ: مَنْ طَبّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِي أَيّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ. قَالَ وَجُف طَلْعَةِ ذَكَرٍ. قَالَ: فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ".
قَالَتْ: فَأَتَاهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ. ثُمّ قَالَ: "يَا عَائِشَةُ وَاللّهِ لَكَأَنّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الْحِنّاءِ. وَلَكَأَنّ نَخْلَهَا رُؤُوسُ الشّيَاطِينِ".
قَالَتْ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَفَلاَ أَحْرَقْتَهُ؟ قَالَ: "لاَ. أَمّا أَنَا فَقَدْ عَافَانِي اللّهُ. وَكَرِهْتُ أَنْ أُثِيرَ عَلَىَ النّاسِ شَرّا، فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ".
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. حَدّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: سُحِرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَسَاقَ أَبُو كُرَيْبٍ الْحَدِيثَ بِقِصّتِه، نَحْوَ حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ، وَقَالَ فِيهِ: فَذَهَبَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَىَ الْبِئْرِ. فَنَظَرَ إِلَيْهَا وَعَلَيْهَا نَخْلٌ. وَقَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَأَخْرِجْهُ. وَلَمْ يَقُلْ: أَفَلاَ أَحْرَقْتهُ؟ وَلَمْ يَذكُرْ "فَأَمَرْتُ بِهَا فَدُفِنَتْ"
قوله: (من يهود بني زريق) بتقديم الزاي. قوله: (سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله) قال الإمام المازري رحمه الله: مذهب أهل السنة وجمهور علماء الأمة على إثبات السحر وأن له حقيقة كحقيقة غيره من الأشياء الثابتة خلافاً لمن أنكر ذلك ونفى حقيقته وأضاف ما يقع منه إلى خيالات باطلة لا حقائق لها، وقد ذكره الله تعالى في كتابه وذكر أنه مما يتعلم، وذكر ما فيه إشارة إلى أنه مما يكفر به، وأنه يفرق بين المرء وزوجه، وهذا كله لا يمكن فيما لا حقيقة له، وهذا الحديث أيضاً مصرح بإثباته وأنه أشياء دفنت وأخرجت وهذا كله يبطل ما قالوه، فإحالة كونه من الحقائق محال، ولا يستنكر في العقل أن الله سبحانه وتعالى يخرق العادة عند النطق بكلام ملفق أو تركيب أجسام أو الموج بين قوي على ترتيب لا يعرفه إلا الساحر، وإذا شاهد الإنسان بعض الأجسام منها قاتلة كالسموم ومنها مسقمة كالأدوية الحادة ومنها مضرة كالأدوية المضادة للمرض لم يستبعد عقله أن ينفرد الساحر بعلم قوي قتالة أو كلام مهلك أو مؤد إلى التفرقة، قال: وقد أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث بسبب آخر فزعم أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع، وهذا الذي ادعاه هؤلاء المبتدعة باطل، لأن الدلائل القطعية قد قامت على صدقه وصحته وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل، فأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولا كان مفضلاً من أجلها وهو مما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له، وقد قيل إنه إنما كان يتخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ، وقد يتخيل الإنسان مثل هذا في المنام فلا يبعد تخيله في اليقظة ولا حقيقة له، وقيل إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله ولكن لا يعتقد صحة ما يتخيله فتكون اعتقاداته على السداد. قال القاضي عياض: وقد جاءت روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه لا على عقله وقلبه واعتقاده، ويكون معنى قوله في الحديث حتى يظن أنه يأتي أهله ولا يأتيهن، ويروى يخيل إليه أي يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة عليهن فإذا دنى منهن أخذته أخذة السحر فلم يأتهن ولم يتمكن من ذلك كما يعتري المسحور، وكل ما جاء في الروايات من أنه يخيل إليه فعل شيء لم يفعله ونحوه فمحمول على التخيل بالبصر لا لخلل تطرق إلى العقل، وليس في ذلك ما يدخل لبساً على الرسالة ولا طعناً لأهل الضلالة والله أعلم. قال المازري: واختلف الناس في القدر الذي يقع به السحر ولهم فيه اضطراب فقال بعضهم: لا يزيد تأثيره على قدر التفرقة بين المرء وزوجه لأن الله تعالى إنما ذكر ذلك تعظيماً لما يكون عنده وتهويلاً به في حقنا، فلو وقع به أعظم منه لذكره لأن المثل لا يضرب عند المبالغة إلا بأعلى أحوال المذكور. قال: ومذهب الأشعرية أنه يجوز أن يقع به أكثر من ذلك، قال: وهذا هو الصحيح عقلاً لأنه لا فاعل إلا الله تعالى، وما يقع من ذلك فهو عادة أجراها الله تعالى، ولا تفترق الأفعال في ذلك وليس بعضها بأولى من بعض، ولو ورد الشرع بقصوره عن مرتبة لوجب المصير إليه، ولكن لا يوجد شرع قاطع يوجب الاقتصار على ما قاله القائل الأول، وذكر التفرقة بين الزوجين في الاَية ليس بنص في منع الزيادة وإنما النظر في أنه ظاهر أم لا. قال: فإن قيل إذا جوزت الأشعرية خرق العادة على يد الساحر فبماذا يتميز عن النبي؟ فالجواب أن العادة تنخرق على يد النبي والولي والساحر، لكن النبي يتحدى بها الخلق ويستعجزهم عن مثلها ويخبر عن الله تعالى بخرق العادة بها لتصديقه، فلو كان كاذباً لم تنخرق العادة على يديه، ولو خرقها الله على يد كاذب لخرقها على يد المعارضين للأنبياء. وأما الولي والساحر فلا يتحديان الخلق ولا يستدلان على نبوة، ولو ادعيا شيئاً من ذلك لم تنخرق العادة لهما. وأما الفرق بين الولي والساحر فمن وجهين: أحدهما: وهو المشهور إجماع المسلمين على أن السحر لا يظهر إلا على فاسق والكرامة لا تظهر على فاسق وإنما تظهر على ولي، وبهذا جزم إمام الحرمين وأبو سعد المتولي وغيرهما. والثاني: أن السحر قد يكون ناشئاً بفعلها وبمزجها ومعاناة وعلاج والكرامة لا تفتقر إلى ذلك، وفي كثير من الأوقات يقع ذلك اتفاقاً من غير أن يستدعيه أو يشعر به والله أعلم. وأما ما يتعلق بالمسألة من فروع الفقه فعمل السحر حرام وهو من الكبائر بالإجماع، وقد سبق في كتاب الإيمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عده من السبع الموبقات وسبق هناك شرحه، ومختصر ذلك أنه قد يكون كفراً وقد لا يكون كفراً بل معصيته كبيرة، فإن كان فيه قول أو فعل يقتضي الكفر كفر وإلا فلا، وأما تعلمه وتعليمه فحرام، فإن تضمن ما يقتضي الكفر كفر وإلا فلا، وإذا لم يكن فيه ما يقتضي الكفر عزر واستتيب منه ولا يقتل عندنا فإن تاب قبلت توبته.
وقال مالك: الساحر كافر يقتل بالسحر ولا يستتاب ولا تقبل توبته بل يتحتم قتله، والمسألة مبنية على الخلاف في قبول توبة الزنديق لأن الساحر عنده كافر كما ذكرنا وعندنا ليس بكافر وعندنا تقبل توبة المنافق والزنديق. قال القاضي عياض: وبقول مالك قال أحمد بن حنبل وهو مروي عن جماعة من الصحابة والتابعين. قال أصحابنا: فإذا قتل الساحر بسحره إنساناً واعترف أنه مات بسحره وأنه يقتل غالباً لزمه القصاص. وإن قال مات به ولكنه قد يقتل وقد لا فلا قصاص وتجب الدية والكفارة وتكون الدية في ماله لا على عاقلته لأن العاقلة لا تحمل ما ثبت باعتراف الجاني. قال أصحابنا: ولا يتصور القتل بالسحر بالبينة وإنما يتصور باعتراف الساحر والله أعلم. قوله: (حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم دعا ثم دعا) هذا دليل لاستحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره وحسن الالتجاء إلى الله تعالى. قوله: (ما وجع الرجل قال مطبوب) المطبوب المسحور، يقال طب الرجل إذا سحر، فكنوا بالطب عن السحر كما كنوا بالسليم عن اللديغ. قال ابن الأنباري: الطب من الأضداد يقال لعلاج الداء طب وللسحر طب وهو من أعظم الأدواء، ورجل طبيب أي حاذق سمي طبيباً لحذقه وفطنته. قوله: (في مشط ومشاطة وجب طلعة ذكر) أما المشاطة فبضم الميم وهي الشعر الذي يسقط من الرأس أو اللحية عند تسريحه، وأما المشط ففيه لغات مشط ومشط بضم الميم فيهما وإسكان الشين وضمها ومشط بكسر الميم وإسكان الشين وممشط ويقال له مشطأ بالهمز وتركه ومشطاء ممدود وممكد ومرجل وقيلم بفتح القاف حكاهن أبو عمر الزاهد. وأما قوله: (وجب) هكذا في أكثر نسخ بلادنا جب بالجيم وبالباء الموحدة، وفي بعضها جف بالجيم والفاء وهما بمعنى وهو وعاء طلع النخل وهو الغشاء الذي يكون عليه ويطلق على الذكر والأنثى فلهذا قيده في الحديث بقوله: (طلعة ذكر) وهو بإضافة طلعة إلى ذكر والله أعلم. ووقع في البخاري من رواية ابن عيينة ومشاقة بالقاف بدل مشاطة وهي المشاطة أيضاً وقيل مشاقة الكتان. قوله صلى الله عليه وسلم: "في بئر ذي أروان" هكذا هو في جميع نسخ مسلم ذي أروان، وكذا وقع في بعض روايات البخاري، وفي معظمها ذروان وكلاهما صحيح والأول أجود وأصح وادعى ابن قتيبة أنه الصواب وهو قول الأصمعي وهي بئر بالمدينة في بستان بني زريق. قوله صلى الله عليه وسلم: "والله لكأن ماءها نقاعة الحناء" النقاعة بضم النون الماء الذي ينقع فيه الحناء والحناء ممدود. قولها: (فقلت يا رسول الله أفلا أحرقته) وفي الرواية الثانية: (قلت: يا رسول الله فأخرجه) كلاهما صحيح فطلبت أنه يخرجه ثم يحرقه، والمراد إخراج السحر، فدفنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أن الله تعالى قد عافاه وأنه يخاف من إخراجه وإحراقه وإشاعة هذا ضرراً وشراً على المسلمين من تذكر السحر أو تعلمه وشيوعه والحديث فيه أو إيذاء فاعله فيحمله ذلك أو يحمل بعض أهله ومحبيه والمتعصبين له من المنافقين وغيرهم على سحر الناس وأذاهم وانتصابهم لمناكدة المسلمين بذلك، هذا من باب ترك مصلحة لخوف مفسدة أعظم منها وهو من أهم قواعد الإسلام وقد سبقت المسألة مرات والله أعلم.
*2* باب السم
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ. حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ امْرَأَةً يَهُودِيّةً أَتَتْ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ. فَأَكَلَ مِنْهَا. فَجِيءَ بِهَا إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لأَقْتُلَكَ. قَالَ: "مَا كَانَ اللّهُ لِيُسَلّطَكِ عَلَىَ ذَاكِ" قَالَ أَوْ قَالَ "عَلَيّ" قَالَ قَالُوا: أَلاَ نَقْتُلها؟ قَالَ "لاَ" قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
وحدّثنا هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. حَدّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ. سَمِعْتُ هِشَامَ بْنَ زَيْدٍ. سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يِحَدّثُ أَنّ يَهُودِيّةً جَعَلَتْ سَمّا في لَحْمٍ. ثُمّ أَتَتْ بِهِ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. بِنَحْوِ حَدِيثِ خَالِدٍ.
قوله: (أن يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة فأكل منها فجيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألها عن ذاك قالت أردت لأقتلك، قال: وما كان الله ليسلطك على ذاك قال أو قال علي، قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا، قال: فما زلت أعرفها في لهوات رسول الله صلى الله عليه وسلم). وفي الرواية الأخرى: (جعلت سماً في لحم). أما السم فبفتح السين وضمها وكسرها ثلاث لغات الفتح أفصح جمعه سمام وسموم. وأما اللهوات فبفتح اللام والهاء جمع لهات بفتح اللام وهي اللحمة الحمراء المعلقة في أصل الحنك قاله الأصمعي. وقيل اللحمات اللواتي في سقف أقصى الفم. وقوله: (ما زلت أعرفها) أي العلامة كأنه بقي للسم علامة وأثر من سواد أو غيره. وقولهم: (ألا نقتلها) هي بالنون في أكثر النسخ وفي بعضها بتاء الخطاب. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما كان الله ليسلطك على ذاك أو قال علي" فيه بيان عصمته صلى الله عليه وسلم من الناس كلهم كما قال الله تعالى: {والله يعصمك من الناس} وهي معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سلامته من السم المهلك لغيره وفي إعلام الله تعالى له بأنها مسمومة وكلام عضو منه له فقد جاء في غير مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن الذراع تخبرني أنها مسمومة" وهذه المرأة اليهودية الفاعلة للسم اسمها زينب بنت الحارث أخت مرحب اليهودي روينا تسميتها هذه في مغازي موسى بن عقبة ودلائل النبوة للبيهقي قال القاضي عياض: واختلف الاَثار والعلماء هل قتلها النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فوقع في صحيح مسلم أنهم قالوا: ألا نقتلها؟ قال: لا. ومثله عن أبي هريرة وجابر. وعن جابر من رواية أبي سلمة أنه صلى الله عليه وسلم قتلها. وفي رواية ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم دفعها إلى أولياء بشر بن البراء بن معرور وكان أكل منها فمات بها فقتلوها. وقال ابن سحنون: أجمع أهل الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلها. قال القاضي: وجه الجمع بين هذه الروايات والأقاويل أنه لم يقتلها أولاً حين اطلع على سمها وقيل له اقتلها فقال لا فلما مات بشر بن البراء من ذلك سلمها لأوليائه فقتلوها قصاصاً، فيصح قولهم لم يقتلها أي في الحال، ويصح قولهم قتلها أي بعد ذلك والله أعلم.
*2* باب استحباب رقية المريض
*حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ زُهَيْرٌ وَاللّفْظُ لَهُ : حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضّحَىَ، عَنْ مَسْروقٍ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا اشْتَكَىَ مِنّا إِنْسَانٌ، مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ. ثُمّ قَالَ: "أَذْهِبِ الْبَاسَ. رَبّ النّاسِ. وَاشْفِ أَنْتَ الشّافِي. لاَ شِفَاءَ إِلاّ شِفَاؤُكَ. شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَماً".
فَلَمّا مَرِضَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَقُلَ، أَخَذْتُ بِيَدِهِ لاِءَصْنَعَ بِهِ نَحْوَ مَا كَانَ يَصْنَعُ فَانْتَزَعَ يَدَهُ مِنْ يَدِي. ثُمّ قَالَ: "اللّهُمّ اغْفِرْ لِي وَاجْعَلْنِي مَعَ الرّفِيقِ الأَعْلَىَ".
قَالَتْ: فَذَهَبْتُ أَنْظُرُ، فَإِذَا هُوَ قَدْ قَضَىَ.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. ح وَحَدّثَنِي بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ بَشّارٍ. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ. كِلاَهُمَا عَنْ شُعْبَةَ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ خَلاّدٍ قَالاَ: حَدّثَنَا يَحْيَىَ (وَهُوَ الْقَطّانُ) عَنْ سُفْيَانَ. كُلّ هَؤُلاَءِ عَنِ الأَعْمَشِ. بِإِسْنَادِ جَرِيرٍ.
فِي حَدِيثِ هُشَيْمٍ وَشُعْبَةَ: مَسَحَهُ بِيَدِهِ. قَالَ وَفِي حَدِيثِ الثّوْرِيّ: مَسَحَهُ بِيَمِينِهِ. وَقَالَ فِي عَقِبِ حَدِيثِ يَحْيَىَ عَنْ سُفْيَانَ عَنِ الأَعْمَشِ. قَالَ فَحَدّثْتُ بِهِ مَنْصُوراً فَحَدّثَنِي عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ. بِنَحْوِهِ.
وحدّثنا شَيْبَان بْنُ فَرّوخَ. حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا عَادَ مَرِيضاً يَقُولُ: "أَذْهِبِ الْبَاسَ. رَبّ النّاسِ. اشْفِهِ أَنْتَ الشّافِي. لاَ شِفَاءَ إِلاّ شِفَاؤُكَ. شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَماً".
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ أَبِي الضّحَىَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَى الْمَرِيضَ يَدْعُو لَهُ قَالَ "أَذْهِبِ الْبَاسَ. رَبّ النّاسِ. وَاشْفِ أَنْتَ الشّافِي. لاَ شِفَاءَ إِلاّ شِفَاؤُكَ. شِفَاءً لاَ يُغَادِرُ سَقَماً". وَفِي رِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ: فَدَعَا لَهُ. وَقَالَ "وَأَنْتَ الشّافِي".
وحدّثني الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيّاءَ. حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُوسَىَ عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ وَمُسْلِمُ بْنُ صُبَيْحٍ عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ وَجَرِيرٍ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ (وَاللّفْظُ لاَِبِي كُرَيْبٍ). قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرْقِي بِهَذِهِ الرّقْيَةِ: "أَذْهِبِ الْبَاسَ. رَبّ النّاسِ. بِيَدِكَ الشّفَاءُ. لاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاّ أَنْتَ".
وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ. كِلاَهُمَا عَنْ هِشَامٍ ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.
ذكر في الباب الأحاديث أنه صلى الله عليه وسلم كان يرقى المريض وقد سبقت المسألة مستوفاة في الباب السابق في أول الطب. قولها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى منا إنسان مسحه بيمينه ثم قال أذهب البأس إلى آخره) فيه استحباب مسح المريض باليمين والدعاء له، وقد جاءت فيه روايات كثيرة صحيحة جمعتها في كتاب الأذكار وهذا المذكور هنا من أحسنها، ومعنى لا يغادر سقماً أي لا يترك، والسقم بضم السين وإسكان القاف وبفتحهما لغتان.
*2* باب رقية المريض بالمعوذات والنفث
*حدّثني سُرَيْجُ بْنُ يُونُسَ وَ يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ. قَالاَ: حَدّثَنَا عَبّادُ بْنُ عَبّادٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ، نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوّذَاتِ. فَلَمّا مَرِضَ مَرَضَهُ الّذِي مَاتَ فِيهِ، جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ. لأَنّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي. وَفِي رِوَايَةِ يَحْيَى بْنِ أَيّوبَ: بِمُعَوّذَاتٍ.
حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَىَ يَقْرَأُ عَلَىَ نَفْسِهِ بِالْمُعَوّذَاتِ. وَيَنْفُثُ. فَلَمّا اشْتَدّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ. وَأَمْسَحُ عَنْهُ بِيَدِهِ. رَجَاءَ بَرَكَتِهَا.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا رَوْحٌ. ح وَحَدّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ وَ أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ النّوْفَلِيّ قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ. كِلاَهُمَا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. أَخْبَرَنِي زِيَادٌ. كُلّهُمْ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. بِإِسْنَادِ مَالِكٍ. نَحْوَ حَدِيثِهِ. وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ أَحَدٍ مِنْهُمْ: رَجَاءَ بَرَكَتِهَا. إِلاّ فِي حَدِيثِ مَالِكٍ. وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ وَزِيَادٍ: أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَىَ نَفَثَ عَلَىَ نَفْسِهِ بِالْمُعَوّذَاتِ، وَمَسَحَ عَنْهُ بِيَدِهِ.
