مكانة المرأة في الإسلام

مقالات عن مكانة المرأة في الإسلام (56 مقالة)

أحمد الحمدان

 

 

الإسلام:

دين الله تعالى الذي ارتضاه لعباده، ولم يرتض ديناً سواه، قال الله تعالى:- {إن الدين عند الله الإسلام} وقال تعالى:- {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين}.

وقد تكفل الله عز وجل لكل فرد من أفراد المجتمع المسلم بحقوق، وافترض عليه واجبات، وبذلك يحصل التوازن بين أفراد المجتمع، ويأمن كل فرد منهم على ما يحق له التمتع به من خصائص واستحقاقات، ويؤدي ما عليه من واجبات تجاه الآخرين كما يحب أن يقوم غيره بما يجب عليهم من واجبات تعني حقوقاً بالنسبة له.

ومن هؤلاء الأفراد (المرأة) التي ينظر الإسلام إليها نظرة خاصة، لكونها تمثل محور الأساس في الأسرة المسلمة، ومركز الثقل فيها، فهي أم تخرج الأجيال، وتصنع على عينها الأبطال، وتعد النشء ليقوم بدوره المنوط به، وهي بنت تحتاج إلى من يبذر بين جنبيها توحيد خالقها، وإفراده بالتوجه، مع حسن الخلق، وجمال السلوك، والاعتزاز بالدين، وتنكب صراط الغاوين، وفهم ما من أجله خلقت، وإعدادها لتقوم بدورها المرتقب منها، وهي زوجة تشاطر الرجل حياته، وتوطن نفسها لتكون له سكناً، ولخصوصياته موئلاً، ولهمومه مجلياً، وله فيما يشغله من النوازل مشيراً، وله فيما يعجزه أو يشق عليه سنداً.

والمرأة في ذلك كله، وقبله وبعده، أم الرجل التي تدخله الجنة من أعظم أبوابها إن رضيت عنه، ويحرم منها إن لقي ربه بسخطها، والمرأة بنت الرجل التي ألزمه الله تعالى بإعدادها لتمارس دورها، وجعله من أعظم الناس أجراً إن أعطاها حقوقها، ومن أشنعهم وزراً إن ضيعها، والمرأة زوج الرجل التي ألزمه الله تعالى بحفظها، ورعاية شؤونها، والإنفاق عليها، والوفاء بالشروط التي لها، فإن جار في شيء من حقوقها ومال إلى غيرها عنها لقي ربه بشق مائل.

أقول: إن هذه المكانة العالية، والمرتبة السامية لا يدور في خلد جمهور نساء غير المسلمين أن امرأة على ظهر الأرض تتمتع بها، ولو عرضت على نساء الغرب – اللاتي اتخذتهن بعض المغرورات قدوات لهن – عرضاً حقيقياً كما أنزله الله وشرعه رسوله صلى الله عليه وسلم لما توقفن طرفة عين عن اللحاق بركاب المسلمات. ولكن: يا ليت نساء المسلمين يعلمن.


إن الحديث عن مكانة المرأة في الإسلام من أهم ما ينبغي أن تنصرف الاهتمامات إليه، ومن أعظم ما ينبغي التركيز عليه، وذلك أن المجتمع الإسلامي يقوم على الأسر، ويتكون منها، والأسر تقوم على المرأة، ويتخرج أفرادها على يديها، ويتلقون مبادئهم عنها، فهي محور ارتكازه، وعمود بنائه، وأساس أركانه، وبدونها لا يكون أبداً، بل لا يتصور في ذهن أن يقوم مجتمع بدون المرأة، المرأة التي بنيت بناء صالحاً، وأعدت لتقوم بدور بناء المجتمع، وتخريج أفراده ليقوم كل منهم بما يجب عليه حتى يكون مجتمعاً صالحاً.

وإن الحديث في بيان مكانة المرأة في الإسلام ليس بدعاً من القول، بل هذا كتاب ربنا سبحانه وتعالى ليس فيه سورة، بل ولا آية، إلا وللمرأة فيها نصيب، إما بالاتعاظ وأخذ العبرة منها، أو بمشاطرة الرجل أحكامها وتوجيهاتها، بل قد تنفرد عنه في كثير منها، حتى جعل الله عز وجل للنساء سورة في كتابه، هي من أطول سور القرآن الكريم، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يمكن حصره من الأحاديث الخاصة بالمرأة، أمراً وتوجيهاً وإرشاداً وبياناً لمكانتها، وهكذا، وقد أحسن الملك صديق خان – رحمه الله – يوم أن ألف كتاب (حسن الأسوة بما ورد عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في النسوة) جمع فيه جمهور الآيات، وكثيراً من الأحاديث الخاصة بالمرأة، وهو مطبوع متداول.

وفي دواوين الإسلام العظيمة: وهي كتب الحديث، التي عليه معول المسلمين في معرفة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبواباً خاصة أفردت للنساء، ومن أشهرها (كتاب عشرة النساء) للنسائي، أورد فيه 403 أحاديث، مطبوعة في مجلد، بل تسابق الحفاظ لجمع أحاديث النساء التي روينها في مسانيد خاصة بهن، مثل: مسانيد أمهات المؤمنين، ومسند عائشة رضي الله عنهن.

وفي كل كتب الفقه الإسلامي: يجد المطلع عليها قسماً كاملاً فيها - من أقسام كتب الفقه الخمسة - تندرج تحته كتب وأبواب وفصول تحت عنوان (المناكحات) تذكر فيه جميع الأحكام والحقوق الخاصة بالمرأة، عدا ما يذكر في الأقسام الأخر - من هذه الكتب - من أحكام تخص النساء، أو يشاركن الرجال فيها، ولا تخرج من ذلك إلا أبواب تعد على أصابع اليد.

وأفرد كثير من العلماء – رحمهم الله – كتباً للنساء، ومن الكتب القديمة المطبوعة في ذلك (أدب النساء) للإمام عبد الملك بن حبيب (المتوفى سنة 238هـ) أما ما يوجد من الكتب المطبوعة الخاصة بالمرأة فهذا مما يصعب حصره. فالحمد لله على نعمة الإسلام.


بعث رسول الهدى صلوات ربي وسلامه عليه والمرأة تعاني هضماً لحقوقها، وإجحافاً في معاملتها، واستخفافاً بشأنها، بل وتشكيكاً في إنسانيتها، وإن كان ثم نوع مراعاة لها عند بعض الأمم، فلا تعدو أن تكون في أمور شكلية، ورثها أهلها من بقايا ملة نبي بعثه الله تعالى، أو خلق كريم، لم ينطمس مع ما انطمس من الفطر.

لقد كانت المرأة عند جميع الأمم تعاني من اضطهاد شنيع، حين انتكست الفطر، وابتعدت الأمم عن شريعة الله إلى ما زينته لهم شياطينهم من قوانين وضعية، فعند الرومان سلب قانونهم المرأة معظم حقوقها، فقبل الزواج تكون ملكاً لرب الأسرة، له الحق في قتلها، وبيعها، وبعد الزواج يحل زوجها مكان والدها في جميع حقوقه، وهي لا ترث عندهم، لأنها ليس لها حق في الحرية عندهم، ولا عقل لها، ويقولون: إنها صاحبة عته طبيعي.

ولم تكن في حضارة الفلاسفة اليونانية بأحسن حال من أختها الرومية، فقد كانت تعامل معاملتها، وينظر إليها كما ينظر إلى الرقيق، ويرون أنّ عقلها لا يعتد به، وفي ذلك يقول فيلسوفهم (أرسطو): " إن الطبيعة لم تزود المرأة بأي استعداد عقلي يعتد به ".

وفي حضارة الفرس المجوس كانت مسلوبة الحقوق كذلك، وكانت من ممتلكات الزوج، وله أن يقتلها، أو يتفضل عليها بالحياة، إن شاء، ويرون أنها نجسة، وأنها تنجس كل ما مسته يدها في حال حيضها ونفاسها، فيضعونها في خيمة صغيرة بعيدة عن بيوتهم، وعلى الخادم إذا أرسل ليعطيها طعامها أن يلف مقدم وجهه ويديه خشية أن يتنجس.

وفي حضارة الهند كانوا ينكرون إنسانية المرأة، لذلك حكموا عليها بأنها ليس لها حق إجراء أمر وفق رغبتها، وتكون ملكاً لأبيها ثم لزوجها، ويجب عليها أن تعامله كما تعامل إلهها، لأنّ الزوج عندهم ممثل الآلهة، وإذا مات زوجها أحرقوها مع جثته.

والمرأة الصينية ينظر الصينيون إليها على أنها معتوهة، لا يمكنها قضاء أي شأن من شؤونها إلا بتوجيه من الرجل، وهي محتقرة مهانة، لا حقوق لها، ولا يحق لها المطالبة بشيء منها، بل يسمون المرأة بعد الزواج (فو) أي (خضوع).

وسنواصل حديثنا – إن شاء الله تعالى – عن مكانة المرأة عند الأمم قبل لإسلام، والحمد لله على نعمة الإسلام.


ونواصل حديثنا عن وضع المرأة قبل الإسلام:

فنجد أنَّ العربي مع نخوته وحميته، واعتزازه بوالدته، وبنساء قبيلته - أحياناً - إلا أنَّ بعده عن الحنيفية السمحة، وتقديمه عوائد القبائل جعله يتخبط في باب مكانة المرأة، كغيره من البشر، حينما ينحرفون عن دين الله تعالى.

فقد كانت المرأة عابدة للأوثان، لكونها جزءً من مجتمع هذا دينه، وكانت إذا حجت مع قومها حجت عارية، حتى قالت إحداهن، وهي تطوف:

اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله

وكان كره العرب للمرأة معلوم، حتى أنَّ الله تعالى ذكر ذلك في كتابه فقال:- {ويجعلون لله ما يكرهون} أي: البنات، وكان الواحد منهم إذا رزق بالأنثى اسود وجهه كرهاً لما رزقه الله، قال تعالى:-{وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم. يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب} وكان منهم من يئد البنت، حتى جاء عن قيس بن عاصم أنه وأد ثلاث عشرة من بناته، حتى أنزل الله فيهم:- {وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت}.

وكانت المرأة في الجاهلية تسير أمام الرجال مبدية مفاتنها، ومعلوم ما وراء التبرج من فتن وفساد وفجور، ولم تكن كثير من صور الزواج عندهم بمعزل عن هذا الفساد، فقد روى البخاري في صحيحه: عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: إنَّ النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم، يخب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها، أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه، ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبداً حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك، يا فلان، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل، ونكاح رابع يجتمع الناس فيدخلون على المرأة، لا تمنع من جاءها، وهن البغايا، كن ينصبن رايات على أبوابهن تكون علماً فمن أرادهن دخل عليهن.

فالحمد لله على نعمة الإسلام.


ونواصل حديثنا عن وضع المرأة قبل الإسلام:

وكنا تحدثنا عن المرأة عند وضعها عند الرومان، واليونان، والفرس، والهنود، والصينيين، ثم شرعنا في الحديث عنها عند العرب، وذكرنا ما كانت تؤمن به من عقائد منحرفة، وكيف كان الرجل ينظر إليها نظرة كره، وما كان يفعله بعضهم من وأد لها، وتبرجها الذي جرَّ كثيراً من المفاسد الخلقية،وأنواع الأنكحة الفاسدة التي كانوا يمارسونها، وكنا ذكرنا منها: نكاح الاستبضاع، ونكاح الرهط، ونكاح المتعة.

ومن أنكحتهم الفاسدة:

نكاح المقت: وهو أن الرجل إذا توفي فإنَّ لولده الأكبر أن يتزوج امرأة أبيه، أو يمنعها الزواج من بعده، ومنها: إكراه المرأة على الزنا رغبة في المال أو الولد، كما كان يفعل عبد الله بن أبي بن سلول حيث كان يكره إماءه على البغاء، رغبة في أولادهن، وطلباً لخراجهن، وكان التعدد عندهم لا يحد بعدد،وكذا الطلاق، والرجعة، وكانت عدة وفاة زوجها: أن تدخل أسوأ مكان في بيتها، وتلبس شر ثيابها، ولا تمس ماء، ولا طيباً، ولا تمشط شعراً، حتى تمضي عليها سنة، ثم تؤتى بحمار، أو شاة، أو طير فتمسح جسدها به، رجاء التخلص من نتنها، فقلما تتمسح بشيء إلا هلك من نتنها، ثم تخرج فتعطى بعرة، فترمي بها، مشيرة إلى أنَّ ما فعلت بنفسها لا يساوي بعرة في حق زوجها.

وكانت المرأة لا ترث، لأنَّ الميراث عندهم لمن حمل السيف، وأقرى الضيف، والمرأة ليست كذلك، بل كانت لا تملك شيئاً.

وكانت لا نصيب لها فيما تنتج البهائم، ويشركونها إذا سقط جنين البهيمة ميتاً، قال الله سبحانه وتعالى:- {وقالوا ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء}.

