المحبة
لفضيلة
الدكتور محمد راتب النابلسي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، اللهم اجعل حبك أحب الأشياء
إلينا ، واجعل خشيتك أخوف الأشياء عندنا ، واقطع عنا حاجات
الدنيا بالشوق إلى لقائك ، وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم
فأقرر أعيننا من رضوانك .
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وحده لا شريك له
، ناجاه نبيه داود فقال له : " يا رب أي عبادك أحب إليك حتى أحبه
بحبك فقال الله عز وجل ، أحب عبادي إلي ، تقي القلب ، نقي
اليدين ، لا يمشي إلى أحد بسوء ، أحبني ، وأحب من أحبني وحببني
إلى خلقي ، فقال داود : يا رب إنك تعلم أني أحبك ، وأحب من يحبك
، فكيف أحببك إلى خلقك ، قال يا داود ذكرهم بآلائي ، ونعمائي
وبلائي " .
وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله ، وحبيبه وخليله ،
وخيرته من خلقه وصفيّه ، دعا ربه في الطائف ، وقد لاقى من
التكذيب والإيذاء ما لا يستطيع بشرٌ على الإطلاق أن يتحمله إلا
أن يكون نبياً ، دعا ربه فقال : إنْ لم يكن بك غضب علي فلا
أبالي ، ولك العتبى حتى ترضى لكن عافيتك أوسع لي)) .
اللهم صل ، وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه
الطيبين الطاهرين ، أمناء دعوته ، وقادة ألويته أعلام الهدى ،
وأبطال الوغى ، وارض عنا وعنهم يا رب العالمين.
عباد الله ، أوصيكم بتقوى الله ، وأحثكم على طاعته ، وأستفتح
بالذي هو خير .
من خلال التأمل الدقيق ، والنقل الصحيح ، يتضح أن الإنسان
هو المخلوق الأول والمكرم ، بدليل أن الكون كله ، بسماواته وأرضه
مسخر له ، تسخير تعريف وتكريم ، فإذا آمن الإنسان ، بأنه خالقاً
عظيماً ، ورباً كريماً ، ومسيراً حكيماً ، خلقه في أحسن تقويم ،
وكرّمه أحسن تكريم ، وفضله على كثير من العالمين ، أنعم عليه
بنعمة الإيجاد وبنعمة الإمداد ، و بنعمة الهدى والرشاد .
إن هذا الإيمان ، وذاك العرفان يحملان الإنسان على محبة
خالقه ومربيه ، فالإنسان بعقله يؤمن ، وبقلبه يحب ، وهل الإنسان
إلا عقل يدرك ، وقلب يحب .. وقد ورد في الأثر : ((أرجحكم
عقلاً أشدكم لله حباً)) .
وورد في الخبر ، أنه لا إيمان لمن لا محبة له ، فالإيمان
والحب متلازمان ، تلازم الروح وبالجسد ، فما قيمة الجسد من دون
روح كذلك ما قيمة الإيمان من دون حب ، وإذا صحَّ أن العقل
للإنسان كالمقود للمركبة ، يقودها على الطريق الصحيح ونحو الهدف
الصحيح، فإنه يصحُّ أيضاً أن القلب للإنسان كالمحرك لهذه المركبة
، يحرِّكها على هذه الطريق ونحو ذلك الهدف .. فما قيمة المقود من
دون محرك ؟ إنه الجمود والموت ، وما قيمة المحرك من دون مقود ؟
إنه الهلاك والدمار .
المحبة هي قوت القلوب ، وغذاء الأرواح ، وهي الحياة التي من
حُرمها فهو في جملة الموات ، وهي النور الذي من فقده فهو في بحار
الظلمات ، وهي الشفاء الذي من عَدِمه حلَّت به الأسقام ، وهي
اللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام ، لذلك قال صلى
الله عليه وسلم فيما رواه أنس بن مالك :((ثلاث من كُنَّ فيه ،
وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما
سواهما ، وأن يُحبَّ المرء لا يحبه إلا لله ، وأن يكره أن يعود
في الكفر ، بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يُلقى في النار))
.
