070-ذكر الحجة في إجازة رواية الحديث على المعنى

قال كثير من السلف وأهل التحري في الحديث لا تجوز الرواية على المعنى بل يجب مثل تأدية اللفظ بعينه من غير تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا حذف وقد ذكرنا بعض الروايات عمن ذهب الى ذلك ولم يفصلوا بين العالم بمعنى الكلام وموضوعه وما ينوب منه مناب بعض وما لا ينوب منابه وبين غير العالم بذلك وقد ذكر عن بعض السلف انه كان يروى الحديث على المعنى إذا علم المعنى وتحققه وعرف القائم من اللفظ مقام غيره وقال جمهور الفقهاء يجوز للعالم بمواقع الخطاب ومعانى الألفاظ رواية الحديث على المعنى وليس بين أهل العلم خلاف في ان ذلك لا يجوز للجاهل بمعنى الكلام وموقع الخطاب والمحتمل منه وغير المحتمل وقال قوم من أهل العلم الواجب على المحدث ان يروى على اللفظ إذا كان لفظ ينوب مناب معناه غامضا محتملا فاما إذا لم يكن كذلك بل كان معناه ظاهرا معلوما وللراوى لفظ ينوب مناب لفظ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم غير زائد عليه ولا ناقص منه ولا محتمل لأكثر من معنى لفظه صلى الله عليه وسلم جاز للراوى روايته على المعنى وذلك يجوز نحو أن يبدل قوله قام بنهض وقال بتكلم وجلس بقعد وعرف بعلم واستطاع بقدر وأراد بقصد واوجب بفرض وحظر بحرم ومثل هذا مما يطول تتبعه وهذا القول هو الذي نختاره مع شرط آخر وهو أن يكون سامع لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم عالما بموضوع ذلك اللفظ في اللسان وبأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يريد به ما هو موضوع له فان علم يجوزه به واستعارته له لم يسغ له ان يروى اللفظ مجردا دون ذكره ما عرفه من قصده صلى الله عليه وآله وسلم ضرورة غير مستدل عليه فإنه ان استدل به على انه قصد به معنى من المعاني جاز عليه الغلط والتقصير في الاستدلال ووجب نقله له بلفظ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لينظر هو وغيره من العلماء فيه فأما الدليل على انه ليس ذلك للجاهل بمواقع الخطاب وبالمتفق معناه والمختلف من الألفاظ فهو أنه لا يؤمن عليه ابدال اللفظ بخلافه بل هو الغالب من امره وأما الدليل على انه لا يجوز للعالم أيضا رواية المحتمل من اللفظ على المعنى فهو أنه انما يرويه على معنى يستخرجه يستدل عليه وقد يتوهم ويغلط وقد يصيب ونحن غير مأمورين بتقليده وان أصاب فيجب لذلك روايته إياه على اللفظ ليجتهد العلماء في القول بمعناه اللهم الا ان يقول الناقل العدل انى قد علمت ضرورة قصد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمحتمل من كلامه الى كذا وكذا وانه أراد ذلك بعينه دون غيره فيقبل قوله ويزول حكم الاجتهاد في معنى اللفظ وأما الدليل على جواز ذلك للعالم بمعناه فهو ما أخبرني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن شاذان الصيرفي قال انا أحمد بن على بن محمد بن أحمد بن الجهم الكاتب قال انا محمد بن جرير الطبري قال حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال ثنا الوليد بن سلمة الفلسطينى قال أخبرني يعقوب بن عبد الله بن سليمان بن اكيمه الليثي عن أبيه عن جده قال قلنا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبينا أنت وأمنا يا رسول الله انا لنسمع الحديث فلا نقدر على تأديته كما سمعناه قال إذا لم تحلوا حراما ولا تحرموا حلالا فلا بأس أخبرنا أحمد بن محمد بن غالب الفقيه قال ثنا