إسلاميات

الأم المربية



الخطبة الأولى
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
الأم المربية مصدر قوةٍ مؤثرة ، ومكمن تغييرٍ عظيم ، ومصنع تربيةٍ للأجيال ..

الأم المربية في واقع أمتنا الإسلامية اليوم قضيةٌ مهمة وجودها على الصورة المنشودة ، والمنهج المطلوب يعد مفتاح التغيير الإيجابي المنشود .
إن أهمية الأم المربية لا تقل - بل ربما تزيد - عن أهمية الجيوش العسكرية المدججة بالسلاح ، وأهمية إصلاح مناهج التعليم ، وتهذيب وسائل الإعلام ؛ لأن قوتها التأثيرية تستطيع أن تواجه كل ذلك ، وتستطيع - بإذن الله سبحانه وتعالى - أن تنتصر على كل ذلك إن كان مناوئاً لدينها وإسلامها .

وديننا العظيم ونهجنا الإسلامي القويم أعطى لهذه المهمة أولويةً عظمى ، ووفّر لها جميع الأسباب التي تعين على حسن أدائها ، واستمرار رسالتها ، ودوام عطائها ؛ لتكون المجتمعات مجتمعات إيمانٍ وإسلام من قعر البيوت .. من ثدي الأمهات .. من رحم المنجبات ؛ ليخرج حينئذٍ الجيل المؤمن في قلبه ويقينه ، ولتخرج الأيادي المتوضئة ، والجباه الساجدة .. تواجه كل فسادٍ وانحرافٍ يمكن أن تعج به المجتمعات .

ووقفتنا الأولى ومضة سريعة في المكانة والأهمية التي جعلها إسلامنا للأم ولدورها الرائد في التربية :
قال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً } . وقال تعالى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ } .
قال ابن عطية في تفسيره : " ذكر الله الأم في هذه الآية في أربع مراتب ، والأب في مرتبة واحدة ، وجمعهما الذكر في قوله تعالى { بوالديه } ، ثم ذكر الحمل للأم ، ثم الوضع لها ، ثم الرضاع الذي عبر عنه بالفصال ، وهذا يناسب ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل للأم ثلاثة أرباع البر ، ووللأب الربع ، وذلك حين جاءه الرجل فقال : يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أمك ، قال : ثم من ؟ قال : أبوك .
وهذا أمرٌ بينٌ واضح ، ودورٌ فطريٌ خلقيٌ ، أراده الله عز وجل لكمال البشرية ، ولحسن انتظام الحياة في هذه الدنيا .

وروى الترمذي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له : يا رسول الله إني أصبت ذنباً عظيماً ، فهل لي من توبة ؟ فقال له رسول الله عليه الصلاة والسلام : هل لك من أمٍ ؟ قال : لا ! قال : هل لك من خالةٍ ؟! قال : نعم ! قال : فبرها . أي ذاك طريق توبةٍ وتكفير ذنبٍ .

ومن أظهر ذلك وأبلغه ما رواه أنسٌ رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : يا رسول الله إني لأشتهي الجهاد ولا أقدر عليه - أي ربما كان من أهل الأعذار - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : هل بقي من والديك أحد ؟ قال : أمي ! قال : ( قابل الله في برها ، فإذا فعلت ذلك فأنت حاجٌ ومعتمرٌ ومجاهدٌ ؛ فإن رضيت عنك فاتق وبرها ) ذكره الهيثمي في المجمع ، وقال رواه أبو يعلى والطبراني في الأوسط والصغير ورجالهما رجال الصحيح ، وذكره المنذري في الترغيب والترهيب ، وقال : إسنادهم جيد .

ومثل ذلك وأظهر منه حديث معاوية السلمي رضي الله عنه ، قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو منطلقٌ - فقلت : يا رسول الله إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو يعلم أن له أماً تحتاج إليه - ارجع إلى أمك فالزمها ، قال : فجئته من قبل وجهٍ آخر ، فقلت : يا رسول الله إني أريد المسير معك للجهاد ابتغاء وجه الله والدار الآخرة ، فقال : إلزم أمك ، فقلت له ثالثةً ، فقال : ويحك الزم رجلها فثم الجنة .
رواه النسائي وابن ماجة في سننهما بسندٍ صحيح وصححه الحاكم ، ووافقه الذهبي .
ذلكم أن الجنة تحت أقدام الأمهات .

