كتاب التوبة
 *1* كتاب التوبة
*2* باب في الحض على التوبة والفرح بها
*حدّثني سُوَيْدُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ. حَدّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: أَنَا عِنْدَ ظَنّ عَبْدِي بِي. وَأَنَا مَعَهُ حَيْثُ يَذْكُرُنِي. وَاللّهِ للّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ يَجِدُ ضَالّتَهُ بِالْفَلاَةِ. وَمَنْ تَقَرّبَ إِلَيّ شِبْراً، تَقَرّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً. وَمَنْ تَقَرّبَ إِلَيّ ذِرَاعاً، تَقَرّبْتُ إِلَيْهِ بَاعاً. وَإِذَا أَقْبَلَ إِلَيّ يَمْشِي، أَقْبَلْتُ إِلَيْهِ أُهَرْوِلُ".
حدّثني عَبْدُ اللّهِ بْنُ مُسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ الْقعْنَبِيّ. حَدّثَنَا الْمُغِيرَةُ (يَعْنِي ابْنَ عَبْدِ الرّحْمَنِ الْحِزَامِيّ) عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "للّهُ أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ، مِنْ أَحَدِكُمْ بِضَالّتِهِ، إِذَا وَجَدَهَا".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. حَدّثَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمّامِ بْنِ مُنَبّةٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَاهُ.
حدّثنا عُثْمَانَ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ واللّفْظُ لِعُثْمَانَ (قَالَ إِسْحقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدّثَنَا) جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ الْحَارِثِ ابْنِ سُوَيْدٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَىَ عَبْدِ اللّهِ أَعُودُهُ وَهُوَ مَرِيضٌ. فَحَدّثَنَا بِحَدِيثَيْنِ: حَدِيثاً عَنْ نَفْسِهِ وَحَدِيثاً عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لله أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ، مِنْ رَجُلٍ فِي أَرْضٍ دَوّيّةٍ مَهْلِكَةٍ. مَعَهُ رَاحِلَتُهُ. عَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرابُهُ. فَنَامَ فَاسْتَيْقَظَ وَقَدْ ذَهَبَتْ. فَطَلَبَهَا حَتّىَ أَدْرَكَهُ الْعَطَشُ. ثُمّ قَالَ: أَرْجِعُ إِلَىَ مَكَانِيَ الّذِي كُنْتُ فِيهِ. فَأَنَامُ حَتّىَ أَمُوتَ. فَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَىَ سَاعِدِهِ لِيَمُوتَ. فَاسْتَيْقَظَ وَعِنْدَهُ رَاحِلَتُهُ وَعَلَيْهَا زَادُهُ وَطَعامُهُ وَشَرَابُهُ. فَاللّهُ أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ مِنْ هَذَا بِرَاحِلَتِهِ وَزَادِهِ".
وحدّثناه أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا يَحْيَىَ بْنُ آدَمَ عَنْ قُطْبَةَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ الأَعْمَشِ بِهَذَا الإِسْنَادِ. وَقَالَ: "مِنْ رَجُلٍ بِدَاوِيّةٍ مِنَ الأَرْضِ".
وحدّثني إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ. حَدّثَنَا الأَعمَشُ. حَدّثَنَا عُمَارَةُ ابْنُ عُمَيْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيدٍ قَالَ: فحَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بِحَدِيثَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَالاَخَرُ عَنْ نَفْسِهِ. فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "للّهُ أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ" بِمِثْلِ حَدِيثِ جَرِيرٍ.
حدّثنا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا أَبُو يُونُسَ عَنْ سِمَاكٍ قَالَ: خَطَبَ النّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ فَقَالَ: "للّهُ أَشَدّ فَرَحَاً بِتَوبَةِ عَبْدِهِ مِنْ رَجُلٍ حَمَلَ زَادَهُ وَمَزَادَهُ عَلَى بَعِيرٍ. ثُمّ سَارَ حَتّى كَانَ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ، فأَدْرَكَتْهُ الْقَائِلَةُ. فَنَزَلَ فَقَالَ تحْتَ شَجَرَةٍ. فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ. وَانْسَلّ بَعِيرُهُ. فَاسْتَيْقَظَ فَسَعَى شَرَفاً فَلَمْ يَرَ شَيْئاً. ثُمّ سَعَىَ شَرَفاً ثَانِياً فَلَمْ يَرَ شَيْئاً. ثُمّ سَعَى شَرَفَاً ثَالِثاً فَلَمْ يَرَ شَيْئاً. فَأَقْبَلَ حَتّى أَتَى مَكَانَهُ الّذِي قَالَ فِيهِ. فَبَيْنَمَا هُوَ قَاعِدٌ إِذْ جَاءَهُ بَعِيْرُهُ يَمْشِي. حَتّى وَضَعَ خِطَامَهُ فِي يَدِهِ. فَللّهُ أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ، مِنْ هَذَا حِينَ وَجَدَ بَعِيرَهُ عَلَى حَالِهِ".
قَالَ سِمَاكٌ: فَزَعَمَ الشّعْبِيّ، أَنّ النّعْمَانَ رَفَعَ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. وَأَمّا أَنَا فَلَمْ أَسْمَعْهُ.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ جَعْفَرُ بْنُ حُمَيْدٍ (قَالَ جَعْفَرٌ: حَدّثَنَا. وَقَالَ يَحْيَىَ: أَخْبَرَنَا) عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ إِيَادِ بْنِ لَقِيطٍ عَنْ إِيَادٍ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "كَيْفَ تَقُولُونَ بِفَرَحِ رَجُلٍ انْفَلَتَتْ مِنْهُ رَاحِلَتُهُ. تَجُرّ زِمَامَهَا بِأَرْضٍ قَفْرٍ لَيْسَ بِهَا طَعَامٌ وَلاَ شَرَابٌ. وَعَلَيْهَا لَهُ طَعَامٌ وَشَرابٌ. فَطَلَبَهَا حَتّى شَقّ عَلَيْهِ. ثُمّ مَرّتْ بِجِذْلِ شَجَرَةٍ فَتَعَلّقَ زِمَامُهَا. فَوَجَدَهَا مُتَعَلّقَةً بِهِ؟" قُلْنَا: شَدِيداً. يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمَا، وَاللّهِ للّهُ أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، مِنَ الرّجُلِ بِرَاحِلَتِهِ".
قَالَ جَعْفَرٌ: حَدّثَنَا عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ إِيَادٍ عَنْ أَبِيهِ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الصّبّاحِ وَ زُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا عُمْرُ بْنُ يُونُسَ. حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ. حَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ. حَدّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ وَهُوَ عَمّهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "للّهُ أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ، حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ، مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَىَ رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلاَةٍ. فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ. وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ. فَأَيِسَ مِنْهَا. فَأَتَى شَجَرَةً. فَاضْطَجَعَ فِي ظِلّهَا. قَدْ أَيِسَ مِنْ رَاحِلَتِهِ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذَا هُوَ بِهَا، قَائِمَةً عِنْدَهُ. فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا. ثُمّ قَالَ مِنْ شِدّةِ الْفَرَحِ: اللّهُمّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبّكَ. أَخْطَأَ مِنْ شِدّةِ الْفَرَحِ".
حدّثنا هَدّابُ بْنُ خَالِدٍ. حَدّثَنَا هَمّامٌ. حَدّثَنَا قُتَادَةُ عَنْ أَنْسِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "للّهُ أَشَدّ فَرَحاً بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ إِذَا اسْتَيْقَظَ عَلَىَ بَعِيرِهِ، قَدْ أَضَلّهُ بِأَرْضِ فَلاَةٍ".
وحدّثنيهِ أَحْمَدُ الدّارِمُيّ. حَدّثَنَا حَبّانُ. حَدّثَنَا هَمّامٌ. حَدّثَنَا قَتَادَةُ. حَدّثَنَا أَنْسُ بْنُ مَالِكٍ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِهِ.
أصل التوبة في اللغة الرجوع، يقال تاب وثاب بالمثلثة وآب بمعنى رجع، والمراد بالتوبة هنا الرجوع عن الذنب، وقد سبق في كتاب الإيمان أن لها ثلاثة أركان: الإقلاع والندم على فعل تلك المعصية والعزم على أن لا يعود إليها أبدا، فإن كانت المعصية لحق آدمي فلها ركن رابع وهو التحلل من صاحب ذلك الحق وأصلها الندم وهو ركنها الأعظم، واتفقوا على أن التوبة من جميع المعاصي واجبة وأنها واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها سواء كانت المعصية صغيرة أو كبيرة، والتوبة من مهمات الإسلام وقواعده المتأكدة، ووجوبها عند أهل السنة بالشرع وعند المعتزلة بالعقل، ولا يجب على الله قبولها إذا وجدت بشروطها عقلاً عند أهل السنة، لكنه سبحانه وتعالى يقبلها كرما وفضلاً وعرفنا قبولها بالشرع والإجماع خلافا لهم، وإذا تاب من ذنب ثم ذكره هل يجب تجديد الندم؟ فيه خلال لأصحابنا وغيرهم من أهل السنة، قال ابن الأنباري: يجب، وقال إمام الحرمين: لا يجب، وتصح التوبة من ذنب وإن كان مصرا على ذنب آخر، وإذا تاب توبة صحيحة بشروطها ثم عاود ذلك الذنب كتب عليه ذلك الذنب الثاني ولم تبطل توبته، هذا مذهب أهل السنة في المسألتين وخالفت المعتزلة فيهما، قال أصحابنا: ولو تكررت التوبة ومعاودة الذنب صحت، ثم توبة الكافر من كفره مقطوع بقبولها وما سواها من أنواع التوبة هل قبولها مقطوع به أم مظنون؟ فيه خلاف لأهل السنة، واختار إمام الحرمين أنه مظنون وهو الأصح والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "قال الله تعالى أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني ومن تقرب إلي شبرا" الخ، هذا القدر من الحديث سبق شرحه واضحا في أول كتاب الذكر ووقع في النسخ هنا حيث يذكرني بالثاء المثلثة، ووقع في الأحاديث السابقة هناك حين بالنون وكلاهما من رواية أبي هريرة وبالنون هو المشهور وكلاهما صحيح ظاهر المعنى. قوله صلى الله عليه وسلم: "لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم يجد ضالته بالفلاة" قال العلماء: فرح الله تعالى هو رضاه، وقال المازري: الفرح ينقسم على وجوه منها السرور والسرور يقاربه الرضا بالمسرور به، قال: فالمراد هنا أن الله تعالى يرضى توبة عبده أشد مما يرضى واجد ضالته بالفلاة، فعبر عن الرضا بالفرح تأكيدا لمعنى الرضا في نفس السامع ومبالغة في تقريره.
قوله صلى الله عليه وسلم: "في أرض دوية مهلكة" أما دوية فاتفق الواو والياء جميعا، وذكر مسلم في الرواية التي بعد هذه رواية أبي بكر بن أبي شيبة أرض داود بزيادة ألف وهي بتشديد الياء أيضا وكلاهما صحيح، قال أهل اللغة: الدوية الأرض القفر والفلاة الخالية، قال الخليل: هي المفازة، قالوا: ويقال دوية وداوية فأما الدوية فمنسوب إلى الدو بتشديد الواو وهي البرية التي لا نبات بها، وأما الداوية فهي على إبدال إحدى الواوين ألفا كما قيل في النسب إلى طي طائي، وأما المهملة فهي بفتح الميم وبفتح اللام وكسرها وهي موضع خوف الهلاك ويقال لها مفازة قيل إنه من قولهم فوز الرجل إذا هلك، وقيل على سبيل التفاؤل بفوزه ونجاته منها كما يقال للديغ سليم. قوله: (دخلت على عبد الله أعوده وهو مريض فحدثنا بحديثين حديثا عن نفسه وحديثا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) ثم ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر حديث عبد الله عن نفسه. وقد ذكر البخاري في صحيحه والترمذي وغيرهما وهو قوله: (المؤمن يرى ذنوبه كأنه قاعد تحت جبل يخاف أن يقع عليه، والفاجر يرى ذنوبه كذباب مر على أنفه فقال به هكذا). قوله في رواية أي بن أبي شيبة: (من رجل بداوية) هكذا هو في النسخ من رجل بالنون وهو الصواب، قال القاضي: ووقع في بعضها مر رجل بالراء وهو تصحيف لأن مقصود مسلم أن يبين الخلاف في دوية وداوية، وأما لفظة من فمتفق عليها في الروايتين ولا معنى للراء هنا.
قوله: (حمل زاده ومزاده) هو بفتح الميم قال القاضي: كأنه اسم جنس للمزادة وهي القربة العظيمة سميت بذلك لأنه يزاد فيها من جلد آخر. قوله: (وانسل بعيره) أي ذهب في خفية. قوله: (فسعى شرفا فلم ير شيئا) قال القاضي: يحتمل أنه أراد بالشرف هنا الطلق والغلوة كما في الحديث الاَخر: (فاستنت شرفا أو شرفين) قال: ويحتمل أن المراد هنا الشرف من الأرض لينظر منه هل يراها؟ قال: وهذا أظهر. قوله صلى الله عليه وسلم: "مر بجذل شجرة" هو بكسر الجيم وفتحها وبالذال المعجمة وهو أصل الشجرة القائم. قوله: (قلنا شديدا) أي نراه فرحا شديدا أو يفرح فرحا شديدا.
قوله: (حدثنا يحيى بن يحيى وجعفر ابن حميد) هكذا صوابه ابن حميد وقد صحف في بعض النسخ، قال الحافظ: وليس لمسلم في صحيحه عن جعفر هذا غير هذا الحديث.
قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس من رواية هداب بن خالد: "لله أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم إذا استيقظ على بعيره قد أضله بأرض فلاة" هكذا هو في جميع النسخ إذا استيقظ على بعيره، وكذا قال القاضي عياض أنه اتفقت عليه رواة صحيح مسلم قال: قال بعضهم وهو وهم وصوابه إذا سقط على بعيره أي وقع عليه وصادفه من غير قصد. قال القاضي: وقد جاء في الحديث الاَخر عن ابن مسعود قال: (فأرجع إلى المكان الذي كنت فيه فأنام حتى أموت فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ وعنده راحلته) وفي كتاب البخاري: "فنام نومة فرفع رأسه فإذا راحلته عنده" قال القاضي: وهذا يصحح رواية استيقظ، قال: ولكن وجه الكلام وسياقه يدل على سقط كما رواه البخاري. قوله: (أضله بأرض فلاة) أي فقده.
*2* باب سقوط الذنوب بالاستغفار، توبة
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا لَيْثٌ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ قَيْسٍ، قَاض عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، عَنْ أَبِي صِرْمَةَ، عَنْ أَبِي أَيّوبَ أَنّهُ قَالَ: حِينَ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ: كُنْتُ كَتَمْتُ عَنْكُمْ شَيْئاً سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَوْلاَ أَنّكُمْ تُذْنِبُونَ لَخَلَقَ اللّهُ خَلْقاً يُذْنِبُونَ، يَغْفِرُ لَهُمْ".
حدّثنا هَرُونَ بْنُ سَعِيدٍ الأَيْلِيّ. حَدّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ. حَدّثَنِي عِيَاضٌ (وَهُوَ ابْنُ عَبْدِ اللّهِ الْفِهْرِيّ). حَدّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاَعَةَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، عَنْ أَبِي صِرْمَةَ، عَنْ أَبِي أَيّوبَ الأَنْصَارِيّ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "لَوْ أَنّكُمْ لَمْ تَكُنْ لَكُمْ ذُنُوبٌ، يَغْفِرُهَا اللّهُ لَكُمْ، لَجَاءَ اللّهُ بِقَوْمٍ لَهُمْ ذُنُوبٌ، يَغْفِرُهَا لَهُمْ".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ جَعْفَرٍ الْجَزَرِيّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الأَصَمّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللّهَ، فَيَغْفِرُ لَهُمْ".
قوله: (عن محمد بن قيس قاص عمر بن عبد العزيز) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا قاص بالصاد المهملة المشددة من القصص، قال القاضي عياض: ورواه بعضهم قاضي بالضاد المعجمة والياء والوجهان مذكوران فيه ممن ذكرهما البخاري في التاريخ وروى عنه قال: كنت قاصا لعمر بن عبد العزيز وهو أمير بالمدينة. قوله: (عن أبي أيوب أنه قال حين حضرته الوفاة كنت كتمت عنكم شيئا) إنما كتمه أولاً مخافة اتكالهم على سعة رحمة الله تعالى وانهماكهم في المعاصي، وإنما حدث به عند وفاته لئلا يكون كاتما للعلم، وربما لم يكن أحد يحفظه غيره فتعين عليه أداؤه وهو نحو قوله في الحديث الاَخر: فأخبر بها معاذ عند موته تأثما أي خشية الإثم بكتمان العلم، وقد سبق شرحه في كتاب الإيمان والله أعلم.
*2* باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الاَخرة، والمراقبة وجواز ترك ذلك في بعض الأوقات، والاشتغال بالدنيا
* حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ التّيْمِيّ وَ قَطَنُ بْنُ نُسَيْرٍ (واللّفْظُ لِيَحْيَى). أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِيَاسٍ الْجُرَيْرِيّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النّهْدِيّ، عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيّدِيّ قَالَ: (وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم) قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللّهِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. يُذَكّرُنَا بِالنّارِ وَالْجَنّةِ. حَتّىَ كَأَنّا رَأْيَ عَيْنٍ. فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضّيْعَاتِ. فَنَسِينَا كَثِيراً. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللّهِ إِنّا لَنَلْقَىَ مِثْلَ هَذَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حَتّىَ دَخَلْنَا عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. يَا رَسُولَ اللّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ "وَمَا ذَاكَ؟" قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ نَكُونُ عِنْدَكَ. تُذَكّرُنَا بِالنّارِ وَالْجَنّةِ. حَتّىَ كَأَنّا رَأْيُ عَيْنٍ. فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلاَدَ وَالضّيْعَاتِ. نَسِينَا كَثِيراً. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "وَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَىَ مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ عَلَىَ فُرُشِكُمْ، وَفِي طُرُقِكُمْ. وَلَكِنْ، يَا حَنْظَلَةُ سَاعةً وَسَاعةً" ثَلاَثَ مَرّاتٍ.
حدّثني إِسْحَقُ بْنُ مَنْصُورٍ. أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصّمَدِ. سَمِعْتُ أَبِي يْحَدّثُ. حَدّثَنَا سَعِيدٌ الْجُرَيْرِيّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النّهْدِيّ، عَنْ حَنْظَلَةَ قَالَ: كُنّا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَوَعَظَنَا فَذَكّرَ النّارَ. قَالَ: ثُمّ جِئْتُ إِلَىَ الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصّبْيَانَ وَلاَعَبْتُ الْمَرْأَةَ. قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ. فَلَقِينَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ. فَقَالَ: "مَهْ" فَحَدّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ. فَقَالَ "يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً. وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ، حَتّىَ تُسَلّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطّرُقِ".
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعِيدٍ الْجُرَيْرِيّ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ النّهْدِيّ، عَنْ حَنْظَلَةَ التّمِيْمِيّ الأُسَيّدِيّ، الْكَاتِبِ قَالَ: كُنّا عِنْدَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَذَكّرَنَا الْجَنّةَ وَالنّارَ. فَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِهِمَا.
قوله: (قطن بن نسير) بضم النون وفتح السين. قوله: (عن حنظلة الأسيدي) ضبطوه بوجهين: أصحهما وأشهرهما ضم الهمزة وفتح السين وكسر الباء المشددة، والثاني كذلك إلا أنه بإسكان الياء ولم يذكر القاضي إلا هذا الثاني وهو منسوب إلى بني أسيد بطن من بني تميم. قوله: (وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا، وذكره القاضي عن بعض شيوخهم كذلك وعن أكثرهم وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكلاهما صحيح لكن الأول أشهر في الرواية وأظهر في المعنى، وقد قال في الرواية التي بعد هذه عن حنظلة الكاتب. قوله: (يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين) قال القاضي: ضبطناه رأي عين بالرفع أي كأنا بحال من يراها بعينه، قال: ويصح النسب على المصدر أي نراها رأي عين. قوله: (عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات) هو بالفاء والسين المهملة، قال الهروي وغيره: معناه حاولنا ذلك ومارسناه واشتغلنا به أي عالجنا معايشنا وحظوظنا، والضيعات جمع ضيعة بالضاد المعجمة وهي معاش الرجل من مال أو حرفة أو صناعة، وروى الخطابي هذا الحرف عانسنا بالنون قال ومعناه لاعبنا، ورواه ابن قتيبة بالشين المعجمة قال: ومعناه عانقنا والأول هو المعروف وهو أعم. قوله: (نافق حنظلة) معناه أنه خاف أنه منافق حيث كان يحصل له الخوف في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم ويظهر عليه ذلك مع المراقبة والفكر والإقبال على الاَخرة، فإذا خرج اشتغل بالزوجة والأولاد ومعاش الدنيا، وأصل النفاق إظهار ما يكتم خلافه من الشر فخاف أن يكون ذلك نفاقا فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس بنفاق وأنهم لا يكلفون الدوام على ذلك، وساعة ساعة أي ساعة كذا وساعة كذا. قوله: (فقلت: يا رسول الله نافق حنظلة فقال مه) قال القاضي: معناه الاستفهام أي ما تقول والهاء هنا هي هاء السكت، قال: ويحتمل أنها للكف والزجر والتعظم لذلك.