قولها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوذات) هي بكسر الواو والنفث نفخ لطيف بلا ريق فيه استحباب النفث في الرقية وقد أجمعوا على جوازه واستحبه الجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. قال القاضي: وأنكر جماعة النفث والتفل في الرقى وأجازوا فيها النفخ بلا ريق وهذا المذهب والفرق إنما يجيء على قول ضعيف قيل إن النفث معه ريق. قال: وقد اختلف العلماء في النفث والتفل فقيل هما بمعنى ولا يكونان إلا بريق. قال أبو عبيد: يشترط في التفل ريق يسير ولا يكون في النفث وقيل عكسه. قال: وسئلت عائشة عن نفث النبي صلى الله عليه وسلم في الرقية فقالت: كما ينفث آكل الزبيب لا ريق معه. قال: ولا اعتبار بما يخرج عليه من بلة ولا يقصد ذلك، وقد جاء في حديث الذي رقى بفاتحة الكتاب فجعل يجمع بزاقه ويتفل والله أعلم. قال القاضي: وفائدة التفل التبرك بتلك الرطوبة والهواء والنفس المباشرة للرقية والذكر الحسن لكن قال: كما يتبرك بغسالة ما يكتب من الذكر والأسماء الحسنى، وكان مالك ينفث إذا رقى نفسه، وكان يكره الرقية بالحديدة والملح والذي يعقد والذي يكتب خاتم سليمان، والعقد عنده أشد كراهة لما في ذلك من مشابهة السحر والله أعلم. وفي هذا الحديث استحباب الرقية بالقرآن وبالأذكار، وإنما رقى بالمعوذات لأنهن جامعات للاستعاذة من كل المكروهات جملة وتفصيلاً، ففيها الاستعاذة من شر ما خلق فيدخل فيه كل شيء ومن شر النفاثات في العقد ومن السواحر ومن شر الحاسدين ومن شر الوسواس الخناس والله أعلم.
*2* باب استحباب الرقية من العين والنملة والحمة والنظرة
*أما الحمة فسبق بيانها في الباب قبله، والعين سبق بيانها قبل ذلك، وأما النملة فبفتح النون وإسكان الميم وهي قروح تخرج في الجنب، قال ابن قتيبة وغيره: كانت المجوس تزعم أن ولد الرجل من أخته إذا حط على النملة يشفى صاحبها، وفي هذه الأحاديث استحباب الرقى لهذه العاهات والأدواء وقد سبق بيان ذلك مبسوطاً والخلاف فيه.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنِ الشّيْبَانِيّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ الأَسْوَدِ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الرّقْيَةِ؟ فَقَالَتْ: رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لأَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فِي الرّقْيَةِ، مِنْ كُلّ ذِي حُمَةٍ.
حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لاِءَهْلِ بَيْتٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فِي الرّقْيَةِ، مِنَ الْحُمَةِ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ وَاللّفْظُ لابْنِ أَبِي عُمَرَ قَالُوا: حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ رَبّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَىَ الإِنْسَانُ الشّيْءَ مِنْهُ، أَوْ كَانَتْ بِهِ قَرْحَةٌ أَوْ جَرْحٌ. قَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا. وَوَضَعَ سُفْيَانُ سَبّابَتَهُ بِالأَرْضِ ثُمّ رَفَعَهَا "بِاسْمِ اللّهِ. تُرْبَةُ أَرْضِنَا. بِرِيقَةِ بَعْضِنَا. لِيُشْفَىَ بِهِ سَقِيمُنَا. بِإِذْنِ رَبّنَا".
قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ "يُشْفَىَ" وَقَالَ زُهَيْرٌ "لِيُشْفَىَ سَقِيمُنَا".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ وَ أَبُو كُرَيْبٍ وَاللّفْظُ لهُمَا : حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ عَنْ مِسْعَرٍ. حَدّثَنَا مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شَدّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُهَا أَنْ تَسْتَرْقِي مِنَ الْعَيْنِ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. قَالَ: حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا مِسْعَرٌ ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.
وحدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شَدّادٍ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُنِي أَنْ أَسْتَرْقِيَ مِنَ الْعَيْنِ.
وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فِي الرّقَىَ. قَالَ: رُخّصَ فِي الْحُمَةِ وَالنّمْلَةِ وَالْعَيْنِ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ عَنْ سُفْيَانَ ح وَحَدّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ. حَدّثَنَا حَسَنٌ (وَهُوَ ابْنُ صَالِحٍ). كِلاَهُمَا عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَنَسٍ. قَالَ: رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الرّقْيَةِ مِنَ الْعَيْنِ، وَالْحُمَةِ، وَالنّمْلَةِ.
وَفِي حَدِيثِ سُفْيَانَ: يُوسُفَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ.
حدّثني أَبُو الرّبِيعِ، سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْوَلِيدِ الزّبَيْدِيّ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ زَيِنْبَ بِنْتِ أُمّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِجَارَيَةٍ، فِي بَيْتِ أُمّ سَلَمَةَ، زَوْجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، رَأَىَ بِوَجْهِهَا سَفْعَةً فَقَالَ "بِهَا نَظْرَةٌ. فَاسْتَرْقُوا لَهَا" يَعْنِي بِوَجْهِهَا صُفْرَةً.
حدّثني عُقْبَةُ بْنُ مُكْرَمٍ الْعَمّيّ. حَدّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ: رَخّصَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم لاَِلِ حَزْمٍ فِي رُقْيَةِ الْحَيّةِ. وَقَالَ لأَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ: "مَا لِي أَرَىَ أَجْسَامَ بَنِي أَخِي ضَارِعَةً تُصِيبُهُمُ الْحَاجَةُ" قَالَتْ: لاَ. وَلَكِنِ الْعَيْنُ تُسْرِعُ إِلَيْهِمْ. قَالَ: "ارْقِيهِمْ" قَالَتْ: فَعَرَضْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: "ارْقِيهِمْ".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ. حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ: أَرْخَصَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي رُقْيَةِ الْحَيّةِ لِبَنِي عَمْرٍو.
قَالَ أَبُو الزّبَيْرِ: وَسَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ لَدَغَتْ رَجُلاً مِنّا عَقْرَبٌ. وَنَحْنُ جُلُوسٌ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَرْقِي؟ قَالَ: "مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ".
وحدّثني سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى الأُمَوِيّ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَرْقِيهِ يَا رَسُولَ اللّهِ وَلَمْ يَقُلْ: أَرْقِي.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجّ. قَالاَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ. قَالَ: كَانَ لِي خَالٌ يَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ. فَنَهَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرّقَىَ. قَالَ فَأَتَاهُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرّقَىَ. وَأَنَا أَرْقِي مِنَ الْعَقْرَبِ. فَقَالَ "مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ".
وحدّثناه عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. قَالَ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ. قَالَ: نَهَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرّقَفىَ. فَجَاءَ آلُ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّهُ كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ. وَإِنّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرّقَىَ. قَالَ: فَعَرَضُوهَا عَلَيْهِ. فَقَالَ: "مَا أَرَىَ بَأْساً. مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَنْفَعْهُ".
قولها: (رخص في الرقية من كل ذي حمة) هي بحاء مهملة مضمومة ثم ميم مخففة وهي السم ومعناه أذن في الرقية من كل ذات سم.
قولها: (قال النبي صلى الله عليه وسلم بأصبعه هكذا ووضع سفيان سبابته بالأرض ثم رفعها باسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى به سقيمنا بإذن ربنا) قال جمهور العلماء: المراد بأرضنا هنا جملة الأرض، وقيل أرض المدينة خاصة لبركتها والريقة أقل من الريق، ومعنى الحديث أنه يأخذ من ريق نفسه على أصبعه السبابة ثم يضعها على التراب فيعلق بها منه شيء فيمسح به على الموضع الجريح أو العليل ويقول هذا الكلام في حال المسح والله أعلم. قال القاضي: واختلف قول مالك في رقية اليهودي والنصراني والمسلم وبالجواز قال الشافعي.
قوله: (رخص في الرقية من العين والحمة والنملة) ليس معناه تخصيص جوازها بهذه الثلاثة وإنما معناه سئل عن هذه الثلاثة فأذن فيها ولو سئل عن غيرها لأذن فيه وقد أذن لغير هؤلاء، وقد رقى هو صلى الله عليه وسلم في غير هذه الثلاثة والله أعلم.
قوله: (رأى بوجهها سفعة فقال بها نظرة فاسترقوا لها) يعني بوجهها صفرة، أما السفعة فبسين مهملة مفتوحة ثم فاء ساكنة وقد فسرها في الحديث بالصفرة وقيل سواد، وقال ابن قتيبة: هي لون يخالف لون الوجه، وقيل أخذة من الشيطان، وهذا الحديث مما استدركه الدارقطني على البخاري ومسلم لعلة فيه، قال: رواه عقيل عن الزهري عن عروة مرسلاً وأرسله مالك وغيره من أصحاب يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار عن عروة، قال الدارقطني: وأسنده أبو معاوية ولا يصح، قال: وقال عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن سعيد ولم يضع شيئاً هذا كلام الدارقطني.
قوله صلى الله عليه وسلم: (مالي أرى أجسام بني أخي ضارعة) بالضاد المعجمة أي نحيفة، والمراد أولاد جعفر رضي الله عنه.
*2* باب لا بأس بالرقي ما لم يكن فيه شرك
*حدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الأَشْجَعِيّ قَالَ: كُنّا نَرْقِي فِي الْجَاهِلِيّةِ. فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللّهِ كَيْفَ تَرَىَ فِي ذَلِكَ؟ فَقَالَ: "اعْرِضُوا علَيّ رُقَاكُمْ. لاَ بَأْسَ بِالرّقَىَ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شِرْكٌ".
*2* باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن والأذكار
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّمِيمِيّ. أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنْ أَبِي المُتَوَكّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ نَاساً مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانُوا فِي سَفَرٍ. فَمَرّوا بِحَيَ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ، فَاسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضِيفُوهُمْ. فَقَالُوا لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ رَاقٍ؟ فَإِنّ سَيّدَ الْحَيّ لَدِيغٌ أَوْ مُصَابٌ. فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: نَعَمْ. فَأَتَاهُ فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. فَبَرَأَ الرّجُلُ. فَأُعْطِيَ قَطِيعاً مِنْ غَنَمٍ. فَأَبَىَ أَنْ يَقْبَلَهَا. وَقَالَ: حَتّىَ أَذْكُرَ ذَلِكَ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَأَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَاللّهِ مَا رَقَيْتُ إِلاّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. فَتَبَسّمَ وَقَالَ: "وَمَا أَدْرَاكَ أَنّهَا رُقْيَةٌ؟" ثُمّ قَالَ: "خُذُوا مِنْهُمْ وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ".
حدّثنا مُحَمّدِ بْنُ بَشّارٍ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ. كِلاَهُمَا عَنْ غُنْدَرٍ، مُحَمّدُ بْنِ جَعْفَرٍ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: فجَعَلَ يَقْرَأُ أُمّ الْقُرْآنِ، وَيَجْمَعُ بُزَاقَهُ، وَيَتْفِلُ. فَبَرَأَ الرّجُلُ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَرُونَ. أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ حَسّانَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَخِيهِ، مَعْبَدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ. قَالَ: نَزَلْنَا مَنْزِلاً. فَأَتَتْنَا امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: إِنّ سَيّدَ الْحَيّ سَلِيمٌ، لُدِغَ. فَهَلْ فِيكُمْ مِنْ رَاقٍ؟ فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مِنّا. مَا كُنّا نَظُنّهُ يُحْسِنُ رُقْيَةً. فَرَقَاهُ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَبَرَأَ. فَأَعْطَوْهُ غَنَماً، وَسَقَوْنَا لَبَناً. فَقُلْنَا: أَكُنْتَ تُحْسِنُ رُقْيَةً؟ فَقَالَ: مَا رَقَيْتُهُ إِلاّ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ. قَالَ: فَقُلْتُ: لاَ تُحَرّكُوهَا حَتّىَ نَأْتِيَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَأَتَيْنَا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ: "مَا كَانَ يُدْرِيهِ أَنّهَا رُقْيَةٌ؟ اقْسِمُوا وَاضْرِبُوا لِي بِسَهْمٍ مَعَكُمْ".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ. حَدّثَنَا هِشَامٌ ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ. غَيْرَ أَنّهُ قَال: فَقَامَ مَعَهَا رَجُلٌ مِنّا. مَا كُنّا نَأْبِنُهُ بِرُقْيَةٍ.
فيه حديث (أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأن رجلاً رقى سيد الحي) هذا الراقي هو أبو سعيد الخدري الراوي كذا جاء مبيناً في رواية أخرى في غير مسلم. قوله: (فأعطي قطيعاً من غنم) القطيع هو الطائفة من الغنم وسائر النعم، قال أهل اللغة: الغالب استعماله فيما بين العشر والأربعين، وقيل ما بين خمس عشرة إلى خمس وعشرين، وجمعه أقطاع وأقطعة وقطعان وقطاع وأقاطيع كحديث وأحاديث، والمراد بالقطيع المذكور في هذا الحديث ثلاثون شاة، كذا جاء مبيناً. قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أدراك أنها رقية" فيه التصريح بأنها رقية فيستحب أن يقرأ بها على اللديغ والمريض وسائر أصحاب الأسقام والعاهات. قوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا منهم واضربوا لي بسهم معكم" هذا تصريح بجواز أخذ الأجرة على الرقية بالفاتحة والذكر وأنها حلال لا كراهة فيها، وكذا الأجرة على تعليم القرآن، وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وأبي ثور وآخرين من السلف ومن بعدهم، ومنعها أبو حنيفة في تعليم القرآن وأجازها في الرقية. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "واضربوا لي بسهم معكم". وفي الرواية الأخرى: "اقسموا واضربوا لي بسهم معكم" فهذه القسمة من باب المروءات والتبرعات ومواساة الأصحاب والرفاق، وإلا فجميع الشياه ملك للراقي مختصة به لا حق للباقين فيها عند التنازع فقاسمهم تبرعاً وجوداً ومروءة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "واضربوا لي بسهم" فإنما قاله تطييباً لقلوبهم ومبالغة في تعريفهم أنه حلال لا شبهة فيه، وقد فعل صلى الله عليه وسلم في حديث العنبر وفي حديث أبي قتادة في حمار الوحش مثله. قوله: (ويجمع بزاقه ويتفل) هو بضم الفاء وكسرها وسبق بيان مذاهب العلماء في التفل والنفث. قوله: (سيد الحي سليم) أي لديغ قالوا سمي بذلك تفاؤلاً بالسلامة وقيل لأنه مستسلم لما به. قوله: (ما كنا نأبنه برقية) هو بكسر الباء وضمها أي نظنه كما سبق في الرواية التي قبلها، وأكثر ما يستعمل هذا اللفظ بمعنى نتهمه ولكن المراد هنا نظنه كما ذكرناه والله أعلم.
*2* باب استحباب وضع يده على موضع الألم، مع الدعاء
*حدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثّقَفِيّ أَنّهُ شَكَا إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَجَعاً، يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "ضَعْ يَدَكَ عَلَىَ الّذِي تَأَلّمَ مِنْ جَسَدِكَ. وَقُلْ: بِاسْمِ اللّهِ، ثَلاَثاً. وَقُلْ، سَبْعَ مَرّاتٍ: أَعُوذُ بِاللّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ".
فيه حديث عثمان بن أبي العاص ومقصوده أنه يستحب وضع يده على موضع الألم ويأتي بالدعاء المذكور والله أعلم.
*2* باب التعوذ من شيطان الوسوسة في الصلاة
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ خَلَفٍ الْبَاهِلِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَىَ عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيّ، عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ أَبِي الْعَاصِ أَتَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ الشّيْطَانَ قَدْ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ صَلاَتِي وَقِرَاءَتِي. يَلْبِسُهَا عَلَيّ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَاكَ شَيْطَانٌ يُقَالُ لَهُ خِنْزَبٌ. فَإِذَا أَحْسَسْتَهُ فَتَعَوّذْ بِاللّهِ مِنْهُ. وَاتْفِلْ عَلَىَ يَسَارِكَ ثَلاَثاً". قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَهُ اللّهُ عَنّي.
حدّثناه مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا سَالِمُ بْنُ نُوحٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. كِلاَهُمَا عَنِ الْجُرَيْرِيّ، عَنْ أَبِي الْعَلاَءِ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ أَنّهُ أَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ بِمِثْلِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ سَالِمِ بْنِ نُوحٍ: ثَلاَثاً.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيّ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدُ اللّهِ بْنِ الشّخّيرِ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثّقَفِيّ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ ثُمّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِهِمْ.
قوله: (إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل عن يسارك ثلاثاً ففعلت ذلك فأذهبه الله عني) أما خنزب فبخاء معجمة مكسورة ثم نون ساكنة ثم زاي مكسورة ومفتوحة، ويقال أيضاً بفتح الخاء والزاي حكاه القاضي، ويقال أيضاً بضم الخاء وفتح الزاي حكاه ابن الأثير في النهاية وهو غريب، وفي هذا الحديث استحباب التعوذ من الشيطان عند وسوسته مع التفل عن اليسار ثلاثاً، ومعنى يلبسها أي يخلطها، ويشككني فيها وهو بفتح أوله وكسر ثالثه ومعنى حال بيني وبينها أي نكدني فيها ومنعني لذتها والفراغ للخشوع فيها.
*2* باب لكل داء دواء. واستحباب التداوي
*حدّثنا هَرُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ وَ أَبُو الطّاهِرِ وَ أَحْمَدُ بْنُ عِيسَىَ. قَالُوا: حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي عَمْرٌو (وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ) عَنْ عَبْدِ رَبّهِ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "لِكُلّ دَاءٍ دَوَاءٌ. فَإِذَا أُصِيبَ دَوَاءُ الدّاءِ بَرَأَ بِإِذْنِ اللّهِ عَزّ وَجَلّ".
حدّثني نَصْرُ بْنُ عَلِيَ الْجَهْضَمِيّ. حَدّثَنِي أَبِي. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ. قَالَ: جَاءَنَا جَابِرُ بْنُ عَبُدِ اللّهِ، فِي أَهْلِنَا. وَرَجُلٌ يَشْتَكِي خُرَاجاً بِهِ أَوْ جِرَاحاً. فَقَالَ: مَا تَشْتَكِي؟ قَالَ: خُرَاجٌ بِي قَدْ شَقّ عَلَيّ. فَقَالَ: يَا غُلاَمُ ائْتِنِي بِحَجّامٍ. فَقَالَ لَهُ: مَا تَصْنَعُ بِالْحجّامِ؟ يَا أَبَا عَبْدِ اللّهِ قَالَ: أُرِيدُ أَنْ أُعَلّقَ فِيهِ مِحْجَماً. قَالَ: وَاللّهِ إِنّ الذّبَابَ لَيُصِيبُنِي، أَوْ يُصِيبُنِي الثّوْبُ، فَيُؤْذِينِي، وَيَشُقّ عَلَيّ. فَلَمّا رَأَىَ تَبَرّمَهُ مِنْ ذَلَكَ قَالَ: إِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَدْوِيَتِكُمْ خَيْرٌ، فَفِي شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أَوْ شَرْبَةٍ مِنْ عَسَلٍ، أَوْ لَذْعَةٍ بِنَارٍ". قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَمَا أُحِبّ أَنْ أَكْتَوِيَ" قَالَ فَجَاءَ بِحَجّامٍ فَشَرَطَهُ، فَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ رُمْحٍ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ أُمّ سَلَمَةَ اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْحِجَامَةِ. فَأَمَرَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَبَا طَيْبَةَ أَنْ يَحْجُمَهَا.
قَالَ: حَسِبْتُ أَنّهُ قَالَ: كَانَ أَخَاهَا مِنَ الرّضَاعَةِ، أَوْ غُلاَماً لَمْ يَحْتَلِمْ.
حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ (قَالَ يَحْيَىَ وَاللّفْظ لَهُ : أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا) أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ جَابِرٍ. قَالَ: بَعَثَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَىَ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيباً. فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقاً. ثُمّ كَوَاهُ عَلَيْهِ.
وحدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ. ح وَحَدّثَنِي إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ. كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَلَمْ يَذْكُرَا: فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقاً.
وحدّثني بِشْرُ بْنُ خَالِدٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدٌ (يَعْنِي ابْنَ جَعْفَرٍ) عَنْ شُعْبَةَ. قَالَ: سَمِعْتُ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ قَال: رُمِيَ أُبَيّ يَوْمَ الأَحْزَابِ عَلَى أَكْحلِهِ فَكَوَاهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ. حَدّثَنَا زُهَيْرٌ. حَدّثَنَا أَبُو الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَة عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: رُمِيَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ فِي أَكْحَلِهِ. قَالَ: فَحَسَمَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ بِمِشْقَصٍ ثُمّ وَرِمَتْ فَحَسَمَهُ الثّانِيَةَ.
