كتاب الفضائل
 *1* كتاب الفضائل
*2* باب فضل نسب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وتسليم الحجر عليه قبل النبوّة
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ مِهْرَانَ الرّازِيّ وَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ سَهْمٍ، جَمِيعاً عَنِ الْوَلِيدِ. قَالَ ابْنُ مِهْرَانَ: حَدّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ. حَدّثَنَا الأَوْزَاعِيّ عَنْ أَبِي عَمّارٍ، شَدّادٍ أَنّهُ سَمِعَ وَاثِلَةَ بْنَ الأَسْقَعِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّ اللّهَ اصْطَفَىَ كِنَانَةَ مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَاصْطَفَىَ قُرَيْشاً مِنْ كِنَانَةَ. وَاصْطَفَىَ مِنْ قُرَيْشٍ بَنِي هَاشِمٍ. وَاصْطَفَانِي مِنْ بَنِي هَاشِمٍ"
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي بُكَيْرٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ طَهْمَانَ. حَدّثَنِي سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّي لأَعْرِفُ حَجَراً بِمَكّةَ كَانَ يُسَلّمُ عَلَيّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ. إِنّي لأَعْرِفُهُ الاَنَ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله اصطفى كنانة" إلى آخره استدل به أصحابنا على أن غير قريش من العرب ليس بكفء لهم ولا غير بني هاشم كفؤ لهم إلا بني المطلب فإنهم هم وبنو هاشم شيء واحد كما صرح به في الحديث الصحيح والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الاَن" فيه معجزة له صلى الله عليه وسلم، وفي هذا إثبات التمييز في بعض الجمادات وهو موافق لقوله تعالى في الحجارة: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} وقوله تعالى: {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} وفي هذه الاَية خلاف مشهور، والصحيح أنه يسبح حقيقة ويجعل الله تعالى فيه تمييزاً بحسبه كما ذكرنا. ومنه الحجر الذي فربثوب موسى صلى الله عليه وسلم، وكلام الذراع المسمومة، ومشي إحدى الشجرتين إلى الأخرى حين دعاهما النبي صلى الله عليه وسلم وأشباه ذلك.
*2* باب تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق
*حدّثني الْحَكَمُ بْنُ مُوسَىَ، أَبُو صَالِحٍ. حَدّثَنَا هِقْلٌ (يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ) عَنِ الأَوزَاعِيّ. حَدّثَنِي أَبُو عَمّارٍ. حَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ فَرّوخَ. حَدّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا سَيّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَأَوّلُ مَنْ يَنْشَقّ عَنْهُ الْقَبْرُ. وَأَوّلُ شَافِعٍ وَأَوّلُ مُشْفّعٍ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع" قال الهروي: السيد هو الذي يفوق قومه في الخير، وقال غيره: هو الذي يفزع إليه في النوائب والشدائد فيقوم بأمرهم ويتحمل عنهم مكارههم ويدفعها عنهم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "يوم القيامة" مع أنه سيدهم في الدنيا والاَخرة فسبب التقييد أن في يوم القيامة يظهر سؤدده لكل أحد ولا يبقى مناع ولا معاند ونحوه، بخلاف الدنيا فقد نازعه ذلك فيها ملوك الكفار وزعماء المشركين. وهذا التقييد قريب من معنى قوله تعالى: {لمن الملك اليوم لله الواحد القهار} مع أن الملك له سبحانه قبل ذلك، لكن كان في الدنيا من يدعي الملك أو من يضاف إليه مجازاً فانقطع كل ذلك في الاَخرة. قال العلماء: وقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم" لم يقله فخراً بل صرح بنفي الفخر في غير مسلم في الحديث المشهور: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) وإنما قاله لوجهين: أحدهما امتثال قوله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} والثاني أنه من البيان الذي يجب عليه تبليغه إلى أمته ليعرفوه ويعتقدوه ويعملوا بمقتضاه ويوقروه صلى الله عليه وسلم بما تقتضي مرتبته كما أمرهم الله تعالى، وهذا الحديث دليل لتفضيله صلى الله عليه وسلم على الخلق كلهم، لأن مذهب أهل السنة أن الاَدميين أفضل من الملائكة وهو صلى الله عليه وسلم أفضل الاَدميين وغيرهم. وأما الحديث الاَخر: (لا تفضلوا بين الأنبياء) فجوابه من خمسة أوجه: أحدها أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم فلما علم أخبر به. والثاني قاله أدباً وتواضعاً. والثالث أن النهي إنما هو عن تفضيل يؤدي إلى تنقيص المفضول. والرابع إنما نهى عن تفضيل يؤدي إلى الخصومة والفتنة كما هو المشهور في سبب الحديث. والخامس أن النهي مختص بالتفضيل في نفس النبوة فلا تفاضل فيها وإنما التفاضل بالخصائص وفضائل أخرى ولا بد من اعتقاد التفضيل فقد قال الله تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض}. قوله صلى الله عليه وسلم: "وأول شافع وأول مشفع" إنما ذكر الثاني لأنه قد يشفع اثنان فيشفع الثاني منهما قبل الأول والله أعلم.
*2* باب في معجزات النبيّ صلى الله عليه وسلم
*وحدّثني أَبُو الرّبِيعِ، سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ الْعَتَكِيّ. حَدّثَنَا حَمّادٌ (يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ). حَدّثَنَا ثابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم دَعَا بِمَاءٍ فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ. فَجَعَلَ الْقَوْمُ يَتَوَضّأُونَ. فَحَزَرْتُ مَا بَيْنَ السّتّينَ إِلَىَ الثّمَانِينَ. قَالَ: فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَىَ الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ.
وحدّثني إِسْحَقُ بْنُ مُوسَى الأَنْصَارِيّ. حَدّثَنَا مَعْنٌ. حَدّثَنَا مَالِكٌ. ح وَحَدّثَنِي أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَانَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ، فَالْتَمَسَ النّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ. فَأُتِيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِوَضُوءٍ. فَوَضَعَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ. وَأَمَرَ النّاسَ أَنْ يَتَوَضّأُوا مِنْهُ. قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحْتِ أَصَابِعِهِ. فَتَوَضّأَ النّاسُ حَتّىَ تَوَضّأُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.
حدّثني أَبُو غَسّانَ الْمِسْمَعِيّ. حَدّثَنَا مُعَاذٌ (يَعْنِي ابْنَ هِشَامٍ). حَدّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ. حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابَهُ بِالزّوْرَاءِ (قَالَ: وَالزّوْرَاءُ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ السّوقِ وَالْمَسْجِدِ فِيما ثَمّهْ) دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ. فَوَضَعَ كَفّهُ فِيهِ. فَجَعَلَ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. فَتَوَضّأَ جَمِيعُ أَصْحَابِهِ. قَالَ: قُلْتُ: كَمْ كَانُوا يَا أَبَا حَمْزَةَ؟ قَالَ: وكَانُوا زُهَاءَ الثّلاَثِمِائَةِ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا مُحَمّدُ عَنْ ابْنِ جَعْفَرٍ. عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ بِالزّوْرَاءِ. فَأُتِيَ بِإِنَاءِ مَاءٍ لاَ يَغْمُرُ أَصَابِعَهُ. أَوْ قَدْرَ مَا يُوَارِي أَصَابِعَهُ. ثُمّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ هِشَامٍ.
وحدّثني سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ. حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْينَ. حَدّثَنَا مَعْقِلٌ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ أُمّ مَالِكٍ كَانَتْ تُهْدِي لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِي عُكّةٍ لَهَا سَمْناً. فَيَأْتِيهَا بَنُوهَا فَيَسْأَلُونَ الأُدْمَ. وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ شَيْءٌ. فَتَعْمِدُ إِلَىَ الّذِي كَانَتْ تُهْدِي فِيهِ لِلنّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَتَجِدُ فِيهِ سَمْناً. فَمَا زَالَ يُقِيمُ لَهَا أُدْمَ بَيْتِهَا حَتّىَ عَصَرَتْهُ. فَأَتَتِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "عَصَرْتِيهَا؟" قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: "لَوْ تَرَكْتِيهَا مَا زَالَ قَائِماً".
وحدّثني سَلَمَةُ بْنُ شَبِيبٍ، حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ. حَدّثَنَا مَعْقِلٌ عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ أَنّ رَجُلاً أَتَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَسْتَطْعِمُهُ. فَأَطْعَمَهُ شَطْرَ وَسْقِ شَعِيرٍ. فَمَا زَالَ الرّجُلُ يَأْكُلُ مِنْهُ وَامْرَأَتُهُ وَضَيْفُهُمَا. حَتّىَ كَالَهُ. فَأَتَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "لَوْ لَمْ تَكِلْهُ لأَكَلْتُمْ مِنْهُ، وَلَقَامَ لَكُمْ".
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. حَدّثَنَا أَبُو عَلِيَ الْحَنَفِيّ. حَدّثَنَا مَالِكٌ (وَهُوَ ابْنُ أَنَسٍ) عَنْ أَبِي الزّبَيْرِ الْمَكّيّ أَنّ أَبَا الطّفَيْلِ عَامِرَ بْنَ وَاثِلَةَ أَخْبَرَهُ أَنّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ أَخْبَرَهُ. قَالَ: خَرَجْنَا معَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ غَزْوَةِ تَبُوكَ. فَكَانَ يَجْمَعُ الصّلاَةَ. فَصَلّىَ الظّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعاً. وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعاً. حَتّىَ إِذَا كَانَ يَوْماً أَخّرَ الصّلاَةَ. ثُمّ خَرَجَ فَصَلّىَ الظّهْرَ وَالْعَصْرَ جَمِيعاً. ثُمّ دَخَلَ ثُمّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ. فَصَلّىَ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ جَمِيعاً. ثُمّ قَالَ: "إِنّكُمْ سَتَأْتُونَ غَداً، إِنْ شَاءَ اللّهُ، عَيْنَ تَبُوكَ. وَإِنّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتّىَ يُضْحِيَ النّهَارُ. فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلاَ يَمَسّ مِنْ مَائِهَا شَيْئاً حَتّىَ آتِيَ". فَجِئْنَاهَا وَقَدْ سَبَقَنَا إِلَيْهَا رَجُلاَنِ. وَالْعَيْنُ مِثْلُ الشّرَاكِ تَبِضّ بِشَيْءٍ مِنْ مَاءٍ. قَالَ: فَسَأَلَهُمَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "هَلْ مَسَسْتُمَا مِنْ مَائِهَا شَيْئاً؟" قَالاَ: نَعَمْ. فَسَبّهُمَا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، وَقَال لَهُمَا مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَقُولَ. قَالَ: ثُمّ غَرَفُوا بِأَيْدِيهِمْ مِنَ الْعَيْنِ قَلِيلاً قَلِيلاً. حَتّىَ اجْتَمَعَ فِي شَيْءٍ. قَالَ: وَغَسَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِيهِ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ. ثُمّ أَعَادَهُ فِيهَا. فَجَرَتِ الْعَيْنُ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ. أَوْ قَالَ: غَزِيرٍ شَكّ أَبُو عَلِيَ أَيّهُمَا قَالَ حَتّىَ اسْتَقَى النّاسُ. ثُمّ قَالَ: "يُوشِكُ، يَا مُعَاذُ إِنْ طَالَتْ بِكَ حَيَاةٌ، أَنْ تَرَىَ مَا هَهُنَا قَدْ مُلِئَ جِنَاناً".
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ. حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَىَ، عَنْ عَبّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيّ، عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ. قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ. فَأَتَيْنَا وَادِيَ الْقُرَىَ عَلَىَ حَدِيقَةٍ لاِمْرَأَةٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "اخْرِصُوهَا" فَخَرَصْنَاهَا. وَخَرَصَهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَشَرَةَ أَوْسُقٍ. وَقَالَ: "أَحْصِيهَا حَتّىَ نَرْجِعَ إِلَيْكِ، إِنْ شَاءَ اللّهُ". وَانْطَلَقْنَا. حَتّىَ قَدِمْنَا تَبُوكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "سَتَهُبّ عَلَيْكُمُ اللّيْلَةَ رِيحٌ شَدِيدَةٌ. فَلاَ يَقُمْ فِيهَا أَحَدٌ مِنْكُمْ. فَمَنْ كَانَ لَهُ بَعِيرٌ فَلْيَشُدّ عِقَالَهُ" فَهَبّتْ رِيحٌ شَدِيدَةٌ. فَقَامَ رَجُلٌ فَحَمَلَتْهُ الرّيحُ حَتّىَ أَلْقَتْهُ بِجَبَلَيْ طَيّءٍ. وَجَاءَ رَسُولُ ابْنِ الْعَلْمَاءِ، صَاحِبِ أَيْلَةَ، إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِكِتَابٍ. وَأَهْدَىَ لَهُ بَغْلَةً بَيْضَاءَ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَهْدَىَ لَهُ بُرْداً. ثُمّ أَقْبَلْنَا حَتّىَ قَدِمْنَا وَادِيَ الْقُرَىَ. فَسَأَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَرْأَةَ عَنْ حَدِيقَتِهَا: "كَمْ بَلَغَ ثَمَرُهَا؟" فَقَالَتْ: عَشَرَةَ أَوْسُقٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّي مُسْرِعٌ. فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَلْيُسْرِعْ مَعِيَ. وَمَنْ شَاءَ فَلْيَمْكُثْ" فَخَرَجْنَا حَتّىَ أَشْرَفْنَا عَلَىَ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ: "هَذِهِ طَابَةُ. وَهَذَا أُحُدٌ. وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبّنَا وَنُحِبّهُ". ثُمّ قَالَ: "إِنّ خَيْرَ دُورِ الأَنْصَارِ دَارُ بَنِي النّجّارِ. ثُمّ دَارُ بَنِي عَبْدِ الأَشْهَلِ. ثُمّ دَارُ بَنِي عَبْدِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ. ثُمّ دَارُ بَنِي سَاعِدَةَ. وَفِي كُلّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ" فَلَحِقَنَا سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ. فَقَالَ أَبُو أُسَيْدٍ: أَلَمْ تَرَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَيّرَ دُورَ الأَنْصَارِ. فَجَعَلَنَا آخِراً. فَأَدْرَكَ سَعْدٌ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ خَيّرْتَ دُورَ الأَنْصَارِ فَجَعَلْتَنَا آخِراً. فَقَالَ: "أَوَلَيْسَ بِحَسْبِكُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ الْخِيَارِ".
حدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَفّانُ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. أَخْبَرَنَا الْمُغِيْرَةُ بْنُ سَلَمَةَ المْخَزُومِيّ. قَالاَ: حَدّثَنَا وُهَيْبٌ. حَدّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَىَ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، إِلَىَ قَوْلِهِ "وَفِي كُلّ دُورِ الأَنْصَارِ خَيْرٌ" وَلَمْ يَذْكُرْ مَا بَعْدَهُ مِنْ قِصّةِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ. وَزَادَ فِي حَدِيثِ وُهَيْبٍ: فَكَتبَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِبَحْرِهِمْ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِ وُهَيْبِ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
قوله في هذه الأحاديث في نبع الماء من بين أصابعه وتكثيره وتكثير الطعام. هذه كلها معجزات ظاهرات وجدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواطن مختلفة وعلى أحوال متغايرة وبلغ مجموعها التواتر. وأما تكثير الماء فقد صح من رواية أنس وابن مسعود وجابر وعمران بن الحصين، وكذا تكثير الطعام وجد منه صلى الله عليه وسلم في مواطن مختلفة وعلى أحوال كثيرة وصفات متنوعة، وقد سبق في كتاب الرقى بيان حقيقة المعجزة والفرق بينها وبين الكرامة، وسبق قبل ذلك بيان كيفية تكثير الطعام وغيره. قوله: (فأتى بقدح رحراح) هو بفتح الراء وإسكان الحاء المهملة ويقال له رحرح بحذف الألف وهو الواسع القصير الجدار. قوله: (فجعلت أنظر إلى الماء ينبع من بين أصابعه) هو بضم الباء وفتحها وكسرها ثلاث لغات، وفي كيفية هذا النبع قولان حكاهما القاضي وغيره: أحدهما ونقله القاضي عن المزني وأكثر العلماء أن معناه أن الماء كان يخرج من نفس أصابعه صلى الله عليه وسلم وينبع من ذاتها قالوا وهو أعظم في المعجزة من نبعه من حجر، ويؤيد هذا أنه جاء في رواية: فرأيت الماء ينبع من أصابعه. والثاني يحتمل أن الله كثر الماء في ذاته فصار يفور من بين أصابعه لا من نفسها وكلاهما معجزة ظاهرة وآية باهرة. قوله: (فالتمس الناس الوضوء) هو بفتح الواو على المشهور وهو الماء الذي يتوضأ به وسبق بيان لغاته في كتاب الطهارة. قوله: (حتى توضؤوا من عند آخرهم) هكذا هو في الصحيحين من عند آخرهم وهو صحيح ومن هنا بمعنى إلى وهي لغة. قوله: (كانوا زهاء الثلاثمائة) أما زهاء فبضم الزاي وبالمد أي قدر ثلاثمائة ويقال أيضاً لها باللام. وقال في هذه الرواية ثلاثمائة، وفي الرواية التي قبلها ما بين الستين إلى الثمانين. قال العلماء: هما قضيتان جرتا في وقتين ورواهما جميعاً أنس. وأما قوله الثلاثمائة فهكذا هو في جميع النسخ الثلاثمائة وهو صحيح، وسبق شرحه في كتاب الإيمان في حديث حذيفة اكتبوا لي كم بلفظ الإسلام. قوله: (لا يغمر أصابعه) أي لا يغطيها. قوله: (والمسجد فيما ثمة) هكذا هو في جميع النسخ ثمة، قال أهل اللغة: ثم بفتح الثاء وثمة بالهاء بمعنى هناك وهنا فثم للبعيد وثمة للقريب.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لو تركتيها ما زال قائماً" أي موجوداً حاضراً.
قوله في حديث غزوة تبوك: (كان يجمع الصلاة) إلى آخره هذا الحديث سبق في كتاب الصلاة وفيه هذه المعجزة الظاهرة في تكثير الماء، وفيه الجمع بين الصلاتين في السفر. قوله: (والعين مثل الشراك تبض) هكذا ضبطناه هنا تبض بفتح التاء وكسر الموحدة وتشديد الضاد المعجمة، ونقل القاضي اتفاق الرواة هنا على أنه بالضاد المعجمة ومعناه تسيل، واختلفوا في ضبطه هناك فضبطه بعضهم بالمعجمة وبعضهم بالمهملة أي تبرق. والشراك بكسر الشين وهو سير النعل ومعناه ماء قليل جداً. قوله: (فجرت العين بماء منهمر) أي كثير الصب والدفع. قوله صلى الله عليه وسلم: "قد ملئ جناناً" أي بساتين وعمراناً وهو جمع جنة وهو أيضاً من المعجزات. قوله في حديث المرأة أنها حين عصرت العكة ذهبت بركة السمن. وفي حديث الرجل حين كال الشعير فني. ومثله حديث عائشة حين كالت الشعير ففني، قال العلماء: الحكمة في ذلك أن عصرها وكيله مضادة للتسليم والتوكل على رزق الله تعالى، ويتضمن التدبير والأخذ بالحول والقوة وتكلف الإحاطة بأسرار حكم الله تعالى وفضله فعوقب فاعله بزواله.
قوله صلى الله عليه وسلم في الحديقة: "اخرصوها" هو بضم الراء وكسرها والضم أشهر أي احزروا كم يجيء من تمرها. فيه استحباب امتحان العالم أصحابه بمثل هذا التمرين، والحديقة البستان من النخل إذا كان عليه حائط. قوله صلى الله عليه وسلم: "ستهب عليكم الليلة ريح شديدة فلا يقم فيها أحد فمن كان له بعير فليشد عقاله فهبت ريح شديدة فقام رجل فحملته الريح حتى ألقته بِجَبَلَيْ طيء" هذا الحديث فيه هذه المعجزة الظاهرة من أخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيب وخوف الضرر من القيام وقت الريح، وفيه ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الشفقة على أمته والرحمة لهم والاعتناء بمصالحهم وتحذيرهم ما يضرهم في دين أو دنيا، وإنما أمر بشد عقل الجمال لئلا ينفلت منها شيء فيحتاج صاحبه إلى القيام في طلبه فيلحقه ضرر الريح، وجبلا طيء مشهوران يقال لأحدهما أجاء بفتح الهمزة والجيم وبالهمز، والاَخر سلمى بفتح السين، وطيء بياء مشددة بعدها همزة على وزن سيد وهو أبو قبيله من اليمن وهو طيء بن ادر بن زيد بن كهلان بن سبأ بن حمير، قال صاحب التحرير: وطي يهمز ولا يهمز لغتان. قوله: (وجاء رسول بن العلماء) بفتح العين المهملة وإسكان اللام وبالمد. قوله: (وأهدى له بغلة بيضاء) فيه قبول هدية الكافر، وسبق بيان هذا الحديث وما يعارضه في الظاهر وجمعنا بينهما، وهذه البغلة هي دلدل بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفة، لكن ظاهر لفظه هنا أنه أهداها للنبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وقد كانت غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة، وقد كانت هذه البغلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك وحضر عليها غزاة حنين كما هو مشهور في الأحاديث الصحيحة، وكانت حنين عقب فتح مكة سنة ثمان، قال القاضي: ولم يرو أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة غيرها، قال: فيحمل قوله على أنه أهداها له قبل ذلك، وقد عطف الإهداء على المجيء بالواو وهي لا تقتضي الترتيب والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "وهذا أحد وهو جبل يحبنا ونحبه" سبق شرحه في آخر كتاب الحج. قوله صلى الله عليه وسلم: "خير دور الأنصار دار بني النجار" قال القاضي: المراد أنه الدور والمراد القبائل، وإنما فضل بني النجار لسبقهم في الإسلام وآثارهم الجميلة في الدين. قوله: (ثم دار بني عبد الحارث بن خزرج) هكذا هو في النسخ بني عبد الحارث وكذا نقله القاضي قال وهو خطأ من الرواة وصوابه بني الحارث بحذف لفظة عبد. قوله: (وكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم ببحرهم) أي ببلدهم والبحار القرى.
*2* باب توكله على الله تعالى، وعصمة الله تعالى له من الناس
*حدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ. ح وَحَدّثَنِي أَبُو عِمْرَانَ، مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ (وَاللّفْظُ لَهُ). أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ (يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ) عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ سِنَانِ بْنِ أَبِي سِنَانٍ الدّوءَلِيّ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ. قَالَ: غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةً قِبَل نَجْدٍ. فَأَدْرَكَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ. فَنَزَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ شَجَرَةٍ. فَعَلّقَ سَيْفَهُ بِغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِهَا. قَالَ: وَتَفَرّقَ النّاسُ فِي الْوَادِي يَسْتَظِلّونَ بِالشّجَرِ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ رَجُلاً أَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ. فَأَخَذَ السّيْفَ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَىَ رَأْسِي. فَلَمْ أَشْعُرْ إِلاّ وَالسّيْفُ صَلْتاً فِي يَدِهِ. فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللّهُ. ثُمّ قَالَ فِي الثّانِيَةِ: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنّي؟ قَالَ: قُلْتُ: اللّهُ. قَالَ: فَشَامَ السّيْفَ. فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ" ثُمّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
وحدّثني عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ. قَالاَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ. أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزّهْرِيّ. حَدّثَنِي سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الدّؤلِيّ وَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَنّ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ الأَنْصَارِيّ، وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، أَخْبَرَهُمَا أَنّهُ غَزَا مَعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةً قِبَلَ نَجْدٍ. فَلَمّا قَفَلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَفَلَ مَعَهُ. فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ يَوْماً. ثُمّ ذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ وَمَعْمَرٍ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَفّانُ. حَدّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ. حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرٍ. قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. حَتّى إِذَا كُنّا بِذَاتِ الرّقَاعِ. بِمَعْنِىَ حَدِيثِ الزّهْرِيّ. وَلَمْ يَذْكُرْ: ثُمّ لَمْ يَعْرِضْ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
فيه حديث جابر، ففيه بيان توكل النبي صلى الله عليه وسلم على الله وعصمة الله تعالى له من الناس كما قال الله تعالى: {والله يعصمك من الناس} وفيه جواز الاستظلال بأشجار البوادي وتعليق السلاح وغيره فيها، وجواز المن على الكافر الحربي وإطلاقه. وفيه الحث على مراقبة الله تعالى والعفو والحلم ومقابلة السيئة بالحسنة. قوله: (في واد كثير العضاه) هو بالعين المهملة والضاد المعجمة وهي كل شجرة ذات شوك. قوله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلاً أتاني" قال العلماء: هذا الرجل اسمه غورث بغين معجمة وثاء مثلثة والغين مضمومة ومفتوحة. وحكى القاضي الوجهين ثم قال: الصواب الفتح، قال: وضبطه بعض رواة البخاري بالعين المهملة والصواب المعجمة. وقال الخطابي: هو غويرث أو غورث على التصغير والشك وهو غورث بن الحارث. قال القاضي: وقد جاء في حديث آخر مثل هذا الخبر وسمى الرجل فيه دعثوراً. قوله صلى الله عليه وسلم: "والسيف صلتاً في يده إلى قوله فشام السيف" أما صلتاً فبفتح الصاد وضمها أي مسلولاً، وأما شامه فبالشين المعجمة ومعناه غمده ورده في غمده، يقال: شام السيف إذا سله وإذا أغمده فهو من الأضداد والمراد هنا أغمده.
*2* باب بيان مثل ما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو عَامِرٍ الأَشْعَرِيّ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ (وَاللّفْظُ لاَِبِي عَامِرٍ). قَالُوا: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَىَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ مَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ عَزّ وَجَلّ مِنَ الْهُدَىَ وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضاً. فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ طَيّبةٌ. قَبِلَتِ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ. وَكَانَ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ. فَنَفَعَ اللّهُ بِهَا النّاسَ. فَشَرِبُوا مِنْهَا وَسَقَوْا وَرَعَوْا. وَأَصَابَ طَائِفَةً مِنْهَا أُخْرَىَ. إِنّمَا هِيَ قِيعَانٌ لاَ تُمْسِكُ مَاءً وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ فِي دِينِ اللّهِ، وَنَفَعَهُ بِمَا بَعَثَنِيَ اللّهُ بِهِ، فَعَلِمَ وَعَلّمَ. وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْساً. وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللّهِ الّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا منها وسقوا ورعوا، وأصاب طائفة منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني الله به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به" أما الغيث فهو المطر، وأما العشب والكلأ والحشيش فكلها أسماء للنبات لكن الحشيش مختص باليابس والعشب والكلأ مقصوراً مختصان بالرطب، والكلأ بالهمز يقع على اليابس والرطب، وقال الخطابي وابن فارس: الكلأ يقع على اليابس وهذا شاذ ضعيف. وأما الأجادب فبالجيم والدال المهملة وهي الأرض التي لا تنبت كلأ. وقال الخطابي: هي الأرض التي تمسك الماء فلا يسرع فيه النضوب. قال ابن بطال وصاحب المطالع وآخرون: هو جمع جدب على غير قياس كما قالوا في حسن جمعه محاسن والقياس أن محاسن جمع محسن، وكذا قالوا مشابه جمع شبه وقياسه أن يكون جمع مشبه. قال الخطابي: وقال بعضهم أحادب بالحاء المهملة والدال قال وليس بشيء، قال: وقال بعضهم أجارد بالجيم والراء والدال، قال: وهو صحيح المعنى إن ساعدته الرواية. قال الأصمعي: الأجارد من الأرض ما لا ينبت الكلأ، معناه أنها جرداء هزرة لا يسترها النبات، قال: وقال بعضهم إنما هي اخاذات بالخاء والذال المعجمتين وبالألف وهو جمع اخاذة وهي الغدير الذي يمسك الماء، وذكر صاحب المطالع هذه الأوجه التي ذكرها الخطابي فجعلها روايات منقولة. وقال القاضي في الشرح: لم يرد هذا الحرف في مسلم ولا في غيره إلا بالدال المهملة من الجدب الذي هو ضد الخصب قال وعليه شرح الشارحون. وأما القيعان فبكسر القاف جمع القاع وهو الأرض المستوية وقيل الملساء وقيل التي لا نبات فيها، وهذا هو المراد في هذا الحديث كما صرح به صلى الله عليه وسلم، ويجمع أيضاً على أقوع وأقواع والقيعة بكسر القاف بمعنى القاع، قال الأصمعي: قاعة الدار ساحتها. وأما الفقه في اللغة فهو الفهم يقال منه فقه بكسر القاف يفقه فقهاً بفتحها كفرح يفرح فرحاً، وقيل المصدر فقهاً بإسكان القاف. وأما الفقه الشرعي فقال صاحب العين والهروي وغيرهما: يقال منه فقه بضم القاف، وقال ابن دريد بكسرها كالأول، والمراد بقوله صلى الله عليه وسلم فقه في دين الله هذا الثاني فيكون مضموم القاف على المشهور وعلى قول ابن دريد بكسرها وقد روي بالوجهين والمشهور الضم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء" فهكذا هو في جميع نسخ مسلم طائفة طيبة ووقع في البخاري فكان منه نقية قبلت الماء بنون مفتوحة ثم قاف مكسورة ثم ياء مثناة من تحت مشددة وهو بمعنى طيبة، هذا هو المشهور في روايات البخاري، ورواه الخطابي وغيره ثغبة بالثاء المثلثة والغين المعجمة والباء الموحدة، قال الخطابي: وهو مستنقع الماء في الجبال والصخور، وهو الثغب أيضاً وجمعه ثغبان قال القاضي وصاحب المطالع: هذه الرواية غلط من الناقلين وتصحيف وإحالة للمعنى لأنه إنما جعلت هذه الطائفة الأولى مثلاً لما ينبت والثغبة لا تنبت. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وسقوا" فقال أهل اللغة: سقى وأسقى بمعنى لغتان، وقيل سقاه ناوله ليشرب وأسقاه جعل له سقيا. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ورعوا" فهو بالراء من الرعي هكذا هو في جميع نسخ مسلم، ووقع في البخاري وزرعوا وكلاهما صحيح والله أعلم. أما معاني الحديث ومقصوده فهو تمثيل الهدى الذي جاء به صلى الله عليه وسلم بالغيث ومعناه أن الأرض ثلاثة أنواع وكذلك الناس، فالنوع الأول من الأرض ينتفع بالمطر فيحيى بعد أن كان ميتاً وينبت الكلأ فتنتفع بها الناس والدواب والزرع وغيرها، وكذا النوع الأول من الناس يبلغه الهدى والعلم فيحفظه فيحيا قلبه ويعمل به ويعلمه غيره فينتفع وينفع. والنوع الثاني من الأرض ما لا تقبل الانتفاع في نفسها لكن فيها فائدة وهي إمساك الماء لغيرها فينتفع بها الناس والدواب، وكذا النوع الثاني من الناس لهم قلوب حافظة لكن ليست لهم أفهام ثاقبة ولا رسوخ لهم في العقل يستنبطون به المعاني والأحكام وليس عندهم اجتهاد في الطاعة والعمل به، فهم يحفظونه حتى يأتي طالب محتاج متعطش لما عندهم من العلم أهل للنفع والانتفاع فيأخذه منهم فينتفع به فهؤلاء نفعوا بما بلغهم. والنوع الثالث من الأرض السباخ التي لا تنبت ونحوها فهي لا تنتفع بالماء ولا تمسكه لينتفع بها غيرها، وكذا النوع الثالث من الناس ليست لهم قلوب حافظة ولا أفهام واعية فإذا سمعوا العلم لا ينتفعون به ولا يحفظونه لنفع غيرهم والله أعلم. وفي هذا الحديث أنواع من العلم: منها ضرب الأمثال، ومنها فضل العلم والتعليم وشدة الحث عليهما وذم الإعراض عن العلم والله أعلم.
*2* باب شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته، ومبالغتة في تحذيرهم مما يضرهم
*حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ بَرّادٍ الأَشْعَرِيّ و أَبُو كُرَيْبٍ. (وَاللّفْظُ لاَِبِي كُرَيْبٍ). قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَىَ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ مَثَلِي وَمَثَلَ مَا بَعَثَنِي اللّهُ بِهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَتَىَ قَوْمَهُ. فَقَالَ: يَا قَوْمِ إِنّي رَأَيْتُ الْجَيْشَ بِعَيْنَيّ. وَإِنّي أَنَا النّذِيرُ الْعُرْيَانُ. فَالنّجَاءَ. فَأَطَاعَهُ طَائِفَةٌ مِنْ قَوْمِهِ. فَأَدْلَجُوا فَانْطَلَقُوا عَلَىَ مُهْلَتِهِمْ. وَكَذّبَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ فَأَصْبَحُوا مَكَانَهُمْ. فَصَبّحَهُمُ الْجَيْشُ فَأَهْلَكَهُمْ وَاجْتَاحَهُمْ. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ أَطَاعَنِي وَاتّبَعَ مَا جِئْتُ بِهِ. وَمَثَلُ مَنْ عَصَانِي وَكَذّبَ مَا جِئْتُ بِهِ مِنَ الْحَقّ".
وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْقُرَشِيّ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ أُمّتِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَاراً. فَجَعَلَتِ الدّوَابّ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهِ. فَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ وَأَنْتُمْ تَقَحّمُونَ فِيهِ".
وحدّثناه عَمْرٌو النّاقِدُ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ. قَالاَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، نَحْوَهُ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ. قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَاراً. فَلَمّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدّوَابّ الّتِي فِي النّارِ يَقَعْنَ فِيهَا. وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحّمْنَ فِيهَا. قَالَ: فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ. أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النّارِ. هَلُمّ عَنِ النّارِ. هَلُمّ عَنِ النّارِ. فَتَغْلِبُونِي تَقَحّمُونَ فِيهَا".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا ابْنُ مَهْدِيَ. حَدّثَنَا سَلِيمٌ عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَوْقَدَ نَاراً. فَجَعَلَ الْجَنَادِبُ وَالْفَرَاشُ يَقَعْنَ فِيهَا. وَهُوَ يَذُبّهُنّ عَنْهَا. وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النّارِ. وَأَنْتُمْ تَفَلّتُونَ مِنْ يَدِي".
