سجن مبارك والخطوط الحمراء

إن محنة مصر الآن في هذا الطابور الخامس المتمكن من مفاصل الدولة، والذي لا يتورع عن فعل أي شيء في سبيل تواجده واستمراره، حتى لو اضطر لهدم جداران المعبد على الجميع فسيكون بتقديره أحد خيارين أحلاهما.


تمر مصر بمرحلة من المخاض الثوري لم تشدها من قبل، وحالة من الحراك السياسي تستحوذ على كافة أطياف الشعب على غير العادة، والحديث عن الثورة والثورة المضادة ينتشر في كل المنتديات، خاصة وأن المرحلة الأخيرة للثورة والمتمثلة في اختيار رئيس للجمهورية صارت المرحلة الأكثر سخونة، والأشد ضراوة لاعتبارات عديدة، من أهمها:

أن رموز النظام السابق بدءوا يستوعبون الصدمة، وباتوا أكثر ترتيباً وإنفاقاً بل واحترافية في مواجهة الثورة الشعبية، والأمر الثاني: أن شعب مصر -بل والأمة العربية قاطبة- دأب على اعتبار أن الدولة كلها مختزلة في شخص واحد هو رئيسها، فهو الذي يملك مفاتيح اللعبة السياسية بأجمعها، رغم الحديث الإعلامي والرسمي عن الدستور ودولة المؤسسات وغير من المصطلحات الديكورية التي لا تسمن ولا تغني من جوع في مخيلة القاعدة الشعبية العريضة.

ورغم أن فلول النظام السابق خسروا أمام الموجة الشعبية الثورية العديد من النقاط الهامة في العملية السياسية، إلا أنهم متواجدون بصورة لافته، ويمارسون ثورة مضادة لا تخفى على جموع الشعب، بدأ من التراخي الأمني ومروراً بالأزمات الاقتصادية المفتعلة، وانتهاء بترشيح ثلاثة من رموزهم لسباق الرئاسة، وتكريس عدد لا يستهان به من الإعلاميين والقنوات الفضائية والصحف الموالية لتدعيم حملتهم الإعلامية.

في وسط هذا الضجيج السياسي يبدو سؤال في الأفق يوضح إلى أي مدى وصلت إليه قوة الثورة المضادة، ومقدار تأثيرها وتواجدها.. هذا السؤال هو: أين يوجد حسني مبارك الآن؟ ولماذا يظل قابع في المستشفى العالمي بمصر ولم يرحل إلى سجن طره؟ بل لماذا اختفى الموضوع تماماً من كافة الساحات الإعلامية والحكومية وصار لا يتناوله أحد لا من المعارضين ولا الموالين؟ رغم أنه من بضعة أشهر كان هذا الموضوع مستحوذاً على الخريطة السياسية المصرية، وتحت الضغط الشعبي والثوري رضخت الحكومة الحالية وتم أخذ القرار بترحيل مبارك لمستشفى سجن طره بعد تجهيزها لاستقباله، بل لقد أرسل مجلس الشعب المصري لجنة لمتابعة سير تجديدات المستشفى.

بالطبع لا يمكن أن يدعي أحد أن هناك العديد من الأجندات السياسية الهامة والخطيرة قد طفت على سطح الحياة السياسية المصرية وجذبت أضواء الحراك السياسي كله، حتى صارت هذه القضية من نافلة الأمور.. بالطبع هذا تحليل أو تبرير ساذج، لأن الكل يعلم أن بعد قيام الثورة فتحت الكثير من الأجندات في وقت واحد، والكل يتناولها ويتعاطى معها في نفس الوقت، سواء على الصعيد الأمني أو الاقتصادي أو التشريعي أو غيره الكثير.

لكن اختفاء هذا الملف بهذه الصورة المريبة، وتنازل كافة الأطياف عن الحديث عنه أو التطرق إليه، يوضح بجلاء مدى قوة وسيطرة فلول النظام السابق وقادة الثورة المضادة على المشهد السياسي بمصر، ولو من وراء ستار كما هو ملاحظ.

إن الحقيقة التي تبدو أمام النظرة المتفحصة أن فلول النظام السابق أمام الثورة الشعبية العارمة قد استطاعوا خوض جولات لا يستهان بها مع الثوار ومؤسساتهم، منها اصطناع أزمات خانقة للشعب المصري كي يتحسر الناس على أيام النظام البائد، هذا فضلا عن خروج الأجانب الذين انخرطوا في جمعيات مشبوهة رغما عن أنف الجميع، بل وحماية المستشار الذي سهل لهم الرؤية القانونية لخروجهم، ولا ننسى تهمة تلفيق الجنسية الأمريكية لوالدة مرشح الرئاسة حازم أبو إسماعيل، مع تحييد دور مجلس الشعب وترك أعضائه ينبحون دون داعي ولا مجيب، بل والتهديد بحل البرلمان إذا لزم الأمر، وأخيراً محاولة تهميش قانون العزل السياسي الذي اتخذه المجلس أخيراً لمنع رموز النظام السابق من ممارسة الحياة السياسية.

محصلة الأمر أن فلول النظام السابق متواجدون على أرض الواقع، ويقاتلون بشراسة وإن كانت في الخفاء، ويبدو حجم قوتهم الحقيقة في المحطة الأخيرة، حيث يبذلون الغالي والرخيص من أجل أن لا يتذوقوا طعم الهزيمة.

وهذا بالتحديد مضمون الإجابة عن سؤالنا عن عدم وصول مبارك للسجن، لأنها المحطة الأخيرة التي وصل إليها الفلول بعد هزيمتهم في منع محاكمته ثم في الحيلولة دون دخوله قفص المتهمين، مروراً بتأجيل النطق بالحكم من أجل تجميد أو تبريد القضية، لكن لو وصل الأمر إلى حد دخوله السجن، فهذا خط أحمر لا يمكن بأي حال تجاوزه، ولذلك لا نستبعد أن يكون الفلول قد هددوا كل المنخرطين في هذا الملف بالتصفية الجسدية، خاصة وأن هذا سهل وميسور في ظل التراخي الأمني الحالي، وهو الأمر الذي آثر معه الجميع الصمت حتى تنجلي الأمور ويكون لهم جولات أخرى في هذه القضية الشائكة.

إن محنة مصر الآن في هذا الطابور الخامس المتمكن من مفاصل الدولة، والذي لا يتورع عن فعل أي شيء في سبيل تواجده واستمراره، حتى لو اضطر لهدم جداران المعبد على الجميع فسيكون بتقديره أحد خيارين أحلاهما.


خالد سعد النجار