حدّثني أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدّارِمِيّ. حَدّثَنَا حَبّانُ بْنُ هِلاَلٍ. حَدّثَنَا وُهَيْبٌ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم احْتَجَمَ. وَأَعْطَى الْحَجّامَ أَجْرَهُ. وَاسْتَعَطَ.
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ (قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ. وَقَالَ أَبُو كُرَيْبٍ وَاللّفْظ لَهُ : أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ) عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ الأَنْصَارِيّ. قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: احْتَجَمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ لاَ يَظْلِمُ أَحَداً أَجْرَهُ.
وحدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي وَمُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ "إِنّ شِدّةَ الْحُمّىَ مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ. فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ".
وحدّثني هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. حَدّثَنِي مَالِكٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي فُدَيْكٍ. أَخْبَرَنَا الضّحّاكُ (يَعْنِي ابْنَ عُثْمَانَ). كِلاَهُمَا عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحُمّىَ مِنْ فَيْحِ جَهَنّمّ. فَأَطْفِؤُهَا بِالْمَاءِ".
حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَكَمِ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ. ح وَحَدّثَنِي هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ (وَاللّفْظ لَهُ). حَدّثَنَا رَوْحٌ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "الْحُمّىَ مِنْ مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ. فَأَطِفؤهَا بِالْمَاءِ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْحُمّىَ مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ. فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ".
وحدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ وَ عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ. جَمِيعاً عَنْ هِشَامٍ ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ فَاطِمَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ أَنّهَا كَانَتْ تُؤْتَىَ بِالْمَرْأَةِ الْمَوْعُوكَةِ. فَتَدْعُو بِالْمَاءِ فَتَصُبّهُ فِي جَيْبِهَا. وَتَقُولُ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "ابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ". وَقَالَ: "إِنّهَا مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ".
وحدّثناه أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ وَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ: صَبّتِ الْمَاءَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ جَيْبِهَا. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ أَبِي أُسَامَةَ "أَنّهَا مِنْ فَيْحِ جَهَنّمَ".
قَالَ أَبُو أَحْمَدَ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ بِشْرٍ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، بِهَذَا الاْسْنَادِ.
حدّثنا هَنّادُ بْنُ السّرِيّ. حَدّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ، عَنْ جَدّهِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّ الْحُمّىَ فَوْرٌ مِنْ جَهَنّمَ. فَابْرُدُوهَا بِالْمَاءِ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيَ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ. حَدّثَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "الْحُمّىَ مِنْ فَوْرِ جَهَنّمَ فَابْرُدُوهَا عَنْكُمْ بِالْمَاءِ" وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو بَكْرٍ "عَنْكُمْ" وَقَالَ: قَالَ: أَخْبَرَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله" الدواء بفتح الدال ممدود، وحكى جماعات منهم الجوهري فيه لغة بكسر الدال، قال القاضي: هي لغة الكلابيين وهو شاذ، وفي هذا الحديث إشارة إلى استحباب الدواء وهو مذهب أصحابنا وجمهور السلف وعامة الخلف، قال القاضي: في هذه الأحاديث جمل من علوم الدين والدنيا وصحة علم الطب وجواز التطبب في الجملة واستحبابه بالأمور المذكورة في هذه الأحاديث التي ذكرها مسلم، وفيها رد على من أنكر التداوي من غلاة الصوفية، وقال كل شيء بقضاء وقدر فلا حاجة إلى التداوي، وحجة العلماء هذه الأحاديث، ويعتقدون أن الله تعالى هو الفاعل، وأن التداوي هو أيضاً من قدر الله، وهذا كالأمر بالدعاء وكالأمر بقتال الكفار وبالتحصن ومجانبة الإلقاء باليد إلى التهلكة، مع أن الأجل لا يتغير والمقادير لا تتأخر ولا تتقدم عن أوقاتها ولا بد من وقوع المقدرات والله أعلم. قال الإمام أبو عبد الله المازري: ذكر مسلم هذه الأحاديث الكثيرة في الطب والعلاج، وقد اعترض في بعضها من في قلبه مرض فقال الأطباء: مجمعون على أن العسل مسهل فكيف يوصف لمن به الإسهال؟ ومجمعون أيضاً أن استعمال المحموم الماء البارد مخاطرة قريب من الهلاك لأنه يجمع المسام ويحقن البخار ويعكس الحرارة إلى داخل الجسم فيكون سبباً للتلف، وينكرون أيضاً مداواة ذات الجنب بالقسط مع ما فيه من الحرارة الشديدة ويرون ذلك خطراً، قال المازري: وهذا الذي قاله هذا المعترض جهالة بينة وهو فيها كما قال الله تعالى: {بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه} ونحن نشرح الأحاديث المذكورة في هذا الموضع فنقول: قوله صلى الله عليه وسلم: "لكل داء دواء فإذا أصيب دواء الداء برئ بإذن الله" فهذا فيه بيان واضح لأنه قد علم أن الأطباء يقولون المرض هو خروج الجسم عن المجرى الطبيعي والمداواة رده إليه وحفظ الصحة بقاؤه عليه فحفظها يكون بإصلاح الأغذية وغيرها، ورده يكون بالموافق من الأدوية المضادة للمرض، وبقراط يقول: الأشياء تداوى بأضدادها، ولكن قد يدق ويغمض حقيقة المرض وحقيقة طبع الدواء فيقل الثقة بالمضادة، ومن ههنا يقع الخطأ من الطبيب فقط، فقد يظن العلة عن مادة حارة فيكون عن غير مادة أو عن مادة باردة أو عن مادة حارة دون الحرارة التي ظنها فلا يحصل الشفاء، فكأنه صلى الله عليه وسلم نبه بآخر كلامه على ما قد يعارض به أوله فيقال قلت: لكل داء دواء ونحن نجد كثيرين من المرضى يداوون فلا يبرؤون، فقال: إنما ذلك لفقد العلم بحقيقة المداواة لا لفقد الدواء وهذا واضح والله أعلم.
وأما الحديث الاَخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم أو شربة من عسل أو لذعة بنار" فهذا من بديع الطب عند أهله لأن الأمراض الامتلائية دموية أو صفراوية أو سوداوية أو بلغمية، فإن كانت دموية فشفاؤها إخراج الدم، وإن كانت من الثلاثة الباقية فشفاؤها بالإسهال بالمسهل اللائق لكل خلط منها، فكأنه نبه صلى الله عليه وسلم بالعسل على المسهلات، وبالحجامة على إخراج الدم بها وبالفصد ووضع العلق وغيرها مما في معناها، وذكر الكي لأنه يستعمل عند عدم نفع الأدوية المشروبة ونحوها فآخر الطب الكي. وقوله صلى الله عليه وسلم: "ما أحب أن أكتوي" إشارة إلى تأخير العلاج بالكي حتى يضطر إليه لما فيه من استعمال الألم الشديد في دفع ألم قد يكون أضعف من ألم الكي. وأما ما اعترض به الملحد المذكور فنقول في إبطاله أن علم الطب من أكثر العلوم احتياجاً إلى التفصيل. حتى أن المريض يكون الشيء دواءه في ساعة ثم يصير داء له في الساعة التي تليها بعارض يعرض من غضب يحمي مزاجه فيغير علاجه أو هواء يتغير أو غير ذلك بما لا تحصى كثرته، فإذا وجد الشفاء بشيء في حالة بالشخص لم يلزم منه الشفاء به في سائر الأحوال، وجميع الأشخاص والأطباء مجمعون على أن المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السن والزمان والعادة والغذاء المتقدمة والتدبير المألوف وقوة الطباع، فإذا عرفت ما ذكرناه فاعلم أن الإسهال يحصل من أنواع كثيرة منها الإسهال الحادث من التخم والهيضات، وقد أجمع الأطباء في مثل هذا على أن علاجه بأن يترك الطبيعة وفعلها، وإن احتاجت إلى معين على الإسهال أعينت ما دامت القوة باقية فأما حبسها فضرر عندهم واستعجال مرض، فيحتمل أن يكون هذا الإسهال للشخص المذكور في الحديث أصابه من امتلاء أو هيضة فدواؤه ترك إسهاله على ما هو أو تقويته فأمره صلى الله عليه وسلم بشرب العسل فرآه إسهالاً فزاده عسلاً إلى أن فنيت المادة فوقف الإسهال، ويكون الخلط الذي كان يوافقه شرب العسل، فثبت بما ذكرناه أن العسل جار على صناعة الطب وأن المعترض عليه جاهل لها، ولسنا نقصد الاستظهار لتصديق الحديث بقول الأطباء بل لو كذبوه كذبناهم وكفرناهم، فلو أوجدوا المشاهدة بصحة دعواهم تأولنا كلامه صلى الله عليه وسلم حينئذٍ وخرجناه على ما يصح، فذكرنا هذا الجواب وما بعده عدة للحاجة إليه إن اعتضدوا بمشاهدة، وليظهر به جهل المعترض وأنه لا يحسن الصناعة التي اعترض بها وانتسب إليها، وكذلك القول في الماء البارد للمحموم فإن المعترض يقول على النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يقل، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يقل أكثر من قوله: أبردوها بالماء، ولم يبين صفته وحالته، والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها بسقي الماء البارد الشديد البرودة ويسقونه الثلج ويغسلون أطرافه بالماء البارد، فلا يبعد أنه صلى الله عليه وسلم أراد هذا النوع من الحمى والعسل على نحو ما قالوه، وقد ذكر مسلم هنا في صحيحه عن أسماء رضي الله عنها أنها كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة فتصب الماء في جيبها وتقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أبردوها بالماء" فهذه أسماء راوية الحديث وقربها من النبي صلى الله عليه وسلم معلوم تأولت الحديث على نحو ما قلناه، فلم يبق للملحد المعترض إلا اختراعه الكذب واعتراضه به فلا يلتفت إليه، وأما إنكارهم الشفاء من ذات الجنب بالقسط فباطل فقد قال بعض قدماء الأطباء: إن ذات الجنب إذا حدثت من البلغم كان القسط من علاجها. وقد ذكر جالينوس وغيره أنه ينفع من وجع الصدر، وقال بعض قدماء الأطباء: ويستعمل حيث يحتاج إلى إسخان عضو من الأعضاء، وحيث يحتاج إلى أن يجذب الخلط من باطن البدن إلى ظاهره، وهكذا قاله ابن سينا وغيره، وهذا يبطل ما زعمه هذا المعترض الملحد. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فيه سبعة أشفية" فقد أطبق الأطباء في كتبهم على أنه يدر الطمث والبول وينفع من السموم ويحرك شهوة الجماع ويقتل الدود وحب القرع في الأمعاء إذا شرب بعسل، ويذهب الكلف إذا طلي عليه، وينفع من برد المعدة والكبد ويردهما، ومن حمى الورد والربع وغير ذلك وهو صنفان بحري وهندي، والبحري هو القسط الأبيض وهو أكثر من صنفين، ونص بعضهم أن البحري أفضل من الهندي وهو أقل حرارة منه، وقيل هما حاران يابسان في الدرجة الثالثة، والهندي أشد حراً في الجزء الثالث من الحرارة. وقال ابن سينا: القسط حار في الثالثة يابس في الثانية، فقد اتفق العلماء على هذه المنافع التي ذكرناها في القسط فصار ممدوحاً شرعاً وطباً، وإنما عددنا منافع القسط من كتب الأطباء لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر منها عدداً مجملاً. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام" فيحمل أيضاً على العلل الباردة على نحو ما سبق في القسط وهو صلى الله عليه وسلم قد يصف بحسب ما شاهده من غالب أحوال أصحابه رضي الله عنهم.
وذكر القاضي عياض كلام المازري الذي قدمناه ثم قال: وذكر الأطباء في منفعة الحبة السوداء التي هي الشونيز أشياء كثيرة وخواص عجيبة يصدقها قوله صلى الله عليه وسلم فيها، فذكر جالينوس أنها تحل النفخ وتقل ديدان البطن إذا أكل أو وضع على البطن، وتنفي الزكام إذا قلي وصر في خرقة وشم، وتزيل العلة التي تقشر منها الجلد، ويقلع الثآليل المتعلقة والمنكسة والخيلان، وتدر الطمث المنحبس إذا كان انحباسه من أخلاط غليظة لزجة، وينفع الصداع إذا طلي به الجبين، وتقلع البثور والجرب، وتحلل الأورام البلغمية إذا تضمد به مع الخل، وتنفع من الماء العارض في العين إذا استعط به مسحوقاً بدهن الارليا وتنفع من انتصاب النفس ويتمضمض به من وجع الأسنان وتدر البول واللبن وتنفع من نهشة الرتيلا، وإذا بخر به طرد الهوام. قال القاضي: وقال غير جالينوس خاصيته إذهاب حمى البلغم والسوداء وتقتل حب القرع، وإذا علق في عنق المزكوم نفعه وينفع من حمى الربع، قال: ولا يبعد منفعة الحار من أدواء حارة بخواص فيها فقد نجد ذلك في أدوية كثيرة فيكون الشونيز منها لعموم الحديث ويكون استعماله أحياناً منفرداً وأحياناً مركباً. قال القاضي: وفي جملة هذه الأحاديث ما حواه من علوم الدين والدنيا وصحة علم الطب وجواز التطبب في الجملة واستحبابه بالأمور المذكورة من الحجامة وشرب الأدوية والسعوط واللدود وقطع العروق والرقى، قال: قوله صلى الله عليه وسلم: "أنزل الدواء الذي أنزل الداء" هذا إعلام لهم وإذن فيه، وقد يكون المراد بإنزاله إنزال الملائكة الموكلين بمباشرة مخلوقات الأرض من داء ودواء، قال: وذكر بعض الأطباء في قوله صلى الله عليه وسلم: (شرطة محجم أو شربة عسل أو لذعة بنار) أنه إشارة إلى جميع ضروب المعافاة والله أعلم.
قوله: (ان جابر بن عبد الله عاد المقنع) هو بفتح القاف والنون المشددة. قوله: (يشتكي خراجاً) هو بضم الخاء وتخفيف الراء. قوله: (أعلق فيه محجماً) هو بكسر الميم وفتح الجيم وهي الاَلة التي تمص ويجمع بها موضع الحجامة. وأما قوله: (شرطة محجم) فالمراد بالمحجم هنا الحديدة التي يشرط بها موضع الحجامة ليخرج الدم. قوله: (فلما رأى تبرمه) أي تضجره وسآمته منه.
قوله: (عن جابر بن عبد الله قال رمى أبي يوم الأحزاب على أكحله فكواه رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقوله أبي بضم الهمزة وفتح الباء وتشديد الياء وهكذا صوابه وكذا هو في الروايات والنسخ وهو أبي بن كعب المذكور في الرواية التي قبل هذه، وصحفه بعضهم فقال: بفتح الهمزة وكسر الباء وتخفيف الياء وهو غلط فاحش لأن أبا جابر استشهد يوم أحد قبل الأحزاب بأكثر من سنة، وأما الأكحل فهو عرق معروف قال الخليل: هو عرق الحياة يقال هو نهر الحياة ففي كل عضو شعبة منه وله فيها اسم متفرد فإذا قطع في اليد لم يرقأ الدم. وقال غيره: هو عرق واحد يقال له في اليد الأكحل، وفي الفخذ النسا، وفي الظهر الأبهر، وأما الكلام في أجرة الحجام فسبق.
قوله: (فحسمه) أي كواه ليقطع دمه وأصل الحسم القطع.
قوله صلى الله عليه وسلم: "الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء" وفي رواية: "من فور جهنم" هو بفتح الفاء فيهما وهو شدة حرها ولهبها وانتشارها. وأما (ابردوها) فبهمزة وصل وبضم الراء يقال بردت الحمى أبردها برداً على وزن قتلتها أقتلها قتلاً أي أسكنت حرارتها وأطفأت لهبها كما قال في الرواية الأخرى: (فأطفئوها بالماء) وهذا الذي ذكرناه من كونه بهمزة وصل وضم الراء هو الصحيح الفصيح المشهور في الروايات وكتب اللغة وغيرها. وحكى القاضي عياض في المشارق أنه يقال بهمزة قطع وكسر الراء في لغة قد حكاه الجوهري وقال هي لغة رديئة، وفي هذا الحديث دليل لأهل السنة أن جهنم مخلوقة الاَن موجودة.
قوله: (عن أسماء أنها كانت تؤتى بالمرأة الموعوكة فتدعو بالماء فتصبه في جيبها وتقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبردوها بالماء) وفي رواية: (صبت الماء بينها وبين جيبها) قال القاضي: هذا يرد قول الأطباء ويصحح حصول البرء باستعمال المحموم الماء وأنه على ظاهره لا على ما سبق من تأويل المازري، قال: ولولا تجربة أسماء والمسلمين لمنفعته لما استعملوه.
*2* باب كراهة التداوي باللدود
*حدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ سُفْيَانَ. حَدّثَنِي مُوسَى بْنُ أَبِي فعَائِشَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَدَدْنَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ. فَأَشَارَ أَنْ لاَ تَلُدّونِي. فَقُلْنَا: كَرَاهِيَةُ الْمَرِيضِ لِلدّوَاءِ. فَلَمّا أَفَاقَ قَالَ: "لاَ يَبْقَىَ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلاّ لُدّ. غَيْرُ الْعَبّاسِ. فَإِنّهُ لَمْ يَشْهَدْكُمْ".
قولها: (لددنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه فأشار أن لا تلدوني فقلنا كراهية المريض للدواء فلما أفاق قال لا يبقى منكم أحد إلا لد غير العباس فإنه لم يشهدكم) قال أهل اللغة: اللدود بفتح اللام هو الدواء الذي يصب في أحد جانبي فم المريض ويسقاه أو يدخل هناك بأصبع وغيرها ويحنك به ويقال منه لددته ألده، وحكى الجوهري أيضاً ألددته رباعياً والتددت أنا، قال الجوهري: ويقال للدود لديد أيضاً وإنما أمر صلى الله عليه وسلم بلدهم عقوبة لهم حين خالفوه في إشارته إليهم لا تلدوني ففيه أن الإشارة المفهمة كصريح العبارة في نحو هذه المسألة، وفيه تعزير المتعدي بنحو من فعله الذي تعدى به إلا أن يكون فعلاً محرماً.
*2* باب التداوي بالعود الهنديّ، وهو الكست
*حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّمِيميّ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ وَاللّفْظُ لِزُهَيْرٍ (قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرُونَ: حَدّثَنَا) سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أُمّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أُخْتِ عُكَاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ. قَالَتْ: دَخَلْتُ بِابْنٍ لِي عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. لَمْ يَأْكُلِ الطّعَامَ. فَبَالَ عَلَيْهِ. فَدَعَا بِمَاءٍ فَرَشّهُ.
قالت: ودخلت عليه بابن لي. قد أعلقت عليه من العذرة. فقال"علامه تذعرن أولادكن بهذا العلاق؟ عليكن بهذا العود الهندي. فإن فيه سبعة أشفية. منها ذات الجنب. يسعط من العذرة، ويلد من ذات الجنب."
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ أَنّ ابْنَ شِهَابٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مسْعُودٍ أَنّ أُمّ قَيْسٍ بِنْتَ مِحْصَنٍ وَكَانَتْ مِنَ الْمُهَاجِرَاتِ الأُوَلِ اللاّتِي بَايَعْنَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهِيَ أُخْتُ عُكّاشَةَ بْنِ مِحْصَنٍ، أَحَدِ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي أَنّهَا أَتَتْ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِابْنٍ لَهَا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَأْكُلَ الطّعَامَ. وَقَدْ أَعْلَقَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعُذْرَةِ (قَالَ يُونُسُ: أَعْلَقَتْ غَمَزَتْ فَهْيَ تَخَافُ أَنْ تَكُونَ بِهِ عُذْرَةٌ) قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "عَلاَمَ تَدْغَرْنَ أَوْلاَدَكُنّ بِهَذَا الإِعْلاَقِ؟ عَلَيْكُنّ بِهَذَا الْعُودِ الْهِنْدِيّ (يَعْنِي بِهِ الْكُسْتَ) فَإِنّ فِيهِ سَبْعَةَ أَشْفِيَةٍ. مِنْهَا ذَاتُ الْجَنْبِ".