وكان هذا الوضع المشين للمرأة منتشراً بين كثير منهم، فمن مستقل، ومن مستكثر، وهذا الوضع لا يشك عاقل أنَّه ظلم عظيم، وهضم لحقوق المرأة، وإجحاف بها.

وظلت المرأة كذلك حتى جاء الإسلام بنوره، وأخرج الله تعالى به الناس من الظلام إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، فسعد الناس به لما أخذوه بحقه، وجعلوه منظم شؤونهم كلها، وكانوا كما أرادهم خالقهم سبحانه، حيث يقول:- {إنَّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له} فالحمد لله.


إن الحديث عن مكانة المرأة في الإسلام يظهر بجلاء ما أحاط الإسلام به المرأة من عناية ورعاية، وما أعطاها من حقوق كانت قد سلبت منها في الجاهليات السابقة واللاحقة.

وإنّ الحديث عن واجبات المرأة في الإسلام يظهر لنا تكريم الإسلام لها، ووضعها في مكانها اللائق بها، والنظر إليها على أنها عضو فاعل في الجماعة المسلمة، حيث جعلها الله تعالى مربية الأجيال، وصانعة الرجال، ومخرجة الأبطال.

وإنّ الحديث عن وضع المرأة غير المسلمة في المدنيات السابقة، وما آلت إليه من انحطاط في تصورها، وسلوكها، وخلقها، وما سلبها الرجل الجاهلي من حقوق، عندما رضخت لقانون الأرض البشري، وتنكبت صراط ربها السوي، يظهر كذلك رفعة مكانة المرأة في الإسلام، وبضدها تتبين الأشياء.

وإنّ الحديث عن حقوق المرأة في الإسلام يظهر بجلاء التوازن العجيب، الذي وضعه الله عز وجل ليسير المجتمع عليه، فلا الرجل يطغى فيسلب المرأة حقوقها، وينزلها عن مكانتها التي جعلها الله تعالى فيها، ليستمتع بأكبر قدر ممكن من السيطرة على غيره، وإن كان على حساب حقوقها، ولا المرأة تطغى فتنازع الرجل مكانته التي جعله الله تعالى فيها، وتنزله عن مكانته، لتستمتع بأكبر قدر ممكن من السيطرة على غيرها، وإن كان على حساب حقوق الرجل.

لأن المرأة لها حقوق، وعليها واجبات تليق بها، والرجل له حقوق، وعليه واجبات تليق به، وبدون ذلك تضطرب أمور الجماعة، ويصبح كل فرد يريد جر النفع إلى نفسه، ودفع القيام بالواجبات إلى غيره، فتسود الأنانية، ويصبح شعار كل فرد " نفسي، نفسي " وإن كان لسان المقال يقول خلاف ذلك، فإن لسان الحال يقرره ويثبته، ولا يحيد عنه إلا إلى مصلحة أخرى له، وهذا حال المجتمعات الجاهلية السابقة واللاحقة، عندما ابتعدت عن شرع الله عز وجل، وظنت أنه بقدرتها جلب السعادة إلى نفسها بوضع القوانين البشرية، والبعد عن الشريعة الإلهية، فضلت وأضلت، وصدق تعالى إذ يقول:- {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا} ويقول سبحانه:- {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.

فحمداً لك اللهم على نعمك التي لا تعد ولا تحصى.


إن الحديث عن حقوق المرأة في الإسلام أمر بالغ الأهمية، لأنه أبرز جانب في جميع شؤونها، يبين لنا عظم المكانة التي تبوأتها المرأة في الإسلام، وهو حديث طويل ذو شجون، تهفوا النفوس إليه، وتشرأب الأعناق – عند ذكره – رغبة في معرفته ؛ خاصة في هذا الزمن الذي كثر الحديث فيه عن الحقوق، وعندما نقول: " حقوق المرأة " فإننا نعني: ما أعطاها الله عز وجل من أمور يجب على الجماعة المسلمة إعطاؤها إياها، وهي أمور لا يجوز لأحد أن يعتدي عليها، لكونها ثبتت ثبوتاً لا شك فيه،ووجبت وجوباً لا مريه فيه،فلا يسوغ إنكارها،ولا يقبل جحودها، وهي جدٌّ لا هزل فيها، وحزمٌ لا لعب يعتريها.

وكل من تعدى عليها فظالم، ومن استلبها شيئاً منها فهو آثم.

و " الحقوق " في هذا العصر مصطلح براق، وشعار يرفعه كلُّ من أراد بمصالح غيره الارتفاق، جاء – في هذا الزمن مرفوعاً – من الغرب، فظن من لا دراية عنده بحقائقِ الأمور أنهم - برفعهم هذا الشعار - حازوا قصبَ السبَق، وما درى أنَّ الإسلام سبقهم إلى كلِّ خير، وجانب انغماسهم في الشر:- {فأما الزبد فيذهب جُفَاءً وأما ما ينفعُ الناسَ فَيَمْكُثُ في الأرض}.

لقد رزح العالم – كلُّه – تحت قبضة الشياطين، زمناً ليس بالقصير، بيّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا، إني خلقت عبادي حنفاء كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللتُ لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب).

وظل الذين هربوا من نور الله تعالى، ضالين في ظلمات غواية الشياطين، وَحَكَّموا طواغيتهم في رقابهم، حتى أذاقوهم لباس الجوع والخوف، ثم انفجرت الثورات على ذلك الاستبداد الأعمى في أرجاء المعمورة، وكان من أشهر تلك الثورات: الثورات التي قامت في أوربا، كانت في بداياتها متعثرة، ولاقت بطشاً شديداً، جردت فيه سيوف، وعلقت حبال على أعواد المشانق، وراج سوق المقاصل، وأصبح للجلاوزة شأن وأي شأن.

حتى جاء عام 1776م. فأعلنت الولايات المتحدة الأمريكية استقلالها، وكتبت في نظامها حقوق الإنسان في الحياة، والحرية، والمساواة. وللحديث بقية إن شاء الله.


ونواصل الحديث عن الحقوق في هذا العصر:

إنَّ شعار الحقوق الأوربي البراق ينص على: أنَّ حقوق الفرد في مواجهة الدولة فقط، وهذا قصور واضح جلي، تبين لهم أخيراً عواره، فحوروه إلى أنَّ حقوق الفرد تثبت له بوصفه إنساناً، وترجع نشأتها إلى ضمير الجماعة، فوقعوا في بلاء أشد من سابقه، حين فتحوا أبواب الجاهلية على مصاريعها، وأعطوا البشر حق تشريع ما يشاءون من أنظمة، بعيداً عن شرع الله سبحانه وتعالى، حين قالوا: " إنَّ إعطاء الحقوق يرجع إلى ضمير الجماعة ".

أما الحقوق في شرع الله تعالى فهي أمور يتمتع بها الفرد في مواجهة نفسه، وفي مواجهة الجميع، وهذا رقي لا تعرفه دساتير اليوم البتة، مصدره مستقل عن إرادة البشر، لأنَّ البشر محدودين بالزمان، وبالمكان، وبالمفاهيم الموروثة، وبالمعايير المختلفة، فهم لا يدركون إلا ما عرفوا، ويجهلون ما غاب عنهم، هذا على افتراض كمال عقولهم، وسداد رأيهم، وتجردهم عن كل هوىً، ورغبةٍ خاصة، وهذا محال.

إنَّ الحقوق في شرع الله ليست سلاحاً في يد السلطة على رقاب البشر، وليست سلاحاً - في يد البشر - يخرجون به على حكامهم، باسم الثورات، والمناداة بالحقوق، التي أوردت الناس المهالك، وذاقوا بسببها لباس الخوف والجوع، والحقوق – كذلك - ليست سلاحاً في أيديهم ضد بعضهم، يحاول كلٌّ منهم بها جرَّ النار إلى قرصه، بل هي حقوق من لدن من قال عن نفسه:- {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير}.

إنها حقوق جاءت من الذي خلق الإنسان، ويعلم ما في نفسه، وما يصلح حاله، ويصلحه مع غيره، فنظم علاقته بربه، وبملائكته، وبكتبه، وبرسله، وباليوم الآخر، وبالناس حوله، بل وبالحيوانات، والجمادات، وكلِّ شيء، حياً كان أو ميتاً.

لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم فحرر الإنسان من كل عبودية لغير الله تعالى، وحمى هذا الجانب حماية أكيدة، لا تراجع فيها، بل جعل الإخلال بها باباً من أبواب الشرك الذي لا يغفره الله تعالى، قال الله سبحانه:- {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} وجعل الله تعالى على نفسه حقاً لعباده، تكرماً منه سبحانه وتعالى: أن يدخل الجنة كلَّ من مات حراً من عبادة غير الله، مفرداً الله تعالى بالعبادة.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.


ونواصل الحديث عن الحقوق في هذا العصر:

وحديثنا اليوم – إن شاء الله تعالى – عن إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم المرأة حقوقها، لكونه أبرزَ جانبٍ في شؤونها، يبين لنا مكانتها العظيمة في الإسلام، وسيكون حديثنا قاصراً على حقوقها بنتاً.

لقد انتشل رسول الهدى صلى الله عليه وسلم البنت من براثن الجاهلية، وضلالها، وظلمها، وبوأها مكانها اللائق بها، وأعطاها حقوقها التي نالت بها سعادتها، وَعَرَّفَهَا واجباتها، التي تؤدي بها ما عليها، حتى تكون عضواً فاعلاً في مجتمعها، كريمة في حياتها، عزيزة الجانب.

لقد بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومٍ يعدون إنجاب نسائهم للبنات مصيبةً عظيمة، وبليةً جسيمة، حتى كانوا يعزون من رُزق بنتاً، فيقولون: " آمنكم الله في عاركم، وكفاكم مؤنتها، وصاهرتم القبر ". فنعى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلهم هذا، وبين سفه عقولهم، قال الله تعالى:- {وإذا بُشر أحدُهُم بالأنثى ظل وجهُهُ مسوداً وهو كظيم. يتوارى من القومِ من سوءِ ما بُشر به أيمسكه على هُوْنٍ أم يدسُهُ في الترابِ ألا ساء ما يحكمون} وقال تعالى:- {قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم}.

وفي المقابل بشر صلى الله عليه وسلم من أكرم ابنته، وأعطاها حقها، فقال: (من كانت له أنثى، فلم يئدها، ولم يهنها، ولم يؤثر ولده - الذكر - عليها، أدخله الله تعالى الجنة).

وهكذا اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الأسلوب في إعطاء البنت حقوقها، وذلك بالتشنيع على الباطل وأهله، والتحذير من سلوك طريقهم، والترغيب في الحق، وإلزام الناس به.

وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم حقوق البنت بياناً شافياً، وحث على أدائها، وألزم جماعة المسلمين ذلك، وجعل حقوق البنت ملزمة للأب، بل ولجماعة المسلمين قبل خلقها، بإيجاد البيئة الصالحة التي تنشأ البنت فيها، بعيدة عن مهاوي الردى.

وهكذا شرع الله تعالى الذي جاءنا به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم يأمر بإعطاء صاحب الحق حقه الذي يناسب خصائصه، ودوره المنوط به، ويجعل ذلك ديناً يدين العباد به ربهم، ويتقربون إليه بأداء الواجب الذي عليهم، وإعطاء حقوق غيرهم لأصحابها، ويحتسبون أجر أداء هذه الحقوق من الله تعالى، ويوفر المناخ والبيئة المناسبين لتمكين العباد من القيام بما أوجب الله تعالى عليهم. فالحمد لله على نعمة الإسلام.


ونواصل الحديث عن حقوق البنت:

لقد جعل الإسلام للبنت حقوقاً كثيرة، من أبرزها:

حسن اختيار أمها، لأنّ نشأت البنت، وتعليمها، وتدريبها معتمدٌ على والدتها، فإذا كانت الوالدة صالحة ضمن الوالد مَحْضِناً صالحاً للبنت، وإلا جنى عليها، وأورثها الفساد، إلا أن يشاء الله تعالى.

لذلك حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على اختيار الزوجة الصالحة فقال: (تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، وجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك).

ومن حقوق البنت في الإسلام:

وجوب العدل في معاملتها، وحرمة تفضيل الذكر عليها، قال تعالى:- {يوصيكم الله في أولادكم} وقال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) وقال صلى الله عليه وسلم: (سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء).

وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثُ أصحابه، إذ جاء صبي، حتى انتهى إلى أبيه – في ناحية القوم – فمسح رأسه، وأقعده على فخذه اليمنى، فلبث قليلاً، فجاءت ابنة له، حتى انتهت إليه، فمسح رأسها، وأقعدها على الأرض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَهَلاَّ على فخذك الأخرى، ألا سويت بينهما ؟) فحملها الرجل على فخذه الأخرى. فقال صلى الله عليه وسلم: (الآن عدلت).

ومن حقوق البنت:

التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حسن تربيتها، ومن أقواله صلى الله عليه وسلم في ذلك: (من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو) وضم أصابعه. وقال صلى الله عليه وسلم: (من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وسقاهن، وكساهن من جِدَتِه كنَّ له حجاباً من النار) (30).

