أصحاب الأخدود

عبد الوهاب الطريري

ملخص الخطبة

1- قصة أصحاب الأخدود والعبر فيها. 2- انتقام الله من أعدائه قد يكون في الآخرة. 3- ضآلة الدنيا أمام الآخرة. 4- عقوبات الله في الدنيا متعددة الأنواع والصور. 5- وقفات وعبر في قصة أصحاب الأخدود.

الخطبة الأولى

 

 

أما بعد:

أيها الناس اتقوا الله حق التقوى.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَٱلسَّمَاء ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ وَشَـٰهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَـٰبُ ٱلاْخْدُودِ ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ [البروج:1-7].

إن هذه الآيات تحملُ قصةَ أصحابِ الأخدود، هؤلاء اللذين فتنوا في ديِنهم..

هؤلاء الذين أحرقوا في خنادقِ النارِ مع نسائهم وأطفالِهم.

وما نقموا منهم إلا أن يأمنوا بالله العزيز الحميد.

وكان نكالاً دنيوياً بالغَ القسوة وجريمةً نكراء عندما يقادُ أولئك المؤمنون الأطهارِ إلى خنادقَ وحفر أضرمت فيها النار، هم ونساؤهم وأطفالهم ليلقوا فيها لا لشيء إلا لأنهم آمنوا بالله جل وعلا.

حتى تأتي المرأةُ معها طفلُها الرضيعُ تحملُه، حتى إذا أوقفت على شفيرِ الحفرةِ والنارُ تضطرمُ فيها تكعكعت، لا خوفاً من النار ولكن رحمةً بالطفل.

فيُنطقُ اللهُ الطفلَ الرضيع ليقولَ لها مؤيدا مثبتاً مصبراً: يا أمه اصبري فأنك على الحق.

فتتقحم المرأةُ الضعيفةُ والطفل الرضيع، تتقحمان هذه النار.

إنه مشهدُ مريعُ وجريمةُ عظيمةٌ يقصُ القرآنُ خبرها ويخبر بشأنها، فإذا هي قصةُ مليئةُ بالدروسُ، مشحونة بالعبر، فهل من مدكر؟

ولكنا نطوي عبرَها كلها ونعبرَها لنقف مع آيةٍ عظمى، آية عظمى تومض من خلال هذا العرض للقصة، إن هذه الآيات قد ذكرت تلك الفتنة العظيمةَ وذكرت تلك النهايةُ المروعةُ الأليمة لتلك الفئةُ المؤمنة، والتي ذهبت مع آلامها الفاجعة في تلك الحفرُ التي أضرمت فيها النار.

بينما لم يرد خبرُ في الآياتِ عن نهايةِ الظالمين اللذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات:

لم تذكرُ الآياتُ عقوبةُ دنيوية حلت بهم.لم تذكر أن الأرض خسفت بهم.

ولا أن قارعة من السماءِ نزلتَ عليهم.

انتهاء عرضُ القصةِ بذكرِ مصيرِ المؤمنين وهم يُلقونَ في الأخدود.

والإعراض عن نهاية الظالمين الذين قارفوا تلك الجريمة فلم تُذكر عقوبتهم الدنيوية ولا الانتقام الأرضي منهم. فلما أغفل مصيرُ الظالمينَ؟

أهكذا ينتهي الأمر، أهكذا تذهبُ الفئةُ المؤمنةُ مع آلامها واحتراقها بنسائِها وأطفالِها في حريق الأخدود؟

بينما تذهب الفئةُ الباغية الطاغية التي قارفت تلك الجريمة تذهبُ ناجية؟

هنا تبرزٌ الحقيقةُ العظمى التي طالما أفادت فيها آياتُ الكتاب وأعادت، وكررت وأكدت وهي:

أن ما يجري في هذا الكون لا يجري في غفلةٍ من اللهِ جل وعلا، وإنما يجري في ملكِه.

ولذا جاء التعقيبُ بالغ الشفافية:

وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ ٱلَّذِى لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَـٰوٰتِ وَٱلأرْضِ [البروج:7-8].