قَالَ عُبَيْدُ اللّهِ: وَأَخْبَرَتْنِي أَنّ ابْنَهَا، ذَاكَ، بَالَ فِي حَجْرِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ عَلَىَ بَوْلِهِ وَلَمْ يَغْسِلْهُ غَسْلاً.
قولها: (دخلت عليه بابن لي قد أعلقت عليه من العذرة فقال علام تدغرن أولادكن بهذا العلاق عليكن بهذا العود الهندي فإن فيه سبعة أشفية منها ذات الجنب يسعط من العذرة ويلد من ذات الجنب) أما قولها: أعلقت عليه فهكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم عليه، ووقع في صحيح البخاري من رواية معمر وغيره عليه فأعلقت عليه كما هنا، ومن رواية سفيان بن عيينة فأعلقت عنه بالنون وهذا هو المعروف عند أهل اللغة، قال الخطابي: المحدثون يروونه أعلقت عليه والصواب عنه وكذا قاله غيره، وحكاهما بعضهم لغتين أعلقت عنه وعليه، ومعناه عالجت وجع لهاته بأصبعي، وأما العذرة فقال العلماء: هي بضم العين وبالذال المعجمة وهي وجع في الحلق يهيج من الدم يقال في علاجها عذرته فهو معذور، وقيل هي قرحة تخرج في الخرم الذي بين الحلق والأنف تعرض للصبيان غالباً عند طلوع العذرة، وهي خمسة كواكب تحت الشعرى العبور وتسمى العذارى وتطلع في وسط الحز، وعادة النساء في معالجة العذرة أن تأخذ المرأة خرقة فتفتلها فتلاً شديداً وتدخلها في أنف الصبي وتطعن ذلك الموضع فينفجر منه دم أسود وربما أقرحته وذلك الطعن يسمى دغراً وغدراً، فمعنى تدغرن أولادكن أنها تغمز حلق الولد بأصبعها فترفع ذلك الموضع وتكبسه، وأما العلاق فبفتح العين، وفي الرواية الأخرى الاعلاق وهو الأشهر عند أهل اللغة حتى زعم بعضهم أنه الصواب. وأن العلاق لا يجوز، قالوا: والأعلاق مصدر أعلقت عنه ومعناه أزلت عنه العلوق وهي الاَفة والداهية، والاعلاق هو معالجة عذرة الصبي وهي وجع حلقه كما سبق، قال ابن الأثير: ويجوز أن يكون العلاق هو الاسم منه، وأما ذات الجنب فعلة معروفة، والعود الهندي يقال له القسط والكست لغتان مشهورتان. قوله صلى الله عليه وسلم: "علامه تدغرن أولادكن" هكذا هو في جميع النسخ علامه وهي هاء السكت ثبتت هنا في الدرج.
*2* باب التداوي بالحبة السوداء
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رُمْحِ بْنِ الْمُهَاجِرِ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُمَا أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّ فِي الْحَبّةِ السّوْدَاءِ شِفَاءً مِنْ كُلّ دَاءٍ. إِلاّ السّامَ". وَالسّامُ: الْمَوْتُ. وَالْحَبّةُ السّوْدَاءُ: الشّونِيزُ.
وحدّثنيهِ أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ. قَالُوا: حَدّثَنَا سُفْيَان بْنُ عُيَيْنَةَ ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ. كُلّهُمْ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِ حَدِيثِ عُقَيْلٍ. وَفِي حَدِيثِ سُفْيَانَ وَيُونُسَ: الْحَبّةُ السّوْدَاءُ. وَلَمْ يَقُلِ: الشّونِيزُ.
وحدّثنا يحيى بن أيوب و قتيبة بن سعيد و ابن حجر. قالوا: حدثنا إسماعيل(وهو ابن جعفر) عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما من داء، إلاّ في الحبة السوداء منه شفاء. إلاّ السّامَ."
قوله: (والحبة السوداء الشونيز) هذا هو الصواب المشهور الذي ذكره الجمهور، قال القاضي: وذكر الحربي عن الحسن أنها الخردل، قال: وقيل هي الحبة الخضراء وهي البطم والعرب تسمي الأخضر أسود، ومنه سواد العراق لخضرته بالأشجار، وتسمي الأسود أيضاً أخضر.
*2* باب التلبينة مجمة لفوائد المريض
*حدّثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. حَدّثَنِي أَبِي عَنْ جَدّي. حَدّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهَا كَانَتْ، إِذَا مَاتَ الْمَيّتُ مِنْ أَهْلِهَا، فَاجْتَمَعَ لِذَلِكَ النّسَاءُ، ثُمّ تَفَرّقْنَ إِلاّ أَهْلَهَا وَخَاصّتَهَا أَمَرَتْ بِبُرْمَةٍ مِنْ تَلْبِينَةٍ فَطُبِخَتْ. ثُمّ صُنِعَ ثَرِيدٌ. فَصُبّتِ التّلْبِينَةُ عَلَيْهَا. ثُمّ قَالَتْ: كُلْنَ مِنْهَا. فَإِنّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "التَلْبِيْنَةُ مُجِمّةٌ لِفُؤَادِ الْمَرِيضِ. تُذْهِبُ بَعْضَ الْحُزْنِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "التلبينة مجمة لفؤاد المريض وتذهب بعض الحزن" أما مجمة فبفتح الميم والجيم ويقال بضم الميم وكسر الجيم أي تريح فؤاده وتزيل عنه الهم وتنشطه، والجمام المستريح كأهل النشاط، وأما التلبينة فبفتح التاء وهي حساء من دقيق أو نخالة، قالوا: وربما جعل فيها عسل، قال الهروي وغيره: سميت تلبينة تشبيهاً باللبن لبياضها ورقتها. وفيه استحباب التلبينة للمحزون.
*2* باب التداوي بسقي العسل
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ الْمِثَنّى) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكّلِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ. قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنّ أَخِي اسْتَطْلَقَ بَطْنُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "اسْقِهِ عَسَلاً" فَسَقَاهُ. ثُمّ جَاءَهُ فَقَالَ: إِنّي سَقَيْتُهُ عَسَلاً فَلَمْ يَزِدْهُ إِلاّ اسْتِطْلاَقاً. فَقَالَ لَهُ ثَلاَثَ مَرّاتٍ. ثُمّ جَاءَ الرّابِعَةَ فَقَالَ: "اسْقِهِ عَسَلاً" فَقَالَ: لَقَدْ سَقَيْتُهُ فَلَمْ يَزِدْهُ إِلاّ اسْتِطْلاَقاً. فَقَال رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقَ اللّهُ. وَكَذَبَ بَطْنُ أَخِيكَ" فَسَقَاهُ فَبَرَأَ.
وحدّثنيهِ عَمْرُو بْنُ زُرَارَةَ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ (يَعْنِي ابْنَ عَطَاءٍ) عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكّلِ النّاجِي، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، أَنّ رَجُلاً أَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنّ أَخِي عَرِبَ بَطْنُهُ. فَقَالَ لَهُ: "اسْقِهِ عَسَلاً" بِمَعْنَىَ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
قوله: "إن أخي عرب بطنه" هو بفتح العين وكسر الراء معناه فسدت معدته. قوله صلى الله عليه وسلم: (صدق الله وكذب بطن أخيك) المراد قوله تعالى: {يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس} وهو العسل، وهذا تصريح منه صلى الله عليه وسلم بأن الضمير في قوله تعالى: {فيه شفاء} يعود إلى الشراب الذي هو العسل وهو الصحيح، وهو قول ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم، وقال مجاهد: الضمير عائد إلى القرآن وهذا ضعيف مخالف لظاهر القرآن ولصريح هذا الحديث الصحيح، قال بعض العلماء: الاَية على الخصوص أي شفاء من بعض الأدواء ولبعض الناس، وكان داء هذا المبطون مما يشفى بالعسل، وليس في الاَية تصريح بأنه شفاء من كل داء، ولكن علم النبي صلى الله عليه وسلم أن داء هذا الرجل مما يشفى بالعسل والله أعلم.
*2* باب الطاعون والطيرة والكهانة ونحوها
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ وَ أَبِي النّضْرِ، مَوْلَىَ عُمَرَ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَ قّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطّاعُونِ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "الطّاعُونُ رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ أُرْسِلَ عَلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ عَلَىَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ. فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ. وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ".
وَقَالَ أَبُو النّضْرِ: "فَلاَ يُخْرِجُكُمْ إِلاّ فِرَارٌ مِنْهُ".
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا الْمُغِيرَةُ (وَنَسَبَهُ ابْنُ قَعْنَبٍ فَقَالَ: ابْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْقُرَشِيّ) عَنْ أَبِي النّضْرِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "الطّاعُونُ آيَةُ الرّجْزِ. ابْتَلَىَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ بِهِ نَاساً مِنْ عِبَادِهِ. فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ، فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِ. وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَفِرّوا مِنْهُ".
هَذَا حَدِيثُ الْقَعْنَبِيّ، وَقُتَيْبَةَ نَحْوُهُ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أُسَامَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنّ هَذَا الطّاعُونَ رِجْزٌ سُلّطَ عَلَىَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، أَوْ عَلَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَاراً مِنْهُ. وَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بَكْرٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ. أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ أَنّ عَامِرَ بْنَ سَعْدٍ أَخْبَرَهُ أَنّ رَجُلاً سَأَلَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقّاصٍ عَنِ الطّاعُونِ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ: أَنَا أُخْبرُكَ عَنْهُ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "هُوَ عَذَابٌ أَوْ رِجْزٌ أَرْسَلَهُ اللّهُ عَلَىَ طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَوْ نَاسٍ كَانُوا قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بَأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا عَلَيْهِ. وَإِذَا دَخَلَهَا عَلَيْكُمْ، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا فِرَاراً".
وحدّثنا أَبُو الرّبِيعِ، سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالاَ: حَدّثَنَا حَمّادٌ (وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ). ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. كِلاَهُمَا عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِإِسْنَادِ ابْنِ جُرَيْجٍ. نَحْوَ حَدِيثِهِ.
حدّثني أَبُو الطّاهِرِ أَحْمَدُ بْنُ عَمْرٍو وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "إِنّ هَذَا الْوَجَعَ أَوِ السّقَمَ رِجزٌ عُذّبَ بِهِ بَعْضُ الأُمَمِ قَبْلَكُمْ. ثُمّ بَقِيَ بَعْدُ بِالأَرْضِ. فَيَذْهَبُ الْمَرّةَ وَيَأْتِي الأُخْرَىَ. فَمَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلاَ يَقْدَمَنّ عَلَيْهِ. وَمَنْ وَقَعَ بِأَرْضٍ وَهُوَ بِهَا، فَلاَ يُخْرِجَنّهُ الْفِرَارُ مِنْهُ".
وحدّثناه أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ (يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ). حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ. بِإِسْنَادِ يُونُسَ. نَحْوَ حَدِيثِهِ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ عَنْ شُعْبَةَ. عَنْ حَبِيبٍ. قَالَ: كُنّا بِالْمَدِينَةِ فَبَلَغَنِي أَنّ الطّاعُونَ قَدْ وَقَعَ بِالْكُوفَةِ. فَقَالَ لِي عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ وَغَيْرُهُ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا كُنْتَ بِأَرْضٍ فَوَقَعَ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجْ مِنْهَا. وَإِذَا بَلَغَكَ أَنّهُ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلْهَا" قَالَ قُلْتُ: عَمّنْ؟ قَالُوا: عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ يُحَدّثُ بِهِ. قَالَ فَأَتَيْتُهُ فَقَالُوا: غَائِبٌ. قَالَ فَلَقِيتُ أَخَاهُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ فَسَأَلْتُهُ؟ فَقَالَ: شَهِدْتُ أُسَامَةَ يُحَدّثُ سَعْداً قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّ هَذَا الْوَجَعَ رِجْزٌ أَوْ عَذَابٌ أَوْ بَقِيّةُ عَذَابٍ عُذّبَ بِهِ أُنَاسٌ مِنْ قَبْلِكُمْ. فَإِذَا كَانَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهَا. وَإِذَا بَلَغَكُمْ أَنّهُ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَدْخُلُوهَا".
قَالَ حَبِيبٌ: فَقُلْتُ لإِبْرَاهِيمَ: آنْتَ سَمِعْتَ أُسامَةَ يُحَدّثُ سَعْداً وَهُوَ لاَ يُنْكِرُ؟ قَالَ: نَعَمْ.
وحدّثناه عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الاْسْنَادِ. غَيْرَ أَنّهُ لَمْ يَذْكُرْ قِصّةَ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ فِي أَوّلِ الْحَدِيثِ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ سَعْدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ وَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ وَ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَىَ حَدِيثِ شُعْبَةَ.
وحدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. كِلاَهُمَا عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ حَبِيبٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ قَالَ: كَانَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَسَعْدٌ جَالِسَيْنِ يَتَحَدّثَانِ. فَقَالاَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ.
وحدّثنيهِ وَهْبُ بْنُ بَقِيّةَ. أَخْبَرَنَا خَالِدٌ (يعْنِي الطّحّانَ) عَنِ الشّيْبَانِيّ، عَنْ حَبِيبِ ابْنِ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِنَحْوِ حَدِيثِهِمْ.
حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ التّمِيمِيّ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطّابِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ نَوْفَلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ أَنّ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ خَرَجَ إِلَىَ الشّامِ. حَتّىَ إِذَا كَانَ بِسَرْغٍ لَقِيَهُ أَهْلُ الأَجْنَادِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ وَأَصْحَابُهُ. فَأَخْبَرُوهُ أَنّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشّامِ.
قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: فَقَالَ عُمَرُ: ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الأَوّلِينَ فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشّامِ. فَاخْتَلَفُوا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ وَلاَ نَرَىَ أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيّةُ النّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلاَ نَرَىَ أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَىَ هَذَا الْوَبَاءِ. فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنّي. ثُمّ قَالَ: ادْعُ لِيَ الأَنْصَارِ فَدَعَوْتُهُمْ لَهُ. فَاسْتَشَارَهُمْ. فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ. وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلاَفِهِمْ. فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنّي. ثُمّ قَالَ: ادْعُ لِي مَنْ كَانَ ههُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ. فَدَعَوْتَهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ عَلَيْهِ رَجُلاَنِ. فَقَالُوا: نَرَىَ أَنْ تَرْجِعَ بِالنّاسِ وَلاَ تُقْدِمَهُمْ عَلَىَ هَذَا الْوَبَاءِ. فَنَادَىَ عُمَرُ فِي النّاسِ: إِنّي مُصْبِحٌ عَلَىَ ظَهْرٍ. فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرّاحِ: أَفِرَاراً مِنْ قَدَرِ اللّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ (وَكَانَ عُمَرُ يَكْرَهُ خِلاَفَهُ) نَعَمْ. نَفِرّ مِنْ قَدَرِ اللّهِ إِلَىَ قَدَرِ اللّهِ. أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ لَكَ إِبِلٌ فَهَبَطَتْ وَادِياً لَهُ عُدْوَتَانِ. إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالأُخْرَىَ جَدِبَةٌ أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ مُتَغَيّباً فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ. فَقَالَ: إِنّ عِنْدِي مِنْ هَذَا عِلْماً. سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ. وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ".
قَالَ: فَحَمِدَ اللّهَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ ثُمّ انْصَرَفَ.
وحدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (قَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا وَقَالَ الاَخَرَانِ: أَخْبَرَنَا) عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمرٌ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ، وَزَادَ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ قَالَ وَقَالَ لَهُ أَيْضاً: أَرَأَيْتَ أَنّهُ لَوْ رَعَىَ الْجَدْبَةَ وَتَرَكَ الْخَصْبَةَ أَكُنْتَ مُعَجّزَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَسِرْ إِذاً. قَالَ: فَسَارَ حَتّىَ أَتَىَ الْمَدِينَةَ. فَقَالَ: هَذَا الْمَحَلّ أَوْ قَالَ: هَذَا الْمَنْزِلُ إِنْ شَاءَ اللّهُ.
وحدّثنيهِ أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ بِهَذَا الاْسْنَادِ، غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: إِنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الْحَارِثِ حَدّثَهُ. وَلَمْ يَقُلْ: عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ.
وحدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ أَنّ عُمَرَ خَرَجَ إِلَىَ الشّامِ، فَلَمّا جَاءَ سَرْغَ بَلَغَهُ أَنّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشّامِ. فَأَخْبَرَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ، فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ. وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً مِنْهُ" فَرَجَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ مِنْ سَرْغَ.
وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ أَنّ عُمَرَ إِنّمَا انْصَرَفَ بِالنّاسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ.
قوله صلى الله عليه وسلم في الطاعون: "أنه رجز أرسل على بني إسرائيل أو على من كان قبلكم فإذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه". وفي رواية: "أن هذا الوجع أو السقم رجز عذب به بعض الأمم قبلكم ثم بقي بعد بالأرض فيذهب المرة ويأتي الأخرى فمن سمع به بأرض فلا يقدمن عليه ومن وقع بأرض وهو بها فلا يخرجنه الفرار منه" وفي حديث عمر رضي الله عنه: (أن الوباء وقع بالشام) أما الوباء فمهموز مقصور وممدود لغتان القصر أفصح وأشهر، وأما الطاعون فهو قروح تخرج في الجسد فتكون في المرافق أو الاَباط أو الأيدي أو الأصابع وسائر البدن ويكون معه ورم وألم شديد، وتخرج تلك القروح مع لهيب، ويسود ما حواليه أو يخضر أو يحمر حمرة بنفسجية كدرة ويحصل معه خفقان القلب والقيء. وأما الوباء فقال الخليل وغيره: هو الطاعون وقال: هو كل مرض عام. والصحيح الذي قاله المحققون أنه مرض الكثيرين من الناس في جهة من الأرض دون سائر الجهات، ويكون مخالفاً للمعتاد من أمراض في الكثرة وغيرها ويكون مرضهم نوعاً واحداً بخلاف سائر الأوقات فإن أمراضهم فيها مختلفة. قالوا: وكل طاعون وباء وليس كل وباء طاعوناً، والوباء الذي وقع في الشام في زمن عمر كان طاعوناً وهو طاعون عمواس وهي قرية معروفة بالشام، وقد سبق في شرح مقدمة الكتاب في ذكر الضعفاء من الرواة عند ذكره طاعون الجارف بيان الطواعين وأزمانها وعددها وأماكنها ونفائس مما يتعلق بها، وجاء في هذه الأحاديث أنه أرسل على بني إسرائيل أو من كان قبلكم عذاباً لهم، هذا الوصف بكونه عذاباً مختص بمن كان قبلنا، وأما هذه الأمة فهو لها رحمة وشهادة، ففي الصحيحين قوله صلى الله عليه وسلم: "المطعون شهيد". وفي حديث آخر في غير الصحيحين: "أن الطاعون كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء فجعله رحمة للمؤمنين فليس من عبد يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً يعلم أنه لن يصبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد" وفي حديث آخر: "الطاعون شهادة لكل مسلم" وإنما يكون شهادة لمن صبر كما بينه في الحديث المذكور، وفي هذه الأحاديث منع القدوم على بلد الطاعون ومنع الخروج منه فراراً من ذلك، أما الخروج لعارض فلا بأس به، وهذا الذي ذكرناه هو مذهبنا ومذهب الجمهور. قال القاضي: هو قول الأكثرين، قال: حتى قالت عائشة: (الفرار منه كالفرار من الزحف) قال: ومنهم من جوز القدوم عليه والخروج منه فراراً، قال: وروي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأنه ندم على رجوعه من سرغ. وعن أبي موسى الأشعري ومسروق والأسود بن هلال أنهم فروا من الطاعون. وقال عمرو بن العاص: فروا عن هذا الرجز في الشعاب والأودية ورؤوس الجبال فقال معاذ: بل هو شهادة ورحمة، ويتأول هؤلاء النهي على أنه لم ينه عن الدخول عليه والخروج منه مخافة أن يصيبه غير المقدر لكن مخافة لفتنة على الناس لئلا يظنوا أن هلاك القادم إنما حصل بقدومه وسلامه الفار إنما كانت بفراره، قالوا: وهو من نحو النهي عن الطيرة والقرب من المجذوم. وقد جاء عن ابن مسعود قال: الطاعون فتنة على المقيم والفار، أما الفار فيقول: فررت فنجوت، وأما المقيم فيقول: أقمت فمت، وإنما فر من لم يأت أجله، وأقام من حضر أجله، والصحيح ما قدمناه من النهي عن القدوم عليه والفرار منه لظاهر الأحاديث الصحيحة، قال العلماء: وهو قريب المعنى من قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا" وفي هذا الحديث الاحتراز من المكاره وأسبابها، وفيه التسليم لقضاء الله عند حلول الاَفات والله أعلم. واتفقوا على جواز الخروج بشغل وغرض غير الفرار ودليله صريح الأحاديث. قوله في رواية أبي النضر: (لا يخرجكم إلا فرار منه) وقع في بعض النسخ فرار بالرفع، وفي بعضها فراراً بالنصب وكلاهما مشكل من حيث العربية والمعنى، قال القاضي: وهذه الرواية ضعيفة عند أهل العربية مفسدة للمعنى لأن ظاهرها المنع من الخروج لكل سبب إلا للفرار فلا منع منه وهذا ضد المراد. وقال جماعة: إن لفظة إلا هنا غلط من الراوي والصواب حذفها كما هو المعروف في سائر الروايات. قال القاضي: وخرج بعض محققي العربية لرواية النصب وجهاً فقال هو منصوب على الحال، قال: ولفظة إلا هنا للإيجاب لا للاستثناء، وتقديره لا تخرجوا إذا لم يكن خروجكم إلا فراراً منه والله أعلم. واعلم أن أحاديث الباب كلها من رواية أسامة بن زيد. وذكر في الطرق الثلاث في آخر الباب ما يوهم أو يقتضي أنه من رواية سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم. قال القاضي وغيره: هذا وهم إنما هو من رواية سعد عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم والله أعلم.