ومن حقوق البنت:

التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعاء لها بالصلاح، وتعويذها من الشيطان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله فقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً).


ونواصل الحديث عن حقوق البنت:

ومن حقوق البنت:

التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم النفقة عليها، من حين استقرارها نطفة في رحم أمها، إلى أن تكبر وتتزوج، قال الله تعالى:- {لينفق ذو سَعَةٍ من سَعَتِهِ ومن قُدر عليه رزقُه فلينفق مما آتاه الله} وقال تعالى:- {وعلى المولود له رزقُهنَّ وكسوتُهنَّ بالمعروف} وقال تعالى:- {وإن كنَّ أولاتِ حملٍ فأنفقوا عليهنَّ حتى يضعن حملهن}وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين حتى تبلغا، جاء يوم القيامة أنا وهو) وضم أصابعه.

ومن حقوق البنت:

التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حفظها، والاعتناء بها بعد ولادتها، حيث شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذينَ في أذنها بعد ولادتها، وتحنيكَها قبل أن تطعم شيئاً، أو بعده بقليل، وذبح شاة عنها، إظهاراً للفرح بمقدمها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عن الجارية شاة).

ومن حقوق البنت:

التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إرضاعها، وهو حق من حقوقها على أبيها، يجب عليه أن يبذل ماله من أجله، قال الله تعالى:- {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولودِ له رزقهن وكسوتهن بالمعروف}.

ومن حقوق البنت:

التي أعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم تعليم البنت عبادة ربها، التي خلقت من أجلها، وهذه أهم المهمات، وأعلى الحسنات، وذلك أن عبادة الله تعالى وحده علة الوجود، قال الله تعالى:- {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع).

وفي الصيام عقل الصحابة رضوان الله عليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بتصويم الصغار، فكانوا يُصَوِّمُنهم،حتى قالت الرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ رضي الله عنها:كنا نُصَوِّم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه إياها، حتى يتموا صومهم.

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.


ونواصل الحديث عن حقوق البنت:


ونواصل الحديث عن حقوق البنت:


ونواصل الحديث عن حقوق البنت:

ومن حقوق البنت:

وجوب العدل في معاملتهم مع إخوتها، وحرمة تفضيل الذكور على الإناث، قال الله تعالى:- {يوصيكم الله في أولادكم} وقال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: (اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم، اعدلوا بين أبنائكم) وقال صلى الله عليه وسلم: (سووا بين أولادكم في العطية، فلو كنت مفضلاً أحداً لفضلت النساء)

بل عنَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد صحابته – وهو بشير بن سعد الأنصاري رضي الله عنه - لمَّا أراد أن يهب لابنه النعمان رضي الله عنه هبةً دون أبنائه الآخرين، وبيَّن له أنَّ هذا من الظلم الذي يغضب الله تعالى، فعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِي اللَّه عَنْهمَا قَالَ: سَأَلَتْ أُمِّي أَبِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِي مِنْ مَالِهِ، فالتوى بها أبي سنة، ثُمَّ بَدَا لَهُ فَوَهَبَهَا لِي، فَقَالَتْ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَخَذَ بِيَدِي، وَأَنَا غُلام، فَأَتَى بِيَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنَّ أُمَّهُ - بِنْتَ رَوَاحَةَ - سَأَلَتْنِي بَعْضَ الْمَوْهِبَةِ لِهَذَا، قَال رسول الله َصلى الله عليه وسلم: (أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ ؟) قَالَ بشير: نَعَمْ. قَالَ: (أكلهم وهبت مثله ؟) قال: لا. قال صلى الله عليه وسلم: (لا تُشْهِدْنِي عَلَى جَوْرٍ.) رواه البخاري ومسلم.

ومن حقوق البنت:

طلبها؛ أي اتخاذ الوسائل المشروعة لإنجابها بالزواج الشرعي الذي أذن الله تعالى به، وعدم إيقاف النسل أو تحديده بعدد، قال الله تعالى:- {فالآن باشروهنَّ وابتغوا ما كتب الله لكم} قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما: {ما كتب الله لكم} هو الولد.

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بالباءة (الزواج)، وينهى عن التبتل نهياً شديداً، ويقول: (تزوجوا الودود الولود، فإنِّي مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة.)


ونواصل الحديث عن حقوق البنت:

ومن حقوق البنت التي أعطاها الإسلام:


ونواصل الحديث عن حقوق البنت:

ومن حقوق البنت التي أعطاها الإسلام:

الدعاء لهم بالصلاح، وتعويذهم من الشيطان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله فقال: باسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان أبداً.)

وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ يَقُولُ: (أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ.) وَيَقُولُ: (هَكَذَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يُعَوِّذُ إِسْحَاقَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمْ السَّلَام.)


الأم:

تلك المرأة التي رفع الإسلام مكانتها إلى درجة عظيمة، وأخذ بيدها وبوأها عرشاً كريماً، وجعلها في مقام ترفع نساءُ العالمين إليها أبصارهن فتعود حاسرة، وتتطلع لتقارب سماءها فترجع خاسئة، ولا، ولن تعرف البشرية جمعاء عزاً نالته امرأة كعز الأم في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، مهما أوتيت البشرية من أنظمة ورقي مدني.

كيف لا تكون الأم في دين الإسلام كذلك ؟ وهي المرأة التي قرن الله عز وجل حقها بحقه، وقدم حقها على كل حق، إلا حق الزوج على زوجته، فهو مقدم، بل إن الله تعالى قدم حقها على حقه سبحانه إذا كان من الفروض الكفائية، التي إن قام بها من يكفي سقطت عن الباقين.

وجعل سبحانه رضاه في رضاها، وسخطه في سخطها ؛ وقرن شكرها بشكره ؛ وجعل وصيته لبني آدم: الإحسان إليها، وأخذ العهد والميثاق على الأمم السابقة أن يبروا أمهاتهم، وإن كانت الأم كافرة، فإن حقها على ابنها أن يصاحبها بالمعروف.

وأثنى على أنبيائه عليهم السلام لكون برهم بأمهاتهم كان من أبرز ما تحلوا به.

وجعل الله تعالى بر الوالدة أحب الأعمال لديه، وسبباً عظيماً لدخول الجنة، وليس دخول الجنة فقط، بل دخولها من أعظم أبوابها وأفضلها، وبوأ البار درجة من أعلى درجاتها، وعقوقها سبباً عظيماً لدخول النار، بل جعله سبحانه قرين الشرك به، عياذاً بالله.

ومنَّ على عباده بأن جعل بر الوالدة سبباً في زيادة أعمار البار من الأبناء، وسبباً في أن يبسط له في رزقه، وجعل العمل والكسب من أجل الإنفاق عليها عديل الجهاد.

وجعل بر الوالدة سبب تفريج الكربات، وإجابة الدعوات، وتكفير الخطيئات.

وغير ذلك من حقوق يصعب حصرها في هذه العجالة، وسيكون لنا – إن شاء الله تعالى – وقفات معها في حلقات قادمة.


الأم:

كيف لا تكون الأم في دين الإسلام كذلك ؟ وهي المرأة التي قرن الله عز وجل حقها بحقه ؛ وحق الله تعالى عظيم، إذ هو الأمر الذي خلق الخلق ليفردوه به ؛ قال الله تعالى:- {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} أي: إلا ليوحدون وحق الوالدة: أن يبرها أبناؤها، فلما قرن الله تعالى حقها بحقِّه دلَّ على أنَّ حقَّها غايةٌ في العظمة، قال الله تعالى:- {وقضى ربُّك أن لا تعبدوا إلا إيَّاه وبالوالدين إحساناً}.

وفي الصحيحين: من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم ليس بيني وبينه إلا مؤخرة الرحل، فقال: (يا معاذ بن جبل !) قلت: لبيك – رسول الله – وسعديك ! ثم سار ساعة، ثم قال: (يا معاذ بن جبل !) قلت: لبيك – رسول الله – وسعديك ! ثم سار ساعة، ثم قال: (يا معاذ بن جبل !) قلت: لبيك – رسول الله – وسعديك ! قال: (هل تدري ما حق الله على العباد ؟) قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (فإن حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً.) ثم سار ساعة، قال: (يا معاذ بن جبل !) قلت: لبيك – رسول الله – وسعديك ! قال: (هل تدري ما حق العباد على الله، إذا فعلوا ذلك ؟) قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: (أن لا يعذبهم.) وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


الأم:

كيف لا تكون الأم في دين الإسلام كذلك ؟ وهي المرأة التي قدم الله عز وجل حقها على جميع حقوق العباد، إلا حق الزوج على زوجته، فإنه مقدم.

وفي الصحيحين: من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحـق الناس بحسن صحابتي ؟ قال: (أمك) قال: ثم من ؟ قال: (ثم أمك) قال: ثم من ؟ قال: (ثم أمك) قال: ثم من ؟ قال: (ثم أبوك.) وفي رواية لمسلم: (ثم أدناك أدناك)

وفي صحيح البخاري: قال أبو هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نادت امرأة ابنها وهو في صومعة، قالت: يا جريج ! قال: اللهم، أمي وصلاتي ! قالت: يا جريج ! قال: اللهم، أمي وصلاتي ! قالت: يا جريج ! قال: اللهم، أمي وصلاتي ! قالت: اللهم، لا يموت جريج حتى ينظر في وجوه المياميس ! وكانت تأوي إلى صومعته راعية ترعى الغنم فولدت، فقيل لها: ممن هذا الولد ؟ قالت: من جريج، نزل من صومعته. قال جريج: أين هذه التي تزعم أن ولدها لي ؟ قال: يا بابوس، من أبوك ؟ قال: راعي الغنم.)

ففي هذا الحديث يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الأم، وكونه مقدم على كل حق وأن الخطأ الذي وقع من جريج: أنه ما استجاب لأمه لما دعته.

وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله تعالى جعل برَّها صفةً بارزة للأنبياء عليهم الصلاة والسلام:

قال تعالى – على لسان عيسى عليه السلام - {وَجَعَلَنِي مباركاً أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً. وبراً بوالدتي ولم يجعلني جبَّاراً شقيّاً}.

فهذا عيسى عليه السلام يذكر من أعظم نعم الله عليه: أن جعله مباركاً مدة دوامه حياً، وجعله براً بوالدته، محسناً إليها، قائماً بما يجب عليه لها، ولا شك أنَّ نطق عيسى عليه السلام في المهد كان من أعظم معجزاته، ومن أدعى الأمور التي توجب الانتباه لما قال، وحفظ ما تلفظ به رضيع في مهده، فذكر توفيق الله تعالى له بإفراده بالعبادة، وثنى بتوفيق الله له بأن جعله براً بوالدته.

وقال تعالى عن يحيى عليه السلام:-{وبراً بوالديه ولم يكن جبَّاراً عصياً}.

وهذه نعمة عظيمة امتن بها الله تعالى على يحيى عليه السلام أن جعله براً بوالديه، وجعل بر الوالدين شعاراً لعباده المؤمنين، أهل اللين والرفق والطاعة، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس) وقابل بينهم وبين حزب الشيطان الخاسرين، أهل الكبر والغلظة والعصيان، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أخبركم بأهل النار ؟ أهل النار: كل جعظري، جواظ، جماع، مناع، ذي تبع) والجعظري: الفظ الغليظ. والجواظ: المختال في مشيته. والجماع: الذي يجعل همه الأكبر جمع المال. والمناع: الذي يمنع المال عن مستحقيه.

ولا شك أن هذا يرينا عظيم شأن بر الوالدة، ووجوب العناية به، وخطر التفريط فيه. والله الموفق.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل وصيته للأمم السابقة ولهذه الأمة: الإحسان إلى الأم.

قال الله تعالى:- {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً} الآية. قال قتادة – رحمه الله تعالى -: " ميثاق أخذه الله تعالى على بني إسرائيل، فاسمعوا – أي: يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم - ما أخذ الله من ميثاق على القوم:- {لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً} ".

وقال الله تعالى:- {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} الآية. وقال تعالى:- {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} الآيات.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " من سرَّه أن ينظر إلى وصية محمد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتماً فليقرأ هؤلاء الآيات:- {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} الآيات ".

وقال المنذر الثوري: قال لي الربيع بن خيثم: " أيسرك أن تلقى صحيفة محمد صلى الله عليه وسلم بخاتم ؟ قلت: نعم. قال: فاقرأ هؤلاء الآيات:- {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} الآيات ".

وسمع كعب الأحبار رجلاً يتلو قول الله تعالى:- {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً} فقال: " والذي نفس كعب بيده، إنها لأول آية في التوراة ".

