هلوسة الطاغية.. ومجازر الحولة والقبير

خطابك أيّها السفّاح! لا يخرج عن المقولة المهينة، التي ينشرها أتباعك المجرمون، ويكتبونها في كلّ مكان: "الأسد أو نحرق البلد!". وهيهات هيهات لكم أن تنالوا ذلك! فقد من أحرق قبلك نيرون روما، ولكنّ روما عادت، ومضى نيرون إلى مزبلة التاريخ!


عندما يعيش المجرم الهارب من العدالة كوابيس جرائمه في الليل والنهار، ويعيش الهزيمة النفسيّة والعزلة الخارجيّة، ويشعر أنّه يلاحق في كلّ لحظة، ويهرب من كلّ شيء، حتّى من نفسه التي بين جنبيه، في هذه الحالة النفسيّة المريرة لا بدّ له أن يأخذ جرعة كبرى من الخداع لنفسه، ومحاولة خداع الآخرين، أو يواجه الانهيار النفسيّ المدمّر، ويبدو أنّ عتاة الطغاة المجرمين على مدار التاريخ يسلكون السبيل الأوّل، لأنّه أنسب لهم فيما مردوا عليه من إجرام، لا ينزعون عنه حتّى آخر رمق من الحياة!

لقد عشت ساعة قسر مع هلوسة طاغية العصر، فيما سمّي خطابًا أمام مجلس التهريج والتصفيق، عشت ساعة وأنا أغالب نفسي على سماع كلماته المغثّية، لحجم الكذب الذي تتمتّع به بامتياز لا يغبط عليه صاحبه.. وكان هدفي من قسر نفسي على ذلك أن اكتشف كيف يفكّر هذا المخلوق؟ وهل هو مقتنع بما يقول؟ وماذا وراء هذه الكلمات من شخصيّة؟ وقد خرجت من سماع خطابه إلى جملة حقائق، يسع القارئ أن يضيف عليها ما شاء، فأنا لم أحاول الوقوف عند كلّ مقطع من خطابه، لأنّه أتفه من تضييع الوقت وراء هرائه وأكاذيبه..
 

يا قاتلَ الأطفالِ، يومُكَ آتِ *** سَتَنَالُ فيه مَرَارةَ الحَسَراتِ
أبْشِرْ بيومٍ كالحٍ تَلْقى به *** من بَعْدِ ذُلِّ العيشِ ذُلَّ مماتِ
يا قاتلَ الأطفالِ، قلبُكَ مِجْمَرٌ *** للحِقْدِ، يُرْسِلُ أقبحَ النَّبَضَاتِ
ما أنتَ بالإنسانِ، فالإنسانُ لا *** يُلْقِي قذائفَة على الفَلَــــذَات
يا قاتلَ الأطفالِ في شامِ العُلا *** يا زارعَ الأَلْغَامِ في الطُّرُقاتِ
ما أنتَ إلاّ عَقْرَبٌ تَنْدَسُّ في*** أثوابِ أبناءٍ لنــــــــا وبنــــات
يا قاتلَ الأطفالِ، يا مُتَمَسِّحًا *** بسفاسفِ الإفــــرنج و(الآياتِ)
ستراكَ عينُ الشامِ أقبحَ راحلٍ *** عنها، وتُبْصِرُ منكَ شرَّ رُفَاتِ
يا قاتلَ الأطفالِ يا مُتَمِرِّسًا في ** قتلِ ما ينـــــــمو من الزَّهَرَاتِ
عُذْرًا إلى شِعْرِي فقد دنَّسْتُه *** بقبيحِ ذِكْرِكَ يا أَخَـــا النَّزواتِ
يا قاتلَ الأطفالِ، تلك جريمةٌ *** خَتَمَتْ عليكَ بخـــاتَمِ اللعَناتِ
هي مُبْتَغَاكَ ومُنْتَهاكَ، وهكذا *** بالجُرْمِ يُنْهي اللهُ حُــكْمَ طُغَاةِ



هذا المخلوق ولا أقول: الإنسان أو الرجل، أو البشر، لأنّ ما قام به لا يمتّ إلى شيء من هذه الأوصاف بصلة! هذا المخلوق يحاول في خطابه الهذيانيّ المهلوس أن يدفع عن جرائمه، وكأنّه أمام محكمة تسيطر على كيانه، وقد واجهته بكتلة من الجرائم التي تلاحقه، وهو يحاول التنصّل منها واحدة تلو الأخرى، بأنواع من الكذب المكرور، الذي ملّته أسماع الناس، ولكنّه هو وإعلامه لا يزال يراهن عليه ويصرّ، ويصرّ على المخادعة عن كلّ الحقائق المشهودة، والهروب من الواقع، وتجاهل وقائعه..


هلوسة هذا المخلوق الطاغية وأكاذيبه ذكّرتني: بموقف لعمرو بن العاص رضي الله عنه قبل أن يسلم، وكان صديقًا لمسيلمة الكذّاب، فالتقاه، فقرأ عليه مسيلمة شيئًا من افتراءاته الركيكة، التي يدّعي أنّها تنزّل عليه، ثمّ سأله عن رأيه فيما سمع فقال له عمرو: "والله إنّك لتعلم أنّي أعلم أنّك تكذب"، إنّه الكذّاب المزدوج، الذي يعلم أنّ الناس يعلمون كذبه، وأنّه يعلم كذب نفسه، ومع ذلك، فهو يكذب ويكذب..