فهذا الذي جرى كلِه جرى في ملكِه ليس بعيداً عن سطوتِه، وليسَ بعيداً عن قدرتِه، إنما في ملكه: وَٱللَّهُ عَلَى كُلّ شَىْء شَهِيدٌ [البروج:9].

فهذا الذي جرى لم يجري في غفلةٍ من الله ولا في سهو من الله.

كلا… ولكن جرى والله على كل شيء شهيد، شهيدُ على ذلك، مطلعُ عليه.

إذا فأين جزاء هؤلاء الظالمين؟

كيف يقترفون ما قارفوا، ويجترمون ما اجترموا ثم يفلتون من العقوبة؟ يأتي الجوابُ، كلا لم يفلتوا.

إن مجال الجزاء ليس الأرضَ وحدَها.

وليسَ الحياةَ الدنيا وحدها، إن الخاتمةَ الحقيقةَ لم تجئ بعد، وإن الجزاءَ الحقيقيُ لم يجئ بعد.

وإن الذي جرى على الأرض ليسَ إلا الشطر الصغير الزهيد اليسير من القصة.

أما الشطرُ الأوفى والخاتمةُ الحقيقةُ والجزاء الحقيقي فهناك:

إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَـٰتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ [البروج:10].

هولا الذين أحرقوا المؤمنين في الأخدود سيحرقون ولكن أين؟

أين؟ في جهنم.

في جهنم، إن الذين أحرقوا المؤمنين في الدنيا سيحرقون ولكن في الآخرة.

وما أعظمَ الفرقَ بين حريقٍ وحريق!

أين حريقُ الدنيا بنارٍ يوقدُها الخلق، من حريقِِ الآخرةِ بنارٍ يوقدُها الخالق ؟

أين حريقُ الدنيا الذي ينتهي في لحظات، من حريقِِ الآخرةِ الذي يمتدُ إلى آبادٍ لا يعلمُها إلا الله؟

أين حريقُ الدنيا الذي عاقبتُه رضوانُ الله، من حريقِ الآخرةِ ومعهُ غضبُ الله؟

هذا المعنى الضخم الذي ينبغي أن تشخصَ الأبصارُ إليه وهو الارتباطُ بالجزاء الأخروي رهبة ورغبة.

أما الدنيا فلو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربةَ ماء.

إن الدنيا هينةُ على الله جل وعلا، مر النبيُ صلى الله عليه وسلم وأصحابُه معه، مروا في طريقهم فإذا سباطة قوم، تلقى عليها النفايات، الفضلات، الجيف.

فإذا بالرسول صلى الله عليه وسلم ينفردُ عن أصحابه ويتجه صوب سباطة هؤلاء القوم  ليأخذَ من القمامة الملاقاة عليها جيفة تيس مشوهِ الخلقةِ قد مات، مشوه الخلقة، صغير الأذن قد انكمشت أذنه.

فأمسك النبيُ صلى الله عليه وسلم بهذا التيس الميتَ فرفعه.

ثم أقام مزاداً علنياً ينادي على هذه الجيفة الميتة، فيقول مخاطباً أصحابه: ((أيكم يحبُ أن يكونَ هذا له بدرهم ؟)) من يشتري هذا التيس المشوه بدرهم؟

وعجب الصحابة من هذا المزاد على سلعة قيمتها الشرائية صفر.ليس لها قيمة شرائية ولذا ألقيت مع الفضلات.

قالوا يا رسولَ الله، والله لقد هانَ هذا التيس على أهلهِ حتى ألقوه على هذه السباطة، لو كان حياً لما ساوى درهماً. لأنه مشوه. فكيف وهو ميت؟

لقد هان على أهله حتى ألقوه هنا، فكيف يزاد عليه بدرهم؟

فألقاهُ النبي صلى الله عليه وسلم، وهوت الجيفة على السباطة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((للدنيا أهونُ على الله من هذا على أحدِكم)).

إن الدنيا هينةُ على الله، ومن هوانها أنها أهونُ من هذه الجيفةُ التي ألقيتموها واستغربتم أن يزاد عليها ولو بدرهمٍ يسير. فقيمتها الشرائية صفر، ليس لها قيمة.

وإذا كانتِ الدنيا هينةُ على اللهِ هذا الهوان، فإن اللهَ جلا جلاله لم يرضها جزاءً لأوليائِه.

