إسلاميات

الغلو معالمه ومخاطره ( 2 )


الخطبة الأولى
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
حديثنا موصول في موضوع الغلو معالمه ومخاطره ، ووقفتنا اليوم مع الفهم الصحيح لحقيقة الغلو وبيان بعض صوره وقد أسلفنا القول من قبل أنه لابد لنا أولا من فهم وفقه حقيقة الإسلام في وسطيته واستقامته ويسره وسماحته ؛ لأن هذا هو الحد المشروع الذي إنما يعرف الغلو بتجاوزه وتعديه والزيادة عليه أو النقص منه .
ولذلك أول أسس الفهم الصحيح هو : الفهم للحق الذي جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير إفراط ولا تفريط .

والأمر الثاني : أن المرجعية عند حصول الاختلاف أو النزاع إنما هي لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } [ النساء: من الآية59 ].
فلابد من معرفة هذه القضية إنه عند اختلاف الآراء أو تباين الأفكار أو تعدد الاجتهادات ، فالفصل لا يرجع إلى الأشخاص ولا يرجع إلى المذاهب ولا يرجع إلى التقليد أو التعصب وإنما إلى الاستنارة بضوء وأنوار الكتاب والسنة على ما تقتضيه الأصول العلمية المرعية والاجتهادات العلمية المقبولة.
والأمر الثالث الذي ننبه عليه هو : أن هذا الرجوع فيه ثبات للمرجعية والمعيارية ، وسلامتها من تنازع الأهواء وضغوط الواقع ، فلو أنه لم يكن لنا رجوع إلى الثابت المعصوم من نصوص الكتاب والسنة لانفرط عقدنا واختلف رأينا وتشتت شملنا ، وذلك أن ما في كتاب الله حق لا باطل معه ويقين لا شك فيه ، وأمر صالح لكل زمان ولكل مكان ، ثم هو من جهة أخرى سالم من التغير والتبدل رغم كل تغيرات الظروف والأحوال .

وبذلك نفقه هذا الأصل المهم في حقيقة فهم الغلو .. إنه ليس فهما ينشأ من واقع الناس ، فإذا بدل الناس وغيّروا في دين الله ، وفرطوا فيه صار الغلو عندهم مفهومه مفهوماً آخر ، فربما رأوا أن التمسك بالفرائض والمحافظة عليها والاجتهاد في الطاعات والزيادة في المشروع منها غلو غير مقبول عند أولئك الضعفة والكسلة المفرطون في الواجبات ، المتخاذلون عن إلتزام الفرائض .
ولو جعلنا ذلك مرجعه إلى الناس لربما جنحت أهواؤهم ممالأة لأعداء الله - عز وجل -ومصانعة لهم أو خوفا منهم ، أو توهم أن عندهم شيئاً من صواب أن ذلك كذلك يؤدي بنا إلى الانحراف ، فلنعلم هذه الحقيقة المهمة ، ثم لنفهم الإطار العام ، والمنهج الذي جاء في كتاب الله ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر الغلو فيه حتى لا نجنح إلى مثل هذه الأمور التي أشرنا إليها .

أولاً: الدعوة إلى الالتزام والنهي عن التجاوز
هي مفتاح ما جاء في كتاب الله ، وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للوقاية من الوقوع في الغلو ، ولفهم حقيقته على وجهها الصحيح .. نحن نقرأ في كل يوم وفي كل ركعة من كل صلاة فريضة وسنة :
{ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6،7].
إنها الدعوة إلى النهج المستقيم المتزن المتوسط المعتدل ، الذي هو جوهر ما جاء في كتاب الله ، وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والتحذير من الخروج عنه تجاوزاً أو تقصيراً إفراطاً أو تفريطاً ، والنهي هنا جاء محذراً من فئتين بوصفين ذكرتهما الآية الكريمة : { غير المغضوب عليهم } ، وهم الذين عرفوا الحق وجحدوه ، و{الضالين} وهم الذين ضلوا في معرفة الحق فلم يصيبوه ، والفئة الأولى بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها ظاهرة في اليهود ، والثانية ظاهرة في النصارى .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " لما أمرنا الله أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم كان ذلك مما يبين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين ، وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم ففيه شبه باليهود ، ومن انحرف من العباد ففيه شبه بالنصارى ؛ لأن العالم إذا انحرف ينحرف مع معرفته وعلمه وفقهه فهو عرف الحق وجحده إما اتباعاً للهوى أو طلبا للدنياً أو خوفاً على النفس فيما لا يكون فيه الموقف كذلك من الناحية الشرعية ، والعباد الذين يضلون فلا يعرفون الحق فيبتدعون ويزيدون وينقصون من دين الله عز وجل .