قوله صلى الله عليه وسلم: "لأني أنا النذير العريان" قال العلماء: أصله أن الرجل إذا أراد إنذار قومه وإعلامهم بما يوجب المخافة نزع ثوبه وأشار به إليهم إذا كان بعيداً منهم ليخبرهم بمادهمهم، وأكثر ما يفعل هذا ربيئة القوم وهو طليعتهم ورقيبهم، قالوا: وإنما يفعل ذلك لأنه أبين للناظر وأغرب وأشنع منظراً، فهو أبلغ في استحثاثهم في التأهب للعدو وقبل معناه أنا النذير الذي أدركني جيش العدو فأخذ ثيابي فأنا أنذركم عرياناً. قوله: (فالنجاء) ممدود أي انجوا النجاء أو اطلبوا النجاء، قال القاضي: المعروف في النجاء إذا أفرد المد، وحكى أبو زيد فيه القصر أيضاً، فإذا ما كرروه فقالوا النجاء النجاء ففيه المد والقصر معاً. قوله صلى الله عليه وسلم: "فأدلجوا فانطلقوا على مهلتهم" أما أدلجوا فبإسكان الدال ومعناه ساروا من أول الليل، يقال أدلجت بإسكان الدال إدلاجاً كأكرمت إكراماً والاسم الدجلة بفتح الدال، فإن خرجت من آخر الليل قلت ادلجت بتشديد الدال ادلج إدلاجاً بالتشديد أيضاً والاسم الدلجة بضم الدال. قال ابن قتيبة وغيره: ومنهم من يجيز الوجهين في كل واحد منهما. وأما قوله على مهلتهم هكذا هو في جميع نسخ مسلم بضم الميم وإسكان الهاء وبتاء بعد اللام، وفي الجمع بين الصحيحين مهلهم بحذف التاء وفتح الميم والهاء وهما صحيحان. قوله: (فصبحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم) أي استأصلهم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها" وفي رواية: "الدواب والفراش" وفي رواية: "أنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيها" وفي رواية: (وأنتم تفلتون من يدي) أما الفراش فقال الخليل: هو الذي يطير كالبعوض، وقال غيره: ما تراه كصغار البق يتهافت في النار. وأما الجنادب فجمع جندب وفيها ثلاث لغات: جندب بضم الدال وفتحها والجيم مضمومة فيهما والثالثة حكاه القاضي بكسر الجيم وفتح الدال والجنادب هذا الصرار الذي يشبه الجراد. وقال أبو حاتم: الجندب على خلقة الجراد له أربعة أجنحة كالجرادة وأصغر منها يطير ويصر بالليل صراً شديداً وقيل غيره. وأما التقحم فهو الإقدام والوقوع في الأمور الشاقة من غير تثبت، والحجز جمع حجزة وهي معقد الإزار والسراويل. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنا آخذ بحجزكم" فروي بوجهين: أحدهما إسم فاعل بكسر الخاء وتنوين الذال، والثاني فعل مضارع بضم الذال بلا تنوين والأول أشهر وهما صحيحان. وأما تفلتون فروي بوجهين: أحدهما فتح التاء والفاء المشددة، والثاني ضم التاء وإسكان الفاء وكسر اللام المخففة وكلاهما صحيح، يقال أفلت مني وتفلت إذا نازعك الغلبة والهرب ثم غلب وهرب، ومقصود الحديث أنه صلى الله عليه وسلم شبه تساقط الجاهلين والمخالفين بمعاصيهم وشهواتهم في نار الاَخرة وحرصهم على الوقوع في ذلك مع منعه إياهم وقبضه على مواضع المنع منهم بتساقط الفراش في نار الدنيا لهواه وضعف تمييزه وكلاهما حريص على هلاك نفسه ساع في ذلك لجهله. قوله: (حدثنا سليم عن سعيد) هو بفتح السين وكسر اللام وهو سليم بن حبان.
*2* باب ذكر كونه صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين
*حدّثنا عَمْرُو بْنُ مُحَمّدٍ النّاقِدُ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَىَ بُنْيَاناً فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ. فَجَعَلَ النّاسُ يُطيِفُونَ بِهِ. يَقُولُونَ: مَا رَأَيْنَا بُنْيَاناً أَحْسَنَ مِنْ هَذَا. إِلاّ هَذِهِ اللّبِنَةَ. فَكُنْتُ أَنَا تِلْكَ اللّبِنَةَ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ. قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ ابْتَنَىَ بُيُوتاً فَأَحْسَنَهَا وَأَجْمَلَهَا وَأَكْمَلَهَا. إِلاّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا. فَجَعَلَ النّاسُ يَطُوفُونَ وَيُعْجِبُهُمُ الْبُنْيَانُ فَيَقُولُونَ: أَلاّ وَضَعْتَ هَهُنَا لَبِنَةً فَيَتِمّ بُنْيَانُكَ" فَقَالَ مُحَمّدٌ صلى الله عليه وسلم: "فَكُنْتُ أَنَا اللّبِنَةَ".
وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ حُجْرٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ) عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ السّمّانِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَىَ بُنْيَاناً فَأَحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ. أَلاّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ. فَجَعَلَ النّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلاّ وُضِعَتْ هَذِهِ اللّبِنَةُ قَالَ: فَأَنَا اللّبِنَةُ. وَأَنَا خَاتَمُ النّبِيّينَ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلِي وَمَثَلُ النّبِيّينَ" فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَفّانُ. حَدّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيّانَ. حَدّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مِينَاءَ، عَنْ جَابِرٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَثَلِي وَمَثَلُ الأَنْبِيَاءِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَىَ دَاراً فَأَتَمّهَا وَأَكْمَلَهَا إِلاّ مَوْضِعَ لَبِنَةٍ. فَجَعَلَ النّاسُ يَدْخُلُونَهَا وَيَتَعَجّبُونَ مِنْهَا، وَيَقُولُونَ: لَوْلاَ مَوْضِعُ اللّبِنَةِ". قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَأَنَا مَوْضِعُ اللّبِنَةِ. جِئْتُ فَخَتَمْتُ الأَنْبِيَاءَ".
وحدّثنيهِ مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا ابْنُ مَهْدِيَ. حَدّثَنَا سَلِيمٌ، بِهَذَا الاْسْنَادِ، مِثْلَهُ. وَقَالَ: بَدَلَ أَتَمّهَا أَحْسَنَهَا.
في الباب قوله صلى الله عليه وسلم: "مثلي ومثل الأنبياء من قبلي إلى قوله: فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين" فيه فضيلته صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم النبيين وجواز ضرب الأمثال في العلم وغيره، واللبنة بفتح اللام وكسر الباء ويجوز إسكان الباء مع فتح اللام وكسرها كما في نظائرها والله أعلم.
*2* باب إذا أراد الله تعالى رحمة أمة قبض نبيها قبلها
*قَالَ مُسْلِمٌ: وَحُدّثْتُ عَنْ أَبِي أُسَامَةَ. وَمِمّنْ رَوَىَ ذَلِكَ عَنْهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْجَوْهَرِيّ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. حَدّثَنِي بُرَيْدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَىَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ إِذَا أَرَادَ رَحْمَةَ أُمّةٍ مِنْ عِبَادِهِ، قَبَضَ نَبِيّهَا قَبْلَهَا. فَجَعَلَهُ لَهَا فَرَطاً وَسَلَفاً بَيْنَ يَدَيْهَا. وَإِذَا أَرَادَ هَلَكَهَ أُمةٍ، عَذّبَهَا، وَنَبِيّهَا حَيّ، فَأَهْلَكَهَا وَهُوَ يَنْظُرُ، فَأَقَرّ عَيْنَهُ بِهَلَكَتِهَا حِينَ كَذّبُوهُ وَعَصَوْا أَمْرَهُ".
قال مسلمة: (وحدثت عن أبي أسامة وممن روى ذلك عنه إبراهيم بن سعيد الجوهري حدثنا أبو أسامة إلى آخره) قال المازري والقاضي: هذا الحديث من الأحاديث المنقطعة في مسلم فإنه لم يسم الذي حدثه عن أبي أسامة، قلت: وليس هذا حقيقة انقطاع وإنما هو رواية مجهول، وقد وقع في حاشية بعض النسخ المعتمدة قال الجلودي: حدثنا محمد بن المسيب الأرعياني قال حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري بهذا الحديث عن أبي أسامة بإسناده.
*2* باب إثبات حوض نبينا صلى الله عليه وسلم وصفاته
*حدّثني أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ يُونُسَ. حَدّثَنَا زَائِدَةُ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عُمَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ جُنْدَباً يَقُولُ: سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَىَ الْحَوْضِ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا ابْنُ بِشْرٍ. جَمِيعاً عَنْ مِسْعَرٍ. ح وَحَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ. حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ. كِلاَهُمَا عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ جُنْدَبٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا يَعْقُوبُ (يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْقَارِيّ) عَنْ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلاً يَقُولُ: سَمِعْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَىَ الْحَوْضِ، مَنْ وَرَدَ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَداً. وَلَيَرِدَنّ عَلَيّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ".
قَالَ أَبُو حَازِمٍ: فَسَمِعَ النّعْمَانُ بْنُ أَبِي عَيّاشٍ وَأَنَا أُحَدّثْهُمْ هَذَا الْحَدِيثَ. فَقَالَ: هَكَذَا سَمِعْتَ سَهْلاً يَقُولُ؟ قَالَ فَقُلْتُ: نَعَمْ.
قَالَ: وَأَنَا أَشْهَدُ عَلَىَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ لَسَمِعْتُهُ يَزِيدُ فَيَقُولُ: "إِنّهُمْ مِنّي. فَيُقَالُ: إِنّكَ لاَ تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقاً سُحْقاً لِمَنْ بَدّلَ بَعْدِي".
وحدّثنا هَرُونُ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي أُسَامَةُ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وَعَنِ النّعْمَانِ بْنِ أَبِي عَيّاشٍ. عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِ حَدِيثِ يَعْقُوبَ.
وحدّثنا دَاوُدُ بْنُ عَمْرٍو الضّبّيّ. حَدّثَنَا نَافِعُ بْنُ عُمَرَ الْجُمَحِيّ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ. وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ. وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ. وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ. وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السّمَاءِ. فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلاَ يَظْمَأُ بَعْدَهُ أَبَداً".
قَالَ: وَقَالَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّي عَلَىَ الْحَوْضِ حَتّىَ أَنْظُرَ مَنْ يَرِدُ عَلَيّ مِنْكُمْ. وَسَيُؤْخَذُ أُنَاسٌ دُونِي. فَأَقُولُ: يَا رَبّ مِنّي وَمِنْ أُمّتِي. فَيُقَالُ: أَمَا شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ؟ وَاللّهِ مَا بَرِحُوا بَعْدَكَ يَرْجِعُونَ عَلَىَ أَعْقَابِهِمْ".
قَالَ: فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: اللّهُمّ إِنّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَىَ أَعْقَابِنَا، أَوْ أَنْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا.
وحدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنّهُ سَمِعَ عَائِشَةَ تَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ: "إِنّي عَلَىَ الْحَوْضِ. أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيّ مِنْكُمْ. فَوَاللّهِ لَيُقتطعَنّ دُونِي رِجَالٌ. فَلأَقُولَنّ: أَيْ رَبّ مِنّي وَمِنْ أُمّتِي. فَيَقُولُ: إِنّكَ لاَ تَدْرِي مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ. مَا زَالُوا يَرْجِعُونَ عَلَىَ أَعْقَابِهِمْ".
وحدّثني يُونسُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الصّدَفِيّ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي عَمْرٌو (وَهُوَ ابْنُ الْحَارِثِ) أَنّ بُكَيْراً حَدّثَهُ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ عَبّاسٍ الْهَاشِمِيّ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ رَافِعٍ، مَوْلَىَ أُمّ سَلَمَةَ، عَنْ أُمّ سَلَمَةَ زَوْجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهَا قَالَتْ: كُنْتُ أَسْمَعُ النّاسَ يَذْكُرُونَ الْحَوْضَ. وَلَمْ أَسْمَعْ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَلَما كَانَ يَوْماً مِنْ ذَلِكَ. وَالْجَارِيَةُ تَمْشُطُنِي. فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَيّهَا النّاسُ" فَقُلْتُ لِلْجَارِيَةِ: اسْتَأْخِرِي عَنّي. قَالَتْ: إِنّمَا دَعَا الرّجَالَ وَلَمْ يَدْعُ النّسَاءَ. فَقُلْتُ: إِنّي مِنَ النّاسِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّي لَكُمْ فَرَطٌ عَلَىَ الْحَوْضِ. فَإِيّايَ لاَ يَأْتِيَنّ أَحَدُكُمْ فَيُذَبّ عَنّي كَمَا يُذَبّ الْبَعِيرُ الضّالّ. فَأَقُولُ: فِيمَ هَذَا؟ فَيُقَالُ: إِنّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقاً".
وحدّثني أَبُو مَعْنٍ الرّقَاشِيّ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ نَافِعٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ قَالُوا: حَدّثَنَا أَبُو عَامِرٍ(وَهُوَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو). حَدّثَنَا أَفْلحُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ رَافِعٍ. قَالَ: كاَنَتْ أُمّ سَلَمَةَ تُحَدّثُ أَنّهَا سَمِعَتِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، عَلَى الْمِنْبَرِ، وَهِيَ تَمْتَشِطُ "أَيّهَا النّاسُ" فَقَالَتْ لِمَاشِطَتِهَا: كُفّي رأْسِي. بِنَحْوِ حَدِيثِ بُكَيْرٍ عَنِ الْقَاسِم بْنِ عَبّاسٍ.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ يَوْماً فَصَلّىَ علَىَ أَهْلِ أُحُدٍ صَلاَتَهُ عَلَىَ الْمَيّتِ. ثُمّ انْصَرَفَ إِلَىَ الْمِنْبَرِ. فَقَالَ: "إِنّي فَرَطٌ لَكُمْ. وَأَنَا شَهِيدٌ عَلَيْكُمْ. وَإِنّي، وَاللّهِ لأَنْظُرُ إِلَىَ حَوْضِيَ الاَنَ. وَإِنّي قَدْ أُعْطِيتُ مَفَاتِيحَ خَزَائِنِ الأَرْضِ، أَوْ مَفَاتِيحَ الأَرْضِ. وَإِنّي، وَاللّهِ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي. وَلَكِنْ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ تَتَنَافَسُوا فِيهَا".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا وَهْبٌ (يَعْنِي ابْنَ جَرِيرٍ). حَدّثَنَا أَبِي. قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَيّوبَ يُحَدّثُ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، عَنْ مَرْثَدٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ. قَالَ: صَلّىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ قَتْلَىَ أُحُدٍ. ثُمّ صَعِدَ الْمِنْبَرِ كَالْمُوَدّعِ لِلأَحْيَاءِ وَالأَمْوَاتِ. فَقَالَ: "إِنّي فَرَطُكُمْ عَلَىَ الْحَوْضِ. وَإِنّ عَرْضَهُ كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ إِلَىَ الْجُحْفَةِ. إِنّي لَسْتُ أَخْشَىَ عَلَيْكُمْ أَنْ تُشْرِكُوا بَعْدِي. وَلَكِنّي أَخْشَىَ عَلَيْكُمُ الدّنْيَا أَنْ تَنَافَسُوا فِيهَا، وَتَقْتَتِلُوا، فَتَهْلِكُوا، كَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ".
قَالَ عُقْبَةُ: فَكَانَتْ آخِرَ مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَىَ الْحَوْضِ. وَلأُنَازِعَنّ أَقْوَاماً ثُمّ لأُغْلَبَنّ عَلَيْهِمْ، فَأَقُولُ: يَا رَبّ أَصْحَابِي. أَصْحَابِي. فَيُقَالُ: إِنّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ".
وحدّثناه عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَلَمْ يَذْكُرْ "أَصْحَابِي. أَصْحَابِي".
حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. كِلاَهُمَا عَنْ جَرِيرٍ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ الْمُثَنّى حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ. جَمِيعاً عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِنَحْوِ حَدِيثِ الأَعْمَشِ. وَفِي حَدِيثِ شُعْبَةَ عَنْ مُغِيرَةَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ.
وحدّثناه سَعِيدُ بْنُ عَمْرٍو الأَشْعَثِيّ. أَخْبَرَنَا عَبْثَرٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ. كِلاَهُمَا عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. نَحْوَ حَدِيثِ الأَعْمَشِ وَمُغِيرَةَ.
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ بَزِيعٍ. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ حَارِثَةَ أَنّهُ سَمِعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ حَوْضُهُ مَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ.
فقالَ لَهُ الْمُسْتَوْرِدُ: أَلَمْ تَسْمَعْهُ قَالَ "الأَوَانِي"؟ قَالَ: لاَ. فَقَالَ الْمُسْتَوْرِدُ "تُرَىَ فِيهِ الاَنِيَةُ مِثْلَ الْكَوَاكِبِ".
وحدّثني إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عَرْعَرَةَ. حَدّثَنَا حَرَمِيّ بْنُ عُمَارَةَ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَعْبَدِ بْنِ خَالِدٍ أَنّهُ سَمِعَ حَارِثَةَ بْنَ وَهْبٍ الْخُزَاعيّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ. وَذَكَرَ الْحَوْضَ. بِمِثْلِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ الْمُسْتَوْرِدِ وَقَوْلَهُ.
حدّثنا أَبُو الرّبِيعِ الزّهْرَانِيّ وَ أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيّ. قَالاَ: حَدّثَنَا حَمّادٌ (وَهُوَ ابْنُ زَيْدٍ) حَدّثَنَا أَيّوبُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ أَمَامَكُمْ حَوْضاً. مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْهِ كَمَا بَيْنَ جَرْبَا وَأَذْرُحَ".
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثنّى وَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا يَحْيَىَ (وَهُوَ الْقَطّانُ) عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ. أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إِنّ أَمامَكمْ حَوْضاً كَمَا بَيْنَ جَرْبَا وَأَذْرُحَ". وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ الْمُثَنّى "حَوْضِي".
وحدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ. وَزَادَ: قَالَ عُبَيْدُ اللّهِ: فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: قَرْيَتَيْنِ بِالشّأمِ. بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ ثَلاَثِ لَيَالٍ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ بِشْرٍ: ثَلاَثَةِ أَيّامٍ.
وحدّثني سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ . حَدّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ نَافِعٍ، عنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِ حَدِيثِ عُبَيْدِ اللّهِ.
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمّدٍ عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ "إِنّ أَمَامَكُمْ حَوْضاً كَمَا بَيْنَ جَرْبَا وَأَذْرُحَ. فِيهِ أَبَارِيقُ كُنُجُومِ السّمَاءِ. مَنْ وَرَدَهُ فَشَرِبَ مِنْهُ، لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَداً".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكّيّ وَاللّفْظُ لاِبْنِ أَبِي شَيْبَةَ (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا) عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصّمَدِ الْعَمّيّ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيّ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الصّامِتِ، عَنْ أَبِي ذَرَ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ، مَا آنِيَةُ الْحَوْضِ؟ قَالَ: "وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لاَنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السّمَاءِ وَكَوَاكِبِهَا. أَلاَ فِي اللّيْلَةِ الْمُظْلِمَةِ الْمُصْحِيَةِ. آنِيَةُ الْجَنّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا لَمْ يَظْمَأْ آخِرَ مَا عَلَيْهِ. يَشْخُبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنَ الْجَنّةِ. مَنْ شَرِبَ مِنْهُ لَمْ يَظْمَأْ. عَرْضُهُ مِثْلُ طُولِهِ، مَا بَيْنَ عَمّانَ إِلَىَ أَيْلَةَ. مَاؤُهُ أَشَدّ بَيَاضاً مِنَ اللّبَنِ، وَأَحْلَىَ مِنَ الْعَسَلِ".
حدّثنا أَبُو غَسّانَ الْمِسْمَعِيّ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ (وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ). قَالُوا: حَدّثَنَا مُعَاذٌ (وَهُوَ ابْنُ هِشَامٍ). حَدّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ الْيَعْمَرِيّ، عَنْ ثَوْبَانَ أَنّ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّي لَبِعُقْرِ حَوْضِي أَذُودُ النّاسَ لأَهْلِ الْيَمَنِ. أَضْرِبُ بِعَصَايَ حَتّىَ يَرْفَضّ عَلَيْهِمْ". فَسُئِلَ عَنْ عَرْضِهِ فَقَالَ: "مِنْ مُقَامِي إِلَىَ عَمّانَ". وَسُئِلَ عَنْ شَرَابِهِ فَقَالَ: "أَشَدّ بَيَاضاً مِنَ اللّبَنِ، وَأَحْلَىَ مِنَ الْعَسَلِ. يَغِتّ فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدّانِهِ مِنَ الْجَنّةِ. أَحَدُهُمَا مِنْ ذَهَبٍ، وَالاَخَرُ مِنْ وَرِقٍ".
وحدّثنيهِ زُهيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَىَ. حَدّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ. بِإِسْنَادِ هِشَامٍ. بِمِثْلِ حَدِيثِهِ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ "أَنَا، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، عِنْدَ عُقْرِ الْحَوْضِ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارِ. حَدّثَنَا يَحْيَى ابْنُ حَمّادٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنْ مَعْدَانَ، عَنْ ثَوْبَانَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. حَدِيثَ الْحَوضِ. فَقُلْتُ لِيَحْيَ بْنِ حَمّادٍ: هَذَا حَدِيثٌ سَمِعْتَهُ مِنْ أَبِي عَوَانَةَ. فَقَالَ: وَسَمِعْتُهُ أَيْضاً مِنْ شُعْبَةَ فَقُلْتُ: انْظُرْ لِي فِيهِ. فَنَظَرَ لِي فِيهِ فَحَدّثَنِي بِهِ.
حدّثنا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ سَلاّمٍ الْجُمَحِيّ. حَدّثَنَا الرّبَيعُ (يَعْنِي ابْنَ مُسْلِمٍ) عَنْ مُحَمّدِ بْن زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ "لأَذُودَنّ عَنْ حَوْضِي رِجَالاً كَمَا تُذَادُ الْغَرِيبَةُ مِنَ الإِبِلِ".
وحدّثنيهِ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ زِيَادٍ. سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدّثهُ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَدْرُ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أَيْلَةَ وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ. وَإِنّ فِيهِ مِنَ الأَبَارِيقِ كَعَدَدِ نُجُومِ السّمَاءِ".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا عَفّانُ بْنُ مُسْلِمٍ الصّفّارُ. حَدّثَنَا وُهَيْبٌ. قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ صُهَيْبٍ يُحَدّثُ. قَالَ: حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَيَرِدَنّ عَلَيّ الْحَوْضَ رِجَالٌ مِمّنْ صَاحَبَنِي. حَتّىَ إِذَا رَأَيْتُهُمْ وَرُفِعُوا إِلَيّ، اخْتُلِجُوا دُونِي. فَأَقُولُ: أَيْ رَبّ أُصَيْحَابِي. أُصَيْحَابِي. فَيُقَالَ لِي: إِنّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ. حوَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْب. حَدّثَنَا ابْنُ فُضَيْلٍ. جَمِيعاً عَنِ الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِهَذَا الْمَعْنَىَ. وَزَادَ: "آنِيَتُهُ عَدَدُ النّجُومِ".
وحدّثنا عَاصِمُ بْنُ النّضْرِ التّيْمِيّ وَ هُرَيْمُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ (واللّفْظُ لِعَاصِمٍ). حَدّثَنَا مُعْتَمِرٌ. سَمِعْتُ أَبِي. حَدّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: "مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَالْمَدِينَةِ".
وحدّثنا هَرُونُ بْن عَبْد اللّهِ. حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ. حَدّثَنَا هِشَامٌ. ح وَحَدّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَلِيَ الْحُلْوَانِيّ. حَدّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ الطّيَالِسِيّ. حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ. كِلاَهُمَا عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ، غَيْرَ أَنّهُمَا شَكّا فَقَالاَ: أَوْ مِثْلَ مَا بَيْنَ الْمَدِينَةِ وَعَمّانَ. وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ "مَا بَيْنَ لاَبَتَيْ حَوْضِي".
وحدّثني يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ وَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الرّزّي. قَالاَ: حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ. قَالَ: قَالَ أَنَسٌ: قَالَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "تُرَىَ فِيهِ أَبَارِيقُ الذّهَبِ وَالْفِضّةِ كَعَدَدِ نُجُومِ السّمَاءِ".
وحدّثنيهِ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَىَ. حَدّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ قَتَادَةَ. حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ مِثْلَهُ. وَزَادَ "أَوْ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ نُجُومِ السّمَاءِ".
حدّثني الْوَلِيدُ بْنُ شُجَاعِ بْنِ الْوَلِيدِ السّكُونِيّ. حَدّثَنِي أَبِي (رَحِمَهُ اللّهُ). حَدّثَنِي زِيَادُ بْنُ خَيْثَمَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَلاَ إِنّي فَرَطٌ لَكُمْ عَلَىَ الْحَوْضِ. وَإِنّ بُعْدَ مَا بَيْنَ طَرَفَيْهِ كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ. كَأَنّ الأَبَارِيقَ فِيهِ النّجُومُ".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. قَالاَ: حَدّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْمُهَاجِرِ بْنِ مِسْمَارٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ. قَالَ: كَتَبْتُ إِلَىَ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ مَعَ غُلاَمِي نَافِعٍ: أَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ فَكَتَبَ إِلَيّ: إِنّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "أَنَا الْفَرَطُ عَلَى الْحَوْضِ".
قال القاضي عياض رحمه الله: أحاديث الحوض صحيحة والإيمان به فرض والتصديق به من الإيمان، وهو على ظاهره عند أهل السنة والجماعة لا يتأول ولا يختلف فيه، قال القاضي: وحديثه متواتر النقل رواه خلائق من الصحابة، فذكره مسلم من رواية ابن عمرو بن العاص وعائشة وأم سلمة وعقبة بن عامر وابن مسعود وحذيفة وحارثة بن وهب والمستورد وأبي ذر وثوبان وأنس وجابر بن سمرة. ورواه غير مسلم من رواية أبي بكر الصديق وزيد بن أرقم وأبي أمامة وعبد الله بن زيد وأبي برزة وسويد بن حبلة وعبد الله بن الصنابحي والبراء بن عازب وأسماء بنت أبي بكر وخولة بنت قيس وغيرهم. قلت: ورواه البخاري ومسلم أيضاً من رواية أبي هريرة. ورواه غيرهما من رواية عمر بن الخطاب وعائذ بن عمر وآخرين، وقد جمع ذلك كله الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه البعث والنشور بأسانيده وطرقه المتكاثرات. قال القاضي: وفي بعض هذا ما يقتضي كون الحديث متواتراً. قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا فرطكم على الحوض" قال أهل اللغة: الفرط بفتح الفاء والراء والفارط هو الذي يتقدم الوارد ليصلح لهم والحياض والدلاء ونحوها من أمور الاستقاء، فمعنى فرطكم على الحوض سابقكم إليه كالمهيء له.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن شرب لم يظمأ أبداً" أي شرب منه والظمأ مهموز مقصور كما ورد به القرآن العزيز وهو العطش، يقال: ظمئ يظمأ ظمأ فهو ظمآن وهم ظماء بالمد كعطش يعطش عطشاً فهو عطشان وهم عطاش. قال القاضي: ظاهر هذا الحديث أن الشرب منه يكون بعد الحساب والنجاة من النار فهذا هو الذي لا يظمأ بعده. قال: وقيل لا يشرب منه إلا من قدر له السلامة من النار، قال: ويحتمل أن من شرب منه من هذه الأمة وقدر عليه دخول النار لا يعذب فيها بالظمأ بل يكون عذابه بغير ذلك، لأن ظاهر هذا الحديث أن جميع الأمة يشرب منه إلا من ارتد وصار كافراً. قال: وقد قيل إن جميع الأمم من المؤمنين يأخذون كتبهم بأيمانهم ثم يعذب الله تعالى من شاء من عصاتهم. وقيل: إنما يأخذه بيمينه الناجون خاصة. قال القاضي: وهذا مثله قوله صلى الله عليه وسلم من ورد شرب هذا صريح في أن الواردين كلهم يشربون، وإنما يمنع منه الذين يذادون ويمنعون الورود لارتدادهم، وقد سبق في كتاب الوضوء بيان هذا الذود والمذودين.
قوله صلى الله عليه وسلم: "سحقاً سحقاً" أي بعداً لهم بعداً ونصبه على المصدر وكرر للتوكيد. قوله: (حدثنا هارون بن سعيد حدثنا ابن وهب أخبرني أبو أسامة عن أبي حازم عن سهل عن النبي صلى الله عليه وسلم عن النعمان بن أبي عياش عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم) قال العلماء: هذا العطف على سهل فالقائل وعن النعمان هو أبو حازم فرواه عن سهل ثم رواه عن النعمان عن أبي سعيد.
قوله صلى الله عليه وسلم: "حوضي مسيرة شهر وزواياه سواء" قال العلماء: معناهطوله كعرضه، كما قال في حديث أبي ذر المذكور في الكتاب عرضه مثل طوله. قوله صلى الله عليه وسلم: "ماؤه أبيض من الورق" هكذا هو في جميع النسخ الورق بكسر الراء وهو الفضة، والنحويون يقولون أن فعل التعجب الذي يقال فيه هو أفعل من كذا إنما يكون فيما كان ماضيه على ثلاثة أحرف فإن زاد لم يتعجب من فاعله وإنما يتعجب من مصدره، فلا يقال: ما أبيض زيداً ولا زيد أبيض من عمرو، وإنما يقال: ما أشد بياضه، وهو أشد بياضاً من كذا. وقد جاء في الشعر أشياء من هذا الذي أنكروه فعدوه شاذاً لا يقاس عليه، وهذا الحديث يدل على صحته وهي لغة وإن كانت قليلة الاستعمال. ومنها قول عمر رضي الله عنه: ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. قوله صلى الله عليه وسلم: "كيزانه كنجوم السماء" وفي رواية: "فيه أباريق كنجوم السماء" وفي رواية: "والذي نفس محمد بيده لاَنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها" وفي رواية: "وأن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء" وفي رواية: "آنيته عدد النجوم" وفي رواية: "ترى فيه أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء" وفي رواية: "كأن الأباريق فيه النجوم المختار" الصواب أن هذا العدد للاَنية على ظاهره وأنها أكثر عدداً من نجوم السماء، ولا مانع عقلي ولا شرعي يمنع من ذلك، بل ورد الشرع به مؤكداً كما قال صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده لاَنيته أكثر من عدد نجوم السماء" وقال القاضي عياض: هذا إشارة إلى كثرة العدد وغايته الكثيرة من باب قوله صلى الله عليه وسلم لا يضع العصا عن عاتقه وهو باب من المبالغة معروف في الشرع واللغة ولا يعد كذباً إذا كان المخبر عنه في حيز الكثرة والعظم ومبلغ الغاية في بابه، بخلاف ما إذا لم يكن كذلك، قال ومثله كلمته ألف مرة ولقيته مائة كرة فهذا جائز إذا كان كثيراً وإلا فلا، هذا كلام القاضي والصواب الأول.