وأيضاً لم يجعلَ العذابُ فيها والعقوبة فيها هي الجزاءُ الوحيدُ لأعدائه.

كلا إن الدنيا أهونُ على الله، بل لولا أن يفتن الناس، لولا أن تصيبهم فتنة لجعل الله هذه الدنيا بحذافيرها وزينتها وبهجتها ومتاعها جعلها كلها للكافرين.

استمع إلى هذه الآيات: وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وٰحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوٰباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلاْخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:33-35].

أما الدنيا فأهون على الله من أن يجعلها للمتقين جزاء، أو يجعل العذاب فيها فقط جزاء الكافرين.

كلا.. لولا أن تفتن قلوب الناس لأعطى الدنيا للكافرين، كل ذلك قليلُ وحقير وتافه: وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَـٰعُ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَٱلاْخِرَةُ عِندَ رَبّكَ لِلْمُتَّقِينَ [الزخرف:35].

ولكن قلةَ هذا المتاع وضآلته وتفاهته لا تظهرُ إلا إذا قورن بالعمرِ الأبديِ الخالدِ في الآخرة.

هناك تظهرُ قلةَ هذا المتاع.

ولذا لما ذكر اللهُ زهو الكافرين ومظاهر القوة التي يتمتعون بها، وتقلبَهم في البلاد واستيلاءهم عليها، ذكر ذلك وعبر عنه بقوله جل وعل: متاع قليل [آل عمران:179].

لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِى ٱلْبِلَـٰدِ [آل عمران:196].

قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَـٰبِ ٱلنَّارِ [الزمر:8].

نعم قليلاً، تمتع بكفرك قليلاً، قد يكون هذا القليل ستون سنة.

قد يكون سبعون، قد يكون مائة، ولكن كم تساوي هذه الومضة في عمر الخلود الأبدي في الآخرة؟

كم تساوي هذه الومضة في عمر أبدي خالد في دار الجزاء.

قَـٰلَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِى ٱلأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ ٱلْعَادّينَ [المؤمنون:12-13].

قالوا يوماً..ثم تكاثروا اليوم، فرجعوا: أو بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ ٱلْعَادّينَ.

قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً [المؤمنون:14].

كان هذا القليل عشرات السنين، ولكنها أصبحت في عمر الخلود الأبدي في الآخرة يوماً، كلا فاليوم كثير، بعض يوم، بعض يوم وهم مستيقنون أنه بعض يوم فاسأل العادين.

قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [المؤمنون:14].

هناك يأتي الجزاءُ الحقيقي.

ولذا كانت آياتُ القرآنِ تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تخاطبه وتلفتُ أنظارَ المؤمنين معه إلى أن القِصاص الحقيقي، والعقوبةَ الحقيقةَ والجزاء الذي ينتظرُ الظالمين والمتكبرين والمتجبرين من الكفار والفجرة والظلمة هناك:

إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26].

وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ ٱلَّذِى نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ ٱللَّهُ شَهِيدٌ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ [يونس:46].

قد ترى شيئاً من عقوبتهم، وقد يتوفاك قبل ذلك.

ولكن العبرةُ بالمرجع إلينا، وهناك سيلقون رباً كان شهيداً على فعلهم كلِه، كلِ الذي فعلُوه لم يكن خافياً على الله، كان مطلعاً عليه:

فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّىٰ يُلَـٰقُواْ يَوْمَهُمُ ٱلَّذِى يُوعَدُونَ [الزخرف:83].

حينها كيف سيكون حالهم؟

يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ ٱلاْجْدَاثِ سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إِلَىٰ نُصُبٍ يُوفِضُونَ خَـٰشِعَةً أَبْصَـٰرُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:43-44].

وطالما نظرت أبصارهم بجرائه.

وطالما اشمخرت أنوفهم بكبرياء.

أما اليوم فأبصارهم خاشعة، وكبرياؤهم ذليلة، لماذا ؟…. ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:44].

لأنهم في يوم الموعد، لقد وعدوا ذلك اليومَ.

وعدوا به في الدنيا ولكن استهانوا واستخفوا، فما بالوا وما اكترثوا ولا استعدوا فما أسرعَ ما لقوه.