*2* باب في سعة رحمة اللّهِ تعالى، وأنها سبقت غضبه
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ. حَدّثَنَا الْمُغِيرةُ (يَعْنِي الْحِزَامِيّ) عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "لَمّا خَلَقَ اللّهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابِهِ، فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي".
حدّثني زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: سَبَقَتْ رَحْمَتِي غَضَبِي".
حدّثنا عَلِيّ بْنُ خَشْرَمٍ. أَخْبَرَنَا أَبُو ضَمْرَةَ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ مِيْنَاءَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَمّا قَضَى اللّهُ الْخَلْقَ، كَتَبَ فِي كِتَابِهِ عَلَىَ نَفْسِهِ، فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ: إِنّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي".
حدّثنا حَرْمَلَةُ بْنُ يَحْيَىَ التّجِيبِي. أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيّبِ أَخْبَرَهُ أَنّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "جَعَلَ اللّهُ الرّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ. فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ. وَأَنْزَلَ فِي الأَرْضِ جُزْءاً وَاحِداً. فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلاَئِقُ. حَتّىَ تَرْفَعَ الدّابّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا، خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ حُجْرٍ. قَالُوا: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ (يَعْنُونَ ابْنَ جَعْفَرٍ) عَنِ الْعَلاَءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "خَلَقَ اللّهُ مِائَةَ رَحْمَةٍ. فَوَضَعَ وَاحِدَةً بَيْنَ خَلْقِهِ. وَخَبَأَ عِنْدَهُ مِائَةً، إِلاّ وَاحِدَةً".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ للّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ. أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنّ وَالإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامّ. فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ. وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ. وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَىَ وَلَدِهَا. وَأَخّرَ اللّهُ تِسْعاً وَتِسْعِينَ رَحْمَةً. يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
حدّثني الْحَكَمُ بْنُ مُوسَى. حَدّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ. حَدّثَنَا سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ. حَدّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ النّهْدِيّ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسيّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم "إِنّ للّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ. فَمِنْهَا رَحْمَةٌ بِهَا يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ بَيْنَهُمْ. وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ".
وحدّثناه مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى. حَدّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
حدّثنا ابْنُ نُمَيْرٍ. حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِندٍ، عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ اللّهَ خَلَقَ، يَوْمَ خَلَقَ السّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، مِائَةَ رَحْمَةٍ، كُلّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السّمَاءِ وَالأَرْضِ. فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الأَرْضِ رَحْمَةً. فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَىَ وَلَدِهَا. وَالْوَحْشُ وَالطّيْرُ بَعْضُهَا عَلَىَ بَعْضٍ. فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرّحْمَةِ".
حدّثني الْحَسَنُ بْنُ عَلِيَ الْحُلْوَانِيّ وَ مُحَمّدُ بْنُ سَهْلٍ التّيْمِيّ (واللّفْظُ لِحَسَنٍ). حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ. حَدّثَنَا أَبُو غَسّانَ. حَدّثَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ أَنّهُ قَالَ: قَدِمَ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِسَبْيٍ. فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنَ السّبْيِ، تَبْتَغِي، إِذَا وَجَدَتْ صَبِيّا فِي السّبْيِ، أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ. فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتَرَوْنَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النّارِ؟" قُلْنَا: لاَ. وَاللّهِ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَىَ أَنْ لاَ تَطْرَحَهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لله أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا".
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ أَيّوبَ وَ قُتَيْبَةُ وَ ابْنُ حُجْرٍ. جَمِيعاً عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ جَعْفَرٍ. قَالَ ابْنُ أَيّوبَ: حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ. أَخْبَرَنِي الْعَلاَءُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ، مَا طَمِعَ بِجَنّتِهِ أَحَدٌ. وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللّهَ مِنَ الرّحْمَةِ، مَا قَنِطَ مِنْ جَنّتِهِ أَحَدٌ".
حدّثني مُحَمّدُ بْنُ مَرْزُوقِ بْنِ بِنْتِ مَهْدِيّ بْنِ مَيمُونٍ. حَدّثَنَا رَوْحٌ. حَدّثَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "قَالَ رَجُلٌ، لَمْ يَعْمَلْ حَسَنَةً قَطّ، لأَهْلِهِ: إِذَا مَاتَ فَحَرّقُوهُ. ثُمّ اذْرُوا نِصْفَهُ فِي الْبَرّ وَنِصْفَهُ فِي الْبَحْرِ. فَوَاللّهِ لَئِنْ قَدَرَ اللّهُ عَلَيْهِ لَيُعَذّبَنّهُ عَذَاباً لاَ يُعَذّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ. فَلَمّا مَاتَ الرّجُلُ فَعَلُوا مَا أَمَرَهُمْ. فَأَمَرَ اللّهُ الْبَرّ فَجَمَعَ مَا فِيهِ. وَأَمَرَ الْبَحْرَ فَجَمَعَ مَا فِيهِ. ثُمّ قَالَ: لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ. يَا رَبّ وَأَنْتَ أَعْلَمُ. فَغَفَرَ اللّهُ لَهُ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ(قَالَ عَبْدٌ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ ابْنُ رَافِعٍ وَاللّفْظُ لَهُ حَدّثَنَا) عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ قَالَ: قَالَ لِي الزّهْرِيّ: أَلاَ أُحَدّثُكَ بِحَدِيثَيْنِ عَجِيبَيْنِ؟ قَالَ الزّهْرِيّ: أَخْبَرنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَسْرَفَ رَجُلٌ عَلَىَ نَفْسِهِ. فَلَمّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَوْصَىَ بَنِيهِ فَقَالَ: "إِذَا أَنَا مُتّ فَأَحْرِقُونِي. ثُمّ اسْحَقُونِي. ثُمّ اذْرُونِي فِي الرّيحِ فِي الْبَحْرِ. فَوَاللّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيّ رَبّي، لَيُعَذّبُنِي عَذَاباً مَا عَذّبَهُ بِهِ أَحَداً. قَالَ: فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ. فَقَالَ لِلأَرْضِ: أَدّي مَا أَخَذْتِ. فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ. فَقَالَ لَهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَىَ مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: خَشْيَتُكَ. يَا رَبّ. أَوْ قَالَ مَخَافَتُكَ. فَغَفَرَ لَهُ بِذَلِكَ".
قَالَ الزّهْرِيّ: وَحَدّثَنِي حُمَيْدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النّارَ فِي هِرّةٍ رَبَطَتْهَا. فَلاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا. وَلاَ هِيَ أَرْسَلَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ. حَتّىَ مَاتَتْ هَزْلاً".
قَالَ الزّهْرِيّ: ذَلِكَ، لِئَلاّ يَتّكِلَ رَجُلٌ، وَلاَ يَيْأَسَ رَجُلٌ.
حدّثني أَبُو الرّبِيعِ، سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنِي الزّبَيْدِيّ. قَالَ الزّهْرِيّ: حَدّثَنِي حُمَيدُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ "أَسْرَفَ عَبْدٌ عَلَى نَفْسِهِ" بِنَحْوِ حَدِيثِ مَعْمَرٍ. إِلَى قَوْلِهِ "فَغَفَرَ اللّهُ لَهُ".
وَلَمْ يَذْكُرْ حَدِيثَ الْمَرْأَةِ فِي قِصّةِ الْهِرّةِ.
وَفِي حَدِيثِ الزّبَيْدِيّ قَالَ: "فَقَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ، لِكُلّ شَيْءٍ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئاً: أَدّ مَا أَخَذْتَ مِنْهُ".
حدّثني عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ. حَدّثَنَا أَبِي. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ سَمِعَ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ الْغَافِرِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ يُحَدّثُ عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أَنّ رَجُلاً فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَاشَهُ اللّهُ مَالاً وَوَلَداً. فَقَالَ لِوَلَدِهِ: لَتَفْعَلُنّ مَا آمُرُكُمْ بِهِ. أَوْ لأُوَلّيَنّ مِيرَاثِي غَيْرَكُمْ. إِذَا أَنَا مُتّ، فَأَحْرِقُونِي (وَأَكْثَرُ عِلْمِي أَنّهُ قَالَ) ثُمّ اسْحَقُونِي. وَاذْرُونِي فِي الرّيحِ. فَإِنّي لَمْ أَبْتَهِرْ عِنْدَ اللّهِ خَيْراً، وَإِنّ اللّهَ يَقْدِرُ عَلَيّ أَنْ يُعَذّبَنِي. قَالَ: فَأَخَذَ مِنْهُمْ مِيثَاقاً. فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ. وَرَبّي فَقَالَ اللّهُ: مَا حَمَلَكَ عَلَىَ مَا فَعَلْتَ؟ فَقَالَ مَخَافَتُكَ. قَالَ: فَمَا تَلاَفَاهُ غَيْرُهَا".
وحدّثناه يَحْيَىَ بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيّ. حَدّثَنَا مُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: قَالَ لِي أَبِي: حَدّثَنَا قَتَادَةُ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى. حَدّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ. ح وَحَدّثَنَا ابْنُ الْمُثَنّى. حَدّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ. حَدّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ. كِلاَهُمَا عَنْ قَتَادَةَ ذَكَرُوا جَمِيعاً بِإِسْنَادِ شُعْبَةَ نَحْوَ حَدِيثِهِ. وفِي حَدِيثِ شَيْبَانَ وَأَبِي عَوَانَةَ: "أَنّ رَجُلاً مِنَ النّاسِ رَغَسَهُ اللّهُ مَالاً وَوَلَداً".
وَفِي حَدِيثِ التّيْمِيّ: "فَإِنّهُ لَمْ يَبْتَئِرْ عِنْدَ اللّهِ خَيْراً" قَالَ فَسّرَهَا قَتَادَةُ: لَمْ يَدّخِرْ عِنْدَ اللّهِ خَيْراً. وفِي حَدِيثِ شَيْبَانَ: "فَإِنّهُ. وَاللّهِ مَا ابْتَأَرَ عِنْدَ اللّهِ خَيْراً". وَفِي حَدِيثِ أَبِي عَوَانَةَ: "مَا امْتَأَرَ" بِالْمِيمِ.
قوله تعالى: {إن رحمتي تغلب غضبي} وفي رواية: "سبقت رحمتي غضبي" قال العلماء: غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة فإدارته الإثابة للمطيع، ومنفعة العبد تسمى رضا ورحمة وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضبا وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها جميع المرادات. قالوا: والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمورها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "جعل الله الرحمة مائة جزء إلى آخره" هذه الأحاديث من أحاديث الرجاء والبشارة للمسلمين، قال العلماء: لأنه إذا حصل للإنسان من رحمة واحدة في هذه الدار المبنية على الأكدار والإسلام والقرآن والصلاة والرحمة في قلبه وغير ذلك مما أنعم الله تعالى به فكيف الظن بمائة رحمة في الدار الاَخرة وهي دار القرار ودار الجزاء والله أعلم. هكذا وقع في نسخ بلادنا جميعا جعل الله الرحمة مائة جزء. وذكر القاضي جعل الله الرحم بحذف الهاء وبضم الراء قال ورويناه بضم الراء ويجوز فتحها ومعناه الرحمة.
قوله: "فإذا امرأة من السبي تبتغي" هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم تبتغي من إِلابتغاء وهو الطلب، قال القاضي عياض: وهذا وهم والصواب ما في رواية البخاري تسعى بالسن من السعي، قلت: كلاهما صواب لا وهم فيه فهي ساعية وطالبة مبتغية لابنها والله أعلم.
قوله صلى الله عليه وسلم: "في الرجل الذي لم يعمل حسنة أوصي بنيه أن يحرقوه ويذروه في البحر والبر وقال: فوالله لئن قدر علي ربي ليعذبني ما عذبه أحدا، ثم قال في آخره: لم فعلت هذا؟ قال: من خشيتك يا رب وأنت أعلم فغفر له" اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث فقالت طائفة: لا يصح حمل هذا على أنه أراد نفي قدرة الله فإن الشاك في قدرة الله تعالى كافر، وقد قال في آخر الحديث أنه إنما فعل هذا من خشية الله تعالى والكافر لا يخشى الله تعالى ولا يغفر له، قال هؤلاء: فيكون له تأويلان: أحدهما أن معناه لئن قدر علي العذاب أي قضاه يقال منه قدر بالتخفيف وقد بالتشديد بمعنى واحد. والثاني أن قدر هنا بمعنى ضيق علي قال الله تعالى فقدر عليه رزقه وهو أحد الأقوال في قوله تعالى: {فظن أن لن نقدر عليه} وقالت طائفة: اللفظ على ظاهره ولكن قاله هذا الرجل وهو غير ضابط لكلامه ولا قاصد لحقيقة معناه ومعتقد لها، بل قاله في حالة غلب عليه فيها الده 5 والخوف وشدة الجزع بحيث هب تيقظه وتدبر ما يقوله فصار في معنى الغافل والناسي، وهذه الحالة لا يؤاخذ فيها وهو نحو قول القائل الاَخر الذي غلب عليه الفرح حين وجد راحلته أنت عبدي وأنا ربك فلم يكفر بذلك الده والغلبة والسهو، وقد جاء في هذا الحديث في غير مسلم فلعلي أضل الله أي أغيب عنه، وهذا يدل على أن قوله لئن قدر الله علي ظاهره، وقالت طائفة: هذا من مجاز كلام العرب وبديع استعمالها يسمونه مزج الشك باليقين كقوله تعالى: {وإنا أو إياكم لعلى هدى} فصورته صورة شك والمراد به اليقين، وقالت طائفة: هذا الرجل جهل صفة من صفات الله تعالى، وقد اختلف العلماء في تكفير جاهل الصفة قال القاضي: وممن كفره بذلك ابن جرير الطبري وقاله أبو الحسن الأشعري أولاً، وقال آخرون: لا يكفر بجهل الصفة ولا يخرج به عن اسم الإيمان بخلاف جحدها، وإليه رجع أبو الحسن الأشعري وعليه استقر قوله لأنه لم يعتقد ذلك اعتقادا يقطع بصوابه ويراه دينا وشرعا، وإنما يكفر من اعتقد أن مقالته حق. قال هؤلاء: ولو سئل الناس عن الصفات لوجد العالم بها قليلاً. وقالت طائفة: كان هذا الرجل في زمن فترة حين ينفع مجرد التوحيد ولا تكليف قبل ورود الشرع على المذهب الصحيح لقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً}. وقالت طائفة: يجوز أنه كان في زمن شرعهم فيه جواز العفو عن الكافر بخلاف شرعنا وذلك من مجوزات العقول عند أهل السنة وإنما منعناه في شرعنا بالشرع وهو قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به" وغير ذلك من الأدلة والله أعلم. وقيل إنما وصى بذلك تحقيرا لنفسه وعقوبة لها لعصيانها وإسرافها رجاء أن يرحمه الله تعالى. قوله صلى الله عليه وسلم: "أسرف رجل على نفسه" أي بالغ وعلا في المعاصي، والسرف مجاوزة الحد. قوله: إن ابن شهاب ذكر هذا الحديث ثم ذكر حديث المرأة التي دخلت النار وعذبت بسبب هرة حبستها حتى ماتت جوعا، ثم قال ابن شهاب: لئلا يتكل رجل ولا ييأس رجل معناه أن ابن شهاب لما ذكر الحديث الأول خاف أن سامعه يتكل على ما فيه من سعة الرحمة وعظم الرجاء فضم إليه حديث الهرة الذي فيه من التخويف ضد ذلك ليجتمع الخوف والرجاء وهذا معنى قوله لئلا يتكل ولا ييأس، وهكذا معظم آيات القرآن العزيز يجتمع فيها الخوف والرجاء، وكذا قال العلماء: يستحب للواعظ أن يجمع في موعظته بين الخوف والرجاء لئلا يقنط أحد ولا يتكل، قالوا: وليكن التخويف أكثر لأن النفوس إليه أحوج لميلها إلى الرجاء والراحة والاتكال وإهمال بعض الأعمال، وأما حديث الهرة فسبق شرحه في موضعه.
قوله صلى الله عليه وسلم: "أن رجلاً فيمن كان قبلكم راشه الله مالاً وولدا" هذه اللفظة رويت بوجهين في صحيح مسلم: أحدهما راشه بألف ساكنة غير مهموزة وبشين معجمة، والثاني رأسه بهمزة وسين مهملة، قال القاضي: والأول هو الصواب وهو رواية الجمهور ومعناه أعطاه الله مالاً وولدا، قال: ولا وجه للمهملة هنا، وكذا قال غيره: ولا وجه له هنا. قوله: "فإني لم أبتهر عندالله خيرا" هكذا هو في بعض النسخ، ولبعض الرواة أبتئر بهمزة بعد التاء، وفي أكثرها لم أبتهر بالهاء وكلاهما صحيح، والهاء مبدلة من الهمزة ومعناهما لم أقدم خيرا ولم أدخره وقد فسرها قتادة في الكتاب، وفي رواية لم يبتئر هكذا هو في جميع النسخ، وفي رواية ما امتأر بالميم مهموز أيضا والميم مبدلة من الباء الموحدة. قوله: "وإن الله يقدر علي أن يعذبني" هكذا هو في معصم النسخ ببلادنا، ونقل اتفاق الرواة والنسخ عليه هكذا بتكرير إن، وسقطت لفظة إن الثانية في بعض النسخ المعتمدة، فعلى هذا تكون إن الأولى شرطية وتقديره إن قدر الله علي عذبني وهو موافق للرواية السابقة، وأما على رواية الجمهور وهي إثبات إن الثانية مع الأولى فاختلف في تقديره فقال القاضي: هذا الكلام فيه تلفيق، قال: فإن أخذ على ظاهره ونصب اسم الله وجعل تقدير في موضع خبر إن استقام اللفظ وصح المعنى لكنه يصير مخالفا لما سبق من كلامه الذي ظاهره الشك في القدرة، قال: وقال بعضهم صوابه حذف إن الثانية وتخفيف الأولى ورفع اسم الله تعالى، قال: وكذا ضبطناه عن بعضهم هذا كلام القاضي، وقيل هو على ظاهره بإثبات إن في الموضعين والأولى مشددة ومعناه إن الله قادر على أن يعذبني، ويكون هذا على قول من تأول الرواية الأولى، على أنه أراد بقدر ضيق أو غيره مما ليس فيه نفي حقيقة القدرة، ويجوز أن يكون على ظاهره كما ذكر هذا القائل، لكن يكون قوله هنا معناه أن الله قادر على أن يعذبني إن دفنتموني بهيئتي، فأما إن سحقتموني وذريتموني في البر والبحر فلا يقدر علي ويكون جوابه كما سبق وبهذا تجتمع الروايات والله أعلم. قوله صلى الله عليه وسلم: "فأخذ منهم ميثاقا ففعلوا ذلك به وربي" هكذا هو في جميع نسخ صحيح مسلم وربي على القسم، ونقل القاضي عياض الاتفاق عليه أيضا في كتاب مسلم قال: وهو على القسم من المخبر بذلك عنهم لتصحيح خبره. وفي صحيح البخاري: "فأخذ منهم ميثاقا وربي ففعلوا ذلك به" قال بعضهم وهو الصواب، قال القاضي: بل هما متقاربان في المعنى والقسم، قال: وجدته في بعض نسخ صحيح مسلم من غير رواية لأحد من شيوخنا إلا للتميمي من طريق ابن الحذاء ففعلوا ذلك وذرى، قال: فإن صحت هذه الرواية فهي وجه الكلام لأنه أمرهم أن يذروه ولعل الذال سقطت لبعض النساخ وتابعه الباقون هذا كلام القاضي، والروايات الثلاث المذكورات صحيحات المعنى ظاهرات فلا وجه لتغليط شيء منها والله أعلم. قوله: (فما تلافاه غيرها) أي ما تداركه والتاء فيه زائدة. قوله: "أن رجلاً من الناس رغسه الله مالاً وولدا" هو بالغين المعجمة المخففة والسين المهملة أي أعطاه مالاً وبارك له فيه.