وجاء رجل إلى الربيع فقال له: أوصني، فقرأ عليه هؤلاء الآيات، فقال الرجل: إنما أتيتك لتوصني ! قال: عليك بهؤلاء الآيات.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل برَّ الوالدة فرضاً لازماً، وإن كانت الأم كافرة، بل وإن جاهدت الولد على أن يكفر بالله تعالى، فإنَّ الواجب عليه الإحسان إليها مع عدم طاعتها فيما تريده عليه من الكفر بالله تعالى ن لأنَّ طاعة الله تعالى وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدمة على كل طاعة.

قال الله تعالى:- {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً}.

قالت أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما: قدمت عليّ أمي - وهي مشركة - في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت عليّ أمي، وهي راغبة (أي طامعة فيما عندي، تسألني الإحسانَ إليها) أفأصل أمي ؟ قال صلى الله عليه وسلم: (نعم، صلي أمَّك.)

قال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: في نزلت آيات من القرآن، حلفت أمي أن لا تكلمني أبداً حتى أكفر بديني، ولا تأكل ولا تشرب، قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا. قال: مكثت ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها – يقال له عمارة – فسقاها، فجعلت تدعو على سعد، فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية:- {ووصينا الإنسان بوالديه حسنا}، {وإن جاهداك على أن تشرك بي} وفيها:- {وصاحبهما في الدنيا معروفا}.

وبهذا يتجلى شيء من محاسن دين الإسلام العظيم، حيث جعل حق الأم فرضاً لازماً على الولد، وإن اختلفت معه في الدين، بل وإن جاهدته ليكفر بما آمن به، فإن فعلها الشنيع هذا لا يسقط حقها في البر والإحسان، إلا إن أدى ذلك إلى معصية الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فإنه يجب على الولد حينئذ رفض أمرها، وعدم الإذعان لها لكن دون غلظة وقسوة، بل يصحبها بالمعروف. والله الموفق.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل برَّ الوالدة من أفضل الأعمال عنده، الموجبة لدخول الجنة، والخلد في أعلى درجاتها.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الوالد أوسط أبواب الجنَّة.) أي: إنَّ من أبواب الجنَّة: باب بر الوالدين، كما أنَّ منها: باب الصلاة، وباب الزكاة، وباب الجهاد، وباب الريَّان، فكذلك لها باب (باب الوالدين)، يدخل منه من كان باراً بوالديه.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (أوسط أبواب الجنَّة.) أي الأفضل، والأمثل، والأعظم.

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله،دلني على عمل أعمله يقربني إلى الله، قال: (هل بقي من والديك أحد ؟) قال: أمي. قال: (فاتق الله في برها، فإذا فعلت فأنت حاج ومعتمر ومجاهد.)

وهذا يدل على أن برَّ الوالدين في أعلى المقامات بين الأعمال الصالحات.

وعن عمرو بن مرَّة الجهني رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، شهدت أن لا إله إلا الله، وأنَّك رسول الله، وصلّيت الخمس، وأدَّيت زكاة مالي، وصمت رمضان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات على هذا كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا) ونصب أصبعيه، وقال: (ما لم يعقَّ والديه.)

وفي هذا دليل على أنَّ عقوق الوالدين يحبط ثواب الأعمال الصالحة، وأنَّ قبول العمل الصالح معلق ببر الوالدين ؛ وهذه القضية الخطيرة تجعل المسلم يعيش وأهم ما يفكر فيه – بعد رضا الله تعالى – أن يكون والداه راضيين عنه، فيواصل إحسانه إليهما، وبره بهما.

وعَنْ أمِّ المؤمنين عَائِشَةَ رضي الله عنها: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: (دَخَلْتُ الْجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فِيهَا قِرَاءَةً، قُلْتُ مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا: حَارِثَةُ بْنُ النُّعْمَانِ. كَذَاكُمُ الْبِرُّ، كَذَاكُمُ الْبِرُّ.) وكان رضي الله عنه براً بأمِّه. والله الموفق.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل برَّ الوالدة من أفضل الأعمال عنده، الموجبة لدخول الجنة، والخلد في أعلى درجاتها، وعقوقها من كبائر الذنوب الموجبة للنار، عياذاً بالله تعالى.

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: ارتقى النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر درجـة، فقال: (آمين) ثمَّ ارتقى الثانية، فقال: (آمين) ثمَّ ارتقى الثالثة، فقال: (آمين) ثمَّ استوى فجلس، فقال أصحابه: على ما أمنت ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال: رغم أنف امرئ ذُكرت عنده لم يصل عليك، فقلت: آمين ؛ فقال: رغم أنف امرئ أدرك أبويه فلم يدخل الجنّة، فقلت: آمين، فقال: رغم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يُغفر له،فقلت: آمين.)

فقوله صلى الله عليه وسلم: (رغم أنف امريء) هو دعاء عليه أن يلصق الله تعالى أنفه بالتراب، وهو مما تستعمله العرب تريد به ذل وهوان المدعو عليه به.

وعن مالك بن عمرو الشقيري رضي الله عنه، قال: سمعت رسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أدرك أحد والديه، ثمَّ لم يُغفر له، فأبعده الله وأسحقه.) أي: أهلكه، وأبعده عن رحمته، وفي الحديث إشارة إلى عظيم أجر من أدرك والديه أو أحدهما فأحسن إليهما وبرهما – كما أمره الله تعالى – فإنَّ ذلك سبب غفران ذنوبه، بخلاف من فرط في شأنهما فإنه يحرم هذا الفضل العظيم، ويكون ممن فوت على نفسه دخول الجنة من أسهل طرقها وهو طريق بر الوالدين.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة حرَّم الله تبارك وتعالى عليهم الجنَّة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث، الذي يقرُّ الخَبَثَ في أهله.)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا يدخلون الجنَّة، ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال، والديوث.) والله الموفق.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل رضاه في رضاها، وسخطه في سخطها:

فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما:أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رضى الرب في رضى الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد).

وممَّا يبيّن المقام الرفيع الذي جعل الله تعالى فيه الأم: أنَّ الله تعالى جعل عقوقها قرين الشرك به:

فعن أبي بكرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟) ثلاثاً، قالوا: بلى، يا رسول الله. قال: (الإشراك بالله، وعقوق الوالدين) الحديث.

ومن ذلك: أنَّ الله تعالى جعل برَّ الوالدة سبباً في زيادة العمر والبسط في الرزق:

حيث ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمَ ما يرغب الناس فيه من أمور دنياهم ببر الوالدة، وهو: زيادة العمر، وبسط الرزق، فقال: (من سره أن يُمَدَّ في عمره، ويُزَادَ في رزقه فليبر والديه وليصل رحمه.)

ومن ذلك: أنَّ الله تعالى جعل التكسب للإنفاق على الوالدة عديل الجهاد في سبيله:

فعن كعب بن عجرة رضي الله عنه، قال: مرَّ على النبي صلى الله عليه وسلم رجل، فرأى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جَلَدَه ونشاطه، فقالوا: يا رسول الله، لو كان هذا في سبيل الله ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (… إن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله.) والله الموفق.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل برَّ الوالدة سبباً في تفريج الكروب وإجابة الدعوات:

فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (خَرَجَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَمْشُونَ، فَأَصَابَهُمُ الْمَطَرُ، فَدَخَلُوا فِي غَارٍ فِي جَبَلٍ، فَانْحَطَّتْ عَلَيْهِمْ صَخْرَةٌ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: ادْعُوا اللَّهَ بِأَفْضَلِ عَمَلٍ عَمِلْتُمُوهُ ! فَقَالَ: أَحَدُهُمُ اللَّهُمَّ، إِنِّي كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، فَكُنْتُ أَخْرُجُ فَأَرْعَى، ثُمَّ أَجِيءُ فَأَحْلُبُ، فَأَجِيءُ بِالْحِلَابِ، فَآتِي بِهِ أَبَوَيَّ فَيَشْرَبَانِ، ثُمَّ أَسْقِي الصِّبْيَةَ وَأَهْلِي وَامْرَأَتِي، فَاحْتَبَسْتُ لَيْلَةً، فَجِئْتُ فَإِذَا هُمَا نَائِمَانِ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَلَمْ يَزَلْ ذَلِكَ دَأْبِي وَدَأْبَهُمَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ ؛ اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً نَرَى مِنْهَا السَّمَاءَ ! فَفُرِجَ عَنْهُمْ. وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أُحِبُّ امْرَأَةً مِنْ بَنَاتِ عَمِّي، كَأَشَدِّ مَا يُحِبُّ الرَّجُلُ النِّسَاءَ، فَقَالَتْ: لَا تَنَالُ ذَلِكَ مِنْهَا حَتَّى تُعْطِيَهَا مِائَةَ دِينَارٍ، فَسَعَيْتُ فِيهَا حَتَّى جَمَعْتُهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، قَالَتِ: اتَّقِ اللَّهَ، وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا فُرْجَةً، قَالَ فَفَرَجَ عَنْهُمُ الثُّلُثَيْنِ. وَقَالَ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي اسْتَأْجَرْتُ أَجِيرًا بِفَرَقٍ مِنْ ذُرَةٍ، فَأَعْطَيْتُهُ، وَأَبَى ذَاكَ أَنْ يَأْخُذَ، فَعَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ حَتَّى اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا وَرَاعِيهَا، ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، أَعْطِنِي حَقِّي ؛ فَقُلْتُ: انْطَلِقْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ وَرَاعِيهَا فَإِنَّهَا لَكَ، فَقَالَ: أَتَسْتَهْزِئُ بِي ؟ فَقُلْتُ: مَا أَسْتَهْزِئُ بِكَ، وَلَكِنَّهَا لَكَ. اللَّهُمَّ، إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَافْرُجْ عَنَّا ! فَكُشِفَ عَنْهُمْ.)

فهؤلاء الثلاثة كلٌّ منهم دعا الله عز وجل بأفضل عمل عمله، فكان أفضلَ عمل عمله أولهم: برُّه بوالديه، فكان هذا البرُّ سببَ تفريجِ كربتهم، وخروجهم من تلك الورطة التي وقعوا فيها. والله الموفق.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل برَّها سبباً في تفريج الكروب وإجابة الدعوات:

وقد مرَّ معنا في الحلقة الماضية قصة الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة وهم بالغار، وكيف أنجاهم الله تعالى بدعائهم، وكان أولهم من دعا الله تعالى ببره بوالديه.

وهذا أويس القرني – رحمه الله تعالى – كان مجاب الدعوة، لكونه كان براً بأمِّه، وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل عنه أهل اليمن، كلما جاءه مدد منهم، حتى وجده، فقال له: أنت أُويس القَرَني ؟ فقال: نعم. قال: فكان بك برص فَبَرِأْتَ إلاَّ موضعَ درهمٍ ؟ قال: نعم. قال: لك والدة ؟ قال: نعم. قال عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي عليكم أويس بنُ عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد، ثمَّ من قَرَن، كان به برصٌ فبرِأ منه، إلا موضع درهم، له والدة هو بها بَرٌّ ؛ لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فالفعل.) قال عمر رضي الله عنه: فاستغفر لي، فاستغفر له.

وهذا الحديث العظيم يرينا جانباً من فضائل بر الوالدة، وبه تبرز المكانة الرفيعة التي جعلها الإسلام فيها، وإذا كان بر الوالدة يجعل الولد البار بها مجاب الدعوة، فكيف بها هي ؟

عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث دعوات مستجابات، لا شك فيهنَّ: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم.).


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله سبحانه وتعالى جعل برَّها سبباً في تكفير الذنوب:

فعن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إنَّي أذنبت ذنباً عظيماً، فهل من توبة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم نعم. قال: (فبرها.): (هل لك والدان ؟) قال: لا. قال: (فهل لك من خالة ؟) قال:

ومن ذلك أنَّ الله تعالى جعل دعاءهما مستجاب على الولد:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث دعوات مستجابات، لا شك فيهنَّ: دعوة الوالد على ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم.)

ومن عظيم مقامها أنَّ حقها لا يمكن للولد أن يفي به إلا أن يجدها عبدة مملوكة فيشتريها لتعتق:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه.)

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنَّه قيل له: ما حقُّ الوالدين على الولد ؟ قال: لو خرجت من أهلك ومالك ما أديت حقهما !

وهذا وفاء بحقِّ وجود الولد فقط، وإلا فإنَّ ما تعبا عليه، وسهرا من أجله، وأنفقاه من أموال، وغير ذلك ممَّا لا يكاد يُحْصَر فلا يجزي الولد والديه عنه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجزيء ولدٌ عن والده إلاَّ أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه.).


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ حقها لا يمكن للولد أن يفي به إلا أن يجدها مملوكة فيعتقها:

فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه.)

وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنَّه قيل له: ما حقُّ الوالدين على الولد ؟ قال: لو خرجت من أهلك ومالك ما أديت حقهما !

وهذا وفاء بحقِّ وجود الولد فقط، وإلا فإنَّ ما تعبا عليه، وسهرا من أجله، وأنفقاه من أموال، وغير ذلك ممَّا لا يكاد يُحْصَر فلا يجزي الولد والديه عنه.