[متفق عليه]
فإذا عرف الإنسان ربه أحبه ، وإذا أحبه خطب وده ، فاستقام
على أمره ، وعمل الصالحات ، ابتغاء وجهه ، عندئذ يجد حلاوة
الإيمان بعد أن ذاق جحيم الكفر ، إن الإنسان وقد عرف هذه المعرفة
، وذاق هذه الحلاوة ، يصبح شغله الشاغل ، التقرب من المحبوب ،
يقول الله تعالى فيما رواه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه ، في
حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري : ((لا يزال عبدي يتقرب إلي
بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره
الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ، ولئن
سألني لأُعطينه ، ولئن استعاذني لأُعيذنه)) .
كثيرون هم الذين يدّعون محبة الله ورسوله ، ولا تجد في
أعمالهم ما يُثبت ذلك ، إنهم خاضوا بحار الهوى دعوى ، وما ابتلوا
، ولو يُعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرقة الشجي ، لذلك طولب
المدَّعون بإقامة الدليل على صحة دعواهم ، فقال تعالى :
[سورة آل عمران]
تعصي الإله وأنت تُظهر حبَّه هذا لعمري في المقال بديـعُ
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيـعُ
***
ولقد ردَّ الله عز وجل على هؤلاء الذين قالوا : نحن أبناء الله
وأحباؤه ، فقال :
[سورة المائدة ]
ومن هنا استنبط الإمام الشافعي - رحمه الله - أن الله لا يعذب
أحبابه .
محبة الله أصل : ومن فروعها محبة النبي صلى الله عليه وسلم
، فليس أحد بعد الله تعالى أمنَّ علينا في هدايتنا ، وسعادتنا من
رسولنا صلى الله عليه وسلم .
[سورة التوبة]
لذلك قُرنت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم بمحبة الله
تعالى في معظم آيات القرآن، وفي السنة المطهرة ، قال تعالى :
[سورة التوبة]
وفي الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم : ((لا يؤمن
أحدكم حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين)) .
بل إن إرضاء الله ، هو عين إرضاء رسول الله صلى الله عليه
وسلم ، وإرضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هو عين إرضاء الله ،
قال تعالى :
[سورة التوبة]
هكذا بضمير المفرد .. ولم يقل " يرضوهما " بضمير المثنى ،
وكذلك طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم هي عين طاعة الله تعالى
، حيث يقول :
[سورة النساء]
هذا خصم عنيد من خصوم النبي صلى الله عليه وسلم في بداية
الدعوة : ما رأيت أحداً يحبُّ أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً .
وإليكم نموذجين من هذه المحبة :
ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد الحب
له ، قليل الصبر عنه ، أتاه ذات ليلة وقد تغير لونه ، ونحل جسمه
وعُرف ذلك في وجهه ، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم :((يا
ثوبان ما غير لونك " ؟ فقال : يا رسول الله ، ما بي وجع ولا ضرٌّ
غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك ، واستوحشت وحشة شديـدة حتى ألقاك
، ولولا أني أجيء فأنظر إليك ، لظننــت أن نفسي تخرج - أي
أموت - ثم ذكرت الآخرة ، وأخاف ألا أراك هناك ، لأني عرفت أنك
مع النبيين ، فلم يردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم
شيئاً)) ، لكن الله جل في علاه أجابه عن تساؤله في القرآن
الكريم فقال تعالى :
[سورة النساء]
نموذج آخر :
امرأة أنصارية من بني دينار ، تسمع إشاعة أن محمداً صلى
الله عليه وسلم قد قُتل ، في أُحد ، فيؤلمها النبأ ، وتخرج
لتستجلي الحقيقة ، وتمر على أرض المعركة ، وتجدُ في الشهداء
ابنها وزوجها وأخاها ، فلا تقف عندهم ، بل تندفع باحثة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم تسأل عنه كل من لقيت : ما فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم ؟ فيقولون : أمامك حتى وصلت إلى الرسول صلى
الله عليه وسلم ، واطمأنت على سلامته ، فأخذت بطرف ثوبه ، ثم
قالت : كل مصيبة بعدك جلل ( هينة ) ولا أبالي ما سلمت من عطب .
أية امرأة أنتِ ؟ لله درك ..
ولو أن النساء كمن رأينـا لفُضِّلت النساء على الرجال .