قوله صلى الله عليه وسلم في الحوض: "وإن عرضه ما بين أيلة إلى الجحفة". وفي رواية: "بين ناحيتيه كما بين جرباء وأذرح" قال الراوي: هما قريتان بالشام بينهما مسيرة ثلاث ليال. وفي رواية: "عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة" وفي رواية: "من مقامي إلى عمان" وفي رواية: "قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن" وفي رواية: "ما بين ناحيتي حوضي كما بين صنعاء والمدينة". أما أيلة فبفتح الهمزة وإسكان المثناة تحت وفتح اللام وهي مدينة معروفة في عراف الشام على ساحل البحر متوسطة بين مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ودمشق ومصر، بينها وبين المدينة نحو خمس عشرة مرحلة، وبينها وبين دمشق نحو ثنتي عشرة مرحلة، وبينها وبين مصر نحو ثمان مراحل. قال الحازمي: قيل هي آخر الحجاز وأول الشام. وأما الجحفة فسبق بيانها في كتاب الحج وهي بنحو سبع مراحل من المدينة بينها وبين مكة. وأما جربا فبجيم مفتوحة ثم راء ساكنة ثم باء موحدة ثم ألف مقصورة هذا هو الصواب المشهور أنها مقصورة، وكذا قيدها الحازمي في كتابه المؤتلف في الأماكن، وكذا ذكرها القاضي وصاحب المطالع والجمهور. وقال القاضي وصاحب المطالع: ووقع عند بعض رواة البخاري ممدوداً قالا وهو خطأ. وقال صاحب التحرير: هي بالمد وقد تقصر. قال الحازمي: كان أهل جربا يهوداً كتب لهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان لما قدم عليه لحية بن رؤبة صاحب أيلة بقوم منهم ومن أهل أذرح يطلبون الأمان وأما أذرح فبهمزة مفتوحة ثم ذال معجمة ساكنة ثم راء مضمومة ثم حاء مهملة هذا هو الصواب المشهور الذي قاله الجمهور. قال القاضي وصاحب المطالع: ورواه بعضهم بالجيم قالا وهو تصحيف لا شك فيه وهو كما قالا وهي مدينة في طرف الشام في قبلة الشويك بينها وبينه نحو نصف يوم وهي في طرف الشراط بفتح الشين المعجمة في طرفها الشمالي، وتبوك في قبلة اذرح بينهما نحو أربع مراحل، وبين تبوك ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم نحو أربع عشرة مرحلة. وأما عمان فبفتح العين وتشديد الميم وهي بلدة بالبلقاء من الشام، قال الحازمي: قال ابن الأعرابي يجوز أن يكون فعلان من عم يعم فلا تنصرف معرفة وتنصرف نكرة، قال: ويجوز أن يكون فعالاً من عمن فتنصرف معرفة ونكرة إذا عنى بها البلد هذا كلامه، والمعروف في روايات الحديث وغيرها ترك صرفها. قال القاضي عياض: وهذا الاختلاف في قدر عرض الحوض ليس موجباً للاضطراب فإنه لم يأت في حديث واحد بل في أحاديث مختلفة الرواة عن جماعة من الصحابة سمعوها في مواطن مختلفة ضربها النبي صلى الله عليه وسلم في كل واحد منها مثلاً لبعد أقطار الحوض وسعته وقرب ذلك من الأفهام لبعد ما بين البلاد المذكورة لا على التقدير الموضوع للتحديد بل للإعلام بعظم هذه المسافة فبهذا تجمع الروايات هذا كلام القاضي. قلت: وليس في القليل من هذه منع الكثير والكثير ثابت على ظاهر الحديث ولا معارضة والله أعلم. قولها: (كفي رأسي) هو بالكاف أي اجمعيه وضمي شعره بعضه إلى بعض. قولها: "إني من الناس" دليل لدخول النساء في خطاب الناس. وهذا متفق عليه وإنما اختلفوا في دخولهن في خطاب الذكور ومذهبنا أنهن لا يدخلن فيه وفيه إثبات القول بالعموم. قوله: "صلى على أهل أحد صلاته على الميت" أي دعا لهم بدعاء صلاة الميت، وسبق شرح هذا الحديث في كتاب الجنائز. قوله صلى الله عليه وسلم: "وإني والله لأنظر إلى حوضي الاَن" هذا تصريح بأن الحوض حوض حقيقي على ظاهره كما سبق وأنه مخلوق موجود اليوم، وفيه جواز الحلف من غير استحلاف لتفخيم الشيء وتوكيدّه. قوله صلى الله عليه وسلم: "وإني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض أو مفاتيح الأرض إني والله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي ولكني أخاف عليكم أن تتنافسوا فيها" هكذا هو في جميع النسخ مفاتيح في اللفظين بالياء، قال القاضي: وروي مفاتح بحذفها فمن أثبتها فهو جمع مفتاح ومن حذفها فجمع مفتح وهما لغتان فيه. وفي هذا الحديث معجزات لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإن معناه الإخبار بأن أمته تملك خزائن الأرض وقد وقع ذلك وأنها لا ترتد جملة وقد عصمها الله تعالى من ذلك وأنها تتنافس في الدنيا وقد وقع كل ذلك. قوله: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على قتلى أحد ثم صعد المنبر كالمودع للأحياء والأموات فكانت آخر ما رأيته على المنبر" معناه خرج إلى قتلى أحد ودعا لهم دعاء مودع ثم دخل المدينة فصعد المنبر فخطب الأحياء خطبة مودع كما قال النواس بن سمعان قلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع وفيه معنى المعجزة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لاَنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة" أما قوله صلى الله عليه وسلم ألا في الليلة المظلمة فهو بتخفيف ألا وهي التي للاستفتاح وخص الليلة المظلمة المصحية لأن النجوم ترى فيها أكثر، والمراد بالمظلمة التي لا قمر فيها مع أن النجوم طالعة فإن وجود القمر يستر كثيراً من النجوم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "آنية الجنة" فضبطه بعضهم برفع آنية وبعضهم بنصبها وهما صحيحان، فمن رفع فخبر مبتدأ محذوف أي هي آنية الجنة، ومن نصب فبإضمار أعنى أو نحوه، وأما آخر ما عليه فمنصوب وسبق نظيره في كتاب الإيمان، وأما يشخب فبالشين والخاء المعجمتين والياء مفتوحة والخاء مضمومة ومفتوحة والشخب السيلان وأصله ما خرج من تحت يد الحالب عند كل غمرة وعصرة لضرع الشاة. وأما الميزابان فبالهمز ويجوز قلب الهمزة ياء. قوله: (عن معدان اليعمري) بفتح ميم اليعمري وضمها منسوب إلى يعمر.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إني لبعقر حوضي" هو بضم العين وإسكان القاف وهو موقف الإبل من الحوض إذا وردته وقيل مؤخره. قوله صلى الله عليه وسلم: "أذود الناس لأهل اليمن أضرب بعصاي حتى يرفض عليهم" معناه أطرد الناس عنه غير أهل اليمن ليرفض على أهل اليمن، وهذه كرامة لأهل اليمن في تقديمهم في الشرب منه مجازاة لهم بحسن صنيعهم وتقدمهم في الإسلام والأنصار من اليمن فيدفع غيرهم حتى يشربوا كما دفعوا في الدنيا عن النبي صلى الله عليه وسلم أعداءه والمكروهات، ومعنى يرفض عليهم أي يسيل عليهم ومنه حديث البراق: "استصعب حتى ارفض عرقاً" أي سال عرقه، قال أهل اللغة: والغريب وأصله من الدمع يقال ارفض الدمع إذا سال متفرقاً، قال القاضي: وعصاه المذكورة في هذا الحديث هي المكنى عنها بالهراوة في وصفه صلى الله عليه وسلم في كتب الأوائل بصاحب الهراوة. قال أهل اللغة: الهراوة بكسر الهاء العصا، قال: ولم يأت لمعناها في صفته صلى الله عليه وسلم تفسير إلا ما يظهر لي في هذا الحديث، هذا كلام القاضي، وهذا الذي قاله في تفسير الهراوة بهذه العصا بعيد أو باطل لأن المراد بوصفه بالهراوة تعريفه بصفة يراها الناس معه يستدلون بها على صدقه وأنه المبشر به المذكور في الكتب السالفة فلا يصح تفسيره بعصا تكون في الاَخرة، والصواب في تفسير صاحب الهراوة ما قاله الأئمة المحققون أنه صلى الله عليه وسلم كان يمسك القضيب بيده كثيراً، وقيل لأنه كان يمشي والعصا بين يديه وتغرز له فيصلى إليها وهذا مشهور في الصحيح والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "يغت فيه ميزابان يمدانه" أما يغت فبفتح الياء وبغين معجمة مضمومة ومكسورة ثم مثناة فوق مشددة وهكذا قال ثابت والخطابي والهروي وصاحب التحرير والجمهور، وكذا هو في معظم نسخ بلادنا ونقله القاضي عن الأكثرين، قال الهروي: ومعناه يدفقان فيه الماء دفقاً متتابعاً شديداً، قالوا: وأصله من اتباع الشيء الشيء، وقيل يصبان فيه دائماً صباً شديداً، ووقع في بعض النسخ يعب بضم العين المهملة وبباء موحدة، وحكاها القاضي عن رواية العذري قال: وكذا ذكره الحربي وفسره بمعنى ما سبق أي لا ينقطع جريانهما، قال: والعب الشرب بسرعة في نفس واحد، قال القاضي: ووقع في رواية ابن ماهان يثعب بمثلثة وعين مهملة أي يتفجر. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "يمدانه" فبفتح الياء وضم الميم أي يزيدانه ويكثرانه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لأذودن عن حوضي رجالاً كما تذاد الغريبة من الإبل" معناه كما يذود الساقي الناقة الغريبة عن إبله إذا أرادت الشرب مع إبله.
قوله في حديث أنس من رواية حرملة: (قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء) وقع في بعض النسخ كما بالكاف وفي بعضها لما باللام وكعدد بالكاف، وفي بعضها لعدد نجوم السماء باللام وكلاهما صحيح.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي اختلجوا دوني فلأقولن رب أصيحابي أصيحابي فليقالن لي إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) أما اختلجوا فمعناه اقتطعوا، وأما أصيحابي فوقع في الروايات مصغراً مكرراً، وفي بعض النسخ أصحابي أصحابي مكبراً مكرراً. قال القاضي: هذا دليل لصحة تأويل من تأول أنهم أهل الردة ولهذا قال فيهم سحقاً سحقاً، ولا يقول ذلك في مذنبي الأمة بل يشفع لهم ويهتم لأمرهم، قال: وقيل هؤلاء صنفان أحدهما عصاة مرتدون عن الاستقامة لا عن الإسلام وهؤلاء مبدلون للأعمال الصالحة بالسيئة. والثاني مرتدون إلى الكفر حقيقة ناكصون على أعقابهم واسم التبديل يشمل الصنفين.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ما بين لابتي حوضي" أي ناحيتيه والله أعلم.
*2* باب في قتال جبريل وميكائيل عن النبي صلى الله عليه وسلم، يوم أحد
* حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ وَ أَبُو أُسَامَةَ عَنْ مِسْعَرٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدٍ. قَالَ: رَأَيْتُ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ شِمَالِهِ، يَوْمَ أُحُدٍ، رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابُ بَيَاضٍ. مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ. يَعْنِي جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَيْهِمَا السّلاَمُ.
وحدّثني إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ. حَدّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ. حَدّثَنَا سَعْدٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ، قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ يَوْمَ أُحُدٍ، عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَعَنْ يَسَارِهِ، رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ. يُقَاتِلاَنِ عَنْهُ كَأَشَدّ الْقِتَالِ. مَا رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلاَ بَعْدُ.
قوله: (رأيت عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بياض ما رأيتهما قبل ولا بعد يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام) وفي الرواية الأخرى: (أحدهما عن يمينه والاَخر عن يساره يقاتلان عنه كأشد القتال) فيه بيان كرامة النبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى وإكرامه إياه بإنزال الملائكة تقاتل معه، وبيان أن الملائكة تقاتل وأن قتالهم لم يختص بيوم بدر وهذا هو الصواب خلافاً لمن زعم اختصاصه فهذا صريح في الرد عليه، وفيه فضيلة الثياب البيض وأن رؤية الملائكة لا تختص بالأنبياء بل يراهم الصحابة والأولياء، وفيه منقبة لسعد بن أبي وقاص الذي رأى الملائكة والله أعلم.
*2* باب في شجاعة النبي عليه السلام، وتقدمه للحرب
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى التّمِيمِيّ وَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَ أَبُو الرّبِيعِ الْعَتَكِيّ وَ أَبُو كَامِلٍ وَاللّفْظِ لِيَحْيَ (قَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا) حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النّاسِ. وَكَانَ أَجْوَدَ النّاسِ. وَكَانَ أَشْجَعَ النّاسِ. وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصّوْتِ. فَتَلَقّاهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رَاجِعاً. وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَىَ الصّوْتِ. وَهُوَ عَلَىَ فَرَسٍ لأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ. فِي عُنُقِهِ السّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: "لَمْ تُرَاعُوا. لَمْ تُرَاعُوا". قَالَ: "وَجَدْنَاهُ بَحْراً. أَوْ إِنّهُ لَبَحْرٌ".
قَالَ: وَكَانَ فَرَساً يُبَطّأُ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَزَعٌ. فَاسْتَعَارَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَرَساً لأَبِي طَلْحَةَ يُقَالُ لَهُ مَنْدُوبٌ. فَرَكِبَهُ فَقَالَ: "مَا رَأَيْنَا مِنْ فَزَعٍ. وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْراً".
وحدّثناه مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. ح وَحَدّثَنِيهِ يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ. حَدّثَنَا خَالِدٌ (يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ) قَالاَ: حَدّثَنَا شُعْبَةُ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: فَرَساً لَنَا. وَلَمْ يَقُلْ: لأَبِي طَلْحَةَ. وَفِي حَدِيثِ خَالِدٍ: عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعْتُ أَنساً.
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس الخ) فيه بيان ما أكرمه الله تعالى به من جميل الصفات وأن هذه صفات كمال. قوله: (وهو على فرس لأبي طلحة عري في عنقه السيف وهو يقول: لم تراعوا لم تراعوا، قال: وجدناه لبحراً أو إنه لبحر قال وكان فرساً يبطأ) وفي رواية: (فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة يقال له مندوب فركبه فقال ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحراً) وأما قوله يبطأ فمعناه يعرف بالبطء والعجز وسوء السير. قوله صلى الله عليه وسلم: "لم تراعوا" أي روعاً مستقراً أو روعاً يضركم وفيه فوائد: منها بيان شجاعته صلى الله عليه وسلم من شدة عجلته في الخروج إلى العدو قبل الناس كلهم بحيث كشف الحال ورجع قبل وصول الناس. وفيه بيان عظيم بركته ومعجزته في انقلاب الفرس سريعاً بعد أن كان يبطأ وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: وجدناه بحراً أي واسع الجري. وفيه جواز سبق الإنسان وحده في كشف أخبار العدو ما لم يتحقق الهلاك. وفيه جواز العارية وجواز الغزو على الفرس المستعار لذلك. وفيه استحباب تقلد السيف في العنق، واستحباب تبشير الناس بعدم الخوف إذا ذهب، ووقع في هذا الحديث تسمية هذا الفرس مندوباً، قال القاضي: وقد كان في أفراس النبي صلى الله عليه وسلم مندوب فلعله صار إليه أبي طلحة، هذا كلام القاضي: قلت: ويحتمل أنهما فرسان اتفقا في الاسم.
*2* باب كان النبيّ صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير من الريح المرسلة
*حدّثنا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ. حَدّثَنَا إِبْرَاهِيمُ (يَعْنِي ابْنَ سَعْدٍ) عَنِ الزّهْرِيّ. ح وَحَدّثَنِي أَبُو عِمْرَانَ، مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ (وَاللّفْظُ لَهُ). أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ النّاسِ بِالْخَيْرِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ. حين يلقاه جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلاَمُ وكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلّ سَنَةٍ، فِي رَمَضَانَ حَتّىَ يَنْسَلِخَ، فَيَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْقُرْآنَ. فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنَ الرّيحِ الْمُرْسَلَةِ.
وحدّثناه أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا ابْنُ مُبَارَكٍ عَنْ يُونُسَ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. كِلاَهُمَا عَنِ الزّهْرِيّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ.
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في شهر رمضان أن جبريل يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن فإذا لقيه جبريل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة) أما قوله: (وكان أجود ما يكون) فروي برفع أجود ونصبه والرفع أصح وأشهر، والريح المرسلة بفتح السين والمراد كالريح في إسراعها وعمومها. وقوله: (كان يلقاه في كل سنة) كذا هو في جميع النسخ ونقله القاضي عن عامة الروايات والنسخ، قال: وفي بعضها كل ليلة بدل سنة، قال: وهو المحفوظ لكنه بمعنى الأول لأن قوله حتى ينسلخ بمعنى كل ليلة. وفي هذا الحديث فوائد: منها بيان عظيم جوده صلى الله عليه وسلم، ومنها استحباب إكثار الجود في رمضان، ومنها زيادة الجود والخير عند ملاقاة الصالحين وعقب فراقهم للتأثر بلقائهم، ومنها استحباب مدارسة القرآن.
*2* باب كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا
*حدّثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَ أَبُو الرّبِيعِ. قَالاَ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللّهِ عَشْرَ سِنِينَ. وَاللّهِ مَا قَالَ لِي: أُفّا قَطّ. وَلاَ قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلاّ فَعَلْتَ كَذَا؟.
زَادَ أَبُو الرّبِيعِ: لَيْسَ مِمّا يَصْنَعُهُ الْخَادِمُ. وَلَمْ يَذْكُرْ قوله: وَاللّهِ
وحدّثناه شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ. حَدّثَنَا سَلاّمُ بْنُ مِسْكِينٍ. حَدّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيّ عَنْ أَنَسٍ بِمِثْلِهِ.
وحدّثناه أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. جَمِيعاً عَنْ إِسْمَاعِيلَ (وَاللّفْظُ لأَحْمَدَ) قَالاَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ: لَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةِ، أَخَذَ أَبُو طَلْحَةَ بِيَدِي. فَانْطَلَقَ بِي إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ أَنَساً غُلاَمٌ كَيّسٌ فَلْيَخْدُمْكَ. قَالَ: فَخَدَمْتُهُ فِي السّفَرِ وَالْحَضَرِ. وَاللّهِ مَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَ هَذَا هَكَذَا؟ وَلاَ لِشَيْءٍ لَمْ أَصْنَعْهُ: لِمَ لَمْ تَصْنَعْ هَذَا هَكَذَا؟.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ. حَدّثَنَا زَكَرِيّاءُ. حَدّثَنِي سَعِيدٌ (وَهُوَ ابْنُ أَبِي بُرْدَةَ) عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تِسْعَ سِنِينَ. فَمَا أَعْلَمُهُ قَالَ لِي قَطّ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ وَلاَ عَابَ عَلَيّ شَيْئاً قَطّ.
حدّثني أَبُو مَعْنٍ الرّقَاشِيّ، زَيْدُ بْنُ يَزِيدَ. أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ. حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ (وَهُوَ ابْنُ عَمّارٍ) قَالَ: قَالَ إِسْحَقُ: قَالَ أَنَسٌ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَحْسَنِ النّاسِ خُلُقاً. فَأَرْسَلَنِي يَوْماً لِحَاجَةٍ. فَقُلْتُ: وَاللّهِ لاَ أَذْهَبُ. وَفِي نَفْسِي أَنْ أَذْهَبَ لِمَا أَمَرَنِي بِهِ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَخَرَجْتُ حَتّىَ أَمُرّ عَلَىَ صِبْيَانٍ وَهُمْ يَلْعَبُونَ فِي السّوقِ. فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ قَبَضَ بِقَفَايَ مِنْ وَرَائِي. قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يَضْحَكُ. فَقَالَ: "يَا أُنَيْسُ أَذَهَبْتَ حَيْثُ أَمَرْتُكَ؟" قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. أَنَا أَذْهَبُ، يَا رَسُولَ اللّهِ.
قَالَ أَنَسٌ: وَاللّهِ لَقَدْ خَدَمْتُهُ تِسْعَ سِنِينَ. مَا عَلِمْتُهُ قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا؟ أَوْ لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: هَلاّ فَعَلْتَ كَذَا وَكَذَا.
وحدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ وَ أَبُو الرّبِيعِ. قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ عَنْ أَبِي التّيّاحِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النّاسِ خُلُقاً.
قوله: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أفاً قط ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا) وفي رواية: (ولا عاب علي شيئاً) وفي رواية: (تسع سنين) وفي رواية: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً). أما قوله: (ما قال لي أفاً) فذكر القاضي وغيره فيها عشر لغات أف بفتح الفاء وضمها وكسرها بلا تنوين وبالتنوين فهذه ست وأف بضم الهمزة وإسكان الفاء وإف بكسر الهمزة وفتح الفاء وأفى وأفه بضم همزتهما، قالوا: وأصل الأف والتف وسخ الأظفار، وتستعمل هذه الكلمة في كل ما يستقذر وهي اسم فعل تستعمل في الواحد والاثنين والجمع والمؤنث والمذكر بلفظ واحد، قال الله: {ولا تقل لهما أف} قال الهروي: يقال لكل ما يضجر منه ويستثقل أف له، وقيل معناه الاحتقار مأخوذ من الأفف وهو القليل. وأما قط ففيها لغات قط وقط بفتح القاف وضمها مع تشديد الطاء المضمومة، وقط بفتح القاف وكسر الطاء المشددة، وقط بفتح القاف وإسكان الطاء، وقط بفتح القاف وكسر الطاء المخففة وهي لتوكيد نفي الماضي. وأما قوله: تسع سنين، وفي أكثر الروايات عشر سنين فمعناه أنها تسع سنين وأشهر فإن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة عشر سنين تحديداً لا تزيد ولا تنقص وخدمه أنس في أثناء السنة الأولى، ففي رواية التسع لم يحسب الكسر بل اعتبر السنين الكوامل، وفي رواية العشر حسبها سنة كاملة وكلاهما صحيح، وفي هذا الحديث بيان كمال خلقه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته وحلمه وصفحه.
*2* باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال: لا. وكثرة عطائه
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ. قَالاَ: حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ. سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً قَطّ فَقَالَ: لاَ.
م 1 وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا الأَشْجَعِيّ. ح وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ (يَعْنِي ابْنَ مَهْدِيَ). كِلاَهُمَا عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ. قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ ابْنَ عَبْدِ اللّهِ يَقُولُ، مِثْلَهُ، سَوَاءً.
وحدّثنا عاصِمُ بْنُ النّضْرِ التّيْمِيّ. حَدّثَنَا خَالِدٌ (يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ). حَدّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ مُوسَىَ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: مَا سُئِلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ الإِسْلاَمِ شَيْئاً إِلاّ أَعْطَاهُ. قَالَ: فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَأَعْطَاهُ غَنَماً بَيْنَ جَبَلَيْنِ. فَرَجَعَ إِلَىَ قَوْمِهِ، فَقَالَ: يَا قَوْمِ أَسْلِمُوا. فَإِنّ مُحَمّداً يُعْطِي عَطَاءً لاَ يَخْشَىَ الْفَاقَةَ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَرُونَ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَجُلاً سَأَلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم غَنَماً بَيْنَ جَبَلَيْنِ. فَأَعْطَاهُ إِيّاهُ. فَأَتَىَ قَوْمَهُ فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ أَسْلِمُوا. فَوَاللّهِ إِنّ مُحَمّداً لَيُعْطِي عَطَاءً مَا يَخَافُ الْفَقْرَ.
فقالَ أَنَسٌ: إِنْ كَانَ الرّجُلُ لَيُسْلِمُ مَا يُرِيدُ إِلاّ الدّنْيَا. فَمَا يُسْلِمُ حَتّىَ يَكُونَ الإِسْلاَمُ أَحَبّ إِلَيْهِ مِنَ الدّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ: غَزَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ الْفَتْحِ، فَتْحِ مَكّةَ. ثُمّ خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَاقْتَتَلُوا بِحُنَيْنٍ. فَنَصَرَ اللّهُ دِينَهُ وَالْمُسْلِمِينَ. وَأَعْطَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ مِائَةً مِنَ النّعَمِ. ثُمّ مِائَةً. ثُمّ مِائَةً.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: حَدّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ أَنّ صَفْوَانَ قَالَ: وَاللّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَعْطَانِي، وَإِنّهُ لأَبْغَضُ النّاسِ إِلَيّ. فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتّىَ إِنّهُ لأَحَبّ النّاسِ إِلَيّ.
حدّثنا عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيَنَةَ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ. أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرٍ. وَ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيَ، عَنْ جَابِرٍ. أَحَدُهُمَا يَزِيدُ عَلَى الاَخَرِ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ (وَاللّفْظُ لَهُ) قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: سَمِعْتُ مُحَمّدَ بْنَ الْمُنْكَدِرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ. قَالَ سُفْيَانُ: وَسَمِعْتُ أَيْضاً عَمْرَو بْنَ دِينَارٍ يُحَدّثُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَلِيَ. قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللّهِ. وَزَادَ أَحَدُهُمَا عَلَىَ الاَخَرِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ لَقَدْ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا". وَقَالَ بِيَدَيْهِ جَمِيعاً. فَقُبِضَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ مَالُ الْبَحْرَيْنِ. فَقَدِمَ عَلَىَ أَبِي بَكْرٍ بَعْدَهُ. فَأَمَرَ مُنَادِياً فَنَادَىَ: مَنْ كَانَتْ لَهُ عَلَى رَسُولِ اللّهِ عِدَةٌ أَوْ دَيْنٌ فَلْيَأْتِ. فَقُمْتُ فَقُلْتُ: إِنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ قَدْ جَاءَنَا مَالُ الْبَحْرَيْنِ أَعْطَيْتُكَ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا" فَحَثَىَ أَبُو بَكْرٍ مَرّةً، ثُمّ قَالَ لِي: عُدّهَا. فَعَدَدْتُهَا فَإِذَا هِيَ خُمْسُمِائَةٍ. فَقَالَ: خُذْ مِثْلَيْهَا.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمِ بْنِ مَيْمُونٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بَكْرٍ. أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ مُحمّدِ بْنِ عَلِيَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي مُحَمّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ. قَالَ: لَمّا مَاتَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم جَاءَ أَبَا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ الْعَلاَءِ بْنِ الْحَضْرَمِيّ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم دَيْنٌ، أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ، فَلْيَأْتِنَا. بِنَحْوِ حَدِيثِ ابْنِ عُيَيْنَةَ.
قوله: (ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط فقال لا) وذكر الحديث بعده في إعطائه صلى الله عليه وسلم للمؤلفة وغيرهم في هذا كله بيان عظيم سخائه وغزارة جوده صلى الله عليه وسلم ومعناه ما سئل شيئاً من متاع الدنيا. قوله: (حدثنا أبو كريب حدثنا الأشجعي قال وحدثني محمد بن المثنى) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا محمد بن المثنى، وكذا نقله القاضي عياض عن الجلودي، ووقع في رواية ابن ماهان محمد بن حاتم، وكذا ذكره أبو مسعود الدمشقي وخلف الواسطي. قوله: (فأعطاه غنماً بين جبلين) أي كثيرة كأنها تملأ ما بين جبلين، وفي هذا مع ما بعده إعطاء المؤلفة، ولا خلاف في إعطاء مؤلفة المسلمين لكن هل يعطون من الزكاة؟ فيه خلاف الأصح عندنا أنهم يعطون من الزكاة ومن بيت المال. والثاني لا يعطون من الزكاة بل من بيت المال خاصة. وأما مؤلفة الكفار فلا يعطون من الزكاة، وفي إعطائهم من غيرها خلاف الأصح عندنا لا يعطون لأن الله تعالى قد أعز الإسلام عن التألف بخلاف أول الأمر ووقت قلة المسلمين. قوله: (فقال أنس إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها) هكذا هو في معظم النسخ فما يسلم وفي بعضها فما يمسي وكلاهما صحيح، ومعنى الأول: فما يلبث بعد إسلامه إلا يسيراً حتى يكون الإسلام أحب إليه، والمراد أنه يظهر الإسلام أولاً للدنيا لا بقصد صحيح بقلبه، ثم من بركة النبي صلى الله عليه وسلم ونور الإسلام لم يلبث إلا قليلاً حتى ينشرح صدره بحقيقة الإيمان ويتمكن من قلبه، فيكون حينئذ أحب إليه من الدنيا وما فيها. قوله: (فحثى أبو بكر رضي الله عنه مرة ثم قال لي عدها فعددتها فإذا هي خمسمائة فقال خذ مثليها) يعني خذ معها مثليها فيكون الجميع ألفاً وخمسمائة لأن له ثلاث حثيات، وإنما حثى له أبو بكر بيده لأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيده قائمة مقام يده وكان له ثلاث حثيات بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيه انجاز العدة قال الشافعي والجمهور: إنجازها والوفاء بها مستحب لا واجب وأوجبه الحسن وبعض المالكية.
*2* باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال، وتواضعه، وفضل ذلك
*حدّثنا هَدّابُ بْنُ خَالِدٍ وَ شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ. كِلاَهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ (وَاللّفْظُ لِشَيْبَانَ). حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ المُغِيرَةِ. حَدّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِيّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وُلِدَ لِيَ اللّيْلَةَ غُلاَمٌ. فَسَمّيْتُهُ بِاسْمِ أَبِي، إِبْرَاهِيمَ" ثُمّ دَفَعَهُ إِلَىَ أُمّ سَيْفٍ، امْرَأَةِ قَيْنٍ يُقَالُ لَهُ أَبُو سَيْفٍ. فَانْطَلَقَ يَأْتِيهِ وَاتّبَعْتُهُ. فَانْتَهَيْنَا إِلَىَ أَبِي سَيْفٍ وَهُوَ يَنْفُخُ بِكِيرِهِ. قَدِ امْتَلأَ الْبَيْتُ دُخَاناً. فَأَسْرَعْتُ الْمَشْيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: يَا أَبَا سَيْفٍ أَمْسِكْ. جَاءَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَمْسَكَ. فَدَعَا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِالصّبِيّ. فَضَمّهُ إِلَيْهِ. وَقَالَ مَا شَاءَ اللّهِ أَنْ يَقُولَ.
فقالَ أَنَسٌ: لَقَدْ رَأَيْتُهُ وَهُوَ يَكِيدُ بِنَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَدَمَعَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: "تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ. وَلاَ نَقُولُ إِلاّ مَا يَرْضَىَ رَبّنَا. وَاللّهِ يَا إِبْرَاهِيمُ إِنّا بِكَ لَمَحْزُونُونَ".
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ (وَاللّفْظُ لزُهَيْرٍ) قَالاَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (وهُوَ ابْنُ عُلَيّةَ) عَنْ أَيّوبَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً كَانَ أَرْحَمَ بِالْعِيَالِ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ مُسْتَرْضِعاً لَهُ فِي عَوَالِي الْمَدِينَةِ. فَكَانَ يَنْطَلِقُ وَنَحْنُ مَعَهُ. فَيَدْخُلُ الْبَيْتَ وَإِنّهُ لَيُدّخَنُ. وَكَانَ ظِئْرُهُ قَيْناً. فَيَأْخُذُهُ فَيُقَبّلُهُ. ثُمّ يَرْجِعُ.
قَالَ عَمْرٌو: فَلَمّا تُوُفّيَ إِبْرَاهِيمُ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ إِبْرَاهِيمَ ابْنِي. وَإِنّهُ مَاتَ فِي الثّدْيِ، وَإِنّ لَهُ لَظِئْرَيْنِ تُكَمّلاَنِ رَضَاعَهُ فِي الْجَنّةِ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: قَدِمَ نَاسٌ مِنَ الأَعْرَابِ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالُوا: أَتُقَبّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ. فَقَالُوا: لَكِنّا، وَاللّهِ مَا نُقَبّلُ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوَ أَمْلِكُ إِنْ كَانَ اللّهُ نَزَعَ مِنْكُمُ الرّحْمَةَ".
وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ "مِنْ قَلْبِكَ الرّحْمَةَ".
وحدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ. جَمِيعاً عَنْ سُفْيَانَ. قَالَ عَمْرٌو: حَدّثَنَا سَفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ الأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ أَبْصَرَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يُقَبّلُ الْحَسَنَ. فَقَالَ: إِنّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبّلْتُ وَاحِداً مِنْهُمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّهُ مَنْ لاَ يَرْحَمْ لاَ يُرْحَمْ".
حدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزّهْرِيّ. حَدّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ.
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. كِلاَهُمَا عَنْ جَرِيرٍ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ عَلِيّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجّ. حَدّثَنَا حَفْصٌ (يَعْنِي ابْنَ غِيَاثٍ). كُلّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ وَ أَبِي ظَبْيَانَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لاَ يَرْحَمِ النّاسَ لاَ يَرْحَمْهُ اللّهُ عَزّ وَجَلّ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ وَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ وَ أَحْمَدُ بْنُ عَبْدَةَ. قَالُوا: حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ جَرِيرٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِ حَدِيثِ الأَعْمَشِ.
قوله: (عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد لي الليلة غلام فسميته باسم أبي إبراهيم ثم دفعه إلى أم سيف امرأة قين يقال له أبو سيف فانطلق يأتيه واتبعته إلى آخره) القين بفتح القاف الحداد، وفيه جواز تسمية المولود يوم ولادته، وجواز التسمية بأسماء الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وسبقت المسألتان في بابهما، وفيه استتباع العالم والكبير بعض أصحابه إذا ذهب إلى منزل قوم ونحوه، وفيه الأدب مع الكبار. قوله: (وهو يكيد بنفسه) أي يجود بها ومعناه وهو في النزع. قوله: (فدمعت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخره) فيه جواز البكاء على المريض والحزن وأن ذلك لا يخالف الرضا بالقدر بل هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده، وإنما المذموم الندب والنياحة والويل والثبور ونحو ذلك من القول الباطل ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ولا نقول إلا ما يرضي ربنا.
قوله: (ما رأيت أحداً أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وكان إبراهيم مسترضعاً في عوالي المدينة إلى قوله: فيأخذه فيقبله) أما العوالي فالقرى التي عند المدينة. وقوله: أرحم بالعيال هذا هو المشهور والموجود في النسخ والروايات. قال القاضي: وفي بعض الروايات بالعباد، ففيه بيان كريم خلقه صلى الله عليه وسلم ورحمته للعيال والضعفاء، وفيه جواز الاسترضاع، وفيه فضيلة رحمة العيال والأطفال وتقبيلهم. قوله صلى الله عليه وسلم: "وإنه مات في الثدي وإن ظئرين تكملان رضاعه في الجنة" معناه مات وهو في سن رضاع الثدي أو في حال تغذيه بلبن الثدي، وأما الظئر فبكسر الظاء مهموزة وهي المرضعة ولد غيرها وزوجها ظئر لذلك الرضيع، فلفظة الظئر تقع على الأنثى والذكر، ومعنى تكملان رضاعه أي تتمانه سنتين، فإنه توفي وله ستة عشر شهراً أو سبعة عشر فترضعانه بقية السنتين فإنه تمام الرضاعة بنص القرآن، قال صاحب التحرير: وهذا الإتمام لإرضاع إبراهيم رضي الله عنه يكون عقب موته فيدخل الجنة متصلاً بموته فيتم فيها رضاعه كرامة له ولأبيه صلى الله عليه وسلم. قال القاضي: واسم أبي سيف هذا البراء واسم أم سيف زوجته خولة بنت المنذر الأنصارية كنيتها أم سيف وأم بردة.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إنه من لا يرحم لا يرحم" وفي رواية: (من لا يرحم الناس لا يرحمه الله) قال العلماء: هذا عام يتناول رحمة الأطفال وغيرهم.
قوله: (عن أبي ظبيان) بفتح الظاء وكسرها.
*2* باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم
*حدّثني عُبيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، سَمِعَ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي عُتْبَةَ يُحَدّثُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ. ح وَحَدّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ. قَالَ زُهَيْرٌ: حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ مِهْدِيَ عَنْ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ أَبِي عُتْبَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَشَدّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئاً عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ.
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. قَالاَ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ. قَالَ: دَخَلْنَا عَلَىَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرٍو حِينَ قَدِمَ مُعَاوِيَةُ إِلَىَ الْكُوفَةِ. فَذَكَرَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ فَاحِشاً وَلاَ مُتَفَحّشاً. وَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ مِنْ خِيَارِكُمْ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلاقاً".
قَالَ عُثْمَانُ: حِينَ قَدِمَ مَعَ مُعَاوِيَةَ إِلَى الْكُوفَةِ.
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ وَ وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي ح وَحَدّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجّ. حَدّثَنَا أَبُو خَالِدٍ (يَعْنِي الأَحْمَرَ). كُلّهُمْ عَنِ الأَعْمَشِ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلهُ.
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها وكان إذا كره شيئاً عرفناه في وجهه) العذراء البكر لأن عذرتها باقية وهي جلدة البكارة، والخدر ستر يجعل للبكر في جنب البيت، ومعنى عرفنا الكراهة في وجهه أي لا يتكلم به لحيائه بل يتغير وجهه فنفهم نحن كراهته، وفيه فضيلة الحياء وهو من شعب الإيمان وهو خير كله ولا يأتي إلا بخير، وقد سبق هذا كله في كتاب الإيمان وشرحناه واضحاً، وهو محثوث عليه ما لم ينته إلى الضعف والنخو كما سبق.