وفي حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر ، فقال في سياق حديثٍ طويل : ( ودخلت الجنة فسمعت فيها قراءةً ، فقلت : قراءة من هذه ؟ فقيل لي : قراءة الحارث بن النعمان ، فقال : كذلكم البر .. كذلكم البر ، فكان الحارث من أبر الناس بأمه ) رواه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي .

ومن هنا ندرك أن هذا المقام الجليل ، والمكانة الرفيعة ، والوجوب الشرعي لبر الأم إنما هو تقدير لدورها العظيم ، ورسالتها السامية ، واعترافٌ بأثرها البليغ في قوة الأمة ومتانة أجيالها ، وصنع أسباب المناعة والحماية والوقاية من الآثار السيئة ، ومن الشرور والأضرار الوخيمة .
ولذلك أي شيءٍ يمكن أن يلفت النظر إذا رأيت ذلك الشاب التقي النقي الورع ، أو حتى رأيت ذلك الرجل العالم الداعي المصلح .. إن كثيراً من الناس يفكرون في جهده وتعليمه وشيوخه ، وينسون أن الأصل الأول ، وأن البصمة الأولى ، وأن البداية والانطلاقة إنما كانت من أمٍ مربية ..
خذوا كل من تشاءون من أمثلة الأئمة والعلماء في التاريخ .. نقبوا في صفحات حياتهم ، ارجعوا إلى أيام طفولتهم سترون وراءهم أماً عظيمةً مؤمنةً مربية .. سفيان الثوري ، إمام التابعين ، وعلم المحدثين ، ورمز الزاهدين ، ربّته أمه قالت له : " يا بني أطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي " كان أبوه ميتاً ، فجعلت عملها لكي تفرغه لطلب العلم ، كانت تعلم ما الخير وما الأفضل والأمثل ، ما الذي ينبغي أن تنشئ عليه صغيرها ، ما الطريق الذي ترسم له مساره فيه وتدرج به في خطواته الأولى عليه وتقول - وقد كانت تتخوله دائماً بالوعظ والتوجيه وهو في نعومة أظفاره - كانت تقول له : يا بني إذا كتبت عشر طرقٍ - أي من الحديث - انظر هل ترى في نفسك زيادةً في خشيتك وحلمك ووقارك ؛ فإن لم يزد ذلك فاعلم أنه لا يضرك ولا ينفعك " ، تريد أن تلقنه أن العلم إنما يكون للعمل ، وأن أثر العلم ينبغي أن يستقر إيماناً وتقى في القلب والنفس ، وأن ما لم يكن ذلك كذلك فلا نفع ولا جدوى ، بل ربما يكون ضررٌ وإثمٌ إذا قدر الله .. أليست هذه الأم كانت أياديها التربوية ومنهجيتها التعليمية هي البداية لذلك الإمام الجليل والعالم العظيم !

انظروا إلى الصحابيات من الأمهات المربيات كيف كان الأثر يغرس منذ نعومة الأظفار بذرة إيمانٍ في سويداء القلوب ، وسمات أخلاقٍ في أعماق النفوس .. الربيع بنت معوذ رضي الله عنها تقول : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء ، فقال : من كان صائماً فليتم صومه ، ومن لم يصم فليمسك - أي عندما بدأ بأمره أو توجيهه عليه الصلاة والسلام لصيامه - قالت : فكنا بعد ذلك نصومه ونصوّم أبناءنا - أي الصغار - فكنا نصومهم ونأخذهم إلى المسجد ، ونأخذ معنا لهم اللعبة من العهن ؛ فإن بكى أحدهم لهيناه بها حتى يتم صومه ويؤذن المغرب .