قوله: (حتى إذا كان بسرغ لقيه أهل الأجناد) أما سرغ فبسين مهملة مفتوحة ثم راء ساكنة ثم غين معجمة. وحكى القاضي وغيره أيضاً فتح الراء والمشهور إسكانها ويجوز صرفه وتركه وهي قرية في طرف الشام مما يلي الحجاز. وقوله أهل الأجناد وفي غير هذه الرواية أمراء الأجناد والمراد بالأجناد هنا مدن الشام الخمس وهي: فلسطين والأردن ودمشق وحمص وقنسرين هكذا فسروه واتفقوا عليه، ومعلوم أن فلسطين اسم لناحية بيت المقدس، والأردن اسم لناحية سيان وطبرية وما يتعلق بهما ولا يضر إطلاق اسم المدينة عليه. قوله: (ادع لي المهاجرين الأولين فدعا ثم دعا الأنصار ثم مشيخة قريش من مهاجرة الفتح) إنما رتبهم هكذا على حسب فضائلهم، قال القاضي: المراد بالمهاجرين الأولين من صلى للقبلتين، فأما من أسلم بعد تحويل القبلة فلا يعد فيهم، قال: وأما مهاجرة الفتح فقيل هم الذين أسلموا قبل الفتح فحصل لهم فضل بالهجرة قبل الفتح إذ لا هجرة بعد الفتح، وقيل هم مسلمة الفتح الذين هاجروا بعده فحصل لهم اسم دون الفضيلة، قال القاضي: هذا أظهر لأنهم الذين ينطلق عليهم مشيخة قريش، وكان رجوع عمر رضي الله عنه لرجحان طرف الرجوع لكثرة القائلين به وأنه أحوط ولم يكن مجرد تقليد لمسلمة الفتح، لأن بعض المهاجرين الأولين وبعض الأنصار أشاروا بالرجوع وبعضهم بالقدوم عليه، وانضم إلى المشيرين بالرجوع رأي مشيخة قريش فكثر القائلين به مع مالهم من السن والخبرة وكثرة التجارب وسداد الرأي، وحجة الطائفتين واضحة مبينة في الحديث وهما مستمدان من أصلين في الشرع: أحدهما: التوكل والتسليم للقضاء. والثاني: الاحتياط والحذر ومجانبة أسباب الإلقاء باليد إلى التهلكة. قال القاضي: وقيل إنما رجع عمر لحديث عبد الرحمن بن عوف كما قال مسلم هنا في روايته عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله قال: إن عمر إنما انصرف بالناس عن حديث عبد الرحمن بن عوف، قالوا: ولأنه لم يكن ليرجع لرأي دون رأي حتى يجد علماً وتأول هؤلاء. قوله: (إني مصبح على ظهر فأصبحوا) فقالوا أي مسافر إلى الجهة التي قصدناها أولاً لا للرجوع إلى المدينة، وهذا تأويل فاسد ومذهب ضعيف، بل الصحيح الذي عليه الجمهور وهو ظاهر الحديث أو صريحه أنه إنما قصد الرجوع أولاً بالاجتهاد حين رأى الأكثرين على ترك الرجوع مع فضيلة المشيرين به وما فيه من الاحتياط، ثم بلغه حديث عبد الرحمن فحمد الله تعالى وشكره على موافقة اجتهاده واجتهاد معظم أصحابه نص رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قول مسلم أنه إنما رجع لحديث عبد الرحمن فيحتمل أن سالماً لم يبلغه ما كان عمر عزم عليه من الرجوع قبل حديث عبد الرحمن له، ويحتمل أنه أراد لم يرجع إلا بعد حديث عبد الرحمن والله أعلم. قوله: (إني مصبح على ظهر فأصبحوا عليه) هو بإسكان الصاد فيهما أي مسافر راكب على ظهر الراحلة راجع إلى وطني فأصبحوا عليه وتأهبوا له. قوله: (فقال أبو عبيدة أفراراً من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة وكان عمر يكره خلافه نعم نفر من قدر الله إلى قدر الله، أرأيت لو كان لك إبل فهبطت وادياً له عدوتان إحداهما خصيبة والأخرى جدبة أليس إن رعيت الخصيبة رعيتها بقدر الله وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟) أما العدوة فبضم العين وكسرها وهي جانب الوادي، والجدبة بفتح الجيم وإسكان الدال المهملة. وهي ضد الخصيبة. وقال صاحب التحرير: الجدبة هنا بسكون الدال وكسرها، قال: والخصبة كذلك. أما قوله: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة فجواب لو محذوف وفي تقديره وجهان ذكرهما صاحب التحرير وغيره: أحدهما: لو قاله غيرك لأدبته لاعتراضه علي في مسألة اجتهادية وافقني عليها أكثر الناس وأهل الحل والعقد فيها. والثاني: لو قالها غيرك لم أتعجب منه وإنما أتعجب من قولك أنت ذلك مع ما أنت عليه من العلم والفضل، ثم ذكر له عمر دليلاً واضحاً من القياس الجلي الذي لا شك في صحته، وليس ذلك اعتقاداً منه أن الرجوع يرد المقدور وإنما معناه أن الله تعالى أمر بالاحتياط والحزم ومجانبة أسباب الهلاك كما أمر سبحانه بالتحصن من سلاح العدو وتجنب المهالك، وإن كان كل واقع فبقضاء الله وقدره السابق في علمه، وقاس عمر على رعي العدوتين لكونه واضحاً لا ينازع فيه أحد مع مساواته لمسألة النزاع. قوله: (أكنت معجزه) هو بفتح العين وتشديد الجيم أي تنسبه إلى العجز، ومقصود عمر أن الناس رعية لي استرعانيها الله تعالى فيجب علي الاحتياط لها فإن تركته نسبت إلي العجز واستوجبت العقوبة والله أعلم. قوله: (هذا المحل أو قال هذا المنزل) هما بمعنى وهو بفتح الحاء وكسرها والفتح أقيس، فإن ما كان على وزن فعل ومضارعه يفعل بضم ثالثه كان مصدره واسم الزمان والمكان منه مفعلاً بالفتح كقعد يقعد مقعداً ونظائره إلا أحرفاً شذت جاءت بالوجهين منها المحل.
قوله في الإسناد: (عن مالك عن ابن شهاب عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب عن عبد الله بن عبد الله بن الحارث بن نوفل عن عبد الله بن عباس) قال الدارقطني: كذا قال مالك، وقال معمر ويونس عن عبد الله بن الحارث، قال: والحديث صحيح على اختلافهم، قال: وقد أخرجه مسلم من طريق يونس عن عبد الله بن الحارث، وأما البخاري فلم يخرجه إلا من طريق مالك. واعلم أن في حديث عمر هذا فوائد كثيرة منها خروج الإمام بنفسه في ولايته في بعض الأوقات ليشاهد أحوال رعيته ويزيل ظلم المظلوم ويكشف كرب المكروب ويسد خلة المحتاج ويقمع أهل الفساد ويخافه أهل البطالة والأذى والولاة ويحذروا تجسسه عليهم ووصول قبائحهم إليه فينكفوا ويقيم في رعيته شعائر الإسلام ويؤدب من رآهم مخلين بذلك ولغير ذلك من المصالح. ومنها تلقي الأمراء ووجوه الناس الإمام عند قدومه وإعلامهم إياه بما حدث في بلادهم من خير وشر ووباء ورخص وغلاء وشدة ورخاء وغير ذلك. ومنها استحباب مشاورة أهل العلم والرأي في الأمور الحادثة وتقديم أهل السابقة في ذلك. ومنها تنزيل الناس منازلهم وتقديم أهل الفضل على غيرهم والابتداء بهم في المكارم. ومنها جواز الاجتهاد في الحروب ونحوها كما يجوز في الأحكام. ومنها قبول خبر الواحد فإنهم قبلوا خبر عبد الرحمن. ومنها صحة القياس وجواز العمل به. ومنها ابتداء العالم بما عنده من العلم قبل أن يسأله كما فعل عبد الرحمن. ومنها اجتناب أسباب الهلاك. ومنها منع القدوم على الطاعون ومنع الفرار منه والله أعلم.
*2* باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، ولا نوء ولا غول، ولا يورد ممرض على مصح
*حدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ (وَاللّفْظُ لاِءَبِي الطّاهِرِ) قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَحَدّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، حِينَ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ عَدْوَىَ وَلاَ صَفَرَ وَلاَ هَامَةَ". فَقَالَ أَعْرَابِيّ: يَا رَسُولَ اللّهِ فَمَا بَالُ الإِبِلِ تَكُونُ فِي الرّمْلِ كَأَنّهَا الظّبَاءُ. فَيَجِيءُ الْبَعِيرُ الأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ فِيها فَيُجْرِبُهَا كُلّهَا؟ قَالَ: "فَمَنْ أَعْدَىَ الأَوّلَ؟".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ وَ حَسَنٌ الْحُلْوَانِيّ. قَالاَ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (وَهُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ). حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَغَيْرُهُ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ عَدْوَىَ وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ صَفَرَ وَلاَ هَامَةَ" فَقَالَ أَعْرَابِيّ: يَا رَسُولَ اللّهِ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ.
وحدّثني عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ عَنْ شُعَيْبٍ، عَنِ الزّهْرِيّ. أَخْبَرَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدّوءَلِيّ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم "لاَ عَدْوَىَ" فَقَامَ أَعْرَابِيّ فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ وَصَالِحٍ. وَعَنْ شُعَيْبٍ عَنِ الزّهْرِيّ قَالَ: حَدّثَنِي السّائِبُ بْنُ يَزِيدَ ابْنِ أُخْتِ نَمِرٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ عَدْوَىَ وَلاَ صَفَرَ وَلاَ هَامَةَ".
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ (وَتَقَارَبَا فِي اللّفْظِ) قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حَدّثهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ عَدْوَىَ" ثُمّ حَدّثَ أَنّهُ قَالَ: "لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَىَ مُصِحَ".
قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدّثُهُمَا كِلْتَيْهِمَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمّ صَمَتَ أَبُو هُرَيْرَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ قَوْلِهِ "لاَ عَدْوَىَ" وَأَقَامَ عَلَىَ "أَنْ لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحَ" قَالَ فَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ذبَابٍ (وَهُوَ ابْنُ عَمّ أَبِي هُرَيْرَةَ): قَدْ كُنْتُ أَسْمَعُكَ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ تُحَدّثُنَا مَعَ هَذَا الْحَدِيثِ حَدِيثاً آخَرَ. قَدْ سَكَتّ عَنْهُ. كُنْتَ تَقُولُف: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لاَ عَدْوَىَ" فَأَبَىَ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ. وَقَالَ: "لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَىَ مُصِحَ" فَمَا رَآهُ الْحَارِثُ فِي ذَلِكَ حَتّى غَضِبَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَرَطَنَ بِالْحَبَشِيّةِ. فَقَالَ لِلْحَارِثِ: أَتَدْرِي مَاذَا قُلْتُ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: قُلْتُ: أَبَيْتُ.
قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَلعمْرِي لَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدّثُنَا أَنّ رَسُول اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ عَدْوَىَ" فَلاَ أَدْرِي أَنَسِيَ أَبُو هُرَيْرَةَ، أَوْ نَسَخَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ الاَخَرَ؟.
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ وَ حَسَنٌ الْحُلْوَانِيّ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (قَالَ عَبْدٌ: حَدّثَنِي. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا) يَعْقُوبُ يَعْنُونَ ابْنَ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ حَدّثَنِي أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يُحَدّثُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ عَدْوَىَ" وَيُحَدّثُ مَعَ ذَلِكَ "لاَ يُورِدُ الْمُمْرِضُ عَلى الْمُصِحّ" بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ.
حدّثناه عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ. حَدّثَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزّهْرِيّ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، نَحْوَهُ.
حدّثنا يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ حُجْرٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ) عَنِ الْعَلاَءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ عَدْوَىَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ نَوْءَ وَلاَ صَفَرَ".
حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ. حَدّثَنَا زُهَيْرٌ. حَدّثَنَا أَبُو الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ، ح وَحَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لاَ عَدْوىَ وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ غُولَ".
وحدّثني عَبْدُ اللّهِ بْنُ هَاشِم بْنِ حَيّانَ. حَدّثَنَا بَهْزٌ. حَدّثَنَا يَزِيدُ (وَهُوَ التّسْتَرِيّ) حَدّثَنَا أَبُو الزّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لاَ عَدْوَىَ وَلاَ غُولَ وَلاَ صَفَرَ".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ. حَدّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ: سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ عَدْوَىَ وَلاَ صَفَرَ وَلاَ غُولَ".
وسَمِعْتُ أَبَا الزّبَيْرِ يَذْكُرُ أَنّ جَابِراً فَسّرَ لَهُمْ قَوْلَهُ "وَلاَ صَفَرَ" فَقَالَ أَبُو الزّبَيْرِ فِي تَفْسِيرِ صَفَرَ: الصّفَرُ البطْنُ فَقِيلَ لِجَابِرٍ: كَيْفَ؟ قَالَ: إِنّهَا دَوَابّ الْبَطْنِ. قَالَ وَلَمْ يُفَسّرِ الْغُولَ. قَالَ أَبُو الزّبَيْرِ: هَذِهِ الْغُولُ الّتِي تَغَوّلُ.
قوله صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة: (لا عدوى ولا صفر ولا هامة، فقال أعرابي: يا رسول الله فما بال الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء فيجيء البعير الأجرب فيدخل فيها فيجربها كلها؟ قال: فمن أعدى الأول". وفي رواية: "لا عدوى ولا طيرة ولا صفر ولا هامة" وفي رواية: (أن أبا هريرة كان يحدث بحديث لا عدوى، ويحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً أنه قال: لا يورد ممرض على مصح) ثم أن أبا هريرة اقتصر على رواية حديث لا يورد ممرض على مصح وأمسك عن حديث لا عدوى فراجعوه فيه وقالوا له إنا سمعناك تحدثه فأبى أن يعترف به، قال أبو سلمة الراوي عن أبي هريرة: فلا أدري أنسي أبو هريرة أو نسخ أحد القولين الاَخر؟ قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين وهما صحيحان، قالوا: وطريق الجمع أن حديث لا عدوى المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة تعدي بطبعها لا بفعل الله تعالى.
وأما حديث: "لا يورد ممرض على مصح" فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره، فنفى في الحديث الأول العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله. وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره، فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء ويتعين المصير إليه، ولا يؤثر نسيان أبي هريرة لحديث: "لا عدوي" لوجهين: أحدهما: أن نسيان الراوي للحديث الذي رواه لا يقدح في صحته عند جماهير العلماء بل يجب العمل به. والثاني: أن هذا اللفظ ثابت من رواية غير أبي هريرة، فقد ذكر مسلم هذا من رواية السائب بن يزيد وجابر بن عبد الله وأنس بن مالك وابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحكى المازري والقاضي عياض عن بعض العلماء أن حديث "لا يورد ممرض على مصح" منسوخ بحديث "لا عدوى" وهذا غلط لوجهين: أحدهما: أن النسخ يشترط فيه تعذر الجمع بين الحديثين ولم يتعذر بل قد جمعنا بينهما. والثاني: أنه يشترط فيه معرفة التاريخ وتأخر الناسخ وليس ذلك موجوداً هنا. وقال آخرون: حديث لا عدوى على ظاهره. وأما النهي عن إيراد الممرض على المصح فليس للعدوى بل للتأذي بالرائحة الكريهة وقبح صورته وصورة المجذوم والصواب ما سبق والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا صفر" فيه تأويلان: أحدهما: المراد تأخيرهم تحريم المحرم إلى صفر وهو النسيء الذي كانوا يفعلونه وبهذا قال مالك وأبو عبيدة. والثاني: أن الصفر دواب في البطن وهي دود وكانوا يعتقدون أن في البطن دابة تهيج عند الجوع وربما قتلت صاحبها وكانت العرب تراها أعدى من الجرب، وهذا التفسير هو الصحيح، وبه قال مطرف وابن وهب وابن حبيب وأبو عبيد وخلائق من العلماء، وقد ذكره مسلم عن جابر بن عبد الله راوي الحديث فيتعين اعتماده، ويجوز أن يكون المراد هذا والأول جميعاً، وأن الصفرين جميعاً باطلان لا أصل لهما ولا تصريح على واحد منهما. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا هامة" فيه تأويلان: أحدهما: أن العرب كانت تتشاءم بالهامة وهي الطائر المعروف من طير الليل وقيل هي البومة، قالوا: كانت إذا سقطت على دار أحدهم رآها ناعية له نفسه أو بعض أهله وهذا تفسير مالك بن أنس. والثاني: أن العرب كانت تعتقد أن عظام الميت وقيل روحه تنقلب هامة تطير وهذا تفسير أكثر العلماء وهو المشهور، ويجوز أن يكون المراد النوعين فإنهما جميعاً باطلان، فبين النبي صلى الله عليه وسلم إبطال ذلك وضلالة الجاهلية فيما تعتقده من ذلك، والهامة بتخفيف الميم على المشهور الذي لم يذكر الجمهور غيره. وقيل بتشديدها قاله جماعة وحكاه القاضي عن أبي زيد الأنصاري الإمام في اللغة. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا نوء" أي لا تقولوا مطرنا بنوء كذا ولا تعتقدوه، وسبق شرحه واضحاً في كتاب الصلاة. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا غول" قال جمهور العلماء: كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات وهي جنس من الشياطين فتتراءى للناس وتتغول تغولاً أي تتلون تلوناً فتضلهم عن الطريق فتهلكهم فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذاك. وقال آخرون: ليس المراد بالحديث نفي وجود الغول وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها، قالوا: ومعنى لا غول أي لا تستطيع أن تضل أحداً، ويشهد له حديث آخر: (لا غول ولكن السعالى) قال العلماء: السعالى بالسين المفتوحة والعين المهملتين وهم سحرة الجن، أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخيل، وفي الحديث الاَخر: (إذا تغولت الغيلان فنادوا بالأذان) أي ارفعوا شرها بذكر الله تعالى، وهذا دليل على أنه ليس المراد نفي أصل وجودها، وفي حديث أبي أيوب: (كان لي تمر في سهوة وكانت الغول تجيء فتأكل منه). قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن أعدى الأول" معناه أن البعير الأول الذي جرب من أجربه أي وأنتم تعلمون وتعترفون أن الله تعالى هو الذي أوجد ذلك من غير ملاصقة لبعير أجرب، فاعلموا أن البعير الثاني والثالث وما بعدهما إنما جرب بفعل الله تعالى وإرادته لا بعدوى تعدى بطبعها، ولو كان الجرب بالعدوى بالطبائع لم يجرب الأول لعدم المعدي، ففي الحديث بيان الدليل القاطع لإبطال قولهم في العدوى بطبعها. قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يورد ممرض على مصح" قوله يورد بكسر الراء، والممرض والمصح بكسر الراء والصاد ومفعول يورد محذوف أي لا يورد إبله المراض. قال العلماء: الممرض صاحب الإبل المراض، والمصح صاحب الإبل الصحاح، فمعنى الحديث: لا يورد صاحب الإبل المراض إبله على إبل صاحب الإبل الصحاح لأنه ربما أصابها المرض بفعل الله تعالى وقدره الذي أجرى به العادة لا بطبعها فيحصل لصاحبها ضرر بمرضها، وربما حصل له ضرر أعظم من ذلك باعتقاد العدوى بطبعها فيكفر والله أعلم. قوله: (كان أبو هريرة يحدثهما كلتيهما) كذا هو في جميع النسخ كلتيهما بالتاء والياء مجموعتين الضمير عائد إلى الكلمتين أو القصتين أو المسألتين ونحو ذلك.