جاء رجل يمني يحمل أمه، فرآه عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وهو يطوف بالبيت، يحملها على كتفيه، ويرتجز قائلاً:

إنِّي لها بعـيرها المذلـل ... إن أذعرت ركابها لم أُذعـر

ثمَّ التفت إلى ابن عمر رضي الله عنهما وقال: يا أبا عبد الرحمن، أتراني جزيتها ؟ فقال: لا، ولا بزفرة في طلقها. قيل: ولم، يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: لأنَّها تعبت عليه ترجو حياته، وهو يتعب عليها ينتظر وفاتها.

وشتان ما بين العملين، وشتان ما بين النيتين !

وإنَّ للوالدين ولهاً على ابنهما، وفيهما حرقة عليه لا يدركها، ولا يمكن وصفها إلا لمن كابدها، وعاناها، وأشد ما يكون ذلك عند الوالدة، لذلك كان حقُّها أعظم، ورتبتها في البرِّ أعلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمُّـك، ثمَّ أمُّـك، ثمَّ أمُّـك، ثمَّ أبـوك.)


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

وجوب مراعاة ولهها على ولدها، وخوفها عليه، وتعلق قلبها به، وهو ممَّا يُبرز شدَّة حبِّها له، وهذا الأمر لا بدَّ أن تجازى عليه بالإحسان إليها:- {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}.

إنَّ للوالدين ولهاً على ابنهما، وفيهما حرقة عليه لا يدركها، ولا يمكن وصفها إلا لمن كابدها، وعاناها، وأشد ما يكون ذلك عند الوالدة، لذلك كان حقُّها أعظم، ورتبتها – في البرِّ – أعلى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمُّك، ثمَّ أمُّك، ثمَّ أمُّك، ثمَّ أبوك.)

يروى: أنَّ بعض الصالحين أراد الحجَّ فاستأذن أمَّه، فأذنت له - مراعية بذلك حاجة ولدها، متحملة ألم فرقاه - فودعها عند باب داره، ثمَّ انصرف، فلمَّا كان في بعض طريقه، جلس ليقضي حاجته، فأصاب البول ثوبه، فاستنكر ذلك، ولم يكن يعهده من نفسه، فقال لنفسه: لا بدَّ أن أحدثت شيئاً، فعاد إلى بلده، فطرق الباب، وإذا بأمِّه وراء الباب، فقال لها: مالك، يا أمَّاه ؟ قالت: يا بني، آليت على نفسي أن لا أبرح هذا المكان حتى ترجع إليَّ !

وهذا شاعر يصور وله الوالدة على ولدها، وإن كان عاصياً مسيئاً، فيقول:

أغرى امرؤٌ يوماً غـلاماً جاهلاً ... بدراهمٍ كي ما ينالَ به الضــرر

قال: ائتني بفـؤاد أمِّـك، يا فتى ... ولك الدراهـمُ والجـواهرُ والدُّرر

فمضى فأغرز خنجراً في صدرها ... والقلبَ أخـرجه وعـاد على الأثر

لكـنَّه من فـرط سـرعته هوى ... فتدحـرج القلب المضرج إذ عثـر

ناداه قـلـبُ الأمِّ وهـو معفـر ... ولدي، حبيبي، هل أصابك من ضرر


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله تعالى فرض على الولد الإحسان إليها:

الإحسان: هو الإخلاص والإتقان، كأنَّ الله تعالى يأمر الولد بمعاملة والدته معاملة يتقن فيها ما يستطيع إتقانه من حسن معاملة، مخلصاً في إتقانه ذاك إحسانه إليها.

والمقصود بالإحسان إلى الوالدة: برُّها ؛ سئل الحسن البصري – رحمه الله تعالى – عن برِّ الوالدين، فقال: أن تبذل لهما ما ملكت، وأن تطيعهما فيما أمراك به، إلاَّ أن يكون معصية.

والإحسان: تلك الكلمة العظيمة، بكل ما تحمله من معانٍ كريمة، ومفرداتٍ جميلة، ومقتضياتٍ سامية ؛ من لين جانب، وتوددٍ في التقرب، وتلمسٍ لمواطن الرضا، وحرصٍ على كفِّ جميعِ أنواعِ الأذى، كلُّ ذلك حقٌّ من حقوق الوالدة على أبنائها، يجب عليهم أن يلتزموه، وأي إخلال به يعني التعرضَ لسخطِ الله عز وجل وعقابِهِ، قال الله سبحانه وتعالى:- {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً}.

ولكل عاقل أن يجول بفكره في عالم الإحسان هذا، الذي أمر الله تعالى به، وجعله قرين توحيده سبحانه، هل ترك باباً من أبواب الاحترام والتوقير والإجلال، ورفع الشأن ؟ وهل يستطيع نظام من الأنظمة، ومدنية من المدنيات أن يوصل الوالدين إلى هذا المقام ؟

فأين هذا ممن لا يرى لوالدته حقَّاً أكبر من إيداعها داراً للعجزة، أو تذكرها في يوم عيد ميلادها، أو عيد الأم ليبعث إليها بطاقة تهنئة؟


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله تعالى فرض على الولد الإحسان إليها.

والإحسان إلى الوالدة له مقامات:

قال الله تعالى:- {وقضى ربُّك أن لا تعبدوا إلا إيَّاه وبالوالدين إحساناً إمَّا يبلغنَّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً. واخفض لهما جَنَاحَ الذُّلِّ من الرَّحمةِ وقل ربِّ ارحمهما كما ربَّياني صغيراً} فقوله تعالى:- {وقضى} أي: حكم وأوجب، وقوله:- {فلا تقل لهما أف} قال الحسين بن علي رضي الله عنهما: لو علم الله شيئاً من العقوق أدنى من أفٍ لحرمه، والتأفف: يكون باللسان وبالفعل، فكل كلام وفعل يدل على كراهية أمرهما، فهو من التأفف المنهي عنه، قال ابن عبّاس رضي الله عنهما: هي كلمة كراهية ؛ قال بعض المفسرين: ومن التأفف: هزُّ الكتفين، ونفض اليدين، وتقليب العينين، وتقطيب الجبين إظهاراً لعدم الرضا ؛ وقال مجاهد – رحمه الله تعالى -: لا تتقزز من رائحة صدرت عنهما، وأمط عنهما ذلك،فإنَّهما قد صبرا عليك في أشد من ذلك، وأماطا عنك الأذى وأنت صغير، ولم يكونا يتأففان منك.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله تعالى فرض على الولد أن يؤدي حقوق أمّه، ومن الحقوق التي فرضها الله تعالى للوالدة على الولد:

أنَّ الله تعالى قرن شكرها بشكره، قال تعالى:- {أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير} وشكر الله سبحانه وتعالى يكون بالقلب، وباللسان، وبالجوارح.

بالقلب: بالإيمان به سبحانه، وباللسان: بالإقرار بذلك، والنطق بكلمة التوحيد، وكل قول يحبّه الله تعالى، وبالجوارح: بالعمل في الطاعة.

والوالدة كذلك: تشكر بالقلب: بالاعتراف بحقها، وأنّه حقٌّ عظيم، لا بدَّ من السعي الجادِّ لأدائه، حسب الطاقة والإمكان. وباللسان: بلين مخاطبتها، وبالجوارح: بإطاعة أمرها، والكف عمَّا نهت الولد عنه، ما لم يكن في ذلك معصية، فإن كان في أمرها فعل معصية، وفي نهيها ترك واجب، فلا سمع – حينئذ – ولا طاعة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنَّما الطاعة في المعروف.)

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (السَّمْعُ وَالطَّاعَةُ حَقٌّ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْمَعْصِيَةِ، فَإِذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ.)

ومن حقِّها أن الله تعالى جعله من أعظم وصياه للإنسان: قال الله سبحانه وتعالى:- {ووصينا الإنسان بوالديه}.

وقال رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ؛ إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ).


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها:

أنَّ الله تعالى فرض على الولد أن يؤدي حقوق أمّه:

ومن حقوق أمِّه التي فرضها الله تعالى:

أن أوجب على الابن العمل لكسب رضاها: فمن أرضاها – بعد قيامه بحق الله سبحانه وتعالى – رضي الله عنه، ومن أسخطها سخط الله عليه.

وإرضاؤها يكون بطاعتها، والبعد عمَّا يغضبها، وتحسس مواطن ارتياحها وإتيانها، ومواطن سخطها والابتعاد عنها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رضا الله في رضا الوالدين، وسخط الله في سخط الوالدين.)

ومن الحقوق التي فرضها الله تعالى للوالدة على الولد:

تقديم حقها على حق من عداها من أهل الحقوق:

جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال: (أمـك) قال: ثم من ؟ قال: (أمك) قال: ثم من ؟ قال: (أمك) قال: ثم من ؟ قال: (أبوك.)

وفي رواية: (ثمَّ الأقرب فالأقرب.)

ومن تلك الحقوق: تقديم حقها على الفروض الكفائية:

حيث لم يجعل الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم تقديم حقِّ الوالدة قاصراً على تقديم حقِّها على حقوق الآدميين فقط، بل تعدى ذلك إلى الفروض الكفائية، التي هي حقٌّ لله تعالى، ولكن وجد غير الابن من يقومُ بها، فقدم الله تعالى ـ تكرماً وتفضلاً منه سبحانه ـ حق الوالدة عليها.

وسيأتي بيان ذلك ـ إن شاء الله تعالى ـ في حلقات قادمة.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها، والمقام العلي الذي بوأها إيَّاه:

أنَّ الله تعالى جعل حقَّها مقدماً على الفروض الكفائية، التي قام بها من المسلمين من أسقط وجوبها العيني عن الباقين، فأصبحت في باب المستحبات، فحقُّ الأمِّ حينئذٍ مقدم على هذه الفروض الكفائية.

فمن ذلك: الجهاد في سبيل الله: فإنَّه فرض عين على كلِّ مسلم، إن كان لدفع عدوٍ عن ديار المسلمين، وحرماتهم، وحقوقهم، أو تعين على مسلم باستنفار إمام المسلمين رجلاً بعينه لقتالهم.

والجهاد فرض كفاية إن كان جهاد طلب، وهو غزو المسلمين الكفَّار في ديارهم، إن قام به من يكفي سقط الوجوب عن الباقين.

ففي الحالة الأولى، وهو تعينه على رجل بعينه فلا إذن للوالدين فيه، لأنَّه بالتعين أصبح حقَّاً لله تعالى، يجب على المسلم القيام به، وحقُّه سبحانه وتعالى مقدم على حقُّوق الآدميين، مهما كانوا، وإن كانوا من الوالدين، لأنَّ ترك حقِّ الله تعالى الواجب على المسلم لا يجوز لإرضاء مخلوق، وتركه حينئذ يكون معصية ؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الله تبارك وتعالى) رواه الإمام أحمد.

وفي الصحيحين: عنه صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: (لا طاعة في معصية الله، إنَّما الطاعة في المعروف).

أمَّا في الحالة الثانية، وهي كونه فرضاً كفائياً فيقدم حقُّ الأمِّ، وتستأذن في الخروج، فإن أذنت فبها ونعمت، وإلا قدم الولد حقَّ والدته، وقعد عن الجهاد في سبيل الله.

وهذا ينسحب على كلِّ فرض عيني وفرض كفائي، من صلاة، وصيام، وصدقة، وحجٍّ وعمرة، وغيرها من الفروض، إن كانت عينية، لم ينظر فيها إلى رضا الوالدين، وإن كانت كفائية سعى الولد ـ قدر طاقته ـ في كسب رضا والديه، والحصول على إذنهما في ذلك. وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها، والمقام العلي الذي بوأها إيَّاه:

أنَّ الله تعالى جعل حقَّها مقدماً على الفروض الكفائية، التي قام بها من المسلمين من أسقط وجوبها العيني عن الباقين، فأصبحت في باب المستحبات، فحقُّ الأمِّ حينئذٍ مقدم على هذه الفروض الكفائية.

وكنَّا قد ذكرنا ذلك في الحلقة الماضية، وفي هذه الحلقة سنضرب بعض الأمثلة الموضحة لذلك، التي بها أبان رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ما يجب على الولد لأمّه من حقُّوق، يجب عليه تقديمها على الفروض الكفائية.

فهذا معاوية بن جاهمة السلمي رضي الله عنه، يخرج من دياره ـ ديار بني سليم ـ وينطلق إلى مدينة رسول اللهصلى الله عليه وسلم يريد أن يكون جندياً في الجيوش الإسلامية، الخارجة لرفع راية الإسلام، التي وعد الله تعالى الخارجين فيها بإحدى الحسنيين، إمَّا الاستشهاد في سبيله تعالى، والفوز بجنة عرضها السماوات والأرض، مع النبيين والصديقين، وإمَّا الفوز والظفر بالعدو، والعيش في رضوان الله تعالى.