وما أسرع ما شاهدوه.

وما أسرع ما أحاطَ بهم أمره، ذَلِكَ ٱلْيَوْمُ ٱلَّذِى كَانُواْ يُوعَدُونَ [المعارج:44]. هنا أيها المؤمنون بلقاء الله جل وعلا تأثرُ هذه الحقيقةُ العظمى في نفسِ المؤمنِ ووجدانِه.

فيعلم أن من اجترأ على الله وإن عاش كما يعيشُ الناس.

بل ومات كما يموت الناس فإن الجزاء الحقيقيَ ينتظر هناك.

إن الدنيا ليست دارُ جزاء ولكن دارُ عمل، وأما الآخرةُ فهي دارُ جزاء، ولا عمل.

نعم قد يعجلُ اللهُ العقوبة لبعضِ المتمردين لحكمةٍ يعلمها.

فأهلك قومَ نوحٍ، وقوم هود وقوم صالح، أهلك أمماً، وأهلك أفراداً.

أهلك فرعون وقارون وهامان وأبا جهل وأبي بن خلف.

ولكن هذا تعجيل لبعض العقوبة، وقد يتخلف هذا التعجيل فتدخر العقوبةُ كلُها ليوفى المجرم يوم القيامة فإذا عقوبته كاملة لم يعجل له منها شيء.

ولكن كل ما قارفَه في الدنيا، وإن عاش في الدنيا كما يعيش الناس، وتمتع في الدنيا كما يتمتع الناس، ثم مات ميتة طبيعية كما يموت الناس فإن كل ما فعله لم يكن يتم في غفلة من الله:

وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱللَّهَ غَـٰفِلاً عَمَّا يَعْمَلُ ٱلظَّـٰلِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلابْصَـٰرُ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِى رُءوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء [إبراهيم:42-43].

هنا نعلم أنه ليس بالحتم أن تحلَ العقوبةُ بالظالمينَ في الدنيا.

ليس بالحتم أن يعجلوا بالعقوبة.

ولكن الذي نحن منه على يقين أن ظلمَهم واجتراءهم على الله، وانتهاكَهم لحرماتِ الله،لم يجرِ في غفلةٍ من الله.

ثم ليست كلُ عقوبةٍ لابد أن تكون ماثلةً للعيان، فهناك عقوباتُ تدبُ وتسري إلى المعاقبينَ بخفية، تسري فيهم وتمضي منهم وتتمكن من هؤلاء وهم - لمكر الله بهم - لا يشعرون.

قد يملي اللهُ لظالمِ ولكن ليزدادَ من الإثمِ وليحيطَ به الظلمُ، ثم يوافي اللهَ بآثامه كلِها وجرائمهِ كلِها، ليوافي حينئذٍ جزاءه عند ربٍ كان في الدنيا مطلعاً عليه، شهيداً عليه، رقيباً عليه.

وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ خَيْرٌ لاِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِى لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ [آل عمران:178].

ليزدادوا إثماً، وانظر إلى عقوبة أخرى:

وَمِنْهُمْ مَّنْ عَـٰهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ ءاتَـٰنَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلصَّـٰلِحِينَ فَلَمَّا ءاتَاهُمْ مّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ [التوبة:75-76]. فماذا كانت العقوبة؟

هل احترقت أموالهم؟

هل قصمت أعمارهم؟

هل نزلت عليهم قارعة من السماء؟

هل ابتلعتهم الأرض؟

ماذا كانت العقوبة التي حلت بهم؟

استمع إلى العقوبة:

فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِى قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ ٱللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ [التوبة:77].

كان الجزاء أن أعقبهم الله نفاقاً مستحكماً في القلوب إلى يوم يلقونه، فهو حكم عليهم بسوء الخاتمة.

كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ [المطففين:14].

بَلْ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ [النساء:155].

هذه عقوبات تتسرب إلى القلوب في غفلة من الناس ومن الظالمِ نفسه، ولكنها عقوبات بالغة الخطورة.