تلك هي التنشئة ، وتلك هي ملامح ومعالم التربية أخرجت جيل الأتقياء الأصفياء .. جيل لمجاهدين الأعزاء ، أخرجت جيل العلم والعلماء .. ويوم افتقدنا هذه الأم المربية ، ويوم خرجت إلى الأسواق لاهيةً عابثة ، ويوم شغلت بالأعمال وخلفت وراءها أبناء وبناتٍ ليس لهم من يرعاهم ولا يربيهم .. خرجت لنا أجيال لم يعد لها حظٌ من سمة الإيمان ، وصفة الإسلام ، واستغربت في فكرها ، وامتهنت في شكلها وهيئتها ، وذلّت في عزتها ، وضعفت في إيمانها .

ولعلي أمضي بكم إلى ساحةٍ أخرى أريد منها أن نؤكد أن هذا المعنى مهمٌ ومعترفٌ به حتى عند غير المسلمين من العقلاء والحكماء ؛ لأن بعضاً من أبناء جلدتنا قد التوت أعناقهم ، فلا يرون إلا جهة الغرب ، ولا يرون إلا المجتمعات المتحضرة - كما يقولون - وربما لا تكاد آذانهم تصغي أو تسمع إلا لقول أولائك ، ولا ترى النموذج والقدوة إلا في أفعالهم وأحوالهم، أما وقد أصبح ذلك حال بعضهم فلا حرج أن ننقل لهم أقوال القوم وأحوالهم ؛ لنريهم بعض ما يعيدهم إلى رشدهم وصوابهم ..

هذه كلماتٌ ومواقف ينبغي أن نلتفت إليها ، وسأذكر من بعد منهجاً عظيماً نحتاج إليه وإلى التذكير به .
أول ذلك ما ذكرته زوجةٌ لأحد رواد الفضاء الأمريكيين السابقين - وقد كانت ربة منزلٍ ، ليست موظفةً ولا عاملة وإنما مهنتها كما نكتب في مهن بعض أزواجنا " ربة بيت " وبعض نساءنا اليوم تطأطئ رأسها خجلاً إن سئلت : ما هو عملكِ ؟! وكأن هذه المهمة أصبحت شيئاً يستحيى منه ، أو مرتبةً لا تريد المرأة أن تكون فيها ! مع أنها أسمى المراتب وأعلاها ، وأعظم الوظائف وأكثرها أهميةً وجدوى حتى من الناحية الاقتصادية - تقول هذه المرأة الغربية : " أنا مسرورةٌ جداً من بقائي في البيت إلى جانب زوجي وأطفالي ؛ حتى في الأيام العصيبة التي كنا فيها في حاجةٍ إلى المال لم يطلب مني زوجي أن أعمل ، وكانت فلسفته أننا نستطيع أن نوفر حاجاتنا الضرورية ، إن قلّ المال لا تأكل هذا النوع وكُل هذا ، ولا تركب هذه السيارة واركب هذه ، يمكن تدبير الأمور .. ولكننا لا نستطيع أن نربي أبناءنا إذا أفلت الزمام من يدنا " .
ما هو البديل إن لم يكن في بيتك أمٌ مربية ؟ البديل خادمةٌ لم تحمل هذا الطفل في رحمها ،ولم تعاني في ولادته ، ولم تكن يوماً مرضعته ، ولا يهمها شأنه ، ولا يعنيها مستقبله ، ولا تنتمي إلى مجتمعه - بل ربما لا تنتمي إلى دينه ومعتقده - أو ما هو الحل الآخر : أن يسرح الأبناء إلى مؤسساتٍ هنا أو هناك كما هي في مجتمعات الغرب ، تكون كما يقول الرافعي رحمه الله : " للعشرين منهم أمٌ واحدة " أي موظفة ليست أماً فلا تعطيهم شيئاً من معاني الأمومة ؛ فضلاً أن تمنحهم شيئاً من معالم التربية .