محبة الله أصل ، ومن فروعها محبة أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم الذين عزروه ، ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل
معه ، والذين جاهدوا معه حق الجهاد ، وبذلوا من أجل انتشار الحق
كل غالٍ ورخيص ، ونفس ونفيس ، والذين رضي الله عنهم جمعياً ،
والذين وصفهم المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال : ((علماء
حكماء كادوا من فقههم أن يكونوا أنبياء)) .
وقد أمرنا صلى الله عليه وسلم وفاءً لحق صحبتهم وتقديراً
لمكانتهم ألا نخوض فيما بينهم ، فقال : ((إذا ذُكر أصحابي
فأمسكوا)) .
[رواه الطبراني في الكبير ، عن ابن مسعود]
وقال : ((لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مُدَّ
أحدهم ولا نصيفه فهم كالنجوم ، بأيهم اقتديتم اهتديتم)) .
فهؤلاء الأصحاب ، بإيمانهم ، وثباتهم ، وبطولاتهم ،
وولائهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم استطاعوا في مثل سرعة الضوء
أن يضيئوا الضمير الإنساني بحقيقة التوحيد ، ويكنسوا إلى الأبد
وثنية القرون ، فأيُّ بذل هذا الذي بذلوا ، وأي هولٍ هذا الذي
احتملوا ، وأيُّ فوزٍ هذا الذي أحرزوا .
محبة الله أصل ، ومن فروعها محبة المؤمنين : تلك المحبة
التي تؤلف القلوب ، وتوحد الصفوف ، وتبني المجتمعات ، وتصنع
المعجزات ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم مجتمع المؤمنين في
توادهم ، وتعاطفهم ، وتراحمهم بالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو
، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وهم كالبنيان المرصوص ،
يشدُّ بعضه بعضاً ، وهم لبعضهم بعضاً ، نصحةٌ متوادُّون ، ولو
ابتعدت منازلهم ، بينما المنافقون بعضهم لبعض ، غششةٌ متحاسدون
ولو اقتربت منازلهم .
لذلك .. يجب ألا نعجب إذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم حب
المؤمنين علامة كافية على صحة الإيمان ، وصدقه ، بل جعل محبة
المؤمنين شرطاً وحيداً لوجود الإيمان في الرجل فقال :((والذي
نفسي بيده ، لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى
تحابُّوا)) .
[أخرجه مسلم في صحيحه رقم 93 ، وأخرجه الإمام أحمد والترمذي
وغيرهم عن أبي هريرة ]
روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي موسى الأشعري رضي الله
عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أيها الناس ،
اسمعوا واعقلوا واعلموا أن لله عز وجل عباداً ليسوا بأنبياء ولا
شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم ، وقربهم من الله
، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى الني
صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ناسٌ من الناس ليسوا
بأنبياء ولا شهداء ، يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم ،
وقربهم من الله انعتهم لنا ، فسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم
بسؤال الأعرابي فقال : هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم
تصل بينهم أرحام متقاربة تحابُّوا في الله وتصافوا يضع الله لهم
يوم القيامة منابر من نور فيجلسون عليها ، فيجعل وجوههم نوراً ،
وثيابهم نوراً ، يفزع الناس يوم القيامة وهم لا يفزعون وهم
أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون)) .
وفي الحديث القدسي : ((وجبت محبتي للمتحابين فيَّ
وللمتجالسين فيَّ وللمتزاورين فيَّ وللمتباذلين فيَّ)) .
[أخرجه الإمام أحمد في مسنده والطبراني في الكبير ]
وفي حديث آخر :
((المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون
والشهداء)) .