قال معاوية السلمي رضي الله عنه: جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله، خرجت أريد الجهاد معك، ابتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، فقال: (ويحك – يا معاوية – ألك والدة ؟) قلت: نعم. قال: (ارجع فبرها) قال: فأتيته من الجانب الآخر ؛ فقلت: يا رسول الله، خرجت أريد الجهاد معك، ابتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، فقال: (ويحك – يا معاوية – ألك والدة ؟) قلت: نعم. قال: (ارجع فبرها) قال: فأتيته من أمامه ؛ فقلت: يا رسول الله، خرجت أريد الجهاد معك، ابتغي بذلك وجه الله والدار الآخرة، فقال: (يا معاوية، الزم رجلها، فثم الجنة.)

أي إن المكث عند أمِّك، والمداومة على طاعتها، وتقديم حقها سيكون سبب دخولك الجنة، فإن كنت تبحث عن ذلك فالزمها حتى تنال رضاها، فإن فعلت فقد وجبت لك الجنة. وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها، والمقام العلي الذي بوأها إيَّاه:

أنَّ الله تعالى جعل حقَّها مقدماً على الفروض الكفائية، التي قام بها من المسلمين من أسقط وجوبها العيني عن الباقين، فأصبحت في باب المستحبات، فحقُّ الأمِّ حينئذٍ مقدم على هذه الفروض الكفائية.

فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم يُبَايِعُهُ، قَالَ: جِئْتُ لِأُبَايِعَكَ عَلَى الْهِجْرَةِ، وَتَرَكْتُ أَبَوَيَّ يَبْكِيَانِ ! قَالَ: (فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا، فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا.)

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه: أنَّ رَجُلًا هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْيَمَنِ، فَقَالَ: (هَلْ لَكَ أَحَدٌ بِالْيَمَنِ ؟) قَالَ: أَبَوَايَ. قَالَ: (أَذِنَا لَكَ ؟) قَالَ: لَا. قَالَ: (ارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَاسْتَأْذِنْهُمَا، فَإِنْ أَذِنَا لَكَ فَجَاهِدْ، وَإِلَّا فَبِرَّهُمَا.)

قال العز بن عبد السلام – رحمه الله تعالى -: " يحرم على الولد الجهاد بغير إذن الوالدين، لما يشق عليهما من توقع قتله، أو قطع عضو من أعضائه، وشدة تفجعهما على ذلك ".

وسئل الحسن البصري – رحمه الله تعالى -: عن رجل استأذن والدته في الجهاد، فأذنت له، وعلم أنَّ هواها في المقام ؟ قال: فليقم.

أما إن كان الأمر فرضاً عينياً فلا، كأن يريد أن يصلي مع الجماعة فتمنعه والدته، خوفاً عليه، فإنَّه لا يطيعها، لأنَّ صلاة الجماعة فرض عين على الرجال ؛ أو تمنعه من الخروج لتعلم العلم الواجب عليه، فإنَّه لا يطيعها، لأنَّ رفع الجهل عن نفسه واجب عليه حينئذ، ولكن لا يكن رفضه بشدة وغلظة، وهو يقدر على اللين واللطف.

وقد سئل الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – عن رجل له والدة، يستأذنها أن يرحل لطلب العلم ؟ فقال: إن كان جاهلاً، لا يدري كيف يطلق، ولا يصلي، فطلب العلم أوجب، وإن كان قد عرف، فالمقام عليها أحبُّ إلي.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها، والمقام العلي الذي بوأها إيَّاه:

أنَّ الله تعالى جعل حقَّها لا ينقطع بوفاتها، بل هو قائم موصول من الابن إلى أمِّه حتى بعد وفاتها، وهذا الأمر من محاسن دين الإسلام، حيث يبرز من خلاله خُلُقُ الوفاء، الذي لا ينقطع بانقطاع اللقاء، ولا تتعلق العلاقة فيه على المصالح، بل هو خُلُقٌ ينطلق من نفس الوفي، بناءً على قناعة ذاتية، يعتقد الوفي بسببها أنَّه ملزم بمواصلة ذلك البر، وطلب الرضا، وإن كان بعد تفرق الأجساد في الحياة الدنيا.

وهو سببٌ ـ كذلك ـ لتدارك الولد شيئاً من حقِّ والدته الذي فرط فيه ووالدته على قيد الحياة، والإنسان معرض لمثل هذا التفريط، وبعض الأبناء لا يشعر بالندم إلا بعد موت الوالدة، ففتح الله تعالى له باب الخير هذا حتى يستدرك شيئاً مما فاته، ويصلح ما وقع فيه من خلل.

وهو ـ كذلك ـ باب من أبواب الاستزادة من الخير والأجر في باب برِّ الوالدة، وإن كان الولد محسناً إليها في حياتها، فإنَّه لا يعدم الحاجة إلى الاستزادة من البر، لبلوغ ما تسمو إليه نفسه فيه من رتب عليّة.

وهو باب خير لمن لم يدرك والدته، إمَّا لموتها وهو صغير، أو لفقد الولد أو الأم، أو غير ذلك من أسباب حالت بين الولد وبين أمِّه أن يعيش في كنفها، وينال شيئاً من برها.

وهو دليل على أنَّ العلاقات بين المسلمين علاقات أسمى من المصالح الدنيوية، وأنَّ أخلاقهم أخلاقٌ ربَّانية، يبتغي المسلم الأجر فيها من ربِّه عز وجل.

ومن أنواع برِّ الولد أمَّه بعد وفاتها: الدعاء لها، والاستغفار لها، وإنفاذ عهدها، وصلة الرحم التي لا توصل إلا عن طريقها، والإحسان إلى صويحباتها، فإنَّ ذلك من أنواع البرِّ التي لا تنقطع بعد وفاة الأم، بل من فضل الله تعالى أنَّ من أنواع البرِّ مالا ينقطع حتى بعد وفاة الولد، كأن يوقف وقفاً ويجعل ريعه، أو جزءً منه صدقة لوالدته، أو يوصي بجزءٍ من ماله صدقة لوالدته، أو يوصي بفعل بعض القُرب لوالدته، كالصدقة والأضحية، فكلُّ هذا من برِّ الوالدة بعد وفاتها ووفاة ابنها.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها، والمقام العلي الذي بوأها إيَّاه:

أنَّ الله تعالى جعل حقَّها لا ينقطع بوفاتها، بل هو قائم موصول من الابن إلى أمِّه حتى بعد وفاتها.

وكنَّا قد ذكرنا شيئاً من أنواع برِّ الأمِّ بعد وفاتها إجمالاً، وهانحن نذكر شيئاً ممَّا يدل على ذلك من الأحاديث النبوية الشريفة، وآثار الصحابة الكرام.

جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هل بقي من برِّ أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما ؟ قال: (نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما.) قال الرجل: ما أكثر هذا –يا رسول الله– وأطيبه ! قال: (فاعمل به.)

قال الله تعالى مبيناً حقَّ الوالدين في الدعاء لهما، في حياتهما، وبعد وفاتهما:- {وقل ربِّ ارحمهما كما ربَّياني صغيراً}.

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّهُ كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ كَانَ لَهُ حِمَارٌ يَتَرَوَّحُ عَلَيْه، إِذَا مَلَّ رُكُوبَ الرَّاحِلَةِ، وَعِمَامَةٌ يَشُدُّ بِهَا رَأْسَهُ، فَبَيْنَا هُوَ يَوْمًا عَلَى ذَلِكَ الْحِمَارِ إِذْ مَرَّ بِهِ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: أَلَسْتَ ابْنَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ؟ قَالَ: بَلَى. فَأَعْطَاهُ الْحِمَارَ، وَقَالَ: ارْكَبْ هَذَا، وَالْعِمَامَةَ، قَالَ: اشْدُدْ بِهَا رَأْسَكَ ؛ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: غَفَرَ اللَّهُ لَكَ ! أَعْطَيْتَ هَذَا الْأَعْرَابِيَّ حِمَارًا كُنْتَ تَرَوَّحُ عَلَيْهِ، وَعِمَامَةً كُنْتَ تَشُدُّ بِهَا رَأْسَكَ ؛ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: (إِنَّ مِنْ أَبَرِّ الْبِرِّ: صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلِّيَ.) وَإِنَّ أَبَاهُ كَانَ صَدِيقًا لِعُمَرَ رضي الله عنه.

وعن أبي بردة، قال: قدمت المدينة، فأتاني عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: أتدري لِمَ أتيتُك ؟ قلت: لا. قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من أحبَّ أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده.) وإنَّه كان بين أبي عمر رضي الله عنه وبين أبيك إخاء وود، فأحببت أن أصل ذلك.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها، والمقام العلي الذي بوأها إيَّاه:

أنَّ الله تعالى جعل طاعتها فرضاً لازماً يجب على الولد التزامه، ولا يجوز له عصيانها في أمر من الأمور، إلا أن تأمر ولدها بمعصية الله تعالى، فلا سمع ولا طاعة لها حينئذ في ذلك الأمر، ويبقى على طاعته لها فيما عدا ذلك، والإحسان إليها، ومصاحبتها بالمعروف، وكذا إن أمرته بأمر فيه إيذاءٌ لغيره، فلا يطعها في إيذاء غيره، سواء كان الذي سيقع عليه الأذى ابنه، أو زوجه، أو شريكه، أو غيرهم ؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ضرر ولا ضرار).

وقال صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق).

قال الله تعالى:- {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً}.

وهذا بيان جلي من الله تعالى لعباده أن إذا جاهد الولدَ والداه على الإشراك بالله تعالى، بدعوته إليه، وإظهار غضبهم عليه، ومحاولتهم قسره على الوقوع فيه ؛ فإنه لا يطيع والديه في ذلك، أي في الشرك الذي دعاه والداه إليه، ولكن رفضه يجب أن لا يكون بالقول القبيح الشديد، بل بالقول الحسن، الذي يظهر فيه الولد تمسكه بدينه، ويحرص على تيئيس والديه من إجابته دعوتهما إيَّاه إلى الشرك، كما في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقصة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، عندما دعته والدته إلى ترك دين الإسلام، والرجوع إلى عبادة الأوثان، وأقسمت أن لا تذوق طعاماً ولا تستظل حتى يعود أو تموت، فيعيره النَّاس بقولهم: قاتل أمه، فكان رده عليها أن قال: يا أماه، والله لو كانت لك كذا وكذا نفس فخرجت كل نفس إثر الأخرى ما تركت ديني. وبهذه الكلمة الموجزة قطع سعد رضي الله عنه أمل أمه أن يعود إلى ملتها بعد أن هداه الله للإسلام، وهو مع ذلك لم يؤذها بغير ترك ما طلبت منه من الإشراك.

وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها، والمقام العلي الذي بوأها إيَّاه:

أنَّ الله تعالى جعل طاعتها فرضاً لازماً يجب على الولد التزامه، ولا يجوز له عصيانها في أمر من الأمور، إلا أن تأمر ولدها بمعصية الله تعالى، فلا سمع ولا طاعة لها حينئذ في ذلك الأمر، ويبقى على طاعته لها فيما عدا ذلك، والإحسان إليها، ومصاحبتها بالمعروف، وكذا إن أمرته بأمر فيه إيذاءٌ لغيره، فلا يطعها في إيذاء غيره، سواء كان الذي سيقع عليه الأذى ابنه، أو زوجه، أو شريكه، أو غيرهم.

ومن ذلك ما وقع لأسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما قال الله تعالى:- {وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفاً}.

قالت أسماء رضي الله عنها: قدمت عليّ أمي،وهي مشركة، في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: قدمت عليّ أمي، وهي راغبة (أي طامعة فيما عندي، تسألني الإحسانَ إليها) أفأصل أمي ؟ قال صلى الله عليه وسلم: (نعم صلي أمَّك.)

وسأل رجلٌ من أهل حمص الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – فقال: إنِّي قد غبت عن أبي – وله كروم – ويسألني أن أعينه على بيع العصير ؟ فقال: إن علمت أنَّه يعمله خمراً فلا تعنه.

وسأله فتى: إنَّ أبي حلف عليَّ بالطلاق أن أشرب دواءً مع مسكر ؟ فقال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى –: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كلُّ مسكر حرام.) ولم يرخص له.


ومما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها، والمقام العلي الذي بوأها إيَّاه:

أنَّ الله تعالى جعل من حقِّها على ولدها أن يحتسب عليها إن وقع منها ما يلزم ذلك ؛ من تفريط في واجب، أو ارتكاب لمنكر.

وهذا الأمر ـ أعني الاحتساب على الوالدة ـ مما تقع الحيرة بسببه، وتختلف الآراء فيه، ويكثر السـؤال عنه: هل يجوز للابن أن يأمر والدته بمعروف إن رآها تقصر في أدائه، وهل ينهاها عن منكر إن رآها تقع فيه ؟

وإذا كان له الإنكار، فهل هو مطلق، أم يكون في حالات مخصوصة ؟

وإذا كان يحتسب عليها، فما هو الأسلوب الذي يلزمه اتباعه معها ؟

هذه قضية شديدة الحساسية، لأنَّ حق الوالدة عظيم، والابن مأمور بالابتعاد عن كل ما من شأنه إغضابها، والاحتساب عليها قد يوصلها إلى الغضب على الابن، وغضبها يغضب الله تعالى ! كلُّ هذه الأمور تجعل التعامل مع هذه المسألة مشوباً بكثير من الحذر وأخذ الحيطة.