قوله: (لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً) قال القاضي: أصل الفحش الزيادة والخروج عن الحد. قال الطبري: الفاحش البذيء. قال ابن عرفة: الفواحش عند العرب القبائح. قال الهروي: الفاحش ذو الفحش والمتفحش الذي يتكلف الفحش ويتعمده لفساد حاله، قال: وقد يكون المتفحش الذي يأتي الفاحشة. قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من خياركم أحاسنكم أخلاقاً" فيه الحث على حسن الخلق وبيان فضيلة صاحبه وهو صفة أنبياء الله تعالى وأوليائه، قال الحسن البصري: حقيقة حسن الخلق بذل المعروف وكف الأذى وطلاقة الوجه. قال القاضي عياض: هو مخالطة الناس بالجميل والبشر والتودد لهم والإشفاق عليهم واحتمالهم والحلم عنهم والصبر عليهم في المكاره وترك الكبر والاستطالة عليهم ومجانبة الغلظ والغضب والمؤاخذة. قال: وحكى الطبري خلافاً للسلف في حسن الخلق هل هو غريزة أم مكتسب؟ قال القاضي: والصحيح أن منه ما هو غريزة ومنه ما يكتسب بالتخلق والإقتداء بغيره والله أعلم.
*2* باب تبسمه صلى الله عليه وسلم وحسن عشرته
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ. قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَكُنْتَ تُجَالِسُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. كَثِيراً. كَانَ لاَ يَقُومُ مِنْ مُصَلاّهُ الّذِي يُصَلّي فِيهِ الصّبْحَ حَتّىَ تَطْلُعَ الشّمْسُ. فَإِذَا طَلَعَتْ قَامَ. وَكَانُوا يَتَحَدّثُونَ فَيَأْخُذُونَ فِي أَمْرِ الْجَاهِلِيّةِ. فَيَضْحَكُونَ. وَيَتَبَسّمُ صلى الله عليه وسلم.
قوله: (كان لا يقوم من مصلاه الذي صلى فيه الصبح حتى تطلع الشمس وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم) فيه استحباب الذكر بعد الصبح وملازمة مجلسها ما لم يكن عذر، قال القاضي: هذه سنة كان السلف وأهل العلم يفعلونها ويقتصرون في ذلك الوقت على الذكر والدعاء حتى تطلع الشمس، وفيه جواز الحديث بأخبار الجاهلية وغيرها من الأمم وجواز الضحك، والأفضل الاقتصار على التبسم كما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم في عامة أوقاته، قالوا: ويكره إكثار الضحك وهو في أهل المراتب والعلم أقبح والله أعلم.
*2* باب رحمة النبيّ صلى الله عليه وسلم للنساء، وأمر السواق مطاياهن بالرفق بهن
*حدّثنا أَبُو الرّبِيعِ الْعَتَكِيّ وَ حَامِدُ بْنُ عُمَرَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ أَبُو كَامِلٍ. جَمِيعاً عَنْ حَمّادِ بْنِ زَيْدٍ. قَالَ أَبُو الرّبِيعِ: حَدّثَنَا حَمّادٌ. حَدّثَنَا أَيّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، وَغُلاَمٌ أَسْوَدُ يُقَالُ لَهُ: أَنْجَشَةُ، يَحْدُو. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْدَكَ، سَوْقاً بِالْقَوَارِيرِ".
وحدّثنا أَبُو الرّبِيعِ الْعَتَكِيّ وَ حَامِدُ بْنُ عُمَرَ وَ أَبُو كَامِلٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا حَمّادٌ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ. بِنَحْوِهِ.
وحدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. كِلاَهُمَا عَنِ ابْنِ عُلَيّةَ. قَالَ زُهَيْرٌ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ. حَدّثَنَا أَيّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَتَىَ عَلَىَ أَزْوَاجِهِ، وَسَوّاقٌ يَسُوقُ بِهِنّ يُقَالُ لَهُ أَنْجَشَةُ. فَقَالَ: "وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ رُوَيْداً سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ".
قَالَ: قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: تَكَلّمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَلِمَةٍ لَوْ تَكَلّمَ بِهَا بَعْضُكُمْ لَعِبْتُمُوهَا عَلَيْهِ.
وحدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعِ عَنْ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كَامِلٍ. حَدّثَنَا يَزِيدُ. حَدّثَنَا التّيْمِيّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: كَانَتْ أُمّ سُلَيْمٍ مَعَ نِسَاءِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وَهُنّ يَسُوقُ بِهِنّ سَوّاقٌ. فَقَالَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَيْ أَنْجَشَةُ رُوَيْداً سَوْقَكَ بِالْقَوَارِيرِ".
وحدّثنا ابْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ. حَدّثَنِي هَمّامٌ. حَدّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ. قَالَ كَانَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَادٍ حَسَنُ الصّوْتِ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "رُوَيْداً يَا أَنْجَشَةُ لاَ تَكْسِرِ الْقَوَارِيرَ" يَعْنِي ضَعَفَةَ النّسَاءِ.
وحدّثناه ابْنُ بَشّارٍ. حَدّثَنَا أَبُو دَاوُدَ. حَدّثَنَا هِشَامٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَذْكُرْ: حَادٍ حَسَنُ الصّوْتِ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير" وفي رواية: (ويحك يا أنجشة رويداً سوقك بالقوارير). وفي رواية: (يا أنجشة لا تكسر القوارير) يعني ضعفة النساء، أما أنجشة فبهمزة مفتوحة وإسكان النون وبالجيم وبشين معجمة، وأما رويدك فمنصوب على الصفة بمصدر محذوف أي سق سوقاً رويداً، ومعناه الأمر بالرفق بهن، وسوقك منصوب بإسقاط الجار أي ارفق في سوقك بالقوارير، قال العلماء: سمي النساء قوارير لضعف عزائمهن تشبيهاً بقارورة الزجاج لضعفها وإسراع الانكسار إليها. واختلف العلماء في المراد بتسميتهن قوارير على قولين ذكرهما القاضي وغيره أصحهما عند القاضي وآخرين وهو الذي جزم به الهروي وصاحب التحرير وآخرون أن معناه أن أنجشة كان حسن الصوت وكان يحدو بهن وينشد شيئاً من القريض والرجز وما فيه تشبيب فلم يأمن أن يفتنهن ويقع في قلوبهن حداؤه فأمره بالكف عن ذلك، ومن أمثالهم المشهورة: الغنارقية الزنا. قال القاضي: هذا أشبه بمقصوده صلى الله عليه وسلم وبمقتضى اللفظ قال هو الذي يدل عليه كلام أبي قلابة المذكور في هذا الحديث في مسلم. والقول الثاني أن المراد به الرفق في السير لأن الإبل إذا سمعت الحداء أسرعت في المشي واستلذته فأزعجت الراكب وأتعبته فنهاه عن ذلك لأن النساء يضعفن عند شدة الحركة ويخاف ضررهن وسقوطهن، وأما ويحك فهكذا وقع في مسلم ووقع في غيره ويلك، قال القاضي: قال سيبويه ويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة، وويح زجر لمن أشرف على الوقوع في هكلة. وقال الفراء: ويل وويح وويس بمعنى، وقيل: ويح كلمة لمن وقع في هلكة لا يستحقها يعني في عرفنا فيرثى له ويترحم عليه وويل ضده. قال القاضي: قال بعض أهل اللغة لا يراد بهذه الألفاظ حقيقة الدعاء وإنما يراد بها المدح والتعجب، وفي هذه الأحاديث جواز الحذاء وهو بضم الحاء ممدود وجواز السفر بالنساء واستعمال المجاز، وفيه مباعدة النساء من الرجال ومن سماع كلامهم إلا الوعظ ونحوه.
*2* باب قرب النبي عليه السلام من الناس، وتبركهم به
*حدّثنا مُجَاهِدُ بْنُ مُوسَىَ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ النّضْرِ بْنِ أَبِي النّضْرِ وَ هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. جَمِيعاً عَنْ أَبِي النّضْرِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدّثَنَا أَبُو النّضْرِ (يَعْنِي هَاشِمَ بْنَ الْقَاسِمِ). حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلّىَ الْغَدَاةَ جَاءَ خَدَمُ الْمَدِينَةِ بِآنِيَتِهِمْ فِيهَا الْمَاءُ. فَمَا يُؤْتَىَ بِإِنَاءٍ إِلاّ غَمَسَ يَدَهُ فِيهَا. فَرُبّمَا جَاؤوهُ فِي الْغَدَاةِ الْبَارِدَةِ فَيَغْمِسُ يَدَهُ فِيهَا.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا أَبُو النّضْرِ. حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ. قَالَ: لَقَدْ رَأَيْت رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْحَلاّقُ يَحْلِقُهُ. وَأَطَافَ بِهِ أَصْحَابُهُ. فَمَا يُرِيدُونَ أَنْ تَقَعَ شَعْرَةٌ إِلاّ فِي يَدِ رَجُلٍ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَرُونَ عَنْ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنّ امْرَأَةً كَانَ فِي عَقْلِهَا شَيْءٌ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً. فَقَالَ: "يَا أُمّ فُلاَنٍ أَنْظُرِي أَيّ السّكَكِ شِئْتِ، حَتّىَ أَقْضِيَ لَكِ حَاجَتَكِ" فَخَلاَ مَعَهَا فِي بَعْضِ الطّرُقِ. حَتّىَ فَرَغَتْ مِنْ حَاجَتِهَا.
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى الغداة جاء خدم المدينة بآنيتهم فيها الماء فما يؤتى بإناء إلا غمس يده فيه فربما جاؤوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها).
وفي الرواية الأخرى: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والحلاق يحلقه وأطاف به أصحابه فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل).
وفي الاَخر: (أن امرأة كانت في عقلها شيء فقالت يا رسول الله إن لي إليك حاجة، فقال: يا أم فلان انظري أي السكك شئت حتى أقضي لك حاجتك فخلا معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها) في هذه الأحاديث بيان بروزه صلى الله عليه وسلم للناس وقربه منهم ليصل أهل الحقوق إلى حقوقهم ويرشد مسترشدهم ليشاهدوا أفعاله وحركاته فيقتدى بها، وهكذا ينبغي لولاة الأمور، وفيها صبره صلى الله عليه وسلم على المشقة في نفسه لمصلحة المسلمين وإجابته من سأله حاجة أو تبريكاً بمس يده وإدخالها في الماء كما ذكروا، وفيه التبرك بآثار الصالحين وبيان ما كانت الصحابة عليه من التبرك بآثاره صلى الله عليه وسلم وتبركهم بإدخال يده الكريمة في الاَنية وتبركهم بشعره الكريم وإكرامهم إياه أن يقع شيء منه إلا في يد رجل سبق إليه، وبيان تواضعه بوقوفه مع المرأة الضعيفة. قوله: (خلا معها في بعض الطرق) أي وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويفتيها في الخلوة ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية فإن هذا كان في ممر الناس ومشاهدتهم إياه وإياها لكن لا يسمعون كلامها لأن مسألتها مما لا يظهره والله أعلم.
*2* باب مباعدته صلى الله عليه وسلم للاَثام، واختياره من المباح أسهله، وانتقامه لله عند انتهاك حرماته
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، فِيمَا قُرِئَ عَلَيْهِ. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ، زَوْجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهَا قَالَتْ: مَا خُيّرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ إِلاّ أَخَذَ أَيْسَرَهُمَا مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً. فَإِنْ كَانَ إِثْماً كَانَ أَبْعَدَ النّاسِ مِنْهُ. ومَا انْتَقَمَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِنَفْسِهِ، إِلاّ أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللّهِ عَزّ وَجَلّ.
وحدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. جَمِيعاً عَنْ جَرِيرٍ. ح وَحَدّثَنَا أَحْمَدُ ابْنُ عَبْدَةَ. حَدّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ. كِلاَهُمَا عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُحَمّدٍ. فِي رِوَايَةِ فُضَيْلِ ابْنِ شِهَابٍ. وَفِي رِوَايَةِ جَرِيرٍ مُحَمّدٍ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ.
وحدّثنيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ مَالِكٍ.
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: مَا خُيّرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَمْرَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَيْسَرُ مِنَ الاَخَرِ، إِلاّ اخْتَارَ أَيْسَرَهُمَا. مَا لَمْ يَكُنْ إِثْماً فَإِنْ كَانَ إِثْماً، كَانَ أَبْعَدَ النّاسِ مِنْهُ.
وحدّثناه أَبُو كُرَيْبٍ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ جَمِيعاً عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. إِلَىَ قوله: أَيْسَرَهُمَا. وَلَمْ يَذْكُرَا مَا بَعْدَهُ.
حدّثناه أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً قَطّ بِيَدِهِ. وَلاَ امْرَأَةً. وَلاَ خَادِماً. إِلاّ أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ. وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطّ. فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ. إِلاّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللّهِ. فَيَنْتَقِمَ لِلّهِ عَزّ وَجَلّ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا عَبْدَةُ وَ وَكِيعٌ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. كُلّهُمْ عَنْ هِشَامٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. يَزِيدُ بَعْضُهُمْ عَلَىَ بَعْضٍ.
قولها: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه) فيه استحباب الأخذ بالأيسر والأرفق ما لم يكن حراماً أو مكروهاً. قال القاضي: ويحتمل أن يكون تخييره صلى الله عليه وسلم هنا من الله تعالى فيخيره فيما فيه عقوبتان، أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية، أو في حق أمته في المجاهدة في العبادة أو الاقتصار وكان يختار الأيسر في كل هذا. قال: وأما قولها ما لم يكن إثماً فيتصور إذا خيره الكفار والمنافقون فأما إن كان التخيير من الله تعالى أو من المسلمين فيكون الاستثناء منقطعاً. قولها: (وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله) وفي رواية: (ما نيل منه شيء قط فينتقم من صاحبه إلا أن ينتهك شيء من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى) معنى نيل منه أصيب بأذى من قول أو فعل، وانتهاك حرمة الله تعالى هو ارتكاب ما حرمه. قولها: (إلا أن تنتهك حرمة الله) استثناء منقطع معناه لكن إذا انتهكت حرمة الله انتصر لله تعالى وانتقم ممن ارتكب ذلك، في هذا الحديث الحث على العفو والحلم واحتمال الأذى والانتصار لدين الله تعالى ممن فعل محرماً أو نحوه، وفيه أنه يستحب للأئمة والقضاة وسائر ولاة الأمور التخلق بهذا الخلق الكريم فلا ينتقم لنفسه ولا يهمل حق الله تعالى. قال القاضي عياض: وقد أجمع العلماء على أن القاضي لا يقضي لنفسه ولا لمن لا يجوز شهادته له.
قولها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله) فيه أن ضرب الزوجة والخادم والدابة وإن كان مباحاً للأدب فتركه أفضل.
*2* باب طيب رائحة النبي صلى الله عليه وسلم، ولين مسه، والتبرك بمسحه
*حدّثنا عَمْرُو بْنُ حَمّادِ بْنِ طَلْحَةَ الْقَنّادُ. حَدّثَنَا أَسْبَاطٌ (وَهُوَ ابْنُ نَصْرٍ الْهَمْدَانِيّ) عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ. قَالَ: صَلّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الأُولَىَ. ثُمّ خَرَجَ إِلَىَ أَهْلِهِ وَخَرَجْتُ مَعَهُ. فَاسْتَقْبَلَهُ وِلْدَانٌ. فَجَعَلَ يَمْسَحُ خَدّيْ أَحَدِهِمْ وَاحِداً وَاحِداً. قَالَ: وَأَمّا أَنَا فَمَسَحَ خَدّي. قَالَ: فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْداً أَوْ رِيحاً كَأَنّمَا أَخْرَجَهَا مِنْ جُؤْنَةِ عَطّارٍ.
وحدّثنا قُتَيبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسٍ. ح وَحَدّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ (وَاللّفْظ لَهُ). حَدّثَنَا هَاشِمٌ (يَعْنِي ابْنَ الْقَاسِمِ). حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ (وَهُوَ ابْنُ الْمُغِيرَةِ) عَنْ ثَابِتٍ، قَالَ أَنَسٌ: مَا شَمِمْتُ عَنْبَراً قَطّ وَلاَ مِسْكاً وَلاَ شَيْئاً أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلاَ مَسِسْتُ شَيْئاً قَطّ دِيبَاجاً وَلاَ حَرِيراً أَلْيَنَ مَسّا مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
وحدّثني أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ صَخْرٍ الدّارِمِيّ. حَدّثَنَا حَبّانُ. حَدّثَنَا حَمّادٌ. حَدّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَزْهَرَ اللّوْنِ. كَأَنّ عَرَقَهُ اللّؤْلُؤ. إِذَا مَشَىَ تَكَفّأَ. وَلاَ مَسِسْتُ دِيبَاجَةً وَلاَ حَرِيرَةً أَلْيَنَ مِنْ كَفّ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَلاَ شَمَمْتُ مِسْكَةً وَلاَ عَنْبَرَةً أَطْيَبَ مِنْ رَائِحَةِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
قوله: (صلاة الأولى) يعني الظهر، والوالدان الصبيان واحدهم وليد، وفي مسحه صلى الله عليه وسلم الصبيان بيان حسن خلقه ورحمته للأطفال وملاطفتهم، وفي هذه الأحاديث بيان طيب ريحه صلى الله عليه وسلم وهو مما أكرمه الله تعالى، قال العلماء: كانت هذه الريح الطيبة صفته صلى الله عليه وسلم وإن لم يمس طيباً، ومع هذا فكان يستعمل الطيب في كثير من الأوقات مبالغة في طيب ريحه لملاقاة الملائكة وأخذ الوحي الكريم ومجالسة المسلمين. قوله: (كأنما أخرجت من جؤنة عطار) هي بضم الجيم وهمزة بعدها، ويجوز ترك الهمزة بقلبها واواً كما في نظائرها، وقد ذكرها كثيرون أو الأكثرون في الواو، قال القاضي: هي مهموزة وقد يترك همزها، وقال الجوهري: هي بالواو وقد تهمز وهي السقط الذي فيه متاع العطار هكذا فسره الجمهور، وقال صاحب العين: هي سليلة مستديرة مغشاة.
وأما قوله: (ما شممت) هو بكسر الميم الأولى على المشهور، وحكى أبو عبيد وابن السكيت والجوهري وآخرون فتحها. قوله: (أزهر اللون) هو الأبيض المستنير وهي أحسن الألوان. قوله: (كأن عرقه اللؤلؤ) أي في الصفاء والبياض، واللؤلؤ بهمز أوله وآخره وبتركهما وبهمز الأول دون الثاني وعكسه. قوله: (إذا مشى تكفأ) هو بالهمز وقد يترك همزه وزعم كثيرون أن أكثر ما يروى بلا همز وليس كما قالوا، قال شمر: أي مال يميناً وشمالاً كما تكفأ السفينة، قال الأزهري: هذا خطأ لأن هذا صفة المختال، وإنما معناه أن يميل إلى سمته وقصد مشيه كما قال في الرواية الأخرى كأنما ينحط في صبب، قال القاضي: لا بعد فيما قاله شمر إذا كان خلقة وجبلة والمذموم منه ما كان مستعملاً مقصوداً.
*2* باب طيب عرق النبيّ صلى الله عليه وسلم، والتبرك به
*حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا هَاشِمٌ (يَعْنِي ابْنَ الْقَاسِمِ) عَنْ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: دَخَلَ عَلَيْنَا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عِنْدَنَا فَعَرِقَ. وَجَاءَتْ أُمّي بِقَارُورَةٍ. فَجَعَلَتْ تَسْلُتُ الْعَرَقَ فِيهَا. فَاسْتَيْقَظَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "يَا أُمّ سُلَيْمٍ، مَا هَذَا الّذِي تَصْنَعِينَ؟" قَالَتْ: هَذَا عَرَقُكَ نَجْعَلُهُ فِي طِيبِنَا. وَهُوَ مِنْ أَطْيَبِ الطّيبِ.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ (وَهُوَ ابْنُ أَبِي سَلَمَةَ) عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: كَانَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَدْخُلُ بَيْتَ أُمّ سُلَيْمٍ فَيَنَامُ عَلَىَ فِرَاشِهَا وَلَيْسَتْ فِيهِ. قَالَ: فَجَاءَ ذَاتَ يَوْمٍ فَنَامَ علَىَ فِرَاشِهَا. فَأُتِيتْ فَقِيلَ لَهَا: هَذَا النّبِيّ صلى الله عليه وسلم نَامَ فِي بَيْتِكِ، عَلَىَ فِرَاشِكِ. قَالَ: فَجَاءَتْ وَقَدْ عَرِقَ، وَاسْتَنْقَعَ عَرَقُهُ علَىَ قِطْعَةِ أَدِيمٍ، عَلَىَ الْفِرَاشِ. فَفَتَحَتْ عَتِيدَتَهَا فَجَعَلَتْ تُنَشّفُ ذَلِكَ الْعَرَقَ فَتَعْصِرُهُ فِي قَوَارِيرِهَا. فَفَزِعَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: "مَا تصْنَعِينَ؟ يَا أُمّ سُلَيْمٍ" فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ نَرْجُو بَرَكَتَهُ لِصِبْيَانِنَا. قَالَ: "أَصَبْتِ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَفّانُ بْنُ مُسْلِمٍ. حَدّثَنَا وُهَيْبٌ. حَدّثَنَا أَيّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ، عَنْ أَنَسٍ،عَنْ أُمّ سُلَيْمٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْتِيهَا فَيَقِيلُ عِنْدَهَا. فَتَبْسُطُ لَهُ نِطَعاً فَيَقِيلُ عَلَيْهِ. وَكَانَ كَثِيْرَ الْعَرَقِ. فَكَانَتْ تَجْمَعُ عَرَقَهُ فَتَجَعَلُهُ فِي الطّيبِ وَالْقَوَارِيرِ. فَقَالَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم "يَا أُمّ سُلَيْمٍ مَا هَذَا؟" قَالَتْ: عَرَقُكَ أَدُوفُ بِهِ طِيبِي.
قوله: (فقال عندنا فعرق) أي نام للقيلولة. قوله: (تسلت العرق) أي تمسحه وتتبعه بالمسح. قوله: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يدخل بيت أم سليم فينام على فراشها) قد سبق أنها كانت محرماً له صلى الله عليه وسلم ففيه الدخول على المحارم والنوم عندهن وفي بيوتهن، وجواز النوم على الأدم وهي الأنطاع والجلود. قوله: (ففتحت عتيدتها) هي بعين مهملة مفتوحة ثم مثناة من فوق ثم من تحت وهي كالصندوق الصغير تجعل المرأة فيه ما يعز من متاعها. قوله: (ففزع النبي صلى الله عليه وسلم فقال ما تصنعين) معنى فزع استيقظ من نومه.
قولها: (عرقك أدوف به طيبي) هو بالدال المهملة وبالمعجمة والأكثرون على المهملة، وكذا نقله القاضي عن رواية الأكثرين ومعناه غلط، وسبق بيان هذه اللفظة في أول كتاب الإيمان.
*2* باب عرق النبيّ صلى الله عليه وسلم في البرد، وحين يأتيه الوحي
*حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ، مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: إِنْ كَانَ لَيُنْزَلُ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَدَاةِ الْبَارِدَةِ، ثُمّ تَفِيضُ جَبْهَتُهُ عَرَقاً.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ وَ ابْنُ بِشْرٍ. جَمِيعاً عَنْ هِشَامٍ. ح وحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ (وَاللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ. حَدّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ: "أَحْيَاناً يَأْتِينِي فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدّ عَلَيّ. ثُمّ يَفْصِمُ عَنّي وَقَدْ وَعَيْتُهُ. وَأَحْيَاناً مَلَكٌ فِي مِثْلِ صُورَةِ الرّجُلِ. فَأَعِي مَا يَقُولُ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَىَ. حَدّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطّانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ قَالَ: كَانَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، كُرِبَ لِذَلِكَ، وَتَرَبّدَ وَجْهُهُ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ. حَدّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ. حَدّثَنَا أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ حِطّانَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ الرّقَاشِيّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصّامِتِ. قَالَ: كَانَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ نَكَسَ رَأْسَهُ، وَنَكَسَ أَصْحَابُهُ رُؤُوسَهُمْ. فَلَمّا أُتْلِيَ عَنْهُ، رَفَعَ رَأْسَهُ.
قوله: (كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشد علي ثم يفصم عني وقد وعيته، وأحياناً ملك في مثل صورة الرجل فأعي ما يقول) أما الأحيان فالأزمان ويقع على القليل والكثير، ومثل صلصلة هو بنصب مثل، وأما الصلصلة فبفتح الصادين وهي الصوت المتدارك، قال الخطابي: معناه أنه صوت متدارك يسمعه ولا يثبته أول ما يقرع سمعه حتى يفهمه من بعد ذلك. قال العلماء: والحكمة في ذلك أن يتفرغ سمعه صلى الله عليه وسلم ولا يبقى فيه ولا في قلبه مكان لغير صوت الملك، ومعنى وعيت جمعت وفهمت وحفظت، وأما يفصم فبفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد المهملة أي يقلع وينجلي ما يتغشاني منه قاله الخطابي. قال العلماء: الفصم هو القطع من غير إبانة، وأما القصم بالقاف فقطع مع الإبانة والانفصال، ومعنى الحديث أن الملك يفارق على أن يعود ولا يفارقه مفارقة قاطع لا يعود، وروي هذا الحرف أيضاً يفصم بضم الياء وفتح الصاد على ما لم يسم فاعله، وروي بضم الياء وكسر الصاد على أنه أفصم يفصم رباعي وهي لغة قليلة وهي من أفصم المطر إذا أقلع وكف. قال العلماء: ذكر في هذا الحديث حالين من أحوال الوحي وهما مثل صلصلة الجرس وتمثل الملك رجلاً، ولم يذكر الرؤيا في النوم وهي من الوحي لأن مقصود السائل بيان ما يختص به النبي صلى الله عليه وسلم ويخفى فلا يعرف إلا من جهته، وأما الرؤيا فمشتركة معروفة.
قوله: (كرب لذلك وتربد وجهه) هو بضم الكاف وكسر الراء ومعنى تربد أي تغير وصار كلون الرماد، وفي ظاهر هذا مخالفة لما سبق في أول كتاب الحج في حديث المحرم الذي أحرم بالعمرة وعليه خلوق وأن يعلى بن أمية نظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم حال نزول الوحي وهو محمر الوجه، وجوابه أنها حمرة كدرة، وهذا معنى التربد وأنه في أوله يتربد ثم يحمر أو بالعكس.
قوله: (أتلي عنه) هكذا هو في معظم نسخ بلادنا أتلي بهمزة ومثناة فوق ساكنة ولام وياء ومعناه ارتفع عنه الوحي، هكذا فسره صاحب التحرير وغيره، ووقع في بعض النسخ أجلي بالجيم، وفي رواية ابن ماهان انجلى ومعناهما أزيل عنه وزال عنه، وفي رواية البخاري انجلى والله أعلم.
*2* باب في سدل النبيّ صلى الله عليه وسلم شعره، وفرقه
*حدّثنا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ زِيَادٍ (قَالَ مَنْصُورٌ: حَدّثَنَا. وَقَالَ ابْنُ جَعْفَرٍ: أَخْبَرَنَا) إِبْرَاهِيمُ (يَعْنِيَانِ ابْنَ سَعْدٍ) عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدُلُونَ أَشْعَارَهُمْ. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ رُؤُوسَهُمْ. وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُحِبّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ يُؤْمَرُ بِهِ. فَسَدَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم نَاصِيَتَهُ. ثُمّ فَرَقَ بَعْدُ.
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ.
قوله: (كان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم وكان المشركون يفرقون رؤوسهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به فسدل ناصيته ثم فرق بعد) قال أهل اللغة: يقال سدل يسدل ويسدل بضم الدال وكسرها. قال القاضي: سدل الشعر إرساله، قال: والمراد به هنا عند العلماء إرساله على الجبين واتخاذه كالقصة، يقال سدل شعره وثوبه إذا أرسله ولم يضم جوانبه. وأما الفرق فهو فرق الشعر بعضه من بعض. قال العلماء: والفرق سنة لأنه الذي رجع إليه النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: فالظاهر أنه إنما رجع إليه بوحي لقوله أنه كان يوافق أهل الكتاب فيما لم يؤمر به. قال القاضي: حتى قال بعضهم نسخ المسدل فلا يجوز فعله ولا اتخاذ الناصية والجمة. قال: ويحتمل أن المراد جواز الفرق لا وجوبه، ويحتمل أن الفرق كان باجتهاد في مخالفة أهل الكتاب لا بوحي ويكون الفرق مستحباً، ولهذا اختلف السلف فيه ففرق منهم جماعة واتخذ اللمة آخرون، وقد جاء في الحديث أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم لمة فإن انفرقت فرقها وإلا تركها، قال مالك: فرق الرجل أحب إلي، هذا كلام القاضي. والحاصل أن الصحيح المختار جواز السدل والفرق وأن الفرق أفضل والله أعلم. قال القاضي: واختلف العلماء في تأويل موافقة أهل الكتاب فيما لم ينزل عليه شيء فقيل فعله استئلافاً لهم في أول الإسلام وموافقة لهم على مخالفة عبدة الأوثان، فلما أغنى الله تعالى عن استئلافهم وأظهر الإسلام على الدين كله صرح بمخالفتهم في غير شيء منها صبغ الشيب: وقال آخرون: يحتمل أنه أمر باتباع شرائعهم فيما لم يوح إليه شيء وإنما كان هذا فيما علم أنهم لم يبدلوه، واستدل بعض الأصوليين بهذا الحديث أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه. وقال آخرون: بل هذا دليل أنه ليس بشرع لنا لأنه قال يحب موافقتهم فأشار إلى أنه إلى خيرته ولو كان شرعاً لنا لتحتم اتباعه والله أعلم.
*2* باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه كان أحسن الناس وجها
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَقَ. قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مَرْبُوعاً. بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ. عَظِيمَ الْجُمّةِ إِلَىَ شَحْمَةِ أُذُنَيْهِ. عَلَيْهِ حُلّةٌ حَمْرَاءُ. مَا رَأَيْتُ شَيْئاً قَطّ أَحْسَنَ مِنْهُ صلى الله عليه وسلم.
حدّثنا عَمْرٌو النّاقِدُ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: مَا رَأَيْتُ مِنْ ذِي لِمّةٍ أَحْسَنَ فِي حُلّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. شَعْرُهُ يَضْرِبُ مَنْكِبَيْهِ. بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ. لَيْسَ بِالطّوِيلِ ولاَ بِالْقَصِيرِ.
قَالَ أَبُو كُرَيْبٍ: لَهُ شَعَرٌ.
حدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. حَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ابْنِ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ. قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النّاسِ وَجْهاً. وَأَحْسَنَهُمْ خَلْقاً، لَيْسَ بِالطّوِيلِ الذّاهِبِ وَلاَ بِالْقَصِيرِ.
قوله: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مربوعاً) هو بمعنى قوله في الرواية الثانية: (ليس بالطويل ولا بالقصير). قوله: (عظيم الجمة إلى شحمة أذنيه) وفي رواية: (ما رأيت من ذي لمة أحسن منه) وفي رواية: (كان يضرب شعره منكبيه) وفي رواية: (إلى أنصاف أذنيه) وفي رواية: (بين أذنيه وعاتقه) قال أهل اللغة: الجمة أكثر من الوفرة، فالجمة الشعر الذي نزل إلى المنكبين، والوفرة ما نزل إلى شحمة الأذنين، واللمة التي ألمت بالمنكبين. قال القاضي: والجمع بين هذه الروايات أن ما يلي الأذن هو الذي يبلغ شحمة أذنيه وهو الذي بين أذنيه وعاتقه وما خلفه هو الذي يضرب منكبيه. قال: وقيل بل ذلك لاختلاف الأوقات، فإذا اغفل عن تقصيرها بلغت المنكب، وإذا قصرها كانت إلى أنصاف الأذنين، فكان يقصر ويطول بحسب ذلك، والعاتق ما بين المنكب والعنق. وأما شحمة الأذن فهو اللين منها في أسفلها وهو معلق القرط منها. وتوضح هذه الروايات رواية إبراهيم الحربي: كان شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوق الوفرة ودون الجمة. قوله في حديث البراء: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً) قال القاضي: ضبطناه خلقاً بفتح الخاء وإسكان اللام هنا لأن مراده صفات جسمه، قال: وأما في حديث أنس فرويناه بالضم لأنه إنما أخبر عن حسن معاشرته. وأما قوله: وأحسنه فقال أبو حاتم وغيره هكذا تقوله العرب وأحسنه يريدون وأحسنهم ولكن لا يتكلمون به وإنما يقولون أجمل الناس وأحسنه، ومنه الحديث: "خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أشفقه على ولد وأعطفه على زوج" وحديث أبي سفيان. عندي أحسن نساء العرب وأجمله.
*2* باب صفة شعر النبي صلى الله عليه وسلم
*حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ. حَدّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ. حَدّثَنَا قَتَادَةُ. قَالَ: قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: كَيْفَ كَانَ شَعَرُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: كَانَ شَعَراً رَجِلاً. لَيْسَ بِالْجَعْدِ وَلاَ السّبِطِ. بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ.
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا حَبّانُ بْنُ هِلاَلٍ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ. قَالاَ: حَدّثَنَا هَمّامٌ. حَدّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ: أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُهُ مَنْكِبَيْهِ.
حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَلَيّةَ عَنْ حُمَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ شَعَرُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَىَ أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ.
قوله: (كان شعراً رجلاً ليس بالجعد ولا السّبْطِ) هو بفتح الراء وكسر الجيم وهو الذي بين الجعودة والسبوطة قاله الأصمعي وغيره.
*2* باب في صفة فم النبي صلى الله عليه وسلم، وعينيه، وعقبيه
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنّى). قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم ضَلِيعَ الْفَمِ. أَشْكَلَ الْعَيْنِ. مَنْهُوسَ الْعَقِبَيْنِ. قَالَ: قُلْتُ لِسِمَاكٍ: مَا ضَلِيعُ الْفَمِ؟ قَالَ: عَظِيمُ الْفَمِ. قَالَ: قُلْتُ: مَا أَشْكَلُ الْعَيْنِ؟ قَالَ: طَوِيلُ شَقّ الْعَيْنِ. قَالَ: قُلْتُ: مَا مَنْهُوسُ الْعَقِبِ؟ قَالَ: قَلِيلُ لَحْمِ الْعَقِبِ.