*2* باب قبول التوبة من الذنوب، وإن تكررت الذنوب والتوبة
*حدّثني عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ حَمّادٍ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ إِسْحَق بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبّهِ عَزّ وَجَلّ قَالَ: "أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْباً. فَقَالَ: اللّهُمّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْباً، فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذَ بِالذّنْبِ. ثُمّ عَادَ فَأَذْنَبَ. فَقَالَ: أَيْ رَبّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْباً. فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذّنْبِ. ثُمّ عَادَ فَأَذْنَبَ فَقَالَ: أَيْ رَبّ اغْفِرْ لِي ذَنْبِي. فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَىَ أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبَاً. فَعَلِمَ أَنّ لَهُ رَبّا يَغْفِرُ الذّنْبَ، وَيَأْخُذُ بِالذّنْبِ. اعْمَلْ مَا شِئْتَ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ"
قَالَ عَبْدُ الأَعَلْى: لاَ أَدْرِي أَقَالَ فِي الثّالِثَةِ أَوِ الرّابِعَةِ "اعْمَلْ مَا شِئْتَ".
قَالَ أَبُو أَحْمَدَ: حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ زَنْجُويَةَ الْقُرَشِيّ الْقُشَيْرِيّ. حَدّثَنَا عَبْدُ الأَعْلى بْنُ حَمّادٍ النّرْسِيّ بِهَذَا الإِسْنَادِ.
حدّثني عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. حَدّثَنِي أَبُو الْوَلِيدِ. حَدّثَنَا هَمّامٌ. حَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: كَانَ بِالْمَدِينَةِ قَاصّ يُقَالَ لَهُ عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ. قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إنّ عَبْداً أَذْنَبَ ذَنْباً" بِمَعْنَى حَدِيثِ حَمّادِ بْنِ سَلَمَةَ. وَذَكَرَ ثَلاثَ مَرّاتٍ، أَذْنَبَ ذَنْباً. وَفِي الثّالِثَةِ: قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ. قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ يُحَدّثُ عَنْ أَبِي مُوسَىَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنّ اللّهَ عَزّ وَجَلّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللّيْلِ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ النّهَارِ. وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنّهَارِ، لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللّيْلِ. حَتّىَ تَطْلُعَ الشّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ. حَدّثَنَا أَبُو دَاوُدَ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَهُ.
هذه المسألة تقدمت في أول كتاب التوبة، وهذه الأحاديث ظاهرة في الدلالة لها، وأنه لو تكرر الذنب مائة مرة أو ألف مرة أو أكثر وتاب في كل مرة قبلت توبته وسقطت ذنوبه، ولو تاب عن الجميع توبة واحدة بعد جميعها صحت توبته. قوله عز وجل للذي تكرر ذنبه: {اعمل ما شئت فقد غفرت لك} معناه ما دمت تذنب ثم تتوب غفرت لك وهذا جار على القاعدة التي ذكرناها.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها" ولا يختص قبولها بوقت وقد سبقت المسألة فبسط اليد استعارة في قبول التوبة، قال المازري: المراد به قبول التوبة وإنما ورد لفظ بسط اليد لأن العرب إذا رضي أحدهم الشيء بسط يده لقبوله وإذا كرهه قبضها عنه فخوطبوا بأمر جسي يفهمونه وهو مجاز فإن يد الجارحة مستحيلة في حق الله تعالى.
*2* باب غيرة اللّهِ تعالى، وتحريم الفواحش
*حدّثنا عُثْمَان بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ عُثْمَانُ: حَدّثَنَا) جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللّهِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ. وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرّمَ الْفَوَاحِشَ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ نُمَيْرٍ وَ أَبُو كُرَيْبٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ. ح وَحَدّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ (واللّفْظُ لَهُ). حَدّثَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ نُمَيْرٍ وَ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللّهِ، وَلِذَلِكَ حَرّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَلاَ أَحَدٌ أَحَبّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللّهِ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ ابْنُ بَشّارٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرّةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللّهِ بْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ (قُلْتُ لَهُ: آنْتَ سَمِعْتَهُ مِنْ عَبْدِ اللّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَرَفَعَهُ) أَنّهُ قَالَ: "لاَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللّهِ. وَلِذَلِكَ حَرّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ. وَلاَ أَحَدٌ أَحَبّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللّهِ، وَلِذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ".
حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ وَ إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ (قَالَ إِسْحَقُ: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا) جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ مَالِكِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ. وَلَيْسَ أَحَدٌ أَغْيَرَ مِنَ اللّهِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرّمَ الْفَواحِشَ. وَلَيْسَ أَحَدٌ أَحَبّ إِلَيهِ الْعُذْرُ مِنَ اللّهِ. مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَأَرْسَلَ الرّسُلَ".
حدّثنا عَمْرٌو النّاقِدُ. حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ عُلَيّةَ عَنْ حَجّاجِ بْنِ أَبِي عُثْمَانَ. قَالَ: قَالَ يَحْيَىَ: وَحَدّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنّ اللّهَ يَغَارُ. وَإِنّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ. وَغَيْرَةُ اللّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْمُؤْمِنُ مَا حَرّمَ عَلَيْهِ".
قَالَ يَحْيَىَ: وَحَدّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنّ عُرْوَةَ بْنَ الزّبَيْرِ حَدّثَهُ أَنّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ حَدّثَتْهُ أَنّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "لَيْسَ شَيْءٌ أَغْيَرَ مِنَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ. حَدّثَنَا أَبُو دَاوُدَ. حَدّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ وَ حَرْبُ بْنُ شَدّادٍ عَنْ يَحْيَىَ بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمِثْلِ رِوَايَةِ حَجّاجٍ. حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ خَاصّةً. وَلَمْ يَذْكُرْ حدِيثَ أَسْمَاءَ.
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدّمِيّ. حَدّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضّلِ عَنْ هِشَامٍ، عَنْ يَحْيَىَ بْنِ أَبِي كَثْيرٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ أَسْمَاءَ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم أَنّهُ قَالَ: "لاَ شَيْءَ أَغْيَرُ مِنَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ".
حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيْدٍ. حَدّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ (يَعْنِي ابْنَ مُحَمّدٍ) عَنِ الْعَلاَءِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "الْمُؤْمِنُ يَغَارُ. وَاللّهُ أَشَدّ غَيْراً".
وحدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرٍ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَلاَءَ، بِهَذَا الإِسْنَادِ.
قد سبق تفسير غيرة الله تعالى في حديث سعد بن عبادة وفي غيره، وسبق بيان لا شيء أغير من الله، والغيرة بفتح الغين وهي في حقنا الأنفة، وأما في حق الله تعالى فقد فسرها هنا في حديث عمر والناقد بقوله صلى الله عليه وسلم: وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم عليه أي غيرته منعه وتحريمه. قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا أحد أحب إليه المدح من الله تعالى" حقيقة هذا مصلحة للعباد لأنهم يثنون عليه سبحانه وتعالى فيثيبهم فينتفعون وهو سبحانه غني عن العالمين لا ينفعه مدحهم ولا يضره تركهم ذلك، وفيه تنبيه عى فضل الثناء عليه سبحانه وتعالى وتسبيحه وتهليله وتحميده وتكبيره وسائر الأذكار. قوله صلى الله عليه وسلم: "وليس أحد أحب إليه العذر من الله عز وجل من أجل ذلك أنزل الكتاب وأرسل الرسل" قال القاضي: يحتمل أن المراد إِلاعتذار أي اعتذار والعباد إليه من تقصيرهم وتوبتهم من معاصيهم فيغفر لهم كما قال تعالى: {وهو الذي يقبل التوبة عن عبادة}. قوله صلى الله عليه وسلم: "والله أشد غيرا" هكذا هو في النسخ غيرا بفتح الغين وإسكان الياء منصوب بالألف وهو الغيرة، قال أهل اللغة: الغيرة والغير والغار بمعنى والله أعلم.
*2* باب قوله تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات
*حدّثنا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْجَحْدَريّ. كِلاَهُمَا عَنْ يَزِيدَ بْنِ زُرَيْعٍ (واللّفْظُ لأَبِي كَامِلٍ). حَدّثَنَا يَزِيدُ. حَدّثَنَا التّيْمِيّ عَنْ أَبِي عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنّ رَجُلاً أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ قُبْلَةً. فَأَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. قَالَ فَنَزَلَتْ: {أَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ، إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَىَ لِلذّاكِرِينَ} (هود 1). قَالَ: فَقَالَ الرّجُلُ: أَلِيَ هَذِهِ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ "لِمَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ أُمّتِي".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدُ الأَعْلَى. حَدّثَنَا الْمُعْتَمِرُ عَنْ أَبِيهِ. حَدّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنّ رَجُلاً أَتَى النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ أَنّهُ أَصَابَ مِنِ امْرَأَةٍ، إِمّا قُبْلَةً، أَوْ مَسّا بِيَدٍ، أَوْ شَيْئاً. كَأَنّهُ يَسْأَلُ عَنْ كَفّارَتِهَا. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ. ثُمّ ذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يَزِيدَ.
حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُلَيْمَانَ التّيْمِيّ بِهَذَا الإِسْنَادِ. قَالَ: أَصَابَ رَجُلٌ مِنِ امْرَأَةٍ شَيْئاً دُونَ الْفَاحِشَةِ. فَأَتَىَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ فَعَظّمَ عَلَيْهِ. ثُمّ أَتَىَ أَبَا بَكْرٍ فَعَظّمَ عَلَيْهِ. ثُمّ أَتَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَذَكَرَ بِمِثْلِ حَدِيثِ يَزِيدَ وَالْمُعْتَمِرِ.
حدّثنا يَحْيَىَ بْنُ يَحْيَىَ وَ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ وَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَاللّفْظُ لِيَحْيَى (قَالَ يَحْيى: أَخْبَرَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: حَدّثَنَا) أَبُو الأَحْوَصِ عَنْ سِمَاكٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ وَ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! إِنّي عَالَجْتُ امْرَأَةً فِي أَقْصَىَ الْمَدِينَةِ. وَإِنّي أَصَبْتُ مِنْهَا مَا دُونَ أَنْ أَمَسّهَا. فَأَنَا هَذَا. فَاقْضِ فِيّ مَا شِئْتَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَقَدْ سَتَرَكَ اللّهُ، لَوْ سَتَرْتَ نَفْسَكَ. قَالَ: فَلَمْ يَرُدّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم شَيْئاً. فَقَامَ الرّجُلُ فَانْطَلَقَ. فَأَتْبَعَهُ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم رَجُلاً دَعَاهُ، وَتَلاَ عَلَيْهِ هَذِهِ الاَيَةَ: {أَقِمِ الصّلاَةَ طَرَفَيِ النّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللّيْلِ إِنّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السّيّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَىَ لِلذّاكِرِينَ} (هود 1). فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: يَا نَبِيّ اللّهِ هَذَا لَهُ خَاصّةً؟ قَالَ "بَلْ لِلنّاسِ كَافّةً".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ. حَدّثَنَا أَبُو النّعْمَانِ، الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ الْعِجْلِيّ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ. قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ يُحَدّثُ عَنْ خَالِهِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَبْدِ اللّهِ، عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم بِمَعْنَى حَدِيثِ أَبِي الأَحْوَصِ. وَقَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَقَالَ مُعَاذٌ: يَا رَسُولَ اللّهِ هَذَا لِهَذَا خَاصّةً، أَوْ لَنَا عَامّةً؟ قَالَ "بَلْ لَكُمْ عَامّةً".
حدّثنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيَ الْحُلْوَانِيّ. حَدّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ. حَدّثَنَا هَمّامٌ عَنْ إِسْحَقَ بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَصَبْتُ حَدّا فَأَقِمْهُ عَلَيّ. قَالَ: وَحَضَرَتِ الصّلاَةُ فَصَلّىَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَلَمّا قَضَى الصّلاَةَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي أَصَبْتُ حَدّا فَأَقِمْ فِيّ كِتَابَ اللّهِ. قَالَ "هَلْ حَضَرْتَ الصّلاَةَ مَعَنَا؟" قَالَ: نَعَمْ. قَالَ "قَدْ غُفِرَ لَكَ".
حدّثنا نَصْرُ بْنُ عَلِيَ الْجَهْضَمِيّ وَ زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ (وَاللّفْظُ لِزُهَيْرٍ) قَالاَ: حَدّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ. حَدّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمّارٍ. حَدّثَنَا شَدّادٌ، حَدّثَنَا أَبُو أُمَامَةَ قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَسْجِدِ، وَنَحْنُ قُعُودٌ مَعَهُ، إِذْ جَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي أَصَبْتُ حَدّا. فَأَقِمْهُ عَلَيّ. فَسَكَتَ عَنْهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. ثُمّ أَعَادَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي أَصَبْتُ حَدّا. فَأَقِمْهُ عَلَيّ. فَسَكَتَ عَنْهُ. وَأُقِيمَتِ الصّلاَةُ. فَلَمّا انْصَرَفَ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَاتّبَعَ الرّجُلُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ انْصَرَفَ. وَاتّبَعْتُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْظُرُ مَا يَرُدّ عَلَىَ الرّجُلِ. فَلَحِقَ الرّجُلُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي أَصَبْتُ حَدّا، فَأَقِمْهُ عَلَيّ. قَالَ أَبُو أُمَامَةَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَرَأَيْتَ حِينَ خَرَجْتَ مِنْ بَيْتِكَ، أَلَيْسَ قَدْ تَوَضّأْتَ فَأَحْسَنْتَ الْوُضُوءَ؟" قَالَ: بَلَىَ. يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ "ثُمّ شَهِدْتَ الصّلاَةَ مَعَنَا؟" فَقَالَ: نَعَمْ. يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "فَإِنّ اللّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ حَدّكَ. أَوْ قَالَ ذَنْبَكَ".
قوله في الذي أصاب من امرأة قبلة فأنزل الله فيه: "إن الحسنات يذهبن السيئات" إلى آخر الحديث، هذا تصريح بأن الحسنات تكفر السيئات، واختلفوا في المراد بالحسنات هنا فنقل الثعلبي أن أكثر المفسرين على أنها الصلوات الخمس واختاره ابن جرير وغيره من الأئمة. وقال مجاهد: هي قول العبد سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. ويحتمل أن المراد الحسنات مطلقا، وقد سبق في كتاب الطهارة والصلاة ما يكفر من المعاصي بالصلاة، وسبق في مواضع قوله تعالى: {وزلفا من الليل} هي ساعته، ويدخل في صلاة طفي النهار الصبح والظهر والعصر، وفي زلفا من الليل المغرب والعشاء. قوله: (أصاب منها دون الفاحشة) أي دون الزنا في الفرج. قوله: (عالجت امرأة وإني أصبت منها ما دون أن أمسها) معنى عالجها أي تناولها واستمتع بها والمراد بالمس الجماع، ومعناه استمتعت بها بالقبلة والمعانقة وغيرهما من جميع أنواع الاستمتاع إلا الجماع. قوله صلى الله عليه وسلم: "بل للناس كافة" هكذا تستعمل كافة حالاً أي كلهم، ولا يضاف فيقال كافة الناس ولا الكافة بالألف واللام وهو معدود في تصحيف العوام ومن أشبههم.
قوله: (أصبت حدا فأقمه علي وحضرت الصلاة فصلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم له: هل حضرت الصلاة معنا؟ قال نعم، قال: قد غفر لك) هذا الحد معناه معصية من المعاصي الموجبة للتعزير وهي هنا من الصغائر لأنها كفرتها الصلاة، ولو كانت كبيرة موجبة لحد أو غير موجبة له لم تسقط بالصلاة، فقد أجمع العلماء على أن المعاصي الموجبة للحدود لا تسقط حدودها بالصلاة. هذا هو الصحيح في تفسير هذا الحديث. وحكى القاضي عن بعضهم أن المراد بالحد المعروف قال: وإنما لم يحده لأنه لم يفسر موجب الحد، ولم يستفسره النبي صلى الله عليه وسلم عنه إيثارا للستر بل استحب تلقين الرجوع عن الإقرار بموجب الحد صريحا.
*2* باب قبول توبة القاتل، وإن كثر قتله
*حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ وَ مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ (وَاللّفْظُ لاِبْنِ الْمُثَنّىَ) قَالاَ: حَدّثَنَا مُعَاذ بْنُ هِشَامٍ. حَدّثَنِي أَبِي عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَبِي الصّدّيقِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ أَنّ نَبِيّ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً. فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلّ عَلَىَ رَاهِبٍ. فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً. فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ. فَقَتَلَهُ. فَكَمّلَ بِهِ مِائَةً. ثُمّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ. فَقَالَ: إِنّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ. فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَىَ أَرْضِ كَذَا وَكَذَا. فَإِنّ بِهَا أُنَاساً يَعْبُدُونَ اللّهَ فَاعْبُدِ اللّهَ مَعَهُمْ. وَلاَ تَرْجِعْ إِلَىَ أَرْضِكَ فَإِنّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتّىَ إِذَا نَصَفَ الطّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ. فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ. فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرّحْمَةِ: جَاءَ تَائِباً مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَىَ اللّهِ. وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ: إِنّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْراً قَطّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيَ. فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ. فَإِلَىَ أَيّتِهِمَا كَانَ أَدْنَىَ، فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَىَ إِلَىَ الأَرْضِ الّتِي أَرَادَ. فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرّحْمَةِ".
قَالَ قَتَادَةُ: فَقَالَ الْحَسَنُ: ذُكِرَ لَنَا أَنّهُ لَمّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَىَ بِصَدْرِهِ.
حدّثني عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيّ. حَدّثَنَا أَبِي حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، أَنّهُ سَمِعَ أَبَا الصّدّيقِ النّاجِيّ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "أَنّ رَجُلاً قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْساً. فَجَعَلَ يَسْأَلُ: هَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَأَتَىَ رَاهِباً فَسَأَلَهُ فَقَالَ: لَيْسَتْ لَكَ تَوْبَةٌ. فَقَتَلَ الرّاهِبَ. ثُمّ جَعَلَ يَسْأَلُ. ثُمّ خَرَجَ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَىَ قَرْيَةٍ فِيهَا قَوْمٌ صَالِحُونَ. فَلَمّا كَانَ فِي بَعْضِ الطّرِيقِ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ. فَنَأَىَ بِصَدْرِهِ. ثُمّ مَاتَ. فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ. فَكَانَ إِلَىَ الْقَرْيَةِ الصّالِحَةِ أَقْرَبَ مِنْهَا بِشِبْرٍ. فَجُعِلَ مِنْ أَهْلِهَا".
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ بَشّارٍ. حَدّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيَ. حَدّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ مُعَاذٍ. وَزَادَ فِيهِ: "فَأَوْحَىَ اللّهُ إِلَىَ هَذِهِ: أَنْ تَبَاعَدِي. وَإِلَىَ هَذِهِ: أَنْ تَقَرّبِي".
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَة عَنْ طَلْحَةَ بْنِ يَحْيَىَ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِي مُوسَىَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، دَفَعَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ إِلَىَ كُلّ مُسْلِمٍ، يَهُودِيّا أَوْ نَصْرَانِيّا. فَيَقُولُ: هَذَا فِكَاكُكَ مِنَ النّارِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "إن رجلاً قتل تسعا وتسعين نفسا ثم قتل تمام المائة ثم أفتاه العالم بأن له توبة" هذا مذهب أهل العلم وإجماعهم على صحة توبة القاتل عمدا ولم يخالف أحد منهم إلا ابن عباس، وأما ما نقل عن بعض السلف من خلاف هذا فمراد قائله الزجر عن سبب التوبة لا أنه يعتقد بطلان توبته، وهذا الحديث ظاهر فيه وهو وإن كان شرعا لمن قبلنا وفي إِلاحتجاج به خلاف فليس موضع الخلاف وإنما موضعه إذا لم يرد شرعنا بموافقته وتقريره، فإن ورد كان شرعا لنا بلا شك، وهذا قد ورد شرعنا به وهو قوله تعالى: {والذين لا يدعون مع الله إلها آخر ولا يقتلون، إلى قوله: إلا من تاب} الاَية. وأما قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها} فالصواب في معناها أن جزاءه جهنم، وقد يجازى به وقد يجازى بغيره وقد لا يجازى بل يعفى عنه، فإن قتل عمدا مستحلاً له بغير حق ولا تأويل فهو كافر مرتد يخلد به في جهنم بالإجماع، وإن كان غير مستحل بل معتقدا تحريمه فهو فاسق عاص مرتكب كبيرة جزاؤه جهنم خالدا فيها لكن بفضل الله تعالى، ثم أخبر أنه لا يخلد من مات موحدا فيها فلا يخلد هذا ولكن قد يعفى عنه فلا يدخل النار أصلاً وقد لا يعفى عنه بل يعذب كسائر العصاة الموحدين ثم يخرج معهم إلى الجنة ولا يدخل في النار، فهذا هو الصواب في معنى الاَية، ولا يلزم من كونه يستحق أن يجازى بعقوبة مخصوصة أن يتحتم ذلك الجزاء، وليس في الاَية إخبار بأنه يخلد في جهنم وإنما فيها أنها جزاؤه أي يستحق أن يجازى بذلك، وقيل إن المراد من قتل مستحلاً، وقيل وردت الاَية في رجل بعينه، وقيل المراد بالخلود طول المدة لا الدوام، وقيل معناها هذا جزاؤه إن جازاه، وهذه الأقوال كلها ضعيفة أو فاسدة لمخالفتها حقيقة لفظ الاَية، وأما هذا القول فهو شائع على ألسنة كثير من الناس وهو فاسد لأنه يقتضي أنه إذا عفي عنه خرج عن كونها كانت جزاء وهي جزاء له، لكن ترك الله مجازاته عفوا عنه وكرما فالصواب ما قدمناه والله أعلم. قوله: "انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن فيها أناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء" قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب والأخدان المساعدين له على ذلك ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين الورعين ومن يقتدي بهم وينتفع بصحبتهم وتتأكد بذلك توبته. قوله: "فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت" هو بتخفيف الصاد أي بلغ نصفها. قوله: (نأى بصدره) أي نهض ويجوز تقديم الألف على الهمزة وعكسه وسبق في حديث أصحاب الغار، وأما قياس الملائكة ما بين القريتين وحكم الملك الذي جعلون بينهم بذلك فهذا محمول على أن الله تعالى أمرهم عند اشتباه أمره عليهم واختلافهم فيه أن يحكموا رجلاً ممن يمر بهم فمر الملك في صورة رجل فحكم بذلك.