البدائل قضيةٌ مهمة قد نستطيع أن نسد ثغراتٍ هنا أو هناك .. الأعمال والوظائف فيها رجالٌ ونساء إن تخلينا أو اضطررنا إلى التخلي عن امرأةٍ في مكانٍ ما ! أفلسنا قادرين أن نأتي بغيرها من الرجال أو النساء بحسب الحال ؟! لكنك إن لم تجد في بيتك أماً مربية هل يمكن أن تكون أنت أيها الرجل أماً مربية - خاصةً في سن الصغر - هل يستطيع رجلٌ واحدٌ أن يحتمل البقاء مع طفلٍ في الثانية أو الثالثة من عمره أكثر من ساعةٍ أو ساعتين قبل أن يدعو بالويل والثبور وعظائم الأمور ويصيح ويضيق ؛ لأنه لم يخلق لذلك ، ولم يكون في نفسه وفكره وطبيعته لذلك ، بينما هو يستطيع أن يحتمل الصعاب ، وأن يرابط الأوقات الطويلة في عمله دون كدرٍ أو ملل ؛ لأن الله جل وعلا قد ركّبه وخلقه على هيئةٍ تصلح لذلك .

ومن هنا أيضاً نقول من مقالات بعض القوم : " المرأة التي تشتغل خارج بيتها تؤدي عمل عاملٍ بسيط ولكنها لا تؤدي عمل امرأة " أي عمل الأم هناك يمكن أن تسد الثغرة ولكن أين المقابل والبديل ؟

أمرٌ آخر الفطرة التي فطر الله الناس عليها قد جعلها في هذه المرأة مناسبةً لهذه المهمة أولاً في الأصل الخلقي الطبعي .. هل رأيتم في حياتكم رجلاً يحمل ويلد - وإن كنا نقرأ أحياناً من الطرائف والعجائب والغرائب ما يكتب في بعض الصحف مثل هذا - ولست واقفاً عنده لكنني أقول : كل الناس - حتى الذين يرتقون إلى أعلى الدرجات في المطالبة بالمساواة - لم نسمع عن أحدٍ منهم أنه طالب أن يساوى الرجل بالمرأة في الحمل والوضع والولادة لماذا ؟
لو كان من الناحية النظرية لدعو إلى ذلك وطالبوا به ، لكن هذا محالٌُ بطبيعة الخلقة ! فإذا سلموا في هذا فلماذا لا يسلمون في طبيعة الفطرة والخلقة في ما وراء ذلك ؟

يقول أحد الغربيين أيضاً : " إن الرجل يبحث عن المرأة التي تعمر البيت بوجودها وحركتها وعملها ، وليست المرأة التي تملئ المعامل والمصانع والمكاتب والشوارع ، وتخلف ورائها بيتاً يفترسه الضياع والفساد بوسائله المباشرة وغير المباشرة " .

وأكمل لكم الثالثة : في بيان الأهمية والخطورة
فإن هذا الدور إذا اختل - ليس مجرد مناقضٍ للفطرة وليس مجرد أمرٍ - لن نستطيع أن نجد له بديلاً ، ولكنه كذلك خطوط حمراء ، وهو أحد المقاتل الخطيرة التي تضعضع كيان مجتمعاتنا الإسلامية ، ويوشك أن تعيث من خلالها أو أن يعيث من خلالها الفساد في ديارنا .
ومن هنا ؛ فإن النقطة الثالثة هي الهجوم العظيم المتعاظم المتنامي على الأسرة عموماً والمرأة خصوصاً ، وعلى دور الأم المربية بشكلٍ أخص .

البروتوكولات المنسوبة إلى اليهود يقولون فيها : " سوف ندمر الحياة الأسرية بين الأميين - أي غير اليهود - ونفسد أهميتها التربوية " .
ولما علم أولئك القوم أن سراً من أسرار قوتنا وترابطنا ، واستعصاء أجيالنا على مخططات التدجين والتهوين والتهويد إنما هو إلى أولئك الأمهات العظيمات المربيات ، قالوا : لا بد أن نلغي دور هذه الأم المربية ، والزوجة الراعية ، والبنت الحانية .. وأن نفسد هذه اللبنة القوية المتماسكة ..