الوجه الثاني: التحذير من الغلو
مقترنا بالنهي عنه في الأمم السابقة ، كما ورد ذلك في آيات كثيرة من كتاب الله سبحانه وتعالى:
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } [ النساء: من الآية171] .
وقوله جل وعلا:
{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } [ المائدة:77 ] .
وبيّن الله - عز وجل - صوراً من آثار ذلك الانحراف من الناحية العملية ، وأنكر ذلك وحذر منه كما في قوله:
{ وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } [ الحديد: من الآية27].

والنبي - صلى الله عليه وسلم - حذر من ذلك عندما ربطه كذلك بمن سبق من الأمم السابقة في حديثه: ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم ) أي عندما قالوا المسيح ابن الله ، أو قالوا المسيح هو الله ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً .
وما جاءت هذه الآيات ، ولا تلك الأحاديث للإخبار عن أمر قد مضى في الأمم السابقة إلا ليكون وجها من أوجه العظة والعبرة ، وأن سبب انحرافهم ومن بعد ذلك هلاكهم إنما هو خروجهم عن مقتضى دينهم وغلوهم فيه ، وانحرافهم عن جادة الصواب الذي جاءهم عن الله ، وبلغتهم إياه رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم .

والوجه الثالث: النهي عن الغلو في صوره العامة كلها صغيرها وكبيرها ؛ لأن معالجة الأمور الصغيرة إنما هي معالجة من باب أولى للصور الكبيرة ؛ ولأن النهي عن المقدمات منع للوصول إلى النتائج ؛ ولأن منهج الإسلام منهج متكامل فيه وقاية وحماية كما فيه علاج من بعد وقوع الضرر أو الأذى .
وذلك واضح كذلك فيما ورد من الحديث الصحيح عن ابن عباس في حجة الوداع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يلتقط له الحصى التي يرمي بها في منى ، قال: فالتقطت له حصيات كالخذف أي صغيرة في حجمها كما هو معروف ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعم بأمثال هؤلاء وإياكم والغلو في الدين ) ، رغم أن المسألة كما نرى في ظاهرها يسيرة في أمر الحصى أن تكون على هذا النحو ، ولكنه عليه الصلاة والسلام حذّر من الغلو ولو في هذا بأن يأخذ الناس كبار الحجار ، رؤية منهم أنها أبلغ في تحقيق المراد بأمر الله ، فنهى عن ذلك ، ثم جعل النهي عن الغلو عاماً رغم أن الحدث خاص ، ورغم أن المسألة ربما تعد مقارنة بغيرها يسيرة فقال: ( إياكم والغلو في الدين ) كما بيّن أهل العلم في شرح الحديث قالوا: وإن كان الأمر خاصا فإن النهي عام عن كل ما فيه غلو وتجاوز للحد المشروع أي في صغير الأمور وكبيرها .