*2* باب سعة رحمة الله على المؤمنين
*حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ. حَدّثَنَا عَفّان بْنُ مُسْلِمٍ. حَدّثَنَا هَمّامٌ. حَدّثَنَا قَتَادَةُ، أَنّ عَوْناً وَ سَعِيدَ بْنَ أَبِي بُرْدَةَ حَدّثَاهُ أَنّهُمَا شَهِدَا أَبَا بُرْدَةَ يُحَدّثُ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَبِيهِ، عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لاَ يَمُوتُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ إِلاّ أَدْخَلَ اللّهُ مَكَانَهُ، النّارَ، يَهُودِيّا أَوْ نَصْرَانِيّا" قَالَ: فَاسْتَحْلَفَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بِاللّهِ الّذِي لاَ إِلَهَ إِلاّ هُوَ ثَلاَثَ مَرّاتٍ أَنّ أَبَاهُ حَدّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: فَحَلَفَ لَهُ. قَالَ فَلَمْ يُحَدّثْنِي سَعِيدٌ أَنّهُ اسْتَحْلَفَهُ. وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَى عَوْنٍ قَوْلَهُ.
حدّثنا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْمُثَنّىَ. جَمِيعاً عَنْ عَبْدِ الصّمَدِ بْنِ عَبْدِ الْوَارِثِ. أَخْبَرَنَا هَمّامٌ. حَدّثَنَا قَتَادَةُ بِهَذَا الإِسْنَادِ، نَحْوَ حَدِيثِ عَفّانَ. وَقَالَ: عَوْنُ بْنُ عُتْبَةَ.
حدّثنا مُحَمّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُبّادِ بْنِ جَبَلَةَ بْنِ أَبِي رَوّادٍ. حَدّثَنَا حَرَمِيّ بْنُ عُمَارَةَ. حَدّثَنَا شَدّادٌ، أَبُو طَلْحَةَ الرّاسِبِيّ عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَال: "يَجِيءُ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَاسٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، بِذُنُوبٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَغْفِرُهَا اللّهُ لَهُمْ. وَيَضَعُهَا عَلَىَ الْيَهُودِ وَالنّصَارَىَ" فِيمَا أَحْسِبُ أَنَا.
قَالَ أَبُو رَوْحٍ: لاَ أَدْرِي مِمّنَ الشّكّ.
قَالَ أَبُو بُرْدَةَ: فَحَدّثْتُ بِهِ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ: أَبُوكَ حَدّثَكَ هَذَا عَنِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم؟ قُلْتُ: نَعَمْ.
حدّثنا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ هِشَامٍ الدّسْتَوَائِيّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مُحْرِزٍ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لاِبْنِ عُمَرَ: كَيْفَ سَمِعْتَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ فِي النّجْوَىَ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: "يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبّهِ عَزّ وَجَلّ. حَتّىَ يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ. فَيُقَرّرُهُ بِذُنُوبِهِ. فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: أَيْ رَبّ أَعْرِفُ. قَالَ: فَإِنّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدّنْيَا، وَإِنّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. فَيُعْطَىَ صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ. وَأَمّا الْكُفّارُ وَالْمُنَافِقُونَ فَيُنَادَىَ بِهِمْ عَلَىَ رُؤُوسِ الْخَلاَئِقِ: هَؤُلاَءِ الّذِينَ كَذَبُوا عَلَىَ اللّهِ".
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم القيامة دفع الله تعالى إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فكاكك من النار" وفي رواية: "لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه النار يهوديا أو نصرانيا" وفي رواية: "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال فيغفرها الله لهم ويضعها على اليهود والنصارى". الفكاك بفتح الفاء وكسرها الفتح أفصح وأشهر وهو الخلاص والفداء، ومعنى هذا الحديث ما جاء في حديث أبي هريرة لكل أحد منزل في الجنة ومنزل في النار، فالمؤمن إذا دخل الجنة خلفه الكافر في النار لاستحقاقه ذلك بكفره، ومعنى فكاكك من النار أنك كنت معرضا لدخول النار وهذا فكاكك لأن الله تعالى قدر لها عددا يملؤها فإذا دخلها الكفار بكفرهم وذنوبهم صاروا في معنى الفكاك للمسلمين. وأما رواية "يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب" فمعناه أن الله تعالى يغفر تلك الذنوب للمسلمين ويسقطها عنهم ويضع على اليهود والنصارى مثلها بكفرهم وذنوبهم فيدخلهم النار بأعمالهم لا بذنوب المسلمين، ولا بد من هذا التأويل لقوله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وقوله: ويضعها مجاز والمراد يضع عليهم مثلها بذنوبهم كما ذكرناه لكن لما أسقط سبحانه وتعالى عن المسلمين سيئاتهم وأبقى على الكفار سيئاتهم صاروا في معنى من حمل إثم الفريقين لكونهم حملوا الإثم الباقي وهو إثمهم، ويحتمل أن يكون المراد آثاما كان للكفار سبب فيها بأن سنوها فتسقط عن المسلمين بعفو الله تعالى، ويوضع على الكفار مثلها لكونهم سنوها، ومن سن سنة سيئة كان عليه مثل وزر كل من يعمل بها والله أعلم. قوله: (فاستحلفه عمر بن عبد العزيز أن أباه حدثه) إنما استحلفه لزيادة الاستيثاق والطمأنينة ولما حصل له من السرور بهذه البشارة العظيمة للمسلمين أجمعين، ولأنه إن كان عنده فيه شك وخوف غلط أو نسيان أو اشتباه أو نحو ذلك أمسك عن اليمين، فإذا حلف تحقق انتفاء هذه الأمور وعرف صحة الحديث، وقد جاء عن عمر بن عبد العزيز والشافعي رحمهما الله أنهما قالا هذا الحديث أرجى حديث للمسلمين وهو كما قالا لما فيه من التصريح بفداء كل مسلم وتعميم الفداء ولله الحمد.
قوله صلى الله عليه وسلم: "يدني المؤمن يوم القيامة من ربه حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه" إلى آخره. أما كنفه فبنون مفتوحة وهو ستره وعفوه، والمراد بالدنو هنا دنو كرامة وإحسان لا دنو مسافة، والله تعالى منزه عن المسافة وقربها.
*2* باب حديث توبة كعب بن مالك وصاحبيه
*حدّثني أَبُو الطّاهِرِ، أَحْمَدُ بْنُ عَمْرو بْنِ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَرْحٍ، مَوْلَى بَنِي أُمَيّةَ. أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ. أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: ثُمّ غَزَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم غَزْوَةَ تَبُوكَ. وَهُوَ يُرِيدُ الرّومَ وَنَصَارَىَ الْعَرَبِ بِالشّامِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ عَبْدَ اللّهِ بْنَ كَعْبٍ كَانَ قَائِدَ كَعْبٍ، مِنْ بَنِيهِ، حِينَ عَمِيَ. قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدّثُ حَدِيثَهُ حِينَ تَخَلّفَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: لَمْ أَتَخَلّفْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطّ. إِلاّ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. غَيْرَ أَنّي قَدْ تَخَلّفْتُ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ. وَلَمْ يُعَاتِبْ أَحَداً تَخَلّفَ عَنْهُ. إِنّمَا خَرَجَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ يُرِيدُونَ عِيرَ قُرَيْشٍ. حَتّىَ جَمَعَ اللّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عَدُوّهِمْ، عَلَىَ غَيْرِ مِيعَادٍ. وَلَقَدْ شَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ. حِينَ تَوَاثَقْنَا عَلَىَ الإِسْلاَمِ. وَمَا أُحِبّ أَنّ لِي بِهَا مَشْهَدَ بَدْرٍ. وَإِنْ كَانَتْ بَدْرٌ أَذْكَرَ فِي النّاسِ مِنْهَا. وَكَانَ مِنْ خَبَرِي، حِينَ تَخَلّفْتُ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، أَنّي لَمْ أَكُنْ قَطّ أَقْوَىَ وَلاَ أَيْسَرَ مِنّي حِينَ تَخَلّفْتُ عَنْهُ فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ. وَاللّهِ مَا جَمَعْتُ قَبْلَهَا رَاحِلَتَيْنِ قَطّ. حَتّىَ جَمَعْتُهُمَا فِي تِلْكَ الْغَزْوَةِ. فَغَزَاهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي حَرَ شَدِيدٍ. وَاسْتَقْبَلَ سَفَراً بَعِيداً وَمَفَازاً. وَاسْتَقْبَلَ عَدُوّا كَثِيراً. فَجَلاَ لِلْمُسْلِمِينَ أَمْرَهُمْ لَيَتأَهّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ. فَأَخْبَرَهُمْ بِوَجْهِهِمُ الّذِي يُرِيدُ. وَالْمُسْلِمُونَ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم كَثِيرٌ. وَلاَ يَجْمَعُهُمْ كِتَابُ حَافِظٍ (يُرِيدُ، بِذَلِكَ، الدّيوَانَ).
قَالَ كَعْبٌ: فَقَلّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَغَيّبَ، يَظُنّ أَنّ ذَلِكَ سَيَخْفَىَ لَهُ، مَا لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ وَحْيٌ مِنَ اللّهِ عَزّ وَجَلّ. وَغَزَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ الْغَزْوَةَ حِينَ طَابَتِ الثّمَارُ وَالظّلاَلُ. فَأَنَا إِلَيْهَا أَصْعَرُ. فَتَجَهّزَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ. وَطَفِقْتُ أَغْدُو لِكَيْ أَتَجَهّزَ مَعَهُمْ. فَأَرْجِعُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئاً. وَأَقُولُ فِي نَفْسِي: أَنَا قَادِرٌ عَلَىَ ذَلِكَ، إِذَا أَرَدْتُ. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَىَ بِي حَتّىَ اسْتَمَرّ بِالنّاسِ الْجِدّ. فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم غَادِياً وَالْمُسْلِمُونَ مَعَهُ. وَلَمْ أَقْضِ مِنْ جَهَازِي شَيْئاً. ثُمّ غَدَوْتُ فَرَجَعْتُ وَلَمْ أَقْضِ شَيْئاً. فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ يَتَمَادَىَ بِي حَتّىَ أَسْرَعُوا وَتَفَارَطَ الْغَزْوُ. فَهَمَمْتُ أَنْ أَرْتَحِلَ فَأُدْرِكَهُمْ. فَيَا لَيْتَنِي فَعَلْتُ. ثُمّ لَمْ يُقَدّرْ ذَلِكَ لِي. فَطَفِقْتُ، إِذَا خَرَجْتُ فِي النّاس، بَعْدَ خُرُوجِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، يَحْزُنُنِي أَنّي لاَ أَرَىَ لِي أُسْوَةً. إِلاّ رَجُلاً مَغْمُوصاً عَلَيْهِ فِي النّفَاقِ. أَوْ رَجُلاً مِمّن عَذَرَ اللّهُ مِنَ الضّعَفَاءِ. وَلَمْ يَذْكُرْنِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حَتّىَ بَلَغَ تَبُوكاً فَقَالَ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي الْقَوْمِ بِتَبُوكَ: "مَا فَعَلَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ؟" قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ: يَا رَسُولَ اللّهِ حَبَسَهُ بُرْدَاهُ وَالنّظَرُ فِي عِطْفَيْهِ. فَقَالَ لَهُ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ: بِئْسَ مَا قُلْتَ. وَاللّهِ يَا رَسُولَ اللّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ إلاّ خَيْراً. فَسَكَتَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَبَيْنَمَا هُوَ عَلَىَ ذَلِكَ رَأَىَ رَجُلاً مُبَيّضاً يَزُولُ بِهِ السّرَابُ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كُنْ أَبَا خَيْثَمَةَ"، فَإِذَا هُوَ أَبُو خَيْثَمَةَ الأَنْصَارِيّ. وَهُوَ الّذِي تَصَدّقَ بِصَاعِ التّمْرِ حِينَ لَمَزَهُ الْمُنَافِقُونَ.
فقالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: فَلَمّا بَلَغَنِي أَنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ تَوَجّهَ قَافِلاً مِنْ تَبُوكَ، حَضَرَنِي بَثّي. فَطَفِقْتُ أَتَذَكّرُ الْكَذِبَ وَأَقُولُ: بِمَ أَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ غَداً؟ وَأَسْتَعِينُ عَلَىَ ذَلِكَ كُلّ ذِي رَأْيٍ مِنْ أَهْلِي. فَلَمّا قِيلَ لِي: إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ أَظَلّ قَادِماً، زَاحَ عَنّي الْبَاطِلُ، حَتّىَ عَرَفْتُ أَنّي لَنْ أَنْجُوَ مِنْهُ بِشَيْءٍ أَبَداً. فَأَجْمَعْتُ صِدْقَهُ. وَصَبّحَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَادِماً. وَكَانَ، إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ، بَدَأَ بِالْمَسْجِدِ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ. ثُمّ جَلَسَ لِلنّاسِ. فَلَمّا فَعَلَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمُخَلّفُونَ. فَطَفِقُوا يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ. وَيَحْلِفُونَ لَهُ. وَكَانُوا بِضْعَةً وَثَمَانِينَ رَجُلاً. فَقَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلاَنِيَتَهُمْ. وَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ. وَوَكَلَ سَرَائِرَهُمْ إِلَىَ اللّهِ. حَتّىَ جِئْتُ. فَلَمّا سَلّمْتُ، تَبَسّمَ تَبَسّمَ الْمُغْضَبِ ثُمّ قَالَ "تَعَالَ" فَجِئْتُ أَمْشِي حَتّىَ جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَقَالَ لِي: "مَا خَلّفَكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ قَدِ ابْتَعْتَ ظَهْرَكَ؟" قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّي، وَاللّهِ لَوْ جَلَسْتُ عِنْدَ غَيْرِكَ مِنْ أَهْلِ الدّنْيَا، لَرَأَيْتُ أَنّي سَأَخْرُجُ مِنْ سَخَطِهِ بِعُذْرٍ. وَلَقَدْ أُعْطِيتُ جَدَلاً. وَلَكِنّي، واللّهِ، لَقَدْ عَلِمْتُ، لَئِنْ حَدّثْتُكَ الْيَوْمَ حَدِيثَ كَذِبٍ تَرْضَىَ بِهِ عَنّي، لَيُوشِكَنّ اللّهُ أَنْ يُسْخِطَكَ عَلَيّ. وَلَئِنْ حَدّثْتُكَ حَدِيثَ صِدْقٍ تَجِدُ عَلَيّ فِيهِ، إِنّي لأَرْجُو فِيهِ عُقْبَى اللّهِ. وَاللّهِ مَا كَانَ لِي عُذْرٌ. وَاللّهِ مَا كُنْتُ قَطّ أَقْوَىَ وَلاَ أَيْسَرَ مِنّي حِينَ تَخَلّفْتُ عَنْكَ. قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمّا هَذَا، فَقَدْ صَدَقَ. فَقُمْ حَتّىَ يَقْضِيَ اللّهُ فِيكَ" فَقُمْتُ. وَثَارَ رِجَالٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ فَاتّبَعُونِي. فَقَالُوا لِي: وَاللّهِ مَا عَلِمْنَاكَ أَذْنَبْتَ ذَنْباً قَبْلَ هَذَا. لَقَدْ عَجَزْتَ فِي أَنْ لاَ تَكُونَ اعْتَذَرْتَ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، بِمَا اعْتَذَرَ بِهِ إِلَيْهِ الْمُخَلّفُونَ. فَقَدْ كَانَ كَافِيَكَ ذَنْبَكَ، اسْتِغْفَارُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم لَكَ.
قَالَ: فَوَاللّهِ مَا زَالُوا يُؤَنّبُونَنِي حَتّىَ أَرَدْتُ أَنْ أَرْجِعَ إِلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأُكَذّبَ نَفْسِي. قَالَ: ثُمّ قُلْتُ لَهُمْ: هَلْ لَقِيَ هَذَا مَعِي مِنْ أَحَدٍ؟ قَالُوا: نَعَمْ. لَقِيَهُ مَعَكَ رَجُلاَنِ. قَالاَ مِثْلَ مَا قُلْتَ. فَقِيلَ لَهُمَا مِثْلُ مَا قِيلَ لَكَ. قَالَ: قُلْتُ: مَنْ هُمَا؟ قَالُوا: مُرَارَةُ بْنُ رَبِيعَةَ الْعَامِرِيّ، وَهِلاَلُ بْنُ أُمَيّةَ الْوَاقِفِيّ. قَالَ: فَذَكَرُوا لِي رَجُلَيْنِ صَالِحَيْنِ قَدْ شَهِدَا بَدْراً، فِيهِمَا إِسْوَةٌ. قَالَ: فَمَضَيْتُ حِينَ ذَكَرُوهُمَا لِي.
قَالَ: وَنَهَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلاَمِنَا، أَيّهَا الثّلاَثَةُ، مِنْ بَيْنِ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ.
قَالَ: فَاجْتَنَبَنَا النّاسُ. وَقَالَ، تَغَيّرُوا لَنَا حَتّىَ تَنَكّرَتْ لِي فِي نَفْسِي الأَرْضُ. فَمَا هِيَ بِالأَرْضِ الّتِي أَعْرِفُ. فَلَبِثْنَا عَلَىَ ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً. فَأَمّا صَاحِبَايَ فَاسْتَكَانَا وَقَعَدَا فِي بُيُوتِهِمَا يَبْكِيَانِ. وَأَمّا أَنَا فَكُنْتُ أَشَبّ الْقَوْمِ وَأَجْلَدَهُمْ. فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَشْهَدُ الصّلاَةَ وَأَطُوفُ فِي الأَسْوَاقِ وَلاَ يُكَلّمُنِي أَحَدٌ. وَآتِي رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَأُسَلّمُ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الصّلاَةِ. فَأَقُولُ فِي نَفْسِي: هَلْ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدّ السّلاَمِ، أَمْ لاَ؟ ثُمّ أُصَلّي قَرِيباً مِنْهُ وَأُسَارِقُهُ النّظَرَ. فَإِذَا أَقْبَلْتُ عَلَىَ صَلاَتِي نَظَرَ إِلَيّ. وَإِذَا الْتَفَتّ نَحْوَهُ أَعْرَضَ عَنّي. حَتّىَ إِذَا طَالَ ذَلِكَ عَلَيّ مِنْ جَفْوَةِ الْمُسْلِمِينَ، مَشَيْتُ حَتّىَ تَسَوّرْتُ جِدَارَ حَائِطِ أَبِي قَتَادَةَ، وَهُوَ ابْنُ عَمّي، وَأَحَبّ النّاسِ إِلَيّ. فَسَلّمْتُ عَلَيْهِ. فَوَاللّهِ مَا رَدّ عَلَيّ السّلاَمَ. فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا قَتَادَةَ أَنْشُدُكَ بِاللّهِ هَلْ تَعْلَمَنّ أَنّي أُحِبّ اللّهَ وَرَسُولَهُ؟ قَالَ: فَسَكَتَ. فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ. فَسَكَتَ. فَعُدْتُ فَنَاشَدْتُهُ. فَقَالَ: اللّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَفَاضَتْ عَيْنَايَ، وَتَوَلّيْتُ، حَتّىَ تَسَوّرْتُ الْجِدَارَ.