وأنتم تعلمون كم تعقد الأمم المتحدة من المؤتمرات التي تحشد لها الأمم من شرق الأرض وغربها ، وأي شيءٍ تريد منها عناوين كذابة ، وشعاراتٌ براقة ، ومضامين فاسدةٍ مفسدة : الصحة الإنجابية ؛ أي كيف تمارس المرأة كل أنواع الفسق والفجور والزنا والخنا !
ثم تكون هناك بعض التعليمات والتوجيهات للوقاية من الأمراض ، وماذا يقولون ؟
كثيرٌ من الكلام تعلمونه .. لماذا كل هذا الجهد المبذول والتخطيط المتتابع منذ عقودٍ ، والأموال المصروفة المبذولة ؟
واليوم الدعوات التي نسمعها لإصلاح المجتمعات العربية والإسلامية في مقدمة هذا الإصلاح وضع المرأة - كما يقولون - ويروجونه وفق تصوراتهم ومناهجهم وآرائهم وأحوالهم ..

هذه قضية مهمة ؛ لعلي أقف وقفةً لا بد لنا أن نعيها نحن معاشر المسلمين :
المؤهلات الخلقية والفطرية للمرأة في التربية
أولها : الخصائص النفسية
فإن المرأة مجبولةٌ على العاطفة الفياضة ، والحنان المتدفق .. ألا ترون ذلك فيما صورته أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن يبين هذه العاطفة ليس في الإنسان بل حتى في الحيوان !
ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوماً - وقد كان يمر ببعض الأسرى - وامرأةٌ تأخذ وليدها فتضمه إلى صدرها ، فيقول :أرأيتم هذه طارحة ولدها في النار ؟! قالوا : يا رسول الله هي أرحم به من ذلك ! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( فالله أرحم بكم من هذه بولدها ) ، لكنه أراد أن يبين أن الرحمة الإنسانية في أعلى صورها إنما هي عند المرأة الأم .
وذكر لنا النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي كان من أقضية سليمان عليه السلام في امرأتين تنازعتا في طفلٍ ، كل واحدةٌ تدّعي أنها أمه ! فبأي شيءٍ حكم ؟
قال : أحكم بأن يشق نصفين ، فتعطى كل واحدة نصف ، ولم يكن يريد أن يكون هذا حكماً منفذاً لكنه عندما قاله قالت إحداهما : لا تفعل هو لها - وهي أمه - فهل أقرت بهذا على أن تلك أمه ؟ كلا ! بل حكم لها بأن تأخذ هذا الابن ؛ لأنه أثبت أن رحمتها به آثرت حياته ولو كان بعيداً عنها ، ولو كان عند غيرها ، فأيقن أنها أمه .. هذه الصورة من الرحمة والعطف والحنان كيف ينشأ الأطفال إذا حرموا منها ؟ لماذا تشكوا المجتمعات الغربية اليوم ممن يسمونهم " التين آجرز " الذين هم أبناء ما فوق العاشرة والعشرين ؟
لماذا ترون هناك أبناء الخامسة عشر وهم ينفذون جرائم قتلٍ كاملة ؟ إنهم لم يجدوا حناناً ولا عطفاً من الأم ، عاشوا في بيئةٍ صحراوية من المشاعر والعواطف ، عاشوا في بيئةٍ ليست مستقرة في ظلال الأسرة الوارفة ، فخرجوا إلى المجتمع أشراراً لا يبغون فيه إلا فساداً ، وانظروا إلى الصبر والاحتمال وهو من الطبيعة النفسية عند المرأة على الصغار - كما قلت من قبل - هذه أمه طفلٌ ترضعه ، وآخر يحبوا تنتبه له ، وثالث يدرج توجهه ، وتعيش في هذه المملكة ما لو عاشه الرجل - كما قلت - ساعةً واحدة لكاد أن يساق إلى مستشفى المجانين ، كيف ذلك ؟ لأن الله جعل لها صدراً رحباً ، واحتمالاً عظيماً في هذا الباب ليس له نظير .