ومن صور التحذير والتنفير من الغلو بيان الشارع الحكيم لسوء عاقبته وخطورة مغبته ، وأنه لا يؤدي حتى إلى مقصود صاحبه ؛ فإن المتشدد في العبادة أو الطاعة فوق الحد المشروع إنما يريد التقرب إلى الله ، وإنما يريد الاستزادة من الخير ومضاعفة وكثرة الثواب والأجر ، لكن النتيجة التي أخبر بها الشارع تؤدي إلى غير ذلك ، فجاء التحذير من هذا الغلو ببيان عاقبته السيئة الوخيمة ، كما في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يكرر ويدلل ويبين فيقول : ( هلك المتنطعون .. هلك المتنطعون .. هلك المتنطعون ) والهلاك هنا معناه عام يشمل الهلاك في حقيقة الأمر المادي والمعنوي ، فقد يهلك فينقطع عن تلك الطاعات والعبادات ويعجز عنها ، وقد يهلك بانحرافه في اعتقاده ومخالفته لأمر الله وهدي رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد بيّن صفة ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عندما قال: ( إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ) ، إن المنبت في صفة السفر لا يريد أن يرتاح يقول: أنا أمضي وأمشي إلى غايتي بقوة وعزيمة من غير راحة ولا هدوء ولا توقف .. يريد أن يبلغ الغاية في أقصر وقت وبأعلى قوة وهمة ، فإذا به ينقطع في وسط طريقه لا يستطيع الاستمرار ، ثم يفقد الوسيلة التي بها يسير إلى الغاية إذ تنقطع دابته أو تهلك فيكون حينئذ هلاكه مقطوعاً به في الصورة المادية والمثل الذي ضربه النبي صلى الله عليه وسلم .
ويقول عليه الصلاة والسلام: (لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ؛ فإن قوما قد تشددوا فشدد الله عليهم فتلك بقياهم في الصوامع والديارات رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم) وهذا أمر واضح ومهم وبيّن وله كثير من الأدلة التي تبينه .

وبعد أن ذكرنا هذه المعالم الرئيسة للفهم الصحيح لحقيقة الغلو ، لعلنا نكمل هذا الفهم بالصور والأمثلة التي تدل عليه ؛ لأن بالمثال يتضح المقال ومن أول هذه الصور وأجلاها:
التشديد على النفس بما هو زائد عن الحد المشروع
ورد في حديث قبيصة بن هلب عن أبيه - رضي الله عنه - أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إن من الطعام طعاما أتحرج منه ؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا يختلجن في نفسك شيئا ضارعت فيه النصرانية ) [ رواه أبو داود ] قال الشارح: " لا يدخل في قلبك ضيق ولا حرج ؛ لأنك على الحنيفية السمحة ، فإذا شككت وشددت على نفسك بمثل هذا شابهت فيه الرهبانية " ، والمقصود هنا أن بعضا من الأمور التي تدخل في دائرة الحلال العام ربما نجد من يشدد على نفسه في تحريمها ، أو في البحث عن أصولها بحثاً ليس هناك ما يدعو إليه من ناحية الشرع ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح : ( إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها وحد حدودا فلا تعتدوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها ) ، وبين الحق - سبحانه وتعالى - لكم فيما أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا المعنى الذي دلت عليه الآية في قوله:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا } [ المائدة: من الآية101] .
وهذا ضرب من الضروب يبعث عليه أحياناً شعور في الرغبة في التورع والاستزادة من الزهد ، غير أننا ينبغي أن لا ننسى الأمر المهم ، وهو أننا متعبدون في دين الله على شرع الله ، وهدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا على نوازع النفس ولا العواطف ولا ردود الأفعال .
ومن هنا ينبغي أن نفقه ذلك كما ذكر ابن تيمية في قوله: " التشديد تارة يكون باتخاذ ما ليس بواجب ولا مستحب بمنزلة الواجب والمستحب في العبادات ، أو تارة باتخاذ ما ليس بمحرم ولا مكروه بمنزلة المحرم والمكروه من الطيبات " ، وهذه قضية أخرى وصورة نفردها وحدها في شأن التحريم والتحليل .
وفي حديث عائشة رضي الله عنها في الصحيح دخل النبي صلى الله عليه وسلم وعندها امرأة فقال: ( من هذه؟ ) فذكرت من صلاتها أي وعبادتها الزائدة عن الحد المشروع فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مه عليكم من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل حتى تملوا وكان أحب الدين عليه مادام عليه صاحبه ) ، وهذا ظاهر في هذا التوجيه والإرشاد ، وكان من حديث عائشة ما يبين ذلك وأثره في الصحابة ، وتوجيه النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم قالت: كان إذا أمرهم أمر أمرهم من الأعمال ما يطيقون ، فقالوا: " إنا ليسنا كهيئتك يا رسول الله إن الله قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر " ..كان يأمرهم من الأعمال بأوامر مما يطيقونها وبعبادات مما تيسر عليهم فعلها ، فيرون أن ذلك دون طاقتهم وهمتهم وعزيمتهم ، فيرغبون في الأكثر ، فيقولون: " إنا لسنا كهيئتك يا رسول الله إن الله قد غفر لك من ذنبك ما تقدم وما تأخر" ، قالت: فيغضب حتى يرى الغضب في جهه - صلى الله عليه وسلم - ثم يقول: ( إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا ) أي قمة ما كان يأمر به هو التقوى ، وأن إرشاده لأمته هو الأفضل والأكمل والأمثل الذي لا مزيد عليه ، فمن أراد زيادة فإنما يخرج عن نهج الاعتدال الذي هو سمة الدين ، ومن أراد تشديداً فوق المشروع ؛ فإنما كأنما يرى في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - قصوراً ونقصاً وهو يريد أن يكون أفضل أو أكثر .