[أخرجه الترمذي في كتاب الزهد 2390 ، وقال حسن صحيح]
وروى مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه
ما يحب لنفسه)) ، وفي رواية : ((وحتى يكره له ما يكره
لنفسه)) ، فالمراد بأحدكم في الحديث : كل المسلمين في كل
العصور ، وكل الأمصار ، لرواية أخرى تقول : ((لا يؤمن أحدٌ أو
عبدٌ )) ، وإن كان بهذه الصيغة خاصاً بالمشافهين ، الذين
عاصروا النبي ، والمراد بالأخ في الحديث من له أخوة الإسلام
مطلقاً .. كما ورد في بعض الروايات : ((لأخيه المسلم)) ،
فالمسمون على اختلاف شعوبهم ، وقبائلهم، وديارهم ، وألسنتهم ،
وألوانهم هم أسرة واحدة ، قال تعالى :
[سورة الحجرات]
ويستفاد من كلمة إخوة التي تعني أخوة النسب أن أخوة
الإيمان أعلى درجات الأخوة، ويستفاد من كلمة إنما أن الأخوة
الحقة قاصرة على المؤمنين ، وكل علاقة أخرى لا تقوم على الإيمان
، علاقة أساسها المنافع تدوم بدوامها ، وتزول بزوالها ، وفي
رواية للنسائي: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه ،
من الخير)) ، وهذه الكلمة : ((من الخير)) قيد لا بد
منه ، لأن من كان يحب لنفسه شيئاً من المشتهيات المحرمة ، ليس من
الإيمان أن يحب لأخيه مثلها ، فالمراد ((بالخير)) في
الحديث ما هو خير شرعاً ، والخير الشرعي يتناول الحظوظ الأخروية
كلها ، كالعلم النافع ، والعمل الصالح ، والعبادة الخالصة ،
والعاقبة الحُسنى .. ولا يتناول من حظوظ الدنيا إلا ما كان
مباحاً غير مذموم ، كسعة الرزق من الحلال ، ونجابة الأولاد ،
وطول العمر ، والسلامة من المكاره.
رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان معتكفاً في
مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه رجل فسلم عليه ، ثم
جلس فقال له ابن عباس : يا فلان ، أراك مكتئبا حزيناً؟ قال : نعم
، يا ابن عم رسول الله ؛ لفلان عليَّ حق ولاءٍ ، وحرمةِ صاحب هذا
القبر ما أقدر عليه .. قال ابن عباس : ألا أكلمه فيك ؟ قال : إن
أحببت ، قال : فانتعل ابن عباس ، ثم خرج من المسجد ، فقال له رجل
: أنسيت أنك معتكف ؟ قال : لا ولكني سمعت صاحب هذا القبر ،
والعهد به قريب ، فدمعت عيناه ، وهو يقول : ((من مشى في حاجة
أخيه ، وبلغ فيها كان خيراً له من اعتكاف عشر سنين ، ومن اعتكف
يوماً ابتغاء وجه الله تعالى جعل الله بينه وبين النار ثلاثة
خنادق ، كل خندق أبعد ما بين الخافقين)) .
[ورد في كنز العمال 24019 ،ورواه الخطيب وقال غريب ورواه
الطبراني في الكبير ورواه الحاكم]
وفي الحديث : ((لأن أمشي مع أخٍ لي في حاجة ، خير
لي من صيام شهر واعتكافه في مسجدي هذا)) .
[أورده السيوطي في الجامع الصغير ]
ومن ثمار المحبة بين المؤمنين إذاً ، التراحم ،
والتعاون ، والتضامن ، والتكافل ، والمؤاثرة ، فقد أمر الله
المؤمنين بالتعاون فيما بينهم ، إلا أنه قيد التعاون بأن يكون
تعاوناً على البر والتقوى ، لا تعاوناً على الإثم والعدوان ..
قال تعالى :
[سورة المائدة ]
قال علماء التفسير : التعاون على البر هو التعاون على صلاح
الدنيا ، والتعاون على التقوى هو التعاون على صلاح الآخرة ، وفي
الدعاء النبوي الشريف : ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة
أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي)) .
[أخرجه مسلم]
فمن التعاون : التناجي بين المؤمنين في صلاح دنياهم
وآخرتهم ، والمشاركة في إبداء الآراء ، وتوضيح الحقائق ، وتشخيص
المشكلات ، والبحث عن الحلول ، وتذليل العقبات ، فليس من سمات
المؤمن الصادق الفردية والانعزالية والسلبية ، والهروب من حلِّ
المشكلات ، قال تعالى:
[سورة المجادلة]
لذلك تُعدُّ الشورى من مظاهر التعاون الفكري ، أمر بها رسوله
فقال :
[سورة آل عمران]
ووصف بها المؤمنين فقال :
[سورة الشورى]
ومن التعاون بين المؤمنين تنفيس الكروب وتيسير
الخطوب وستر العيوب لقول النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة
برواية مسلم :((من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله
عنه كربة من كرب يوم القيامة ، ومن يسر على مُعسر يسَّر الله
عليه في الدنيا والآخرة ، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا
والآخرة ، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)) .