قوله: (عن شعبة عن سماك بن حرب قال: سمعت جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ضليع الفم أشكل العين منهوس العقبين، قال: قلت لسماك ما ضليع الفم؟ قال: عظيم الفم، قلت: ما أشكل العين؟ قال: طويل شق العين، قلت: ما منهوس العقب؟ قال: قليل لحم العقب) أما قوله: في ضليع الفم فكذا قاله الأكثرون وهو الأظهر، قالوا: والعرب تمدح بذلك وتذم صغر الفم وهو معنى قول ثعلب في ضليع الفم واسع الفم، وقال شمر: عظيم الأسنان. وأما قوله في أشكل العين فقال القاضي: هذا وهم من سماك باتفاق العلماء وغلط ظاهر، وصوابه ما اتفق عليه العلماء ونقله أبو عبيد وجميع أصحاب الغريب أن الشكلة حمرة في بياض العينين وهو محمود، والشهلة بالهاء حمرة في سواد العين، وأما المنهوس فبالسين المهملة هكذا ضبطه الجمهور. وقال صاحب التحرير ابن الأثير: روي بالمهملة والمعجمة وهما متقاربان ومعناه قليل لحم العقب كما قال والله أعلم.
*2* باب كان النبي صلى الله عليه وسلم أبيض، مليح الوجه
*حدّثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنِ الْجُرَيْرِيّ، عَنْ أَبِي الطّفَيْلِ قَالَ: قُلْتُ لَهُ: أَرَأَيْتَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. كَانَ أَبْيَضَ، مَلِيحَ الْوَجْهِ.
قَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجّاجِ: مَاتَ أَبُو الطّفَيْلِ سَنَةَ مِائَةٍ وَكَانَ آخِرَ مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم.
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوارِيرِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ عَنِ الْجُرَيْرِيّ، عَنْ أَبِي الطّفَيْلِ، قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا عَلَىَ وَجْهِ الأَرْضِ رَجُلٌ رَآهُ غَيْرِي. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: فَكَيْفَ رَأَيْتَهُ؟ قَالَ: كَانَ أَبْيَضَ مَلِيحاً مُقَصّداً.
قوله: (كان أبيض مليحاً مقصداً) هو بفتح الصاد المشددة وهو الذي ليس بجسيم ولا نحيف ولا طويل ولا قصير، وقال شمر: هو نحو الربعة والقصد بمعناه والله أعلم.
*2* باب شيبه صلى الله عليه وسلم
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ ابْنُ نُمَيْرٍ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ. جَمِيعاً عَنِ ابْنِ إِدْرِيسَ. قَالَ عَمْرٌو: حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ إِدْرِيسَ الأَوْدِيّ عَنْ هِشَامٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: هَلْ خَضَبَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِنّهُ لَمْ يَكُنْ رَأَىَ مِنَ الشّيْبِ إِلاّ. (قَالَ ابْنُ إِدْرِيسَ: كَأَنّهُ يُقَلّلُهُ). وَقَدْ خَضَبَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ بِالْحِنّاءِ وَالْكَتَمِ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ بَكّارِ بْنِ الرّيّانِ. حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ زَكَرِيّاءَ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: هَلْ كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَضَبَ؟ فَقَالَ: لَمْ يَبْلُغ الْخِضَابَ. كَانَ فِي لِحْيَتِهِ شَعَرَاتٌ بِيضٌ. قَالَ قُلْتُ لَهُ: أَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَخْضِبُ؟ قَالَ فَقَالَ: نَعَمْ. بِالْحِنّاءِ وَالْكَتَمِ.
وحدّثني حَجّاجُ بْنُ الشّاعِرِ. حَدّثَنَا مُعَلّى بْنُ أَسَدٍ. حَدّثَنَا وُهَيْبُ بْنُ خَالِدٍ عَنْ أَيّوبَ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرينَ قَالَ: سَأَلْت أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَخَضَبَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: إِنّهُ لَمْ يَرَ مِنَ الشّيْبِ إِلاّ قَلِيلاً.
حدّثني أَبُو الرّبِيعِ العَتَكِيّ. حَدّثَنَا حَمّادٌ. حَدّثَنَا ثَابِتٌ قَالَ: سُئِلَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ خِضَابِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدّ شَمَطَاتٍ كُنّ فِي رَأْسِهِ فَعَلْتُ. وَقَالَ: لَمْ يَخْتَضِبْ. وَقَدِ اخْتَضَبَ أَبُو بَكْرٍ بِالْحِنّاءِ وَالْكَتَمِ. وَاخْتَضَبَ عُمَرُ بِالْحِنّاءِ بَحْتاً.
حدّثنا نَصْرُ بْنُ عَلِيَ الْجَهْضَمِيّ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا الْمُثَنّى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: يُكْرَهُ أَنْ يَنْتِفَ الرّجُلُ الشّعْرَةَ الْبَيْضَاءَ مِنْ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. قَالَ: وَلَمْ يَخْتَضِبْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. إِنّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ وَفِي الصّدْغَيْنِ. وَفِي الرّأْسِ نَبْذٌ.
وحدّثنيهِ مُحَمّدُ بْنُ الْمثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الصّمَدِ. حَدّثَنَا الْمُثَنّى، بِهَذَا الإِسْنَادِ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ وَ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدّوْرَقِيّ وَ هَرُون ابْنُ عَبْدِ اللّهِ. جَمِيعاً عَنْ أَبِي دَاوُدَ. قَالَ ابْنُ الْمُثَنّى: حَدّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ خُلَيْدِ بْنِ جَعْفَرٍ. سَمِعَ أَبَا إِيَاسٍ عَنْ أَنَسٍ أَنّهُ سُئِلَ عَنْ شَيْبِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: مَا شَانَهُ اللّهُ بِبَيْضَاءَ.
حدّثنا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ. حَدّثَنَا زُهَيْرٌ. حَدّثَنَا أَبُو إِسْحَقَ. ح وَحَدّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا أَبُو خَيْثَمَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، هَذِهِ مِنْهُ بَيْضَاءَ. وَوَضَعَ زُهَيْرٌ بَعْضَ أَصَابِعِهِ عَلَىَ عَنْفَقَتِهِ. قِيلَ لَهُ: مِثْلُ مَنْ أَنْتَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: أَبْرِي النّبْلَ وَأَرِيشُهَا.
حدّثنا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَىَ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالدٍ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَبْيَضَ قَدْ شَابَ. كَانَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيَ يُشْبِهُهُ.
وحدّثنا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ وَ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بِشْرٍ. كُلّهُمْ عَنْ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ أَبِي جُحَيْفَةَ، بِهَذَا. وَلَمْ يَقُولُوا: أَبْيَضَ قَدْ شَابَ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ. قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ سُئِلَ عَنْ شَيْبِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ فَقَالَ: كَانَ إِذَا دَهَنَ رَأْسَهُ لَمْ يُرَ مِنْهُ شَيْءٌ. وَإِذَا لَمْ يَدْهُنْ رُئِيَ مِنْهُ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ سِمَاكٍ أَنّهُ سَمِعَ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ شَمِطَ مُقَدّمُ رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. وَكَانَ إِذَا تطيب بطيب فيه صفرة ففي شيبه لَمْ يَتَبَيّنْ. وَإِذَا شَعِثَ رَأْسُهُ تَبَيّنَ. وَكَانَ كَثِيرَ شَعْرِ اللّحْيَةِ. فَقَالَ رَجُلٌ: وَجْهُهُ مِثْلُ السّيْفِ؟ قَالَ: لاَ. بَلْ كَانَ مِثْلَ الشّمْسِ وَالْقَمَرِ. وَكَانَ مُسْتَدِيراً. وَرَأَيْتُ الْخَاتَمَ عِنْدَ كَتِفِهِ مِثْلَ بَيْضَةِ الْحَمَامَةِ. يُشْبِهُ جَسَدَهُ.
قوله: (سألت أنس بن مالك هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خضب؟ فقال: لم يبلغ الخضاب كان في لحيته شعرات بيض). وفي رواية: (لم ير من الشيب إلا قليلاً). وفي رواية: (لو شئت أن أعد شمطات كن في رأسه ولم يخضب) وفي رواية: (لم يخضب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما كان البياض في عنفقته وفي الصدغين وفي الرأس نبذ). وفي رواية: (ما شانه الله ببيضاء) وفي رواية أبي جحيفة: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه منه بيضاء ووضع الراوي بعض أصابعه على عنفقته. وفي رواية له: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض قد شاب) وفي رواية جابر بن سمرة: (أنه سئل عن شيب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان إذا دهن رأسه لم ير منه شيء، وإذا لم يدهن رئي منه) وفي رواية له: (كان قد شمط مقدم رأسه ولحيته) وفي رواية لأنس: (يعد عداً توفي وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء) وفي حديث أم سلمة: (أنها أخرجت لهم شعرات من شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حمراً مخضوبة بالحناء والكتم) قال القاضي: اختلف العلماء هل خضب النبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فمنعه الأكثرون بحديث أنس وهو مذهب مالك. وقال بعض المحدثين: خضب لحديث أم سلمة هذا ولحديث ابن عمر: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصبغ بالصفرة) قال: وجمع بعضهم بين الأحاديث بما أشار إليه في حديث أم سلمة من كلام أنس في قوله فقال: ما أدري في هذا الذي يحدثون إلا أن يكون شيء من الطيب الذي كان يطيب به شعره لأنه صلى الله عليه وسلم كان يستعمل الطيب كثيراً وهو يزيل سواد الشعر، فأشار أنس إلى أن تغيير ذلك ليس بصبغ وإنما هو لضعف لون سواده بسبب الطيب. قال: ويحتمل أن تلك الشعرات تغيرت بعده لكثرة تطييب أم سلمة لها إكراماً، هذا آخر كلام القاضي. والمختار أنه صلى الله عليه وسلم صبغ في وقت وتركه في معظم الأوقات فأخبر كل بما رأى وهو صادق، وهذا التأويل كالمتعين فحديث ابن عمر في الصحيحين ولا يمكن تركه ولا تأويل له والله أعلم. وأما اختلاف الرواية في قدر شيبه فالجمع بينها أنه رأى شيئاً يسيراً، فمن أثبت شيبه أخبر عن ذلك اليسير، ومن نفاه أراد أنه لم يكثر فيه كما قال في الرواية الأخرى لم يشتد الشيب أي لم يكثر، ولم يخرج شعره عن سواده وحسنه كما قال في الرواية الأخرى: لم ير من الشيب إلا قليلاً. قوله: (أعد شمطاته) وفي الرواية الأخرى: (كان قد شمط) بكسر الميم اتفق العلماء على أن المراد بالشمط هنا ابتداء الشيب يقال منه شمط وأشمط. قوله: (خضب أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم بالحناء والكتم) أما الحناء فممدود وهو معروف، وأما الكتم فبفتح الكاف والتاء المثناة من فوق المخففة هذا هو المشهور. وقال أبو عبيدة: هو بتشديد التاء وحكاه غيره وهو نبات يصبغ به الشعر يكثر بياضه أو حمرته إلى الدهمة. قوله: (اختضب عمر بالحناء) هو بالحاء المهملة معناه خالصاً لم يخلط بغيره. قوله: (عن أنس رضي الله عنه قال: يكره أن ينتف الرجل الشعرة البيضاء من رأسه ولحيته) هذا متفق عليه، قال أصحابنا وأصحاب مالك: يكره ولا يحرم. قوله: (وفي الرأس نبذ) ضبطوه بوجهين: أحدهما ضم النون وفتح الباء، والثاني بفتح النون وإسكان الباء وبه جزم القاضي ومعناه شعرات متفرقة. قوله: (سمع أبا إياس) هو معاوية بن قرة.
قوله: (أبري النبل وأريشها) أما أبري فبفتح الهمزة، وأما أريشها فبفتح الهمزة أيضاً وكسر الراء وإسكان الياء أي أجعل للنبل ريشاً.
قوله: (ورأيت الخاتم عند كتفه مثل بيضة الحمامة يشبه جسده).
*2* باب إثبات خاتم النبوة، وصفته، ومحله من جسده صلى الله عليه وسلم
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكٍ. قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ قَالَ: رَأَيْتُ خَاتِماً فِي ظَهْرِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. كَأَنّهُ بَيْضَةُ حَمَامٍ.
وحدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُوسَىَ. أَخْبَرَنَا حَسَنُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ سِمَاكٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ.
وحدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ عَبّادٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا حَاتِمٌ (وَهُوَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ) عَنِ الْجَعْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ. قَالَ: سَمِعْتُ السّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِنّ ابْنَ أُخْتِي وَجِعٌ. فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ. ثُمّ تَوَضّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ. ثُمّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَىَ خَاتِمِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. كزِرّ الْحَجَلَةِ.
حدّثنا أَبُو كَامِلٍ. حَدّثَنَا حَمّادٌ (يَعْنِي ابْنَ زَيْدٍ). ح وَحَدّثَنِي سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ. كِلاَهُمَا عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ. ح وَحَدّثَنِي حَامِدُ بْنُ عُمَرَ الْبَكرَاوِيّ (وَاللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ (يَعْنِي ابْنَ زِيَادٍ). حَدّثَنَا عَاصِمٌ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ سَرْجِسَ. قَالَ: رَأَيْتُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزاً وَلَحْمَاً. أَوْ قَالَ: ثَرِيداً. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أَسْتَغْفَرَ لَكَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَ: نَعَمْ. وَلَكَ. ثُمّ تَلاَ هَذِهِ الاَيَةَ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (محمد).
قَالَ: ثُمّ دُرْتُ خَلْفَهُ فَنَظَرْتُ إِلَىَ خَاتِمِ النّبُوّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ. عِنْدَ نَاغِضِ كَتِفِهِ الْيُسْرَىَ. جُمْعاً. عَلَيْهِ خِيلاَنٌ كَأَمْثَالِ الثّآلِيلِ.
وفي رواية: (بين كتفيه مثل زر الحجلة).
وفي رواية: (فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغض كتفه اليسرى جمعاً عليه خيلان كأمثال الثآليل) أما بيضة الحمامة فهو بيضتها المعروفة، وأما زر الحجلة فبزاي ثم راء والحجلة بفتح الحاء والجيم هذا هو الصحيح المشهور، والمراد بالحجلة واحدة الحجال وهي بيت كالقبة لها أزرار كباز وعرى، هذا هو الصواب المشهور الذي قاله الجمهور، وقال بعضهم: المراد بالحجلة الطائر المعروف وزرها بيضتها وأشار إليه الترمذي وأنكره عليه العلماء، وقال الخطابي: روي أيضاً بتقديم الراء على الزاي ويكون المراد البيض، يقال أرزت الجرادة بفتح الراء وتشديد الزاي إذا كبست ذنبها في الأرض فباضت. وجاء في صحيح البخاري كانت بضعة ناشزة أي مرتفعة على جسده. وأما ناغض كتفه فبالنون والغين والضاد المعجمتين والغين مكسورة، وقال الجمهور: النغض والنغض والناغض أعلى الكتف، وقيل هو العظم الرقيق الذي على طرفه، وقيل ما يظهر منه عند التحرك. وأما قوله جمعاً فبضم الجيم وإسكان الميم ومعناه أنه كجمع الكف وهو صورته بعد أن تجمع الأصابع وتضمها. وأما الخيلان فبكسر الخاء المعجمة وإسكان الياء جمع خال وهو الشامة في الجسد والله أعلم. قال القاضي: وهذه الروايات متقاربة متفقة على أنها شاخص في جسده قدر بيضة الحمامة وهو نحو بيضة الحجلة وزر الحجلة. وأما رواية جمع الكف وناشز فظاهرها المخالفة فتؤول على وفق الروايات الكثيرة ويكون معناه على هيئة جمع الكف لكنه أصغر منه في قدر بيضة الحمامة. قال القاضي: وهذا الخاتم هو أثر شق الملكين بين الكتفين وهذا الذي قاله ضعيف بل باطل لأن شق الملكين إنما كان في صدره وبطنه والله أعلم
*2* باب في صفة النبي صلى الله عليه وسلم، ومبعثه، وسنه
*حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَىَ. قَالَ: قَرَأْتُ عَلَىَ مَالِكٍ عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بِالطّوِيلِ الْبَائِنِ وَلاَ بِالْقَصِيرِ. وَلَيْسَ بِالأَبْيَضِ الأَمْهَقِ وَلاَ بِالاَدَمِ. وَلاَ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ وَلاَ بِالسّبِطِ. بَعَثَهُ اللّهِ عَلَىَ رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً. فَأَقَامَ بِمَكّةَ عَشْرَ سِنِينَ وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ سِنِينَ. وَتَوَفّاهُ اللّهِ عَلَىَ رَأْسِ سِتّينَ سَنَةً. وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ شَعْرَةً بَيْضَاءَ.
وحدّثنا يَحْيَى بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ) ح وَحَدّثَنِي الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيّاءَ. حَدّثَنَا خَالِدُ بْنُ مُخْلَدٍ. حَدّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ. كِلاَهُمَا عَنْ رَبِيعَةَ (يَعْنِي ابْنَ أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ)، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. بِمِثْلِ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ. وَزَادَ فِي حَدِيثِهِمَا: كَانَ أَزْهَرَ.
ذكر في الباب ثلاث روايات: إحداها أنه صلى الله عليه وسلم توفي وهو ابن ستين سنة، والثانية خمس وستون، والثالثة ثلاث وستون وهي أصحّها وأشهرها، رواه مسلم هنا من رواية عائشة وأنس وابن عباس رضي الله عنهم، واتفق العلماء على أن أصحها ثلاث وستون وتأولوا الباقي عليه، فرواية ستين اقتصر فيها على العقود وترك الكسر، ورواية الخمس متأولة أيضاً وحصل فيها اشتباه وقد أنكر عروة على ابن عباس. قوله: (خمس وستون) ونسبه إلى الغلط وأنه لم يدرك أول النبوة ولا كثرت صحبته بخلاف الباقين، واتفقوا أنه صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة بعد الهجرة عشر سنين وبمكة قبل النبوة أربعين سنة، وإنما الخلاف في قدر إقامته بمكة بعد النبوة وقيل الهجرة والصحيح أنها ثلاث عشرة فيكون عمره ثلاثاً وستين، وهذا الذي ذكرناه أنه بعث على رأس أربعين سنة هو الصواب المشهور الذي أطبق عليه العلماء. وحكى القاضي عياض عن ابن عباس وسعيد بن المسيب رواية شاذة أنه صلى الله عليه وسلم بعث على رأس ثلاث وأربعين سنة والصواب أربعون كما سبق، وولد عام الفيل على الصحيح المشهور، وقيل بعد الفيل بثلاث سنين وقيل بأربع سنين، وادعى القاضي عياض الإجماع على عام الفيل وليس كما ادعى، واتفقوا أنه ولد يوم الاثنين في شهر ربيع الأول، وتوفي يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، واختلفوا في يوم الولادة هل هو ثاني الشهر أم ثامنه أم عاشره أم ثاني عشره؟ ويوم الوفاة ثاني عشره ضحى والله أعلم. قوله: (ليس بالطويل البائن ولا بالقصير) المراد بالبائن زائد الطول أي هو بين زائد الطول والقصير وهو بمعنى ما سبق أنه كان مقصداً. قوله: (ولا الأبيض الأمهق ولا بالاَدم) الأمهق بالميم هو شديد البياض كلون الجص وهو كريه المنظر وربما توهمه الناظر أبرص والاَدم الأسمر معناه ليس بأسمر ولا بأبيض كريه البياض بل أبيض بياضاً نيراً، كما قال في الحديث السابق أنه صلى الله عليه وسلم كان أزهر اللون، وكذا قال في الرواية التي بعده كان أزهر. قوله: (قلت لعروة كم لبث النبي صلى الله عليه وسلم بمكة؟ قال عشراً، قلت: فإن ابن عباس يقول بضع عشرة، قال: فغفره وقال إنما أخذه من قول الشاعر) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا فغفره بالغين والفاء وكذا نقله القاضي عن رواية الجلودي، ومعناه دعا له بالمغفرة فقال غفر الله له، وهذه اللفظة يقولونها غالباً لمن غلط في شيء فكأنه قال أخطأ غفر الله له. قال القاضي: وفي رواية ابن ماهان فصغره بصاد ثم غين أي استصغره عن معرفته هذا وإدراكه ذلك وضبطه وإنما أسند فيه إلى قول الشاعر وليس معه علم بذلك، ويرجح القاضي هذا القول، قال: والشاعر هو أبو قيس صرمة بن أبي أنس حيث يقول:
ثوى في قريش بضع عشرة حجة يذكر لو يلقى خليلاً مواتيا
وقد وقع هذا البيت في بعض نسخ صحيح مسلم وليس هو في عامتها. قلت: وأبو قيس هذا هو صرمة بن أبي أنس بن مالك بن عدي بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار الأنصاري هكذا نسبه ابن إسحاق، قال: كان قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان واغتسل من الجنابة واتخذ بيتاً له مسجداً لا يدخل عليه حائض ولا جنب وقال: أعبد رب إبراهيم، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أسلم فحسن إسلامه وهو شيخ كبير وكان قوالاً بالحق وكان معظماً لله تعالى في الجاهلية يقول الشعر في تعظيمه سبحانه وتعالى
*2* باب كم سنّ النبي صلى الله عليه وسلم يوم قبض
*حدّثني أَبُو غَسّانَ الرّازِيّ، مُحَمّدُ بْنُ عَمْرٍو، حَدّثَنَا حَكّامُ بْنُ سَلْمٍ. حَدّثَنَا عُثْمَان بْنُ زَائِدَةَ عَنِ الزّبَيْرِ بْنِ عَدِيَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: قُبِضَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ. وَأَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ. وَعُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ.
وحدّثني عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللّيْثِ. حَدّثَنِي أَبِي عَنْ جَدّي. قَالَ: حَدّثَنِي عُقَيْلُ بْنُ خَالِدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ سَنَةً.
وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ. بِمِثْلِ ذَلِكَ.
وحدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَبّادُ بْنُ مُوسَىَ. قَالاَ: حَدّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَىَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِالإِسْنَادَيْنِ جَمِيعاً. مِثْلَ حَدِيثِ عُقَيْلٍ.
*2* باب كم أقام النبي صلى الله عليه وسلم بمكة والمدينة
*حدّثنا أَبُو مَعْمَر، إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْهُذَلِيّ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو. قَالَ: قُلْتُ لِعُرْوَةَ: كَمْ كَانَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمَكّةَ؟ قَالَ عَشْراً. قَالَ: قُلْتُ: فَإِنّ ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: ثَلاَثَ عَشْرَةَ.
وحدّثنا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو. قَالَ: قُلْتُ لِعُرْوَةَ: كَمْ لَبِثَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمَكّةَ؟ قَالَ: عَشْراً. قُلْتُ: فَإِنّ ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: بِضْعَ عَشْرَةَ. قَالَ فَغَفّرَهُ وَقَالَ: إِنّمَا أَخَذَهُ مِنْ قَوْلِ الشّاعِرِ.
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ هَرُونُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ عَنْ رَوحِ بْنِ عُبَادَةَ. حَدّثَنَا زَكَرِيّاءُ بْنُ إِسْحَقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَكَثَ بِمَكّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ. وَتُوُفّيَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ.
وحدّثنا ابْن أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا بِشْرُ بْنُ السّرِيّ. حَدّثَنَا حَمّادٌ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضّبَعِيّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكّةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَىَ إِلَيْهِ. وَبِالْمَدِينَةِ عَشْراً. وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ سَنَةً.
وحدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ مُحَمّدِ بْنِ أَبَانَ الْجُعْفِيّ. حَدّثَنَا سَلاّمٌ، أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ. قَالَ: كُنْتُ جَالِساً مَعَ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ. فَذَكَرُوا سِنِي رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ بَعْضُ الْقَوْمِ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ أَكْبَرَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ عَبْدُ اللّهِ: قُبِضَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْن ثَلاَثٍ وَسِتّينَ. وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ. وَقُتِلَ عَمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ.
قَالَ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، يُقَالُ لَهُ عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ: حَدّثَنَا جَرِيرٌ قَالَ: كُنّا قُعُوداً عِنْدَ مُعَاوِيَةَ. فَذَكَرُوا سِنِي رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: قُبِضَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ سَنَةً. وَمَاتَ أَبُو بَكْرٍ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ. وَقُتِلَ عُمَرُ وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ.
وحدّثنا ابْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنّى) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدّثَنَا شُعْبَةُ. سَمِعْتُ أَبَا إِسْحَقَ يُحَدّث عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ الْبَجَلِيّ، عَنْ جَرِيرٍ أَنّهُ سَمِعَ مُعَاوِيَةَ يَخْطُب فَقَالَ: توفي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ ومات أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَأَنَا ابْنُ ثَلاَثٍ وَسِتّينَ.
وحدّثني ابْنُ مِنْهَالٍ الضّرِيرُ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ. حَدّثَنَا يُونُسُ بْنُ عُبَيْدٍ عَنْ عَمّارٍ، مَوْلَىَ بَنِي هَاشِمٍ. قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبّاسٍ: كَمْ أَتَى لرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ مَاتَ؟ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أَحْسِبُ مِثْلَكَ مِنْ قَوْمِهِ يَخْفَىَ عَلَيْهِ ذَاكَ. قَالَ قُلْتُ: إِنّي قَدْ سَأَلْتُ النّاسَ فَاخْتَلَفُوا عَلَيّ. فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَعْلَمَ قَوْلَكَ فِيهِ. قَالَ: أَتَحْسُبُ؟ قَالَ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: أَمْسِكْ أَرْبَعِينَ. بُعِثَ لَهَا خَمْسَ عَشَرَةَ بِمَكّةَ. يَأْمَنْ وَيَخَافْ. وَعَشْرَ مِنْ مُهَاجَرِهِ إِلَىَ الْمَدِينَةِ.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سَوّارٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ.
وحدّثني نَصْرُ بْنُ عَلِيَ. حَدّثَنَا بِشْرٌ (يَعْنِي ابْنَ مُفَضّلٍ). حَدّثَنَا خَالِدٌ الْحَذّاءُ. حَدّثَنَا عَمّارٌ. مَوْلَىَ بَنِي هَاشِمٍ. حَدّثَنَا ابْنُ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تُوُفّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسِتّينَ.
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا ابْنُ عُلَيّةَ عَنْ خَالِدٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ.
وحدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ. أَخْبَرَنَا رَوْحٌ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ عَمّارِ بْنِ أَبِي عَمّارٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِمَكّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً. يَسْمَعُ الصّوْتَ، وَيَرَىَ الضّوْءَ، سَبْعَ سِنِينَ، وَلاَ يَرَىَ شَيْئاً. وَثَمَانَ سِنِينَ يُوحَىَ إِلَيْهِ. وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ عَشْراً.
قوله: (سمع معاوية يخطب فقال: مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاث وستين وأبو بكر وعمر وأنا ابن ثلاث وستين) هكذا هو في جميع النسخ وهو صحيح وتقديره وأبو بكر وعمر كذلك ثم استأنف فقال: وأنا ابن ثلاث وستين أي وأنا متوقع موافقتهم وإني أموت في سنتي هذه.
قوله: (يسمع الصوت ويرى الضوء) قال القاضي: أي صوت الهاتف به من الملائكة، ويرى الضوء أي نور الملائكة ونور آيات الله تعالى حتى رأى الملك بعينه وشافهه بوحي الله تعالى
*2* باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم
*حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ إِسْحَقُ بْن إِبْرَاهِيمَ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ وَاللّفْظُ لِزُهَيْرٍ (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا) سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزّهْرِيّ. سَمِعَ مُحَمّدَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَنّا مُحَمّدٌ. وَأَنَا أَحْمَدُ. وَأَنَا الْمَاحِي الّذِي يُمْحَىَ بِيَ الْكُفْرُ. وَأَنَا الْحَاشِرُ الّذِي يُحْشَرُ النّاسُ عَلَىَ عَقِبِي. وَأَنَا الْعَاقِبُ". وَالْعَاقِبُ الّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيّ.
حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ لِي أَسْمَاءً. أَنَا مُحَمّدٌ. وَأَنَا أَحْمَدُ. وَأَنَا الْمَاحِي الّذِي يَمْحُو اللّهُ بِيَ الْكُفْرَ. وَأَنَا الْحَاشِرُ الّذِي يُحْشَرُ النّاسُ عَلَى قَدَمَيّ. وَأَنَا الْعَاقِبُ الّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ أَحَدٌ". وَقَدْ سَمّاهُ اللّهِ رَؤُوفاً رَحِيماً.
وحدّثني عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ شُعَيْبِ بْنِ اللّيْثِ قَالَ: حَدّثَنِي أَبِي عَنْ جَدّي. حَدّثَنِي عُقَيْلٌ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ. أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ. كُلّهُمْ عَنِ الزّهْرِيّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَفِي حَدِيثِ شُعَيْبٍ وَ مَعْمَرٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَفِي حَدِيثِ عُقَيْلٍ: قَالَ قُلْتُ لِلزّهْرِيّ: وَمَا الْعَاقِبُ؟ قَالَ: الّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيّ. وَفِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ وَعُقَيْلٍ: الْكَفَرَةَ. وَفِي حَدِيثه شُعَيْثِ: الْكُفْرَ.
وحدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ. أَخْبَرَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ، عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيّ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَمّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً. فَقَالَ: "أَنَا مُحَمّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفّي، وَالْحَاشِرُ، وَنَبِيّ التّوْبَةِ، وَنَبِيّ الرّحْمَةِ".
ذكر هنا هذه الأسماء وله صلى الله عليه وسلم أسماء أخر، ذكر أبو بكر بن العربي المالكي في كتابه الأحوذي في شرح الترمذي عن بعضهم أن لله تعالى ألف اسم وللنبي صلى الله عليه وسلم ألف اسم أيضاً ثم ذكر منها على التفصيل بضعاً وستين. قال أهل اللغة: يقال رجل محمد ومحمود إذا كثرت خصاله المحمودة. وقال ابن فارس وغيره: وبه سمي نبينا صلى الله عليه وسلم محمداً وأحمد أي ألهم الله تعالى أهله أن سموه به لما علم من جميل صفاته. قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنا الماحي الذي يمحى بي الكفر" قال العلماء: المراد محو الكفر من مكة والمدينة وسائر بلاد العرب وما زوى له صلى الله عليه وسلم من الأرض ووعد أن يبلغه ملك أمته، قالوا: ويحتمل أن المراد المحو العام بمعنى الظهور بالحجة والغلبة كما قال تعالى: {ليظهره على الدين كله} وجاء في حديث آخر تفسير الماحي بأنه الذي محيت به سيئات من اتبعه، فقد يكون المراد بمحو الكفر هذا ويكون كقوله تعالى: {قل للذين كفروا ان ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} والحديث الصحيح الإسلام يهدم ما كان قبله. قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على عقبي" وفي الرواية الثانية: "على قدمي" فأما الثانية فاتفقت النسخ على أنها على قدمي لكن ضبطوه بتخفيف الياء على الإفراد وتشديدها على التثنية. وأما الرواية الأولى فهي في معظم النسخ وفي بعضها قدمي كالثانية، قال العلماء: معناهما يحشرون على أثري وزمان نبوتي ورسالتي وليس بعدي نبي وقيل يتبعوني.
قوله: (والمقفي ونبي التوبة ونبي الرحمة) أما العاقب ففسره في الحديث بأنه ليس بعده نبي أي جاء عقبهم، قال ابن الأعرابي: العاقب والعقوب الذي يخلف في الخير من كان قبله ومنه عقب الرجل لولده. وأما المقفي فقال شمر هو بمعنى العاقب. وقال ابن الأعرابي: هو المتبع للأنبياء يقال قفوته أقفوه وقفيته أقفيه إذا اتبعته، وقافية كل شيء آخره. وأما نبي التوبة ونبي الرحمة ونبي المرحمة فمعناها متقارب ومقصودها أنه صلى الله عليه وسلم جاء بالتوبة وبالتراحم، قال الله تعالى: {رحماء بينهم} {وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} والله أعلم. وفي حديث آخر نبي الملاحم لأنه صلى الله عليه وسلم بعث بالقتال، قال العلماء: وإنما اقتصر على هذه الأسماء مع أن له صلى الله عليه وسلم أسماء غيرها كما سبق لأنها موجودة في الكتب المتقدمة وموجودة للأمم السالفة
*2* باب علمه صلى الله عليه وسلم بالله تعالى وشدة خشيته
*حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضّحَىَ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: صَنَعَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْراً فَتَرَخّصَ فِيهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ نَاساً مِنْ أَصْحَابِهِ. فَكَأَنّهُمْ كَرِهُوهُ وَتَنَزّهُوا عَنْهُ. فَبَلَغَهُ ذَلِكَ، فَقَامَ خَطِيباً فَقَالَ: "مَا بَالُ رِجَالٍ بَلَغَهُمْ عَنّي أَمْرٌ تَرَخّصْتُ فِيهِ. فَكَرِهُوهُ وَتَنَزّهُوا عَنْهُ. فَوَاللّهِ لأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللّهِ وَأَشَدّهُمْ لَهُ خَشْيَةً".
حدّثنا أَبُو سَعِيدٍ الأَشَجّ حَدّثَنَا حَفْصٌ (يَعْنِي ابْنَ غِيَاثٍ) ح وَحَدّثَنَاهُ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ عَلِيّ بْنُ خَشْرَمٍ قَالاَ: أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ. كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ. بِإِسْنَادِ جَرِيرٍ. نَحْوَ حَدِيثِهِ.
وحدّثنا أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَائِشَةَ. قَالَتْ: رَخّصَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرٍ. فَتَنَزّهَ عَنْهُ نَاسٌ مِنَ النّاسِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَغَضِبَ. حَتّىَ بَانَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ. ثُمّ قَالَ: "مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَرْغَبُونَ عَمّا رُخّصَ لِي فِيهِ. فَوَاللّهِ لأَنَا أَعْلَمُهُمْ بِاللّهِ وَأَشَدّهُمْ لَهُ خَشْيَةً".