قوله: (قال أبو الزبير هذه الغول التي تغول) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا، قال أبو الزبير: وكذا نقله القاضي عن الجمهور، قال: وفي رواية الطبري أحد رواة صحيح مسلم، قال أبو هريرة: قال والصواب الأول. قوله: (أنه قال في تفسير الصفر هي دواب البطن) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا دواب بدال مهملة وباء موحدة مشددة، وكذا نقله القاضي عن رواية الجمهور، قال: وفي رواية العذري ذوات بالذال المعجمة والتاء المثناة فوق وله وجه ولكن الصحيح المعروف هو الأول. قال القاضي: واختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم لا عدوى فقيل هو نهي عن أن يقال ذلك أو يعتقد، وقيل هو خبر أي لا تقع عدوى بطبعها.
*2* باب الطيرة والفأل، وما يكون فيه من الشؤم
*وحدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لاَ طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ". قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: "الْكَلِمَةُ الصّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ".
وحدّثني عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللّيْثِ. حَدّثَنِي أَبِي عَنْ جَدّي. حَدّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ. ح وَحَدّثَنِيهِ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِميّ. أَخْبَرَنَا أَبُو اليْمَانِ. أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ. كِلاَهُمَا عَنِ الزّهْرِيّ، بِهَذا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ.
وَفي حَدِيثِ عُقَيْلٍ: عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلَمْ يَقُلْ: سَمِعْتُ. وَفِي حَدِيثِ شُعَيْبٍ: قَالَ: سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. كَمَا قَالَ مَعْمَرٌ.
حدّثنا هَدّابُ بْنُ خَالِدٍ. حَدّثَنَا هَمّامُ بْنُ يَحْيَىَ. حَدّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ أَنّ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ عَدْوَىَ وَلاَ طِيَرَةَ. وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ: الْكَلِمَةُ الْحَسَنَة، الْكَلِمَةُ الطّيّبَةُ".
وحدّثناه مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ. سَمِعْتُ قَتَادَةَ يُحَدّثُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "لاَ عَدْوَىَ وَلاَ طِيَرَةَ. وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ" قَالَ قِيلَ: وَمَا الفأْلُ؟ قَالَ "الْكَلِمَةُ الطّيّبَةُ".
وحدّثني حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ. حَدّثَنِي مُعَلّى بْنُ أَسَدٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُخْتَارٍ. حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَتِيقٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ عَدْوَىَ وَلاَ طِيَرَةَ. وَأُحِبّ الْفَأْلَ الصّالِحَ".
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَرُونَ. أَخْبَرَنَا هِشامُ بْنُ حَسّانَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لاَ عَدْوَىَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ طِيَرَةَ. وَأُحِبّ الْفأْلَ الصّالِحَ".
حع 5) وحدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ. حَدّثَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. قَالَ: قَرَأَتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حَمْزَةَ وَ سَالِمٍ، ابْنَيْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الشّؤْمُ فِي الدّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ".
وحدّثنا أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ حَمْزَةَ وَسَالِمٍ، ابْنَيْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ عَدْوَىَ وَلاَ طِيَرَةَ. وَإِنّمَا الشّؤْمُ فِي ثَلاَثَةٍ: الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالدّارِ".
وحدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ وَحَمْزَةَ، ابْنَيْ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ أَبِيهِمَا، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ و عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنَا عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَالِمٍ وَ حَمْزَةَ، ابْنَيْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْب بْنِ اللّيْثِ بْنِ سَعْدٍ. حَدّثَنِي أَبِي عَنْ جَدّي. حَدّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ. ح وَحَدّثَنَاهُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضّلِ عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ إِسْحَقَ. ح وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ. أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ. كُلّهُمْ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فِي الشّوءْمِ. بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكٍ. لاَ يَذْكُرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: الْعَدْوَىَ وَالطّيَرَةَ، غَيْرُ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ.
وحدّثنا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْحَكَمِ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ زَيْدٍ أَنّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يُحَدّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "إِنْ يَكُنْ مِنَ الشّؤْمِ شَيْءٌ حَقّ، فَفِي الْفَرَسِ وَالْمَرْأَةِ وَالدّارِ".
وحدّثني هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. حَدّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ. وَلَمْ يَقُلْ: حَقّ.
وحدّثني أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ. أَخْبَرَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ. حَدّثَنِي عُتْبَةُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ حَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنْ كَانَ الشّوءْمُ فِي شَيْءٍ، فَفِي الْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ وَالْمَرْأَةِ".
وحدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ. حَدّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنْ كَانَ، فَفِي الْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ وَالْمَسْكَنِ" يَعْنِي الشّوءْمَ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ. حَدّثَنَا هِشَامُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ.
وحدّثناه إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْحَارِثِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ. أَخْبَرَنِي أَبُو الزّبَيْرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَاً يُخْبِرُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "إِنْ كَانَ فِي شَيْءٍ، فَفِي الْرّبْعِ وَالْخَادِمِ وَالْفَرَسِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طيرة وخيرها الفأل" قيل يا رسول الله وما الفأل؟ قال: الكلمة الحسنة الصالحة يسمعها أحدكم.
وفي رواية: "لا طيرة ويعجبني الفأل الكلمة الحسنة الكلمة الطيبة" وفي رواية: "وأحب الفأل الصالح" أما الطيرة فبكسر الطاء وفتح الياء على وزن العنبة، هذا هو الصحيح المعروف في رواية الحديث وكتب اللغة والغريب. وحكى القاضي وابن الأثير أن منهم من سكن الياء والمشهور الأول، قالوا: وهي مصدر تطير طيرة، قالوا: ولم يجيء في المصادر على هذا الوزن إلا تطير طيرة وتخير خيرة بالخاء المعجمة، وجاء في الأسماء حرفان وهما شيء طيبة أي طيب، والتولة بكسر التاء المثناة وضمها وهو نوع من السحر، وقيل يشبه السحر، وقال الأصمعي: هو ما تتجبب به المرأة إلى زوجها، والتطير التشاؤم وأصله الشيء المكروه من قول أو فعل أو مرئي، وكانوا يتطيرون بالسوانح والبوارح فينفرون الظباء والطيور، فإن أخذت ذات اليمين تبركوا به ومضوا في سفرهم وحوائجهم، وإن أخذت ذات الشمال رجعوا عن سفرهم وحاجتهم وتشاءموا بها، فكانت تصدهم في كثير من الأوقات عن مصالحهم، فنفى الشرع ذلك وأبطله ونهى عنه وأخبر أنه ليس له تأثير بنفع ولا ضر، فهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طيرة" وفي حديث آخر الطيرة شرك أي اعتقاد أنها تنفع أو تضر إذ عملوا بمقتضاها معتقدين تأثيرها فهو شرك لأنهم جعلوا لها أثراً في الفعل والإيجاد. وأما الفأل فمهموز ويجوز ترك همزه وجمعه فؤول كفلس وفلوس، وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بالكلمة الصالحة والحسنة والطيبة، قال العلماء: يكون الفأل فيما يسر وفيما يسوء والغالب في السرور، والطيرة لا يكون إلا فيما يسوء، قالوا: وقد يستعمل مجازاً في السرور، يقال: تفاءلت بكذا بالتخفيف وتفألت بالتشديد وهو الأصل والأول مخفف منه ومقلوب عنه. قال العلماء: وإنما أحب الفأل لأن الإنسان إذا أمل فائدة الله تعالى وفضله عند سبب قوي أو ضعيف فهو على خير في الحال، وإن غلط في جهة الرجاء فالرجاء له خير، وأما إذا قطع رجاءه وأمله من الله تعالى فإن ذلك شر له، والطيرة فيها سوء الظن وتوقع البلاء، ومن أمثال التفاؤل أن يكون له مريض فيتفاءل بما يسمعه فيسمع من يقول: يا سالم. أو يكون طالب حاجة فيسمع من يقول: يا واجد، فيقع في قلبه رجاء البرء أو الوجدان والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "الشؤم في الدار والمرأة والفرس". وفي رواية: "إنما الشؤم في ثلاثة: المرأة والفرس والدار" وفي رواية: "إن كان الشؤم في شيء ففي الفرس والمسكن والمرأة".
وفي رواية: "إن كان في شيء ففي الربع والخادم والفرس" واختلف العلماء في هذا الحديث فقال مالك وطائفة: هو على ظاهره وأن الدار قد يجعل الله تعالى سكناها سبباً للضرر أو الهلاك، وكذا اتخاذ المرأة المعينة أو الفرس أو الخادم قد يحصل الهلاك عنده بقضاء الله تعالى، ومعناه قد يحصل الشؤم في هذه الثلاثة كما صرح به في رواية وإن يكن الشؤم في شيء. وقال الخطابي وكثيرون: هو في معنى الاستثناء من الطيرة أي الطيرة منهي عنها إلا أن يكون له دار يكره سكناها أو امرأة يكره صحبتها أو فرس أو خادم فليفارق الجميع بالبيع ونحوه وطلاق المرأة. وقال آخرون: شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وأذاهم، وشؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للريب، وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها وقيل حرانها وغلاء ثمنها، وشؤم الخادم سوء خلقه وقلة تعهده لما فوض إليه. وقيل المراد بالشؤم هنا عدم الموافقة، واعترض بعض الملاحدة بحديث لا طيرة على هذا فأجاب ابن قتيبة وغيره: بأن هذا مخصوص من حديث لا طيرة إلا في هذه الثلاثة. قال القاضي: قال بعض العلماء الجامع لهذه الفصول السابقة في الأحاديث ثلاثة أقسام: أحدها: ما لم يقع الضرر به ولا اطردت عادة خاصة ولا عامة فهذا لا يلتفت إليه وأنكر الشرع الالتفات إليه وهو الطيرة. والثاني: ما يقع عنده الضرر عموماً لا يخصه ونادراً لا متكرراً كالوباء فلا يقدم عليه ولا يخرج منه. والثالث: ما يخص ولا يعم كالدار والفرس والمرأة فهذا يباح الفرار منه والله أعلم.
*2* باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان
*حدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهابٍ. عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السّلَمِيّ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ أُمُوراً كُنّا نَصْنَعُهَا فِي الْجَاهِلِيّةِ. كُنّا نَأْتِي الْكُهّانَ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: "فَلاَ تَأْتُوا الْكُهّانَ" قَالَ: قُلْتُ: كُنّا نَتَطَيّرُ. قَالَ: "ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ، فَلاَ يَصُدّنّكُمْ".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنِي حُجَيْنٌ(يَعْنِي ابْنَ الْمُثَنّى). حَدّثَنَا اللّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوّارٍ. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. أَخْبَرَنَا إِسْحَقُ بْنُ عِيسَىَ. أَخْبَرَنَا مَالِكٌ. كُلّهُمْ عَنِ الزّهْرِيّ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَ مَعْنَىَ حَدِيثِ يُونُسَ. غَيْرَ أَنّ مَالِكاً فِي حَدِيثِهِ ذَكَرَ الطّيَرَةَ. وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْكُهّانِ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الصّبّاحِ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. قَالاَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (وَهُوَ ابْنُ عُلَيّةَ) عَنْ حَجّاجٍ الصّوّافِ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ. حَدّثَنَا الأَوْزَاعِيّ. كِلاَهُمَا عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِي مَيمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السّلَمِيّ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمَعْنَىَ حَدِيثِ الزّهْرِيّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ. وَزَادَ فِي حَدِيثِ يَحْيى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ قَالَ: قُلْتُ: وَمِنّا رِجَالٌ يَخُطّونَ قَالَ: "كَانَ نَبِيّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ يَخُطّ. فَمَنْ وَافَقَ خَطّهُ فَذَاكَ".
وحدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ الْكُهّانَ كَانُوا يُحَدّثُونَنَا بِالشّيْءِ فَنَجِدُهُ حَقّا. قَالَ: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ الْحَقّ. يَخْطَفُهَا الْجِنّيّ فَيَقْذِفُهَا فِي أُذُنِ وَلِيّهِ. وَيَزِيدُ فِيهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ".
حدّثني سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ. حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْينَ. حَدّثَنَا مَعْقِلٌ (وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللّهِ) عَنِ الزّهْرِيّ. أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ عُرْوَةَ أَنّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ يَقُولُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: سَأَلَ أُنَاسٌ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْكُهّانِ؟ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسُوا بِشَيْءٍ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ فَإِنّهُمْ يُحَدّثُونَ أَحْيَاناً الشّيْءَ يَكُونُ حَقّا. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "تِلْكَ الْكَلِمَةُ مِنَ الْجِنّ يَخْطَفُهَا الْجِنّي. فَيَقُرّهَا فِي أُذُنِ وَلِيّهِ قَرّ الدّجَاجَة، فَيَخْلِطُونَ فِيهَا أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ كَذْبَةٍ".
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، نَحْوَ رِوَايَةِ مَعْقِلٍ عَنِ الزّهْرِيّ.
حدّثنا حَسَنُ بْنُ عَلِيَ الْحُلْوَانِيّ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (قَالَ حَسَنٌ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ. وَقَالَ عَبْدٌ: حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ). حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، حَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ حُسَيْنٍ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ عَبّاسٍ. قَالَ: أَخْبَرَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَنْصَارِ أَنّهُمْ بَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ لَيْلَةً مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رُمِيَ بِنَجْمٍ فَاسْتَنَارَ. فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَاذَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ فِي الْجَاهِلِيّةِ، إِذَا رُمِيَ بِمِثْلِ هَذَا؟" قَالُوا: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. كُنّا نَقُولُ وُلِدَ اللّيْلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ. وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنّهَا لاَ يُرْمَىَ بِهَا لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ. وَلَكِنْ رَبّنَا، تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ اسْمُهُ، إِذَا قَضَىَ أَمْراً سَبّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ. ثُمّ سَبّحَ أَهْلُ السّمَاءِ الّذِينَ يَلُونَهُمْ. حَتّىَ يَبْلُغَ التّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السّمَاءِ الدّنْيَا. ثُمّ قَالَ الّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ. قَالَ: فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السّمَاوَاتِ بَعْضَاً. حَتّىَ يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السّمَاءَ الدّنْيَا. فَتَخْطَفُ الْجِنّ السّمْعَ فَيَقْذِفُونَ إِلَىَ أَوْلِيَائِهِمْ. وَيُرْمَوْنَ بِهِ. فَمَا جَاؤُوا بِهِ عَلَىَ وَجْهِهِ فَهُوَ حَقّ وَلَكِنّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ".
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ. حَدّثَنَا أَبُو عَمْرٍو الأَوْزَاعِيّ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ. ح وَحَدّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ. حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ. حَدّثَنَا مَعْقِلٌ (يَعْنِي ابْنَ عُبَيْدِ اللّهِ). كُلّهُمْ عَنِ الزّهْرِيّ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، غَيْرَ أَنّ يُونُسَ قَالَ: عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ. أَخْبَرَنِي رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَنْصَارِ. وَفِي حَدِيثِ الأَوْزَاعِيّ "وَلَكِنْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ". وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ "وَلَكِنّهُمْ يَرْقَوْنَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ" وَزَادَ فِي حَدِيثِ يُونُسَ "وَقَالَ اللّهُ: {حَتّىَ إِذَا فُزّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبّكُمْ قَالُوا الْحَقّ}. (سبأ الاَية: ) وَفِي حَدِيثِ مَعْقِلٍ كَمَا قَالَ الأَوْزَاعِيّ "وَلَكِنّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى الْعَنَزِيّ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ (يَعْنِي ابْنَ سَعِيدٍ) عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيّةَ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "مَنْ أَتَىَ عَرّافاً فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً".
قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا تأتوا الكهان" وفي رواية: "سئل عن الكهان فقال: ليسوا بشيء" قال القاضي رحمه الله: كانت الكهانة في العرب ثلاثة أضرب أحدها: يكون للإنسان ولي من الجن يخبره بما يسترقه من السمع من السماء وهذا القسم بطل من حين بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن يخبره بما يطرأ أو يكون في أقطار الأرض وما خفي عنه مما قرب أو بعد وهذا لا يبعد وجوده، ونفت المعتزلة وبعض المتكلمين هذين الضربين وأحالوهما ولا استحالة في ذلك ولا بعد في وجوده لكنهم يصدقون ويكذبون والنهي عن تصديقهم والسماع منهم عام. الثالث: المنجمون وهذا الضرب يخلق الله تعالى فيه لبعض الناس قوة ما لكن الكذب فيه أغلب، ومن هذا الفن العرافة وصاحبها عراف وهو الذي يستدل على الأمور بأسباب ومقدمات يدعي معرفتها بها، وقد يعتضد بعض هذا الفن ببعض في ذلك بالزجر والطرق والنجوم وأسباب معتادة، وهذه الأضرب كلها تسمى كهانة وقد أكذبهم كلهم الشرع ونهى عن تصديقهم وإتيانهم والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ليسوا بشيء" فمعناه بطلان قولهم وأنه لا حقيقة له، وفيه جواز إطلاق هذا اللفظ على ما كان باطلاً. قوله: (كنا نتطير قال ذاك شيء يجده أحدكم في نفسه فلا يصدنكم) معناه أن كراهة ذلك تقع في نفوسكم في العادة ولكن لا تلتفتوا إليه ولا ترجعوا عما كنتم عزمتم عليه قبل هذا، وقد صح عن عروة بن عامر الصحابي رضي الله عنه قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحسنها الفأل ولا يرد مسلماً فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك، رواه أبو داود بإسناد صحيح. قوله صلى الله عليه وسلم: "كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك" هذا الحديث سبق شرحه في كتاب الصلاة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة الحق يخطفها الجني فيقذفها في أذن وليه ويزيد فيها مائة كذبة" أما يخطفها فبفتح الطاء على المشهور وبه جاء القرآن، وفي لغة قليلة كسرها، ومعناه استرقه وأخذه بسرعة، وأما الكذبة فبفتح الكاف وكسرها والذال ساكنة فيهما، قال القاضي: وأنكر بعضهم الكسر إلا إذا أراد الحالة والهيئة وليس هذا موضعها ومعنى يقذفها يلقيها. قوله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الجن يخطفها فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة" هكذا هو في جميع النسخ ببلادنا الكلمة من الجن بالجيم والنون أي الكلمة المسموعة من الجن أو التي تصح مما نقلته الجن بالجيم والنون. وذكر القاضي في المشارق أنه روي هكذا، وروي أيضاً من الحق بالحاء والقاف، وأما قوله فيقرها فهو بفتح الياء وضم القاف وتشديد الراء، وقر الدجاجة بفتح القاف، والدجاجة بالدال الدجاجة المعروفة، قال أهل اللغة: والغريب القر ترديدك الكلام في أذن المخاطب حتى يفهمه، يقول قررته فيه أقره قراً، وقر الدجاجة صوتها إذا قطعته، يقال قرت تقر قراً وقريراً، فإن رددته قلت قرقرت قرقرة، قال الخطابي وغيره: معناه أن الجني يقذف الكلمة إلى وليه الكاهن فتسمعها الشياطين كما تؤذن الدجاجة بصوتها صواحبها فتتجاوب، قال: وفيه وجه آخر وهي أن تكون الرواية كقر الزجاجة تدل عليه رواية البخاري فيقرها في أذنه كما تقر القارورة. قال: فذكر القارورة في هذه الرواية يدل على ثبوت الرواية بالزجاجة. قال القاضي: أما مسلم فلم تختلف الرواية فيه أنه الدجاجة بالدال لكن رواية القارورة تصحح الزجاجة، قال القاضي: معناه يكون لما يلقيه إلى وليه حس كحس القارورة عند تحريكها مع اليد أو على صفا.