فتنفيس الكروب هو تفريجها وإزالتها ، والكروب جمع كربة
، وهي الحزن والغم ، الذي يأخذ بالنفس فيضغط عليها ضغطاً مؤلماً
، وهنا يأتي دور المؤمن في مساعدة أخيه في تنفيس كربة ، فإذا
كانت كربة أخيه من جهة فقره ، وحاجته ساعده حتى يسدَّ حاجته ،
ويرفع عنه ضرورته ، سواء أكان ذلك في ماله ، أم في سعيه الحسن ،
وإن كانت كربة أخيه بسبب حاجته إلى قرض حسن ليدفع ضرورة مُلحَّة
أقرضه ، وإن كانت كربة أخيه بسبب مصيبة حلَّت به واساه ، وساعده
حتى تنفرج عنه الكربة ، وإن كانت بسبب حاجته إلى شفاعة حسنة شفع
له ، وإن كانت بسبب حاجته إلى زواج سعى بتزويجه ، وإن كانت بسبب
حاجته إلى عمل ، سعى في تهيئة العمل الملائم له ، وإن كانت بسبب
حاجته إلى تداوٍ من علة جسمية أو نفسية ، سعى له في العلاج
المناسب حتى يُنفِّس عنه كربته .. وقل مثل ذلك في التيسير والستر
والمعونة .
محبة الله أصل ، ومن فروعها أن تنصف الناس جميعاً على
اختلاف مللهم ونحلهم ، وأن ترحمهم ، وتُعينهم في أمر دينهم
ودنياهم ، لأن الخلق كلهم عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم
لعياله ، والنبي صلى الله عليه وسلم ينفي عن الرجل انتماءه
للإسلام إذا غش كائناً من كان فقال : ((ليس منا من غش)) .
[رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي هريرة ]
محبة الله أصل ، ومن فروعها أن ترفق بالمخلوقات جميعاً ، وأن
ترحمهم ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ((لعن الله من مثَّل
بالحيوان)) .
[رواه البخاري ومسلم ]
ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يُقتل شيء من الدواب
صبراً ، ونهى عن التحريش بين البهائم ، وأن يتخذ شيء من الروح
غرضاً ، أي هدفاً في الرمي ، روى الإمام البخاري أن الرسول
الكريم صلى الله عليه وسلم قال : ((دخلت امرأة النار في هرة
ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض)) .
وروي أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((غُفر
لامرأة مرَّت بكلب على رأس بئر يلهث يكاد يقتله العطش فنزعت
خُفَّها ، فأوثقته بخمارها ، فنزعت له من الماء فغُفر لها بذلك))
.
الخطبة الثانية :
يقول الله تبارك وتعالى :
[سورة الأنفال]
كيف تكون هذه المحبة والألفة ؟ وما شروطها وموجباتها ؟ وما
ثمارها ونتائجها ؟
يتضح ذلك كله من قصة عمير بن وهب الجمحي الذي نجا من الموت
في معركة بدر ، وخلَّف ابنه وهباً أسيراً في أيدي المسلمين ..