قوله: (فغضب حتى بان الغضب في وجهه ثم قال: ما بال أقوام يرغبون عما رخص لي فيه فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية) فيه الحث على الاقتداء به صلى الله عليه وسلم والنهي عن التعمق في العبادة وذم التنزه عن المباح شكاً في إباحته، وفيه الغضب عند انتهاك حرمات الشرع وإن كان المنتهك متأولاً تأويلاً باطلاً. وفيه حسن المعاشرة بإرسال التعزير والإنكار في الجمع ولا يعين فاعله فيقال ما بال أقوام ونحوه. وفيه أن القرب إلى الله تعالى سبب لزيادة العلم به وشدة خشيته. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فوالله لأنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية" فمعناه أنهم يتوهمون أن سننهم عما فعلت أقرب لهم عند الله وإن فعل خلاف ذلك، وليس كما توهموا بل أنا أعلمهم بالله وأشدهم له خشية، وإنما يكون القرب إليه سبحانه وتعالى والخشية له على حسب ما أمر لا بمخيلات النفوس وتكلف أعمال لم يأمر بها والله أعلم
*2* باب وجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثٌ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ رُمْحٍ. أَخْبَرَنَا اللّيْثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ الزّبَيْرِ حَدّثَهُ أَنّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ خَاصَمَ الزّبَيْرَ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي شِرَاجِ الْحَرّةِ الّتِي يَسْقُونَ بِهَا النّخْلَ. فَقَالَ الأَنْصَارِيّ: سَرّحِ الْمَاءَ يَمُرّ. فَأَبَىَ عَلَيْهِمْ. فَاخْتَصَمُوا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لِلزّبَيْرِ: "اسْقِ. يَا زُبَيْرُ ثُمّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَىَ جَارِكَ" فَغَضِبَ الأَنْصَارِيّ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَنْ كَانَ ابْنَ عَمّتِكَ فَتَلَوّنَ وَجْهُ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمّ قَالَ: "يَا زُبَيْرُ اسْقِ. ثُمّ احْبِسِ الْمَاءَ حَتّىَ يَرْجِعَ إِلَىَ الْجِدْرِ". فَقَالَ الزّبَيْرُ: وَاللّهِ إِنّي لأَحْسِبُ هَذِهِ الاَيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: {فَلاَ وَرَبّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتّىَ يُحَكّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً} (4 النساء الاَية: ).
قوله: (شراج الحرة) بكسر الشين المعجمة وبالجيم هي مسايل الماء واحدها شرجة والحرة هي الأرض الملسة فيها حجارة سود. قوله: (سرح الماء) أي أرسله. قوله صلى الله عليه وسلم: "اسق يا زبير ثم ارسل الماء إلى جارك فغضب الأنصاري فقال يا رسول الله أن كان ابن عمتك فتلون وجه نبي الله صلى الله عليه وسلم ثم قال يا زبير اسق ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" أما قوله: (أن كان ابن عمتك) فهو بفتح الهمزة أي فعلت هذا لكونه ابن عمتك. وقوله: (تلون وجهه) أي تغير من الغضب لانتهاك حرمات النبوة وقبح كلام هذا الإنسان. وأما الجدر فبفتح الجيم وكسرها وبالدال المهملة وهو الجدار وجمع الجدار جدر ككتاب وكتب وجمع الجدر جدور كفلس وفلوس، ومعنى يرجع إلى الجدر أي يصير إليه، والمراد بالجدر أصل الحائط وقيل أصول الشجر والصحيح الأول، وقدره العلماء أن يرتفع الماء في الأرض كلها حتى يبتل كعب رجل الإنسان، فلصاحب الأرض الأولى التي تلي الماء أن يحبس الماء في الأرض إلى هذا الحد ثم يرسله إلى جاره الذي وراءه، وكان الزبير صاحب الأرض الأولى فأدل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال اسق ثم ارسل الماء إلى جارك أي اسق شيئاً يسيراً دون قدر حقك ثم أرسله إلى جارك إدلالاً على الزبير ولعلمه بأنه يرضى بذلك ويؤثر الإحسان إلى جاره، فلما قال الجار ما قال أمره أن يأخذ جميع حقه، وقد سبق شرح هذا الحديث واضحاً في بابه. قال العلماء: ولو صدر مثل هذا الكلام الذي تكلم به الأنصاري اليوم من إنسان من نسبته صلى الله عليه وسلم إلى هوى كان كفراً وجرت على قائله أحكام المرتدين فيجب قتله بشرطه، قالوا: وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان في أول الإسلام يتألف الناس ويدفع بالتي هي أحسن ويصبر على أذى المنافقين ومن في قلبه مرض ويقول: يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا. ويقول: لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه وقد قال الله تعالى: {ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين} قال القاضي: وحكى الداودي أن هذا الرجل الذي خاصم الزبير كان منافقاً. وقوله في الحديث أنه أنصاري لا يخالف هذا لأنه كان من قبيلتهم لا من الأنصار المسلمين. وأما قوله في آخر الحديث فقال الزبير والله إني لأحسب هذه الاَية نزلت فيه: {فلا وربك لا يؤمنون} الاَية فهكذا قال طائفة في سبب نزولها. وقيل نزلت في رجلين تحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم على أحدهما فقال: ارفعني إلى عمر بن الخطاب. وقيل في يهودي ومنافق اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرض المنافق بحكمه وطلب الحكم عند الكاهن، قال ابن جرير: يجوز أنها نزلت في الجميع والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم" هذا الحديث سبق شرحه واضحاً في كتاب الحج وهو من قواعد الإسلام
*2* باب توقيره صلى الله عليه وسلم، وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، أو لا يتعلق به تكليف وما لا يقع، ونحو ذلك
*حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحَيَى التّجِيبِيّ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَاب. أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ. قَالاَ: كَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُحَدّثُ أَنّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ. وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَافْعَلُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ. فَإِنّمَا أَهْلَكَ الّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلاَفُهُمْ عَلَىَ أَنْبِيَائِهِمْ".
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ أَحَمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ. حَدّثَنَا أَبُو سَلَمَةَ، وَهُوَ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ الْخُزَاعِيّ. أَخْبَرَنَا لَيْثٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْهَادِ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، مِثْلَهُ سَوَاءً.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي. كِلاَهُمَا عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ح وَحَدّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا الْمُغِيرَةُ (يَعْنِي الْحِزَامِيّ). ح وَحَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ. كِلاَهُمَا عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. ح وَحَدّثَنَاهُ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ زِيَادٍ. سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. كُلّهُمْ قَالَ: عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ". وَفِي حَدِيثِ هَمّامٍ "مَا تُرِكْتُمْ. فَإِنّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ" ثُمّ ذَكَرُوا نَحْوَ حَدِيثِ الزّهْرِيّ عَنِ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
حدّثنا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى. أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ أَعْظَمَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْماً، مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرّمْ عَلَىَ الْمُسْلِمِينَ، فَحُرّمَ عَلَيْهِمْ، مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ".
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ. قَالاَ: حَدّثَنَا سُفْيَان بْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزّهْرِيّ. ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبّادٍ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: (أَحْفَظُهُ كَمَا أَحْفَظُ بِسْمِ اللّهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ) الزّهْرِيّ: عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "أَعْظَمُ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْماً، مَنْ سَأَلَ عَنْ أَمْرٍ لَمْ يُحَرّمْ، فَحُرّمَ عَلَىَ النّاسِ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ".
وحدّثنيهِ حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. كِلاَهُمَا عَنِ الزّهْرِيّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَزَادَ فِي حَدِيثِ مَعْمَرٍ "رَجُلٌ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ وَنَقّرَ عَنْهُ". وقَالَ فِي حَديِثِ يُونُسَ: عَامِرِ بْنِ سَعْدٍ أَنّهُ سَمِعَ سَعْداً.
حدّثنا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلانَ وَ مُحَمّدُ بْنُ قُدَامَةَ السّلَمِيّ وَ يَحْيَى بْنُ مُحَمّدٍ اللّؤْلُؤِيّ. وَأَلْفَاظُهُمْ مُتَقَارِبَةٌ (قَالَ مَحْمُودٌ: حَدّثَنَا النّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ. وَقَالَ الاَخَرَانِ: أَخْبَرَنَا النّضْرُ). أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ. حَدّثَنَا مُوسَى بْنُ أَنَسٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: بَلَغَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَصْحَابِهِ شَيْءٌ. فَخَطَبَ فَقَالَ: "عُرِضَتْ عَلَيّ الْجَنّةُ وَالنّارُ. فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشّرّ. وَلَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً" قَالَ، فَمَا أَتَىَ عَلَىَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمٌ أَشَدّ مِنْهُ. قَالَ، غَطّوْا رُؤُوسَهُمْ وَلَهُمْ خَنِينٌ. قَالَ فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللّهِ رَبّا. وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً. وَبِمُحَمّدٍ نَبِيّا. قَالَ: فَقَامَ ذَاكَ الرّجُلُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ فَقَالَ: "أَبُوكَ فُلاَنٌ". فَنَزَلَتْ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} (5 المائدة الاَية: 1).
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ مَعْمَرِ بْنِ رِبْعِيَ الْقَيْسِيّ. حَدّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنِي مُوسَى بْنُ أَنَسٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ: "أَبُوكَ فُلاَنٌ" وَنَزَلَتْ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} تَمَامَ الاَيَةِ.
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حَرْمَلَةَ بْنِ عِمْرَانَ التّجِيبِيّ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ حِينَ زَاغَتِ الشّمْسُ. فَصَلّىَ لَهُمْ صَلاَةَ الظّهْرِ. فَلَمّا سَلّمَ قَامَ عَلَىَ الْمِنْبَرِ. فَذَكَرَ السّاعَةَ. وَذَكَرَ أَنّ قَبْلَهَا أُمُوراً عِظَاماً. ثُمّ قَالَ: "مَنْ أَحَبّ أَنْ يَسْأَلَنِي عَنْ شَيْءٍ فَلْيَسْأَلْنِي عَنْهُ. فَوَاللّهِ لاَ تَسْأَلُونَنِي عَنْ شَيْءٍ إِلاّ أَخْبَرْتُكُمْ بِهِ، مَا دُمْتُ فِي مَقَامِي هَذَا".
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: فَأَكْثَرَ النّاسُ الْبُكَاءَ حِينَ سَمِعُوا ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَأَكْثَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَقُولَ: "سَلُونِي" فَقَامَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ" فَلَمّا أَكْثَرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ يَقُولَ: "سَلُونِي" بَرَكَ عُمَرُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللّهِ رَبّا. وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً. وَبِمُحَمّدٍ رَسُولاً. قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ عُمَرُ ذَلِكَ. ثُمّ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَوْلَىَ. وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيّ الْجَنّةُ وَالنّارُ آنِفاً. فِي عُرْضِ هَذَا الْحَائِطِ. فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ فِي الْخَيْرِ وَالشّرّ".
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: قَالَتْ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُذَافَةَ لِعَبْدِ اللّهِ بْنِ حُذَافَةَ: مَا سَمِعْتُ بِابْنٍ قَطّ أَعَقّ مِنْكَ؟ أَأَمِنْتَ أَنْ تَكُونَ أُمّكَ قَدْ قَارَفَتْ بَعْضَ مَا تُقَارِفُ نِسَاءُ أَهْلِ الْجَاهِلِيّةِ، فَتَفْضَحَهَا عَلَىَ أَعْيُنِ النّاسِ؟ قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ حُذَافَةَ: وَاللّهِ لَوْ أَلْحَقَنِي بِعَبْدٍ أَسْوَدَ، لَلَحِقْتُهُ.
حدّثنا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ. أَخْبَرَنَا شُعْيْبٌ. كِلاَهُمَا عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ أَنْسٍ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم، بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَحَدِيثِ عُبَيْدِ اللّهِ، مَعَهُ. غَيْرَ أَنّ شُعَيْباً قَالَ عَنْ الزّهْرِيّ: قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ. قَالَ: حَدّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ أُمّ عَبْدِ اللّهِ بْنِ حُذَافَةَ قَالَتْ، بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ.
حدّثنا يُوسُفُ بْنُ حَمّادٍ الْمَعْنِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَىَ عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ النّاسَ سَأَلُوا نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَتّىَ أَحْفَوْهُ بِالْمَسْأَلَةِ. فَخَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ فَصَعِدَ الْمِنْبَرَ. فَقَالَ: "سَلُونِي. لاَ تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاّ بَيّنْتُهُ لَكُمْ" فَلَمّا سَمِعَ ذَلِكَ الْقَوْمُ أَرَمّوا وَرَهِبُوا أَنْ يَكُونَ بَيْنَ يَدَيْ أَمْرٍ حَضَرَ.
قَالَ أَنَسٌ: فَجَعَلْتُ أَلْتَفِتُ يَمِيناً وَشِمَالاً. فَإِذَا كُلّ رَجُلٍ لاَفّ رَأْسَهُ فِي ثَوْبِهِ يَبْكِي. فَأَنْشَأَ رَجُلٌ مِنَ الْمَسْجِدِ، كَانَ يُلاَحَىَ فَيُدْعَىَ لِغَيْرِ أَبِيهِ. فَقَالَ: يَا نَبِيّ اللّهِ مَنْ أَبِي؟ قَالَ "أَبُوكَ حُذَافَةُ". ثُمّ أَنْشَأَ عُمرُ بْنُ الْخَطّابِ رَضِي اللّهُ عَنْهُ فَقَالَ: رَضِينَا بِاللّهِ رَبّا. وَبِالإِسْلاَمِ دِيناً. وَبِمُحَمّدٍ رَسُولاً. عَائِذاً بِاللّهِ مِنْ سُوءِ الْفِتَنِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطّ فِي الْخَيْرِ وَالشّرّ. إِنّي صُوّرَتْ لِيَ الْجَنّةُ وَالنّارُ، فَرَأَيْتُهُمَا دُونَ هَذَا الْحَائِطِ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ. حَدّثَنَا خَالِدٌ (يَعْنِي ابْنَ الْحَارِثِ). ح وَحَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ أَبِي عَدِيَ. كِلاَهُمَا عَنْ هِشَامٍ. ح وَحَدّثَنَا عَاصِمُ بْنُ النّضْرِ التّيْمِيّ. حَدّثَنَا مُعْتَمِرٌ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي. قَالاَ جَمِيعاً: حَدّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنْسٍ، بِهَذِهِ الْقِصّةِ.
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ بَرّادٍ الأَشْعَرِيّ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ الْهَمْدَانِيّ قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيدٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَىَ قَالَ: سُئِلَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَشْيَاءَ كَرِهَهَا. فَلَمّا أُكْثِرَ عَلَيْهِ غَضِبَ. ثُمّ قَالَ لِلنّاسِ: "سَلُونِي عَمّ شِئْتُمْ" فَقَالَ رَجُلٌ: مَنْ أَبِي؟ قَالَ: "أَبُوكَ حُذَافَةُ" فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَنْ أَبِي؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "أَبُوكَ سَالِمٌ مَوْلَىَ شَيْبَةَ" فَلَمّا رَأَىَ عُمَرُ مَا فِي وَجْهِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْغَضَبِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّا نَتُوبُ إِلَىَ اللّهِ. وفِي رِوَايَةِ أَبِي كُرَيْبٍ: قَالَ: مَنْ أَبِي؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: "أَبُوكَ سَالِمٌ، مَوْلَىَ شَيْبَةَ".
مقصود أحاديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم نهاهم عن إكثار السؤال والابتداء بالسؤال عما لا يقع، وكره ذلك لمعان منها أنه ربما كان سبباً لتحريم شيء على المسلمين فيلحقهم به المشقة وقد بين هذا بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الأول: "أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين" فحرم عليهم من أجل مسألته. ومنها أنه ربما كان في الجواب ما يكرهه السائل ويسوؤه ولهذا أنزل الله تعالى في ذلك قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبدلكم تسؤكم} كما صرح به في الحديث في سبب نزولها. ومنها أنهم ربما أجفوه صلى الله عليه وسلم بالمسألة والحفوة المشقة والأذى فيكون ذلك سبباً لهلاكهم، وقد صرح بهذا في حديث أنس المذكور في الكتاب في قوله: "سألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة" إلى آخره، وقد قال الله تعالى: {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والاَخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً}.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم على المسلمين فحرم عليهم من أجل مسألته" وفي رواية: "من سأل عن شيء ونقر عنه" أي بالغ في البحث عنه والاستقصاء. قال القاضي عياض: المراد بالجرم هنا الحرج على المسلمين لا أنه الجرم الذي هو الإثم المعاقب عليه لأن السؤال كان مباحاً ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "سلوني" هذا كلام القاضي، وهذا الذي قاله القاضي ضعيف بل باطل، والصواب الذي قاله الخطابي وصاحب التحرير وجماهير العلماء في شرح هذا الحديث أن المراد بالجرم هنا الإثم والذنب، قالوا: ويقال منه جرم بالفتح واجترم وتجرم إذا ثم، قال الخطابي وغيره: هذا الحديث فيمن سأل تكلفاً أو تعنتاً فيما لا حاجة به إليه، فأما من سأل لضرورة بأن وقعت له مسألة فسأل عنها فلا إثم عليه ولا عتب لقوله تعالى: {فاسألوا أهل الذكر} قال صاحب التحرير وغيره: فيه دليل على أن من عمل ما فيه إضرار بغيره كان آثماً.
قوله صلى الله عليه وسلم: "عرضت علي الجنة والنار فلم أر كاليوم في الخير والشر ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" فيه أن الجنة والنار مخلوقتان وقد سبق شرح عرضهما. ومعنى الحديث لم أر خيراً أكثر مما رأيته اليوم في الجنة ولا شراً أكثر مما رأيته اليوم في النار، ولو رأيتم ما رأيت وعلمتم ما علمت مما رأيته اليوم وقبل اليوم لأشفقتم إشفاقاً بليغاً ولقل ضحككم وكثر بكاؤكم. وفيه دليل على أنه لا كراهة في استعمال لفظة لو في مثل هذا والله أعلم. قوله: "غطوا رؤوسهم ولهم خنين" هو بالخاء المعجمة هكذا هو في معظم النسخ ولمعظم الرواة ولبعضهم بالحاء المهملة، وممن ذكر الوجهين القاضي وصاحب التحرير وآخرون قالوا: ومعناه بالمعجمة صوت البكاء وهو نوع من البكاء دون الانتحاب، قالوا: وأصل الخنين خروج الصوت من الأنف كالحنين بالمهملة من الفم. وقال الخليل: هو صوت فيه غنة. وقال الأصمعي: إذا تردد بكاؤه فصار في كونه غنة فهو خنين. وقال أبو زيد: الخنين مثل الحنين وهو شديد البكاء. قوله: (فلما أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول سلوني برك عمر فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك) قال العلماء: هذا القول منه صلى الله عليه وسلم محمول على أنه أوحي إليه وإلا فلا يعلم كل ما سئل عنه من المغيبات إلا بإعلام الله تعالى. قال القاضي: وظاهر الحديث أن قوله صلى الله عليه وسلم سلوني إنما كان غضباً كما قال في الرواية الأخرى: (سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أشياء كرهها فلما أكثر عليه غضب ثم قال للناس سلوني) وكان اختياره صلى الله عليه وسلم ترك تلك المسائل لكن وافقهم في جوابها لأنه لا يمكن رد السؤال، ولما رآه من حرصهم عليها والله أعلم. وأما بروك عمر رضي الله عنه وقوله فإنما فعله أدباً وإكراماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشفقة على المسلمين لئلا يؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم فيهلكوا، ومعنى كلامه رضينا بما عندنا من كتاب الله تعالى وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم واكتفينا به عن السؤال ففيه أبلغ كفاية قولهم: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى والذي نفس محمد بيده لقد عرضت علي الجنة والنار آنفاً في عرض هذا الحائط) أما لفظة أولى فهي تهديد ووعيد، وقيل كلمة تلهف، فعلى هذا يستعملها من نجا من أمر عظيم، والصحيح المشهور أنها للتهديد ومعناها قرب منكم ما تكرهونه. ومنه قوله تعالى: {أولى لك فأولى" أي قاربك ما تكره فاحذره مأخوذ من الولي وهو القرب. وأما آنفاً فمعناه قريباً الساعة والمشهور فيه المد ويقال بالقصر وقرئ بهما في السبع الأكثرون بالمد، وعرض الحائط بضم العين جانبه. قوله: (أن أم عبد الله بن حذافة قالت له أأمنت أن تكون أمك قد قارفت بعض ما يقارف نساء الجاهلية فتفضحها على أعين الناس فقال ابنها والله لو ألحقني بعبد أسود للحقته) أما قولها قارفت فمعناه عملت سوءاً والمراد الزنا والجاهلية هم من قبل النبوة سموا به لكثرة جهالاتهم، وكان سبب سؤاله أن بعض الناس كان يطعن في نسبه على عادة الجاهلية من الطعن في الأنساب، وقد بين هذا في الحديث الاَخر بقوله: (كان يلاحى فيدعى لغير أبيه) والملاحاة المخاصمة والسباب. وقولها: فتفضحها معناه لو كنت من زنا فنفاك عن أبيك حذافة فضحتني. وأما قوله: (لو ألحقني بعبد للحقته) فقد يقال هذا لا يتصور لأن الزنا لا يثبت به النسب، ويجاب عنه بأنه يحتمل وجهين: أحدهما أن ابن حذافة ما كان بلغه هذا الحكم وكان يظن أن ولد الزنا يلحق الزاني وقد خفي هذا على أكبر منه وهو سعد بن أبي وقاص حين خاصم في ابن وليدة زمعة فظن أنه يلحق أخاه بالزنا. والثاني أنه يتصور الإلحاق بعد وطئها بشبهة فيثبت النسب منه والله أعلم. قوله: (حدثنا يوسف بن حماد المعني) هو بكسر النون وتشديد الياء، قال السمعاني: منسوب إلى معن بن زائدة وهذا الإسناد كله بصريون. قوله: (أحفوه بالمسألة) أي أكثروا في الإلحاح والمبالغة فيه، يقال أحفى وألحف وألح بمعنى. قوله: (فلما سمع ذلك القوم أرموا) هو بفتح الراء وتشديد الميم المضمومة أي سكتوا، وأصله من المرمة وهي الشفة أي ضموا شفاههم بعضها على بعض فلم يتكلموا، ومنه رمت الشاة الحشيش ضمته بشفتيها. قوله: (أنشأ رجل ثم أنشأ عمر) قال أهل اللغة معناه ابتدأ ومنه أنشأ الله الخلق أي ابتدأهم
*2* باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً، دون ما ذكره صلى الله عليه وسلم من معايش الدنيا، على سبيل الرأي
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ الثّقْفِيّ وَ أَبُو كَامِلٍ الْجَحْدَرِيّ. وَتَقَارَبَا فِي اللّفْظِ. وَهَذَا حَدِيثُ قُتَيْبَةَ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ مُوسَىَ بْنِ طَلْحَةَ، عَنْ أَبِيهِ. قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِقَوْمٍ عَلَىَ رُؤُوسِ النّخْلِ. فَقَالَ: "مَا يَصْنَعُ هَؤُلاَءِ؟" فَقَالُوا: يُلَقّحُونَهُ. يَجْعَلُونَ الذّكَرَ فِي الأُنْثَىَ فَتَلْقَحُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَظُنّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئاً" قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ. فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِذَلِكَ فَقَالَ: "إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ. فَإِنّي إِنّمَا ظَنَنْتُ ظَنّا. فَلاَ تُؤَاخِذُونِي بِالظّنّ. وَلَكِنْ إِذَا حَدّثْتُكُمْ عَنِ اللّهِ شَيْئاً، فَخُذُوا بِهِ. فَإِنّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَىَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ".
حدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ الرّومِيّ الْيَمَامِيّ وَ عَبّاسُ بْنُ عَبْدِ الْعَظِيمِ الْعَنْبَرِيّ وَ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ الْمَعْقِرِيّ. قَالُوا: حَدّثَنَا النّضْرُ بْنُ مُحَمَدٍ. حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ (وَهُوَ ابْنُ عَمّارٍ). حَدّثَنَا أَبُو النّجَاشِيّ. حَدّثَنِي رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ: قَدِمَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَدِينَةَ. وَهُمْ يَأْبُرُونَ النّخْلَ. يَقُولُونَ يُلَقّحُونَ النّخْلَ. فَقَالَ: "مَا تَصْنَعُونَ؟" قَالُوا: كُنّا نَصْنَعُهُ. قَالَ: "لَعَلّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خَيْراً" فَتَرَكُوهُ. فَنَفَضَتْ أَوْ فَنَقَصَتْ. قَالَ: فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ: "إِنّمَا أَنَا بَشَرٌ، إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ دِينِكُمْ فَخُذُوا بِهِ. وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ رَأْيٍ، فَإِنّمَا أَنَا بَشَرٌ".
قَالَ عِكْرِمَةُ: أَوْ نَحْوَ هَذَا.
قَالَ الْمَعْقِرِيّ: فَنَفَضَتْ. وَلَمْ يَشُكّ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ عَمْرٌو النّاقِدُ. كِلاَهُمَا عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ عَامِرٍ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: حَدّثَنَا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ. وَعَنْ ثَابِتٍ. عَنْ أَنَسٍ، أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم مَرّ بِقَوْمٍ يُلَقّحُونَ. فَقَالَ: "لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ" قَالَ: فَخَرَجَ شِيصاً. فَمَرّ بِهِمْ فَقَالَ: "مَا لِنَخْلِكُمْ؟" قَالُوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا. قَالَ "أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ".
فيه حديث أبار النخل وأنه صلى الله عليه وسلم قال: "ما أظن يغني ذلك شيئاً فخرج شيصاً فقال: إن كان ينفعهم ذلك فليصنعوه فإني إنما ظننت ظناً فلا تؤاخذوني بالظن ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً فخذوا به" وفي رواية: "إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر" وفي رواية: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" قال العلماء: قوله صلى الله عليه وسلم من رأيي أي في أمر الدنيا ومعايشها لا على التشريع. فأما ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعاً يجب العمل به، وليس أبار النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله، مع أن لفظة الرأي إنما أتى بها عكرمة على المعنى لقوله في آخر الحديث قال عكرمة أو نحو هذا فلم يخبر بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم محققاً، قال العلماء: ولم يكن هذا القول خبراً وإنما كان ظناً كما بينه في هذه الروايات، قالوا: ورأيه صلى الله عليه وسلم في أمور المعايش وظنه كغيره فلا يمتنع وقوع مثل هذا ولا نقص في ذلك وسببه تعلق هممهم بالاَخرة ومعارفها والله أعلم. قوله: (يلقحونه) هو بمعنى يأبرون في الرواية الأخرى، ومعناه إدخال شيء طلع الذكر في طلع الأنثى فتعلق بإذن الله، ويأبرون بكسر الباء وضمها يقال منه أبر يأبر ويأبر كبذر يبذر ويبذر، ويقال أبر يؤبر بالتشديد تأبيراً.
قوله: (حدثني أحمد بن جعفر المعقري) هو بفتح الميم وإسكان العين المهملة وكسر القاف منسوب إلى معقر وهي ناحية من اليمن. قوله: (فنفضت أو فنقصت) هو بفتح الحروف كلها والأول بالفاء والضاد المعجمة، والثاني بالقاف والمهملة. وأما قوله في آخر الحديث: (قال المعقري فنفضت) بالفاء والمعجمة ومعناه أسقطت ثمرها، قال أهل اللغة: ويقال لذلك المتساقط النفض بفتح النون والفاء بمعنى المنفوض كالخبط بمعنى المخبوط وانفض القوم فني زادهم.
قوله: (فخرج شيصاً) هو بكسر الشين المعجمة وإسكان الياء المثناة تحت وبصاد مهملة وهو البسر الرديء الذي إذا يبس صار حشفاً، وقيل أردأ البسر، وقيل تمر رديء وهو متقارب
*2* باب فضل النظر إليه صلى الله عليه وسلم، وتمنيه
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ. قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالّذِي نَفْسُ مُحَمّدٍ بِيَدِهِ لَيَأْتِيَنّ عَلَىَ أَحَدِكُمْ يَوْمٌ وَلاَ يَرَانِي. ثُمّ لأَنْ يَرَانِي أَحَبّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ مَعَهُمْ".
قَالَ أَبُو إِسْحَقَ: الْمَعْنَىَ فِيهِ عِنْدِي، لأَنْ يَرَانِي مَعَهُمْ أَحَبّ إِلَيْهِ منْ أَهْلِهِ، وَمَالِهِ. وَهُوَ عِنْدِي مُقَدّمٌ وَمُؤَخّرٌ.
قوله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفس محمد بيده ليأتين على أحدكم يوم ولا يراني ثم لأن يراني أحب إليه من أهله وماله معهم. قال أبو إسحاق: المعنى فيه عندي لأن يراني معهم أحب إليه من أهله وماله وهو عندي مقدم ومؤخر" هذا الذي قاله أبو إسحاق هو الذي قاله القاضي عياض واقتصر عليه قال: تقديره لأن يراني معهم أحب إليه من أهله وماله ثم لا يراني. وكذا جاء في مسند سعيد بن منصور: (ليأتين على أحدكم يوم لأن يراني أحب إليه من أن يكون له مثل أهله وماله ثم لا يراني) أي رؤيته إياي أفضل عنده وأحظى من أهله وماله، هذا كلام القاضي. والظاهر أن قوله في تقديم لأن يراني وتأخير من أهله لا يراني كما قال، وأما لفظة معهم فعلى ظاهرها وفي موضعها. وتقدير الكلام يأتي على أحدكم يوم لأن يراني فيه لحظة ثم لا يراني بعدها أحب إليه من أهله وماله جميعاً. ومقصود الحديث حثهم على ملازمة مجلسه الكريم ومشاهدته حضراً وسفراً للتأدب بآدابه وتعلم الشرائع وحفظها ليبلغوها، وإعلامهم أنهم سيندمون على ما فرطوا فيه من الزيادة من مشاهدته وملازمته، ومنه قول عمر رضي الله عنه: ألهاني عنه الصفق بالأسواق والله أعلم.

*2* باب فضائل عيسى عليه السلام
*حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَنّ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ أَخْبَرَهُ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "أَنَا أَوْلَىَ النّاسِ بِابْنِ مَرْيَمَ. الأَنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلاّتٍ. وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيّ".
وحدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو دَاوُدَ عُمَرُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنْ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوْلَىَ النّاسِ بِعِيسىَ. الأَنْبِيَاءُ أَبْنَاءُ عَلاّتٍ. وَلَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَ عِيسَىَ نَبِيّ".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ. قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَا أَوْلَىَ النّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ. فِي الأُولَىَ وَالاَخِرَةِ" قَالُوا: كَيْفَ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلاّتٍ. وَأُمّهَاتُهُمْ شَتّىَ. وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ. فَلَيْسَ بَيْنَنَا نَبِيّ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَىَ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزّهْرِيّ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاّ نَخَسَهُ الشّيْطَانُ. فَيَسْتَهِلُ صَارِخاً مِنْ نَخْسَةِ الشّيْطَانِ. إِلاّ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمّهُ". ثُمّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَأُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرّيّتَهَا مِنَ الشّيْطَانِ الرّجِيمِ} (3 آل عمران الاَية: ).
وحدّثنيه مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ.ح وَحَدّثَنِي عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. حَدّثَنَا أَبُو اليَمَانِ. أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ. جَمِيعاً عَنِ الزّهْرِيّ، بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَقَالاَ: "يَمَسّهُ حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلّ صَارِخاً مِنْ مَسّةِ الشّيْطَانِ إِيّاهُ" وَفِي حَدِيثِ شُعَيْبٍ "مِنْ مَسّ الشّيْطَانِ".
حدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. حَدّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنّ أَبَا يُونُسَ سُلَيْماً، مَوْلَىَ أَبِي هُرَيْرَةَ، حَدّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "كُلّ بَنِي آدَمَ يَمَسّهُ الشّيْطَانُ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمّهُ، إِلاّ مَرْيَمَ وَابْنَهَا".
حدّثنا شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ. أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ سُهَيْلٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "صِيَاحُ الْمَوْلُودِ حِينَ يَقَعُ، نَزْغَةٌ مِنَ الشّيْطَانِ".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ. قَالَ: هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "رَأَىَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلاً يَسْرِقُ. فَقَالَ لَهُ عِيَسىَ: سَرَقْتَ؟ قَالَ: كَلاّ. وَالّذِي لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ فَقَالَ عِيسَىَ: ءَامَنْتُ بِاللّهِ. وَكَذّبْتُ نَفْسِي".
قوله صلى الله عليه وسلم: "أنا أولى الناس بابن مريم الأنبياء أولاد علات وليس بيني وبينه نبي" وفي رواية: "أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الأولى والاَخرة، قالوا: كيف يا رسول الله؟ قال: الأنبياء اخوة من علات وأمهاتهم شتى ودينهم واحد وليس بيننا نبي" قال العلماء: أولاد العلات بفتح العين المهملة وتشديد اللام هم الاخوة لأب من أمهات شتى. وأما الاخوة من الأبوين فيقال لهم أولاد الأعيان. قال جمهور العلماء: معنى الحديث أصل إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة فإنهم متفقون في أصول التوحيد. وأما فروع الشرائع فوقع فيها الاختلاف. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ودينهم واحد" فالمراد به أصول التوحيد وأصل طاعة الله تعالى وإن اختلفت صفتها وأصول التوحيد والطاعة جميعاً. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وأنا أولى الناس بعيسى" فمعناه أخص به لما ذكره.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه" هذه فضيلة ظاهرة وظاهر الحديث اختصاصها بعيسى وأمه. واختار القاضي عياض أن جميع الأنبياء يتشاركون فيها.
قوله صلى الله عليه وسلم: "صياح المولود حين يقع نزغة من الشيطان" أي حين يسقط من بطن أمه، ومعنى نزغة نخسة وطعنة ومنه قولهم: نزغه بكلمة سوء أي رماه بها.
قوله صلى الله عليه وسلم: "رأى عيسى رجلاً يسرق فقال له عيسى سرقت قال كلا والذي لا إله إلا هو فقال عيسى آمنت بالله وكذبت نفسي" قال القاضي: ظاهر الكلام صدقت من حلف بالله تعالى وكذبت ما ظهر لي من ظاهر سرقته، فلعله أخذ ماله فيه حق أو بإذن صاحبه أو لم يقصد الغصب والاستيلاء، أو ظهر له من مد يده أنه أخذ شيئاً فلما حلف له أسقط ظنه ورجع عنه
*2* باب من فضائل إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ وَ ابْنُ فُضَيْلٍ عَنِ الْمُخْتَارِ. ح وَحَدّثَنِي عَلِيّ بْنُ حُجْرٍ السّعْدِيّ (وَاللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنَا عَلِيّ بْنُ مُسْهِرٍ. أَخْبَرَنَا الْمُخْتَارُ بْنُ فُلْفُلٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيّةِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلاَمُ".