فأقول مستعيناً بالله تعالى:

الحسبة: منعٌ من منكرٍ لحقِّ اللهِ تعالى، صيانةً للممنوع من مقارفة المنكر.

إذن الحسبة لصالح المنكر عليه في المرتبة الأولى، لكونه بفعله المنكر، أو بتركه المعروف معرضاً نفسه لغضب الله تعالى وعذابه، فالحسبة تعود منفعتها – أولاً – على المحتسب عليه، فهي بابٌ من أبواب الإحسان إليه، وأحقُّ من يجب على الإنسان أن يحسن إليه: والداه، وخاصة الأم.

فعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِأُمَّهَاتِكُمْ ؛ إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِآبَائِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُوصِيكُمْ بِالْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ.).

وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


شرعنا في الأسبوع الماضي في الحديث عما يبرز مكانة الأم، ويظهر الدرجة الرفيعة التي رفعها الإسلام إليها، والمقام العلي الذي بوأها إيَّاه ؛ وهو: أنَّ الله تعالى جعل من حقِّها على ولدها أن يحتسب عليها إن وقع منها ما يلزم ذلك ؛ من تفريط في واجب، أو ارتكاب لمنكر.

ونواصل الحديث عن أدلة مشروعية الاحتساب على الوالدين؛ ومنها:

والآباء من المسلمين الداخلين تحت قوله: (والنصح لكل مسلم)، ومن النصح للمسلمين: الاحتساب عليهم ؛ فيكون الاحتساب على الوالدة داخلاً في هذا، بل هي أولى من يوجه الابن نصحه لها، لعظيم حقها عليه، ولأنّ النصح ما شُرع إلا لتخليص المنصوح من الوقوع فيما يغضب الله سبحانه وتعالى. وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


شرعنا في الأسبوع الماضي في الحديث عن الأدلة على مشروعية الاحتساب على الوالدة، ونواصل الحديث بذكر بعض الأدلة على ذلك:

ففي كتاب الله تعالى قصة إبراهيم عليه السلام في احتسابه على والده، حين أمره بإخلاص عبادة ربِّه، وترك عبادة الأصنام، قال الله تعالى:- {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً * قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً * واعتزلكم وما تدعون من دون الله وادعوا ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً}.

قال ابن حيان الأندلس – رحمه الله تعالى -: " وفيه دليل على الإنكار على من أُمر الإنسان بإكرامه، إذا لم يكن على طريقة مستقيمة، وعلى البداءة بمن يقرب من الإنسان، كما قال:- {وأنذر عشيرتك الأقربين}.

والمسلم مأمور باتباع ملة إبراهيم عليه السلام قال الله تعالى {قل صدق الله فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفاً} لذلك فإن من اتباع ملة إبراهيم عليه السلام: الاحتساب على الآباء.

وفي الاحتساب على الأعمام دليل على مشروعيته على الآباء، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنَّ عمَّ الرجل صنوُ أبيه).

ولما نزل قول الله تعالى {وأنذر عشيرتك الأقربين} قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أغني عنكم من الله شيئاً … يا عبَّاس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئاً. يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أغني عنك من الله شيئاً).

وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


مازال الحديث موصولاً بالاحتساب على الأمهات، وأوردنا في ذلك بعض الأدلة على مشروعيته، وهذه بعض الأدلة التي تزيد في الدلالة على مشروعية هذا الأمر العظيم:

في الاحتساب على الأعمام دليل على مشروعيته على الآباء، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإنَّ عمَّ الرجل صنوُ أبيه).

واحتسب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمه أبي طالب لما حضرته الوفاة – فأمره بالتوحيد، والنطق بالشهادتين، واغتنام الفرصة قبل الموت، ويعده أن يشهد له بها عند ربه، وأخذ يقول له: (يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله).

واحتسب صلى الله عليه وسلم على عمه العبَّاس رضي الله عنه في حجة الوداع، حيث قال في خطبته العظيمة، التي شهدها أكثر من مائة ألف مسلم: (وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضعه ربانا، ربا عبَّاس بن عبد المطلب، فإنَّه موضوع كلُّه).

وأقرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول على احتسابه على والده وكان والده الخبيثُ رأسَ المنافقين قد قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل، وهي من أخبث الكلمات التي تفوه بها هذا المنافق، فقال ابنه عبد الله رضي الله عنه: والله، لا تنقلب حتى تقرَّ أنَّك الذليل، ورسول الله صلى الله عليه وسلم العزيز. ففعل.

فأقره رسول الله صلى الله عليه وسلم على احتسابه على والده.

وفيما ذكرنا من أدلة في هذه الحلقة وفي الحلقات التي سبقتها دلالة على أن للوالدة حق عظيم على ابنها، ومن هذا الحق دلالتها على الخير، وحضها على التمسك به، وتحذيرها من الشر، وكفها عن الوقوع فيه، وبذا يظهر جلياً حب وتقدير الولد أمه، وسعيه الجاد لأن تكون أمه من الفائزين، وحذره الشديد من وقوعها في شر عمل غير لائق تقوم به. وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


فرغنا في الأسبوع الماضي من الحديث عن أدلة مشروعية الاحتساب على الوالدة، وسيكون حديثنا هذا الأسبوع عن درجات هذا الاحتساب.

لعظيم حق الوالدة، وخطير شأنها مع ولدها فإنه يحتسب عليها فيما تركته من معروف، وما أتته من منكر ؛ ولكن لحساسية أمر التعامل معها فإنَّه يجب على الولد أن يحتسب عليها بلطف ولين لا يجب عليه في حق الآخرين مثلُه، لذلك فإنَّ عليه أن يتخذ الخطوات التالية حال احتسابه على والدته:

الدرجة الأولى:- (التعريف)

والتعريف: أن يذكر الولد لوالدته مقام المعروف الذي تركته في الشرع الحنيف، بأنَّه واجب، ودليله كذا وكذا، أو أفتى به العالم الفلاني بكذا، ويذكر لوالدته مقام المنكر الذي أتته، وكونه محرماً، ودليله كذا وكذا، أو أفتى به العالم الفلاني بكذا، يقول الولد ذلك مع مراعاة اللين في تصرفه مع والدته، ورقة العبارة معها، وكريم القول، لقول الله تعالى:- {وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * واخفض لهما جناح الذُّل من الرَّحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً}، ولقول الله سبحانه وتعالى:-{وصاحبهما في الدنيا معروفاً}.

مثال ذلك: أن يرى الولد والدته تاركة لفعل معروف، فيأتيها –في وقت مناسب– ويقول لها: يا أماه، إنَّ لك حقّاً عظيماً عليّ، وأنا لا أستطيع مكافأتك، ولكني أحبك، وأحبُّ الخير لك، وأتقرب إلى الله تعالى بذلك، عسى الله تعالى أن يتجاوز عني بذلك، وإنَّ حبي للخير لك أن تناليه في الدنيا والآخرة، وأخشى ما أخشى عليك أن تُحرمي شيئاً من الخير في آخرتك، لذلك فإنَّ من الواجب عليَّ أن أسعى جاهداً لتنالي هذا الخير في الدنيا والآخرة، والأمر الفلاني واجب على المسلم فعلُه، والله تعالى يقول … ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فأحببت أن لا يفوتك هذا الخير، وأن تأمريني به إذا رأيتيني قصرت فيه، ومن حقك عليّ أن أذكرك بذلك، حتى لا يفوتك الأجر العظيم … الخ.


الدرجة الثانية:- (النصح: بالوعظ، والتذكير، والتخويف بالله تعالى، والدعاء لها بالهداية)

وذلك بالظهور أمام الوالدة بصورة الناصح، المخلص في نصيحته، الذي يريد الخير لها، وأنَّه يخشى عليها من غضب الله وسخطه، ويحتاج الابن أن يذكر لوالدته أنَّه يتحدث معها بعلم لا بجهل، لأنَّ الوالدة تنظر إلى ولدها نظرة الجاهل الصغير، وأنَّه دائماً يحتاج إلى توجيهه، لذلك لا بدَّ أن يشير الولد بلطف إلى أنَّه يتحدث عن علم تعلمه، ودليله في كتاب الله تعالى، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي فتوى العالم الفلاني، خاصة من كانت الأم تثق بفتواه، وتأخذ بها حتى تزداد طمأنينة بصحة كلام ولده.

وقد سئل الإمام أحمد – رحمه الله – عن رجل مرا بي، يقول لابنه اذهب فتقاضي مالي من فلان، ترى أن يفعل ؟ قال: لا. ولكن يقول له: لا أذهب حتى تتوب.

وعن أَبُي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُهَا يَوْمًا فَأَسْمَعَتْنِي فِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَا أَكْرَهُ، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا أَبْكِي، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي كُنْتُ أَدْعُو أُمِّي إِلَى الْإِسْلَامِ، فَتَأْبَى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُهَا الْيَوْمَ فَأَسْمَعَتْنِي فِيكَ مَا أَكْرَهُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ !) فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بِدَعْوَةِ نَبِيِّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا جِئْتُ، فَصِرْتُ إِلَى الْبَابِ، فَإِذَا هُوَ مُجَافٌ، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فَقَالَتْ: مَكَانَكَ، يَا أَبَا هُرَيْرَةَ ؛ وَسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الْمَاءِ، قَالَ: فَاغْتَسَلَتْ، وَلَبِسَتْ دِرْعَهَا، وَعَجِلَتْ عَنْ خِمَارِهَا، فَفَتَحَتِ الْبَابَ، ثُمَّ قَالَتْ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ! قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَتَيْتُهُ وَأَنَا أَبْكِي مِنَ الْفَرَحِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْشِرْ، قَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ دَعْوَتَكَ، وَهَدَى أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ ! فَحَمِدَ اللَّهَ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ خَيْرًا ؛ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُحَبِّبَنِي أَنَا وَأُمِّي إِلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيُحَبِّبَهُمْ إِلَيْنَا ؛ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (اللهم، حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا) يَعْنِي أَبَا هُرَيْرَةَ: (وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمُ الْمُؤْمِنِينَ.) قال أبو هريرة: فَمَا خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بِي وَلَا يَرَانِي إِلَّا أَحَبَّنِي. وللحديث بقية إن شاء الله.


ومازال حديثنا موصولاً بدرجات الاحتساب على الوالدة..

الدرجة الثالثة:- (الجدال بالحسنى)

إذا رفضت الوالدة الاستجابة لما نصحها الولد به، لشبهة علقت في ذهنها، كأن تكون تعودت هذا الفعل، ولم تر أحداً ينكر ذلك، أو أنَّها رأى شخصاً تثق به يفعله، أو لكونها تخشى من الحرج أمام أقاربها وجماعتها، فليبين الولد لها أنَّ أمر الله تعالى فوق كل ذلك، وأن من سعى في إرضاء الله تعالى - وإن كان فيه سخط النَّاس – فإنَّ الله تعالى سيرضى عنه، وسيرضى النَّاس عنه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللَّهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إِلَى النَّاسِ)

وعلى الولد أن يحذر من مجادلة الوالدة مجادلة تغضبها.

الدرجة الرابعة:- (الإيعاز لمن يقوم بذلك)

قد تكون الوالدة رافضاً لأي نصح يأتي من الولد، لسبب من الأسباب، فعلى الولد أن يسعى جاهداً لإيصال النصح إليها عن طريق غيره، ممن تثق الوالدة بهم.

مثال ذلك: أن يخبر خالته التي تثق بها والدته، مشافهة، أو يرسل لها رسالة يطلب منها الحديث معها عن المعروف الذي تركته الوالدة، أو المنكر الذي تأتيه، بطريقة لا تشعر الوالدة بها أنَّها مقصودة بذلك، وقد نفع الله تعالى بهذه الطريقة كثيراً من النَّاس.

أو: يحدث من تقبل الوالدة نصحه وتوجيهه، من عقلاء النَّاس، من عم، أو خال، أو صديقة للوالدة، ويطلب منه توجيه النصح لوالدته.

أو: يحضر شريطاً إلى والدته، ويهديها إيَّاه ؛ أو يحضر الشريط ويأخذ في الاستماع إليه في المنزل، ويجعله بمكان تسمع فيه الوالدة ذلك، وكأن هذا الفعل غير مقصود، فتستمع الوالدة، فينفعها الله بذلك الاستماع، وهكذا.

وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


ومازال حديثنا موصولاً بدرجات الاحتساب على الوالدة..

الدرجة الخامسة:- (التعنيف)

وهذا يقع في حدود ضيقة، بشروط معينة، وهي:

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة – رحمه الله تعالى -: " إنَّ الأمر والنهي – إذا كان متضمناً لتحصيل مصلحة، ودفع مفسدة – فيُنظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح، أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً، إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته ".