فَبَيْنَا أَنَا أَمْشِي فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، إِذَا نَبَطِيّ مِنْ نَبَطِ أَهْلِ الشّامِ، مِمّنْ قَدِمَ بِالطّعَامِ يَبِيعُهُ بِالْمَدِينَةِ. يَقُولُ: مَنْ يَدُلّ عَلَىَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ. قَالَ: فَطَفِقَ النّاسُ يُشِيرُونَ لَهُ إِلَيّ. حَتّىَ جَاءَنِي فَدَفَعَ إِلَيّ كِتَاباً مِنْ مَلِكِ غَسّانَ. وَكُنْتُ كَاتِباً. فَقَرَأْتُهُ فَإِذَا فِيهِ: أَمّا بَعْدُ. فَإِنّهُ قَدْ بَلَغَنَا أَنّ صَاحِبَكَ قَدْ جَفَاكَ. وَلَمْ يَجْعَلْكَ اللّهَ بِدَارِ هَوَانٍ وَلاَ مَضْيَعَةٍ. فَالْحَقْ بِنَا نُوَاسِكَ. قَالَ: فَقُلْتُ، حِينَ قَرَأْتُهَا: وَهَذِهِ أَيْضاً مِنَ الْبَلاَءِ. فَتَيَامَمْتُ بِهَا التّنّورَ فَسَجَرْتُهَا بِهَا. حَتّىَ إِذَا مَضَتْ أَرْبَعُونَ مِنَ الْخَمْسِينَ، وَاسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ، إِذَا رَسُولُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْتِينِي. فَقَالَ: إِنّ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يَأْمُرُكَ أَنْ تَعْتَزِلَ امْرَأَتَكَ. قَالَ: فَقُلْتُ: أُطَلّقُهَا أَمْ مَاذَا أَفْعَلُ؟ قَالَ: لاَ. بَلِ اعْتَزِلْهَا. فَلاَ تَقْرَبَنّهَا. قَالَ: فَأَرْسَلَ إِلَىَ صَاحِبَيّ بِمِثْلِ ذَلِكَ. قَالَ: فَقُلْتُ لاِمْرَأَتِي: الْحَقِي بِأَهْلِكِ فَكُونِي عِنْدَهُمْ حَتّىَ يَقْضِيَ اللّهُ فِي هَذَا الأَمْرِ. قَالَ: فَجَاءَتِ امْرَأَةُ هِلاَلِ بْنِ أُمَيّةَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ هِلاَلَ بْنَ أُمَيّةَ شَيْخٌ ضَائِعٌ لَيْسَ لَهُ خَادِمٌ. فَهَلْ تَكْرَهُ أَنْ أَخْدُمَهُ؟ قَالَ "لاَ. وَلَكِنْ لاَ يَقْرَبَنّكِ" فَقَالَتْ: إِنّهُ، وَاللّهِ، مَا بِهِ حَرَكَةٌ إِلَىَ شَيْءٍ. وَوَاللّهِ مَا زَالَ يَبْكِي مُنْذُ كَانَ مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ. إِلَىَ يَوْمِهِ هَذَا.
قَالَ: فَقَالَ لِي بَعْضُ أَهْلِي: لَوْ اسْتَأْذَنْتَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي امْرَأَتِكَ؟ فَقَدْ أَذِنَ لاِمْرَأَةِ هِلاَلِ بْنِ أُمَيّةَ أَنْ تَخْدُمَهُ. قَالَ: فَقُلْتُ: لاَ أَسْتَأْذِنُ فِيهَا رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَمَا يُدْرِينِي مَاذَا يَقُولُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، إِذَا اسْتَأْذَنْتُهُ فِيهَا، وَأَنَا رَجُلٌ شَابّ. قَالَ: فَلَبِثْتُ بِذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ. فَكَمُلَ لَنَا خَمْسُونَ لَيْلَةً مِنْ حِينَ نُهِيَ عَنْ كَلاَمِنَا. قَالَ: ثُمّ صَلّيْتُ صَلاَةَ الْفَجْرِ صَبَاحَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، عَلَىَ ظَهْرِ بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِنَا. فَبَيْنَا أَنَا جَالِسٌ عَلَى الْحَالِ الّتي ذَكَرَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ مِنّا. قَدْ ضَاقَتْ عَلَيّ نَفْسِي وَضَاقَتْ عَلَيّ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ، سَمِعْتُ صَوْتَ صَارِخٍ وَوَافَىَ عَلَىَ سَلْعٍ يَقُولُ، بِأَعْلَىَ صَوْتِهِ: يَا كَعْبُ بْنَ مَالِكٍ أَبْشِرْ!. قَالَ: فَخَرَرْتُ سَاجداً. وَعَرَفْتُ أَنْ قَدْ جَاءَ فَرَجٌ.
قَالَ: فَآذَنَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ النّاسَ بِتَوْبَةِ اللّهَ عَلْيَنَا، حِينَ صَلّىَ صَلاَةَ الْفَجْرِ. فَذَهَبَ النّاسُ يُبَشّرُونَنَا. فَذَهَبَ قِبَلَ صَاحِبَيّ مُبَشّرُونَ. وَرَكَضَ رَجُلٌ إِلَيّ فَرَساً. وَسَعَىَ سَاعٍ مِنْ أَسْلَمَ قِبَلِي. وَأَوْفَىَ الْجَبَلَ. فَكَانَ الصّوْتُ أَسْرَعَ مِنَ الْفَرَسِ. فَلَمّا جَاءَنِي الّذِي سَمِعْتُ صَوْتَهُ يُبَشّرُنِي. فَنَزَعْتُ لَهُ ثَوْبَيّ فَكَسَوْتُهُمَا إِيّاهُ بِبِشَارَتِهِ. وَاللّهِ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهُمَا يَوْمَئِذٍ. وَاسْتَعَرْتُ ثَوْبَيْنِ فَلَبِسْتُهُمَا. فَانْطَلَقْتُ أَتَأَمّمُ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. يَتَلَقّانِي النّاسُ فَوْجاً فَوْجاً، يُهَنّئُونِي بِالتّوْبَةِ وَيَقُولُونَ: لِتَهْنِئْكَ تَوْبَةُ اللّهُ عَلَيْكَ. حَتّىَ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَحَوْلَهُ النّاسُ. فَقَامَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللّهِ يُهَرْوِلُ حَتّىَ صَافَحَنِي وَهَنّأَنِي. وَاللّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ غَيْرُهُ.
قَالَ: فَكَانَ كَعْبٌ لاَ يَنْسَاهَا لِطَلْحَةَ.
قَالَ كَعْبٌ: فَلَمّا سَلّمْتُ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ، وَهُوَ يَبْرُقُ وَجْهُهُ مِنَ السّرُورِ وَيَقُولُ: "أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرّ عَلَيْكَ مُنْذُ وَلَدَتْكَ أُمّكَ" قَالَ: فَقُلْتُ: أَمِنْ عِنْدِكَ؟ يَا رَسُولَ اللّهِ أَمْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ؟ فَقَالَ "لاَ. بَلْ مِنْ عِنْدِ اللّهِ" وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا سُرّ اسْتَنَارَ وَجْهُهُ. كَأَنّ وَجْهَهُ قِطْعَةُ قَمَرٍ. قَالَ: وَكُنّا نَعْرِفُ ذَلِكَ.
قَالَ: فَلَمّا جَلَسْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ أَنْخَلِعَ مِنْ مَالِي صَدَقَةً إِلَىَ اللّهِ وَإِلَىَ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ بَعْضَ مَالِكَ. فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ". قَالَ: فَقُلْتُ: فَإِنّي أُمْسِكُ سَهْمِي الّذِي بِخَيْبَرَ. قَالَ: وَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّ اللّهَ إِنّمَا أَنْجَانِي بِالصّدْقِ. وَإِنّ مِنْ تَوْبَتِي أَنْ لاَ أُحَدّثَ إِلاّ صِدْقاً مَا بَقِيتُ. قَالَ: فَوَاللّهِ مَا عَلِمْتُ أَنّ أَحَداً مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَبْلاَهُ اللّهُ فِي صِدْقِ الْحَدِيثِ، مُنْذُ ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَىَ يَوْمِي هَذا، أَحْسَنَ مِمّا أَبْلاَنِي اللّهُ بِهِ. وَاللّهِ مَا تَعَمّدْتُ كَذِبَةً مُنْذُ قُلْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَىَ يَوْمِي هَذَا. وَإِنّي لاِءَرْجُو أَنْ يَحْفَظَنِي اللّهُ فِيمَا بَقِيَ.
قَالَ: فَأَنْزَلَ اللّهَ عَزّ وَجَلّ: {لَقَدْ تَابَ اللّهُ عَلَىَ النّبِيّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الّذِينَ اتّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمّ تَابَ عَلَيْهِمْ، إِنّهُ بِهِمْ رَؤفٌ رَحِيمٌ وَعَلَىَ الثّلاَثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا حَتّىَ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} (9 التوبة الاَيتان: 1 و 1) حَتّىَ بَلَغَ: {يَا أَيّهَا الّذِينَ ءَامَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ} (9 التوبة الاَية: 1).
قَالَ كَعْبٌ: وَاللّهِ مَا أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيّ مِنْ نِعْمَةٍ قَطّ، بَعْدَ إِذْ هَدَانِي اللّهُ لِلإِسْلاَمِ، أَعْظَمَ فِي نَفْسِي، مِنْ صِدْقِي رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. أَنْ لاَ أَكُونَ كَذَبْتُهُ فَأَهْلِكَ كَمَا هَلَكَ الّذِينَ كَذَبُوا. إِنّ اللّهَ قَالَ لِلّذِينَ كَذَبُوا، حِينَ أَنْزَلَ الْوَحْيَ، شَرّ مَا قَالَ لأَحَدٍ. وَقَالَ اللّهُ: {سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ، فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ، إِنّهُمْ رِجْسٌ، وَمَأْوَيَهُمْ جَهَنّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ، فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنّ اللّهَ لاَ يَرْضَىَ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ}
قَالَ كَعْبٌ: كُنّا خُلّفْنَا، أَيّهَا الثّلاَثَةُ، عَنْ أَمْرِ أُولَئِكَ الّذِينَ قَبِلَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ حَلَفُوا لَهُ. فَبَايَعَهُمْ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمْ. وَأَرْجَأَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم أَمْرَنَا حَتّىَ قَضَىَ اللّهُ فِيهِ. فَبِذَلِكَ قَالَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {وَعَلَىَ الثّلاَثَةِ الّذِينَ خُلّفُوا}. وَلَيْسَ الّذِي ذَكَرَ اللّهُ مِمّا خُلّفْنَا، تَخَلّفَنَا عَنِ الْغَزْوِ. وَإِنّمَا هُوَ تَخْلِيفُهُ إِيّانَا، وَإِرْجَاؤُهُ أَمْرَنَا، عَمّنْ حَلَفَ لَهُ وَاعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَبِلَ مِنْهُ.
وحدّثنيهِ مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ. حَدّثَنَا حُجَيْنُ بْنُ الْمُثَنّىَ. حَدّثَنَا اللّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ. بِإِسْنَادِ يُونُسَ عَنِ الزّهْرِيّ سَوَاءً.
وحدّثني عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ مُسْلِمٍ، ابْنُ أَخِي الزّهْرِيّ عَنْ عَمّهِ، مُحَمّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الزّهْرِيّ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ أَنّ عُبَيْدَ اللّهِ بْنَ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ حِينَ عَمِيَ، قَالَ: سَمِعْتُ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدّثُ حَدِيثَهُ، حِينَ تَخَلّفَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَزَادَ فِيهِ، عَلَى يُونُسَ: فَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَلّمَا يُرِيدُ غَزْوَةً إِلاّ وَرّىَ بِغَيْرِهَا. حَتّىَ كَانَتْ تِلْكَ الْغَزْوَةُ.
وَلَمْ يَذْكُرْ، فِي حَدِيثِ ابْنِ أَخِي الزّهْرِيّ، أَبَا خَيْثَمَةَ وَلُحُوقَهُ بالنّبِيّ صلى الله عليه وسلم.
وحدّثني سَلَمةُ بْنُ شَبِيبٍ. حَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَعْيَنَ. حَدّثَنَا مَعْقِلٌ (وَهُوَ ابْنُ عُبَيْدِ اللّهِ) عَنِ الزّهْرِيّ. أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ عَمّهِ عُبَيْدِ اللّهِ بْنِ كَعْبٍ وَكَانَ قَائِدَ كَعْبٍ، حِينَ أُصِيبَ بَصَرُهُ. وَكَانَ أَعْلَمَ قَوْمِهِ وَأَوْعَاهُمْ لأَحَادِيثِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي، كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَهُوَ أَحَدُ الثّلاَثَةِ الّذِينَ تِيبَ عَلَيْهِمْ، يُحَدّثُ: أَنّهُ لَمْ يَتَخَلّفْ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا قَطّ. غَيْرَ غَزْوَتَيْنِ. وَسَاقَ الْحَدِيثَ وَقَالَ فِيهِ: وَغَزَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِنَاسٍ كَثِيرٍ يَزِيدُونَ عَلَىَ عَشْرَةِ آلاَفٍ. وَلاَ يَجْمَعُهُمْ دِيوَانُ حَافِظٍ.
قوله: (ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام) أي تبايعنا عليه وتعاهدنا، وليلة العقبة هي الليلة التي بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فيها على الإسلام وأن يودوه وينصروه، وهي العقبة التي في طرف منى التي يضاف إليها جمرة العقبة، وكانت بيعة العقبة مرتين في سنتين، في السنة الأولى كانوا اثني عشر، وفي الثانية سبعين كلهم من الأنصار رضي الله عنهم. قوله: (وإن كانت بدر أذكر) أي أشهر عند الناس بالفضيلة. قوله: (واستقبل سفرا بعيدا ومفازا) أي برية طويلة قليلة الماء يخاف فيها الهلاك، وسبق قريبا بيان الخلاف في تسميتها مفازة ومفازا. قوله: (فجلا للمسلمين أمرهم) هو بتخفيف اللام أي كشفه وبينه وأوضحه وعرفهم ذلك على وجهه من غير تورية يقال جلوت الشيء كشفته. قوله: (ليتأهبوا أهبة غزوهم) الأهبة بضم الهمزة وإسكان الهاء أي ليستعدوا بما يحتاجون إليه في سفرهم ذلك. قوله: (فأخبرهم بوجههم) أي بمقصدهم. قوله: (يريد بذلك الديوان) هو بكسر الدال على المشهور حكي فتحها وهو فارسي معرب وقيل عربي. قوله: (فقل رجل يريد أن يتغيب يظن أن ذلك سيخفى له ما لم ينزل فيه وحي من الله تعالى) قال القاضي: هكذا هو في جميع نسخ مسلم، وصوابه ألا يظن أن ذلك سيخفى له بزيادة إلا وكذا رواه البخاري. (فأنا إليها أصعر) أي أميل. قوله: (حتى استمر بالناس الجد) بكسر الجيم. قوله: (ولم أقض من جهازي شيئا) بفتح الجيم وكسرها أي أهبة سفري. قوله: (تفارة الغزو) أي تقدم الغزاة وسبقوا وفاتوا. قوله: (رجلاً مغموصا عليه في النفاق) أي متهما به وهو بالغين المعجمة والصاد المهملة. قوله: (ولم يذكرني حتى بلغ تبوكا) هكذا هو في أكثر النسخ تبوكا بالنصب، وكذا هو في نسخ البخاري، وكأنه صرفها لإرادة الموضع دون البقعة. قوله: (والنظر في عطفيه) أي جانبيه وهو إشارة إلى إعجابه بنفسه ولباسه. قوله: (فقال له معاذ بن جبل بئس ما قلت) هذا دليل لرد غيبة المسلم الذي ليس بمتهتك في الباطل وهو من مهمات الاَداب وحقوق الإسلام. قوله: (رأى رجلاً مبيضا يزول به السراب) المبيض بكسر الباء هو لابس البياض، ويقال هم المبيضة والمسودة بالكسر فيهما أي لابسوا البياض والسواد ويزول به السراب أي يتحرك وينهض، والسراب هو ما يظهر للإنسان في الهواجر في البراري كأنه ماء. قوله صلى الله عليه وسلم: "كن أبا خيثمة" قيل معناه أنت أبو خيثمة قال ثعلب: العرب تقول كن زيدا أي أنت زيد. قال القاضي عياض: والأشبه عندي أن كن هنا للتحقق والوجود أي لتوجد يا هذا الشخص أبا خيثمة حقيقة، وهذا الذي قاله القاضي هو الصواب وهو معنى قول صاحب التحرير تقديره: اللهم اجعله أبا خيثمة، وأبو خيثمة هذا اسمه عبد الله بن خيثمة وقيل مالك بن قيس، قال بعض الحفاظ: وليس في الصحابة من يكنى أبا خيثمة إلا إثنان: أحدهما هذا والثاني عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي. قوله: (لمزه المنافقون) أي عابوه واحتقروه. قوله: (توجه قافلاً) أي راجعا. قوله: (حضرني بثي) أي أشد الحزن. قوله: (قد أظل قادما زاح عني الباطل) فقوله أظل بالظاء المعجمة أي أقبل ودنا قدومه كأنه ألقى على ظله وزاح أي زال. قوله: (فأجمعت صدقة) أي عزمت عليه يقال أجمع أمره وعلى أمره وعزم عليه بمعنى. قوله: (لقد أعطيت جدلاً) أي فصاحة وقوة في الكلام وبراعة بحيث أخرج عن عهدة ما ينسب إلي إذا أردت. قوله: (تبسم تبسم المغضب) هو بفتح الضاد أي الغضبان. قوله: (ليوشكن) هو بكسر الشين أي ليسرعن. قوله: (تجد علي فيه) هو بكسر الجيم وتخفيف الدال أي تغضب. قوله: (إني لأرجو فيه عقبى الله) أي أن يعقبني خيرا وأن يثبتني عليه. قوله: (فوالله ما زالوا يؤنبونني) هو بهمز بعد الياء ثم نون ثم موحدة أي يلومونني أشد اللوم. قوله: (في الرجلين صاحبي كعب هما مرارة بن ربيعة العامري) هكذا هو في جميع نسخ مسلم العامري، وأنكره العلماء وقالوا هو غلط إنما صوابه العمري بفتح العين وإسكان الميم من بني عمرو بن عوف، وكذا ذكره البخاري، وكذا نسبه محمد بن إسحاق وابن عبد البر وغيرهما من الأئمة، قال القاضي: هو الصواب وإن كان القابسي قد قال لا أعرفه إلا العامري فالذي غيره الجمهور أصح وأما قوله مرارة بن ربيعة فكذا وقع في نسخ مسلم، وكذا نقله القاضي عن نسخ مسلم، ووقع في البخاري ابن الربيع، قال ابن عبد البر: يقال بالوجهين، ومرارة بضم الميم وتخفيف الراء المكررة. قوله: (وهلال بن أمية الواقفي) هو بقاف ثم فاء منسوب إلى واقف بطن من الأنصار وهو هلال بن أمية بن عامر بن قيس بن عبد الأعلى بن عامر بن كعب بن واقف، واسم واقف مالك بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس الأنصاري. قوله: (ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة) قال القاضي: هو بالرفع وموضعه نصب على إِلاختصاص، قال سيبويه نقلاً عن العرب: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة وهذا مثله، وفي هذا هجران أهل البدع والمعاصي.