وحدّثناه أَبُو كُرَيْبٍ. حَدّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ. قَالَ: سَمِعْتُ مُخْتَارَ بْنَ فُلْفُلٍ، مَوْلَىَ عَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَساً يَقُولُ: قَالَ رَجُلٌ. يَا رَسُولَ اللّهِ بِمِثْلهِ.
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّحْمَنِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الْمُخْتَارِ. قَالَ: سَمِعْتُ أَنَساً عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. بِمِثْلِهِ.
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا الْمُغِيرَةُ (يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِزَامِيّ) عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ، النّبِيّ عَلَيْهِ السّلاَمُ، وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً، بِالْقَدُومِ".
وحدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "نَحْنُ أَحَقّ بِالشّكّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ. إِذْ قَالَ: رَبّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىَ. قَالَ: أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ: بَلَىَ وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي. وَيَرْحَمُ اللّهُ لُوطاً. لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَىَ رُكْنٍ شَدِيدٍ. وَلَوْ لَبِثْتُ فِي السّجْنِ طُولَ لَبْثِ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدّاعِيَ".
وحدّثناه إِنْ شَاءَ اللّهُ، عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ أَسْمَاءَ. حَدّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ، عَنِ الزّهْرِيّ أَنّ سَعِيدَ بْنَ المُسَيّبِ وَ أَبَا عُبَيْدٍ أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. بِمَعْنِىَ حَدِيثِ يُونُسَ عَنِ الزّهْرِيّ.
وحدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا شَبَابَةُ. حَدّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَغْفِرُ اللّهُ لِلُوطٍ إِنّهُ أَوَىَ إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ".
وحدّثني أَبُو الطّاهِرِ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ أَيّوبَ السّخْتِيانِيّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَمْ يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ النّبِيّ، عَلَيْهِ السّلاَمُ، قَطّ إِلاّ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ. ثِنْتَيْنِ فِي ذَاتِ اللّهِ. قوله: إِنّي سَقِيمٌ. وَقوله: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا. وَوَاحِدَةً فِي شَأْنِ سَارَةَ. فَإِنّهُ قَدِمَ أَرْضَ جَبّارٍ وَمَعَهُ سَارَةُ. وَكَانَتْ أَحْسَنَ النّاسِ. فَقَالَ لَهَا: إِنّ هَذَا الْجَبّارَ، إِنْ يَعْلَمْ أَنّكِ امْرَأَتِي، يَغْلِبْنِي عَلَيْكِ. فَإِنْ سَأَلَكِ فَأَخْبِرِيهِ أَنّكِ أُخْتِي. فَإِنّكِ أُخْتِي فِي الإِسْلاَمِ. فَإِنّي لاَ أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ مُسْلِماً غَيْرِي وَغَيْرَكِ. فَلَمّا دَخَلَ أَرْضَهُ رَآهَا بَعْضُ أَهْلِ الْجَبّارِ. أَتَاهُ فَقَالَ لَهُ: لَقَدْ قَدِمَ أَرْضَكَ امْرَأَةٌ لاَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَكُونَ إِلاّ لَكَ. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَأُتِيَ بِهَا. فَقَامَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلاَمُ إِلَىَ الصّلاَةِ. فَلَمّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ لَمْ يَتَمَالَكْ أَنْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَيْهَا. فَقُبِضَتْ يَدُهُ قَبْضَةً شَدِيدَةً. فَقَالَ لَهَا: ادْعِي اللّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي وَلاَ أَضُرّكِ. فَفَعَلَتْ. فَعَادَ. فَقُبِضَتْ أَشَدّ مِنَ الْقَبْضَةِ الأُولَىَ. فَقَالَ لَهَا مِثْلَ ذَلِكَ. فَفَعَلَتْ. فَعَادَ. فَقُبِضَتْ أَشَدّ مِنَ الْقَبْضَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ. فَقَالَ: ادْعِي اللّهَ أَنْ يُطْلِقَ يَدِي. فَلَكِ اللّهَ أَنْ لاَ أَضُرّكِ. فَفَعَلَتْ. وَأُطْلِقَتْ يَدُهُ. وَدَعَا الّذِي جَاءَ بِهَا فَقَالَ لَهُ: إِنّكَ إِنّمَا أَتَيْتَنِي بِشَيْطَانٍ. وَلَمْ تَأْتِنِي بِإِنْسَانٍ. فَأَخْرِجْهَا مِنْ أَرْضِي، وَأَعْطِهَا هَاجَرَ.
قَالَ: فَأَقْبَلَتْ تَمْشِي، فَلَمّا رَآهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلاَمُ انْصَرَفَ. فَقَالَ لَهَا: مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: خَيْراً. كَفّ اللّهُ يَدَ الْفَاجِرِ. وَأَخْدَمَ خَادِماً.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَتِلْكَ أُمّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السّمَاءِ.
قوله: "جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا خير البرية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ذاك إبراهيم عليه الصلاة والسلام" قال العلماء: إنما قال صلى الله عليه وسلم هذا تواضعاً واحتراماً لإبراهيم صلى الله عليه وسلم لخلته وأبوته وإلا فنبينا صلى الله عليه وسلم أفضل كما قال صلى الله عليه وسلم: "أنا سيد ولد آدم" ولم يقصد به الافتخار ولا التطاول على من تقدمه بل قاله بياناً لما أمر ببيانه وتبليغه ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ولا فخر" لينفي ما قد يتطرق إلى بعض الأفهام السخيفة. وقيل: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قال إبراهيم خير البرية قبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم. فإن قيل: التأويل المذكور ضعيف لأن هذا خبر فلا يدخله خلف ولا نسخ. فالجواب أنه لا يمتنع أنه أراد أفضل البرية الموجودين في عصره وأطلق العبارة الموهمة للعموم لأنه أبلغ في التواضع، وقد جزم صاحب التحرير بمعنى هذا فقال: المراد أفضل برية عصره. وأجاب القاضي عن التأويل الثاني بأنه وإن كان خبراً فهو مما يدخله النسخ من الأخبار، لأن الفضائل يمنحها الله تعالى لمن يشاء فأخبر بفضيلة إبراهيم إلى أن علم تفضيل نفسه فأخبر به، ويتضمن هذا جواز التفاضل بين الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، ويجاب عن حديث النهي عنه بالأجوبة السابقة في أول كتاب الفضائل.
قوله صلى الله عليه وسلم: "اختتن إبراهيم النبي وهو ابن ثمانين سنة بالقدوم" رواه مسلم متفقون على تخفيف القدوم، ووقع في روايات البخاري الخلاف في تشديد وتخفيفه، قالوا: وآلة النجار يقال لها قدوم بالتخفيف لا غير. وأما القدوم مكان بالشام ففيه التخفيف، فمن رواه بالتشديد أراد القرية، ومن رواه بالتخفيف يحتمل القرية والاَلة والأكثرون على التخفيف وعلى إرادة الاَلة، وهذا الذي وقع هنا وهو ابن ثمانين سنة هو الصحيح، ووقع في الموطأ وهو ابن مائة وعشرين سنة موقوفاً على أبي هريرة وهو متأول أو مردود، وسبق بيان حكم الختان في أوائل كتاب الطهارة في خصال الفطرة. قوله صلى الله عليه وسلم: "نحن أحق بالشك من إبراهيم إلى آخره" هذا الحديث سبق شرحه واضحاً في كتاب الإيمان.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات: ثنتين في ذات الله تعالى قوله إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا، وواحدة في شأن سارة وهي قوله: إن سألك فأخبريه أنك أختي فإنك أختي في الإسلام" قال المازري: أما الكذب فيما طريقه البلاغ عن الله تعالى فالأنبياء معصومون منه سواء كثيره وقليله، وأما ما لا يتعلق بالبلاغ ويعد من الصفات كالكذبة الواحدة في حقير من أمور الدنيا ففي إمكان وقوعه منهم وعصمتهم منه القولان المشهوران للسلف والخلف، قال القاضي عياض: الصحيح أن الكذب فيما يتعلق بالبلاغ لا يتصور وقوعه منهم سواء جوزنا الصغائر منهم وعصمتهم منه أم لا، وسواء قل الكذب أم كثر، لأن منصب النبوة يرتفع عنه وتجويزه يرفع الوثوق بأقوالهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "ثنتين في ذات الله تعالى وواحدة في شأن سارة" فمعناه أن الكذبات المذكورة إنما هي بالنسبة إلى فهم المخاطب والسامع، وأما في نفس الأمر فليست كذباً مذموماً لوجهين: أحدهما أنه ورى بها فقال في سارة أختي في الإسلام وهو صحيح في باطن الأمر، وسنذكر إن شاء الله تعالى تأويل اللفظين الاَخرين والوجه الثاني أنه لو كان كذباً لا تورية فيه لكان جائزاً في دفع الظالمين، وقد اتفق الفقهاء على أنه لو جاء ظالم يطلب إنساناً مختفياً ليقتله أو يطلب وديعة لإنسان ليأخذها غصباً وسأل عن ذلك وجب على من علم ذلك إخفاؤه وإنكار العلم به، وهذا كذب جائز بل واجب لكونه في دفع الظالم، فنبه النبي صلى الله عليه وسلم على أن هذه الكذبات ليست داخلة في مطلق الكذب المذموم، قال المازري: وقد تأول بعضهم هذه الكلمات وأخرجها عن كونها كذباً، قال: ولا معنى للامتناع من إطلاق لفظ أطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: أما إطلاق لفظ الكذب عليها فلا يمتنع لورود الحديث به. وأما تأويلها فصحيح لا مانع منه. قال العلماء: والواحدة التي في شأن سارة هي أيضاً في ذات الله تعالى لأنها سبب دفع كافر ظالم عن مواقعة فاحشة عظيمة، وقد جاء ذلك مفسراً في غير مسلم فقال ما فيها كذبة إلا بما حل بها عن الإسلام أي يجادل ويدافع، قالوا: وإنما خص الثنتين بأنهما في ذات الله تعالى لكون الثالثة تضمنت نفعاً له وحظاً مع كونها في ذات الله تعالى، وذكروا في قوله إني سقيم أي سأسقم لأن الإنسان عرضة للأسقام، وأراد بذلك الاعتذار عن الخروج معهم إلى عيدهم وشهود باطلهم وكفرهم، وقيل سقيم بما قدر علي من الموت، وقيل كانت تأخذه الحمى في ذلك الوقت. وأما قوله: بل فعله كبيرهم فقال ابن قتيبة وطائفة: جعل النطق شرطاً لفعل كبيرهم أي فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون. وقال الكسائي: يوقف عند قوله بل فعله أي فعله فاعله فأضمر ثم يبتدئ فيقول كبيرهم هذا فاسألوهم عن ذلك الفاعل، وذهب الأكثرون إلى أنها على ظاهرها وجوابها ما سبق والله أعلم. قوله: (فلك الله) أي شاهداً وضامناً أن لا أضرك. قوله: (مهيم) بفتح الميم والياء وإسكان الهاء بينهما أي ما شأنك وما خبرك، ووقع في البخاري لأكثر الرواة مهيماً بالألف والأول أفصح وأشهر. قولها: (وأخدم خادماً) أي وهبني خادماً وهي هاجر، ويقال آجر بمد الألف والخادم يقع على الذكر والأنثى. قوله: (قال أبو هريرة فتلك أمكم يا بني ماء السماء) قال كثيرون: المراد ببني ماء السماء العرب كلهم لخلوص نسبهم وصفائه، وقيل لأن أكثرهم أصحاب مواش وعيشهم من المرعى والخصب وما ينبت بماء السماء. وقال القاضي: الأظهر عندي أن المراد بذلك الأنصار خاصة ونسبتهم إلى جدهم عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة بن مازن بن الأدد وكان يعرف بماء السماء وهو المشهور بذلك، والأنصار كلهم من ولد حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر المذكور والله أعلم. وفي هذا الحديث معجزة ظاهرة لإبراهيم صلى الله عليه وسلم
*2* باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم
*حدثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ. قَالَ هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً. يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَىَ سَوْأَةِ بَعْضٍ. وَكَانَ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ. فَقَالُوا: وَاللّهِ مَا يَمْنَعُ مُوسَىَ أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلاّ أَنّهُ آدَرُ. قَالَ: فَذَهَبَ مَرّةً يَغْتَسِلُ. فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَىَ حَجَرٍ. فَفَرّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ. قَالَ: فَجَمَحَ مُوسَىَ بِأَثَرِهِ يَقُولُ: ثَوْبِي. حَجَرُ ثَوْبِي. حَجَرُ حَتّىَ نَظَرَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَىَ سَوْأَةِ مُوسَىَ. فَقَالُوا: وَاللّهِ مَا بِمُوسَىَ مِنْ بَأْسٍ.
فَقَامَ الْحَجَرُ بَعْدُ، حَتّىَ نُظِرَ إِلَيْهِ. قَالَ: فَأَخَذَ ثَوْبَهُ فَطَفِقَ بِالْحَجَرِ ضَرْباً".
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللّهِ إِنّ بِالْحَجَرِ نَدَباً سِتّةٌ أَوْ سَبْعَةٌ. ضَرْبُ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ بِالْحَجَرِ.
وحدّثنا يَحْيَىَ بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ. حَدّثَنَا خَالِدٌ الْحَذّاءُ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ رَجُلاً حَيِيّا. قَالَ: فَكَانَ لاَ يُرَىَ مُتَجَرّداً. قَالَ: فَقَالَ بَنُو إِسْرَائِيلَ: إِنّهُ آدرُ. قَالَ: فَاغْتَسَلَ عِنْدَ مَشْرَبَةٍ. فَوَضَعَ ثَوْبَهُ عَلَىَ حَجَرٍ. فَانْطَلَقَ الْحَجَرُ يَسْعَىَ. وَاتّبَعَهُ بِعَصَاهُ يَضْرِبُهُ: ثَوْبِي. حَجَرُ ثَوْبِي. حَجَرُ حَتّىَ وَقَفَ عَلَىَ مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَنَزَلَتْ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالّذِينَ ءَاذَوْا مُوسَىَ فَبَرّأَهُ اللّهُ مِمّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللّهِ وَجِيهاً} (الأحزاب الاَية: ).
وحدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ (قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا) عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ. عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَىَ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَلَمّا جَاءَهُ صَكّهُ فَفَقأَ عَيْنَهُ. فَرَجَعَ إِلَىَ رَبّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَىَ عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ. قَالَ: فَرَدّ اللّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ. فَقُلْ لَهُ: يَضَعُ يَدَهُ عَلَىَ مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ، بِمَا غَطّتْ يَدُهُ بِكُلّ شَعْرَةٍ، سَنَةٌ. قَالَ: أَيْ رَبّ ثُمّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمّ الْمَوْتُ. قَالَ: فَالاَنَ. فَسَأَلَ اللّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَلَوْ كُنْتُ ثَمّ، لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَىَ جَانِبِ الطّرِيقِ، تَحْتَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّهٍ. قَالَ هَذَا مَا حَدّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَحَادِيثَ مِنْهَا: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "جَاءَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَىَ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَقَالَ لَهُ: أَجِبْ رَبّكَ. قَالَ فَلَطَمَ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلامُ عَيْنَ مَلَكِ الْمَوْتِ فَفَقَأَهَا. قَالَ فَرَجَعَ الْمَلَكُ إِلَى اللّهِ تَعَالَىَ فَقَالَ: إِنّكَ أَرْسَلْتَنِي إِلَىَ عَبْدٍ لَكَ لاَ يُرِيدُ الْمَوْتَ. وَقَدْ فَقَأَ عَيْنِي. قَالَ فَرَدّ اللّهُ إِلَيْهِ عَيْنَهُ وَقَالَ: ارْجِعْ إِلَىَ عَبْدِي فَقُلِ: الْحَيَاةَ تُرِيدُ؟ فَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ الْحَيَاةَ فَضَعْ يَدَكَ عَلَىَ مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا تَوَارَتْ يَدُكَ مِنْ شَعْرَةٍ. فَإِنّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنَةً. قَالَ: ثُمّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمّ تَمُوتُ. قَالَ: فَالاَنَ مِنْ قَرِيبٍ. رَبّ أَمِتْنِي مِنَ الأَرْضِ الْمُقَدّسَةِ. رَمْيَةً بِحَجَرٍ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَاللّهِ لَوْ أَنّي عِنْدَهُ لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إِلَىَ جَانِبِ الطّرِيقِ، عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ".
قَالَ أَبُو إِسْحَقَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ يَحْيَىَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ.
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ الْفَضْلِ الهَاشِمِيّ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا يَهُودِيّ يَعْرِضُ سِلْعَةً لَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئاً، كَرِهَهُ أَوْ لَمْ يَرْضَهُ شَكّ عَبْدُ الْعَزِيزِ قَالَ: لاَ. وَالّذِي اصْطَفَىَ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ عَلَىَ الْبَشَرِ قَالَ: فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَلَطَمَ وَجْهَهُ قَالَ: تَقُولُ: وَالّذِي اصْطَفَىَ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ عَلَىَ الْبَشَرِ وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ أَظْهُرِنَا؟ قَالَ: فَذَهَبَ الْيَهُودِيّ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ إِنّ لِي ذِمّةً وَعَهْداً. وَقَالَ: فُلاَنٌ لَطَمَ وَجْهِي. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟" قَالَ: قَالَ (يَا رَسُولَ اللّهِ): وَالّذِي اصْطَفَىَ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ عَلَىَ الْبَشَرِ وَأَنْتَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا. قَالَ: فَغَضِبَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَتّىَ عُرِفَ الْغَضَبُ فِي وَجْهِهِ. ثُمّ قَالَ: "لاَ تُفَضّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللّهِ. فَإِنّهُ يُنْفَخُ فِي الصّورِ فَصُعِقَ مَنْ فِي السّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاّ مَنْ شَاءَ اللّهُ. قَالَ: ثُمّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَىَ. فَأَكُونُ أَوّلَ مَنْ بُعِثَ. أَوْ فِي أَوّلِ مَنْ بُعِثَ. فَإِذَا مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ آخِذٌ بِالْعَرْشِ. فَلاَ أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطّورِ. أَوْ بُعِثَ قَبْلِي. وَلاَ أَقُولُ: إِنّ أَحَداً أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتّىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ".
وحدّثنيهِ مُحَمّدُ بْنُ حَاتِمٍ. حَدّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَرُونَ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ، سَوَاءً.
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ النّضْرِ قَالاَ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ. حَدّثَنَا أَبِي عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَ عَبْدِ الرّحْمَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: اسْتَبّ رَجُلاَنِ، رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ وَرَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ. فَقَالَ الْمُسْلِمُ: وَالّذِي اصْطَفَى مُحَمّداً صلى الله عليه وسلم عَلَىَ الْعَالَمِينَ وَقَالَ الْيَهُودِيّ: وَالّذِي اصْطَفَىَ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ عَلَىَ الْعَالَمِينَ قَالَ: فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ يَدَهُ عِنْدَ ذَلِكَ. فَلَطَمَ وَجْهَ الْيَهُودِيّ. فَذَهَبَ الْيَهُودِيّ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَخْبَرَهُ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ تُخَيّرُونِي عَلَىَ مُوسَىَ. فَإِنّ النّاسَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوّلَ مَنْ يُفِيقُ. فَإِذَا مُوسَىَ بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ. فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي أَمْ كَانَ مِمّنِ اسْتَثْنَى اللّهُ".
وحدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ إِسْحَقَ قَالاَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ. أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزّهْرِيّ. أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ وَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ عَنْ أَبِي هُرَيرَةَ. قَالَ: اسْتَبّ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ. بِمِثْلِ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ.
وحدّثني عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزّبَيْرِيّ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَىَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: جَاءَ يَهُودِيّ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَدْ لُطِمَ وَجْهُهُ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِمَعْنَىَ حَدِيثِ الزّهْرِيّ. غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ مِمّنْ صَعِقَ فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوِ اكْتَفَىَ بِصَعْقَةِ الطّورِ".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَىَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "لاَ تُخَيّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ". وَفِي حَدِيثِ ابْنِ نُمَيْرٍ: عَمْرِو بْنِ يَحْيَىَ. حَدّثَنِي أَبِي.
حدّثنا هَدّابُ بْنُ خَالِدٍ وَ شَيْبَانُ بْنُ فَرّوخَ قَالاَ: حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيّ وَ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَتَيْتُ وَفِي رِوَايَةِ هَدّابٍ: مَرَرْتُ عَلَىَ مُوسَىَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عِنْدَ الْكَثِيبِ الأَحْمَرِ. وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلّي فِي قَبْرِهِ".
وحدّثنا عَلِيّ بْنُ خَشْرَمٍ. أَخْبَرَنَا عِيسَىَ (يَعْنِي ابْنَ يُونُسَ). ح وَحَدّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ. كِلاَهُمَا عَنْ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ، عَنْ أَنَسٍ. ح وَحَدّثَنَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ. سَمِعْتُ أَنَساً يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "مَرَرْتُ عَلَىَ مُوسَىَ وَهُوَ يُصَلّي فِي قَبْرِهِ". وَزَادَ فِي حَدِيثِ عِيسَىَ "مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي".
قوله: (أنه آدر) بهمزة ممدودة ثم دال مهملة مفتوحة ثم راء وهو عظيم الخصيتين وجمع الحجر أي ذهب مسرعاً إسراعاً بليغاً، وطفق ضرباً أي جعل يضرب يقال طفق يفعل كذا وطفق بكسر الفاء وفتحها، وجعل وأخذ وأقبل بمعنى واحد، وأما الندب فهو بفتح النون والدال وأصله أثر الجرح إذا لم يرتفع عن الجلد. وقوله: (ثوبي حجر) أي دع ثوبي يا حجر. قوله: (فما توارت يدك من شعرة فإنك تعيش بها سنة) هكذا هو في جميع النسخ توارت ومعناه وارت وسترت. قوله: (فاغتسل عند مويه) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا ومعظم غيرها مويه بضم الميم وفتح الواو وإسكان الياء وهو تصغير ماء وأصله موه والتصغير يرد الأشياء إلى أصولها. وقال القاضي: وقع في بعض الروايات مويه كما ذكرناه، وفي معظمها مشربة بفتح الميم وإسكان الشين وهي حفرة في أصل النخلة يجمع الماء فيها لسقيها، قال القاضي: وأظن الأول تصحيفاً كما سبق والله أعلم. وفي هذا الحديث فوائد. منها أن فيه معجزتين ظاهرتين لموسى صلى الله عليه وسلم إحداهما مشي الحجر بثوبه إلى ملأ بني إسرائيل، والثانية حصول الندب في الحجر. ومنها وجود التمييز في الجماد كالحجر ونحوه ومثله تسليم الحجر بمكة وحنين الجذع ونظائره وسبق قريباً بيان هذه المسألة مبسوطة. ومنها جواز الغسل عرياناً في الخلوة وإن كان ستر العورة أفضل وبهذا قال الشافعي ومالك وجماهير العلماء، وخالفهم ابن أبي ليلى وقال: إن للماء ساكناً واحتج في ذلك بحديث ضعيف. ومنها ما ابتلي به الأنبياء والصالحون من أذى السفهاء والجهال وصبرهم عليهم. ومنها ما قاله القاضي وغيره أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم منزهون عن النقائص في الخلق والخلق سالمون من العاهات والمعايب، قالوا: ولا التفات إلى ما قاله من لا تحقيق له من أهل التاريخ في إضافة بعض العاهات إلى بعضهم بل نزههم الله تعالى من كل عيب وكل شيء يبغض العيون أو ينفر القلوب.
قوله: (عن أبي هريرة قال أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه ففقأ عينه فرجع إلى ربه فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت قال فرد الله إليه عينه وقال ارجع إليه فقل له يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سنة، قال: أي رب ثم مه؟ قال: ثم الموت، قال: فالاَن، فسأل الله تعالى أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر) وفي الرواية الأخرى: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جاء ملك الموت إلى موسى فقال أجب ربك فلطم موسى عين ملك الموت ففقأها) وذكر نحو ما سبق. أما قوله صكه فهو بمعنى لطمه في الرواية الثانية وفقأ عينه بالهمز، ومتن الثور ظهره، ورمية حجر أي قدر ما يبلغه، وقوله ثم مه هي هاء السكت وهو استفهام أي ثم ماذا يكون أحياة أم موت؟ والكثيب الرمل المستطيل المحدودب، ومعنى أجب ربك أي للموت ومعناه جئت لقبض روحك. وأما سؤاله إلادناء من الأرض المقدسة فلشرفها وفضيلة من فيها من المدفونين من الأنبياء وغيرهم. قال بعض العلماء: وإنما سأل الإدناء ولم يسأل نفس بيت المقدس لأنه خاف أن يكون قبره مشهوراً عندهم فيفتتن به الناس، وفي هذا استحباب الدفن في المواضع الفاضلة والمواطن المباركة والقرب من مدافن الصالحين والله أعلم. قال المازري: وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكر تصوره، قالوا: كيف يجوز على موسى فقء عين ملك الموت؟ قال: وأجاب العلماء عن هذا بأجوبة أحدها أنه لا يمتنع أن يكون موسى صلى الله عليه وسلم قد أذن الله تعالى له في هذه اللطمة ويكون ذلك امتحاناً للملطوم والله سبحانه وتعالى يفعل في خلقه ما شاء ويمتحنهم بما أراد. والثاني أنّ هذا على المجاز والمراد أن موسى ناظره وحاجه فغلبه بالحجة، ويقال فقأ فلان عين فلان إذا غالبه بالحجة، ويقال عورت الشيء إذا أدخلت فيه نقصاً، قال: وفي هذا ضعف لقوله صلى الله عليه وسلم فرد الله عينه. فإن قيل: أراد رد حجته كان بعيداً. والثالث أن موسى صلى الله عليه وسلم لم يعلم أنه ملك من عند الله وظن أنه رجل قصده يريد نفسه فدافعه عنها فأدت المدافعة إلى فقء عينه لا أنه قصدها بالفقء وتؤيده رواية صكه. وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين، واختاره المازري والقاضي عياض قالوا وليس في الحديث تصريح بأنه تعمد فقء عينه. فإن قيل: فقد اعترف موسى حين جاءه ثانياً بأنه ملك الموت. فالجواب أنه أتاه في المرة الثانية بعلامة علم بها أنه ملك الموت فاستسلم بخلاف المرة الأولى والله أعلم. قوله في الرواية الثانية: فالاَن من قريب رب أمتني بالأرض المقدسة رمية بحجر، هكذا هو في معظم النسخ أمتني بالميم والتاء والنون من الموت، وفي بعضها أدنني بالدال ونونين وكلاهما صحيح.
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفضلوا بين الأنبياء" فقد سبق بيانه وتأويله مبسوطاً في أول كتاب الفضائل. قوله صلى الله عليه وسلم: "ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور أو بعث قبلي" وفي رواية: (فإن الناس يصعقون فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله تعالى). الصعق والصعقة الهلاك والموت ويقال منه صعق الإنسان وصعق بفتح الصاد وضمها وأنكر بعضهم الضم، وصعقتهم الصاعقة بفتح الصاد والعين وأصعقتهم وبنو تميم يقولون الصاقعة بتقديم القاف، قال القاضي: وهذا من أشكل الأحاديث لأن موسى قد مات فكيف تدركه الصعقة وإنما تصعق الأحياء. قوله: (ممن استثنى الله تعالى) يدل على أنه كان حياً، ولم يأت أن موسى رجع إلى الحياة ولا أنه حي كما جاء في عيسى وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق" قال القاضي: يحتمل أن هذه الصعقة صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السموات والأرض فتنتظم حينئذ الاَيات والأحاديث، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم فأفاق لأنه إنما يقال أفاق من الغشي، وأما الموت فيقال بعث منه وصعقة الطور لم تكن موتاً. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فلا أدري أفاق قبلي" فيحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قاله قبل أن يعلم أنه أول من تنشق عنه الأرض إن كان هذا اللفظ على ظاهره، وأن نبينا صلى الله عليه وسلم أول شخص تنشق عنه الأرض على الإطلاق، قال: ويجوز أن يكون معناه أنه من الزمرة الذين هم أول من تنشق عنهم الأرض فيكون موسى من تلك الزمرة وهي والله أعلم زمرة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، هذا آخر كلام القاضي. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا أقول أن أحداً أفضل من يونس بن متى" وفي رواية: (أن الله تعالى قال: لا ينبغي لعبد لي يقول أنا خير من يونس بن متى) وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما ينبغي لعبد يقول أنا خير من يونس بن متى" قال العلماء: هذه الأحاديث تحتمل وجهين: أحدهما أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا قبل أن يعلم أنه أفضل من يونس فلما علم ذلك قال أنا سيد ولد آدم ولم يقل هنا أن يونس أفضل منه أو من غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. والثاني أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا زجراً عن أن يتخيل أحد من الجاهلين شيئاً من حط مرتبة يونس صلى الله عليه وسلم من أجل ما في القرآن العزيز من قصته. قال العلماء: وما جرى ليونس صلى الله عليه وسلم لم يحطه من النبوة مثقال ذرة، وخص يونس بالذكر لما ذكرناه من ذكره في القرآن بما ذكر. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس) فالضمير في أنا قيل يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل يعود إلى القائل أي لا يقول ذلك بعض الجاهلين من المجتهدين في عبادة أو علم أو غير ذلك من الفضائل، فإنه لو بلغ من الفضائل ما بلغ لم يبلغ درجة النبوة، ويؤيد هذا التأويل الرواية التي قبله وهي قوله تعالى: لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "مررت على موسى وهو قائم يصلي في قبره" هذا الحديث سبق شرحه في أواخر كتاب الإيمان عند ذكر موسى وعيسى صلى الله عليه وسلم
*2* باب في ذكر يونس عليه السلام، وقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى"
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ يُحَدّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ "قَالَ يَعْنِي اللّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ لاَ يَنْبَغِي لِعَبْدٍ لِي (وَقَالَ ابْنُ الْمُثَنّى: لِعَبْدِي) أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتّىَ، عَلَيْهِ السّلاَمُ".
قَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَر عَنْ شُعْبَةَ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ ابْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنّى) قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ يَقُولَ: حَدّثَنِي ابْنُ عَمّ نَبِيّكُمْ صلى الله عليه وسلم (يَعْنِي ابْنَ عَبّاسٍ) عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتّىَ". وَنَسَبَهُ إِلَىَ أَبِيهِ.
*2* باب من فضائل يوسف، عليه السلام
*حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّى وَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ قَالُوا: حَدّثَنَا يَحْيَى ابْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ. أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللّهِ مَنْ أَكْرَمُ النّاسِ؟ قَالَ "أَتْقَاهُمْ" قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: "فَيُوسُفُ نَبِيّ اللّهِ ابْنُ نَبِيّ اللّهِ ابْنِ نَبِيّ اللّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللّهِ" قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ "فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ. إِذَا فَقُهُوا".
قوله: (قيل يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: أتقاهم لله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: يوسف نبي الله بن نبي الله بن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألوني خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) هكذا وقع في مسلم نبي الله بن نبي الله بن خليل الله، وفي روايات للبخاري كذلك، وفي بعضها نبي الله بن نبي الله بن نبي الله بن خليل الله وهذه الرواية هي الأصل. وأما الأولى فمختصرة منها فإنه يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم فنسبه في الأولى إلى جده، ويقال يوسف بضم السين وكسرها وفتحها مع الهمز وتركه فهي ستة أوجه، قال العلماء: وأصل الكرم كثرة الخير، وقد جمع يوسف صلى الله عليه وسلم مكارم الأخلاق مع شرف النبوة مع شرف النسب وكونه نبياً ابن ثلاثة أنبياء متناسلين أحدهم خليل الله صلى الله عليه وسلم وانضم إليه شرف علم الرؤيا وتمكنه فيه ورياسة الدنيا وملكها بالسيرة الجميلة وحياطته للرعية وعموم نفعه إياهم وشفقته عليهم وإنقاذه إياهم من تلك السنين والله أعلم. قال العلماء: لما سئل صلى الله عليه وسلم أي الناس أكرم؟ أخبر بأكمل الكرم وأعمه فقال أتقاهم لله. وقد ذكرنا أن أصل الكرم كثرة الخير، ومن كان متقياً كان كثير الخير وكثير الفائدة في الدنيا وصاحب الدرجات العلى في الاَخرة، فلما قالوا ليس عن هذا نسألك قال يوسف الذي جمع خيرات الاَخرة والدنيا وشرفهما، فلما قالوا ليس عن هذا نسأل فهم عنهم أن مرادهم قبائل العرب قال خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا، ومعناه أن أصحاب المروءات ومكارم الخلائق في الجاهلية إذا أسلموا وفقهوا فهم خيار الناس. قال القاضي: وقد تضمن الحديث في الأجوبة الثلاثة أن الكرم كله عمومه وخصوصه ومجمله ومبانه إنما هو الدين من التقوى والنبوة والاعراق فيها والإسلام مع الفقه، ومعنى معادن العرب أصولها، وفقهوا بضم القاف على المشهور وحكى كسرها أي صاروا فقهاء عالمين بالأحكام الشرعية الفقهية والله أعلم
*2* باب من فضائل زكرياء، عليه السلام
*حدّثنا هَدّابُ بْنُ خَالِدٍ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ زَكَرِيَاءُ نَجّاراً".
