بيع العِينة

الشيخ عبد الله بن عبد العزيز العقيل

السؤال: سائل يسأل عن مسألة بيع العينة التي يتعامل بها بعض الناس: يبيع التاجر للفلاح أكياس السكر بسعر ثمانين مؤجلة، ثم يشتريها منه بسعر ستين حالَّة، ويزعمون أن بعض أهل العلم قد أجازها؛ فنطلب منكم الفتوى في ذلك، وبيان حكمها مستوفى، وما ورد فيه أثابكم الله.
الإجابة: بيع العينة نوع من أنواع البيوع المحرمة؛ لما فيها من الربا. ووسائلُه وَصِفَتُها كما شرح السائل باستفتائه أعلاه: أن يبيع التاجر أكياس السكر مثلا للفلاح بسعر ثمانين مؤجلة، ثم يشتريها منه بسعر ستين حالَّة، فكأنه باعه ستين نقدا بثمانين مؤجلة، وهذا هو الربا؛ ولهذا ذهب الجماهير من أهل العلم إلى تحريمها؛ مستدلين بما ورد فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم من النهي عنها، وتوعد مَن فعلها. فمن ذلك حديث ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا ضن الناس بالدينار والدرهم، وتبايعوا بالعينة، واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله عليهم بلاء لا يرفعه عنهم، حتى يراجعوا دينهم" (1) (رواه الإمام أحمد وأبو داود).

وهذا الوعيد منه صلى الله عليه وسلم دال على التحريم. ومما ورد فيها حديث أبي إسحاق السبيعي عن امرأته: أنها دخلت على عائشة في نسوة، فسألتها امرأة. فقالت: يا أم المؤمنين، كانت لي جارية، فبعتها من زيد ابن أرقم بثمانمائة إلى العطاء، ثم ابتعتها منه بستمائة، فنقدته الستمائة، وكتبت عليه ثمانمائة؟ فقالت عائشة: بئسما اشتريت، وبئسما اشترى زيد ابن أرقم، إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب. فقالت المرأة: أرأيت إن أخذت رأس مالي، ورددت عليه الفضل؟ قالت: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2) (رواه البيهقي، والدارقطني، وعبدالرزاق في مصنفه) (3).

ففي قول عائشة: إن زيدا أبطل جهاده إلا أن يتوب، دليل واضح على تحريم هذا البيع. وفي الباب آثار عن الصحابة وغيرهم.

▪ وقد ذهب إلى تحريم بيع العينة جمهور أهل العلم. منهم: ابن عباس، وعائشة، والحسن، وابن سيرين، والشعبي، والنخعي، وبه قال أبو الزناد، وربيعة، وعبد العزيز بن أبي سلمة، والثوري، والأوزاعي، ومالك، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وهو مذهب الإمام أحمد بن حنبل.

وقال ابن القيم في (تهذيب سنن أبي داود): قد ثبت عن ابن عباس، أنه سئل عن رجل باع من رجل حريرة بمائة درهم نسيئة، ثم اشتراها منه بخمسين نقدا. فقال: دراهم بدراهم متفاضلة دخلت بينهما حريرة (4). وفي رواية: إن الله لا يُخدع. هذا مما حرمه الله ورسوله.
والحريرة: خرقة من الحرير المعروف.

▪ وأما من أجاز العينة، فيستند إلى ما ذكره الإمام الشافعي في (الأم): من أنه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها، فجاز من بائعها، كما لو باعها بثمن مثلها. وهذا لا يقوى على معارضة النصوص الثابتة في تحريم بيع العِينة مما ذكرناه وغيره.