والأمر الثاني وهو مهمٌ كذلك : طبيعة الاستقرار في المرأة
والقرآن العظيم والمنهج الإسلامي القويم يتطابق مع أصل الخلقة والفطرة ، قال تعالى : { ألم نخلقكم من ماءٍ مهين * فجعلناه في قرارٍ مكين } ، قرار الرحم يستقر فيه كل واحدٌ منا قد استقر فيه تسعة أشهر ، هل لأحدٍ منكم أن يقول - أو أن يدعي - أنه لم تكن له أمٌ حملته ووضعته وأرضعته وغذته ورعته وربته ؟!
هذا الاستقرار هو من طبيعة المرأة ؛ ولذلك حتى المرأة العاملة هل تبقى في البيت وقتاً أطول من زوجها أو لا ؟ لأن في طبيعتها الاستقرار ؛ ومن هنا جاء التوجيه الرباني ، قال تعالى : { وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى } ليس ذلك تحريماً للخروج أو للعمل في صورته وصيغته الشرعية ! ولكنه ذكرٌ للطبيعة المناسبة للمرأة تغليباً .

ولذلك أنظروا إلى الرجال ألا ترونه في أيام العطل والإجازات إذا بقي في بيته لم يستطع أن يبقى إلا جزأً من الوقت ثم يخرج ؛ لأنه ليس من طبيعته الاستقرار ، بل هو متنقلٌ مرتحلٌ عاملٌ متغبرٌ .. هذه طبيعة الكبد والكدح والسير في هذه الحياة ، قال تعالى : { قل سيروا في الأرض } وهذا ضربٌ آخر يتناسب مع الرجل ، فإذاً طبيعة القرار والاستقرار جعلها الله لتكمل بها هذه الحياة .

وأخيراً : القرب والملابسة
من الأقرب إلى الأبناء ؟ بل من الأقرب إلى الأزواج ؟ من الأعرف بطبائعهم ؟ من الأقدر على اكتشاف أسرارهم .. أليست الأم التي تعرف ماذا يحب هذا وماذا يحب ذاك من الطعام والشراب ؟ أليست هي التي تغسل الملابس وتعرف ما قد يكون فيها ؟ أليس الأبناء - حتى أحياناً وإن كبروا - يسرون بأسرارهم ومشكلاتهم إلى أمهاتهم ، لماذا ؟
لأن هذه طبيعةٌ حانية ؛ ولأنه استقرار في كل وقتٍ يجده ، يبحث عن أبيه فمرةً في شرقٍ ، ومرةً في غرب ، وإذا كلمه وجد صرامة الوجه ، وتقطب الجبين والشدة التي يعرفها لا يتناسب ذلك لا يعني ذلك أنه ليس للأب دور في التربية ولكننا نذكر الدور الأساسي في المراحل الأولى ، وتبقى للأم أدوارٌ مستمرة فكل رجلٍ مهما بلغ من الكبر فهو طفلٌ عند أمه ، لا يكبر الإنسان على أمه هذه التربية هذه الأم هذا الدور لا بد أن نعنى به ، وأن نحرص عليه لنؤمل بيوتنا ، ولنعد أجيالنا نسأل الله عز وجل أن يحفظ نسائنا وزوجاتنا ..

الخطبة الثانية
أما بعد أيها الأخوة المؤمنون :
أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله ؛ فإن تقوى الله أعظم زادٍ يقدم بع العبد على مولاه .
وإن من الأمور المهمة العناية بدور الأم وتربيتها لأبنائها ؛ ولعلي أشير هنا إلى إشاراتٍ لا بد من ذكرها والتنبيه والتعويل عليها :
لفت نظرٍ إلى الأمهات العظيمات المربيات في أرض فلسطين .. ما الذي أخرج لنا هذا الجيل من الشباب الصغار في مقتبل العمر ، يكشفون صدورهم للرصاص ومدافع الدبابات وقصف الصواريخ ، وهم يبتسمون ويجددون قول أسلافنا " الله أكبر فزت ورب الكعبة " ؟!