جلس ذات يوم في فناء الكعبة ، مع صفوان بن أمية ، سيد قريش وزعيم
الشرك ، يتذاكران بدراً ، فقال عمير لصفوان : ورب الكعبة ، لولا
ديون عليَّ ليس عندي ما أقضيها ، وعيال أخشى عليهم الضياع من
بعدي لمضيت إلى محمد، وقتلته ، وحسمتُ أمره ، وأرحتكم منه ، فقال
صفوان : يا عمير ، اجعل دينك كله علي ، فأنا أقضيه عنك مهما بلغ
، وأما عيالك فسأضمهم إلى عيالي ما امتدت بي وبهم الحياة ، وإن
في مالي من الكثرة ما يسعهم جميعاً ، ويكفل لهم العيش الرغيد ،
فامض لما أردت ، عندها أمر عمير بسيفه فشُحِذ ، وسُقيَ سماً ،
ودعا براحلته فأعدّت ، وقُدِّمت له ، ويمم وجهه شطر المدينة ،
وملء برديه الضغينة والشر ، ولما بلغها مضى نحو المسجد ، يريد
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلمحه سيدنا عمر رضي الله عنه ،
وهو على باب المسجد ، فأقبل عليه ، وأخذ بتلابيبه ، وطوَّق عنقه
بحمالة سيفه ، ومضى به نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :
يا رسول الله هذا عدو الله عمير بن وهب جاء يريد شراً .. فلما
رآه النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحال قال لعمر : أطلقه ،
فأطلقه ، ثم قال له : استأخر عنه ، فتأخر عنه، ثم توجه النبي صلى
الله عليه وسلم إلى عمير ، وقال له : ادن مني يا عمير ، فدنا
فقال له : ما الذي جاء بك يا عمير ؟ قال : جئت أرجو فكاك هذا
الأسير ، الذي في أيديكم فقال له: فما بال هذا السيف الذي في
عنقك ؟ قال : قبَّحها الله من سيوف ، وهل أغنت عنا شيئاً يوم بدر
؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تقل لصفوان في فناء
الكعبة عند الحجر : لولا دين عليَّ ، وعيال عندي لخرجت حتى أقتل
محمداً ، فتحمَّل لك صفوان بن أمية دينك وعيالك على أن تقتلني ،
والله حائلٌ بينك وبين ذلك ، فذهل عمير .. وقال : أشهد أنك لرسول
الله ، لأن خبري مع صفوان لم يعلم به أحد إلا أنا وهو ، ووالله
لقد أيقنت أنه ما أتاك به إلا الله ، فالحمد لله الذي ساقني إليك
، ليهديني إلى الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم : ((فقهوا
أخاكم في دينه ، وأقرئوه ، وعلموه القرآن ، وأطلقوا أسيره ..
ففعلوا)) .
[كنز العمال 13/37455]
وموطن الشاهد في هذه القصة ، أن سيدنا عمر رضي الله عنه
قال بعد أن آمن عمير بن وهب بالله ورسوله ، واصطلح مع الله
ورسوله : دخل عمير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والخنزير
أحبُّ إلي منه ، وخرج من عنده وهو أحبُّ إلي من بعض أبنائي ،
ولنذكر قوله تعالى :
[سورة آل عمران]
حينما نؤمن بالحقيقة نفسها ، ونسعى لهدف واحد ، ونسلك
سبيلاً واحداً ، وحينما نتمثل القيم الإنسانية الرفيعة ، ونتخلق
بالأخلاق الأصيلة التي تسمو عن الزمان والمكان يكون اللقاء
حتمياً ، والحب صادقاً والتعاون مثمراً ، وتحقق خلافة الإنسان في
الأرض وتصبح البشرية في أرقى أطوارها .
الدعاء :
لندع الله مخلصين كما أمرنا ، فالله جل في علاه كما لا يحب العمل
المشترك الذي فيه إشراك، لا يحب القلب المشترك ، العمل المشترك
لا يقبله ، " أنا أغنى الأغنياء عن الشرك "، العمل المشترك لا
يقبله ، والقلب المشترك لا يقبل عليه ، الإخلاص الإخلاص .
اللهم ارزقنا حبك ، وحب من يحبك ، وحب عمل صالح يبلغنا حبك .
اللهم ما رزقتنا فيما نحب فاجعله قوةً لنا فيما تحب ، وما زويت
عنا ما نحب فاجعله فراغاً لنا فيما تحب .
اللهم اجعل حبك أحب إلينا من أنفسنا وأهلنا وأموالنا والناس
أجمعين .
اللهم ارزقنا حب الخيرات ، وترك المنكرات ، وحب المساكين وإذا
أردت بعبادك فتنة فتوفنا إليك غير فاتنين ولا مفتونين .
اللهم انصر إخوتنا في الأراضي المحتلة على أعدائك وأعدائهم اللهم
اجعل تدمير أعدائهم في تدبيرهم ، واجعل الدائرة تدور عليهم يا رب
العالمين .
اللهم أعل ، كلمة الحق والدين ، وانصر الإسلام وأعزَّ المسلمين
.
اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفقه لكل خير ، ومن
أراد بهم غير ذلك فخذه أخذ عزيز مقتدر . اللهم وفق ولاة المسلمين
، في مشارق الأرض ومغاربها لما تحب وترضى ، اللهم ألف بينهم ،
ووحد كلمتهم واجمعهم على الحق والخير والهدى ، يا رب العالمين .
|