ولكن العبرة بالمصير، بالمصير، يوم يفضي هذا الظالم إلى الله جل جلاله فيوافي عقوبة لا يستطيع أحد من البشر، من الخلق الذين كانوا في الدنيا يحبونه، ويوالونه وينصرونه، لا يستطيع أحد منهم أن ينصره أو يكفيه أو يتحمل عنه شيئاً من العذاب.

كانوا في الدنيا يقولون له: نحن فداك، نحن نكفيك.

لكن في الآخرة لا فداء لأن الفداء نار تلظى، لأن الفداء نار شديدة محرقة وخلود فيها، فمن الذي يفدي؟

يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ وَصَـٰحِبَتِهِ وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِى تُـوِيهِ وَمَن فِى ٱلأرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:11-14].

يود ذلك! لكن يأتي الجواب ..كلا:

كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ نَزَّاعَةً لّلشَّوَىٰ تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ [المعارج:15-17].

فمن الذي عنده استعداد للفداء.

أمة الإسلام، أيها المؤمنون بالله ولقائه نفضي من هذا كله إلى وقفات سريعة:

الوقـفة الأولى:

أنا إذا رأينا إملاء اللهِ للظالمين  وتمكينه للمجرمين فينبغي أن نعلم باليقين وإلا فنحن نعلم بالإيمان أن الجزاءَ مدخرٌ هناك، ولذا فلا دعي للبحث عن كوارث دنيوية تحل بهم.

إنك تشفق على بعض الطيبين عندما تراهم يجهدون أنفسهم في البحث عن عقوبة دنيوية حلت بهذا الظالم أو ذاك المجرم، حتى إذا لم يجدوا شيئاً قالوا الموت هو العقوبة.. كلا.

لقد مات الأطهار والأبرار والرسل الكرام، ولكن العبرة هناك في دار الجزاء.

الوقفة الثانية:

أن لا يغترَ أحدُ بأي مظهرٍ من مظاهر القوةِ أُتيها، فمظاهرُ القوةِ في الدنيا نسبية، ولكنها كلها على تفاوتها تتعطل حينما يوقفُ العبدُ بين يدي اللهَ جل جلاله.

إن الرجل يتمتع بقوة نسبية على المرأة تلك التي لا تملك إلا الدموع تستنصر بها.

لكن عليه أن يتذكر أنه إن ظلمها فلم تستطع أن تنتصر منه في الدنيا ومشى أمام الناس بطوله ورجولته فهناك موعد تذهب فيه قوته وقوامته ويتم القِصاص منه للمظلوم ولو كان ضعيفاً.

يتذكر شرطي المرور أو الدوريات:

أنه عندما يأمر بمسكين إلى التوقيف، ثم يوقف ذلك المسكين دون أن يساءل هو، وإن سئل فهو المصدق، ثم يذهب هو إلى بيته ويجلس إلى أهله ويتناول طعامه.

وذاك في التوقيف يحاول الاتصال بأهله هاتفياً وقد لا يستطيع.

ليتذكر أن هذه القوة الدنيوية ستنمحي، ستنمحي، وسيوقف هو وهذا الذي ظلمه فلم يجد في الدنيا من ينتصر له، سيوقف هو وإياه بين يدي من ينتصر له.

ليتذكر الكفيل غربة العامل وحاجة العامل:

فيجور عليه ويكلفه بما ليس من عمله ويماطله في حقه، ليتذكر أن هذه الفوارق ستنتهي.

وهذه القوة الجزئية التي يتمتع بها ستنمحي.

وهذا الضعف الذي يهيمن على هذا العامل الآن سيذهب.

وسيوقفان جميعاً بين يدي رب لا يظلم أحداً، وليس أمامه تمايز في القوى.

إن القوة التي تستمدها من جنسيتك أو بلدك ستذهب لأنك ستحشر ولكن ليس في بلدك، وستوقف أمام الله وليست معك جنسيتك، ولكن بين يدي رب لا يظلم أحداً.

ليتذكر المسؤول الإداري مهما كانت منزلته، مهما كانت مسئوليته أنه عندما يجور على موظف بنقل تعسفي أو جور إداري وهو مطمئن إلى أن هذا الموظف لا يستطيع أن ينتصف منه في الدنيا، وأن المسؤول الأعلى مصدق له مكذب للموظف المسكين.