وقد أثر عن مالك - إمام دار الهجرة - أن رجلاً جاء فسأله وهو في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ميقات أهل المدينة فأخبره - وهو معروف في ظاهر المدينة - ، فقال الرجل لأحرمن من مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .. قال سأحرم من المسجد ومن داخل المدينة وليس من الميقات ، فقال الإمام مالك: " هذه والله الفتنة " فسمع الرجل فرجع قال: وأي فتنة يا أبا عبد الله ؟ إنما هي أميال أتزيدها أبتغي بها أجر الله أحرم من هذا المكان فتزيد المسافة التي أسيرها وأنا محرم ، فيعظم أجري عند الله ، فقال له: " الفتنة أن تعمل عملا تظن أنك فيه خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم " ، فليس هناك خير ولا كمال ولا فضل أتم وأكمل مما أثر عنه عليه الصلاة والسلام .

وكذلك يأتي في مثل هذه الصورة تزاحم الحقوق ؛ فإن من الناس من يندفع إلى طاعة وعبادة ويفرط في حقوق وواجبات أخرى هي من الشرع بمثابة تلك العبادات من حيث وجوبها ، بل ربما تعلق وجوبها بحقوق للعباد لا يكون التساهل أو التسامح فيها مثل ما قد يكون في حق الله - عز وجل - والمثل المضروب في ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح من حديث أبي جحيفة عند البخاري وغيره في قصة مؤاخاة سلمان الفارسي مع أبي الدرداء - رضي الله عنه - جاء سلمان إلى أبي الدرداء في بيته فوجد امرأته مبتذلة قال: ما بالك يا أم الدرداء ؟ قالت: أخوك أبو الدرداء لس له فينا ولا في الدنيا نصيب قد تفرغ لطاعة الله وعبادته فقصر في حقوق أهله ، فجاء أبو الدرداء فقدم الطعام إلى سلمان فقال له سلمان: كل قال: إني صائم قال: عزمت عليك إلا أكلت - وكان متطوعاً - فأفطر ، ثم لما جاء الليل أراد أن يقوم ليصلي فقال له: نم ، ثم أراد أن يقوم فقال له: نم ، ثم أراد أن يقوم فقال له: نم ، حتى إذا كان آخر الليل قال: قم فصل الآن فصليا ثم لما أصبح الصبح قال سلمان: إن لربك عليك حقاً وإن لنفسك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً ، فأخبر أبو الدرداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: ( صدق سلمان ).

