حتى يمضي عصر الاستعباد

عقب ثورتنا المجيدة صحنا جميعًا بأعلى أصواتنا: "ارفع رأسك فوق..إنت مصري" ورددنا مقولتي عرابي وعبد الناصر. والسؤال الذي يطرح نفسه: يا تُرى هل يمضي فعلًا عصر الاستعباد، أم أنه باق لا محالة؟!


منذ ما يقرب من مائة وثلاثين عامًا صرخ أحمد عرابى في وجه الخديوي توفيق أمام قصره بعابدين قائلًا:" لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم" ولم يجد الخديوي أمامه خيارًا إلا أن ينصاع إلى مطالب الثوار، وتم إقرار أول دستور مصري في فبراير 1882م وتشكل مجلس النواب، وتقررت الحصانة البرلمانية لأعضائه لأول مرة في تاريخ الحياة السياسية المصرية، ولكن سرعان ما فشلت الحركة العرابية وَوُرِّثنا واستُعبِدنا أعوامًا عديدة.

وبعدها بـسبعين عامًا صاح جمال عبد الناصر عقب ثورة 23 يوليو 1952م قائلًا: "ارفع رأسك يا أخي لقد مضى عهد الاستعباد"، وكان رجاء المصريين في بداية عهد جديد يتمتعون فيه بالحرية والرخاء لكنهم وللأسف الشديد عاشوا نحوًا من ستين عامًا في مسلسل متتابع للاستعباد والاستبداد.


وعقب ثورتنا المجيدة صحنا جميعًا بأعلى أصواتنا: "ارفع رأسك فوق..إنت مصري" ورددنا مقولتي عرابي وعبد الناصر.
والسؤال الذي يطرح نفسه: يا تُرى هل يمضي فعلًا عصر الاستعباد، أم أنه باق لا محالة؟!

وللإجابة عن هذا السؤال أقول: إن بقاء عصر الاستعباد أو عدم بقائه أمر قائم على إرادة أربع وثمانين مليون مصري بعد إرادة الله عز وجل، فبإرادتنا أن نُنهي هذا العصر وننعم بالحرية والعدل والمساواة.

فحتى يمضي عصر الاستعباد علينا أن نعيد روح 25 يناير من جديد، ونتذكر كيف توحد الشعب على اختلاف انتماءاته وتوجهاته في ميدان التحرير من أجل هدف واحد، علينا أن نبحث عن التوافق المصري ونترك التنافر ونتعلم أدب الخلاف فنختلف دون أن نُجَرِّح في بعضنا البعض.

ينبغي أن يقف الصراع بين المؤسسات والتيارات الإسلامية وبين تيارات الحداثة العلمانية والليبرالية إلى هذا الحد، وأن يجلس الطرفان سويًا على مائدة الحوار ويتركوا التنابذ والتراشق بالألفاظ في الصالونات والمؤتمرات وعلى الفضائيات، ونبحث سويًا عما يحقق مصلحة البلد لا مصالح الأشخاص، حتى لا يكفر بقية الشعب بكلا التيارين ولا يجد أمامه سوى المجلس العسكري فيلجأ إليه طامعًا في عودة الأمن والاستقرار بأقصى سرعة، فيبقى الوضع على ما هو عليه وتفشل الثورة في تحقيق أسمى مطالبها "الحرية، العدالة، المساواة".


لقد استطاع أجدادنا منذ مائتي عام أن يفرضوا رأيهم على الخليفة العثماني ويعزلوا خورشيد باشا لأنهم لم يرتضوا حكمه، وقاموا بإسناد الولاية إلى محمد على باشا، واشترطوا عليه أن يرجع إليهم في شئون الدولة، وأن يسير بالعدل ويقيم الأحكام والشرائع، ويقلع عن المظالم، وأنه متى خالف تلك الشروط عزلوه، فوضعوا بذلك قاعدة الحكم الدستوري في البلاد، فاستطاعوا أن يحققوا هذا المستوى من الوعي بحقوقهم، بل انتزعوا تلك الحقوق فعلًا وبالقوة؛ وإن آل الأمر كالعادة بعد ذلك إلى قيام محمد علي بتوريث الحكم لأسرته لمدة مائة وخمسين عامًا.

ولكن ويبقى السؤال الأهم: تُرى هل سننجح اليوم فيما نجح فيه أجدادنا في بداية القرن التاسع العشر دون أن نفشل في نهاية الأمر كما فشلوا؟!


حتى ننجح علينا أن لا نسمح لأحد كائنًا من كان أن يجعل نفسه وصيًا على الشعب، ولا نوقع لأحد على بياض بدعوى الحرية والليبرالية أو حتى باسم الدين، وإنما ننظر بأنفسنا في المرشحين ونختار من يصلح لقيادة هذا البلد العظيم، فنسعى إلى اختيار صاحب القوة والأمانة والحفظ والعلم كما علمنا القرآن الكريم؛ إن الرهان اليوم على وعي الشعب وعلمه أن الحاكم ما هو إلا موظف ووكيل عن الأمة، وأنه لا سيادة ولا وصاية لفرد من الأفراد ولا لطبقة من الطبقات على الأمة وإنما السيادة لله وحده.

يجب علينا أن نعلم جميعًا أن المسئولية اليوم لا يحملها عالم شرعي ولا داعية ولا مفكر ولا مثقف ولا صحفي، بل ولا حاكم ولا محكوم لوحده وإنما هو مشروع الكل، حتى لا نورَّث بعد اليوم، حتى نرفع رؤوسنا لأعلى، حتى ننعم في مصر جديدة شعارها: " العدل أساس الملك".
وفق الله مصر لما فيه الخير، اللهم ولِّ أمورنا خيارنا ولا تولِّ أمورنا شرارنا..


عبد الرحمن جمال المراكبي