▪ وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (إقامة الدليل على إبطال التحليل): لم يبلغنا أن أحداً من الصحابة والتابعين رخص في ذلك -يعني: بيع العِينة- بل عامة التابعين من أهل المدينة، والكوفة، وغيرهم على تحريم ذلك، فيكون حجة، بل إجماعا. ثم قال: ولا يجوز أن يقال: فزيد بن أرقم قد فعل هذا؛ لأن زيدا لم يقل: إنه حلال، بل يجوز أن يكون فعله جريا على العادة من غير تأمل، ولا نظر، ولا اعتقاد؛ ولهذا لم يُذكر عنه أنه أصر على ذلك بعد إنكار عائشة. وكثيرا ما يفعل الرجل النبيل الشيء مع ذهوله عما في ضمنه من مفسدة، فإذا نُبِّهَ انتبه. انتهى.

وسميت هذه المسألة بالعينة؛ لأن مشتري السلعة إلى أجل يأخذ بدلها من صاحبها عَينا، أي: دراهم نقدا، فكأنه لم يقصد السلعة، وإنما قصد العَين:
قال الشاعر:
أنَعْتَانُ أَمْ نَدَّانُ أَمْ يَنْبَرِي لَنَا فتَى مِثْلُ نَصْلِ السَّيْفِ مِيزَتْ مَضَارِبُهْ

ومعنى نعتان: نشتري بالعينة.

.. وذكر الفقهاء: أن عكس مسألة العِينة مثلُها في التحريم.
وصورتها: أن يبيع الفلاح للتاجر سلعة بستين نقدا، ثم يشتريها منه بثمانين مؤجلة؛ لأن معناهما واحد؛ فهي دراهم بدراهم متفاضلة، دخلت بينهما هذه السلعة.

▪ وقد استثنى الفقهاء من مسألة العينة صوراً، وصححوا فيها البيع: مثل ما إذا تغيرت صفة السلعة، بعد ما اشتراها الفلاح: كبعير هزل، أو حَبٍّ سَوَّسَ؛ فصار لا يساوي قيمته. ومثل ما إذا باعها الفلاح لرجل آخر، ثم اشتراها التاجر من ذلك الرجل بأنقص من ثمنها الأول. ومثل ما إذا باعها الفلاح للتاجر بثمنها دون نقص، أو بأكثر من ثمنها، فهذا لا محذور فيه. ومثل ما إذا اشتراها التاجر من الفلاح بعد أن استوفى منه ثمنها. ففي هذه الصور العقد صحيح؛ لأنها تخرج عن مسألة العِينة. والله أعلم.

___________________________________________

1 - أحمد (2/ 28)، و(الطبراني الكبير): (12/433)، وأبو يعلى (10/29)، والبيهقي في (الشعب) (4/13، 7/434) من طريق عطاء بن أبي رباح، عن ابن عمر، قال ابن أبي حاتم في (المراسيل) (154): "قال أبو عبدالله -يعني: أحمد بن حنبل-: عطاء -يعنى: ابن أبي رباح- قد رأى ابن عمر ولم يسمع منه.أ.هـ. وقال البيهقي في (السنن الكبرى) (5/316): وروي ذلك من وجهين ضعيفين عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عمر.أ.هـ. وأخرجه أبو داود (3462) والبيهقي في (السنن الكبرى) (5/ 316) من طريق عطاء الخراساني، أن نافعا حدثه عن ابن عمر به، وليس فيه لفظ: "إذا ضن.."، وقال أبو نعيم في (الحلية) (5/ 208، 209): غريب من حديث عطاء، عن نافع؛ تفرد به حيوة، عن إسحاق.أ.هـ. وله شاهد ضعيف من طريق فضالة بن حصين عن أيوب عن نافع، به.
2 - سورة البقرة: الآية (275).
3 - عبد الرزاق في (مصنفه) (8/ 184، 185)، والدارقطني في (السنن) (3/ 52)، والبيهقي (5/330،331).
قال الدارقطني في (السنن) (3/ 52): أم محبة والعالية مجهولتان، لا يحتج بهما.أ.هـ.
4 - أخرجه ابن أبي شيبة (6/ 47، 48)، ومن طريقه ابنُ حزم في (المحلى) (9/ 106).