آهات مكتومة - ضيعها أبوها..!

كارم السيد حامد

{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا}


هي فتاة عشرينية أوتيت بسطة من الجسم، أقبلت تقودها امرأة من قريتي دخلت غرفة المسؤول عن البحوث الاجتماعية بالمسجد لتقدم نفسها عساها ترجع بجنيهات تقتات بها لتعيش كريمة وإن كانت وحيدة، وتصون عرضها عن الانتهاك بعد أن فارقت بيت أبيها فراراً من بطشه وقسوته وافترائه وتعذيبه المستمر، وضربه المبرح الذي أذهب بصرها وحطم نفسيتها فلم تجد لها حلاً إلا الفرار من البيت، في ظل غياب النخوة والرجولة والإنسانية، ناهيك عن الإسلام والأخوة.

هكذا قصت علينا قصتها منذ سنوات -تقريباً خمس سنوات-.
كنت وقتها لا أزال أعمل في الشؤون القانونية بهيئة الأوقاف المصرية، وأتطوع بما تيسر من وقتي لخدمة المسلمين في المسجد قبل أن يفتح الله لي باب التعيين في وزارة الأوقاف إماماً، رغم مرور هذه الفترة الزمنية إلا أنني لم أنس قصتها إجمالاً، وذلك لأنها لا تزال تعيش في نفس البلدة التي أعيش فيها، أراها في أوقات متفاوتة وقد اتخذت لنفسها مجلساً بجوار أحد المتاجر الشهيرة بشارع الهرم تلتحف ببطانية وتضع أمامها بعض أكياس المناديل الورقية، وربما الليمون لعل أصحاب القلوب الرحيمة يتكرمون عليها بجنيهات تنفقها لتعيش حتى إشعار آخر.

الليلة صليت العشاء بأحد المساجد وألقيت درسي الأسبوعي في فقه العبادات، وفي طريقي مررت بها وشاهدتها في وضع آلمني أكثر من ذي قبل، رغم أنه وضع بدهي ومنطقي لمثلها في مثل ظروفها، رأيتها وقد التحفت من برد الشتاء ببطانيتها وقد ألقت رأسها إلى الوراء لا تعتمد على شئ ولا تستند إلى وسادة ولا حائط وقد راحت في النوم.

قلت في نفسي وقد هالني المشهد: هل من الممكن أن يحل بزوجك أو إحدى ابنتيك مثل ما حل بهذه البائسة المعذبة؟ لا أدري ما هو سبب ورود هذا الخاطر الذي ضاق له صدري وانقبض لهول تخيله قلبي، ووجدتني أستعيذ بالله من هذا الحال وأسرعت أستحث الخطوات لأرجع إلى بيتي لأحتضن بُنيتيَّ كليتهما معاً، وأطمئن عليهما وعلى زوجتي وأنا أحاول الفرار من الفكرة وأطردها من خاطري وعقلي وتصوري ما استطعت، فاللهم احفظ بناتنا وأبناءنا ونساءنا من كل مكروه وسوء.

والحق أنني بمجرد أن هجم على خاطري وقلبي هذا الخاطر المفجع المفزع، نتيجة تأثري بهذا المشهد المؤسف المتكرر لهذه الفتاة ولغيرها، بمجرد وروده وحلوله أنقذتني آية من كتاب الله عز وجل: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللّهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيدًا} [النساء: 9].

فلما تذكرتها استبشرت برحمة الله عز وجل وقلت لنفسي: الأمر لك أنت أيها الشيخ، فإن أنت أحسنت أحسن الله إليك في نفسك وأهلك وذريتك! وتذكرت قصة كليم الله موسى مع العبد الصالح، إذ دخلا القرية فأبى أهلها أن يضيفوهما ووجدا الجدار الذي تحته كنز لغلامين يتيمين فأقامه وأصلحه وعلل ذلك بصلاح أبيهما -جدهما البعيد-، فسخر الله لحفيديه نبياً من أولي العزم وعبداً صالحاً ليحفظ لهما مالهما حتى يشبا ويكبرا فيستخرجا كنزهما من تحت الجدار: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82].

فالأمر إذاً منك وإليك أيها الخائف على مستقبل الذرية فأحسن يحسن الله إليك واحفظ الله يحفظك ويحفظ ذريتك، تذكرت ما كانت حكته لنا تلك الفتاة في المسجد منذ سنوات وهي تقدم نفسها لتنال عطاء يغنيها أو يكفيها شر السؤال، وما قد يترتب عليه من مخاطر قد تقع لمثلها إذ لا أمان عليها وهي فتاة ضعيفة شريدة، فضلت الفرار من أبيها حتى لا تفقد ما تبقى من حواسها بعد فقدان بصرها.

تذكرت ذلك الذي حكته لنا وكيف كانت قسوة أبيها عليها وضربه لها، واعتداؤه المستمر بالخرطوم البلاستيكي الذي يستعمل في أعمال البناء لتوضع فيه أسلاك الكهرباء، تساءلت: هل يعقل أن يفقد الوالد مشاعره ويتخلى عن أبوته وإنسانيته حتى يصنع هذا بابنته، إرضاء لزوجته التي تزوجها بعد فراق أم البنت أو وفاتها؟!