أبو بكر الإسماعيلي املاء قال أخبرني إبراهيم بن موسى البزاز قال ثنا صالح بن قطن بن عبد الله قال ثنا عبد الرحمن بن مساور حدثنا الوليد بن سلمة حدثني يعقوب بن إسحاق بن عبد الله بن اكيمة الليثي عن أبيه عن جده قال قلنا يا رسول الله انا نسمع منك الحديث فقد فقدر على تأديته كما سمعنا قال إذا لم تحرموا حلالا ولا تحلوا حراما وأصبتم المعنى فلا بأس أخبرني الحسن بن أبى طالب قال حدثنا إسماعيل بن محمد بن زنجى أبو القاسم الكاتب قال ثنا أحمد بن محمد بن نصير الضبعي قال حدثني أحمد بن محمد بن غالب أبو عبد الله قال ثنا الحسن بن قزعة قال ثنا عبد العزيز بن عبد الرحمن عن حبيب بن أبى مرزوق عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن مسعود قال سأل رجل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال يا رسول الله انك تحدثنا حديثا لا نقدر أن نسوقه كما نسمعه فقال إذا أصاب أحدكم المعنى فليحدث أخبرني عبيد الله بن أبى الفتح الفارسي وأحمد بن أبى جعفر القطيعي قالا ثنا الحسن بن القاسم الخلال قال ثنا أحمد بن عبد الله الوكيل قال ثنا على بن مسلم الطوسي قال ثنا محمد بن يزيد الواسطي عن اصبغ بن زيد عن خالد بن كثير عن خالد بن دريك عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تقول على ما لم أقل فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا قيل يا رسول الله وهل لها من عينين قال الم تسمع الى قول الله عز وجل إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا فأمسك القوم ان يسألوه فأنكر ذلك من شأنهم وقال مالكم لا تسألونى قالوا يا رسول الله سمعناك تقول من تقول على ما لم أقل فليتبوأ بين عيني جهنم مقعدا ونحن لا نحفظ الحديث كما سمعناه نقدم حرفا ونؤخر حرفا ونزيد حرفا وننقص حرفا قال ليس ذلك أردت انما قلت من تقول على ما لم يريد عيبى وشين الإسلام أو شينى وعيب الإسلام ويدل على ذلك أيضا اتفاق الأمة على ان للعالم بمعنى خبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وللسامع بقوله ان ينقل معنى خبره بغير لفظه وغير اللغة العربية وأن الواجب على رسله وسفرائه الى أهل اللغات المختلفة من العجم وغيرهم ان يرووا عنه ما سمعوه وحملوه مما أخبرهم به وتعبدهم بفعله على ألسنة رسله سيما إذا كان السفير يعرف اللغتين فإنه لا يجوز أن يكل ما يرويه الى ترجمان وهو يعرف الخطاب بذلك اللسان لأنه لا يأمن الغلط وقصد التحريف على الترجمان فيجب ان يرويه بنفسه وإذا ثبت ذلك صح ان القصد برواية خبره وأمره ونهيه إصابة معناه وامتثال موجبه دون إيراد نفس لفظه وصورته وعلى هذا الوجه لزم العجم وغيرهم من سائر الأمم دعوة الرسول الى دينه والعلم بأحكامه ويدل على ذلك انه انما ينكر الكذب والتحريف على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتغيير معنى اللفظ فإذا سلم راوي الحديث على المعنى من ذلك كان مخبرا بالمعنى المقصود من اللفظ وصادقا على الرسول صلى الله عليه وسلم وبمثابة من أخبر عن كلام زيد وأمره ونهيه والفاظه بما يقوم مقام كلامه وينوب منابه من غير زيادة ولا نقصان فلا يعتبر في ان راوي ذلك قد أتى بالمعنى المقصود وليس بكاذب ولا محرف وقد ورد القرآن بمثل ذلك فان الله تعالى قص من أنباء ما قد سبق قصصا كرر ذكر بعضها في مواضع بألفاظ مختلفة والمعنى واحد ونقلها من السنتهم الى اللسان العربي وهو مخالف لها في التقديم والتأخير والزيادة