قوله: (حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف) معناه تغير علي كل شيء حتى الأرض فإنها توحشت علي وصارت كأنها أرض لم أعرفها لتوحشها علي. قوله: (فأما صاحباي فاستكانا) أي خضعا. قوله: (أشب القوم وأجلدهم) أي أصغرهم سنا وأقواهم. قوله: (تسورت جدار حائط أبي قتادة) معنى تسورته علوته وصعدت سوره وهو أعلاه، وفيه دليل لجواز دخول الإنسان بستان صديقه وقريبه الذي يدل عليه ويعرف أنه لا يكره له ذلك بغير إذنه بشرط أن يعلم أنه ليس له هناك زوجة مكشوفة ونحو ذلك. قوله: "فسلمت عليه فوالله ما رد علي السلام" لعموم النهي عن كلامهم، وفيه أنه لا يسلم على المبتدعة ونحوهم، وفيه أن السلام كلام، وأن من حلف لا يكلم إنسانا فسلم عليه أو رد عليه السلام حنث. قوله: (أنشدك بالله) هو بفتح الهمزة وضم الشين أي أسألك الله وأصله من النشيد وهو الصوت. قوله: (الله ورسوله أعلم) قال القاضي: لعل أبا قتادة لم يقصد بهذا تكليمه لأنه منهي عن كلامه، وإنما قال ذلك لنفسه لما ناشده الله فقال أبو قتادة مظهرا لاعتقاده لا ليسمعه، ولو حلف رجل لا يكلم رجلاً فسأله عن شيء فقال الله أعلم يريد إسماعه وجوابه حنث. قوله: (نبطي من نبط أهل الشام) يقال النبط والأنباط والنبيط وهم فلاحو العجم. قوله: (ولم يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك) المضيعة فيها لغتان: إحداهما كسر الضاد وإسكان الياء، والثانية بإسكان الضاد وفتح الياء أي في موضع رحال يضاع فيه حقك. وقوله نواسك وفي بعض النسخ نواسيك بزيادة ياء وهو صحيح أي ونحن نواسيك وقطعه عن جواب الأمر، ومعناه نشاركك فيما عندنا. قوله: (فتياممت بها التنور فسجرتها) هكذا هو في جميع النسخ ببلادنا وهي لغة في تيممت ومعناهما قصدت، ومعنى سجرتها أي أحرقتها وأنث الضمير لأنه أراد معنى الكتاب وهو الصحيفة. قوله: (واستلبث الوحي) أي أبطأ. قوله: (فقلت لامرأتي إلحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر) هذا دليل على أن هذا اللفظ ليس صريحا في الطلاق وإنما هو كناية ولم ينو به الطلاق فلم يقع. قوله: (وأنا رجل شاب) يعني أني قادر على خدمة نفسي، وأخاف أيضا على نفسي من حدة الشباب إن أصبت امرأتي وقد نهيت عنها. قوله: (فكمل لنا خمسون) هو بفتح الميم وضمها ونكسرها. قوله: (وضاقت علي الأرض بما رحبت) أي بما اتسعت، ومعناه ضاقت علي الأرض مع أنها متسعة والرحب السعة. قوله: (سمعت صارخا أوفى على سلع) أي صعده وارتفع عليه، وسلع بفتح السين المهملة وإسكان اللام وهي جبل بالمدينة معروف. قوله: (يا كعب بن مالك أبشر). وقوله: (فذهب الناس يبشروننا) فيه دليل لاستحباب التبشير والتهنيئة لمن تجددت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه كربة شديدة ونحو ذلك، وهذا الاستحباب عام في كل نعمة حصلت وكربة انكشفت سواء كانت من أمور الدين أو الدنيا. قوله: (فخررت ساجدا) دليل للشافعي وموافقيه في استحباب سجود الشكر بكل نعمة ظاهرة حصلت أو نقمة ظاهرة اندفعت. قوله: (فآذن الناس) أي أعلمهم. قوله: (فنزعت له ثوبي فكسوتهما إياه ببشارته) فيه استحباب إجازة البشير بخلعة وإلا فبغيرها والخلعة أحسن وهي المعتادة. قوله: (واستعرت ثوبين فلبستهما) فيه جواز العارية وجواز إعارة الثوب للبس. قوله: (فانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا) أتأمم أقصد والفوج الجماعة. قوله: (فقام طلحة بن عبيد الله يهرول حتى صافحني وهنأني) فيه استحباب مصافحة القادم والقيام له إكراما والهرولة إلى لقائه بشاشة وفرحا. قوله صلى الله عليه وسلم: "أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك" معناه سوى يوم إسلامك إنما لم يستثنه لأنه معلوم لا بد منه. قوله: "إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك بعض مالك فهو خير لك" معنى أنخلع منه أخرج منه وأتصدق به. وفيه استحباب الصدقة شكرا للنعم المتجددة لا سيما ما عظم منها، وإنما أمره صلى الله عليه وسلم بإِلاقتصار على الصدقة ببعضه خوفا من تضرره بالفقر وخوفا أن لا يصبر على الإضاقة، ولا يخالف هذا صدقة أبي بكر رضي الله عنه بجميع ماله فإنه كان صابرا راضيا. فإن قيل: كيف قال أنخلع من مالي فأثبت له مالاً مع قوله أولاً نزعت ثوبي والله ما أملك غيرهما؟ فالجواب أن المراد بقوله أن أنخلع من مالي الأرض والعقار ولهذا قال فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وأما قوله: ما أملك غيرهما فالمراد به من الثياب ونحوها مما يخلع ويليق بالبشير، وفيه دليل على تخصيص اليمين بالنية وهو مذهبنا، فإذا حلف لا مال له ونوى نوعا لم يحنث بنوع آخر من المال،أو لا يأكل ونوى تمرا لم يحنث بالخبز. قوله: (فوالله ما علمت أحدا من المسلمين أبلاه الله تعالى في صدق الحديث أحسن مما أبلاني) أي أنعم عليه، والبلاء والإبلاء يكون في الخير والشر، لكن إذا أطلق كان للشر غالبا، فإذا أريد الخير قيد كما قيده هنا فقال أحسن مما أبلاني. قوله: (والله ما تعمدت كذبة) هي بإسكان الذال وكسرها.
قوله: (ما أنعم الله علي من نعمة قط بعد إذ هداني للإسلام أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا أكون كذبته فأهلك) هكذا هو في جميع نسخ مسلم وكثير من روايات البخاري. قال العلماء لفضة لا في قوله أن لا أكون زائدة ومعناه أن أكون كذبته كقوله تعالى: {ما منعك أن لا تسجد إذ أمرتك} وقوله: فأهلك بكسر اللام على الفصيح المشهور وحكي فتحها وهو شاذ ضعيف. قوله: (وإرجاؤه أمرنا) أي تأخيره. قوله: (في رواية ابن أخي الزهري عن عمه عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب عن عبيد الله بن كعب) كذا قاله في هذه الرواية عبيد الله بضم العين مصغر، وكذا قاله في الرواية التي بعدها رواية معقل بن عبيد الله عن الزهري عن عبد الرحمن عن عبيد الله بن كعب مصغر، وقال قبلهما في رواية يونس المذكور أول الحديث عن الزهري عن عبد الله بن كعب بفتح العين مكبر، وكذا قال في رواية عقيل عن الزهري عن عبد الله بن كعب مكبر، قال الدارقطني: الصواب رواية من قال عبد الله بفتح العين مكبر، ولم يذكر البخاري في الصحيح إلا رواية عبد الله مكبر مع تكراره الحديث. قوله: (قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها) أي أوهم غيرها وأصله من وراء كأنه جعل البيان وراء ظهره. قوله: (وكان أوعاهم لأحاديث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي أحفظهم. قوله: (لم يتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط غير غزوتين) المراد بهما غزوة بدر وغزوة تبوك كما صرح به في الرواية الأولى. قوله: (وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بناس كثير يزيدون على عشرة آلاف) هكذا وقع هنا زيادة على عشرة آلاف ولم يبين قدرها، وقد قال أبو زرعة الرازي كانوا سبعين ألفا، وقال ابن إسحاق كانوا ثلاثين ألفا وهذا أشهر، وجمع بينهما بعض الأئمة بأن أبا زرعة عد التابع والمتبوع وابن إسحاق عد المتبوع فقط والله أعلم. واعلم أن في حديث كعب هذا رضي الله عنه فوائد كثيرة: إحداها إباحة الغنيمة لهذه الأمة لقوله خرجوا يريدون عير قريش الثانية: فضيلة أهل بدر وأهل العقبة. الثالثة: جواز الحلف من غير استحلاف في غير الدعوى عند القاضي. الرابعة: أنه ينبغي لأمير الجيش إذا أراد غزوة أن يورى بغيرها لئلا يسبقه الجواسيس ونحوهم بالتحدير إلا إذا كاتن سفرة بعيدة فيستحب أن يعرفهم البعد ليتأهبوا. الخامسة: التأسف على ما فات من الخير وتمنى المتأسف أنه كان فعله لقوله فيا ليتني فعلت. السادسة: رد غيبة المسلم لقول معاذ بئس ما قلت. السابعة: فضيلة الصدق وملازمته وإن كان فيه مشقة فإن عاقبته خير، وإن الصدق يهدي إلى البر والبر يهدي إلى الجنة كما ثبت في الصحيح. الثامنة: استحباب صلاة القادم من سفر ركعتين في مسجد محلته أول قدومه قبل كل شيء. التاسعة: أنه يستحب للقادم من سفر إذا كان مشهورا يقصده الناس لسلام عليه أن يقعد لهم في مجلس بارز هين الوصول إليه. العاشرة: الحكم الطاهر والله يتولى السرائر وقبول معاذير المنافقين ونحوهم ما لم يترتب على ذلك مفسدة. الحادية عشرة: استحباب هجران أهل البدع والمعاصي الظاهرة وترك السلام عليهم ومقاطعتهم تحقيرا لهم وزجرا. الثانية عشر: استحباب بكائه على نفسه إذا وقعت منه معصية. الثالثة عشر: أن مسارقة النظر في الصلاة والإلتفات لا يبطلها. الرابعة عشر: أن السلام يسمى كلاما وكذلك رد السلام، وأن من حلف لا يكلم إنسانا فسلم عليه أو رد عليه السلام يحنث. الخامسة عشر: وجوب إيثار طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم على مودة الصديق والقريب وغيرهما كما فعل أبو قتادة حين سلم عليه كعب فلم يرد حين نهى عن كلامه. السادسة عشر: أنه إذا حلف لا يكلم إنسانا فتكلم ولم يقصد كلامه بل قصد غيره فسمع المحلوف عليه لم يحنث الحالف لقوله الله أعلم فإنه محمول على أنه لم يقصد كلامه كما سبق. السابعة عشرة: جواز إحراق ورقة فيها ذكر الله تعالى لمصلحة كما فعل عثمان والصحابة رضي الله عنهم بالمصاحف التي هي غير مصحفه الذي أجمعت الصحابة عليه وكان ذلك صيانة فهي حاجة وموضع الدلالة من حديث كعب أنه أحرق الورقة وفيها لم يجعلك الله بدار هوان. الثامنة عشر: إخفاء ما يخاف من إظهاره مفسدة وإتلاف. التاسعة عشر: أن قوله لامرأته الحقي بأهلك ليس بصريح طلاق ولا يقع به شيء إذا لم ينو. العشرون: جواز خدمة المرأة زوجها برضاها وذلك جائز له بالإجماع فأما إلزامها بذلك فلا. الحادية والعشرون: استحباب الكنايات في ألفاظ الاستمتاع بالنساء ونحوها. الثانية والعشرون: الورع والاحتياط بمجانبة ما يخاف منه الوقوع في منهى عنه لأنه لم يستأذن في خدمة امرأته له وعلل بأنه شاب أي لا يأمن مواقعتها وقد نهي عنها. الثالثة والعشرون: استحباب سجود الشكر عند تجدد نعمة ظاهرة أو اندفاع بلية ظاهرة وهو مذهب الشافعي وطائفة، وقال أبو حنيفة وطائفة لا يشرع. الرابعة والعشرون: استحباب التبشير بالخير. الخامسة والعشرون: استحباب تهنئة من رزقه الله خيرا ظاهرا أو صرف عنه شرا ظاهرا. السادسة والعشرون: استحباب إكرام المبشر بخلعه أو نحوها.
السابعة والعشرون: أنه يجوز تخصيص اليمين بالنية فإذا حلف لا مال له ونوى نوعا لم يحنث بنوع من المال غيره، وإذا حلف لا يأكل ونوى خبزا لم يحنث باللحم والتمر وسائر المأكول ولا يحنث إلا بذلك النوع، وكذلك لو حلف لا يكلم زيدا ونوى كلاما مخصوصا لم يحنث بتكليمه إياه غير ذلك الكلام المخصوص وهذا كله متفق عليه عند أصحابنا، ودليله من هذا الحديث قوله في الثوبين: والله ما أملك غيرهما، ثم قال بعده في ساعة: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة، ثم قال: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. الثامنة والعشرون: جواز العارية. التاسعة والعشرون جواز استعارة الثياب للبس. الثلاثون: استحباب اجتماع الناس عند إمامهم وكبيرهم في الأمور المهمة من بشارة ومشورة وغيرهما الحادية والثلاثون: استحباب القيام للوارد إكراما له إذا كان من أهل الفضل بأي نوع كان، وقد جاءت به أحاديث جمعتها في جزء مستقل بالترخيص فيه، والجواب عما يظن به مخالفا لذلك. الثانية والثلاثون: استحباب المصافحة عند التلاقي وهي سنة بلا خلاف. الثالثة والثلاثون: استحباب سرور الإمام وكبير القوم بما يسر أصحابه وأتباعه. الرابعة والثلاثون: أنه يستحب لمن حصلت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه كربة ظاهرة أن يتصدق بشيء صالح من ماله شكرا لله تعالى على إحسانه، وقد ذكر أصحابنا أنه يستحب له سجود الشكر والصدقة جميعا وقد اجتماع في هذا الحديث. الخامسة والثلاثون: أنه يستحب لمن خاف أن لا يصبر على الإضافة أن لا يتصدق بجميع ماله بل ذلك مكروه له. السادسة والثلاثون: أنه يستحب لمن رأى من يريد أن يتصدق بكل ماله ويخاف عليه أن لا يصبر على الإضاقة أن ينهاه عن ذلك ويشير عليه ببعضه. السابعة والثلاثون: أنه يستحب لمن تاب بسبب من الخير أن يحافظ على ذلك السبب فهو أبلغ في تعظيم حرمات الله كما فعل كعب في الصدق والله أعلم.
*2* باب في حديث الإِفك، وقبول توبة القاذف
*حدّثنا حِبّانُ بْنُ مُوسَى. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ. أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ الأَيْلِيّ. ح وَحَدّثَنَا إِسْحَقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيّ وَ مُحَمّدُ بْنُ رَافِعٍ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. (قَال ابْنُ رَافِعٍ: حَدّثَنَا. وَقَالَ الاَخَرَانِ: أَخْبَرَنَا) عَبْدُ الرّزّاقِ. أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ. وَالسّيَاقُ حَدِيثُ مَعْمَرٍ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدٍ و ابْنِ رَافِعٍ قَالَ يُونُسُ وَ مَعْمَرٌ. جَمِيعاً عَنِ الزّهْرِيّ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيّبِ وَ عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ وَ عَلْقَمَةُ بْنُ وَقّاصٍ وَ عُبَيْدُ اللّهِ بْنُ عَبْدِ اللّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ، زَوْجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم حِينَ قَالَ لَهَا أَهْلُ الإِفْكِ مَا قَالُوا. فَبَرّأَهَا اللّهُ مِمّا قَالُوا. وَكُلّهُمْ حَدّثَنِي طَائِفَةً مِنْ حَدِيثِهَا. وَبَعْضُهُمْ كَانَ أَوْعَىَ لِحَدِيثِهَا مِنْ بَعْضٍ. وَأَثْبَتَ اقْتِصَاصاً. وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْحَدِيثَ الّذِي حَدّثَنِي. وَبَعْضُ حَدِيثِهِمْ يُصَدّقُ بَعْضاً. ذَكَرُوا أَنّ عَائِشَةَ، زَوْجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَراً، أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيّتُهُنّ خَرَجَ سَهْمُهَا، خَرَجَ بِهَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَهُ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزْوَةٍ غَزَاهَا. فَخَرَجَ فِيهَا سَهْمِي. فَخَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. وَذَلِكَ بَعْدَمَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ. فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجِي، وَأُنْزَلُ فِيهِ، مَسِيرَنَا. حَتّىَ إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَزْوِهِ، وَقَفَلَ، وَدَنَوْنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، آذَنَ لَيْلَةً بِالرّحِيلِ. فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرّحِيلِ. فَمَشَيْتُ حَتّىَ جَاوَزْتُ الْجَيْشَ. فَلَمّا قَضَيْتُ مِنْ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَىَ الرّحْلِ. فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدِي مِنْ جَزْعِ ظَفَارِ قَدِ انْقَطَعَ. فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ. وَأَقْبَلَ الرّهْطُ الّذِينَ كَانُوا يَرْحَلُونَ لِي فَحَمَلُوا هَوْدَجِي. فَرَحَلُوهُ عَلَىَ بَعِيرِي الّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ. وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنّي فِيهِ.
قَالَتْ: وَكَانَتِ النّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافاً، لَمْ يُهَبّلْنَ وَلَمْ يَغْشَهُنّ اللّحْمُ. إِنّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلْقَةَ مِنَ الطّعَامِ. فَلَمْ يَسْتَنْكِرِ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ حِينَ رَحَلُوهُ وَرَفَعُوهُ. وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السّنّ. فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا. وَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرّ الْجَيْشُ. فَجِئْتُ مَنَازِلَهُمْ وَلَيْسَ بِهَا دَاعٍ وَلاَ مُجِيبٌ. فَتَيَمّمْتُ مَنْزِلِي الّذِي كُنْتُ فِيهِ. وَظَنَنْتُ أَنّ الْقَوْمَ سَيَفْقِدُونِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيّ. فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ فِي مَنْزِلِي غَلَبَتْنِي عَيْنِي فَنِمْتُ. وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ السّلَمِيّ، ثُمّ الذّكْوَانِيّ، قَدْ عَرّسَ، مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فَادّلَجَ. فَأَصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي. فَرَأَىَ سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ. فَأَتَانِي فَعَرَفَنِي حِينَ رَآنِي. وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ عَلَيّ. فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ حِينَ عَرَفَنِي. فَخَمّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي. وَوَاللّهِ مَا يُكَلّمُنِي كَلِمَةً وَلاَ سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ. حَتّىَ أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ. فَوَطِئَ عَلَىَ يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا. فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِي الرّاحِلَةَ. حَتّىَ أَتَيْنَا الْجَيْشَ. بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظّهِيرَةِ. فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي. وَكَانَ الّذِي تَوَلّىَ كِبْرَهُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيَ ابْنِ سَلُولَ. فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. فَاشْتَكَيْتُ، حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، شَهْراً. وَالنّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ. وَلاَ أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. وَهُوَ يُرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنّي لاَ أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم اللّطْفَ الّذِي كُنتُ أَرَىَ مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي. إِنّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فَيُسَلّمُ ثُمّ يَقُولُ: "كَيْفَ تِيكُمْ؟" فَذَاكَ يَرِيبُنِي. وَلاَ أَشْعُرُ بِالشّرّ. حَتّىَ خَرَجْتُ بَعْدَ مَا نَقِهْتُ وَخَرَجَتْ مَعِي أُمّ مِسْطَحٍ قِبَلَ الْمَنَاصِعِ. وَهُوَ مُتَبَرّزُنَا. وَلاَ نَخْرُجُ إِلاّ لَيْلاً إِلَىَ لَيْلٍ. وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ نَتّخِذَ الْكُنُفَ قَرِيباً مِنْ بُيُوتِنَا. وَأَمْرُنَا أَمْرُ الْعَرَبِ الأُوَلِ فِي التّنَزّهِ. وَكُنّا نَتَأَذّىَ بِالْكُنُفِ أَنْ نَتّخِذَهَا عِنْدَ بُيُوتِنَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأُمّ مِسْطَحٍ، وَهْيَ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ وَأُمّهَا ابْنَةُ صَخْرِ بْنِ عَامِرٍ، خَالَةُ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ. وَابْنُهَا مِسْطَحُ بْنُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبّادِ بْن الْمُطّلِبِ. فَأَقْبَلْتُ أَنَا وَبِنْتُ أَبِي رُهْمٍ قِبَلَ بَيْتِي. حِينَ فَرَغْنَا مِنْ شَأْنِنَا. فَعَثَرَتْ أُمّ مِسْطَحٍ فِي مِرْطِهَا. فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ. فَقُلْتُ لَهَا: بِئْسَ مَا قُلْتِ. أَتَسُبّينَ رَجُلاً قَدْ شَهِدَ بَدْراً. قَالَتْ: أَيْ هَنْتَاهُ أَوَ لَمْ تَسْمَعِي مَا قَالَ؟ قُلْتُ: وَمَاذَا قَالَ؟ قَالَتْ، فَأَخْبَرَتْنِي بِقَوْلِ أَهْلِ الإِفْكِ. فَازْدَدْتُ مَرَضاً إِلَىَ مَرَضِي. فَلَمّا رَجَعْتُ إِلَىَ بَيْتِي، فَدَخَلَ عَلَيّ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَلّمَ ثُمّ قَالَ: "كَيْفَ تِيكُمْ؟" قُلْتُ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ آتِيَ أَبَوَيّ؟ قَالَتْ، وَأَنَا حِينَئِذٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَيَقّنَ الْخَبَرَ مِنْ قِبَلِهِمَا. فَأَذِنَ لِي رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَجِئْتُ أَبَوَيّ فَقُلْتُ لأُمّي: يَا أَمّتَاهْ مَا يَتَحَدّثُ النّاسُ؟ فَقَالَتْ: يَا بُنَيّةُ هَوّنِي عَلَيْكِ. فَوَاللّهِ لَقَلّمَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَطّ وَضِيئَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبّهَا، وَلَهَا ضَرَائِرُ. إِلاّ كَثّرْنَ عَلَيْهَا. قَالَتْ قُلْتُ: سُبْحَانَ اللّهِ وَقَدْ تَحَدّثَ النّاسُ بِهَذَا؟. قَالَتْ: فَبَكَيْتُ تِلْكَ اللّيْلَةَ حَتّىَ أَصْبَحْتُ لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. ثُمّ أَصْبَحْتُ أَبْكِي. وَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَأُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ حِينَ اسْتَلْبَثَ الْوَحْيُ. يَسْتَشِيرُهُمَا فِي فِرَاقِ أَهْلِهِ. قَالَتْ: فَأَمّا أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ فَأَشَارَ عَلَىَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِالّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ، وَبِالّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِنَ الْوُدّ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ هُمْ أَهْلُكَ وَلاَ نَعْلَمُ إِلاّ خَيْراً. وَأَمّا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: لَمْ يُضَيّقِ اللّهُ عَلَيْكَ. وَالنّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ. وَإِنْ تَسْأَلِ الْجَارِيَةَ تَصْدُقْكَ.