قوله صلى الله عليه وسلم: "كان زكرياء نجاراً" فيه جواز الصنائع وأن النجارة لا تسقط المروءة وأنها صنعة فاضلة، وفيه فضيلة لزكرياء صلى الله عليه وسلم فإنه كان صانعاً يأكل من كسبه، وقد ثبت قوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل ما أكل الرجل من كسبه وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" وفي زكرياء خمس لغات المد والقصر وزكرى بالتشديد والتخفيف وزكر كعلم
*2* باب من فضائل الخضر، عليه السلام
*حدّثنا عَمْرُو بْنُ مُحَمّدٍ النّاقِدُ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ وَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ سَعِيدٍ وَ مُحَمّدُ بْنُ أَبِي عُمَرَ الْمَكّيّ. كُلّهُمْ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ أَبِي عُمَرَ). حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. حَدّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبّاسٍ: إِنّ نَوْفاً الْبِكَالِيّ يَزْعُمُ أَنّ مُوسَىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ، صَاحِبَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَيْسَ هُوَ مُوسَىَ صَاحِبَ الْخَضِرِ، عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَقَالَ: كَذَبَ عَدُوّ اللّهِ. سَمِعْتُ أُبَيّ بْنَ كَعْبٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "قَامَ مُوسىَ عَلَيْهِ السّلاَمُ خَطِيباً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ. فَسُئِلَ: أَيّ النّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا أَعْلَمُ. قَالَ: فَعَتَبَ اللّهِ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ. فَأَوْحَىَ اللّهُ إِلَيْهِ: أَنّ عَبْداً مِنْ عِبَادِي بِمَجْمَعِ الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ مُوسَىَ: أَيْ رَبّ كَيْفَ لِي بِهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتاً فِي مِكْتَلٍ. فَحَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ فَهُوَ ثَمّ. فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقَ مَعَهُ فَتَاهُ. وَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. فَحَمَلَ مُوسَىَ، عَلَيْهِ السّلاَمُ، حُوتاً فِي مِكْتَلٍ. وَانْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ يَمْشِيَانِ حَتّىَ أَتَيَا الصّخْرَةَ. فَرَقَدَ مُوسَىَ، عَلَيْهِ السّلاَمُ، وَفَتَاهُ. فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمِكْتَلِ، حَتّىَ خَرَجَ مِنَ الْمِكْتَلِ، فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ. قَالَ: وَأَمْسَكَ اللّهُ عَنْهُ جِرْيَةَ الْمَاءِ حَتّىَ كَانَ مِثْلَ الطّاقِ. فَكَانَ لِلْحُوتِ سَرَباً. وَكَانَ لِمُوسَىَ وَفَتَاهُ عَجَباً. فَانْطَلَقَا بَقِيّةَ يَوْمِهِمَا وَلَيْلَتَهُمَا. وَنَسِيَ صَاحِبُ مُوسَىَ أَنْ يُخْبِرَهُ. فَلَمّا أَصْبَحَ مُوسَىَ، عَلَيْهِ السّلاَمُ، قَالَ لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً. قَالَ: وَلَمْ يَنْصَبْ حَتّىَ جَاوَزَ الْمَكَانَ الّذِي أُمِرَ بِهِ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَىَ الصّخْرَةِ فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشّيْطَانُ أَنْ أَذْكرَهُ وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قَالَ مُوسَىَ: ذَلِكَ مَا كُنّا نَبْغِي فَارْتَدّا عَلَىَ آثَارِهِمَا قَصَصاً. قَالَ: يَقُصّانِ آثَارَهُمَا. حَتّىَ أَتَيَا الصّخْرَةَ فَرَأَىَ رَجُلاً مُسَجّى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ. فَسَلّمَ عَلَيْهِ مُوسَىَ. فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: أَنّىَ بِأَرْضِكَ السّلاَمُ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَىَ. قَالَ: مُوسَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: إِنّكَ عَلَىَ عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللّهِ عَلّمَكَهُ اللّهُ لاَ أَعْلَمُهُ. وَأَنَا عَلَىَ عِلْمٍ مِنْ عِلْمَ اللّهِ عَلّمَنِيهِ لاَ تَعْلَمُهُ. قَالَ لَهُ مُوسَىَ، عَلَيْهِ السّلاَمُ: هَلْ أَتّبِعُكَ عَلَىَ أَنْ تُعَلّمَنِي مِمّا عُلّمْتَ رُشْداً؟ قَالَ: إِنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىَ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً. قَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً. قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: فَإِنِ اتّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتّىَ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً. قَالَ: نَعَمْ. فَانْطَلَقَ الْخَضِرُ وَمُوسَىَ يَمْشِيَانِ عَلَىَ سَاحِلِ الْبَحْرِ. فَمَرّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ. فَكَلّمَاهُمْ أَنْ يَحْمِلُوهُمَا. فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُمَا بِغَيْرِ نَوْلٍ. فَعَمَدَ الْخَضِرُ إِلَىَ لَوْحٍ مِنْ أَلْوَاحِ السّفِينَةِ فَنَزَعَهُ. فَقَالَ لَهُ مُوسَىَ: قَوْمٌ حَمَلُونَا بِغَيْرِ نَوْلٍ، عَمَدْتَ إِلَىَ سَفِينَتِهِمْ فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا. لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. قَالَ: لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً. ثُمّ خَرَجَا مِنَ السّفِينَةِ. فَبَيْنَمَا هُمَا يَمْشِيَانِ عَلَىَ السّاحِلِ إِذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ. فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ، فَاقْتَلَعَهُ بِيَدِهِ، فَقَتَلَهُ. فَقَالَ مُوسَىَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً. قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟ قَالَ: وَهَذِهِ أَشَدّ مِنَ الأُولَىَ. قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُذْراً. فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيّفُوهُمَا. فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضّ فَأَقَامَهُ. يَقُولُ مَائِلٌ.
قَالَ الْخَضِرُ بِيَدِهِ هَكَذَا. فَأَقَامَهُ. قَالَ لَهُ مُوسَىَ: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُضَيّفُونَا وَلَمْ يُطْعِمُونَا، لَوْ شِئْتَ لاَتّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً. قَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ. سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً". قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَرْحَمُ اللّهُ مُوسَىَ. لَوَدِدْتُ أَنّهُ كَانَ صَبَرَ حَتّىَ يُقَصّ عَلَيْنَا مِنْ أَخْبَارِهِمَا". قَالَ: وَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَانَتِ الأُولَىَ مِنْ مُوسَىَ نِسْيَاناً". قالَ: "وَجَاءَ عُصْفُورٌ حَتّىَ وَقَعَ عَلَىَ حَرْفِ السّفِينَةِ. ثُمّ نَقَرَ فِي الْبَحْرِ. فَقَالَ لَهُ الْخَضِرُ: مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللّهِ إِلاّ مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ".
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَكَانَ يَقْرَأُ: وَكَانَ أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْباً. وَكَانَ يَقْرَأُ: وَأَمّا الْغُلاَمُ فَكَانَ كَافِراً.
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى الْقَيْسِيّ. حَدّثَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ رَقَبَةَ، عَنِ أَبِي إِسْحَقَ، عَنْ سَعِيدِ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: قِيلَ لاِبْنِ عَبّاسٍ: إِنّ نَوْفاً يَزْعُمُ أَنّ مُوسَىَ الّذِي ذَهَبَ يَلْتَمِسُ الْعِلْمَ لَيْسَ بِمُوسَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ: أَسَمِعْتَهُ؟ يَا سَعِيدُ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: كَذَبَ نَوْفٌ.
حَدّثَنَا أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إِنّهُ بَيْنَمَا مُوسَىَ، عَلَيْهِ السّلاَمُ، فِي قَوْمِهِ يُذَكّرُهُمْ بِأَيّامِ اللّهِ. وَأَيّامُ اللّهِ نَعْمَاؤُهُ وَبَلاَؤُهُ. إِذْ قَالَ: مَا أَعْلَمُ فِي الأَرْضِ رَجُلاً خَيْراً أَوْ أَعْلَمَ مِنّي. قَالَ: فَأَوْحَىَ اللّهِ إِلَيْهِ. إِنّي أَعْلَمُ بِالْخَيْرِ مِنْهُ. أَوْ عِنْدَ مَنْ هُوَ. إِنّ فِي الأَرْضِ رَجُلاً هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ: يَا رَبّ فَدُلّنِي عَلَيْهِ. قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: تَزَوّدْ حُوتاً مَالِحاً. فَإِنّهُ حَيْثُ تَفْقِدُ الْحُوتَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ حَتّىَ انْتَهَيَا إِلَىَ الصّخْرَةِ. فَعُمّيَ عَلَيْهِ. فَانْطَلَقَ وَتَرَكَ فَتَاهُ. فَاضْطَرَبَ الْحُوتُ فِي الْمَاءِ. فَجَعَلَ لاَ يَلْتَئِمُ عَلَيْهِ. صَارَ مِثْلَ الْكُوّةِ. قَالَ: فَقَالَ فَتَاهُ: أَلاَ أَلْحَقُ نَبِيّ اللّهِ فَأُخْبِرَهُ؟ قَالَ: فَنُسّيَ. فَلَمّا تَجَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً. قَالَ: وَلَمْ يُصِبْهُمْ نَصَبٌ حَتّىَ تَجَاوَزَا. قَالَ: فَتَذَكّرَ قَالَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَىَ الصّخْرَةِ فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ. وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً. قَالَ: ذَلِكَ مَا كُنّا نَبْغِي فَارْتَدّا عَلَىَ آثَارِهِمَا قَصَصاً. فَأَرَاهُ مَكَانَ الْحُوتِ. قَالَ: هَهُنَا وُصِفَ لِي. قَالَ: فَذَهَبَ يَلْتَمِسُ فَإِذَا هُوَ بِالْخَضِرِ مُسَجّى ثَوْباً، مُسْتَلْقِياً عَلَىَ الْقَفَا. أَوْ قَالَ عَلَىَ حُلاَوَةِ الْقَفَا. قَالَ: السّلاَمُ عَلَيْكُمْ. فَكَشَفَ الثّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ قَالَ: وَعَلَيْكُمُ السّلاَمُ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا مُوسَىَ. قَالَ: وَمَنْ مُوسَىَ؟ قَالَ: مُوسَىَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ: مَجِيءٌ مَا جَاءَ بِكَ؟ قَالَ: جِئْتُ لِتُعَلّمَنِي مِمّا عُلّمْتَ رُشْداً. قَالَ: إِنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً. وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىَ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً. شَيْءٌ أُمِرْتُ بِهِ أَنْ أَفْعَلَهُ إِذَا رَأَيْتَهُ لَمْ تَصْبِرْ. قَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللّهُ صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أَمْراً. قَالَ: فَإِنِ اتّبَعْتَنِي فَلاَ تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتّىَ أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً. فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا رَكِبَا في السّفِينَةِ خَرَقَهَا. قَالَ: انْتَحَىَ عَلَيْهَا. قَالَ لَهُ مُوسَىَ، عَلَيْهِ السّلاَمُ: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً. قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً؟ قَالَ: لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً. فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا لَقِيَا غِلْمَاناً يَلْعَبُونَ. قَالَ: فَانْطَلَقَ إِلَىَ أَحَدِهِمْ بَادِيَ الرّأْيِ فَقَتَلَهُ. فَذُعِرَ عِنْدَهَا، مُوسَىَ، عَلَيْهِ السّلاَمُ، ذَعْرَةً مُنْكَرَةً. قَالَ: أَقَتَلْتَ نَفْساً زَاكِيَةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً". فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ هَذَا الْمَكَانِ: "رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَىَ مُوسَىَ. لَوْلاَ أَنّهُ عَجّلَ لَرَأَى الْعَجَبَ. وَلَكِنّهُ أَخَذَتْهُ مِنْ صَاحِبِهِ ذَمَامَةٌ. قَالَ: إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنّي عُذْراً. وَلَوْ صَبَرَ لَرَأَى الْعَجَبَ". قَالَ: وَكَانَ إِذَا ذَكَرَ أَحَداً مِنَ الأَنْبِيَاءِ بَدَأَ بِنَفْسِهِ. "رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَىَ أَخِي كَذَا. رَحْمَةُ اللّهِ عَلَيْنَا "فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ لِئَاماً فَطَافَا فِي الْمَجَالِسِ فَاسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا. فَأَبَوْا أَنْ يُضَيّفُوهُمَا. فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضّ فَأَقَامَهُ. قَالَ: لَوْ شِئْتَ لاَتّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً. قَالَ: هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ وَأَخَذَ بِثَوْبِهِ. قَالَ: سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً. أَمّا السّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ. فأردت أن أَعِيبَهَا وكان وراءهم ملك. فَإِذَا جَاءَ الّذِي يُسَخّرُهَا وَجَدَهَا مُنْخَرِقَةً فَتَجَاوَزَهَا فَأَصْلَحُوهَا بِخَشَبَةٍ. وَأَمّا الْغُلاَمُ فَطُبِعَ يَوْمَ طُبِعَ كَافِراً. وَكَانَ أَبَوَاهُ قَدْ عَطَفَا عَلَيْهِ. فَلَوْ أَنّهُ أَدْرَكَ أَرْهَقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً. فَأَرَدْنَا أَنْ يُبَدّلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً. وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَان تَحْتَهُ" إلى آخر الاَية.
وحدّثنا عَبْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ الدّارِمِيّ. أَخْبَرَنَا مُحَمّدُ بْنُ يُوسُفَ. ح وَحَدّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُوسَىَ. كِلاَهُمَا عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَقَ. بِإِسْنَادِ التّيْمِيّ عَنْ أَبِي إِسْحَقَ. نَحْوَ حَدِيثِهِ.
وحدّثنا عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، عَنْ أُبَيّ بْنِ كَعْبٍ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ: لَتَخِذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً.
حدّثني حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسَعُودٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ تَمَارَىَ هُوَ وَالْحُرّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الْفَزَارِيّ فِي صَاحِبِ مُوسَىَ، عَلَيْهِ السّلاَمُ. فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هُوَ الْخَضِرُ. فَمَرّ بِهِمَا أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ الأَنْصَارِيّ. فَدَعَاهُ ابْنُ عَبّاسٍ فَقَالَ: يَا أَبَا الطّفَيْلِ هَلُمّ إِلَيْنَا. فَإِنّي قَدْ تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَىَ الّذِي سَأَلَ السّبِيلَ إِلَىَ لُقِيّهِ. فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟. فَقَالَ أُبَيّ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "بَيْنَمَا مُوسَىَ فِي مَلإَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: هَلْ تَعْلَمُ أَحَداً أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ مُوسَىَ: لاَ. فَأَوْحَىَ اللّهُ إِلَىَ مُوسَىَ: بَلْ عَبْدُنَا الْخَضِرُ. قَالَ: فَسَأَلَ مُوسَىَ السّبِيلَ إِلَىَ لُقِيّهِ. فَجَعَلَ اللّهُ لَهُ الْحُوتَ آيَةً. وَقِيلَ لَهُ: إِذَا افْتَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ فَإِنّكَ سَتَلْقَاهُ. فَسَارَ مُوسَىَ مَا شَاءَ اللّهُ أَنْ يَسِيرَ. ثُمّ قَالَ لِفَتَاهُ: آتِنَا غَدَاءَنَا. فَقَالَ فَتَىَ مُوسَىَ، حِينَ سَأَلَهُ الْغَدَاءَ: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَىَ الصّخْرَةِ فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ. فَقَالَ مُوسَىَ لِفَتَاهُ: ذَلِكَ مَا كُنّا نَبْغِي. فَارْتَدّا عَلَىَ آثَارِهِما قَصَصاً. فَوَجَدَا خَضِراً. فَكَانَ مِنْ شَأْنِهِمَا مَا قَصّ اللّهُ فِي كِتَابِهِ".
إِلاّ أَنّ يُونُسَ قَالَ: فَكَانَ يَتّبِعُ أَثَرَ الْحُوتِ فِي الْبَحْرِ.
جمهور العلماء على أنه حي موجود بين أظهرنا وذلك متفق عليه عند الصوفية وأهل الصلاح والمعرفة وحكاياتهم في رؤيته والاجتماع به والأخذ عنه وسؤاله وجوابه، ووجوده في المواضع الشريفة ومواطن الخير أكثر من أن يحصر وأشهر من أن يستر، وقال الشيخ أبو عمر بن الصلاح: هو حي عند جماهير العلماء والصالحين والعامة معهم في ذلك، قال: وإنما شذ بإنكاره بعض المحدثين. قال الحبري المفسر وأبو عمرو: هو نبي واختلفوا في كونه مرسلاً، وقال القشيري وكثيرون: هو ولي، وحكى الماوردي في تفسيره ثلاثة أقوال: أحدها نبي، والثاني ولي، والثالث أنه من الملائكة وهذا غريب باطل. قال المازري: اختلف العلماء في الخضر هل هو نبي أو ولي؟ قال: واحتج من قال بنبوته بقوله: وما فعلته عن أمري فدل على أنه نبي أوحي إليه وبأنه أعلم من موسى ويبعد أن يكون ولي أعلم من نبي. وأجاب الاَخرون بأنه يجوز أن يكون قد أوحى الله إلى نبي في ذلك العصر أن يأمر الخضر بذلك. وقال الثعلبي المفسر: الخضر نبي معمر على جميع الأقوال محجوب عن الأبصار يعني عن أبصار أكثر الناس قال وقيل إنه لا يموت إلا في آخر الزمان حين يرفع القرآن. وذكر الثعلبي ثلاثة أقوال في أن الخضر كان من زمن إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم أم بعده بقليل أم بكثير. كنية الخضر أبو العباس واسمه بليا بموحدة مفتوحة ثم لام ساكنة ثم مثناة تحت ابن ملكان بفتح الميم وإسكان اللام وقيل كليان. قال ابن قتيبة في المعارف: قال وهب بن منبه اسم الخضر بليا بن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح، قالوا: وكان أبوه من الملوك، واختلفوا في لقبه الخضر فقال الأكثرون لأنه جلس على فروة بيضاء فصارت خضراء والفروة وجه الأرض، وقيل لأنه كان إذا صلى اخضر ما حوله والصواب الأول، فقد صح في البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من خلفه خضراء" وبسطت أحواله في تهذيب الأسماء واللغات والله أعلم. قوله: (إن نوفاً البكالي) هكذا ضبطه الجمهور بكسر الموحدة وتخفيف الكاف ورواه بعضهم بفتحها وتشديد الكاف. قال القاضي: هذا الثاني هو ضبط أكثر الشيوخ وأصحاب الحديث قال والصواب الأول وهو قول المحققين وهو منسوب إلى بني بكال بطن من حمير وقيل من همدان، ونوف هذا هو ابن فضالة كذا قاله ابن دريد وغيره وهو ابن امرأة كعب الأحبار وقيل ابن أخيه والمشهور الأول قاله ابن أبي حاتم وغيره، قالوا وكنيته أبو يزيد وقيل أبو رشد، وكان عالماً حكيماً قاضياً وإماماً لأهل دمشق. قوله: "كذب عدو الله" قال العلماء: هو على وجه الاغلاظ والزجر عن مثل قوله لا أنه يعتقد أنه عدو الله حقيقة إنما قاله مبالغة في إنكار قوله لمخالفته قول رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك في حال غضب ابن عباس لشدة إنكاره وحال الغضب تطلق الألفاظ ولا تراد بها حقائقها والله أعلم. قوله: "أنا أعلم" أي في اعتقاده وإلا فكان الخضر أعلم منه كما صرح به في الحديث. قوله صلى الله عليه وسلم: "فعتب الله عليه إذا لم يرد العلم إليه" أي كان حقه أن يقول الله أعلم فإن مخلوقات الله تعالى لا يعلمها إلا هو، قال الله تعالى: {وما يعلم جنود ربك إلا هو} واستدل العلماء بسؤال موسى السبيل إلى لقاء الخضر صلى الله عليه وسلم على استحباب الرحلة في طلب العلم واستحباب الاستكثار منه وأنه يستحب للعالم وإن كان من العلم بمحل عظيم أن يأخذه ممن هو أعلم منه ويسعى إليه في تحصيله، وفيه فضيلة طلب العلم وفي تزوده الحوت وغيره جواز التزود في السفر، وفي هذا الحديث الأدب مع العالم وحرمة المشايخ وترك الاعتراض عليهم وتأويل ما لا يفهم ظاهره من أفعالهم وحركاتهم وأقوالهم والوفاء بعهودهم والاعتذار عند مخالفة عهدهم، وفيه إثبات كرامات الأولياء على قول من يقول الخضر ولي، وفيه جواز سؤال الطعام عند الحاجة، وجواز إجارة السفينة، وجواز ركوب السفينة والدابة وسكنى الدار ولبس الثوب ونحو ذلك بغير أجرة برضى صاحبه لقوله حملونا بغير نول، وفيه الحكم بالظاهر حتى يتبين خلافه لإنكار موسى. قال القاضي: واختلف العلماء في قول موسى: {لقد جئت شيئاً إمراً وشيئاً نكراً} أيهما أشد؟ فقيل إمراً لأنه العظيم ولأنه في مقابلة خرق السفينة الذي يترتب عليه في العادة هلاك الذي فيها وأموالهم وهو أعظم من قتل الغلام فإنها نفس واحد، وقيل نكراً أشد لأنه قاله عند مباشرة القتل حقيقة، وأما القتل في خرق السفينة فمظنون وقد يسلمون في العادة وقد سلموا في هذه القضية وليس فيه ما هو محقق إلا مجرد الخرق والله أعلم. قوله تعالى: {إن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك} قال قتادة: هو مجمع بحري فارس والروم مما يلي المشرق، وحكى الثعلبي عن أبي بن كعب أنه بأفريقية.
قوله: "احمل حوتاً في مكتل فحيث تفقد الحوت فهو ثم" الحوت السمكة وكانت سمكة مالحة كما صرح به في الرواية الثانية، والمكتل بكسر الميم وفتح المثناة فوق وهو القفة والزنبيل وسبق بيانه مرات، وتفقده بكسر القاف أي يذهب منك يقال فقده وافتقده وثم بفتح الثاء أي هناك. قوله صلى الله عليه وسلم: "وانطلق معه فتاه" وهو يوشع بن نون معنى فتاه صاحبه ونون مصروف كنوح، وهذا الحديث يرد قول من قال من المفسرين أن فتاه عبد له وغير ذلك من الأقوال الباطلة، قالوا وهو يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف صلى الله عليه وسلم: (وأمسك الله عنه جرية الماء حتى كان مثل الطاق) أما الجرية فبكسر الجيم والطاق عقد البناء وجمعه طيقان وأطواق وهو الأزج وما عقد أعلاه من البناء وبقي ما تحته خالياً. قوله صلى الله عليه وسلم: "فانطلقا بقية يومهما وليلتهما" ضبطوه بنصب ليلتهما وجرها والنصب التعب، قالوا لحقه النصب والجوع ليطلب الغذاء فيتذكر به نسيان الحوت ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "ولم ينصب حتى جاوز المكان الذي أمر به". قوله: "واتخذ سبيله في البحر عجباً" قيل إن لفظة عجباً يجوز أن تكون من تمام كلام يوشع، وقيل من كلام موسى أي قال موسى عجبت من هذا عجباً، وقيل من كلام الله تعالى ومعناه اتخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجباً. قوله: (ما كنا نبغي) أي نطلب معناه أن الذي جئنا نطلبه هو الموضع الذي نفقد فيه الحوت. قوله صلى الله عليه وسلم: "فرأى رجلاً مسجى عليه بثوب فسلم عليه فقال له الخضر أنى بأرضك السلام" المسجى المغطى وأنى أي من أين السلام في هذه الأرض التي لا يعرف فيها السلام؟ قال العلماء: أنى تأتي بمعنى أين ومتى وحيث وكيف وحملوهما بغير نول بفتح النون وإسكان الواو أي بغير أجر والنول والنوال العطاء. قوله: (لتغرق أهلها) قرئ في السبع بضم التاء المثناة فوق ونصب أهلها وبفتح المثناة تحت ورفع أهلها. (وجئت شيئاً إمراً) أي عظيماً كثير الشدة. (ولا ترهقني) أي تغشني وتحملني. قوله: (أقتلت نفساً زاكية بغير نفس لقد جئت شيئاً نكرا) قرئ في السبع زاكية وزكية قالوا ومعناه طاهرة من الذنوب، وقوله بغير نفس أي بغير قصاص لك عليها والنكر المنكر وقرئ في السبع بإسكان الكاف وضمها والأكثرون بالإسكان، قال العلماء: وقوله إذا غلام يلعب فقتله دليل على أنه كان صبياً ليس ببالغ لأنه حقيقة الغلام وهذا قول الجمهور أنه لم يكن بالغاً، وزعمت طائفة أنه كان بالغاً يعمل بالفساد واحتجت بقوله: أقتلت نفساً زكية بغير نفس، فدل على أنه ممن يجب عليه القصاص والصبي لا قصاص عليه، وبقوله كان كافراً في قراءة ابن عباس كما ذكر في آخر الحديث. والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما أن المراد التنبيه على أنه قتل بغير حق. والثاني أنه يحتمل أن شرعهم كان إيجاب القصاص على الصبي كما أنه في شرعنا يؤاخذ بغرامة المتلفات. والجواب عن الثاني من وجهين: أحدهما أنه شاذ لا حجة فيه. والثاني أنه سماه بما يؤول إليه لو عاش كما جاء في الرواية الثانية. قوله: (قد بلغت من لدني عذرا) فيه ثلاث قراءات في السبع الأكثرون بضم الدال وتشديد النون. والثانية بالضم وتخفيف النون. والثالثة بإسكان الدال وإشمامها الضم وتخفيف النون ومعناه قد بلغت إلى الغاية التي تعذر بسببها في فراقي. قوله تعالى: {فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية} قال الثعلبي: قال ابن عباس هي إنطاكية، وقال ابن سيرين الأيلة وهي أبعد الأرض من السماء. قوله تعالى: {فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض} هذا من المجاز لأن الجدار لا يكون له حقيقة إرادة، ومعناه قرب من الانقضاض وهو السقوط، واستدل الأصوليون بهذا على وجود المجاز في القرآن وله نظائر معروفة، قال وهب بن منبه: كان طول هذا الجدار إلى السماء مائة ذراع. قوله: "لو شئت لتخذت عليه أجراً" قرئ بالسبع لتخذت بتخفيف التاء وكسر الخاء ولاتخذت بالتشديد وفتح الخاء أي لأخذت عليه أجرة تأكل بها. قوله صلى الله عليه وسلم: "وجاء عصفور حتى وقع على حرف السفينة ثم نقر في البحر فقال له الخضر ما نقص علمي وعلمك من علم الله تعالى إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر" قال العلماء: لفظ النقص هنا ليس على ظاهره وإنما معناه أن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله تعالى كنسبة ما نقره هذا العصفور إلى ماء البحر، هذا على التقريب إلى الأفهام وإلا فنسبة علمهما أقل وأحقر. وقد جاء في رواية البخاري: "ما علمي وعلمك في جنب علم الله إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره" أي في جنب معلوم الله، وقد يطلق العلم بمعنى المعلوم وهو من إطلاق المصدر لإرادة المفعول كقولهم: رغم ضرب السلطان أي مضروبه. قال القاضي: وقال بعض من أشكل عليه هذا الحديث إلا هنا بمعنى ولا أي ولا نقص علمي وعلمك من علم الله ولا مثل ما أخذ هذا العصفور لأن علم الله تعالى لا يدخله نقص، قال القاضي: ولا حاجة إلى هذا التكلف بل هو صحيح كما بينا والله أعلم.
قوله: "كذب نوف" هو جار على مذهب أصحابنا أن الكذب هو الإخبار عن الشيء خلاف ما هو عمداً كان أو سهواً خلافاً للمعتزلة وسبقت المسألة في كتاب الإيمان. قوله صلى الله عليه وسلم: "حتى انتهينا إلى الصخرة فعمى عليه" وقع في بعض الأصول بفتح العين المهملة وكسر الميم، وفي بعضها بضم العين وتشديد الميم، وفي بعضها بالغين المعجمة. قوله صلى الله عليه وسلم: "مثل الكوة" بفتح الكاف ويقال بضمها وهي الطاق كما قال في الرواية الأولى. قوله: (مستلقياً على حلاوة القفا) هي وسط القفا ومعناه لم يمل إلى أحد جانبيه وهي بضم الحاء وفتحها وكسرها أفصحها الضم، وممن حكى الكسر صاحب نهاية الغريب، ويقال أيضاً حلاوا بالفتح وحلاوى بالضم والقصر وحلواء بالمد. قوله: (مجيء ما جاء بك) قال القاضي: ضبطناه مجيء مرفوع غير منون عن بعضهم وعن بعضهم منوناً قال وهو أظهر أي أمر عظيم جاء بك. قوله صلى الله عليه وسلم: "انتحى عليها" أي اعتمد على السفينة وقصد خرقها. واستدل به العلماء على النظر في المصالح عند تعارض الأمور، وأنه إذا تعارضت مفسدتان دفع أعظمهما بارتكاب أخفهما كما خرق السفينة لدفع غصبها وذهاب جملتها. قوله صلى الله عليه وسلم: "فانطلق إلى أحدهم بادي الرأي فقتله" بادئ بالهمز وتركه فمن همزه معناه أول الرأي وابتداؤه أي انطلق إليه مسارعاً إلى قتله من غير فكر، ومن لم يهمز فمعناه ظهر له رأي في قتله من البدء وهو ظهور رأي لم يكن قال القاضي ويمد البدء ويقصر. قوله صلى الله عليه وسلم: "رحمة الله علينا وعلى موسى قال وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء بدأ بنفسه رحمة الله علينا وعلى أخي كذا رحمة الله علينا" قال أصحابنا: فيه استحباب ابتداء الإنسان بنفسه في الدعاء وشبهه من أمور الاَخرة. وأما حظوظ الدنيا فالأدب فيها الإيثار وتقديم غيره على نفسه. واختلف العلماء في الابتداء في عنوان الكتاب، فالصحيح الذي قاله كثيرون من السلف وجاء به الصحيح أنه يبدأ بنفسه فيقدمها على المكتوب إليه فيقال من فلان إلى فلان، ومنه حديث كتاب النبي صلى الله عليه وسلم من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم. وقالت طائفة: يبدأ بالمكتوب إليه فيقول إلى فلان من فلان، قالوا: إلا أن يكتب الأمير إلى من دونه أو السيد إلى عبده أو الوالد إلى ولده ونحو هذا. قوله صلى الله عليه وسلم: "لكن أخذته من صاحبه ذمامة" هي بفتح الذال المعجمة أي استحياء لتكرار مخالفته وقيل ملامة والأول هو المشهور. قوله: (وأما الغلام فطبع يوم طبع كافراً) قال القاضي: في هذا حجة بينة لأهل السنة لصحة أصل مذهبهم في الطبع والرين والأكنة والأغشية والحجب والسد وأشباه هذه الألفاظ الواردة في الشرع في أفعال الله تعالى بقلوب أهل الكفر والضلال، ومعنى ذلك عندهم خلق الله تعالى فيها ضد الإيمان وضد الهدى، وهذا على أصل أهل السنة أن العبد لا قدرة له إلا ما أراده الله تعالى ويسره له وخلقه له، خلافاً للمعتزلة والقدرية القائلين بأن للعبد فعلاً من قبل نفسه وقدرة على الهدى والضلال والخير والشر والإيمان والكفر، وأن معنى هذه الألفاظ نسبة الله تعالى لأصحابها وحكمه عليهم بذلك. وقالت طائفة منهم معناها خلقه علامة لذلك في قلوبهم، والحق الذي لا شك فيه أن الله تعالى يفعل ما يشاء من الخير والشر لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وكما قال تعالى في الذر هؤلاء للجنة ولا أبالي وهؤلاء للنار ولا أبالي، فالذين قضى لهم بالنار طبع على قلوبهم وختم عليها وغشاها وأكنها وجعل من بين أيديها سداً ومن خلفها سداً وحجاباً مستوراً، وجعل في آذانهم وقراً وفي قلوبهم مرضاً لتتم سابقته فيهم وتمضي كلمته لا راد لحكمه ولا معقب لأمره وقضائه وبالله التوفيق. وقد يحتج بهذا الحديث من يقول أطفال الكفار في النار وقد سبق بيان هذه المسألة، وأن فيهم ثلاثة مذاهب الصحيح أنهم في الجنة والثاني في النار والثالث يتوقف عن الكلام فيهم فلا يحكم لهم بشيء وتقدمت دلائل الجميع، وللقائلين بالجنة أن يقولوا في جواب هذا الحديث معناه علم الله لو بلغ لكان كافراً. قوله: (وكان أبواه قد عطفا عليه فلو أدرك أرهقهما طغياناً وكفراً) أي حملهما عليهما وألحقهما بهما والمراد بالطغيان هنا الزيادة في الضلال، وهذا الحديث من دلائل مذهب أهل الحق في أن الله تعالى أعلم بما كان وبما يكون وبما لا يكون لو كان كيف كان يكون، ومنه قوله تعالى: {ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه} وقوله تعالى: {ولو نزلنا عليك كتاباً في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا} الاَية. وقوله تعالى: {ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً وللبسنا عليهم} وغير ذلك من الاَيات. قوله تعالى: {خيراً منه زكاة وأقرب رحماً} قيل: المراد بالزكاة الإسلام، وقيل الصلاح. وأما الرحم فقيل معناه الرحمة لوالديه وبرهما، وقيل المراد يرحمانه، قيل أبدلهما الله بنتاً صالحة، وقيل ابناً حكاه القاضي.
قوله: (تمارى هو والحر بن قيس) أي تنازعا وتجادلا، والحر بالحاء والراء، وفي هذه القصة أنواع من القواعد والأصول والفروع والاَداب والنفائس المهمة سبق التنبيه على معظمها سوى ما هو ظاهر منها ومما لم يسبق أنه لا بأس على العالم، والفاضل أن يخدمه المفضول ويقضي له حاجة، ولا يكون هذا من أخذ العوض على تعليم العلم والاَداب بل من مروءات الأصحاب وحسن العشرة، ودليله من هذه القصة حمل فتاه غداءهما وحمل أصحاب السفينة موسى والخضر بغير أجرة لمعرفتهم الخضر بالصلاح والله أعلم. ومنها الحث على التواضع في علمه وغيره وأنه لا يدعي أنه أعلم الناس، وأنه إذا سئل عن أعلم الناس يقول الله أعلم. ومنها بيان أصل عظيم من أصول الإسلام وهو وجوب التسليم لكل ما جاء به الشرع وإن كان بعضه لا تظهر حكمته للعقول ولا يفهمه أكثر الناس وقد لا يفهمونه كلهم كالقدر موضع الدلالة قتل الغلام وخرق السفينة فإن صورتهما صورة المنكر وكان صحيحاً في نفس الأمر له حكم بينة لكنها لا تظهر للخلق فإذا أعلمهم الله تعالى بها علموها ولهذا قال: وما فعلته عن أمري يعني بل بأمر الله تعالى