قوله صلى الله عليه وسلم في رواية صالح عن ابن شهاب: "ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون" هذه اللفظة ضبطوها من رواية صالح على وجهين: أحدهما: بالراء والثاني: بالذال، ووقع في رواية الأوزاعي وابن معقل الراء باتفاق النسخ ومعناه يخلطون فيه الكذب وهو بمعنى يقذفون، وفي رواية يونس يرقون، قال القاضي: ضبطناه عن شيوخنا بضم الياء وفتح الراء وتشديد القاف، قال: ورواه بعضهم بفتح الياء وإسكان الراء، قال في المشارق: قال بعضهم صوابه بفتح الياء وإسكان الراء وفتح القاف، قال: وكذا ذكره الخطابي قال: ومعناه معنى يزيدون، يقال رقى فلان إلى الباطل بكسر القاف أي رفعه وأصله من الصعود أي يدعون فيها فوق ما سمعوا، قال القاضي: وقد يصح الرواية الأولى على تضعيف هذا الفعل وتكثيره والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" أما العراف فقد سبق بيانه وأنه من جملة أنواع الكهان، قال الخطابي وغيره: العراف هو الذي يتعاطى معرفة مكان المسروق ومكان الضالة ونحوهما، وأما عدم قبول صلاته فمعناه أنه لا ثواب له فيها وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه ولا يحتاج معها إلى إعادة، ونظير هذه الصلاة في الأرض المغصوبة مجزئة مسقطة للقضاء ولكن لا ثواب فيها، كذا قاله جمهور أصحابنا، قالوا: فصلاة الفرض وغيرها من الواجبات إذا أتى بها على وجهها الكامل ترتب عليها شيئان سقوط الفرض عنه وحصول الثواب، فإذا أداها في أرض مغصوبة حصل الأول دون الثاني، ولا بد من هذا التأويل في هذا الحديث فإن العلماء متفقون على أنه لا يلزم من أتى العراف إعادة صلوات أربعين ليلة فوجب تأويله والله أعلم.
*2* باب اجتناب المجذوم ونحوه
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَ هُشَيْمُ بْنُ بَشِيرٍ عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الشّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ".
قوله: (كان في وفد ثقيف رجل مجذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إنا قد بايعناك فارجع) هذا موافق للحديث الاَخر في صحيح البخاري: "وفر من المجذوم فرارك من الأسد" وقد سبق شرح هذا الحديث في باب لا عدوى، وأنه غير مخالف لحديث: "لا يورد ممرض على مصح" قال القاضي: قد اختلف الاَثار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة المجذوم فثبت عنه الحديثان المذكوران. وعن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل مع المجذوم وقال له كل ثقة بالله وتوكلاً عليه". وعن عائشة قالت: (مولى مجذوم فكان يأكل في صحافي ويشرب في أقداحي وينام على فراشي) قال: وقد ذهب عمر رضي الله عنه وغيره من السلف إلى الأكل معه، ورأوا أن الأمر باجتنابه منسوخ والصحيح الذي قاله الأكثرون ويتعين المصير إليه أنه لا نسخ بل يجب الجمع بين الحديثين وحمل الأمر باجتنابه والفرار منه على الاستحباب والاحتياط لا للوجوب، وأما الأكل معه ففعله لبيان الجواز والله أعلم. قال القاضي: قال بعض العلماء في هذا الحديث وما في معناه دليل على أنه يثبت للمرأة الخيار في فسخ النكاح إذا وجدت زوجها مجذوماً أو حدث به جذام. واختلف أصحابنا وأصحاب مالك في أن أمته هل لها منع نفسها من استمتاعه إذا أرادها؟ قال القاضي: قالوا ويمنع من المسجد والاختلاط بالناس، قال: وكذلك اختلفوا في أنهم إذا كثروا هل يؤمرون أن يتخذوا لأنفسهم موضعاً منفرداً خارجاً عن الناس ولا يمنعوا من التصرف في منافعهم وعليه أكثر الناس أم لا يلزمهم التنحي؟ قال: ولم يختلفوا في القليل منهم في أنهم لا يمنعون، قال: ولا يمنعون من صلاة الجمعة مع الناس ويمنعون من غيرها، قال: ولو استضر أهل قرية فيهم جذمى بمخالطتهم في الماء فإن قدروا على استنباط ماء بلا ضرر أمروا به وإلا استنبطه لهم الاَخرون أو أقاموا من يستقي لهم وإلا فلا يمنعون والله أعلم.
*1* كتاب قتل الحيّات وغيره
*2* باب قتل الحيات وغيرها
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا عَبْدَةُ. حَدّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: أَمَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَتْلِ ذِي الطّفْيَتَيْنِ. فَإِنّهُ يَلْتَمِسُ الْبَصَرَ وَيُصِيبُ الْحَبَلَ.
وحدّثناه إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. أَخْبَرَنَا هِشَامٌ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، وَقَالَ: الأَبْتَرُ وَذُو الطّفْيَتَيْنِ.
وحدّثني عَمْرُو بْنُ مُحَمّدٍ النّاقِدُ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "اقْتُلُوا الْحَيّاتِ وَذَا الطّفْيَتَيْنِ وَالأَبْتَرَ. فَإِنّهُمَا يَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَلَ وَيَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ".
قَالَ فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْتُلُ كُلّ حَيّةٍ وَجَدَهَا. فَأَبْصَرَهُ أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ أَوْ زَيْدُ بْنُ الْخَطّابِ، وَهُوَ يُطَارِدُ حَيّةً. فَقَالَ: إِنّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ.
وحدّثنا حَاجِبُ بْنُ الْوَلِيدِ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ الزّبَيْدِيّ، عَنِ الزّهْرِيّ. أَخْبَرَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُ بِقَتْلِ الْكِلاَبِ. يَقُولُ: "اقْتُلُوا الْحَيّاتِ وَالْكِلاَبَ وَاقْتُلُوا ذَا الطّفْيَتَيْنِ وَالأَبْتَرَ فَإِنّهُمَا يَلْتَمِسَانِ الْبَصَرَ وَيَسْتَسْقِطَانِ الْحَبَالَى".
قَالَ الزّهْرِيّ: وَنُرَىَ ذَلِكَ مِنْ سُمّيْهِمَا، وَاللّهُ أَعْلَمُ.
قَالَ سَالِمٌ: قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ: فَلَبِثْتُ لاَ أَتْرُكُ حَيّةً أَرَاهَا إِلاّ قَتَلْتُهَا. فَبَيْنَا أَنَا أُطَارِدُ حَيّةً، يَوْماً، مِنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ، مَرّ بِي زَيْدُ بْنُ الْخَطّابِ أَوْ أَبُو لُبَابَةَ. وَأَنَا أُطَارِدُهَا. فَقَالَ: مَهْلاً. يَا عَبْدَ اللّهِ فَقُلْتُ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِهِنّ. قَالَ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ نَهَىَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ.
وحدّثنيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعَمْرٌ. ح وَحَدّثَنَا حَسَنٌ الْحُلوَانِيّ. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ. حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ. كُلّهُمْ عَنِ الزّهْرِيّ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، غَيْرَ أَنّ صَالِحاً قَالَ: حَتّى رَآنِي أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ وَزَيْدُ بْنُ الْخَطّابِ. فَقَالاَ: إِنّهُ قَدْ نَهَىَ عَنْ ذَوَاتِ الْبُيُوتِ.
وَفِي حَدِيثِ يُونُسَ "اقْتُلُوا الْحَيّاتِ" وَلَمْ يَقُلْ "ذَا الطّفْيَتَيْنِ وَالأَبْتَرَ".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رُمْحٍ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ. ح وَحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ (وَاللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنَا لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ أَنّ أَبَا لُبَابَةَ كَلّمَ ابْنَ عُمَرَ لِيَفْتَحَ لَهُ بَاباً فِي دَارِهِ، يَسْتَقْرِبُ بِهِ إِلَى الْمَسْجِدِ. فَوَجَدَ الْغِلْمَةُ جِلْدَ جَانَ. فَقَالَ عَبْدُ اللّهِ: الْتَمِسُوهُ فَاقْتُلُوهُ. فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: لاَ تَقْتُلُوهُ. فَإِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَىَ عَنْ قَتْلِ الْجِنّانِ الّتِي فِي الْبُيُوتِ.
وحدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ. حَدّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ. حَدّثَنَا نَافِعٌ. قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقْتُلُ الْحَيّاتِ كُلّهُنّ، حَتّى حَدّثَنَا أَبُو لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الْبَدْرِيّ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَىَ عَنْ قَتْلِ جِنّانِ الْبُيُوتِ، فَأَمْسَكَ.
حَدّثَنا مُحَمّدُ بْنُ المُثَنّىَ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ (وَهُوَ الْقَطّانُ) عَنْ عُبَيْدِ اللهِ. أَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنّهُ سَمِعَ أَبَا لُبَابَةَ يُخْبِرُ ابْنُ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَىَ عَنْ قَتْلِ الْجِنّانِ.
وحدّثناه إِسحَق بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيّ. حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ. حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللهِ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ أَبِي لُبَابَةَ، عَنْ النّبِيَ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنُ أَسْمَاءَ الضّبَعِيّ. حَدّثَنَا جُوَيَرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ أَنّ أَبَا لُبَابَةَ أَخْبَرَهُ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَىَ عَنْ قَتْلِ الْجِنّانِ الّتِي فِي الْبُيُوتِ.
حَدّثَنا مُحَمّدُ بْنُ المُثَنّىَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَهّابِ (يَعْنِي الثّقَفِيّ). قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ أَنّ أَبَا لُبَابَةَ بْنُ عَبْدِ الْمُنْذِرِ الأَنْصَارِيّ وَكَانَ مَسْكَنُهُ بِقُبَاءٍ فَانْتَقَلَ إلَى الْمَديِنَةِ فَبَيْنَمَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ جَالِساً مَعَهُ يَفْتَحُ خَوْخَة لَهُ، إِذَا هُمْ بِحَيّةٍ مِنْ عَوَامِرِ الْبُيُوتِ. فَأَرَادُوا قَتْلَهَا. فَقَالَ أَبُو لُبَابَةَ: إِنّهُ قَدْ نُهِيَ عَنْهُنّ (يُرِيدُ عَوَامِرَ الْبُيُوتِ) وَأَمِرَ بِقَتْلِ الأَبْتَرِ وَذِي الطّفْيَتَيْنِ. وَقِيلَ: هُمَا اللّذَانِ يَلْتَمِعَانِ الْبَصَرَ وَيَطْرَحَانِ أَوْلاَدَ النّسَاءِ.
وحدّثني إسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ. أَخْبَرنَا مُحَمّدُ بْنُ جَهْضَمٍ. حَطدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ(وَهُوَ عِنْدَنَا ابْنُ جَعْفَرٍ) عَنْ عُمَرَ بْنِ نَافِعٍ، عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ يَوْمَاً عِنْدَ هَدِمٍ لَهُ. فَرَأَى وَبِيصَ جَانّ. فَقَالَ: اتّبِعُوا هَذا الْجَانّ فَاقْتُلُوهُ. قَالَ أَبُو لُبَابَةَ الأَنْصَارِيّ : إنّي سَمَعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم نَهَىَ عَنْ قَتْلِ الْجِنّانِ الّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ. إِلاّ الأَبْتَرَ وَذَا الطّفْيَتَيْنِ. فَإِنّهُمَا اللّذَانِ يَخْطِفَانِ الْبَصَرَ وَيَتَتَبّعَانِ مَا فِي بُطُونِ النّساءِ.
وحدّثنا هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. حَدّثَنِي اُسَامَةُ أَنّ نَافِعَاً حَدّثَهُ أَنّ أَبَا لُبَابَةَ مَرّ بِابْنِ عُمَرَ، وَهُوَ عِنْدَ الاُطُمِ الّذِي عِنْدَ دَارِ عُمَرَ بْنُ الْخَطّابِ، يَرْصُدُ حَيّةً، بِنَحْوِ حَدِيثِ اللّيْثِ بْنُ سَعْدٍ.
حَدّثَنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةً وَ أَبُو كُرَيْبٍ وَ إسْحَقُ بْنُ إبْرَاهِيمَ وَاللّفْظُ لِيَحْيَى (قَالَ يَحْيَى وَ إسْحَقُ: أَخْبَرنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا) أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ الأَعْمَشِ، عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ . قَال: كُنّا مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي غَارِ. وَقَدْ اُنْزِلَتْ عَلَيْه: وَالْمُرْسَلاَتِ عُرْفَاً. فَنَحْنُ نَأْخُذُهَا مِنْ فِيهِ رَطْبَةً. إِذْ خَرَجَتْ عَلَيْنَا حَيّةٌ. فَقَالَ: "اقْتُلُوهَا" فَابْتَدَرْنَاهَا لِنَقْتُلَهَا. فَسَبَقَتْنَا. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: وَقَاهَا اللهُ شَرّكُمْ كَمَا وَقَاكُمْ شَرّهَا".
وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَة. قَالاَ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، فِي هَذَا الإسْنَاِد، بِمِثْلِهِ.
وحدّثنا أَبُو كَرَيْبٍ. حَدّثَنَا حَفْصٌ (يَعْنِي ابْنُ غِيَاثٍ). حَدّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إبْرَاهِيمَ، عَنْ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم أَمَرَ مُحْرِماً بِقْتِلِ حَيّةٍ بِمِنَىً.
وحدّثنا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنُ غِيّاثٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا الأَعْمَشُ. حَدّثَنِي إبْرَاهِيمُ عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ . قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِي غَارٍ. بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرِ وَأَبِي مُعَاوِيَةَ.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ، أَحْمَدُ بْنُ عُمْرِو بْنِ سَرْحٍ. أَخْبَرنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ وَهْبِ. أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ صَيْفِيّ (وَهُوَ عِنْدَنَا مَوْلَى ابْنِ أَفْلَحَ). أَخْبَرَنِي أَبُو السّائِبِ. مَوْلَى هِشَامِ بْنُ زُهرَةَ أَنّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ فِي بَيْتِهِ. قَالَ فَوَجَدْتُهُ يُصَلّي. فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتّى يَقْضِيَ صَلاتَهُ. فَسَمِعْتَ تْحْرِيكاً فِي عَرَاجِينَ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ. فَالْتَفَتّ فَإذا حَيّةٌ. فَوَثَبْتُ لأَقْتُلَهَا. فَأَشَارَ إلَيّ: أَن اجْلِسْ. فَجَلَسْتُ. فَلَمّا انْصَرَفَ أَشَارَ إِلَىَ بَيْتٍ فِي الدّارِ. فَقَالَ: أَتَرَىَ هَذَا الْبَيْتِ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنّا حَديِيثُ عَهْدِ بِعُرْسٍ. قَالَ فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِلَى الْخَنْدَقِ. فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَىَ يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم بِأْنْصَافِ النّهَارِ فَيَرْجعُ إلىَ أَهْلِهِ. فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمَاً. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "خُذْ عَلَيْكَ سِلاَحَكَ. فَإِنّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيظَةَ" فَأَخَذَ الرّجُلُ سِلاَحَهُ. ثُمّ رَجَعَ فَإِذَا امْرأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً. فَأَهْوَى إِلَيْهَا الرّمْحَ لِيَطْعُنَهَا بِهِ. وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ. فَقَالَتْ لَهُ: اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ، وَادْخُلِ الْبَيْتَ حَتّى تَنْظُرَ مَا الّذِي أَخْرَجَنِي. فَدَخَلَ فَإذَا بِحَيّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ. فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ. ثُمّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِي الدّارِ. فَاضْطَربَتْ عَلَيْهِ. فَمَا يُدْرَى أَيّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتَاً. الْحَيّةُ أَمِ الْفَتَى؟ قَالَ فَجِئْنَا إِلى رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ. وقُلْنَا: ادْعُ اللهَ يُحْيِيِه لَنَا. فَقَالَ: "اسْتغْفِرُوا لِصَاحِبكُمْ"، ثُمّ قَالَ: إنّ بِالْمَدِينَةِ جِنّا قَدْ أَسْلَمُوا. فَإِذعا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيئاً فَاذِنُوهُ ثَلاثَةَ أَيّامٍ. فَإنْ بَدعّ لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ. فَإِنّمَا هُوَ شَيْطَانٌ".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرِ بْنُ حَازِمٍ. حَدّثَنَا أَبِي. قَالَ: سَمِعْتُ أَسْمَاءَ بْنُ عُبَيْدٍ يُحَدّثُ عَنْ رَجُلٍ يُقَالُ لَهُ السّائِبُ وَهُوَ عِنْدَنَا أَبُو السّائِبِ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى أَبي سَعِيدٍ الْخُدْريّ. فَبَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ إذْ سَمِعْنَا تَحْتَ سَرِيرِهِ حَرَكَةً. فَنَظَرْنَا فَإِذا حَيّةٌ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقصّتِهِ نَحْوَ حَدِيث مَالكٍ عَنْ صَيْفِيّ. وَقَالَ فِيه. فَقَال رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم "إنّ لِهَذه الْبُيُوتِ عَوَامِر. فَإِذَا رَأَيْتُمْ شَيْئاً مِنْهَا فَحَرّجُوا عَلَيْهَا ثَلاَثَاً. فَإِنْ ذَهَبَ، وَإلاّ فَاقْتُلُوهُ. فَإِنّهُ كَافِرٌ". وَقَالَ لَهُمُ "اذْهَبُوا فَادْفِنُوا صَاحِبَكُمْ".