قَالَتْ فَدَعَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَرِيرَةَ فَقَالَ: "أَيْ بَرِيرَةُ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ مِنْ عَائِشَةَ؟" قَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ: وَالّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقّ إِنْ رَأَيْتُ عَلَيْها أَمْراً قَطّ أَغْمِصُهُ عَلَيْهَا، أَكْثَرَ مِنْ أَنّهَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السّنّ، تَنَامُ عَنْ عَجِينِ أَهْلِهَا، فَتَأْتِي الدّاجِنُ فَتَأْكُلُهُ. قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَىَ الْمِنْبَرِ. فَاسْتَعْذَرَ مِنْ عَبْدِ اللّهِ بْنِ أُبَيَ، ابْنِ سَلُولَ. قَالَتْ: فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: وَهُوَ علَىَ الْمِنْبَرِ: "يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي. فَوَاللّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَىَ أَهْلِي إِلاّ خَيْراً. وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلاً مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلاّ خَيْراً. وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَىَ أَهْلِي إِلاّ مَعِي" فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الأَنْصَارِيّ فَقَالَ: أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ. يَا رَسُولَ اللّهِ إِنْ كَانَ مِنَ الأَوْسِ قَتَلْنَاهُ. وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ. قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَهُوَ سَيّدُ الْخَزْرَجِ، وَكَانَ رَجُلاً صَالِحاً. وَلَكِنِ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيّةُ. فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: كَذَبْتَ. لَعَمْرُ اللّهِ لاَ تَقْتُلُهُ وَلاَ تَقْدِرُ عَلَىَ قَتْلِهِ. فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ، وَهُوَ ابْنُ عَمّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ: كَذَبْتَ. لَعَمْرُ اللّهِ لَنَقْتُلَنّهُ. فَإِنّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ. فَثَارَ الْحَيّانِ الأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ. حَتّىَ هَمّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا. وَرَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم قَائِمٌ عَلَىَ الْمِنْبَرِ. فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم يُخَفّضُهُمْ حَتّىَ سَكَتُوا وَسَكَتَ. قَالَتْ: وَبَكَيْتُ يَوْمِي ذَلِكَ. لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. ثُمّ بَكَيْتُ لَيْلَتِيَ الْمُقْبِلَةَ. لاَ يَرْقَأُ لِي دَمْعٌ وَلاَ أَكْتَحِلُ بِنَوْمٍ. وَأَبَوَايَ يَظُنّانِ أَنّ الْبُكَاءَ فَالِقٌ كَبِدِي. فَبَيْنَمَا هُمَا جَالِسَانِ عِنْدِي، وَأَنَا أَبْكِي، اسْتَأْذَنَتْ عَلَيّ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَأَذِنْتُ لَهَا. فَجَلَسَتْ تَبْكِي. قَالَتْ فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَىَ ذَلِكَ دَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَسَلّمَ ثُمّ جَلَس. قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ. وَقَدْ لَبِثَ شَهْراً لاَ يُوحَىَ إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ. قَالَتْ: فَتَشَهّدَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ جَلَسَ ثُمّ قَالَ: "أَمّا بَعْدُ. يَا عَائِشَةُ! فَإِنّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا. فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرّئُكِ اللّهُ. وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ، فَاسْتَغْفِرِي اللّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ. فَإِنّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمّ تَابَ، تَابَ اللّهُ عَلَيْهِ". قَالَتْ: فَلَمّا قَضَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَقَالَتَهُ، قَلَصَ دَمْعِي حَتّىَ مَا أُحِسّ مِنْهُ قَطْرَةً. فَقُلْتُ لأَبِي: أَجِبْ عَنّي رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا قَالَ: فَقَالَ: وَاللّهِ، مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ لأُمّي: أَجِيبِي عنّي رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَالَتْ: وَاللّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَقُلْتُ، وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السّنّ، لاَ أَقْرَأُ كَثِيراً مِنَ الْقُرْآنِ: إِنّي، وَاللّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتّىَ اسْتَقَرّ فِي نُفُوسِكُمْ وَصَدّقْتُمْ بِهِ. فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنّي بَرِيئَةٌ، وَاللّهُ يَعْلَمُ أَنّي بَرِيئَةٌ، لاَ تُصَدّقُونِي بِذَلِكَ. وَلَئِنِ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ، وَاللّهُ يَعْلَمُ أَنّي بَرِيئَةٌ، لَتُصَدّقُونَنِي. وَإِنّي، وَاللّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلاً إِلاّ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
قَالَتْ: ثُمّ تَحَوّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَىَ فِرَاشِي. قَالَتْ: وَأَنَا، وَاللّهِ حِينَئِذٍ أَعْلَمُ أَنّي بَرِيئَةٌ. وَأَنّ اللّهَ مُبَرّئِي بِبَرَاءَتِي. وَلَكِنْ، وَاللّهِ مَا كُنْتُ أَظُنّ أَنْ يُنْزَلَ فِي شَأْنِي وَحْيٌ يُتْلَىَ. وَلَشَأنِي كَانَ أَحْقَرَ فِي نَفْسِي مِنْ أَنْ يَتَكَلّمَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ فِيّ بِأَمْرٍ يُتْلَىَ. وَلَكِنّي كُنْتُ أَرْجُو أَنْ يَرَىَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فِي النّوْمِ رُؤْيَا يُبَرّئُنِي اللّهُ بِهَا. قَالَتْ: فَوَاللّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسَهُ، وَلاَ خَرَجَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ أَحَدٌ، حَتّىَ أَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ عَلَىَ نَبِيّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ مِنَ الْبُرَحَاءِ عِنْدَ الْوَحْي. حَتّىَ إِنّهُ لَيَتَحَدّرُ مِنْهُ مِثْلُ الْجُمَانِ مِنَ الْعَرَقِ، فِي الْيَوْمِ الشّاتِ، مِنْ ثِقَلِ الْقَوْلِ الّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِ. قَالَتْ: فَلَمّا سُرّيَ عَنْ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَضْحَكُ، فَكَانَ أَوّلَ كَلِمَةٍ تَكَلّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: "أَبْشِرِي. يَا عَائِشَةُ أَمّا اللّهُ فَقَدْ بَرّأَكِ" فَقَالَتْ لِي أُمّي: قُومِي إِلَيْهِ. قَالَتْ: وَاللّهِ لاَ أَقُومُ إِلَيْهِ. لاَ أَحْمَدُ إِلاّ اللّهَ. هُوَ الّذِي أَنْزَلَ بَرَاءَتِي. قَالَتْ فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ: {إِنّ الّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} (النور الاَية: ). عَشْرَ آيَاتٍ. فَأَنْزَلَ اللّهُ عَزّ وَجَلّ هَؤُلاَءِ الاَيَاتِ بَرَاءَتِي. قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَىَ مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَفَقْرِهِ: وَاللّهِ لاَ أُنْفِقُ عَلَيْهِ شَيْئاً أَبَداً. بَعْدَ الّذِي قَال لِعَائِشَةَ. فَأَنْزَلَ اللّهُ الاَية: {وَلاَ يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَىَ} (النور الاَية: ). إِلَىَ قوله: {أَلاَ تُحِبّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ}.
قَالَ حِبّانُ بْنُ مُوسَىَ: قَالَ عَبْدُ اللّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: هَذِهِ أَرْجَىَ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللّهِ.
فقالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاللّهِ إِنّي لأُحِبّ أَنْ يَغْفِرَ اللّهُ لِي. فَرَجَعَ إِلَىَ مِسْطَحٍ النّفَقَةَ الّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ. وَقَالَ: لاَ أَنْزِعُهَا مِنْهُ أَبَداً.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم سَأَلَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، زَوْجَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرِي: "مَا عَلِمْتِ؟ أَوْ مَا رَأَيْتِ؟" فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللّهِ أَحْمِي سَمْعِي وَبَصَرِي. وَاللّهِ مَا عَلِمْتُ إِلاّ خَيراً.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَهِيَ الّتِي كَانَتْ تُسَامِينِي مِنْ أَزْوَاجِ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم. فَعَصَمَهَا اللّهُ بِالْوَرَعِ. وَطَفِقَتْ أُخْتُهَا حَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ تُحَارِبُ لَهَا. فَهَلَكَتْ فِيمَنْ هَلَكَ.
قَالَ الزّهْرِيّ: فَهَذَا مَا انْتَهَىَ إِلَيْنَا مِنْ أَمْرِ هَؤُلاَءِ الرّهْطِ.
وَقَالَ فِي حَدِيثِ يُونُسَ: احْتَمَلَتْهُ الْحَمِيّةُ.
وحدّثني أَبُو الرّبِيعِ الْعَتَكِيّ. حَدّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ. ح وَحَدّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيَ الْحُلْوَانِيّ وَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ. قَالاَ: حَدّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ. حَدّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ كِلاَهُمَا عَنِ الزّهْرِيّ بِمِثْلِ حَدِيثِ يُونُسَ وَمَعْمَرٍ. بِإِسْنَادِهِمَا.
وَفِي حَدِيثِ فُلَيحٍ: اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيّةُ. كَمَا قَالَ مَعْمَرٌ.
وَفِي حَدِيثِ صَالِحٍ: احْتَمَلَتْهُ الْحَمَيّةُ كَقَوْلِ يُونُسَ. وَزَادَ فِي حَدِيثِ صَالِحٍ: قَالَ عُرْوَةُ: كَانَتْ عَائِشَةُ تَكْرَهُ أَنْ يُسَبّ عِنْدَهَا حَسّانُ. وَتَقُولُ: فَإِنّهُ قَالَ:
فَإِنّ أَبِي وَوَالِدَهُ وَعِرْضِيلِعِرْضِ مُحَمّدٍ مِنْكُمْ وِقَاءُ
وزادَ أَيْضاً: قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ: وَاللّهِ إِنّ الرّجُلَ الّذي قِيلَ لَهُ مَا قِيلَ لَيَقُولُ: سُبْحَانَ اللّهِ فَوَالّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا كَشَفْتُ عَنْ كَنَفِ أُنْثَىَ قَطّ. قَالَتْ: ثُمّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهِيداً فِي سَبِيلِ اللّهِ.
وَفِي حَدِيثِ يَعْقُوبَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: مُوعِرِينَ فِي نَحْرِ الظّهِيرَةِ.
وَقَالَ عَبْدُ الرّزّاقِ: مُوغِرِينَ.
قَالَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرّزّاقِ: مَا قَوْلُهُ مُوغِرِينَ؟ قَالَ: الْوَغْرَةُ شِدّةُ الْحَرّ.
حدّثنا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَ مُحَمّدُ بْنُ الْعَلاَءِ. قَالاَ: حَدّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمّا ذُكِرَ مِن شَأْنِي الّذِي ذُكِرَ، وَمَا عَلِمْتُ بِهِ، قَامَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيباً فَتَشَهّدَ. فَحَمِدَ اللّهَ وَأَثْنَىَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ. ثُمّ قَالَ: "أَمّا بَعْدُ. أَشِيرُوا عَلَيّ فِي أُنَاسٍ أَبَنُوا أَهْلِي. وَايْمُ اللّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَىَ أَهْلِي مِنْ سُوءٍ قَطّ. وَأَبَنُوهُمْ، بِمَنْ، وَاللّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَطّ. وَلاَ دَخَلَ بَيْتِي قَطّ إِلاّ وَأَنَا حَاضِرٌ. وَلاَ غِبْتُ فِي سَفَرٍ إِلاّ غَابَ مَعِي". وَسَاقَ الْحَدِيثَ بِقِصّتِهِ. وَفِيهِ: وَلَقَدْ دَخَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بَيْتِي فَسَأَلَ جَارِيَتِي. فَقَالَتْ: وَاللّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا عَيْباً، إِلاّ أَنّهَا كَانَتْ تَرْقُدُ حَتّىَ تَدْخُلَ الشّاةُ فَتَأْكُلَ عَجِينَهَا. أَوْ قَالَتْ خَمِيرَهَا (شَكّ هِشَامٌ) فَانْتَهَرَهَا بَعْضُ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: اصْدُقِي رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتّىَ أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ. فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللّهِ وَاللّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَيْهَا إِلاّ مَا يَعْلَمُ الصّائِغُ عَلَىَ تِبْرِ الذّهَبِ الأَحْمَرِ.
وَقَدْ بَلَغَ الأَمْرُ ذَلِكَ الرّجُلَ الّذِي قِيلَ لَهُ. فَقَالَ: سُبْحَانَ اللّهِ وَاللّهِ مَا كَشَفْتُ عَنْ كَنَفِ أُنْثَىَ قَطّ.
قَالَتْ عَائِشَةُ: وَقُتِلَ شَهِيداً فِي سَبِيلِ اللّهِ.
وَفِيهِ أَيْضاً مِنَ الزّيَادَةِ: وَكَانَ الّذِينَ تَكَلّمُوا بِهِ مِسْطَحٌ وَحِمْنَةٌ وَحَسّانُ. وَأَمّا الْمُنَافِقُ عَبْدُ اللّهِ بْنُ أُبَيَ فَهُوَ الّذِي كَانَ يَسْتَوْشِيهِ وَيَجْمَعُهُ. وَهُوَ الّذِي تَوَلّىَ كِبْرَهُ، وَحِمْنَهُ.
قوله: (حدثنا حبان بن موسى) هو بكسر الحاء وليس له في صحيح مسلم ذكر إلا في هذا الموضع، وقد أكثر عنه البخاري في صحيحه. قوله: (عن الزهري قال حدثني سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وعلقمة بن وقاص وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة إلى قوله: وكلهم حدثني طائفة من الحديث وبعضهم أوعى لحديثها من بعض إلى قوله: وبعض حديثهم يصدق بعضا) هذا الذي ذكره الزهري من جمعه الحديث عنهم جائز لا منع منه ولا كراهة فيه، لأنه قد بين أن بعض الحديث عن بعضهم وبعضه عن بعضهم وهؤلاء الأربعة أئمة حفاظ ثقات من أجل التابعين، فإذا ترددت اللفظة من هذا الحديث بين كونها عن هذا أو ذاك لم يضر وجاز إِلاحتجاج بها لأنهما ثقتان، وقد اتفق العلماء على أنه لو قال حدثني زيد أو عمرو وهما ثقتان معروفان بالثقة عند المخاطب جاز إِلاحتجاج به. قوله: "وبعضهم أوعى لحديثها من بعض وأثبت اقتصاصا" أي أحفظ وأحسن إيرادا وسردا للحديث. قولها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه" هذا دليل لمالك والشافعي وأحمد وجماهير العلماء في العمل بالقرعة في القسم بين الزوجات وفي العتق والوصايا والقسمة ونحو ذلك، وقد جاءت فيها أحاديث كثيرة في الصحيح مشهور، قال أبو عبيد: عمل بها ثلاثة من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجميعن: يونس وزكريا ومحمد صلى الله عليه وسلم، قال ابن المنذر: استعمالها كالإجماع، قال: ولا معنى لقول من ردها، والمشهور عن أبي حنيفة إبطالها وحكى عنه إجازتها. قال ابن المنذر وغيره: القياس تركها لكن عملنا بها للاَثار، وفيه القرعة بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن، ولا يجوز أخذ بعضهم بغير قرعة، هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة وآخرون وهو رواية عن مالك، وعنه رواية أن له السفر بمن شاء منهن بلا قرعة لأنها قد تكون أنفع له في طريقه والأخرى أنفع له في بيته وماله. قولها: (آذن ليلة بالرحيل) روي بالمد وتخفيف الذال وبالقصر وتشديدها أي أعلم. قولها: (وعقدي من جزع ظفار قد انقطع) أما العقد فمعروف نحو القلادة، والجزع بفتح الجيم وإسكان الزاي وهو خرز يماني، وأما ظفار فبفتح الظاء المعجمة وكسر الراء وهي مبنية على الكسر، تقول: هذه طفار ودخلت ظفار وإلى ظفار بكسر الراء بلا تنوين في الأحوال كلها وهي قربة في اليمين. قولها: "وأقبل الرهط الذي كانوا يرحلون لي فحملوا هودجي فرحلوه على بعيري" هكذا وقع في أكثر النسخ لي باللام، وفي بعض النسخ بي بالباء واللام أجود، ويرحلون بفتح الياء وإسكان الراء وفتح الحاء المخففة أي يجعلون الرحل على البعير وهو معنى قولها فرحلوه بتخفيف الحاء، والرهط هم جماعة دون عشرة، والهودج بفتح الهاء مركب من مراكب النساء. قولها: "وكانت النساء إذ ذاك خفافا لم يهلبن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام" فقولها يهبلن ضبطوه على أوجه: أشهرها ضم الباء وفتح الهاء والباء المشددة أي يثقلن باللحم والشحم. والثاني: يهبلن بفتح الياء والباء وإسكان الهاء بينما. والثالث: بفتح الياء وضم الباء الموحدة ويجوز بضم أوله وإسكان الهاء وكسر الموحدة، قال أهل اللغة: يقال هبله اللحم وأهبله إذا أثقله وكثر لحمه وشحمه. وفي رواية البخاري لم يقلن وهو بمعناه وهو أيضا المراد بقولها ولم يغشهن اللحم وأيكلن العلقة بضم العين أي القليل ويقال لها أيضا البلغة. قولها: (فتيممت منزلي) أي قصدته. قولها: (وكان صفوان بن المعطل) هو بفتح الطاء بلا خلاف كذا ضبطه أبو هلال العسكري والقاضي في المشارق وآخرون. قولها: (عرس من وراء الجيش فادلج) التعريس النزول آخر الليل في السفر أو استراحة، وقال أبو زيد: هو النزول أي وقت كان والمشهور الأول. قولها: (ادلج) بتشديد الدال وهو سير آخر الليل. قولها: (فرأى سواد إنسان) أي شخصه. قولها: (فاستيقظت باسترجاعه) أي انتبهت من نومي بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون. قولها: (خمرت وجهي) أي غطيته. قولها: (نزلوا موغرين في نحر الظهيرة) الموغر بالغين المعجمة النازل في وقت الوغرة بفتح الواو وإسكان الغين وهي شهدة الحر كما فسرها في الكتاب في آخر الحديث، وذكر هناك أن منهم من رواه موعرين بالعين المهملة وهو ضعيف، ونحر الظهيرة وقت القائلة وشدة الحر. قولها: (وكان الذي تولى كبره) أي معظمه وهو بكسر الكاف على القراءة المشهورة وقرئ في الشواذ بضمها وهي لغة. قولها: "وكان الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول" هكذا صوابه ابن سلول برفع ابن وكتابته بالألف صفة لعبد الله، وقد سبق بيانه مرات وتقدم إيضاحه في كتاب الإيمان في حديث المقداد مع نظائره. قولها: (والناس يفيضون في قول أهل الإفك) أي يخوضون فيه والإفك بكسر الهمزة وإسكان الفاء هذا هو المشهور، وحكى القاضي فتحهما جميعا قال هما لغتان كنجس ونجس وهو الكذب. قولها: "وهو يريبني أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كنت أرى منه" يريبني بفتح أوله وضمه يقال رابه وأرابه إذا أوهمه وشككه، واللطف بضم اللام وإسكان الطاء ويقال بفتحهما معا لغتان وهو البر والرفق.