وربّما تساءل بعض الناس: فلماذا يصرّ على الكذب إذًا؟ لأنّه باختصار القول: كذّاب.. والكذّاب كما هو معلوم صيغة مبالغة تعني أنّه لا يستطيع الفكاك عن الكذب في ليله ونهاره، وسرّه وإعلانه، والكذب جزء من شخصيّته وكيانه، وربّما ظنّ أنّ الناس مثله في الكذب، ويصدّقونه فيما يكذب.. ولكنّهم ربّما تظاهروا بتصديقه، لأنّ كذبه يحقّق مصالحهم..

تبدو شخصيّة هذا المخلوق في خطابه، الذي يبدئ ويعيد في كلماته، وكأنّه يستجرّها من بحر لجّيّ ظلماته بعضها فوق بعض.. تبدو شخصيّته مهزوزة من أعماقها مضطربة، وكأنّها تجيب على اتّهامات تلاحقها وتنصبّ عليها كوابل الرصاص، الذي تصبّه شبّيحته ومجرموه العتاة، على المدنيّين الأبرياء.. وتقول له: "ويحك! إنّك أنت القاتل! أنت القاتل!" ويستنجد هذا المخلوق في خطابه البائس السخيف باستدلال شريف، بجهاد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، بقوله وهو ملق طرفه إلى أسفل، ويلقي القول على عجل، لأنّه يسمع صيحة تزمجر به من هذا الاستدلال الشريف: "ما لك أيّها المجرم الكذّاب! ولهذا الاستدلال؟! الذي تريد به الإساءة إلى مقام المصطفى نبيّ الهدى والرحمة! وأين عمل المجرم المفسد، القاتل المخرّب، من عمل النبوّة الأجلّ؟" إلاّ إذا مُثّل لنور الشمس بعمى البصر!


ويقول له مِثل ذلك استدلالُه بجراحة الطبيب، على ما يقوم به من جرائم قتل وتدمير، وحصد لأرواح الآمنين.. وهل رأيتم طبيبًا يعبث بجسد إنسان، لا يشكو علّة ولا مرضًا جرحًا وتقطيعًا، واستنزافًا لدمه بحجّة تطبيبه ومداواته؟! ولكنّ طاغية العصر يستخفّ بعقول الناس، ويريد بكلّ وسيلة أن يعطي جرعة من الثقة لمن بقي معه من المجرمين، بما يقومون به من إجرام وإفساد، وهو يرى يومًا بعد يوم موجات الانشقاقات عن نظامه تزلزل طغيانه، وتمزّق من كلّ جانب كيانه..

ويحاول هذا المخلوق البائس الضرب -ضربه الله بكلّ بليّة ورزيّة- على وتر الممانعة والمؤامرة، والتخوين، وارتهان الثائرين للخارج، وأخذهم ألفي ليرة سوريّة ثمنًا بخسًا لقتل أنفسهم! كلّ ذلك ليبرّر جرائم ميلشياته وشبّيحته، وليبرّر عجزه عن وأد هذه الثورة الشعبيّة المتنامية، وهي شنشة سخيفة خرقاء، قد ملّت منها الأسماع، ولكنّ العُميَ من زبانيّته لا يملّون منها ولا يشبعون صرف الله قلوبهم، بأنّهم قوم لا يفقهون، ومثل ذلك تكراره السخيف المملّ للحديث عن حزمة -أو جزمة الإصلاحات-، التي تصنع تحت قبّة المجازر والمحارق، إنّه لا يستخفّ بذلك إلاّ عقول السفهاء الأغبياء من أمثاله، في الوقت الذي يمهر الشعب بكلّ فئاته حرّيّته وكرامته بدماء أطفاله ونسائه، وشيبه وشبابه.. ولا يرضى عن ذلك بديلًا إلاّ الشهادة وجنان الخلد..


خطابك أيّها السفّاح! لا يخرج عن المقولة المهينة، التي ينشرها أتباعك المجرمون، ويكتبونها في كلّ مكان: "الأسد أو نحرق البلد!". وهيهات هيهات لكم أن تنالوا ذلك! فقد من أحرق قبلك نيرون روما، ولكنّ روما عادت، ومضى نيرون إلى مزبلة التاريخ!


وأخيرًا: أتدري أيّها القارئ الأبيّ ما الأعجب والأغرب من هذا الخطاب الغبيّ؟! إن كنت لا تدري فأنا أقول لك: الأعجب والأغرب من هذا الخطاب أن يبقى أحد عنده مسكة عقل يصدّق هذا الكذّاب.. وما دام الطاغية الكذّاب يرى في الناس أمثال هؤلاء الأغبياء، فمن حقّه أن يلقي عليهم خطابه، ويمتّع عقولهم الخرقاء بأكاذيبه، وقبل ذلك وبعده، فلله في خلقه شئون: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88]. {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء: 227].


أيّها الطاغية المجرم! أسأل الله جلّ في علاه أن يبرّ قسمي: والله الذي لا إله غيره، بإذن الله، لتموتنّ شرّ ميتة ماتها الطغاة من قبلك، لتقتلنّ بأيدي الثوّار الأحرار، أو لتموتنّ كلّ خليّة مجرمة فيك آلاف الميتات قبل أن تموت، وتتمنّى الموت فلا تراه، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى، ولك المَثل بالمجرم الطاغية شارون، وما إجرامك بأقلّ منه وأدنى..


د. عبد المجيد البيانوني
 

<