والنقصان ونحو ذلك وقد استدل المنكرون للرواية على المعنى بحصول الاتقاق على ان الشرع قد ورد بأشياء كثيرة قصد فيها الإتيان باللفظ والمعنى جميعا نحو التكبير والتشهد والأذان والشهادة وإذا كان كذلك لم ينكر أن يكون المطلوب بالحديث لفظه بعينه ومعناه جميعا فيقال لهم وبأى وجه وجب الحاق رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلفظه بالأذان والتشهد وغير ذلك مما يجرى مجراهما فلا يجدون متعلقا في ذلك ويقال أيضا لو أخذ علينا في رواية حديثه إيراد لفظه ومعناه لوجب ان يوقف عليه توقيفا يوجب العلم ويقطع العذر كالتوقيف لنا على الأذان والتشهد وفى عدم توقيف يحج مثله دلالة على فساد ما قلتم ثم يقال لهم ما الفصل بينكم وبين من قال لما حصل الاتفاق على إباحة الترجمة في حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوامره ونواهيه والاخبار عن جملة دينه وتفصيله وجب كذلك جواز روايته على المعنى باللفظ العربي الذي هو أقرب الى لفظ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الاعجمى فلا يجدون لذلك مدفعا واحتجوا أيضا بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم نضر الله امرأ سمع منا حديثا فأداه كما سمعه وبقوله للذي علمه إذا اخذ مضجعه يقول آمنت بكتابك الذي أنزلت وبنبيك الذي أرسلت في الكلمات المشهورة فقال الرجل وبرسولك الذي أرسلت فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبنبيك الذي أرسلت قالوا لم يسوغ لمن علمه الدعاء مخالفة اللفظ فيقال لهم اما الحديث الأول فهو حجة عليكم لأنه قد علل فيه ونبه على ما يقول بقوله صلى الله عليه وآله وسلم فرب مبلغ اوعى من سامع ورب حامل فقه ليس بفقيه والى من هو افقه منه وكأنه قال إذا كان المبلغ اوعى من السامع وأفقه وكان السامع غير فقيه ولا ممن يعرف المعنى وجب عليه تأدية اللفظ ليستنبط معناه العالم الفقيه والا فلا وجه لهذا التعليل ان كان حال المبلغ والمبلغ سواء على ان رواة هذا الخبر نفسه قد رووه على المعنى فقال بعضهم رحم الله مكان نضر الله ومن سمع بدل امرأ سمع وروى مقالتي بدل منا حديثا وبلغه مكان اداه وروى فرب مبلغ افقه من مبلغ مكان فرب مبلغ اوعى من سامع ورب حامل فقه لا فقه له مكان ليس بفقيه والفاظ سوى هذه متغايرة تضمنها هذا الخبر وقد ذكرنا طرقه على الاستقصاء باختلاف الفاظها في كتاب افردناه لها والظاهر يدل ان هذا الخبر نقل على المعنى فلذلك اختلفت ألفاظه وان كان معناها واحد والله اعلم واما رد النبي صلى الله عليه وآله وسلم على الرجل في الحديث الثاني قوله وبرسولك الى وبنبيك الذي أرسلت فان النبي أمدح من الرسول ولكل واحد من هذين النعتين موضع ألا ترى ان اسم الرسول يقع على الكافة واسم النبي لا يتناول الا الأنبياء خاصة وانما فضل المرسلون من الأنبياء لأنهم جمعوا النبوة والرسالة معا فلما قال وبنبيك الذي أرسلت جاء بأمدح النعت وهو النبوة ثم قيده بالرسالة حين قال الذي أرسلت وبيان آخر وهو أن قوله وبرسولك الذي أرسلت غير مستحسن لأنه يجتزأ بالقول الأول ان هذا رسول فلان عن ان يقول الذي أرسله إذ كان لا يفيد القول الثاني الا المعنى الأول وكان قوله وبنبيك الذي أرسلت يفيد الجمع بين النبوة والرسالة فلذلك امره النبي صلى الله عليه وآله وسلم به ورده اليه والله اعلم آخر الجزء السادس بسم الله الرحمن الرحيم رب يسر خيرا قال أخبرنا أبو بكر أحمد بن على بن ثابت الخطيب البغدادي قال