أي عقل وأي إحساس وأي إنسان، وأي حيوان هذا الذي يغتال إنسانية أبنائه وبناته بسهولة وبساطة حتى يضطرها إلى الفرار منه وترك البيت له، بل والقرية والمحافظة كلها؟

ألا يشعر بالخجل؟!

ألا يحس بالعار والفضيحة وقد غابت عنه ابنته التي هي عرضه وشرفه؟

أواااااااااااااااااااااااااااااااااااااااه!

ما الذي تتمناه فتاة مثل تلك الفتاة المعذبة المحطمة الشريدة من دنيا الناس؟
تراها تمر بها أيامها في انتظام رتيب مُمِلّ قاتل حتى يزورها ملك الموت لينتهي أمرها وتعود إلى ربها ليفصل بينها وبين ظالمها، أم أن لها أن تتطلع إلى حياة كريمة وبيئة رحيمة ويد حانية وآذان مصغية؟ أولم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله سائل كل راع عما استرعاه حفظ ذلك أو ضيعه»؟ (رواه الإمام ابن حجر العسقلاني عن أنس بن مالك في فتح الباري وقال: إسناده صحيح).

وهذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث معقل بن يسار المزني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من عبد يسترعيه الله رعية، يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته، إلا حرم الله عليه الجنة». فيالله! أين عقول القوم، بل أين قلوبهم؟ أم نسأل أين إنسانيتهم؟! أين هو وأمثاله من الآباء الذين يظنون أنهم يملكون أبناءهم ومصائرهم، بل وحياتهم ليفعلوا فيهم ما يشاءون؟

أين هم من مثل هذا الحديث الأشهر الأكثر انتشاراً، والأقل تفعيلاً بين أبناء الأمة وأئمتها إلا قليلاً، من حديث عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راع ومسئول عن رعيته فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راع وهو مسئول عن رعيته»

قال: "فسمعت هؤلاء من النبي صلى الله عليه وسلم وأحسب النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والرجل في مال أبيه راع ومسئول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته»" (رواه البخاري في صحيحه، وبنحوه في صحيح مسلم، وسنن أبي داود، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد كله من حديث عبد الله بن عمر).
والله لكأني بعاجل المؤاخذة والمجازاة بمثل ما فعل هو وأمثاله بأبنائهم، وقد أوشكت أن تصيبهم بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: "سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول في بيتي هذا: «اللهم! من ولي من أمر أمتي شيئا فشق عليهم، فاشقق عليه، ومن ولى من أمر أمتي شيئا فرفق بهم، فارفق به»".

فهل ضَربُ الأبناء والبنات حتى تتلف أعضاؤهم أو تذهب أبصارهم، أو يضطرهم التنكيل ويدفعهم التعذيب إلى اختيار الغربة والفرار بما يحتمله من هتك أعراض، أو سفك دماء أو ضياع وتشرد وتشرذم على البقاء تحت وطأة العنف والأذى، هل الضرب والإيذاء بهذا الشكل رفق من الوالد الراعي بأبنائه وبناته الذين هم أولى الناس به وأحق الناس برفقه وأبوته وحنانه ورحمته، وأن يجمعهم تحت كنفه ويعود عليهم برأفته وعنايته وحنانه؟

أين هو وأمثاله من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله» (أخرجه الترمذي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، والسلسلة الصحيحة).

أوليس هذا الوالد وأمثاله من الآباء والأمهات ممن تجردوا من مشاعر الحنان والرحمة بأبنائهم قد نزلوا حتى عن رتبة الحيوانات؟ {أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف: 179].

أم هي انتكاسة الفطرة، وكفر النعمة، وجحود المنحة، وإنكار المنة التي كم يتمناها وينفق ماله على أمل الحصول عليها أناس ممن حرموا ابتلاءً من التمتع بها وأن يسمعوا بآذانهم وتطرب قلوبهم بكلمة أبي، أو بابا وماما؟ أواه من هذا المخلوق الذي لست أراه جديراً بنعمة أفاء الله بها عليه فرماها وأنكرها وما رعاها!

أين هو ـوأمثاله من قساة القلوب-؟ أين هم من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسا، فقال: الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدا، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «من لا يرحم لا يرحم »؟ إنها حقاً مأساة مؤلمة، وفجيعة موجعة، إن دلت على شئ فإنما تدل على تحول وتحور وانتكاس وتدهور في الفطرة السليمة، والخلقة القويمة التي جبل الله عليها الخلائق لا سيما البشر.

ليست الأولى ولن تكون الأخيرة كما أنها ليست الوحيدة، إنما هي قصة من واقع الأمة الأليم قد لا يهتم بها الكثيرون ولا يلتفت إليها السائرون، كما أنه ربما لا يسمع بها فضلا على أن يسمع لها اللاهون الغافلون، وليس ذلك لشئ بعد انشغال الناس بأحوالهم وانكبابهم على حياتهم إلا لأنها مجرد آهات مكتومة..!


ابن الأزهر ومحبه:
أبو أسماء الأزهريّ
كارم السيد حامد السرويّ
إمام وخطيب بوزارة الأوقاف المصرية
abo-asmaa@hotmail.com
aboasmaa20011@yahoo.com



 

المقالة السابقة
قالت : ولا زلت بكراً !!
المقالة التالية
(3): ابني عمره ما شرب سيجارة..!!