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبغ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ سَعِيدٍ عَنُ ابْنِ عَجْلاَنَ. حَدّثَنِي صَيْفيّ عَنْ أَبِي السّائِبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْريّ . قَالَ: سَمِعْتُهُ قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم: "إنّ بِالْمَدِينَةِ نَفَراً مِنَ الْجنّ قَدْ أَسْلَمُوا. فَمَنْ رَأَى شَيْئاً مِنْ هَذِه الْعَوَامِرِ فَليُؤْذِنْهُ ثَلاَثَاً. فَإنْ بَدَا لَهُ بَعْدُ فَلْيَقْتُلْهُ. فَإِنّهُ شَيْطَانٌ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "اقتلوا الحيات وذا الطفيتين والأبتر فإنهما يستسقطان الحبل ويلتمسان البصر". وفي رواية أن ابن عمر ذكر هذا الحديث ثم قال: (فكنت لا أترك حية أراها إلا قتلتها فبينا أنا أطارد حية يوماً من ذوات البيوت مر بي زيد بن الخطاب أو أبو لبابة وأنا أطاردها فقال مهلاً يا عبد الله فقلت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتلهن، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذوات البيوت) وفي رواية: (نهى عن قتل الجنان التي في البيوت) وفي رواية: (أن فتى من الأنصار قتل حية في بيته فمات في الحال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن بالمدينة جناً قد أسلموا فإذا رأيتم منهم شيئاً فأذنوه ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان"). وفي رواية: (إن لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئاً منها فحرجوا عليها ثلاثاً فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر) وفي الحديث الاَخر: (أنه صلى الله عليه وسلم أمرهم بقتل الحية التي خرجت عليهم وهم بغار منى) قال المازري: لا تقتل حيات مدينة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بإنذارها كما جاء في هذه الأحاديث، فإذا أنذرها ولم تنصرف قتلها. وأما حيات غير المدينة في جميع الأرض والبيوت والدور فيندب قتلها من غير إنذار، ولعموم الأحاديث الصحيحة في الأمر بقتلها، ففي هذه الأحاديث: (اقتلوا الحيات) وفي الحديث الاَخر: (خمس يقتلن في الحل والحرم) منها الحية ولم يذكر إنذاراً. وفي حديث الحية الخارجة بمنى أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتلها ولم يذكر إنذاراً ولا نقل أنهم أنذروها، قالوا: فأخذ بهذه الأحاديث في استحباب قتل الحيات مطلقاً وخصت المدينة بالإنذار للحديث الوارد فيها وسببه صرح به في الحديث أنه أسلم طائفة من الجن بها، وذهبت طائفة من العلماء إلى عموم النهي في حيات البيوت بكل بلد حتى تنذر، وأما ما ليس في البيوت فيقتل من غير إنذار، قال مالك: يقتل ما وجد منها في المساجد. قال القاضي: وقال بعض العلماء الأمر بقتل الحيات مطلقاً مخصوص بالنهي عن جنان البيوت إلا الأبتر وذا الطفيتين فإنه يقتل على كل حال سواء كانا في البيوت أم غيرها وإلا ما ظهر منها بعد الإنذار قال: ويخص من النهي عن قتل جنان البيوت الأبتر وذو الطفيتين والله أعلم. وأما صفة الإنذار فقال القاضي: روى ابن حبيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يقول: "أنشدكن بالعهد الذي أخذ عليكم سليمان بن داود أن لا تؤذونا ولا تظهرن لنا" وقال مالك: يكفي أن يقول أحرج عليك بالله واليوم الاَخر أن لا تبدو لنا ولا تؤذينا، ولعل مالكاً أخذ لفظ التحريج مما وقع في صحيح مسلم فحرجوا عليها ثلاثاً والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: (ذا الطفيتين) هو بضم الطاء المهملة وإسكان الفاء، قال العلماء: هما الخطان الأبيضان على ظهر الحية، وأصل الطفية خوصة المقل وجمعها طفى شبه الخطين على ظهرها بخوصتي المقل، وأما الأبتر فهو قصير الذنب، وقال نضر بن شميل: هو صنف من الحيات أزرق مقطوع الذنب لا تنظر إليه حامل إلا ألقت ما في بطنها. قوله صلى الله عليه وسلم: (يستسقطان الحبل) معناه أن المرأة الحامل إذا نظرت إليهما وخافت أسقطت الحمل غالباً. وقد ذكر مسلم في روايته عن الزهري أنه قال: يرى ذلك من سمهما، وأما يلتمسان البصر ففيه تأويلان ذكرهما الخطابي وآخرون: أحدهما معناه يخطفان البصر ويطمسانه بمجرد نظرهما إليه لخاصة جعلها الله تعالى في بصريهما إذا وقع على بصر الإنسان، ويؤيد هذه الرواية الأخرى في مسلم يخطفان البصر، والرواية الأخرى يلتمعان البصر، والثاني أنهما يقصدان البصر باللسع والنهش والأول أصح وأشهر. قال العلماء: وفي الحيات نوع يسمى الناظر إذا وقع نظره على عين إنسان مات من ساعته واللهأ علم. قوله: (يطارد حية) أي يطلبها ويتتبعها ليقتلها. قوله: (نهى عن قتل الجنان) هو بجيم مكسورة ونون مفتوحة وهي الحيات جمع جان وهي الحية الصغيرة، وقيل الدقيقة الخفيفة، وقيل الدقيقة البيضاء. قوله: (يفتح خوخة) هي بفتح الخاء وإسكان الواو وهي كوة بين دارين أو بيتين يدخل منها وقد تكون في حائط منفرد. قوله صلى الله عليه وسلم: "ويتتبعان ما في بطون النساء" أي يسقطانه كما سبق في الروايات الباقية على ما سبق شرحه وأطلق عليه التتبع مجازاً، ولعل فيهما طلباً لذلك جعله الله تعالى خصيصة فيهما. قوله: (عند الأطم) هو بضم الهمزة وهو القصر وجمعه آطام كعنق وأعناق.
قوله: (أمر محرماً بقتل حية بمنى) فيه جواز قتلها للمحرم وفي الحرم وأنه لا ينذرها في غير البيوت وأن قتلها مستحب.
قوله: (فكان ذلك الفتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار فيرجع إلى أهله) قال العلماء: هذا الاستئذان امتثال لقوله تعالى: {وإذا كانوا معه على أمر جامع لم يذهبوا حتى يستأذنوه} وأنصاف النهار بفتح الهمزة أي منتصفه وكأنه وقت لاَخر النصف الأول وأول النصف الثاني فجمعه كما قالوا ظهور الترسين، وأما رجوعه إلى أهله فليطالع حالهم ويقضي حاجتهم ويؤنس امرأته فإنها كانت عروساً كما ذكر في الحديث. قوله صلى الله عليه وسلم: "فأذنوا ثلاثة أيام فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان" قال العلماء: معناه وإذا لم يذهب بالإنذار علمتم أنه ليس من عوامر البيوت ولا ممن أسلم من الجن بل هو شيطان فلا حرمة عليكم فاقتلوه ولن يجعل الله له سبيلاً للإنتصار عليكم بثأره بخلاف العوامر ومن أسلم والله أعلم.
استحباب قتل الوزع
حَدّثَنا أَبُو بَكْرِ بْنُ شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ وَ إسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ (قَالَ إسْحَق: أَخْبَرنَا. وَقَالَ الاَخَرُونَ: حَدّثَنَا) سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنُ جُبَيْرِ بْنُ شَيْبَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمَيَسّبِ، عَنْ اُمّ شَرِيكٍ ، أَنّ النّبَيّ صلى الله عليه وسلم فِي قَتْلِ الْوِزْغَانِ. فَأَمَر بِقَتْلِهَا.
وَاُمّ شَرِيكٍ إحْدَى نِسَاءِ بَني عَامِرِ بْنُ لُؤَيّ. اتّفَقَ لَفْظُ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي خَلَفٍ وَعَبْدِ بْنُ حُمَيْدٍ. وَحَدِيثُ ابْنُ وَهْبٍ قَرِيبٌ مِنْهُ.
حَدّثَنا إسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالاَ: أَخْبَرنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرنَا مَعْمَرٌ عَن الزّهْرِيّ، عَنْ عَامِرِ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَرَغِ. وَسَمّاهُ فُوَيْسِقَاً.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَني يُونُسُ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْوَزَغِ "الْفُوَيْسِقُ".
زَادَ حَرْمَلَةُ: قَالَتْ: وَلَمْ أَسْمَعْهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ.
وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ عَنْ سُهْيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة . قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَتَلَ وَزَغَةً فِي أَوّلِ ضَرْبَةٍ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنةً. وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الضّرْبَةِ الثّانِيَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً. لِدُونِ الاُولَى. وَإنْ قَتَلَهَا فِي الضّرْبَةِ الثّالِثَةِ فَلَهُ كَذَا وَكَذَا حَسَنَةً. لِدُونِ الثّانِيَة".
حَدّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا أَبُو عَوانَةَ. ح وَحَدّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبِ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الصّبّاحِ. حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (يَعْنِي ابْنَ زَكَرِيّاءَ). ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا وَكِيَعٌ عَنْ سُفْيَانَ. كُلّهُمْ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمَعْنَى حَدِيثِ خَالِدٍ عَنْ سُهَيْلٍ. إِلاّ جَرِيراً وَحْدَهُ. فَإنّ فِي حَدِيثِهِ "مَنْ قَتَلَ وَزَغَاً فِي أَوّلِ ضَرْبَة كُتِبَتْ لَهُ مائِةُ حَسَنَةٍ. وَفِي الثّانِيَةِ دُونِ ذَلِكَ. وَفِي الثّالِثَةِ دُونَ ذَلِكَ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الصّبّاحِ. حَدّثَنَا إسْمَاعِيلُ (يَعْنِي ابْنَ زَكَرِيّاء) عَنْ سُهَيْلٍ. حَدّثَنِي اُخْتِي عَنْ أَبِي هُرَيْرَة ، عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "فِي أَوّلِ ضَرْبَةٍ سَبْعِينَ حَسنَةً".
قولها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بقتل الأوزاغ).
وفي رواية: (أمر بقتل الوزغ وسماه فويسقاً).
وفي رواية: (من قتل وزغة في أول ضربة فله كذا وكذا حسنة، ومن قتلها في الضربة الثانية فله كذا وكذا حسنة لدون الأولى، وإن قتلها في الضربة الثالثة فله كذا وكذا حسنة لدون الثانية) وفي رواية: (من قتل وزغاً في أول ضربة كتب له مائة حسنة وفي الثانية دون ذلك وفي الثالثة دون ذلك). وفي رواية: (في أول ضربة سبعين حسنة) قال أهل اللغة: الوزغ وسام أبرص جنس فسام أبرص هو كباره، واتفقوا على أن الوزغ من الحشرات المؤذيات وجمعه أوزاغ ووزغان، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وحث عليه ورغب فيه لكونه من المؤذيات، وأما سبب تكثير الثواب في قتله بأول ضربة ثم ما يليها فالمقصود به الحث على المبادرة بقتله والإعتناء به وتحريص قاتله على أن يقتله بأول ضربة، فإنه إذا أراد أن يضربه ضربات ربما انفلت وفات قتله، وأما تسميته فويسقاً فنظيره الفواسق الخمس التي تقتل في الحل والحرم، وأصل الفسق الخروج وهذه المذكورات خرجت عن خلق معظم الحشرات ونحوها بزيادة الضرر والأذى، وأما تقييد الحسنات في الضربة الأولى بمائة وفي رواية بسبعين فجوابه من أوجه سبقت في صلاة الجماعة تزيد بخمس وعشرين درجة، وفي روايات بسبع وعشرين، أحدها أن هذا مفهوم للعدد ولا يعمل به عند الأصوليين غيرهم، فذكر سبعين لا يمنع المائة فلا معارضة بينهما. الثاني لعله أخبرنا بسبعين ثم تصدق الله تعالى بالزيادة فأعلم بها النبي صلى الله عليه وسلم حين أوحى إليه بعد ذلك. والثالث أنه يختلف باختلاف قاتلي الوزغ بحسب نياتهم وإخلاصهم وكمال أحوالهم ونقصها، فتكون المائة للكامل منهم والسبعين لغيره والله أعلم. قوله: (حدثنا محمد بن الصباح حدثنا إسماعيل يعني ابن زكريا عن سهيل قال حدثتني أختي عن أبي هريرة) كذا وقع في كثر النسخ أختي، وفي بعضها أخي بالتذكير، وفي بعضها أبي، وذكر القاضي الأوجه الثلاثة، قالوا: ورواية أبي خطأ وهي الواقعة في رواية أبي العلاء ابن باهان، ووقع في رواية أبي داود أخي أو أختي، قال القاضي: أخت سهيل سودة وأخواه هشام وعباد.
النهي عن قتل النمل
حَدّثَني أبُو الطّاهِرِ وَ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ قَالاَ: أَخْبَرنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُس عَن ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدٍ بْنُ المُسَيّبِ وَ أَبِي سَلَمَة بْنُ عَبْدِ الرّحْمَن، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم " أَنّ نمْلَةً قَرَصَتْ نِبِيّاً مِنَ الأَنْبِيَاءِ. فَأَمَرَ بِقَرْيَةِ النّمْلِ فَاُحْرِقتْ، فَأَوْحَى الله إِلَيْهِ: أَفِي أَنْ قَرَصَتْكَ نَمْلَةٌ أَهْلَكتَ اُمّةً مِنَ الاُمَمَ تُسَبّحُ؟"
حَدّثَنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا الْمُغِيرَةُ (يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِزَاميّ) عَنْ أَبي الزّنَاد، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَزَل نَبِيّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةِ. فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ. فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ فَاُخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا. ثُمّ أَمَرَ بِها فَاُحْرِقَتْ. فَأَوْحَى اللهُ إلَيْهِ: فَهَلاّ نَمْلَةً وَاحِدَةً".
وحدّثنا مُحَمّد بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقُ. أَخْبَرنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنُ مُنَبّهٍ. قَالَ: هَذا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم "نَزَلَ نَبِيّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ تَحْتَ شَجَرَةٍ. فَلَدَغَتْهُ نَمْلَةٌ. فَأَمَرَ بِجِهَازِهِ فَأَخْرِجَ مِنْ تَحْتِهَا. وأَمَر بَهَا فَأَحْرِقَتْ فِي النّارِ. قَالَ فَأَوْحَىَ اللهِ إِلَيْهِ: فَهَلاّ نَمْلَةً وَاحِدَةً".
قوله صلى الله عليه وسلم: "أن نملة قرصت نبياً من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله إليه في أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح" وفي رواية: "فهلا نملة واحدة". قال العلماء: وهذا الحديث محمول على أن شرع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان فيه جواز قتل النمل وجواز الإحراق بالنار، ولم يعتب عليه في أصل القتل والإحراق بل في الزيادة على نملة واحدة. وقوله تعالى: فهلا نملة واحدة؟ أي فهلا عاقبت نملة واحدة هي التي قرصتك لأنها الجانية وأما غيرها فليس لها جناية، وأما في شرعنا فلا يجوز الإحراق بالنار للحيوان إلا إذا أحرق إنساناً فمات بالإحراق فلوليه الإقتصاص بإحراق الجاني، وسواء في منع الإحراق بالنار القمل وغيره للحديث المشهور: "لا يعذب بالنار إلا الله" وأما قتل النمل فمذهبنا أنه لا يجوز، واحتج أصحابنا فيه بحديث ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل أربع من الدواب: النملة والنحلة والهدهد والصرد" رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط البخاري ومسلم. وقوله صلى الله عليه وسلم: "فأمر بقرية النمل فأحرقت" وفي رواية: "فأمر بجهازه فأخرج من تحت الشجرة" أما قرية النمل فهي منزلهن، والجهاز بفتح الجيم وكسرها وهو المتاع.
*2* باب تحريم قتل الهرة
*حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَسْمَاءَ الضّبَعِيّ. حَدّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "عُذّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرّةٍ سَجَنَتْهَا حَتّىَ مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النّارَ. لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَسَقَتْهَا، إذْ حَبَسَتْهَا. وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الاَْرْضِ".
وحدّثني نَصْرُ بْنُ عَلِيّ الْجَهْضَمِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الاَْعْلَىَ عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عُمَرَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. وَعَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبَرِيّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِ مَعْنَاهُ.
وحدّثناهُ هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ وَ عَبْدِ اللّهِ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مَعْنِ بْنِ عِيْسَىَ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِذَلِكَ.
وحدّثنا أَبُو كُرَييْبِ. حَدّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ هِشَامِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "عُذّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرّةٍ لَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَسْقِهِا. وَلَمْ تَتْرُكْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ".
وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا خَالِدُ ابْنُ الْحَارِثِ. حَدّثَنَا هِشَامٌ بِهَذَا الإسْنَادِ. وَفِي حَدِيثِهِمَا "رَبَطَتْهَا". وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُعَاوِيَةَ "حَشَرَاتِ الاَْرْضِ".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا) عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. قَالَ: قَالَ الزّهْرِيّ: وَحَدّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. بِمَعْنَىَ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. نَحْوَ حَدِيثِهِمْ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "عذبت امرأة في هرة سجنتها حتى ماتت فدخلت فيها النار لا هي أطعمتها وسقتها إذا حبستها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض".
وفي رواية: "ربطتها". وفي رواية: "تأكل من حشرات الأرض". معناه عذبت بسبب هرة، ومعنى دخلت فيها أي بسببها، وخشاش الأرض بفتح الخاء المعجمة وكسرها وضمها حكاهن في المشارق الفتح أشهر، وروي بالحاء المهملة والصواب المعجمة وهي هوام الأرض وحشراتها كما وقع في الرواية الثانية، وقيل المراد به نبات الأرض وهو ضعيف أو غلط، وفي الحديث دليل لتحريم قتل الهرة وتحريم حبسها بغير طعام أو شراب، وأما دخولها النار بسببها فظاهر الحديث أنها كانت مسلمة وإنما دخلت النار بسبب الهرة. وذكر القاضي أنه يجوز أنها كافرة عذبت بكفرها وزيد في عذابها بسبب الهرة، واستحقت ذلك لكونها ليست مؤمنة تغفر صغائرها باجتناب الكبائر، هذا كلام القاضي، والصواب ما قدمناه أنها كانت مسلمة وأنها دخلت النار بسببها كما هو ظاهر الحديث، وهذه المعصية ليست صغيرة بل صارت بإصرارها كبيرة، وليس في الحديث أنها تخلد في النار، وفيه وجوب نفقة الحيوان على مالكه والله أعلم.
*2* باب فضل ساقي البهائم المحترمة وإطعامها
*حَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكٍ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ، عَنْ سُمَيّ مَوْلَىَ أَبِي بَكْرِ، عَنْ أَبِي صَالِحِ اليّمّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشي بِطَرِيقِ، اشْتَدَ عَلَيْهِ الْعَطَشُ. فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ. ثُمّ خَرَجَ. فَإذَا كَلْبٌ يَلْهَثْ يَأْكُلُ الثّرىَ مِنَ الْعَطَشِ. فَقَالَ الرّجُلُ: لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنَ الْعَطَشِ مِثْلُ الّذِي كَانَ بَلَغَ مِنّي. فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلأَ خُفَهُ مَاءً. ثُمّ أَمْسَكَهُ بِفَيْهِ حَتّىَ رَقِيَ. فَسَقَى الْكَلْبَ. فَشَكَرَ اللّهُ لَهُ. فَغَفَرَ لَهُ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّهِ! وَإنّ لَنَا فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ لأَجْرًا؟ فَقَالَ "فِي كُلّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْرٌ".
حَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو خَالِدٍ الاَْحْمَرُ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ مُحَمّدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم "أَنّ امْرَأَةً بَغِيّا رَأَتْ كَلْبًا فِي يَوْمٍ حَارّ يُطِيفُ بِبِئْرٍ. قَدْ أَدْلَعَ لِسَانَهُ مِنَ الْعَطَشِ. فَنَزَعَتْ لَهُ بِمُوقِهَا. فَغُفِرَ لَهَا".
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهَبٍ. أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيّوبَ السّخْتِيَانِيّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيّةٍ قَدْ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إذْ رَأَتْهُ بَغِيّن مِنْ بَغَايَا بَنِي إسْرَائِيلَ. فَنَزَعَتْ مُوقَهَا، فَاسْتَقَتْ لَهُ بِهِ، فَسَقَتْهُ إيّاهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "في كل كبد رطبة أجر" معناه في الإحسان إلى كل حيوان حي بسقيه ونحوه أجر، وسمي الحي ذا كبد رطبة لأن الميت يجف جسمه وكبده، ففي هذا الحديث الحث على الإحسان إلى الحيوان المحترم وهو ما لا يؤمر بقتله، فأما المأمور بقتله فيمتثل أمر الشرع في قتله، والمأمور بقتله كالكافر الحربي والمرتد والكلب العقور والفواسق الخمس المذكورات في الحديث وما في معناهن، وأما المحترم فيحصل الثواب بسقيه والإحسان إليه أيضاً بإطعامه وغيره، سواء كان مملوكاً أو مباحاً، وسواء كان مملوكاً له أو لغيره والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش" أما الثرى فالتراب الندي، ويقال لهث بفتح الهاء وكسرها يلهث بفتحها لا غير لهثاً بإسكانها والاسم اللهث بفتحها واللهاث بضم اللام، ورجل لهثان وامرأة لهثى كعطشان وعطشى وهو الذي أخرج لسانه من شدة العطش والحر. قوله: (حتى رقي فسقى الكلب) يقال رقي بكسر القاف على اللغة الفصيحة المشهورة وحكي فتحها وهي لغة طي في كل ما أشبه هذا.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها" أما البغي فهي الزانية والبغاء بالمد هو الزنا، ومعنى يطيف أي يدور حولها بضم الياء، ويقال طاف به وأطاف إذا دار حوله، وأدلع لسانه ودلعه لغتان أي أخرجه لشدة العطش، والموق بضم الميم هو الخف فارسي معرب، ومعنى نزعت له بموقها أي استقت يقال نزعت بالدلو إذا استقيت به من البئر ونحوها ونزعت الدلو أيضاً. قوله: (فشكر الله له فغفر له) معناه قبل عمله وأثابه وغفر له والله أعلم.