وكم نرى من اندفاع في باب من الأبواب يقابله قطعاً وبلا أدنى شك تفريطٌ في أبواب أخرى ، ينبغي أن نفقه ذلك وننتبه له ، قال ابن حجر في تعليقه على الحديث: فيه جواز النهي عن المستحبات إذا خشي أن ذلك يفضي إلى السآمة والملل ، وتفويت الحقوق المطلوبة الواجبة ، أو المندوبة الراجح فعلها على فعل المستحب المذكور ، وفي حديث الرجل الذي نذر أن يمشي يحج ماشياً وأن لا يستظل ، ونهاه النبي - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك قال ابن حجر فيه: " أن كل شيء يتأذى به الإنسان ولو مآلا مما لم يرد بمشروعيته كتاب ولا سنة كالمشي حافياً ، والجلوس في الشمس ليس من طاعة الله - تعالى - فلا ينعقد به النذر " ، وصور من مثل هذا نراها في واقعنا ، وخاصة عند بعض الشباب إذا تعلق قلبه بالطاعة ، وأراد أن يعوض ما فاته من عمره ، أو ربما أن يكفر عما سلف من ذنبه ربما شدد على نفسه بما لا يستطيع الاستمرار فيه في كثير من الأحوال بما يفرط فيه بحقوق أخرى .

الخطبة الثانية
أما بعد أيها الاخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله فإن تقوى الله أعظم زاد يقدم به العبد إلى مولاه .
وإن التشدد والتشديد على النفس فيما ليس بمشروع ، يفوّت كثيراً من الحقوق ، ويحصل به اختلال عن التوازن ، ولعلنا نضيف إلى ذلك أموراً تبين هذا في أصل سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما بيّنه العلماء في ضوء هذه السنة الشريفة ، فقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أن ( أفضل الصيام صيام داوود - عليه السلام - كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ) وفي رواية عند البخاري في نصها ( يصوم يوما ويفطر يوما ولا يفر إذا لاقى ) ، أي لا يفر إذا لاقى العدو ، قال الطبري في شرح الحديث: " إنما كان صوم داوود من أفضل الصيام من أجل أنه مع صومه لا يضعف من القيام بالأعمال التي هي أفضل من الصوم ، وذلك لثبوته للحرب أمام أعداء الله عند التقاء الزحوف وتركه الفرار هنالك والهرب وكان من أضعفه صوم النفل عن أداء شيء من فرائض الله عز وجل فغير جائز أن يصوم صومه ذلك بل هو محظور عليه " .
إذا كان يصوم تطوعاً ، ويضيع بسبب ذلك الصوم أو ضعفه بسببه فرضاً ، أو واجباً بل قد قال: " إذا ضيع بذلك الصوم المستحب والنفل ما هو أفضل منه من نفل الأعمال فإن صومه ذلك مكروه غير محبوب وإن كنا لا نؤثمه " ، كما قال رحمه الله .
وهذا يدلنا على أمر مهم وهو النسبية ؛ فإن ما يطقه إنسان لا يطيقه غيره ، وإن ما يطيقه إنسان في بعض أنواع العبادات قد لا يطيقها في غيره ، قد يطيق الصوم لكنه لا يطيق طول القيام ، وقد يطيق طول القيام ولا يطيق أمر الصيام ، فينبغي للإنسان أن ينظر ما لا تتأذى به نفسه من المشروع فيأخذ به ، وأما ما يفضي إلى سآمته وانقطاعه أو تفريطه في حقوق أخرى فينبغي له أن يوازن بأن لا يمتنع عن ذلك أن لا يقدم على ذلك مع علمه أو يقينه بأنه يفرط في غيره .

وهذا أيضاً مما نفقهه وفقهه العلماء من صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في حديث عائشة رضي الله عنها كانت تخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يصوم حتى نقول لا يفطر ، ويفطر حتى نقول لا يصوم ، قال الشاطبي في تعليقه على هذا الحديث: " فانظر إلى ما كان من مراعاة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى الأحوال والظروف والأوقات ، فربما في وقت ينشط لهذا وربما في غيره ينشط لغيره ، ولكن المهم المهم هو ألا يتجاوز الحد المشروع بالتشديد على النفس بما يؤدي إلى انقطاعها أو سآمتها ومللها ، وبما يؤدي إلى ترك المداومة على الأعمال " ، وتلك الصورة صورة ظاهرة ، وثمة صور أخرى يأتي ذكرها لنستوفي ذلك ونصل إلى المهم من هذا الموضوع .



هذا المقال من: إسلاميات
http://islameiat.com/doc

عنوان المقال
http://islameiat.com/doc/article.php?sid=330