قولها: "ثم يقول كيف تيكم" هي إشارة إلى المؤنثة كذلكم في المذكر. قولها: (خرجت بعد ما نقهت) هون بفتح القاف وكسرها لغتان حكاهما الجوهري في الصحاح وغيره والفتح أشهر واقتصر عليه جماعة، يقال نقه ينقه نقوها فهو ناقه ككلح يكلح كلوحا فهو كالح، ونقه ينقه نقها فهو ناقه كفرح يفرح فرحا، والمع نقه بضم النون وتشديد القاف، والناقه هو الذي أفاق من المرض ويبرأ منه وهو قريب عهد به لم يتراجع إليه كمال صحته. قولها: "وخرجت مع أم مسطح قبل المناصع" أما مسطح فبكسر الميم، وأما المناصع فبفتحها وهي مواضع خارج المدينة كانوا يتبرزون فيها. قولها: (قبل أن نتخذ الكنف) هي جمع كنيف قال أهل اللغة: الكنيف الساتر مطلقا. قولها: "وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه" ضبطوا الأول بوجهين: أحدهما ضم الهمزة وتخفيف الواو. والثاني الأول بفتح الهمزة وتخفيف الواو. والثاني الأول بفتح الهمزة وتشديد الواو وكلاهما صحيح، والتنزه طلب النزاهة بالخرج إلى الصحراء. قولها: (وهي بنت أبي رهم وابنها مسطح بن أثاثة) أما رهم فبضم الراء وإسكان الهاء، وأثاثة بهمزة مضمومة وثاء مثلثة مكررة ومسطح لقب واسمه عامر وقيل عوف كنيته أبوعباد وقيل أبو عبد الله، توفي سنة سبع وثلاثين وقيل أربع وثلاثين، واسم أم مسطح سلمى. قولها: "فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت تعس مسطح" أما عثرت فبفتح الثاء، وأما تعس فبفتح العين وكسرها لغتان مشهورتان، واقتصر الجوهري على الفتح والقاضي على الكسر، ورجح بعضهم الكسر وبعضهم الفتح، ومعناه عثر، وقيل هلك، وقيل لزمه الشر، وقيل بعد، وقيل سقط بوجهه خاصة، وأما المرط فبكسر الميم وهو كساء من صوف وقد يكون من غيره. قولها: (أي هنتاه) هي بإسكان النون وفتحها الإسكان أشهر، قال صاحب نهاية الغريب: وتضم الهاء الأخيرة وتسكن، ويقال في التثنية هنتان وفي الجمع هنات وهنوات، وفي المذكر هن وهنان وهنون، ولك أن تلحقها الهاء لبيان الحركة فتقول يا هنه، وأن تشبع حركة النون فتصير ألفا فتقول يا هناه، ولك ضم الهاء فتقول ياهناه أقبل، قالوا: وهذه اللفظ تختص بالنداء ومعناه يا هذه، وقيل يا امرأة، وقيل يا بلهاء كأنها نسبت إلى قلة المعرفة بمكايد الناس وشرورهم، ومن المذكور حديث الصبي بن معبد قلت يا هناه إني حريص على الجهاد والله أعلم. قولها: "قلما كانت امرأة وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا كثرن عليها" الوضيئة مهموزة ممدودة هي الجميلة الحسنة والوضاءة الحسن، ووقع في رواية ابن ماهان حظية من الحظوة وهي الوجاهة وارتفاع المنزلة، والضراير جمع ضرة وزوجات الرجل ضراير لأن كل واحدة تتضرر بالأخرى بالغيرة والقسم وغيره، والاسم منه الضر بكسر الضاد وحكي ضمها، وقولها إلا كثرن عليها هو بالثاء المثلثة المشددة أي أكثرن القول في عيبها ونقصها. قولها: (لا يرقأ لي دمع) هو بالهمزة أي لا ينقطع. قولها: (ولا أكتحل بنوم) أي لا أنام. قولها: (استلبث الوحي) أي أبطأ ولبث ولم ينزل. قولها: (وأما علي بن أبي طالب فقال لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير) هذا الذي قاله علي رضي الله عنه هو الصواب في حقه لأنه رآه مصلحة ونصيحة للنبي صلى الله عليه وسلم في اعتقاده ولم يكن ذلك في نفس الأمر لأنه رأى انزعاج النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر وتقلقه فأراد راحة خاطره وكان ذلك أهم من غيره. قولها: "والذي بعثك بالحق إن رأيت عليها أمرا قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله" فقولها أغمصه بفتح الهمزة وكسر الميم وبالصاد المهملة أي أعيبها، والداجن الشاة التي تألف البيت ولا تخرج للمرعى، ومعنى هذا الكلام أنه ليس فيها شيء مما تسألون عنه أصلاً ولا فيها شيء من غيره إلا نومها عن العجين. قولها: (فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر فاستعذر من عبد الله بن أبي ابن سلول) أما أبي منون وابن سلول بالألف وسبق بيانه، وأما استعذر فمعناه أنه قال من يعذرني فيمن آذاني في أهل كما بينه في هذا الحديث، ومعنى من يعذرني من يقوم بعذري إن كافأته على قبيح فعاله ولا يلومني، وقيل معناه من ينصرني والعذير الناصر. قولها: (فقام سعد بن معاذ فقال أنا أعذرك منه، وكانت هذه القصة في غزوة المريسيع وهي غزوة بني المصطلق سنة ست فيما ذكره ابن إسحاق، ومعلوم أن سعد بن معاذ مات في إثر غزاة الخندق من الرمية التي أصابته وذلك سنة أربع بإجماع أصحاب السير إلا شيئا قاله الواقدي وحده، قال القاضي قال بعض شيوخنا ذكر سعد بن معاذ في هذا وهم الأشبه أنه غيره ولهذا لم يذكره ابن إسحاق في السير وإنما قال: إن المتكلم أولاً وآخرا أسيد بن حضير. قال القاضي: وقد ذكر موسى بن عقبة أن غزوة المريسيع كانت سنة أربع وهي سنة الخندق. وقد ذكر البخاري اختلاف ابن إسحاق وابن عقبة، قال القاضي: فيحتمل أن غزاة المريسيع وحديث الإفك كانا في سنة أربع قبل قصة الخندق. قال القاضي: وقد ذكر الطبري عن الواقدي أن المريسيع كانت سنة خمس، قال: وكانت الخندق وقريظة بعدها.
وذكر القاضي إسماعيل الخلاف في ذلك وقال الأولى أن يكون المريسيع قبل الخندق، قال القاضي: وهذا لذكر سعد في قصة الإفك وكانت في المريسيع فعلى هذا يستقيم فيه ذكر سعد بن معاذ وهو الذي في الصحيحين، وقول غير ابن إسحاق في غير وقت المريسيع أصح، هذا كلام القاضي وهو صحيح. قولها: (ولكن اجتهلته الحمية) هكذا هو هنا لمعظم رواة صحيح مسلم اجتهلته بالجيم والهاء أي استخفته وأغضبته وحملته على الجهل، وفي رواية ابن ماهان هنا احتلمته بالحاء والميم، وكذا رواه مسلم بعد هذا من رواية يونس وصالح، وكذا رواه البخاري ومعناه أغضبته فالروايتان صحيحتان. قولها: "فثار الحيان الأوس والخزرج" أي تناهضوا للنزاع والعضبية كما قالت حتى هموا أن يقتتلوا. قوله صلى الله عليه وسلم: "وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله" معناه إن كنت فعلت ذنبا وليس ذلك لك بعادة وهذا أصل اللمم. قولها: (قلص دمعي) هو بفتح القاف واللام أي ارتفع لاستعظام ما يعيبني من الكلام. قولها لأبويها: (أجيبا عني) فيه تفويض الكلام إلى الكبار لأنهم أعرف بمقاصده واللائق بالمواطن منه وأبواها يعرفان حالها. وأما قول أبويها لا ندري ما نقول فمعناه أن الأمر الذي سألها عنه لايقفان منه على زائد على ما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي من حسن الظن بها والسرائر إلى الله تعالى. قولها: (ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه) أي ما فارقه. قولها: (فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء) هي بضم الموحدة وفتح الراء وبالحاء المهملة والمد وهي الشدة. قولها: (حتى أنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق) معنى ليتحدر لينصب والجمان بضم الجيم وتخفيف الميم وهو الدر شبهت قطرات عرقه صلى الله عليه وسلم بحبات اللؤلؤ في الصفاء والحسن. قولها: (فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي كشف وأزيل. قولها: "فقالت لي أمي قومي فقلت والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي" معناه قالت لها أمها قومي فاحمديه وقبلي رأسه واشكريه لنعمة الله تعالى التي بشرك، فقالت عائشة ما قالت إدلالاً عليه وعتبا لكونهم شكوا في حالها مع علمهم بحسن طرائقها وجميل أحوالها وارتفاعها عن هذا الباطل الذي افتراه قوم ظالمون ولا حجة له ولا شبهة فيه. قالت: وإنما أحمد ربي سبحانه وتعالى الذي أنزل براءتي وأنعم علي بما لم أكن أتوقعه كما قالت ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله تعالى في بأمر يتلى، قوله عز وجل: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم} أي لا يحلفوا والالية اليمين وسبق بيانها. قولها: (أحمي سمعي وبصري) أي أصون سمعي وبصري من أن أقول سمعت ولم أسمع وأبصرت ولم أبصر. قولها: (وهي التي كانت تساميني) أي تفاخرني وتضاهيني بجمالها ومكانها عند النبي صلى الله عليه وسلم وهي مفاعلة من السمو وهو الإرتفاع. قولها: (وطفقت أختها حمنة تحارب لها) أي جعلت تتعصب لها فتحكي ما يقوله أهل الإفك، وطفق الرجل بكسر الفاء على المشهور وحكي فتحها وسبق بيانه. قوله: (ما كشفت من كنف أنثى قط) الكنف هنا بفتح الكاف والنون أي ثوبها الذي يسترها وهو كناية عن عدم جماع النساء جميعهن ومخالطتهن. قوله: (وفي حديث يعقوب موعرين) يعني بالعين المهملة وسبق بيانه، وقوله في تفسير عبد الرزاق الوغرة شدة الحر هي بإسكان الغين وسبق بيانه. قوله صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علي في أناس أبنوا أهلي" هو بياء موحدة مفتوحة مخففة ومشددة رووه هنا بالوجهين التخفيف أشهر ومعناه اتهموها، والأبن بفتح الهمزة يقال أبنه يأبنه ويأبنه بضم الباء وكسرها إذا اتهمه ورماه بخلة سوء فهو مأبون، قالوا: وهو مشتق من الإبن بضم الهمزة وفتح الباء وهي العقد في القسي تفسدها وتعاب بها. قوله: (حتى أسقطوا لهابه فقالت سبحان الله) هكذا هو في جميع نسخ بلادنا أسقطوا لهاه بالباء التي هي حرف الجر وبهاء ضمير المذكر، وكذا نقله القاضي عن رواية الجلودي، قال: وفي رواية ابن ماهان لهاتها بالتاء المثناة فوق، وقال الجمهور: هذا غلط وتصحيف والصواب الأول ومعناه صرحوا لها بالأمر ولهذا قالت سبحان الله استعظاما لذلك، وقيل أتوا بسقط من القول في سؤالها وانتهارها، يقال أسقط وسقط في كلامه إذا أتي فيه بساقط، وقيل إذا أخطأ فيه، وعلى رواية ابن ماهان إن صحت معناه أسكتوها وهذا ضعيف لأنها لم تسكت بل قالت: سبحان الله والله ما علمت عليها إلا ما يعلم الصائغ على تبر الذهب وهي القطعة الخالصة. قولها: (وأما المنافق عبد الله بن أبي فهو الذي كان يستوشيه) أي يستخرجه بالبحث والمسألة ثم يفشيه ويشيعه ويحركه ولا ندعه بحمد والله أعلم. واعلم أن في حديث الإفك فوائد كثيرة: إحداها جواز رواية الحديث الواحد عن جماعة عن كل واحد قطعة مبهمة منه وهذا وإن كان فعل الزهري وحده فقد أجمع المسلمون على قبوله منه والاحتجاج به. الثانية: صحة القرعة بين النياء وفي العتق وغيره مما ذكرناه في أول الحديث مع خلاف العلماء. الثالثة: وجوب الإقراع بين النساء عند إرادة السفر ببعضهن.
(يتبع...)
*(تابع... 1): حدّثنا حِبّانُ بْنُ مُوسَى. أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللّهِ بْنُ... ...
الرابعة: أنه لا يجب قضاء مدة السفر للنسوة المقيمات وهذا مجمع عليه إذا كان السفر طويلاً، وحكم القصير حكم الطويل على المذهب الصحيح وخالف فيه بعض أصحابنا. الخامسة: جواز سفر الرجل بزوجته. السادسة: جواز غزوهن. السابعة: جواز ركوب النساء في الهوادج. الثامنة: جواز خدمة الرجال لهن في تلك الأسفار. التاسعة: أن ارتحال العسكر يتوقف على أمر الأمير. العاشرة: جواز خروج المرأة لحاجة الإنسان بغير إذن الزوج وهذا من الأمور المستثناة. الحادية عشر: جواز لبس النساء القلائد في السفر كالحضر. الثانية عشر: أن من يركب المرأة على البعير وغيره لا يكلمها إذا لم يكن محرما إلا لحاجة لأنهم حملوا الهدوج ولم يكلموا من يظنونها فيه. الثالثة عشر: فضيلة إِلاقتصار في الأكل للنساء وغيرهن وأن لا يكثر منه بحيث يهبله اللحم لأن هذا كان حالهن في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، ما كان في زمانه صلى الله عليه وسلم فهو الكامل الفاضل المختار. الرابعة عشر: جواز تأخر بعض الجيش ساعة ونحوها لحاجة تعرض له عن الجيش إذا لم يكن ضرورة إلى الإجتماع. الخامسة عشر: إعانة الملهوف وعون المنقطع وإنقاذ الضائع وإكرام ذوي الأقدار كما فعل صفوان رضي الله عنه في هذا كله. السادسة عشر: حسن الأدب مع الأجنبيات لا سيما في الخلوة بهن عند الضرورة في برية أو غيرها كما فعل صفوان من إبراكه الجمل من غير كلام ولا سؤال، وأنه ينبغي أن يمشي قدامها لا بجنبها ولا وراءها. السابعة عشر: استحباب الإيثار بالركوب ونحوه كما فعل صفوان. الثامنة عشر: استحباب الاسترجاع عند المصائب سواء كانت في الدين أو الدنيا، وسواء كانت في نفسه أو من يعز عليه. التاسعة عشر: تغطية المرأة وجهها عن نظر الأجنبي سواء كان صالحا أو غيره. العشرون: جواز الحلف من غير استحلاف. الحادية والعشرون: أنه يستحب أن يسترعن الإنسان ما يقال فيه إذا لم يكن في ذكره فائدة كما كتموا عن عائشة رضي الله عنها هذا الأمر شهرا ولم تسمه بعد ذلك إلا بعارض عرض وهو قول أم مسطح تعس مسطح. الثانية والعشرون: استحباب ملاطفة الرجل زوجته وحسن المعاشرة. الثالثة والعشرون: أنه إذا عرض عارض بأن سمع عنها شيئا أو نحو ذلك يقلل من اللطف ونحوه لتفطن هي أن ذلك لعارض فتسأل عن سببه فتزيله. الرابعة والعشرون: استحباب السؤال عن المريض. الخامسة والعشرون: أنه يستحب للمرأة إذا أرادت الخروج لحاجة أن تكون معها رفيقة تستأنس بها ولا يتعرض لها أحد. السادسة والعشرون: كراهة الإنسان صاحبه وقريبه إذا أذى أهل الفضل أو فعل غير ذلك من القبائح كما فعلت أم مسطح في دعائها عليه. السابعة والعشرون: فضيلة أهل بدر والذب عنهم كما فعلت عائشة في ذبها عن مسطح. الثامن والعشرون: أن الزوجة لا تذهب إلى بيت أبويها إلا بإذن زوجها. التاسعة والعشرون: جواز التعجب بلفظ لتسبيح وقد تكرر في هذا الحديث وغيره. الثلاثون: استحباب مشاورة الرجل بطانته وأهله وأصدقاءه فيما ينوبه من الأمور. الحادية والثلاثون: جواز البحث والسؤال عن الأمور المسموعة عمن له به تعلق، أما غيره فهو منهي عنه وهو تجسس وفضول. الثانية والثلاثون: خطبة الإمام الناس عند نزول أمر مهم. الثالثة والثلاثون: اشتكاء ولي الأمر إلى المسلمين من تعرض له بأذى في نفسه أو أهله أو غيره واعتذاره فيما يريد أن يؤذيه به. الرابعة والثلاثون: فضائل ظاهرة لصفوان بن المعطل رضي الله عنه بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بما شهد وبفعله الجميل في إركاب عائشة رضي الله عنها وحسن أدبه في جملة القضية. الخامسة والثلاثون: فضيلة لسعد بن معاذ وأسيد بن حضير رضي الله عنهما. السادسة والثلاثون: المبادرة إلى قطع الفتن والخصومات والمنازعات وتسكين الغضب. السابعة والثلاثون: قبول التوبة والحث عليها. الثامنة والثلاثون: تفويض الكلام إلى الكبار دون الصغار لأنهم أعرف. التاسعة والثلاثون: جواز الاستشهاد بآيات القرآن العزيز ولا خلاف أنه جائز. الأربعون: استحباب المبادرة بتبشير من تجددت له نعمة ظاهرة أو اندفعت عنه بلية ظاهرة. الحادية والأربعون: براءة عائشة رضي الله عنها من الإفك وهي براءة قطعية بنص القرآن العزيز، فلو تشكك فيها إنسان والعياذ بالله صار كافرا مرتدا بإجماع المسلمين. قال ابن عباس وغيره: لم تزن امرأة نبي من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهذا إكرام من الله تعالى لهم. الثانية والأربعون: تجديد شكر الله تعالى عند تجدد النعم. الثالثة والأربعون: فضائل لأبي بكر رضي الله عنه في قوله تعالى: {ولا يأتل أولوا الفضل منكم} الاَية. الرابعة والأربعون: استحباب صلة الأرحام وإن كانوا مسيئين. الخامسة والأربعون: العفو والصفح عن المسيء. السادسة والأربعون: استحباب الصدقة والإنفاق في سبيل الخيرات. السابعة والأربعون: أنه يستحب لمن حلف على يمين ورأى خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه. الثامنة والأربعون: فضيلة زينب أم المؤمنين رضي الله عنها. التاسعة والأربعون: التثبيت في الشهادة.
الخمسون: إكرام المحبوب بمراعاة أصحابه ومن خدمه أو أطاعه كما فعلت عائشة رضي الله عنها بمراعات حسان وإكرامه إكراما للنبي صلى الله عليه وسلم. الحادية والخمسون: أن الخطبة تبتدأ بحمد الله تعالى والثناء عليه بما هو أهله. الثانية والخمسون: أنه يستحب في الخطبة أن يقول بعد الحمد والثناء والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والشهادتين: أما بعد، وقد كثرت فيه الأحاديث الصحيحة. الثالثة والخمسون: غضب المسلمين عند انتهاك حرمة أميرهم واهتمامهم يدفع ذلك. الرابعة والخمسون: جواز سب المتعصب لمبطل كما سب أسيد بن حضير سعد بن عبادة لتعصبه للمنافق وقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين وأراد أنك تفعل فعل المنافقين ولم يرد النفاق الحقيقي.
*2* باب براءة حرم النبيّ صلى الله عليه وسلم من الريبة
*حدّثني زُهَيرُ بْنُ حَرْبٍ. حَدّثَنَا عَفّانُ. حَدّثَنَا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ. أَخْبَرَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ أَنّ رَجُلاً كَانَ يُتّهمُ بِأُمّ وَلَدِ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم. فَأَمَرَ عَلِيّاً أَنْ يَضْرِبَ عُنُقَهُ فَأَتَاهُ عَلِيّ فَإِذَا هُوَ فِي رَكِيَ يَتَبَرّدُ فِيهَا. فَقَالَ لَهُ عَلِيّ: اخْرُجْ. فَنَاوَلَهُ يَدَهُ فَأَخْرَجَهُ. فَإِذَا هُوَ مَجْبُوبٌ لَيْسَ لَهُ ذَكَرٌ. فَكَفّ عَلِيّ عَنْهُ. ثُمّ أَتَىَ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ إِنّهُ لَمَجْبُوبٌ. مَا لَهُ ذَكَرٌ.
ذكر في الباب حديث أنس أن رجلاً كان يتهم بأم ولده صلى الله عليه وسلم فأمر عليا رضي الله عنه أن يذهب يضرب عنقه فذهب فوجده يغتسل في ركي وهو البئر فرآه مجبوبا فتركه قيل لعله كان منافقا ومستحقا للقتل بطريق آخر وجعل هذا محركا لقتله بنفاقه وغيره لا بالزنا، وكف عنه علي رضي الله عنه اعتمادا على أن القتل بالزنا وقد علم انتفاء الزنا والله أعلم.