وعن سَعْد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أَنَّهُ نَزَلَتْ فِيهِ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ: كنت رجلاً براً بأمي، فلما أسلمت حَلَفَتْ أُمُّ سَعْدٍ أَنْ لَا تُكَلِّمَهُ أَبَدًا حَتَّى يَكْفُرَ بِدِينِهِ، وَلَا تَأْكُلَ وَلَا تَشْرَبَ حتى تموت، قَالَتْ: لتدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت، فتعير بي، فيقال: يا قاتل أمِّه ؛ زَعَمْتَ أَنَّ اللَّهَ وَصَّاكَ بِوَالِدَيْكَ، وَأَنَا أُمُّكَ، وَأَنَا آمُرُكَ بِهَذَا، قَالَ: يا أمَّه ! لا تفعلي، فإنِّي لا أدع ديني هذا لشيء، تعلمين – والله – لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفساً نفساً ما تركت ديني هذا لشيء، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلي ؛ فمَكَثَتْ ثَلَاثًا حَتَّى غُشِيَ عَلَيْهَا مِنَ الْجَهْدِ، فَقَامَ ابْنٌ لَهَا، يُقَالُ لَهُ: عُمَارَةُ، فَسَقَاهَا، فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَى سَـعْدٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل فِي الْقُرْآنِ هَذِهِ الْآيَةَ:- {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي} وَفِيهَا:- {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}. وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


ومازال حديثنا موصولاً بدرجات الاحتساب على الوالدة..

الدرجة السادسة:- (الإنكار باليد)

وهو نوعان: نوع يتعلق ببدن الوالدة.

ونوع لا يتعلق ببدنها.

أمَّا النوع الذي لا يتعلق ببدن الوالدة، فمثل: أن ترفض الوالدة تغيير المنكر - بعد النصح والتذكير والبيان، وما ذكرناه في الدرجات الماضية - فإن للولد أن يغير المنكر بيده - بالشروط التي ذكرناها، وهي أن لا يجر إلى منكر أكبر، أو يفوت مصلحة أكبر – بل قد يكون التغيير واجباً على الولد حينئذ، كأن يرى آنية خمر لوالدته، فإنه يهريقها، أو يرى كيساً فيه مخدرات، فإنَّه يتلفها، أو يجد مالاً سرقته، فإنَّه يعيده إلى أربابه، أو يرى والدته تريد أن ترتكب ذنباً يؤدي إلى الإضرار بعرضه، وهكذا.

وليحرص الولد على فعل ذلك بعيداً عن عين الأم، وخاصة عند غيابه، حتى لا يؤدي ذلك إلى الخصام، أو العراك.

وقد سئل الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – عن رجل له بنات، يريد أن يبيع داره، ويشتري المغنيات ؛ هل لابنه أن يمنعه ؟ قال: أرى أن يمنعه، ويحجر عليه.

أما إن كان الأمر الذي تأمر به الوالدة مشتبه، وليس محرماً حرمة صريحة، فعلى الولد أن لا يظهر رفضه لقولها، لكن يتوقى ذلك حسب الطاقة.

وقد قيل للإمام أحمد – رحمه الله تعالى -: هل للوالدين طاعةٌ في الشبهة ؟ فقال: في مثل الأكل ؟ فقيل: نعم. قال: ما أُحبُّ أن يقيم معهما عليه، وما أُحبُّ أن يعصيهما ؛ يداريهما، ولا ينبغي للرجل أن يقيم على الشبهة مع والديه ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه) ولكن يداري بالشيء بعد الشيء، فأما أن يقيم معهما عليه، فلا. انتهى كلامه.

والنوع الآخر: نوع يتعلق ببدن الوالدة، والإنكار في هذا غير جائز مع الأم المسلمة، أما غير المسلمة، المحاربة لله ورسوله، فإنَّه ينكر عليها باليد، بل لو استدعى ذلك ما هو أشد فعل. وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


ومازال حديثنا موصولاً بدرجات الاحتساب على الوالدة، وفي هذه الحلقة يكون الحديث عن الدرجة السابعة والأخيرة، إن شاء الله تعالى، وهي:

الدرجة السابعة:- (الهجر)

وهذه مرحلة أخيره، لا يلجأ إليها الولد إلا أن لا يجد حلاً غيرها، بشرط أن يعلم أن في الهجر مصلحة، لأنَّ أسلوب الهجر أسلوب مشروع لا لذاته، بل لما يترتب عليه من مصلحة، فإن وُجِدَ أن لا مصلحة فيه، أو أنَّه يجر إلى مفسدة فإنَّه لا يفعل.

مثال ذلك: أن تكون الوالدة شديدة الحبِّ لولدها ـ وهذا هو الغالب ـ لا تصبر على فراقه، والولد يعلم ذلك، فإنَّه يهجرها – بعد استنفاد جميع الدرجات التي ذكرنا – حتى تحنَّ الوالدة، وتفعل المعروف الذي من أجله هجرها الولد، أو تترك المنكر الذي من أجله هجرها الولد.

أو: يكون الولد غنياً ينفق على والدته، فإنَّه يهجرها، فتخاف الوالدة من إيقاف النفقة أن تتضرر، فتترك المنكر، أو تفعل المعروف الذي من أجله هجرها الولد.

وفي قصة إبراهيم عليه السلام مع والده آزر استخدام كل هذه الدرجات التي ذكرنا، وهي:

وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


ومازال حديثنا موصولاً بدرجات الاحتساب على الوالدة، وفي هذه الحلقة يكون الحديث تلخيصاً لما سبق لنا أن عرضناه من درجات الاحتساب على الوالدة:

وفي قصة إبراهيم عليه السلام مع والده آزر استخدام كل هذه الدرجات التي ذكرنا، وهي:

قال الله تعالى:- {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً* يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً* يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً * قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً * واعتزلكم وما تدعون من دون الله وادعوا ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً}.

ففي هذا الحوار الذي دار بين إبراهيم عليه السلام وبين أبيه آزر تعريف إبراهيم عليه السلام أباه خطر عبادة الأصنام، وكونها حجارةً لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، قال تعالى:_ {إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً}.

وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى، في تفسير هذه الآيات الكريمات.


ومازال حديثنا موصولاً بدرجات الاحتساب على الوالدة، وفي هذه الحلقة يكون الحديث إكمالاً لتفسير قوله تعالى:- {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً * قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً * واعتزلكم وما تدعون من دون الله وادعوا ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً}.

بيّن إبراهيم عليه السلام لوالده أنَّ عبادة الأصنام لم تأت إلا بإيعاز من الشيطان، وتحريض منه، وهو المخلوق العاصي لربِّه، الحريص على إيقاع النَّاس في المعاصي، وبيّن له عاقبة عبادة الأصنام، من كونها سبب سخط الرحمن، فقال:- {يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً}.

ونلحظ في خطاب إبراهيم عليه السلام مع أبيه الرقة في العبارة، واللين في القول، حيث صدر حديثه معه بقوله: يا أبت، أربع مرات، وفي هذه العبارة ترقيق لقلب الأب، وتنبيه إلى اعتراف الابن بحقِّه عليه، وأنَّه غيرُ جاحدٍ لذلك، وأنَّ حقَّه عليه هو الذي حمله على تقديم هذا النصح للوالد، وأنَّ هذا النصح لا يُنقص حقَّه أبداً.

ونلحظ – كذلك في خطابه – عدم التعنيف والتعالي، أو وصف الوالد بشيء يثير غضبه، من تجهيل أو تسفيه أو غباء، إنَّما اقتصر على صبِّ بيانه على حقيقة الأصنام، ومن يعبد الأصنام، حتى يعيد والده النظر في حاله، ويتحقق من خطأ نفسه.

ولم يقل إبراهيم عليه السلام لأبيه: إنَّك من أهل النَّار، أو إنَّك عدو لله تعالى، بل ذكر له خوفه عليه – إن هو استمر على عبادة الأصنام – أن يصيبه عذاب الرحمن.

وللحديث بقية، إن شاء الله تعالى.


ومازال حديثنا موصولاً بدرجات الاحتساب على الوالدة، وفي هذه الحلقة يكون الحديث إكمالاً لتفسير قوله تعالى: {واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقاً نبياً * إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد مالا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً * يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطاً سوياً * يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً * يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان ولياً * قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني ملياً * قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفياً * واعتزلكم وما تدعون من دون الله وادعوا ربي عسى أن لا أكون بدعاء ربي شقياً}.

وهكذا سلك إبراهيم عليه السلام مع والده أسلوب التعريف أولاً، والنصح والتذكير، والتخويف من سخط الله تعالى ثانياً، والجدال بالحسنى ثالثاً.

وعندما رأى من والده الإصرار على الكفر، والتمسك بعبادة الأصنام عنفه، فقال تعالى - على لسان إبراهيم عليه السلام لأبيه - {إني أراك وقومك في ضلال مبين}.

قال ابن عاشور – رحمه الله تعالى -: " لما رأى تصميمه على الكفر، سلك معه الغلظة، استقصاءً لأساليب الموعظة، لعلَّ بعضها أن يكون أنجح في نفس أبيه من بعض، فإنَّ للنفوس مسالك، ولمجال أنظارها ميادين متفاوتة، ولذلك قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:-{ادع إلى سبيل ربِّك بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ وجادلهم بالتي هي أحسن} وقال له في موضع آخر {واغلظ عليهم} ".

ولما رأى التعنيف لم يجد معه أنكر عليه بيده، حيث انتظر حتى غادروا موقع وجود الأصنام، فقام يكسرها، قال تعالى – على لسانه عليه السلام:- {وتالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تُوَلُّواْ مدبرين. فجعلهم جُذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يَرْجِعُون}. ثمَّ سلك معه آخر أنواع الاحتساب، وهو الهجر، عندما رأى إصراره على الكفر، وعدم قبوله النصح، وكون عدائه لله تعالى ظاهر، قال الله تعالى:- {فلما تبيّن له أنَّه عدوٌ لله تبرأَ منه}.


وبعد أن فرغنا من الحديث عن مكانة المرأة إجمالاً في 56 حلقة:

ذكرنا فيها جوانب متعددة من المكانة العلية التي كرم الإسلام فيها المرأة، واستطعنا أن نخرج بتصور عام لمكانة المرأة في الشرع المطهر، سواء كانت زوجة أم بنتاً أم أماً، بعد أن فرغنا من هذا سيكون حديثنا في عدد من الحلقات القادمة عن بعض ما يثار في هذا الزمن من اتهام الإسلام والمسلمين بظلم المرأة، وانتقاصها حقوقها، في: عملها، وميراثها، وديتها، وحجابها، ومنعها من الاختلاط بالرجال، وتعدد الزوجات، وتفرد الرجل ببعض الأحكام الفقهية دونها، وغير ذلك كثير مما يثار عن وضع المرأة المسلمة في المجتمعات الإسلامية، ومحاولة بعضهم انتزاع وضع بعينه من بين الكيان العظيم الذي جعل الله تعالى المرأة فيها ليقول: لم جعل الإسلام قسم المرأة في هذا أقل ؟ أو منعها من هذا الفعل ؟ ولاشك أن هذا القول يجد بريقاً ورواجاً عند كثير من الناس الذين ينظرون إلى الأمور نظرة قاصرة ضيقة، تنحصر في ذلك الوضع بعينه دون أن ينظر إلى الوضع العام للمرأة المسلمة في المجتمع الإسلامي، فهو كمن ينظر إلى طبيب فتح بطن مريض ثم خاطها فاتهمه بقتله أو تعذيبه، دون أن ينظر إلى قصة المريض كاملة، وكون المصلحة اقتضت هذه العملية لعلاج مرضه الذي هو مصاب به.

ومما ينبغي على المسلم أن يعلمه أن غالب هذه التهم والشبهات التي تثار قديمة، قد يصل تاريخ بعضها إلى القرون الأولى، عندما دخل بعض أهل الملل في الإسلام ظاهراً، وبدأ مؤلفوهم ينفثون سمومهم عبر بعض مؤلفاتهم، وهي وإن لم تكن معنية بالمرأة كقضية تفرد بالتأليف لكنهم يوردون بعض ما يتعلق بها كنوع من أنواع الطعن، وقد تصدى لهم علماء الإسلام بالرد، وبيان زيف أقوالهم، وظلت طعونهم محصورة في زوايا ضيقة، إلى أن جاء المستشرقون فوسعوا دائرة الشبهات والطعون أكثر من السابق، مستفيدين مما كتبه القدماء من مؤلفات، حيث انتقوا منها ما يناسب العصر، وركزوا في طعونهم وشبهاتهم على كتاب الله تعالى، وعلى شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى تدوين الحديث، وقضايا المرأة، وجاء هذا الزمن لتكون قضايا المرأة هي الأساس.

 

موقع جمعية البر بالرياض

http://www.albr.org/books/bn020.htm