ثم نرى من بعد الأم وهي تقول : " لا تعزوني ولكن هنئوني بشرف استشهاد أبناءي " ، ألم نرى ذلك ؟ ألم نعرف أن هذه القوة التي تواجه اليوم ألد أعدائنا وأحقرهم وأذلهم من اليهود - عليهم لعائن لله - إنما كان الدور العظيم بعد فضل الله عز وجل وأدوارٍ أخرى لأولئك الأمهات ..
ألسنا نعرف أن قوة الإنجاب وكثرته في أرض فلسطين أحد الأسلحة العظيمة التي تقلق أعداء الله عز وجل ، ثم يقال لنا قللوا نسلكم وأخرجوا نسائكم وضيعوا أجيالكم ومن بعد سوف تضيع كلمتكم وتذهب ريحكم ..
أمثلةٌ عظيمة نراها وتؤكد لنا هذا المعنى ، ونحن وإن كنا نألم ونحزن لما يجري في أرض العراق وفي فلسطين ، ونتفاعل معه في الخطب لكننا كذلك نحتاج إلى أن نقف وقفاتٍ عملية ؛ لنؤدي دورنا ، ونقوم بواجبنا :
أحد الكتاب يقول مقالةً قويةً معبرة : " إن دور الأم في التربية أعظم من دور الثورة " ، نحن نريد ثورةً على الظلم لإقرار العدل ، وعلى الذل للتحلي بالعز .. نحن نريد ثورةً نغير بها الواقع في حياتنا ، وإن من أعظم أسباب هذه الثورة - دون أن تكون ثورةً حمراء ، ودون أن تكون ثورةً في مبتدئها ثورة دماء ، ودون أن تكون رعونةً رعناء - هو دور التربية ، مفتاح التغيير ، ومصدر القوة ، وإن أسلحة التربية في الأجيال المؤمنة أعظم وأفتك من الأسلحة الذرية وأسلحة الدمار الشامل الذين يكذبون على الناس بوجودها ، ويعرفون أن حقيقة قوتنا في إيماننا وإسلامنا وتربية أجيالنا ، فيحاربوننا في مكمن قوتنا ، ودعك من غير ذلك من الأضاليل والأكاذيب ! وإلا فلماذا هذه الدعوات من الديمقراطيات والإصلاحات وغيرها من المغالطات التي يروجونها وفق المنظور الغربي والحضارة الغربية ؟!

وأقول أيها الأخوة :
إن هذا المعنى مهمٌ جداً ، ونحن عندما نقول ونتحدث في هذا فلسنا نتحدث بعيداً عن واقعنا ! ولسنا لا نعي ما يجري حولنا ! ولكننا نريد أن نكون أصحاب عمل - وقد قلنا من قبل في حديثٍ مستفيضٍ عن خطة الإصلاح ومنهجه في القرآن ومبدئه من قوله عز وجل : { إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم } - وهذا الذي نتحدث عنه حديثٌ مهمٌ مكملٌ لهذا الدور العظيم ، الذي عبر عنه شاعر العراق الرصافي بقوله :
ولم أر للخلائق من محل **** يهذبها كحضن الأمهات
فحضن الأم مدرسة تسامت **** بتربية البنين أو البنات
وأخلاق الوليد تقاس حُسناً **** بأخلاق النسـاء الوالدات
وليس ربيب عالية المزايـا **** كمثل ربيب سافلة الصفات
وليس النبت ينبت في جِنان **** كمثل النبت ينبت في الفلاة

فاعلم أن هذا الابن والشاب إذا كان صالحاً - أن وراءه في الغالب - أماٌ مربيةً صالحة .
ولقد كان القاسم وإبراهيم - من التابعين - يدخلان على عائشة رضي الله عنهما ، وكان أحدهما في لسانه لكنة - يلحن في العربية - فقالت : قد علمت من أين فصاحة هذا وعجمة هذا .. هذا ربته أمه ، وذاك ربته أمه " ، وكانت أمه أعجميةً ليست عربية ، فبقي أثر تربيتها ؛ حتى وإن كان رجلاً عالماً إلا أن بعض الأثر ما زال ظاهراً .

ولذلك مقولةٌ عظيمة تقول : " إذا علمت رجلاً فقد علمت فرداً ، وإذا علمت امرأةً فقد علمت جيلاً " .
نسأل الله عز وجل أن يحفظ بيوتنا وأبنائنا وبناتنا من كل الشرور والمفاسد ، وأن يعطينا الزوجات الراعيات ..



هذا المقال من: إسلاميات
http://islameiat.com/doc

عنوان المقال
http://islameiat.com/doc/article.php?sid=685