ليتذكر أن هذا يدور في أرض لا يعزب عن الله فيها شيء، وأن هذا التفاوت في القوة سينتهي وينمحي وستوقف أنت وإياه بين يدي رب لا يظلم أحداً.

قد لا تفضي إليك العقوبة في الدنيا، قد تنال ترقياتك كاملة ورواتبك موفاة وتنال تقاعدك أو تأمينك بانتظام، بل وتموت من غير عاهة مستعصية، ولكن كل ذلك لا يعني أنك قد أفلت من العقوبة.

التاجر الذي يستغل ذكاءه التجاري فيدلس على محتاج أتى إلى سلعة:

ويستغل عبارة ركيكة مكتوبة في آخر الوصفة (البضاعة التي تشترى لا ترد ولا تستبدل).

ينبغي أن يتذكر أن هناك موقفاً لا تجديه فيه هذه الورقة، ولا ينفعه فيه الذكاء التجاري لأنه موقف بين يدي علام الغيوب المطلع على السر وأخفى.

ليتذكر كل من يتمتع بأي مظهر من مظاهر هذه القوة أن هذه القوة وإن كثرت وقويت فهي تنتهي سريعاً وتمضي جميعاً.

والعبرة بالمثول بين يدي رب تنتهي كل موازين القوى أمامه جل وتقدس وتعالى. 

أما أنت أيها المظلوم فتذكر أن الله ناصرك لا محالةَ لأنك في ملكِ من حرم الظلمَ على نفسه، وحرمَه بين عباده، وسينتهي بك المصيرُ إلى يومٍ يقتصُ اللهُ فيه للشاة الجماء من الشاة القرناء، فكيف بك أنت!

لن يفوت شيء من حقك في الآخرة وإن فات في الدنيا.

الوقفة الثالثة:

أن هذا المعنى وهو انتظار الجزاء الأخروي كما هو دافع رهبة فهو دافع رغبة.

توفي زين العابدين على بن الحسين، فلما وضع على لوح الغسل وجد المغسلون في أكتافه ندوباً سوداء، فتفكروا ! مم أتت هذه الندوب في ظهر هذا الرجل الصالح؟

واكتشف  الأمر بعد، لقد كان هذا العابد يستتر بظلمة الليل وحلكة الظلام ينقل أكياس الطعام إلى أسر  فقيرة لا يدرون من الذي كان يأتيهم بها، عرفوا بعدما مات فانقطعت تلك الصلة من الطعام.

ما الذي يحمل زين العابدين على أن يتوارى بعمل الخير ويستتر به؟

إن الذي يحمله على ذلك انتظار الجزاء الأخروي، يريد أن يوافي ربه بأجره موفوراً.

وكذا كل منا عليه أن يجعل بينه وبين ربه معاملة خاصة، سر بينه وبين الله يجهد جهده أن لا يطلع عليه أحد من الخلق حتى يوافي ربه بعمل يستوفي جزاءه منه.

الوقفة الأخيرة:

وما هي بأخيرة: أن في استحضار هذا الأمر مدد للسائرين في طريق العمل للدين والدعوة إلى الله.

إن الذي يشخص ببصره إلى الجزاء الأخروي ينظر إلى العوائق فإذا هي يسيرة.

وإلى الصعوبات فإذا هي هينة.

وإلى الضيق فإذا هو سعة لأنه ينتظر جزاء أتم وأوفى.

قتل مصعب بن عمير، وقتل حمزة بن عبد المطلب فلم يوجد ما يوارى به أحدهم إلا بردة، إن غطي بها رأسه بدت رجلاه، وإن غطيت بها رجلاه بدا رأسه، فأمر نبيك صلى الله عليه وسلم أن تغطى رؤوسهما وأن يوضع على أرجلهما من ورق الشجر.

هكذا انتهت حياة العمل للدين من غير أن يُتعجل شيء من أجورهم أو يروا شيئاً من جزائهم.

ولكن عند الله الموعد وعنده الجزاء الأوفى.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

 

 

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه.

وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد أيها الناس اتقوا الله حق التقوى، وأعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.

واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه فقال جل وعلا:

إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلَـٰئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِىّ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً [الأحزاب:56].